مذكرة (الإخوان المسلمون) إلى اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٦:٥٠، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٠ بواسطة Sasky (نقاش | مساهمات) (←‏موضوعات ذات صلة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذكرة(الإخوان المسلمون) إلى اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية


ليست أولى المبادرات الإخوانية للإصلاح

لم تكن المبادرة الأخيرة التي تقدم بها (الإخوان المسلمون) لإصلاح المجتمع المصري على هدي الإسلام هي المبادرة الأولى من نوعها في تاريخ الجماعة.


فمنذ نشأة الجماعة في مارس 1928 م، توالت مذكرات ومقترحات وبرامج الإصلاح لجميع جوانب الحياة التي تقدمت بها الجماعة، والتي تؤكد منهج الجماعة في المشاركة الإيجابية البنَّاءة لإصلاح الأمة، وعدم الاكتفاء بالنقد والإشارة للسلبيات والعيوب والأخطاء.


ووثائق الحركة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أو المكابرة أنها كانت أكثر القوى السياسية في تاريخ مصر إهتمامًا بالجوانب العملية في الإصلاح في مختلف المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والفكرية والعسكرية والمهنية، وأكثرها تقديمًا للبرامج والمذكرات والمقترحات العملية.


وسنعرض- بمشيئة الله- هذه السلسلة من الوثائق التي تؤكد صواب ما نقول وحقيقته ونبدأ بهذه الوثيقة الهامة التي تبين وجهة نظر (الإخوان المسلمون) وتصوراتهم لتحقيق الوحدة العربية، وهو تصور يجمع بين: الإلتزام المبدئي الواضح بمفاهيم الإسلام ومبادئه، وعمق النظرة السياسية، والتحليل الدقيق للواقع العربي والإسلامي والعالمي، والواقعية العملية والقابلية للتطبيق.


الصفحة الأولى من الوثيقة، وعليها خاتم مكتب المرشد العام، الصفحة الأخيرة من الوثيقة بتوقيع المرشد العام:


نص الوثيقة

بسم الله الرحمن الرحيم:

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، المركز العام لـ(الإخوان المسلمون) بالقاهرة.. والله أكبر ولله الحمد .

في غرة شوال المبارك 1344 هـ، 18 من سبتمبر 1944 م.

حضرات السادة الفضلاء رئيس وأعضاء اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة االعربية:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

ففي هذه الساعات التاريخية الفاصلة في مستقبل الأمم والشعوب عامة والأمة العربية خاصة، قدر لكم أن تعقدوا اجتماعكم هذا، وأن تضطلعوا بأجل مهمة في تاريخ العالم العربي الحديث، يتطلع إلى جهودكم فيها مائة مليون عربي ومن ورائهم ثلاثمائة مليون مسلم "والإسلام عربية بعد العربية" والجميع يرقبون بلهفة وشوق وأمل عظيم ما تقررون وينتظرون منكم وضوح المؤمنين وعزائم المجاهدين وصلابة الذين لا يخافون في الحق لومة لائم، ويسعدهم أن يفتدوا حقوقهم بأنفسهم وأولادهم ودمائهم وأموالهم ﴿فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَّتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: 35) وإني باسم (الإخوان المسلمون) في أنحاء المملكة المصرية، وفي بلدان العالم العربي والإسلامي المختلفة، أرفع إليكم أطيب التهنئات وأجمل التحيات سائلاً الله- تبارك وتعالى- أن يبارك عملكم، وأن يرفع العقبات من طريقكم، وأن يهيئكم لخير أمتكم وبلادكم، إنه نعم المولى ونعم النصير.


أيها السادة الفضلاء

إنكم لتدافعون عن أعدل وأنجح وأوضح قضية في التاريخ، فمن البديهيات التي لا تقبل الجدل "أن العرب أمة واحدة"، وأن هذا التعبير ليساوي في أحقيته ووضوحه واستقراره في النفوس والأذهان قول القائلين: "السماء فوقنا والأرض تحتنا"، فقد اصطلحت على تكوين هذه الوحدة العربية وتدعيمها كل العوامل الروحية واللغوية والجغرافية والتاريخية والمصلحية، وأن العرب من خليج فارس إلى المحيط الأطلسي ليتحدون بوحدتهم أية أمة متحدة في القديم والحديث، وليست تعوز هذه القضية الأدلة والبراهين؛ ولكن يعوزها ثبات المؤمنين وعدالة المنصفين.


فإذا حققتم في أنفسكم الأولى وهو العهد بكم، وحقق حلفاؤكم الثانية وهو الظن بهم، فقد عاد الحق إلى أهله ووضعت الأمور في نصابها: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم:5،4).


أيها السادة الفضلاء

إن بين يدي مؤتمركم ولجنتكم أمورًا كثيرة أنتم مطالبون بدراستها وتمحيصها، وأهدافًا كثيرة أنتم مطالبون كذلك بتحقيقها والوصول إليها، وإن من الخير للقضية العامة أن تصارحوا الشعوب والهيئات بما ترى؛ ليكون ذلك مكاشفة ونصحًا، ولهذا أتقدم إليكم باسم (الإخوان المسلمون) بهذه الخواطر، راجيًا أن نكون بذلك قد أدينا بعض الواجب، وساهمنا في هذا الجهاد المبرور.


ومن تلك الأهداف:

أ- تحقيق مظاهر الوحدة العامة

فهنالك خطوات أولية تعتبر وسائل عملية للوحدة المنشودة، وهي في الوقت نفسه من حق الحكومات العربية الخالص التي لا ينازعها فيه منازع، ومن تلك الخطوات:

1- رفع الحواجز الجمركية.

2- إلغاء جوازات السفر ومنح حرية المرور والتنقل في أي قطر من الأقطار العربية لكل عربي بعد التأكد من شخصيته وإباحة الهجرة والاستيطان على نظامٍ واسعٍ ميسرٍ.

3- التوسع في التعاون الاقتصادي وتأليف الشركات العربية الواسعة النطاق من سكان البلاد العربية جميعًا في أي قطر من هذه الأقطار، ودراسة المشروعات العربية العامة دراسة مشتركة، وإحياء ما تتعطل منها كمشروع (سكة الحديد) الحجازية التي أنشئت بأموال العرب والمسلمين جميعًا وأوقافهم.

4- تنمية التعاون الثقافي والتشريعي والعسكري بتوحيد برامج التعليم ومناهجه وتوحيد منابع التشريع وقواعده، وتوحيد نظم التدريب العسكري وأساليبه، ومؤتمر الوحدة العربية مطالب من العرب جميعًا بأن يعمل على تقرير هذه الخطوات ورسم الخطط الموصلة إلى تحقيقها وجمع الحكومات والشعوب العربية عليها.


ب – تحقيق الأماني القومية ومساعدة الأمم الناشئة على نيل استقلالها واستكمال نهوضها:

وتأتي بعد الخطوة السابقة خطوة ثانية، فإن للبلاد العربية مطالب قومية وحقوقًا سياسية لم تنلها بعد، ولا فائدة من ذكر العوامل التاريخية والحوادث التي أدت إلى انتقاص هذه الحقوق واغتصابها؛ ولكن الذي يفيد ويجدي الآن أن نواجه الأمر الواقع والوضع القائم، ونجاهد في سبيل تحقيق هذه المطالب وتخليص تلك الحقوق، وعلى مؤتمر الوحدة العربية ولجنته التحضيرية أن يرسم للشعوب والحكومات طرائق هذا الجهاد المشترك، وأن يقرر تكاتف الجميع في سبيل كسب هذه القضايا التي منها:

1- العمل على استكمال استقلال مصر والمحافظة على وحدة وادي النيل، فكل محاولة يراد بها انتقاص استقلال مصر أو تقييد هذا الاستقلال أو تمزيق وحدة وادي النيل عمل ظالم يؤثر في كيان الأمة العربية العام، وعلى كل شعب عربي وحكومة عربية أن يشد أزر مصر وحكومتها وشعبها في سبيل هذه القضية حتى تفوز فيها.


ويجب أن يكون مفهومًا للرأي العام العربي والعالمي كله، أن مصر حين تتمسك بوحدة وادي النيل، لا تعتدي بذلك على شعب من الشعوب، ولا تستعبد أمة من الأمم، ولا تطمع في توسعة حدودها أو زيادة مساحة أرضها أو تنمية ثروتها على حساب غيرها، فكل هذه المزاعم باطلة لا وجود لها؛ ولكن مصر حين تتمسك بالنيل الأعلى تحقق بذلك وحدة شعبها، فمصر والسودان أمة واحدة وتحافظ على صميم كيانها وتضحي بكثير من مواردها وثروتها وجهودها، وإن حاجة هذا الجزء من الأرض إلى مصر لأعظم بكثير من حاجتها هي إليه.


2- العمل على استكمال استقلال البلاد الشامية على اختلاف أقسامها، وإذا أصرت لبنان ومثيلاتها على المحافظة على استقلالها، فليكن ذلك لها حتى يقنعها الزمن وتثبت لها الحوادث أن من خيرها؛ بل من ألزم اللوازم لها أن تعود إلى أحضان أمها (سورية الكبرى) وأن ذلك لقريب فنحن في عصر الوحدات القوية والكتل الشعبية الجامعة، وما دامت ستتفق مع غيرها من الشعوب العربية على كل مقومات الوحدة العملية فحسبنا ذلك منها الآن، ولعل من الخير للمؤتمر وللبلاد الشامية خاصة والعربية عامة ألا تجعل من هذه القضية عقبة تصطدم بها في فورة الشعور وثورة الحماسة حتى يفصل فيها الزمن، والزمن جزء من العلاج.


3- العمل على حل قضية فلسطين حلاًّ يتفق مع وجهة النظر العربية ويؤدي إلى سلامة هذا الجزء من الوطن العربي، وهو منه بمثابة القلب من الجسد وإلى المحافظة كل المحافظة على أن يظل عربيًّا خالصًا وإلى دفع العدوان اليهودي وذبذبة السياسة الدولية عنه بكل الوسائل، فإن العرب جميعًا وفي مقدمتهم أعضاء اللجنة يدركون مدى الأخطار الغربية التي تهدد كيان الأمة العربية وتحطم آمالها، إذا استقرت قدم اليهود في فلسطين، والشعوب العربية كلها قد وطدت العزم على أن تستنقذ فلسطين مهما كلفها ذلك من الجهود والتضحيات.


وإننا لنعطف على اليهود في محنتهم؛ ولكن ليس معنى هذا العطف أن يكون إنصافهم بظلم غيرهم وإيواؤهم بإخراج سواهم من ديارهم أو مضايقتهم في أوطانهم، وفي ممتلكات الدول الحليفة وأراضيها، ما يتسع لإضعافهم ومما هو في حاجة ماسة إلى كفايتهم ونشاطهم.


4- مساعدة بقية أقطار الجزيرة العربية- العراق وملحقاتها والمملكة العربية السعودية وملحقاتها واليمن وملحقاتها- على استكمال استقلالها ونهضتها ودفع الدسائس السياسية المختلفة عنها، وبخاصة وهي الآن في مهب عاصفة قوية من التنافس الدولي الشديد سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، هي أمامها أحوج ما تكون إلى من يشد أزرها ويبصرها بمواقع الخير والشر لحاضرها ومستقبلها وليست هناك فرصة للنظر والاختيار أبدع ولا أوسع من هذه الفرصة التي إن أفلتت اليوم فلن تعود إلا بعد حين.


5- العناية بتحرير الأقطار العربية في شمال إفريقية وإدخالها في دائرة الوحدة، فليبيا بقسميها (برقة) و(طرابلس) يجب أن تعود إليها حريتها واستقلالها، وأن تظل قطرًا واحدًا تحت لواء حكومة من أهلها بعد أن زال عنها سلطان الغاصب المعتدي، وأن شأنها في ذلك شأن الحبشة سواء بسواء، فإذا كان البريطانيون قد حاربوا الطليان حتى أجلوهم عن الحبشة، ثم سلموها موحدة مستقلة لإمبراطورها السابق، فإن من واجبهم وقد طردوا هذا العدو البغيض عن ليبيا بمساعدة أهلها ومساعدة الشعوب العربية لهم في ذلك أن يعيدوها لأهلها موحدة مستقلة كذلك، وليس هناك ما يدعو إلى تمزيق وحدتها وتقسيم أرضها ومعاملتها بغير الأسلوب الذي عوملت به سابقتها.


وتونس والجزائر ومراكش بلاد عربية وقعت تحت الاستعمار الفرنسي باسم الحماية تارة والاستعمار تارة أخرى، وقد جاهدت في سبيل حريتها واستقلالها جهاد الأبطال، ولم تعترف بهذه الأوضاع التي رسمتها لها السياسة الاستعمارية في يوم من الأيام، ثم ساهمت أخيرًا في المجهود الحربي للحلفاء مساهمة عظيمة أطلقت ألسن زعماء الأمم المتحدة بالثناء عليها وسجلها المستر "تشرشل" في خطبه بالإعجاب والإكبار، وما كان جيش فرنسا الحرة التي حارب في صفوف الحلفاء في شمال إفريقية وفي إيطاليا وفرنسا إلا هؤلاء الجنود البواسل من أبناء هذه الديار العربية الصميمة ومن واجب المؤتمر العربي أن يطالب بحقوق هذه البلاد كاملة، وأن ينقذ من براثن الظلم والعدوان عشرين مليونًا من العرب لا زالوا متمسكين بعروبتهم مطالبين بحرية بلادهم مهما أراد المستعمرون أن يظهروهم بغير هذا اللون، لقد حاول هؤلاء الغاصبون خلال هذه السنوات الطوال أن ينالوا من وطنية هؤلاء العرب المجاهدين بالتجنيس والإرهاب والضغط الشديد، وأن ينالوا من عروبتهم بالثقافة الأجنبية ومحاربة اللغة العربية والغزو الاجتماعي، وأن ينالوا من دينهم بالتبشير ومقاومة الأوضاع الإسلامية بمثل الظهير البربري، فلم يجدهم كل ذلك نفعًا وما زال شمال إفريقية وسيظلل عربيًّا مسلمًا.


ونرى أن من واجب اللجنة أن تدعو إلى المؤتمر ممثلين من أبناء هذه البلاد ومن أبناء فلسطين ليبسطوا أمامه قضاياهم ومطالبهم.


ونحن حين نرى أن يطالب مؤتمر الوحدة بهذه الحقوق للبلاد العربية، ويلح في المطالبة بها والثبات عليها وأن يحتفظ لنفسه وللشعوب العربية والحكومات العربية بحق التمثيل في مؤتمر الصلح القادم، لا نعتمد في ذلك على قوة السلاح وكثرة الجيوش والأساطيل، فحسب العالم ما قاسى من الاعتماد على القوة ونبذ القانون والعدالة؛ ولكنا نعتمد: على أن ميثاق الأطلنطي الذي قيد به الحلفاء أنفسهم وأيدوه بكثير من التصريحات قد ضمن هذا الحق لكل الشعوب، وعلى أن الشعوب العربية قد ساهمت في المجهود الحربي مع الحلفاء مساهمة جليلة لا شك أنها كانت من عوامل النصر والظفر لهم، وقد اعترفت بذلك حكوماتهم وشعوبهم وصحافتهم، ونعتمد أخيرًا على هذا التطور في التفكير العالمي وهذه اليقظة في الضمير الإنساني، ويا ويح الدنيا إذا كانت ستسودها وتصرفها من جديد الأفكار الرجعية وتتحكم فيها المطامع الاستعمارية.


وإنا لنعلم حق العلم أن الطبيعة البشرية في كثير من الأحيان تنسى إنصافها الذي أعلنته ساعة الشدة؛ لتعود إلى ظلمها الذي ألفته حين الرخاء ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾ (الزمر:8)، ولكنا نعلم كذلك أن الدرس الحاضر كان من القسوة والفظاعة وعمق الأثر في النفوس والأرواح والشعوب والحكومات، بحيث لا يعرض لهم نسيانه بمثل هذه السهولة.


ولاشك أن من الخير كل الخير للأمم المتحدة أن تقوم في الشرق أمة عربية قوية لها من خلقها ومجدها وجلال تقاليدها في ماضيها وحاضرها ما يجعلها أقوى دعائم السلام في آسيا وإفريقية خاصة وفي مستقبل البشرية عامة .


ج – الكيان السياسي العام للأمم العربية المتحدة

وتأتي بعد الخطوة السابقة خطوة ثالثة يكمل بها بناء الوحدة العربية، تلك هي لون الكيان السياسي العام لهذه الحكومات العربية المتحدة، ولا نظن أن الوقت قد حان أو أن الظروف قد تهيأت لمثل هذا البحث كما لا نظن أن من مهمة المؤتمر أن يختار شكل الحكومات فإن ذلك متروك للشعوب نفسها يتخير كل شعب منها لنفسه النوع الذي يريد؛ ولكن الذي يجب أن يعمل له المؤتمر بهذا الخصوص ويقره من الآن، أن يحتفظ للحكومات العربية المستقرة بحق التمثيل فيما إذا أجرى استفتاء للشعوب العربية المحررة أو التي لم تستقر حكوماتها الوطنية بعد، وأن يقرر من الآن لونًا من ألوان الارتباط السياسي بين الحكومات العربية، كمجلس استشاري أعلى تستطيع بواسطته أن يتصل بعضها ببعض بطريقة دائمة منظمة ويكون أساسًا لوحدة أتم وأكمل في المستقبل إن شاء الله.


د – تحديد الصلة بين البلاد العربية وجاراتها من الممالك الإسلامية غير العربية

وهذا المعنى وإن كان لا يتصل بمهمة المؤتمر صلة مباشرة إلا أنه مما يعزز الوحدة العربية وتهتم له الحكومات والشعوب معًا، فهناك أقطار ليست عربية؛ ولكنها تجاور بلاد العرب وتجمعها بها جامعة المصلحة والجوار من جانب والعقيدة الإسلامية والذكريات التاريخية من جانب آخر كالأفغان وتركيا وإيران.


وإذا كنا في العصر الذي تحاول فيه كل أمة من الأمم أن تتلمس الروابط والجامعات بينها وبين غيرها، فإن من واجب المؤتمر العربي أن يقرر أن بين العرب وبين هذه الأمم لمحالفة طبيعية، وأن يعلن أن من خير العرب وخير هذه الشعوب معًا أن تدعم هذه المحالفة الطبيعية بمحالفات سياسية واتفاقات يتحقق بها تعاون الجميع على خيرهم وخير الإنسانية، وبذلك يضع المؤتمر لبنة أخرى في بناء التعاون الإنساني المنشود.


هـ – المطالبة بحقوق الشعوب الإسلامية المظلومة، ورعاية الأقليات المسلمة في مختلف البلاد والأقطار

وهناك شعوب إسلامية وأقليات وجاليات عربية في كثير من البلاد والأقطار، بلاد الحلفاء وبلاد الأعداء كالشعب الإندونيسي والتركستان والمسلمين في الهند والمسلمين في الصين والفلبين والمسلمين في روسيا وفي البلقان وكل هؤلاء يضرب عليهم الاستعباد باسم الاستعمار، وتهضم حقوقهم ويحال بينهم وبين الرقي والنهوض، فإذا كان هذا الوقت هو الذي يترقبه المظلومون لينالوا حقوقهم وليصلوا إلى حريتهم فإن أولى من ينطق بلسان هؤلاء ويطالب بحقوقهم هو المؤتمر العربي بحكم الروابط الكثيرة بين العرب وبين هذه الجماعات، فعلى المؤتمر أن يطالب باسم الإنسانية وباسم التطور الجديد في نظام العالم لتحرير هذه الشعوب المستعبدة من هؤلاء، وإنصاف المظلومين من هذه الأقليات ودراسة القضايا المعلقة التي طال عليها الأمد ولم تمتد إليها يد العدالة والإنصاف.


و- لون الحضارة التي يجب أن تصطبغ بها الأمة العربية

ولعل من أهم واجبات المؤتمر أن يعنى بدراسة هذه الناحية دراسة دقيقة وأن يكون لنفسه رأيا يوجه إليه الأمم والحكومات العربية، فذلك أجدى عليها من هذه الذبذبة في التفكير والتنفيذ معًا، ولعل هذه الناحية الاجتماعية لا تقل أهمية عن الناحية السياسية إن لم تزد عنها.


والرأي العام العربي يذهب في هذه الناحية مذهبين مختلفين فمن الناس من يدعو إلى الحضارة الغربية ويحض على الانغماس فيها وتقليد أساليبها خيرها وشرها وحلوها ومرها ونافعها وضارها ما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب ويرى أنه لا سبيل للنهوض والرقي إلا بهذا ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع.


ومن الناس من ينفر من هذه الحضارة أشد التنفير ويدعو إلى مقاومتها أشد المقاومة ويحملها تبعة هذا الضعف والفساد الذي استشرى في الأخلاق والنفوس، ولاشك أن كلا الفريقين قد تطرف وأن الأمر في حاجة إلى دراسة أعمق وأدق وإلى حكم أعدل وأقرب إلى الإنصاف والصواب.


لقد وصلت الشعوب الغربية من حيث العلم والمعرفة واستخدام قوى الطبيعة والرقي بالعقل الإنساني إلى درجة سامية عالية، يجب أن تؤخذ عنها وأن يقتدى بها فيها، وهي إلى جانب ذلك قد عنيت بالتنظيم والترتيب وتنسيق شئون الحياة العامة تنسيقًا بديعًا يجب أن يؤخذ عنها كذلك، وهذه الحقائق لا يكابر فيها إلا جاهل أو معاند.


ولكن هذه الحياة الغربية والحضارة الغربية التي قامت على العلم والنظام فأوصلها إلى المصنع والآلة، وجبى إليها الأموال والثمرات وملكها نواصي الأمم الغافلة، التي لم تأخذ في ذلك أخذها ولم تصنع صنيعها، هذه الحياة المادية الميكانيكية البحتة- مع ما صحبها من خصومة حادة بين علماء الدنيا وحراس الدين – قد أغفلت هذه الأمم عن أخص خصائص الإنسانية في الإنسان؛ عن الغرائز ومستلزماتها والمشاعر ومطالبها والنفس وعالمها وطرائق تنظيم ذلك كله وضبطه ضبطًا يضمن خيره ويجنبهم شره.


ودفعت بها دفعًا عنيفًا إلى التبرم بالعقائد والأديان والخروج عليها خروجًا قاسيًا شديدًا وإقصائها إقصاءً تامًّا عن كل نواحي الحياة الاجتماعية العملية.


فأسقطت الحياة الغربية من حسابها جلال الربانية والتسامي بالنفس الإنسانية، والاعتقاد بالجزاء الأخروي، واضطربت بذلك بين يديها المقاييس الخلقية، وانطلقت غرائز الشر من عقالها تحت ستار الحرية الشخصية أو الاجتماعية، ونَجَمَ عن ذلك أن تحطمت الفضائل في نفوس الأفراد وتهدمت الروابط بين الأسر وفسدت الصلات بين الأمم وصارت القوة لا العدالة شريعة الحياة، واندلعت نيران هذه الحرب فذاق حرها المحاربون والآمنون على السواء.


وقد أدرك هذه الحقيقة أخيرًا ساسة الأمم الغربية أنفسهم فهبوا ينادون بوجوب العناية بالشئون الروحية ويتغنون بالمثل الخلقية العليا، ويهيبون بالحكومات أن تصبغ المدارس ومناهج التعليم والتربية بعد الحرب بهذه الصبغة وأن تعود بالشعوب إلى الأديان والعقائد الموروثة، وفي الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة الإنجليزية عن التعليم بعد الحرب وفي تقارير الأحزاب التي وضعت في ذلك وفي مناقشة مجلس العموم واللوردات لهذا الكتاب من هذا الشيء الكثير.


ونحن العرب قد ورثنا مفاخر هذه الحياة الروحية ومظاهرها فأقطاب الرسالات العظمى وأنبياؤهم المطهرون في أوطاننا نشأوا وعلى أرضنا درجوا ورموز الديانات المقدسة لازالت شامخة باذخة في ديارنا تهوى إليها قلوب المؤمنين بالكتب والرسل في أنحاء الأرض، وهذا القرآن الكريم الذي ورثناه نحن العرب فخلد لغتنا ورفع الله به ذكرنا وخاطب به نبينا فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف:44) كما خاطبنا فقال: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنبياء:10) هذا القرآن قد حدد أهداف الحياة الروحية تحديدًا دقيقًا مبسطًا بعيدًا عن الأوهام الخيالية والفروض الفلسفية، ووفق بينها وبين مطالب الحياة العملية توفيقًا عجيبًا لم يستقم لغيره من الكتب ولم يتح لسواه من مناهج الحياة ونظمها.


فإذا كنا نحن العرب نملك هذه الثروة الروحية الجليلة التي: تصل القلب الإنساني بجلال الربانية فتكلؤه بذلك إشراقًا وريًّا وتكرم في الإنسان معنى الإنسانية فترفع في عينيه قيم الفضائل العليا وتذكر الناس بجزاء الآخرة فتسمو بهم عن الوقوف عند أغراض الحياة الدنيا وتوثق بين بني الإنسان رابطة من الأخوة لا تمتد إليها يد التفريق والبلى وتقيم ميزان العدالة الاجتماعية بين مختلف الطبقات على أساس من التعاون والرضى وتضع لأصول المشاكل حلولاً ترتكز على الحق لا على الهوى، إذا كنا نملك ذلك كله فإن من العقوق لمجدنا وكتابنا وللإنسانية كذلك ألا نتقدم للدنيا بهذا الدواء والعلاج الشافي.


ولهذا نعتقد أن من واجب المؤتمر أن يقرر وجوب استمساك البلاد العربية بقواعد حضارتها التي تقوم على ما ورثت من فضائل نفسية وأوضاع أدبية، ودوافع روحية على أن نقتبس من الحضارة الغربية كل ما هو نافع مفيد من العلوم والمعارف والصناعات والأساليب وعلى أن ندعو أمم الغرب إلى الانتفاع بهذا الميراث الروحي الجليل ونبصرها بما فيه من خير ونذكرها بما يحتويه من نفع وضر وبذلك تقوم الصلة بيننا وبينها على أساس من التعاون المشترك يتآزر فيه العقل والقلب على إنقاذ الإنسانية واستقرار الأمن والسلام.


لقد يقال: إن هذا المعنى ينحدر بالعاملين له والداعين إليه إلى معنى من التعصب الديني أو التحزب المذهبي يمزق وحدة الوطن المجتمع ويفرق بين المسلم وغير المسلم وهذا وهم خاطئ، فنحن إنما ندعو إلى الفضائل الروحية والمثل الدينية العليا التي يدعو إليها أهل الأديان جميعًا كما ندعو إلى الانتفاع في حياتنا العملية بهذا التراث القرآني المجيد الذي هو للمسلم دين ونظام ولكل عربي قومية ومجد وللدنيا بأسرها طمأنينة وسلام.


أيها السادة الفضلاء

حين نريد لأوطاننا وشعوبنا على أيديكم الوصول إلى هذه الأهداف والحصول على كامل الحرية والاستقلال لا ننكر ولا نغفل أن بيننا وبين دول العالم وأممه وشعوبه صلات يجب أن تبقى ومصالح يجب أن تنظم؛ حتى يقوم التعامل على أساس من الحب والتعاون والإنصاف، وإن من واجب مؤتمركم الموقَّر أن ينظم ذلك كله بحيث لا تسوَّى مصالح الدول والشعوب على حساب العرب كما لا يحال بين دوله وبين مصلحة من مصالحها الحقيقية التي لا تنتقص من استقلالنا ولا تقف عقبة دون رقينا ونهوضنا.


أيها السادة الفضلاء

إن يومكم هذا له ما بعده وإنكم لتضعون بقراراتكم التي تقررون لبنات الأساس في نهضة العرب الحديثة؛ بل في نهضة العالم الإسلامي كله، وإنكم متى سموتم عن الاعتبارات الشخصية ونصحتم بتقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية، فإنكم بإذن الله موفقون فاقدروا تبعتكم، وحققوا الأمل في وطنيتكم، وثقوا بمقدرة شعوبكم، وتأييد الله إياكم.. والله معكم.

وسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.

حسن البناالمرشد العام لـ(الإخوان المسلمون)