الفرق بين المراجعتين لصفحة: «كتمان السر (في ديوان العرب)»
لا ملخص تعديل |
Attea mostafa (نقاش | مساهمات) لا ملخص تعديل |
||
(٥ مراجعات متوسطة بواسطة ٤ مستخدمين غير معروضة) | |||
سطر ١: | سطر ١: | ||
'''كتمان السر (في ديوان العرب) | '''<center><font color="blue"><font size=5>كتمان السر (في ديوان العرب)</font></font></center>''' | ||
'''أ.د/ [[جابر قميحة]]''' | |||
[[ملف:د.جابر قميحة.jpg|تصغير|يسار|'''<center>د.[[جابر قميحة]]</center>''']] | |||
من الحقائق التي حملها التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا . | من الحقائق التي حملها التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا . | ||
سطر ١٣: | سطر ١٣: | ||
ومن كلمات عمر بن الخطاب ر : " ارْووا الأشعار ، فإنها تدل على مكارم الأخلاق " . | ومن كلمات عمر بن الخطاب ر : " ارْووا الأشعار ، فإنها تدل على مكارم الأخلاق " . | ||
'''ويقول [[أبو فراس الحمداني]] :''' | |||
'''ويقول أبو فراس الحمداني :''' | |||
الـشـعـرُ ديوانُ iiالعربْ | الـشـعـرُ ديوانُ iiالعربْ | ||
لـمْ أعْـدُ فـيه iiمفاخري | ::::لـمْ أعْـدُ فـيه iiمفاخري | ||
ومُـقـطـعات .. iiرُبما.. | ومُـقـطـعات .. iiرُبما.. | ||
لا فـي المديح ولا iiالهجا | ::::لا فـي المديح ولا iiالهجا | ||
أبـدا ، وعُـنوانُ iiالأدبْ | |||
::::ومـديـحَ آبـائي iiالنُّجُب | |||
حَـلَّـيـت منهن الكتُبْ.. | حَـلَّـيـت منهن الكتُبْ.. | ||
ءِ ، ولا المجون ولا اللعب | ::::ءِ ، ولا المجون ولا اللعب | ||
حقا – يا عزيزي القارئ– الشعر " ديوان العرب " . وقبل أن نصحبك إلى رحلة في ديوان العرب , نذكر هذه الطُّرفة اللطيفة : فقد روى أن رجلا أسرَّ إلى صديقه حديثا , وطلب منه كتمانه , وشدد عليه في ذلك . ثم سأله : أفهمت ؟ قال " بل جهلت " . ثم سأله " أحفظت ؟ قال "بل نسيت " . | حقا – يا عزيزي القارئ– الشعر " ديوان العرب " . وقبل أن نصحبك إلى رحلة في ديوان العرب , نذكر هذه الطُّرفة اللطيفة : فقد روى أن رجلا أسرَّ إلى صديقه حديثا , وطلب منه كتمانه , وشدد عليه في ذلك . ثم سأله : أفهمت ؟ قال " بل جهلت " . ثم سأله " أحفظت ؟ قال "بل نسيت " . | ||
سطر ٣٥: | سطر ٣٢: | ||
إن هذه الطرفة اللطيفة تبرز لنا قيمة خلقية عظيمة , نفعها عميم , وفقدها أليم , ألا وهي كتمان السر . فلنصاحب" ديوان الشعر العربي " ؛ لنرى فيه مكان هذه الفضيلة ومنزلتها عند الشعراء . | إن هذه الطرفة اللطيفة تبرز لنا قيمة خلقية عظيمة , نفعها عميم , وفقدها أليم , ألا وهي كتمان السر . فلنصاحب" ديوان الشعر العربي " ؛ لنرى فيه مكان هذه الفضيلة ومنزلتها عند الشعراء . | ||
إننا نلتقي – أول ما نلتقي – بالشاعر [[كعب بن سعد الغنوي]] فنراه لا يفخر بكتمانه لأسرار غيره فحسب , بل يفخر كذلك بأنه لا يسأل عن أسرار الآخرين : | |||
إننا نلتقي – أول ما نلتقي – بالشاعر كعب بن سعد الغنوي فنراه لا يفخر بكتمانه لأسرار غيره فحسب , بل يفخر كذلك بأنه لا يسأل عن أسرار الآخرين : | |||
ولستُ بمبدٍ للرجال سريرتي = ولا أنا عن أسرارهم بسئول | ولستُ بمبدٍ للرجال سريرتي = ولا أنا عن أسرارهم بسئول | ||
'''ويقول [[قيس بن الخطيم]] :''' | |||
'''ويقول قيس بن الخطيم :''' | |||
أجـود بمكنون التلادِ iiوإنني | أجـود بمكنون التلادِ iiوإنني | ||
وإن ضيَّع الأقوام سرِّي فإنني | ::::وإن ضيَّع الأقوام سرِّي فإنني | ||
بـسرِّي عمن سائلي iiلضنينُ | بـسرِّي عمن سائلي iiلضنينُ | ||
كـتوم لأسرار العشير iiأمين | ::::كـتوم لأسرار العشير iiأمين | ||
'''ويبالغ شاعر ثالث في كتمان السر مبالغة طريفة , في تصوير آسر , فيقول :''' | '''ويبالغ شاعر ثالث في كتمان السر مبالغة طريفة , في تصوير آسر , فيقول :''' | ||
ومـسـتـودعي سرا كتمتُ مكانه | ومـسـتـودعي سرا كتمتُ مكانه | ||
وخفت عليه من هوى النفس iiشهوة | ::::وخفت عليه من هوى النفس iiشهوة | ||
عن الحِسِّ , خوفا أن ينُم به الحس | عن الحِسِّ , خوفا أن ينُم به الحس | ||
فـأودعته من حيث لا يبلغ iiالحس | ::::فـأودعته من حيث لا يبلغ iiالحس | ||
وفي فلك الجو نفسه , يدور الشاعر [[جعفر بن عثمان]] , فيطرح الفكرة نفسها في صورة أطرف , ومبالغة أشد وأقوى , فيخاطب من أودعه سره قائلا : | |||
وفي فلك الجو نفسه , يدور الشاعر جعفر بن عثمان , فيطرح الفكرة نفسها في صورة أطرف , ومبالغة أشد وأقوى , فيخاطب من أودعه سره قائلا : | |||
يا ذا الذي أودعني سرهُ | يا ذا الذي أودعني سرهُ | ||
لا ترجُ أن تسمعه مني | ::::لا ترجُ أن تسمعه مني | ||
لم أُجره قط على فِكرتي | لم أُجره قط على فِكرتي | ||
كأنه لم يَجرِ في أذني | ::::كأنه لم يَجرِ في أذني | ||
والمعروف أن الخمر تذهب بالعقل , وتطلق اللسان ليبوح بما سكن الأعماق من الأسرار , ولكن المتنبي ينفي عن نفسه أن يكون واحدا من هؤلاء , فيقول : | والمعروف أن الخمر تذهب بالعقل , وتطلق اللسان ليبوح بما سكن الأعماق من الأسرار , ولكن المتنبي ينفي عن نفسه أن يكون واحدا من هؤلاء , فيقول : | ||
وللسر مني موضع لا يناله | وللسر مني موضع لا يناله | ||
نديم , ولا يفضي إليه شرابُ | ::::نديم , ولا يفضي إليه شرابُ | ||
هذا وقد جاء في الأثر " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " . وإذا كان كتمان السر مطلوبا في كل حال , فهو في شئون الحرب ضرورة الضرورات , وذلك في وضع خطط القتال , وتجييش الجيوش , وإعداد العدد , وتحديد لحظة الهجوم , أو ما يسمى بساعة الصفر . وإن إفشاء سر واحد قد يقود إلى هزيمة نكراء . أما العمل في تكتم وسرية , فهو ولا شك يقود إلى النصر المؤزر المبين , وخصوصا إذا صاحب هذا التخطيط المستمر عزم قاطع , وحزم لا يعرف التهاون . | هذا وقد جاء في الأثر " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " . وإذا كان كتمان السر مطلوبا في كل حال , فهو في شئون الحرب ضرورة الضرورات , وذلك في وضع خطط القتال , وتجييش الجيوش , وإعداد العدد , وتحديد لحظة الهجوم , أو ما يسمى بساعة الصفر . وإن إفشاء سر واحد قد يقود إلى هزيمة نكراء . أما العمل في تكتم وسرية , فهو ولا شك يقود إلى النصر المؤزر المبين , وخصوصا إذا صاحب هذا التخطيط المستمر عزم قاطع , وحزم لا يعرف التهاون . | ||
إن أبا مسلم الخرساني قضى قضاء مبرما على الدولة الأموية في موقعة : " الزَّاب الأكبر " سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (132) , وهو يكشف عن سر نصره الحاسم في قوله : | إن أبا مسلم الخرساني قضى قضاء مبرما على الدولة الأموية في موقعة : " الزَّاب الأكبر " سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (132) , وهو يكشف عن سر نصره الحاسم في قوله : | ||
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزَت | أدركت بالحزم والكتمان ما عجزَت | ||
مـا زلت أسعى عليهم في ديارهم | ::::مـا زلت أسعى عليهم في ديارهم | ||
حـتـى ضربتهمُ بالسيف iiفانتبهوا | حـتـى ضربتهمُ بالسيف iiفانتبهوا | ||
ومن رعى غنما في أرض iiمَسْبَعَةٍ | ::::ومن رعى غنما في أرض iiمَسْبَعَةٍ | ||
عـنه ملوك بني مروان إذ iiجهروا | |||
::::والـقوم في غفلة بالشام قد iiرقدوا | |||
مـن نـومـة لم ينمها قبلهم iiأحدُ | مـن نـومـة لم ينمها قبلهم iiأحدُ | ||
ونـام عـنـها تولى رعيها iiالأسدُ | ::::ونـام عـنـها تولى رعيها iiالأسدُ | ||
'''عزيزي القارئ:''' | '''عزيزي القارئ:''' | ||
سطر ١٠٤: | سطر ٨٨: | ||
إذا الـمـرء أفـشـى سره iiبلسانه | إذا الـمـرء أفـشـى سره iiبلسانه | ||
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه | ::::إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه | ||
ولام عـلـيـه غـيره فهْو iiأحمق | ولام عـلـيـه غـيره فهْو iiأحمق | ||
فـصدر الذي يُستودع السر iiأضيق | ::::فـصدر الذي يُستودع السر iiأضيق | ||
'''ويقول آخر :''' | '''ويقول آخر :''' | ||
إذا ما ضاق صدرك عن حديث | إذا ما ضاق صدرك عن حديث | ||
وإن عـاتبتُ من أفشى iiحديثي | ::::وإن عـاتبتُ من أفشى iiحديثي | ||
وأفـشـته الرجال فمن تلوم ii؟ | وأفـشـته الرجال فمن تلوم ii؟ | ||
وسـري عـنـده فـأنا iiالملوم | ::::وسـري عـنـده فـأنا iiالملوم | ||
ومن جانب آخر , نجد ديوان العرب قد حفل بذم من يفشون أسرار غيرهم الذين ائتمنُوهم عليها : | ومن جانب آخر , نجد ديوان العرب قد حفل بذم من يفشون أسرار غيرهم الذين ائتمنُوهم عليها : | ||
سطر ١٢٧: | سطر ١٠٦: | ||
أناس أمِنَّاهم فنمُّوا حديثنا | أناس أمِنَّاهم فنمُّوا حديثنا | ||
فلما كتمنا السر عنهم تقوَّلوا | ::::فلما كتمنا السر عنهم تقوَّلوا | ||
'''ويقول لآخر :''' | '''ويقول لآخر :''' | ||
وإنك كلما استُودِعت سرا | وإنك كلما استُودِعت سرا | ||
أنَمُّ من النسيم على الرياض | ::::أنَمُّ من النسيم على الرياض | ||
ونمضي في تقليب صفحات ديوان العرب , فنعثر في تضاعيفه على بعض الشعراء الذين يعلنون صراحة أنهم لن يكتموا السر , وأنهم يرفضون أن تكون صدورهم مستودعا لأسرار الآخرين . بل إن منهم من يتهم كاتمى الأسرار بنقص العقل والحماقة . يقول واحد من هؤلاء : | ونمضي في تقليب صفحات ديوان العرب , فنعثر في تضاعيفه على بعض الشعراء الذين يعلنون صراحة أنهم لن يكتموا السر , وأنهم يرفضون أن تكون صدورهم مستودعا لأسرار الآخرين . بل إن منهم من يتهم كاتمى الأسرار بنقص العقل والحماقة . يقول واحد من هؤلاء : | ||
ولا تُودِع الأسرارأذني فإنما | ولا تُودِع الأسرارأذني فإنما | ||
تصبَّن ماء في إناء مُثَلَّمِ | ::::تصبَّن ماء في إناء مُثَلَّمِ | ||
سطر ١٤٦: | سطر ١٢٢: | ||
ولا أكـتم الأسرار , لكن أُذيعها | ولا أكـتم الأسرار , لكن أُذيعها | ||
وإنَّ قـليلَ العقل من بات iiليلة | ::::وإنَّ قـليلَ العقل من بات iiليلة | ||
ولا أدع الأسرار تعلو على قلبي | ولا أدع الأسرار تعلو على قلبي | ||
تـقلبه الأسرار جنبا إلى iiجنب | ::::تـقلبه الأسرار جنبا إلى iiجنب | ||
وبوح الشاعر بالسرهنا , ليس عن غدر أو خيانة أمانة, بل لأنه قدَّرَ أن حفظ السر عبء ثقيل على النفس والقلب , لا يُخلف إلا القلق والحيرة والسهاد , وهو لا يقوي على ذلك . إنها - على أية حال صراحة قد تكون محمودة عند كثيرين . | وبوح الشاعر بالسرهنا , ليس عن غدر أو خيانة أمانة, بل لأنه قدَّرَ أن حفظ السر عبء ثقيل على النفس والقلب , لا يُخلف إلا القلق والحيرة والسهاد , وهو لا يقوي على ذلك . إنها - على أية حال صراحة قد تكون محمودة عند كثيرين . | ||
'''عزيزي القارئ'''.. بعد هذه الرحلة القصيرة في " ديوان العرب " مع السر وكتمان السر , أعتقد أنك معنا : في أن حياة كل منا لها جانبان : جانب مكشوف معروف , يتمثل في مظاهر التعامل الاجتماعي , في مجالات العمل والعلم والدراسة والبيع والشراء . | '''عزيزي القارئ'''.. بعد هذه الرحلة القصيرة في " ديوان العرب " مع السر وكتمان السر , أعتقد أنك معنا : في أن حياة كل منا لها جانبان : جانب مكشوف معروف , يتمثل في مظاهر التعامل الاجتماعي , في مجالات العمل والعلم والدراسة والبيع والشراء . | ||
سطر ١٦٧: | سطر ١٤٠: | ||
[[تصنيف:أدب الدعوة]] | [[تصنيف:أدب الدعوة]] | ||
[[تصنيف: | [[تصنيف:النقد الأدبي]] |
المراجعة الحالية بتاريخ ١٤:٠٣، ٢٥ أكتوبر ٢٠١١
أ.د/ جابر قميحة
من الحقائق التي حملها التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم ( العرب أمة شاعرة ) ، فهم من أكثر الأمم شعراء ، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرا .
وقد حفظ الشعر تاريخ العرب ، وعاداتهم وتقاليدهم : في أفراحهم وأحزانهم ، في منشطهم ومكرههم ، في سرائهم وضرائهمْ . فلا عجب أن يجعلوا الشعر مثلهم الأعلى تصويرا وتعبيرا .
ومما يُرْوى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة".
ومن كلمات عمر بن الخطاب ر : " ارْووا الأشعار ، فإنها تدل على مكارم الأخلاق " .
ويقول أبو فراس الحمداني :
الـشـعـرُ ديوانُ iiالعربْ
- لـمْ أعْـدُ فـيه iiمفاخري
ومُـقـطـعات .. iiرُبما..
- لا فـي المديح ولا iiالهجا
أبـدا ، وعُـنوانُ iiالأدبْ
- ومـديـحَ آبـائي iiالنُّجُب
حَـلَّـيـت منهن الكتُبْ..
- ءِ ، ولا المجون ولا اللعب
حقا – يا عزيزي القارئ– الشعر " ديوان العرب " . وقبل أن نصحبك إلى رحلة في ديوان العرب , نذكر هذه الطُّرفة اللطيفة : فقد روى أن رجلا أسرَّ إلى صديقه حديثا , وطلب منه كتمانه , وشدد عليه في ذلك . ثم سأله : أفهمت ؟ قال " بل جهلت " . ثم سأله " أحفظت ؟ قال "بل نسيت " .
والرجل يعني بإجابته هذه أنه على سر صاحبه حفيظ أمين .
إن هذه الطرفة اللطيفة تبرز لنا قيمة خلقية عظيمة , نفعها عميم , وفقدها أليم , ألا وهي كتمان السر . فلنصاحب" ديوان الشعر العربي " ؛ لنرى فيه مكان هذه الفضيلة ومنزلتها عند الشعراء .
إننا نلتقي – أول ما نلتقي – بالشاعر كعب بن سعد الغنوي فنراه لا يفخر بكتمانه لأسرار غيره فحسب , بل يفخر كذلك بأنه لا يسأل عن أسرار الآخرين :
ولستُ بمبدٍ للرجال سريرتي = ولا أنا عن أسرارهم بسئول
ويقول قيس بن الخطيم :
أجـود بمكنون التلادِ iiوإنني
- وإن ضيَّع الأقوام سرِّي فإنني
بـسرِّي عمن سائلي iiلضنينُ
- كـتوم لأسرار العشير iiأمين
ويبالغ شاعر ثالث في كتمان السر مبالغة طريفة , في تصوير آسر , فيقول :
ومـسـتـودعي سرا كتمتُ مكانه
- وخفت عليه من هوى النفس iiشهوة
عن الحِسِّ , خوفا أن ينُم به الحس
- فـأودعته من حيث لا يبلغ iiالحس
وفي فلك الجو نفسه , يدور الشاعر جعفر بن عثمان , فيطرح الفكرة نفسها في صورة أطرف , ومبالغة أشد وأقوى , فيخاطب من أودعه سره قائلا :
يا ذا الذي أودعني سرهُ
- لا ترجُ أن تسمعه مني
لم أُجره قط على فِكرتي
- كأنه لم يَجرِ في أذني
والمعروف أن الخمر تذهب بالعقل , وتطلق اللسان ليبوح بما سكن الأعماق من الأسرار , ولكن المتنبي ينفي عن نفسه أن يكون واحدا من هؤلاء , فيقول :
وللسر مني موضع لا يناله
- نديم , ولا يفضي إليه شرابُ
هذا وقد جاء في الأثر " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " . وإذا كان كتمان السر مطلوبا في كل حال , فهو في شئون الحرب ضرورة الضرورات , وذلك في وضع خطط القتال , وتجييش الجيوش , وإعداد العدد , وتحديد لحظة الهجوم , أو ما يسمى بساعة الصفر . وإن إفشاء سر واحد قد يقود إلى هزيمة نكراء . أما العمل في تكتم وسرية , فهو ولا شك يقود إلى النصر المؤزر المبين , وخصوصا إذا صاحب هذا التخطيط المستمر عزم قاطع , وحزم لا يعرف التهاون .
إن أبا مسلم الخرساني قضى قضاء مبرما على الدولة الأموية في موقعة : " الزَّاب الأكبر " سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية (132) , وهو يكشف عن سر نصره الحاسم في قوله :
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزَت
- مـا زلت أسعى عليهم في ديارهم
حـتـى ضربتهمُ بالسيف iiفانتبهوا
- ومن رعى غنما في أرض iiمَسْبَعَةٍ
عـنه ملوك بني مروان إذ iiجهروا
- والـقوم في غفلة بالشام قد iiرقدوا
مـن نـومـة لم ينمها قبلهم iiأحدُ
- ونـام عـنـها تولى رعيها iiالأسدُ
عزيزي القارئ:
يقول مثل هندي قديم " إن السر يمكن أن يكتم بين ثلاثة , بشرط أن يموت منهم اثنان " . ومعنى المثل : أن السر إذا باح به صاحبه لغيره , لم يعد سرا . وقد ألح " ديوان العرب " على هذا
المعنى عشرات المرات : يقول الشاعر :
إذا الـمـرء أفـشـى سره iiبلسانه
- إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
ولام عـلـيـه غـيره فهْو iiأحمق
- فـصدر الذي يُستودع السر iiأضيق
ويقول آخر :
إذا ما ضاق صدرك عن حديث
- وإن عـاتبتُ من أفشى iiحديثي
وأفـشـته الرجال فمن تلوم ii؟
- وسـري عـنـده فـأنا iiالملوم
ومن جانب آخر , نجد ديوان العرب قد حفل بذم من يفشون أسرار غيرهم الذين ائتمنُوهم عليها :
يقول إسحق الموصلي :
أناس أمِنَّاهم فنمُّوا حديثنا
- فلما كتمنا السر عنهم تقوَّلوا
ويقول لآخر :
وإنك كلما استُودِعت سرا
- أنَمُّ من النسيم على الرياض
ونمضي في تقليب صفحات ديوان العرب , فنعثر في تضاعيفه على بعض الشعراء الذين يعلنون صراحة أنهم لن يكتموا السر , وأنهم يرفضون أن تكون صدورهم مستودعا لأسرار الآخرين . بل إن منهم من يتهم كاتمى الأسرار بنقص العقل والحماقة . يقول واحد من هؤلاء :
ولا تُودِع الأسرارأذني فإنما
- تصبَّن ماء في إناء مُثَلَّمِ
وقال آخر :
ولا أكـتم الأسرار , لكن أُذيعها
- وإنَّ قـليلَ العقل من بات iiليلة
ولا أدع الأسرار تعلو على قلبي
- تـقلبه الأسرار جنبا إلى iiجنب
وبوح الشاعر بالسرهنا , ليس عن غدر أو خيانة أمانة, بل لأنه قدَّرَ أن حفظ السر عبء ثقيل على النفس والقلب , لا يُخلف إلا القلق والحيرة والسهاد , وهو لا يقوي على ذلك . إنها - على أية حال صراحة قد تكون محمودة عند كثيرين .
عزيزي القارئ.. بعد هذه الرحلة القصيرة في " ديوان العرب " مع السر وكتمان السر , أعتقد أنك معنا : في أن حياة كل منا لها جانبان : جانب مكشوف معروف , يتمثل في مظاهر التعامل الاجتماعي , في مجالات العمل والعلم والدراسة والبيع والشراء .
وجانب خفي مستور , يتمثل في العلائق الأسرية والزوجية , وما تعلق بالصلح الخاص, وما كان في كتمانه حفظ أمانة , وإحقاق حق , وجلب نفع , دون إضرار بالآخرين .
وهذا الجانب الأخير يقتضينا أن نذكرك , ونذكر أنفسنا بقول عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – :
" القلوب أوعية , والشفاه أقفالها , والألسن مفاتيحها , فليحفظ كل إنسان مفتاح سره" .
والآن نتركك يا عزيزي االقارئ , على وعد باللقاء , في الأسبوع القادم – إن شاء الله – في حلقة جديدة من " ديوان العرب " .