في قافلة الإخوان المسلمين الجزء الثالث

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
في قافلة الإخوان المسلمين الجزء الثالث

بقلم: عباس السيسي


إهداء

إلى أول العزم من الرجال المقاتلين الأفغان

إلى الفتية المجاهدين الأبرار من أبناء فلسطين والقدس الشريف

إلى الغرباء المقاتلين في أرتريا والفلبين

إلى الذين استنفرتهم عقيدة الإسلام في روسيا ويوجسلافيا والصين إلي الإخوة في مصر وسوريا الذين شردوا واعتقلوا وسجنوا وعذبوا فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا

" والعاقبة للمتقين"


مقدمة

الحمد لله الذي كتب علينا الجهاد ( وجاهدوا في الله حق جهاده) ومع الجهاد أمرنا بالصبر والمصابرة ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) والصلاة والسلام على سيدنا محمد القدوة الكاملة في سبيل المؤمنين إلى العزة والسيادة والسعادة في الآخرة وعلى آله وصحابته أجمعين .

يشمل الجزء الثالث من كتاب " في قافلة الإخوان المسلمين " تفاصيل ما حدث على أثر إطلاق النار في حادث المنشية المزيف – الذي دبره جمال عبد الناصر مساء 26 أكتوبر 1954 بالإسكندرية ليبرر به سحق جماعة الإخوان المسلمين وهو الهدف الذي يخطط له أعداء الإسلام وتولي جمال عبد الناصر والحكام الظالمين تنفيذه فقد جاء في كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب ( شقيق الشهيد سيد قطب ) قوله في صفحة 397: قال لي المحقق أثناء التحقيق الذي أجري معي في السجن الحربي عام 1965 (وهو مثبت في ملفات التحقيق) لقد قلت أمام مجموعة من الناس أن حادث المنشية كان مسرحية  : قلت : لم اقل ذلك ! قال فماذا قلت إذن ؟! قلت لهم سواء كان حادث المنشية حقيقيا أم كان حادثا مفتعلا فقد كان معدا للإخوان كل ما حدث لهم بالفعل ! قال مستنكرا : وما دليلك على ذلك ؟ قلت لقد كان لي صديق يدعي ( حسن السيد ) وهو عديل الضابط أحمد أنور مدير السجون الحربية وكان موضع ثقة كبيرة من جمال عبد الناصر وكانت قد قامت بيني وبينه صداقة وثيقة عام 1952 فزرته ذات مساء فى أواخر يوليو 1954 في مكتبه (وكان يعمل محاميا) فوجدت عنده زبونين أنهي أمرهما بسرعة وقال : تعال ! إنما أريدك في أمر مهم وأغلق باب مكتبه بالمفتاح من الداخل مع أنه لا يمكن فتحه من الخارج ! وقال : أريدك في أمر على غاية من الأهمية – نريد أن نوقف الصدام بين الإخوان والحكومة بأي شكل ! قلت :إن الصدام قد ووقع بالفعل فكيف يوقف ؟ قال فليكفوا عن نقد المعاهدة " يقصد المعاهدة التي أجريت بين الحكومة وبين الانجليز في ذلك العام وكان للإخوان عليها جملة اعتراضات ) قلت :

لقد أعلنوا رأيهم فيها بالفعل , فما العمل ؟ قال فلينسحبوا من السياسة ويعلنوا أنفسهم جماعة دينية ! قلت : ألحماية أشخاصهم يفعلون ذلك . ويدمرون في الوقت ذاته الأساس الذي قاموا عليه ؟ لقد قاموا على أساس ممارسة الإسلام بمعناه الشامل والسياسة جزء منه فإذا انسحبوا اليوم من السياسة فماذا بقي لهم من مبادئهم يرتكزون عليه ؟ قال : مؤقتا فقط حتي تمر الأزمة ... فإنك لا تدري ماذا سيحدث لهم ؟ فقال أنا أعيش في وسطهم وأعلم ماذا سيحدث يعني حين يأخذون المرشد والأشخاص البارزين في الجماعة فيعدمونهم, ويأخذوا كذا ألف شابا فيعذبونهم على طريقة إبراهيم عبد الهادي تكون الدعوة قد انتهت ! قلت : لا تنتهي الدعوة بهذا ! قال أظن ستقول لي أن الاضطهاد يذكي الدعوات ! أنا أحفظ هذا الكلام أكثر منك ! ولكن أمامك مائة سنة أخري حتي تعود الدعوة من جديد ! قلت إن هذا عصر تتابع فيها الأحداث بسرعة ولا مجال فيه لشئ يأخذ مئات السنين ومع ذلك فماذا في وسعي أنا أن أفعل ؟! قال تلتقي بأخيك سيد قطب وتطلب منه وقف الصدام مع الحكومة بأي شكل ! قلت له . نعم ! أفعل ولم ألتق بأخي حتي كانت الاعتقالات قلت ذلك للمحقق فارتبك ارتباكا شديدا لم يستطع إخفاءه ! وظل ما يقرب من نصف دقيقة لا يجد ما يقول . ثم قال متعلثما : في يوليو ألم يكن يومئذ قد بدءوا يشاغبون ! وبعد أسبوعين طلبني المحقق وقال لقد استدعينا حسن السيد وسألناه فأقر بما ذكرته في التحقيق !

ويقول الأستاذ محمد قطب في نفس الكتاب صفحة 398 ما يلي :

كان ما حدث للإخوان المسلمين في عام 1954 وثيق الصلة بأمر غير مسرحية حادث المنشية بالإسكندرية كان ويثق الصلة بتقرير " جونسون " المندوب الخاص للرئيس أيزنهاور " في الشرق الأوسط " المكلف ببحث القضية الفلسطينية وتقديم تقرير للرئيس أيزنهاور عن الحل الأمثل للقضية وقام " جونسون " بالمهمة التي كلف بها فجال خلال المنطقة وقابل العرب واليهود ثم قدم تقريرا مفصلا مبنيا على ثلاث نقاط رئيسية :

النقطة الأولي : هي تقسيم مياه نهر الأردن بين العرب واليهود بالنسبة التالية 10% تقريبا لكل من سوريا ولبنان باعتبار أن منابع النهر تجري في كل من البلدين – و40% تقريبا لكل من الأردن وإسرائيل فأما إسرائيل فتأخذ هذا القدر لاستصلاح صحراء النقب لإيواء ثلاثة ملايين من المهاجرين اليهود والجدد وأما الأردن فتأخذ هذا القدر لاستصلاح ثلاث ملايين مدن ( في الضفة الغربية ) لتوطين اللاجئين العرب .

النقطة الثانية : هي أنه نظرا لعدم وجود حدود واضحة بين إسرائيل والبلاد العربية المحيطة بها – فإنه كثيرا ما يدخل العربي الأرض الإسرائيلية وهو يظن أنه ما زال في الأرض العربية . أو يدخل الإسرائيلي الأرض العربية وهو يظن أنه مازال في الأرض الإسرائيلية فتنشأ عن ذلك اشتباكات حربية تسئ إلى أمن المنطقة فيحسن تحديد حدود ولو مؤقتة بين إسرائيل والبلاد العربية – تحدد نهائيا فيما بعد على أن تترك شقة حرام عرضها مائتا متر بين البلاد العربية وإسرائيل .

النقطة الثالثة : هي أنه إذا بقيت أمور أخري مختلف عليها بين العرب واليهود فيجلس العرب واليهود على مائدة مستديرة لحل هذه الخلافات .

ويعنينا الآن من هذا التقرير ما فيه من إجحاف بالعرب وخدمة مغلفة أو غير مغلفة لليهود . وما كان في حقيقة إلا خطوة مرحلية تتوسع بعدها ما شاءت وقد تجاوزت إسرائيل اليوم كل ما جاء في ذلك التقرير فاستولت على الضفة الغربية بأكملها وعلى ثمانين في لامائة من مياه النهر وذبحت من المسلمين من ذبحت وطردت من طردت وحولت من حولت إلى لاجئين .

والذي يعنينا هو الجملة الختامية التي ختم بها " جونسون " تقريره الذي كان في ذلك الوقت هو الطريقة التي تريد بها أمريكا تثبيت إسرائيل على وضعها الذي كانت عليه وإعطائها الشرعية اللازمة لوجودها . والتي كان اليهود يحتاجون إليها كخطوة مرحلية يثبتون بعدها وثبات جديدة في تحقيق ما هو مخطط من قبل وما هو متفق عليه بين أمريكا وإسرائيل كانت الجملة الختامية على هذا النحو : ولكن طالما أن جماعة الإخوان المسلمين وهي جماعة قوية مسلحة متعصبة يبلغ تعدادها حوالي المليون في مصر والبلاد العربية الأخرى .. طالما أن هذه الجماعة باقية بقوتها ... فلن يمكن تنفيذ هذا الحل ولن تستقر الأمور في الشرق الأوسط !! وكان المعني واضحا بكل تأكيد ... معناه أقضوا لنا على هذه الجماعة لكي يمكن تنفيذ هذا الحل ولكي تستقر الأمور في الشرق الأوسط !! ورفع التقرير في يونيو 1954 إلى الرئيس أيزنهاور فوافق عليه . وأعطيت الإشارة لجمال عبد الناصر للتنفيذ ... وهذا هو الذي يفسر فزع الرجل الطيب الأستاذ حسن السيد الذي كان يعيش في وسطهم ويعرف مما يسمع منهم – ماذا يراد بالإخوان المسلمين !

والذي حدث بعد ذلك هو تطبيق واضح لهذه المؤامرة التي دبرت بليل على أيدي أناس من بلدنا ومن جلدتنا – دعايتهم وشعاراتهم وطنية وأسماؤهم إسلامية . إن الذي حدث من التعذيب الوحشي والقتل البشع ودفن وإخفاء جثث الشهداء في أغوار جبل القطم وتضليل الحكام للشعب المصري وكافة شعوب العالم . بالإدعات الكاذبة ضد جماعة الإخوان المسلمين كذبا وبهتانا وزورا أمر ينافي طبيعة أخلاق هذه الشعوب التي لم تتعود استباحة الحرمات والجرأة على الكذب البواح – وإهدار الكرامات في غير مبالاة بالروابط الأسرية والعائلية والقومية التي تحترمها سائر الشعوب العربية والإسلامية فقد أدعو كذبا وزورا على أنهم عثروا في المخطط الإرهابي للإخوان المسلمين على قائمة باغتيال أشخاص منهم المطربة أم كلثوم وبعض أسماء أبطال ونجوم فريق النادي الأهلي ونادي الزمالك الذي يتعلق بهم المعجبون من أبناء الشعب استدرارا واستفزازا لعواطفهم ضد جماعة الإخوان المسلمين .... كما ذكروا أنهم عثروا على رسومات وتصميمات تهدف إلى نسف الكباري ومحطات توليد الكهرباء ومحطات وقضبان السكك الحديدية في جميع أنحاء البلاد .. كي تتوقف جميع المصالح ويبيت الناس في الظلام هذا فضلا عن تخطيط الإخوان لاغتيال جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة كل هذا يذاع على الناس بكل وسائل الإعلام ليل نهار لؤججوا غضب الشعب بكل فئاته كل فيما ينجذب إليه .

ولقد استجاب لمكرهم خداعهم وتضليلهم كثير من رجال الصحافة بكل اتجاهاتهم ونزعاتهم فأوغروا صدور عامة الناس بمقالاتهم الكاذبة المزيفة بل الخائنة التي تصدرت الصفحات الأولي من الصحف وكما أصدروا بعض الكتب مثل كتاب ( هؤلاء هم الإخوان !!) بأقلام طه حسين ومحمد التابعي وعلي أمين وكامل الشناوي وجلال الدين الحماصي وناصر الدين النشاشيبي . وهذا الذي كتبوه في هذه الرسالة – بعضا من فبض سودوا به صفحات جرائدهم ومجلاتهم وأحاديثهم الصحفية في الداخل والخارج ولقد أبدع الممثلون في الإخراج الفني في المسارح والسهرات من نكت وتشنيع وبذاآت, فاستجابوا لنفير المؤامرة على الإسلام وشطبوا عقولهم وأماتوا ضمائرهم وانتكسوا إلى الحضيض ورضوا بالهوان والدون والتبعية بلا وعي ولا تبصر . وهم السادة الذين يتشدقون بأنهم حماة الحرية والمدافعون عن حقوق الوطن والمواطن , ومتي يكون ذلك إذن لم يكن في هذا المقام حين تستفزهم تلك المظالم والأهوال لقد سجلوا على أنفسهم خيانة الأمانة حين استعدوا على هذه الجماعة المؤمنة المجرمين والأفاقين والحاقدين من أصحاب المبادئ الهدامة المتربصين بالقوة الإسلامية وأبنائها الأبرار .

ولقد انشاق مع هذا التيار المجنون رجال من علماء الدين وضعوا تحت أيديهم معلومات مزيفة كاذبة صدقوها قبل أن يتبينوا – فتورطوا ووقعوا في هذا المحيط الآسن وشاركوا بأقلامهم وخطبهم وبياناتهم في تدعيم هذا الزيف ... مع أنهم من أصحاب فكر وفقه ودراية بوقائع التاريخ – لقد كنا نؤمل فيهم أن يكونوا أول المدافعين عن الحق لأنهم أ‘رف بفكرنا وحقيقة دعوتنا وأقرب إلى قلوبنا وهم أساتذتنا ونحن جنود لهذا الإسلام وهم ليسوا ببعيدين عنا فإن الكثير من العلماء شاركونا في كل المحن التي مرت بنا ومنهم من استشهد في السجون وعلى أعواد المشانق .

ولكن هكذا تجمعت علينا من هذا المجتمع بجهل وخوف وغباء وظنوا أنها القاضية على جماعة الإخوان المسلمين ودعوتهم الربانية وما علموا أن الله تعالي يولي هذه الدعوة ويسجل عليهم خبايا قلوبهم وسوء نياتهم وخبث ضمائرهم حين يقول وقوله الحق ( بل ظننتم أن لن بنقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا )

إن ما حدث عقب هذه الطلقات المزيفة في ميدان المنشية بالإسكندرية من الهول والرعب والجرائم التي لا يقوم بها إلا مجرمون محترفون لا تنبض قلوبهم بطرفة عين من الرحمة والإنسانية – بل تجمدت وتحجرت - تنقلنا إلى عصر البهيمية والانحطاط حتي أن إدارة السجون لا تسمح ببقاء أى ضابط أو جندي من الحراس يشتبه أن يكون له صلة قرابة لأحد من المسجونين وإذا اكتشف أى حارس أن أحد المساجين من قريته فإنه يضاعف له العذاب حتي يبعد شبهة المعرفة .

إن كل ما حدث من صنوف التعذيب الرهيب بشتي فنونه ورسائله والذي أصاب الآلاف في ذاتهم وصحتهم وكرامتهم وأرزاقهم حين فصلوا من أعمالهم ووظائفهم عشرات السنين... كل ذلك لم يهدف إلي الانتقام من الذين قيل أنهم تآمروا على قتل عبد الناصر فلو كان الأمر كذلك فإن القانون يكفي ليقول كلمته في ذلك فالذي يحدث في شتي أنحاء العالم عند اغتيال الرؤساء أن يحاكم الذين فعلوا ذلك على اليقين فما بالكم بقضية شروع في قتل مزيفة تحكم فيها محكمة الثورة بإعدام ستة من رجالات الدعوة الإسلامية وقادتها فضلا عن الذين قتلوا من التعذيب وغيرهم الذين غيبوا في السجون عشرات السنين .

لقد أصبح واضحا بما لا يدع مجالا للشك أن الهدف المقصود من ذلك المخطط هو إستراتيجية مرسومة على مستوي أوسع من حدود مصر للقضاء على أكبر جماعة إسلامية يقف رجالها المؤمنون صخرة صلبة في مواجهة مخططات ا‘داء الإسلام من يهود وصليبيين وملاحدة ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون )

ولكم طاف بخاطري وأنا أعيش في قافلة الإخوان المسلمين وأهتف مع إخواني الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله اسمي أمانينا كنت أشتعل حياة وحماسا وقوة وأستعجل ذلك اليوم الذي ألقي فيه الأحبة محمدا وصحبه ... كنت أتصور يومئذ أن ميدان المعركة سيكون بين شباب الإخوان وجنود الجيش البريطاني الرابض على أرض مصر وأرض العالم الإسلامي فهم أعداء العقيدة والوطن الذين يحتلون بلادنا ويستذلون كرامتنا ويستأثرون بخيرات بلادنا لم أكن أتصور أن المعركة المرة الأليمة ستكون مع أنفسنا مع بني ديننا وجلدتنا الذين تعايشوا معنا وكانوا بين صفوفنا وكانت مؤامراتهم علينا اقسي وأنكي ما كنا قد عايشناه في جهادنا مع الانجليز .

ولن الحقيقة أننا لا زلنا في حاجة إلى أن نذكر ونكرر كلمات الإمام الشهيد حسن البنا الذي استلهمها من حركة الرسول صلي الله عليه وسلم بين أهله وعشيرته حين قال من رسالة النبي الأمين تحت عنوان ( عقبات في طريقنا ):

أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقي منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثيرا من المشقات وستعترضكم كثير من العقبات وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات أما الآن فلا زلتم مجهولين ولا زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم وستجدون جهادكم في سبيله وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان - وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشهوات وظلم الاتهامات ,وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة . وأن يظهروها للناس في أبشع صورة معتمدين على قوتهم وسلطانهم ومعتدين بأموالهم ونفوذهم ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون )

وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان فتسجنون وتعتقلون وتنقلون وتشردون وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم وقد يطول بكم هذا الامتحان ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ولكن الله وعدكم بعد ذلك نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم .. فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين )

" فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله ؟"

عباس حسن السيسي

رمضان المعظم 1409هـ

الفصل الأول: حادث المنشية 26 أكتوبر 1954

بعد توقيع اتفاقية الجلاء

كان الشعور السائد بين كافة المعتقلين في السجن الحربي بعد توقيع الجلاء هو ترقب الإفراج عن المعتقلين كما هو متبع في مثل هذه المناسبات في أكثر دول العالم فأخذ كل معتقلي بمني نفسه بالأمل ويسبح في أحلام وردية مستقبلية حين يسعد بلقاء أهله وأصدقائه ويترك خلفه هذا السجن الكئيب وما كان أحد منا يدري ما سيكون وما سيقع علينا من مصائب وأهوال يشيب منها الولدان .

ساعة الصفر

ففي مساء يوم الثلاثاء 26 من أكتوبر 1954 أغلقت علينا الزنازين التي نعيش فيها حبسا انفراديا وأخذ كل منا يتأهب للنوم – فيما كان المذياع ينقل إلى أسماعنا خطاب جمال عبد الناصر من ميدان المنشية بالإسكندرية وفجأة سمعنا صوت عدة طلقات نارية تنطلق وسمعنا صوت جمال عبد الناصر وهو يصيح بعبارات متشنجة لم نفهمها لفرط ذهولنا وانزعاجنا من المجهول .

لم يكن في وسع أحدنا أن يتصل أو يناقش لمعرفة الحقيقة ولكن الطرق على الجدران يدل على الفزع والحيرة والقلق فقد بدأ كل واحد منا يخشي أن يكون للإخوان صلة بهذا الذي حدث والذي نزل علينا كالصاعقة فإن الحكومة قد عبأت الشعور العام وهيأت الظروف السياسية بعد توقيع الاتفاقية للقضاء علينا . لقد توترت أعصابنا وضاع النوم من عيوننا – وعاش السجن في صمت رهيب.

وسمعنا صوت البروجي وهو يضرب ( كبسة ) تلك أول مرة أسمع مثل ذلك بصورة جدية واقعية – واشتعل السجن من حولنا بالنشاط والحركة السريعة وتكرر استعمال البروجي في إصدار الأوامر – بدأن أصوات الحراس الموجودين على أبراج السجن ترتفع أكثر من قبل .

ولم يأت منتصف الليل حتي سمعنا أصوات الصرخات والاستغاثة المخيفة المرعبة المرعبة تخترق عنان السماء واتجهت أسماعنا تجاه هذه الأصوات عسي أن نكتشف أحدا من إخواننا ولكن هيهات وسط هذا الضجيج وهذا الرعب وقمت انظر من ثقب المراقبة في بابا الزنزانة فرأيت العساكر يهرعون وفي أيديهم بعض أفرع الشجر وبعضهم ممسك بقطع من الخشب وآخر يمسك بالسياط .

الهول الكبير

لم تشرق شمس صباح يوم 27 من أكتوبر حتي حشرت داخل السجن الحربي أعداد كبيرة من الإخوان – كأن رجال الشرطة كانوا قد أعدوا أنفسهم ورابطوا عند بيوتهم حتي سمعوا صوت الطلقات وهي تدوي في ميدان المنشية بالإسكندرية – أسرعوا بالقبض عليهم قبل أن يتجمعوا أو يتصرفوا كما هو في زعمهم وبدأت سيارات الشرطة تصب في أعماق السجن بمئات من الشباب والشيوخ الذين لا زالوا في غيبوبة لا يعرفون سبب ما يحدث لهم .

وحين يدخل الأخ بوابة السجن الحربي وقبل أن يسأل عن اسمه أو تؤخذ منه البيانات الشخصية – تنهال عليه الضربات الوحشية على رأسه ووجهه في كل مكان من جسمه – يهيأ الإنسان أنه لا نجاة له من الموت المحقق حتي يساقوا جريا إلى الزنازين فتغلق عليهم وتستمر هذه المذبحة ليلا ونهارا بلا انقطاع وتستورد الحكومة الكرابيج السوداني التي تغطي عمليات التعذيب لهذه المئات التي تساق بغتة وفجأة من جميع أنحاء مصر .

وتغلق عليهم الزنازين لا أغطية ولا طعام ولا ماء – فلي سهناك عند إدارة السجن وقت للتفكير في الشئون الإدارية – فالوقت كله مخصص لاستقبال المعتقلين وتعذيبهم ومن حين لآخر يدخل عسكري على الزنزانة ويأمر الإخوان بالوقوف ووجوههم نحو الحائط حتي يعود إليهم ويستمرون على ذلك ساعات لا يتحركون ويأكلهم التعب وهو يناديهم من ثقب باب الزنزانة المسمي ( بالنظارة ) حتي إذا شاهد أحدهم قد تحرك يفتح عليهم الباب وينهال عليهم جميعا بالضرب كالمعتاد وبعد يوم أو أكثر يوزع لكل فرد بطانية واحدة – وشربة ماء واحدة في اليوم والليلة – وتوضع في الزنزانة ( قصرية واحدة من الكاوتش الأسود لقضاء الحاجة !!).

مكاتب التحقيق

ولأول مرة في تاريخ مصر – يتم التحقيق في القضايا بعيدا عن دور النيابة العامة – فرؤساء النيابة ووكلائهم يباشرون التحقيق في مكاتب بجوار سلخانة التعذيب الذي يشاهدونه بأعينهم ولا يستنكرون وتري العائدون بعد التحقيق في حالة من الإعياء الشديد والدماء تنزف ولا حيلة لهم إلا الصبر ومواساة إخوانهم المصابين أمثالهم . إنما الدنيا شجون تلتقي ...

وحزين يتأسي بحزين

وتستمر هذه الدوامة ويشتعل أوارها يوما بعد يوم بما يستجد من أفاتين الإرهاب المخيف .

لقد فاجأ عبد الناصر بهذا الحادث جموع الإخوان المسلمين ونظامهم الخاص الذي لم يكن يقينا له صلة بهذا التدبير اللئيم ولم يكن لديه نية لمثل هذا الذي حدث .

وعاد جمال عبد الناصر بالقطار من الإسكندرية إلى القاهرة تستقبله على جميع المحطات الجماهير التي تأثرت بالدراما المثيرة وخدرتهم عن إمعان النظر والفكر حتي في شكل تلك المؤامرة حتي تعالت أصواتهم وهي تهتف ( أقتل أقتل يا جمال لا رجعية ولا إخوان ) وهكذا هتف الشعب لقاتليه وبصم له بكل بنان ... وانتشر البوليس السري في كل مكان ينقل إلى عبد الناصر شعور الناس وتعليقاتهم التي كان يقول ( إنها تمثيلية ) ومثل هؤلاء كان يقبض عليهم ويرحلون إلى السجن الحربي وتصدر ضدهم أحكام بالسجن ولم يكن أكثرهم على صلة بدعوة الإخوان . وعاد عبد الناصر غلى القاهرة تستقبله الجماهير استقبال القواد الظافرين – ويتلقي برقيات التهاني من رؤساء الدول والملوك والأمراء والجاليات ثم يستقبل رؤساء البعثات الدبلوماسية – وقيادات الجيش والبوليس ومديروا الجامعات ورؤساء النقابات – وتعقد الاحتفالات وتقام الزينات وتؤلف الأغاني لكبار الفنانين والفنانات – ويترك للإذاعة والصحافة أن تنهش في تاريخ الجماعة بأسلوب حاقد رخيص وتتناول رجال الدعوة بادعاآت كاذبة مضللة – ولا يجد الإخوان سبيلا من صحافة أو كتابة للدفاع عن أنفسهم . اللهم إلا ما يقوم به الإخوان المسلمين والمنصفون خارج مصر من الدفاع بالممكن من الصحافة والمجلات والكتيبات والنشرات والبرقيات .

حريق هائل يشتعل في المركز العام للإخوان بالحلمية بالقاهرة

بدأت بودار الاعتداء على المركز العام للإخوان المسلمين في مساء 216 أكتوبر 1954 عقب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر !!

يقول الأستاذ عادل كمال وكان يعمل مدير إدارة البنك الأهلي الذي كان موجودا في دار الإخوان في هذه الليلة " إن عدد الموجودين في دار الإخوان في هذا الوقت لم يكن يتجاوز أصابع اليدين مثل الشيخ فرغلي والدكتور خميس وشاهدنا مظاهرة قادمة من سكة راتب إلى ميدان الحلمية وكان عددها لا يتجاوز العشرات ووقفت تهتف هتافات عدائية وعندما لم تجد أى تجاوب من سكان الحي انصرفت ثم عادت ولم تكن تتجاوز المائة اقتحم نصفهم الدار وكان بعضهم يحمل آلات حادة وكان الموجودون في الدار يجلسون في الدور الثاني وكنت من بينهم فهرعت إلى الدور الأول واتصلت من حجرة السكرتارية بالشرطة وسالت عن أحمد داود الذي كان مسئولا عن قطاع الإخوان في المباحث العامة في ذلك الوقت فقالوا لى أنه غير موجود .. وفجأة اقتحم المتظاهرون حجرة السكرتارية حيث كنت أتكلم .... ولا أدري كيف ألهمني الله في ذلك الوقت التصرف فصحت فيهم قائلا : ( بتعمل إيه يا جدع أنت وهو .. أنا من المباحث العامة .. إمشي اطلعوا بره ) واستجاب المتظاهرون لندائي على الفور وخرجوا خائفين مذعورين مما يدل على أنهم كانوا من المأجورين الذين لا يحملون أى فكر أو عقيدة ويفرون عند أول عقبة يصادفونها وفوجئت وأنا أطرد المتظاهرين خارج الدار بأحمد صالح داود ضابط المباحث المسئول عن قطاع الإخوان يقف وسط المتظاهرين وكأنه واحد منهم دون أن يحاول منعهم من التدخل وكان سكان الحي قد بدأوا يتجمعون مستنكرين الاعتداء على المركز العام وشعر المتظاهرون أنهم قلة وأن السكان سيفتكون بهم فولوا هاربين .

يقول اللواء زعتر الذي كان أركان حرب المطافئ في ذلك الوقت : أذكر تماما حريق دار الإخوان ... ففي ذلك اليوم وكان يوم الأربعاء وفي حوالي الساعة الحادية عشر صباحا تقريبا بلغني نبأ حريق مشتعل بمبني في الدرب الأحمر دون ذكر أن الحريق في دار الإخوان .. وعلى الفور وجهت نقطة إطفاء وسيارتين من المركز الرئيسي وبطبيعة عملي كأركان حرب المطافئ كنت على اتصال بمكان الحريق تليفونيا وجاءني اتصال تليفوني في ( الضابط النوبتجي ) الموجود في مكان الحريق بأن الحريق كبير وأنه في مبني الإخوان وأن هناك جمهرة فوجهت خمس سيارات إطفاء أخري من المركز الرئيسي وسيارتين من عابدين وثالثة من الخليفة واثنين من الظاهر وانتقلت في أثر هذه السيارات إلى مكان الحريق فوجدت مظاهرة كبيرة والمتظاهرون يقذفون رجال الإطفاء بالحجارة والطوب بل إن بعض المتظاهرين هجم على رجال الإطفاء محاولا نزع خراطيم المياه منهم وحاول البعض الآخر عرقلة عملية الإطفاء عن طريق قطع خراطيم المياه بآلات حادة وأقبل علي ّ بعض المتظاهرين من أصحاب السطوة وأخذوا يوجهون لى عبارات التهديد والوعيد وأوحي كل ذلك لى أن الأمر شيئا وشعرت بأن هذا الحريق بالذات ليس عاديا رغم أنه لم تكن لى أية ميول سياسية وكان هدفي الأول هو تمكين رجال الإطفاء من القيام بواجبهم وأذكر أنه قد صدرت مني عبارات باللغة الانجليزية لأحد زعماء المتظاهرين مناديا أن يطمئن باله وأننا على علم بطبيعة الحريق وبالهدف منه فابتسم هذا الشخص ابتسامة صفراء وفعلا انفض المتظاهرون وهدأت الحالة نوعا وظللنا نكافح الحريق لإطفائه .

- إن المتظاهرين كانوا جميعا من سن متقاربة مما يوحي أن في الأمر شئ غير عادي .

- إنني شاهدت وجوها مألوفة كنا نراها في مناسبات واجتماعات الثورة .

- أن المتظاهرين كان لهم زعماء نتفاهم معهم وكان بعضهم يتصرف وكأنه صاحب سطوة .

- إن المتظاهرين كانوا يعملون بطريقة جماعية منظمة .

- ويقول اللواء عبد الحميد الصغير مدير أمن مرسى مطروح والذي كان ضابط مباحث الدرب الأحمر وقت حريق [[المركز العام للإخوان]] :- كنت أمر في حي الدرب الأحمر لملاحظة الأمن وعندما بلغني أن هناك حريقا وجمهرة في [[المركز العام للإخوان]] – تعجبت فقد كنت هناك في الصباح الباكر ولم ألاحظ شيئا غير عادي – وعملت بعد ذلك أن المتظاهرين قد هجموا على المركز العام في حوالي الساعة الحادية شر صباحا وانهالوا ضربا على الشرطي السري المعين هناك وأذكر أن اسمه كان محمد عفيفي الذي أفلت من أيديهم بأعجوبة وأسرع لإبلاغ القسم وعندما أسرعت إلى مكان الحريق وجدت المتظاهرين قد فروا مما يدل أنها لم تكن مظاهرة بالمعني المعروف بل كانت هجمة منظمة ضد هدف معين ولابد هنا من الإشادة بسكان حي الدرب الأحمر الذين شاهدتهم يقدمون لرجال الإطفاء كل عون ومساعدة وكان عددهم يقدر بالآلاف وكان الوجوم باديا عليهم ولم تكن هناك أية هتافات أما المتآمرون فقد اختفوا سريعا بعد أن نفذوا مخططهم المرسوم .

- اعتراف خطير لعلوي حافظ

- والسؤال المطروح هنا هو : إذا لم تكن المظاهرة شعبية وتلقائية كما أكد جميع الذين شاهدوها فمن الذي دبر إذن هذه المظاهرة – أو الهجمة كما يقول اللواء عبد الحميد الصغير – ونفذها – كان لابد للإجابة على هذا السؤال من مقابلة علوي حافظ المتهم الأولي في تدبير حريق [[المركز العام للإخوان]] الذي قال :نعم أعترف أن أنصار جمال عبد الناصر هم الذين أشعلوا الحريق في [[المركز العام للإخوان]] عقب محاولة اغتياله في الإسكندرية فعبد الناصر كان يمثل الأمل وكانت روح الحماسة تبلغ الذروة في الثورة ورجالها ولم تكن قد انحرفت بعد ولذلك فأنصار هذه الثورة وأنصار قائدها عندما سمعوا بمحاولة اغتياله جن جنونهم وخرجوا بطريقة عشوائية انفعالية لحق [[المركز العام للإخوان]] الذين اتهموا بمحاولة اغتياله .

وأنصار عبد الناصر الذين أحرقوا الإخوان المسلمين يمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات .

كما يقول علوي حافظ :

الحرس الوطني وكان معسكره يقع في سكة الحبانية بالدرب الأحمر وكان قريبا من [[المركز العام للإخوان]] المسلمون وإن كنت أشهد أن معظم أفراد الحرس الوطنيين قد رفضوا لخروج في المظاهرة أما القلة التي خرجت فقد كانت في حالة انفعال شديد وفشلت في السيطرة عليها .

أعضاء هيئة التحرير وهي الهيئة في التي أنسأتها الحكومة وكان يوجد لها 28 فرعا في حي الدرب الأحمر وحده .

العناصر الأخري التي تكره الإخوان المسلمين مثل الشيوعيين غيرهم .

ويضيف علوي حافظ قائلا إن سكان الدرب الأحمر لم يشتركوا في هذه المظاهرة والشعب برئ منها وأنا نفسي ضحيتها نظرا لكوني أقرب قيادات الثورة إلى موقع المركز العام !!

ويقول – اللواء أنور زعتر أركان حرب المطافيء وقت نشوب الحريق أن المقاومة التي لقيها رجال الإطفاء من المتظاهرين وقذف الطوب والحجارة الذي تعرضوا له وجميع الظروف المحيطة بالحريق قد جعلت رجال الإطفاء يترددون ولكن قائد اللواء إبراهيم سيد أحمد القلش أخذ حيث القوات على بذل أقصي جهد ممكن دون الالتفات إلى الأقاويل والإشاعات .

ويضيف المساعد محمود ( رفض ذكر بقية اسمه ) إنه يخاف من تقلبات الزمن قائلا أن الهتافات التي كان يرددها المتظاهرون جعلت رجال الإطفاء أنفسهم يخافون من إطفاء النيران خوفا من أن تشتد غضبة المتظاهرين عليهم ومن بين هذه الهتافات ( النار ... النار للإخوان ... الموت .... الموت للإخوان).

ويقول الرقيب سيد بدوي على الذي أحيل للمعاش مؤخرا بعد أن قضي أربعا وثلاثين سنة في الخدمة أن رجال الإطفاء سمعوا أحد زملائهم من الذين تسللوا إلى المركز في غفلة من المتظاهرين يصيح بأعلي صوته ( الحقوا .. المصاحف بتتحرق ) وكانت هذه الصيحة كفيلة بإزالة كل تردد وخوف من عند رجال الأكفاء فاندفعوا إلى داخل المركز وكأنه يوجد به أحياء رغم أنه كان خاليا يحاولون إطفاء وإنقاذ المصاحف .

ويضيف الرقيب بدوي مؤكدا أن المتظاهرين قد تعمدوا إضعال النار في المصاحف وكتب السنة وأنها كانت من أوائل الأشياء التي احترقت وأن النيران امتدت من المكتبة في الدور الثاني إلى بقية أنحاء الدار – فالهجمة البربرية على المركز استهدفت فكر الإخوان – احترقت المكتبة وجريدة الإخوان وأوراقهم واستمر الحريق ست ساعات كاملة قبل أن يتمكن رجال الإطفاء من إخمادها .

كلمة مجلة الدعوة التي نقلنا عنها هذا التحقيق بالعدد الخامس في ذو القعدة 1396 – نوفمبر 1976. الجناة عندما ارتكبوا الجريمة .. ربما لبسوا ثياب الأبطال .. وامتشقوا السلاح في غير ميدان واستعرضوا العضلات بين الدهماء ... وقاموا بالجريمة .. قربي وزلفي لظالم ... من أجل رضاه .. وربما فازوا بمال يملأ الجيوب أو منصب يشار إليه لحمقي بالبنان .

وتمضي السنون ... وتتساقط هامات تطاولت كبرا وحاربت الحق عمدا وجهرا ويسطع نورا الحق ..ويعرف الناس الحقيقة والحقائق ..ز والجناة بالأمس يتوارون من القوم اليوم وينكرون ويتبرأون .. رغم أن أصابع الإثبات مدعمة بالأدلة ... وعيون الشهود ما زالت تبصر ... والدعوة دأبوا على عرض الحقائق ليتضح للقراء وهم أهل بصيرة مدي ما عاناه وهم يبنون بالأمس ومدي ما ارتكبه غيرهم وهم يهدمون – وما أسهل الهدم ... وما أصعب البناء .

الفصل الثاني: السجون والتعذيب والأهوال

استدعائي للذهاب إلى المستشفي العسكري للعلاج

سبق أنني تظلمت لعدم ذهابي إلى المستشفي لعلاج أسناني التي بدأت تتساقط واستجيب لطلبي مرة واحدة وذهبت إلى مستشف بالعباسية في حراسة مشددة.

وفي صباح اليوم التالي لحادث المنشية – طلب مني الاستعداد كي أذهب إلى المستشفي وارتديت ملابسي وتهيأت للخروج من بوابة السجن ( 3) ولكنني فوجئت بإدخال سجن ( 4) وما أن عبرت البوابة حتي وجدت نفسي قد طرحت أرضا ووضعوا رجلاي في فلكة وانهال العساكر عليّ شربا وركلا ثم حلقوا شعر رأسي بصورة مزرية وأدخلوني زنزانة وأعطوني بطانية واحدة وأغلقوا الباب . وفهمت في الحال أن هذا انتقاما مني للحديث الذي تحدثت به مع وكيل السجن بشأن سوء معاملة الإخوة العسكريين الذي قبض عليهم منذ أيام إذا كانت معاملتنا قبل حادث المنشية معاملة قانونية طبقا للوائح والقوانين .

الرعب داخل السجن ( 4)

دخلت الزنزانة صباحا ومنذ تلك اللحظة وأنا قابع في ركن منها دون أية حركة وكأن على رأسي الطير أذناي مرفوعتان إلى أعلي تستقبل كل همسة تدور في الخارج أصوات وصرخات على أثر الضرب بجذوع الشجر وأسلاك الكهرباء المجدولة المعتقلون الوافدون تباعا يتزايدون كل قادم يحشر في زنزانة ويغلق عليه الباب .. لم يتعرض لى أحد غير أنني أعيش في رعب الانتظار فضلا عن هذه المشاهد المفزعة التي خلت أنها تشمل مصر كلها من أسوان إلى الإسكندرية ولم يعد الإنسان يفكر في الحياة من هول ما يري وما يسمع .

توجد حجرة في الطابق العلوي تقع في زاوية على شارعي سجن 4 وفي كل جانب نافذة وضعوا في النافذتين كتلة من الخشب في وسطها حبل متين يتدلي إلى الأرض ويؤتي بالأخ فيقف على كرسي ويربطوه من وسطه بهذا الحبل – ثم يسحب لكرسي من تحت قدميه فجأة فينقلب ويكون كالذي يسبح في الماء – وسرعان ما يتقيأ ولا يجد أى جدار يستند إليه ويقوم الزبانية ويقوم الزبانية وهذا الاسم مشتق من اسم الزنزانة فيشبعونه ضربا وتنكيلا حتي تنكسر ضلوعه ويدمي جسمه وهو في هذا الحال البائس توجه إليه أسئلة واتهامات لم ترد على خاطره من قبل حتي إذا استيأسوا منه فكوا وثاقه وأنزلوه إلى الدور الأرضي مسحوبا على وجهه أو قفاه على درج السلم الذي تنتهي كل درجة بزاوية من الحديد.

ينادي على كل أخ باسمه فيخرج على باب الزنزانة فتصب على رأسه صفيحة من الماء وهو مرتد ملابسه ثم يؤمر فيعود إلى الزنزانة وهو على هذا الحال ويتكرر هذ1 المشهد على الإخوة الذين تجاوزوا سن المعاش وتنتابهم الأمراض ولا يسمح لأي منهم بالنوم إطلاقا فالحارس يوقظه إذا غشيه النعاس فضلا عن أن الجو الرهيب لا يساعد على ذلك .

كل معتقل يقترح لنفسه إسما ينادي به فهذا يسمي نفسه عائشة – وهذا يسمي نفسه خديجة وهذا يسمي نفسه زنوبة وهكذا إمعانا في السخرية والامتهان – ليعرفوا من ذا البطل في حمل ذل المعتقل – لا يسمح لأي حد أن يقضي حاجته في دورة المياه بل في قصرية من الكاوتشوك سمراء منفرة كريهة الرائحة.

رأيت أحد الإخوة الكبار حافي القدمين عاري الجسد يستر عورته كلسون قصير بيجره حارس من حبل مربوط في وسطه – ينهال عليه بالسوط ويسبه بأفحش الكلمات وهو يجري حول العسكري كأنه يدور في ساقية ولم أتبين اسم هذا الأخ الفاضل إلا بعد تدقيق لفرط ما رأيت من حاله المحزن الكئيب.

القبض على فضيلة المرشد حسن الهضيبي

وفي مساء 29 أكتوبر 1954 أطفئت الأنوار في السجن .. وفتحت بوابة سجن 4 ودخل جمع من الضباط وارتفعت أصوات . ونودي على جميع المعتقلين أن ينزلوا إلى ساحة السجن وحين اصطف الجميع في صمت ورهبة دوي صوت يقول أدينا جبنا الراجل بتاعكم) فرد عليه الأستاذ المرشد قائلا ( أسد علينا وفي الحروب نعامة ) فهاج هذا الضابط وأمر فخلعوا عن الأستاذ المرشد ملابسه المدنية وألبسوه بدلة السجن وأودعوه زنزانة بجوار حجرة التعذيب لتحطيم أعصابه زيادة في التنكيل ولما ازدحم سجن 4 بالنزلاء من كبار الإخوان من أعضاء مكتب الإرشاد وأعضاء الجهاز الخاص - أعادوني إلى سجن – 3 .

القبض على مجموعة من المسيحيين

وفي مجال التحقيق مع الإخوة بواسطة المباحث الجنائية العسكرية تبين أنهم اشتروا بعض الأسلحة المضبوطة طرفهم من أحد جنود المهمات وبسرعة قبضوا على هذا الجندي الذي اعترف أنه وبعض زملائه باعوا بعض الأسلحة وأرشدوا على أسمائهم وعناوينهم وحين قبضوا عليهم تبين أنهم ينتمون لجهاز سري ( لحزب الأمة المسيحي) وقاموا بالتحقيق معهم وعذبوهم عذاب الهون .

كيفية القبض على الإخوان

يوجد بجوار مكاتب التحقيق مجموعة من سيارات الجيب بوليس حربي – يقوم على كل سيارة ضابط ومعه ثلاثة جنود وصف ضابط – وحين يعترف الأخ وهو تحت وطأة التعذيب بأي اسم فإن المحقق يأخذ كل البيانات عن اسمه ومسكنه ويسلم هذه البيانات إلى الضابط الذي ينطلق مع جنوده إلى العنوان في أى محافظة وأى مركز ويؤتي بالمتهم في أقرب وقت وهو في حالة من الذهول . ويساق إلى مكاتب التحقيق فيعذب قبل أن يستجوب حتي إذا بلغت الحلقوم سألوه ... فيقول أى شئ .. فقد حدث أن قبضوا على مهندس في تنظيم بلدية القاهرة .. وحين سألوه هل أنت في التنظيم قال : نعم : قالوا من معك ؟ قال معي فلان وفلان وذكر بعض السناء وسرعان ما انطلقت سيارات البوليس الحربي وأتوا بهم مسرعين وبعد تعذيبهم اكتشفوا أن هؤلاء ليسوا في تنظيم الإخوان وإنما هم مهندسون في تنظيم بلدية القاهرة !! ومثل هذه الحالة الشاذة كم قبضوا على أناس تشابهت أسماؤهم ومكثوا في السجن سنين حتي تحققوا من أشخاصهم فحين التحقيقات المشحونة بالفزع والإرهاب لا يتسع الوقت للتثبت من الأسماء والأشخاص .

فالمفروض أن ضابط البوليس الحربي حين يتوجه للقبض على أى شخص . أن يذهب إلى قسم الشرطة الذي يسكن فيه هذا المتهم ويستصحب معه ضابط بوليس المباحث الجنائية ليدله على شخصية المطلوب القبض عليه ثم يقوم ضابط الشرطة فيثبت دلك في دفتر أحوال القسم كما يقضي بذلك القانون – ولكن ضابط البوليس الحربي يتغاضي عن الأصول القانونية ويتجاوز عن أمر النيابة بالقبض على المتهم كما أنه في حالة الإفراج عن المتهم فلابد من أن تقوم الجهة التي تم القبض عليه بواسطتها – بتسليمه إلى قسم شرطة الجهة التي يقطن فيها .

ومن الطرق التي يتبعها البوليس الحربي في القبض على بعض الإخوة أن الضابط وجنوده – يتربصون له على بعد أمتار من مكان عمله أو وظيفته أو منزله حتي إذا اقترب قابلوه بالحسني وأفهموه أنه مطلوب لمقابلة ضابط المباحث لمدة خمس دقائق فقط ويعود إلى عمله – وقبل أن يبدي اعتراضه يدفعون به إلى داخل السيارة ويضعون على عينيه عصابة وتنطلق السيارة بأقصي السيارة سرعة إلى العباسية بالقاهرة حيث يشمخ السجن الحربي بكآبته ووحشيته .. حتي إذا ابتلعه السجن الرهيب ودار في دولاب التعذيب وبقي فيه رمق من حياة – قاموا بتسجيل اسمه حضور في دفتر أحوال السجن الحربي أما إذا ياللهول قد مات فإنهم ينتظرون حتي المساء وتطفأ الأنوار وتدخل سيارة جيب وتحمل الشهيد ملفوفا ببطانية وتخرج إلى جبل المقطم حيث يواري جسده لطاهر ويهال عليه التراب ثم لا يكتب عنه أية معلومات في دفتر الأحوال – وتنكر كل الجهات الدولة أى صلة أو معرفة بهذا الاسم. أما إذا مات أحدهم بعد تسجيله في دفتر الأحوال فإنهم أحيانا يمزقون الورقة التي سجل فيها اسمه وتاريخ القبض عليه فإذا تعذر عليهم ذلك – فإنهم يقومون بعمل نشرة في الصحف اليومية . بأن هذا الاسم قد تمكن من الهرب من حارسه وه في طريقه إلى السجن ويبلغون أهله بذلك وإمعانا في التضليل تقوم قوة من الشرطة بتفتيش منزله ومنازل أقاربه بحثا عنه وأحيانا يعتقلون والده أو بعضا من أشقائه زيادة في الإيهام وإبعاد الشبهة عنهم ولما كثرت هذه البلاغات وإعلانات الصحف – أصبح الناس مقتنعون أن أى إنسان يبلغ أنه قد هرب من السجن فيكون معني ذلك أنه قد قتل ! فكل الإخوة الذين أعلن أنهم قد هربوا لم يعد منهم أحد منذ عام 1954 حتي الآن !.

حفل الاستقبال لكل قادم

حينما يقبض على الأخ ويقوم ضابط الشرطة بتسليمه إلى إدارة السجن – يتلقفه الزبانية كأنه قد دخل السلخانة فهذا يضربه على قفاه وهذا يلطمه على وجهه وهذا يسبه بأقذر الألفاظ فإذا كان ملتحيا فإنهم يأمرونه بأن ينتف لحيته بيده فإذا امتنع لقسوة ذلك وصعوبته جاء العسكري بالكبريت ليحرقها وأمام هذا الإجرام يحاول الأخ أن يتخلص منها في دقائق وهم من حوله يضحكون ويسخرون .

وقد توصلت عبقرية الجناة إلى اختراع جديد إذ يقوم الحلاق الجلف فيحلق للأخ نصف لحيته ويترك النصف الآخر ثم يقوم فيحلق نصف الشارب ويترك الآخر ثم يقوم فيحلق أحد الحواجب ويترك الآخر .والواقع أن هذا المشهد يثير عند من يراه الضحك وكيف في هذا الجو الملبد بالغيوم والمشحون بالحزن والألم والغضب ولكننا في مثل هذه المشاهد نذكر قول الله تعالي ( إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) ( إنا كفيناك المستهزئين ) .

وكم تحسرنا وشربنا من كاس الأحزان حين نري أحد إخواننا من رجال [[الأزهر الشريف]] حين تتلقفه أيدي المجرمين حيت يخلعون عمامته ويرمون بها إلى الأرض يتقاذفونها كما يقذفون الكرة أمام جموع المشاهدين من الحراس .

وعندما يتولي العسكري تعذيب الأخ تنتابه غريزة مركب النقص فيسأله عن قيمة مرتبه فإذا قال الأخ أن مرتبه ثلاثون جنيها فيكون نصيبه من الكرابيج ثلاثون كرباجا – وكلما زاد المرتب زاد حجم الكارثة – أما إذا قال الأخ أنه عامل بسيط ومرتبه عشرة أو خمسة عشر جنيها فإن العسكري يرق لحاله – وذات مرة قال أحد الإخوة أنه دكتور مهندس فضرب ضربا مضاعفا حيث اكتشف العسكري أنه دكتور ومهندس كمان !!

ومنذ دخول الأخ جحيم السجن الحربي وهو يعيش في دوامة لا حدود ولا نهاية لها فبعض القادمين الجدد الذين لا يعرفون دستور السجن الحربي – حين يفاجئون بالضرب البشع والقذائف القذرة من الكلمات الوضيعة فإنهم يشتبكون في معركة بالأيدي مع الجنود لا تلبث بهزيمة ساحقة لهذا الأخ الذي يسقط مهلهلا فاقد الوعي وقد حدث مثل ذلك مع الأخ المهندس محب الدين المحجري الذي بعد أن صارع وقاوم وأصيب بجروح وكدمات صدر قرار بالإفراج عنه حيث كان له قريب من أعضاء مجلس قيادة الثورة وع هذا بقي في السجن فترة حتي تندمل جروحه وتتحسن صحته .

الحجرة السوداء

وتوجد في السجن حجرة مدهونة من الداخل باللون الأسود شديد السواد حتي إذا أغلقت على الأخ فإنه يعيش في ظلام مطبق لا يعرف ليلا أو نهارا ولا صبحا ولا مساء ولا تفتح عليه الزنزانة إلا قليلا . فإذا قدر الله له أن يخرج إلى الضوء فإن أبصاره تصاب بأضرار ومتاعب .

الخروج من سجن رقم 3 إلى سجن رقم 5

لا تزال سيارات الشرطة والبوليس الحربي تصب بالعشرات بل بالمئات من الرجال والشباب من أسوان إلى الإسكندرية ومن مرسى مطروح إلى العريش ومدينة غزة ... حتي ازدحم سجن رقم 3 فكان أن صدر أنر بنقلنا إلى سجن رقم 5 ويقع إلى جوار مكاتب التحقيق التي لا تهدأ ليلا ونهار ولا ينقطع التعذيب الرهيب بكل وسائله الخسة والنذالة مما يصعب علينا النوم ويغلب علينا الانزعاج والتوتر فصرخات المعذبين ضربا بالكرباج وكيا بالنار تصيبنا في الأعماق والإشفاق وهذه السيارات تغدوا وتروح محملة بإخواننا وأحبابنا لا نستطيع من حيلة ولا وسيلة كي نخفف عنهم .

اللواء علي البنا

وفي الزنزانة المجاورة أدخلوا اللواء علي البنا الياور الخاص للرئيس محمد نجيب وكنا نشاهده يعامل معاملة غير لائقة .. حتي أن العسكري الحارس كان يكلفه أن يقوم بنظافة زنزانته بنفسه .. ولما طلب من الحارس أن يأتيه بملعقة قال له كل بيدك كما يأكل المعتقلين!!

القبض على المقدم حسين حمودة واليوزباشي عبد الكريم عطية

عند سماع نبأ حادث المنشية المشئوم استطاع المقدم حسين حمودة وزميلة اليوزباشي عبد الكريم عطية – الاختفاء عند أحد الأقارب في عزبة في مديرية البحيرة وسرعان ما تم القبض عليهما وإيداعهما معنا في سجن رقم 5

محنة الأخ عبد الرحمن البنان

الأخ عبد الرحمن البنان من الإخوة الذين لهم نشاط دؤوب ومكانة في قلوب إخوانه جئ به وأجريت عليه من وسائل التعذيب ما يشيب له الولدان .. فقد أشبعوه ضربا وحرقا حتي أغمي عليه فألقوه في العراء وصبوا عليه سيلا من الماء قم أطلقوا عليه الكلاب . حتي إذا فقد وعيه سحبوه على الأرض حتي ادخلوه الزنزانة وتركوه بلا علاج أو غذاء أو ماء .تركوه على الأسفلت بين الحياة والموت .. وكان لزاما علينا أن نتحرك بأية وسيلة وكان معنا حارس يعمل في مستشفي السجن – من مدينة الفيوم واسمه إبراهيم الدسوقي حباه الله بأخلاق فاضلة – طلبنا منه أن يعطي الأخ عبد الرحمن كوبا من عصير البرتقال يصبه في فمه – فاعتذر لخطورة هذا التصرف فطلبنا منه أن يقوم بتضميد هذه الجروح الدامية وهذه الفقاقيع المنبثقة على سطح الجلد

قال إنها مهمة صعبة وسهلة الانكشاف .وأخيرا قبل أن يدخل ويصب في فمه كوب عصير البرتقال ولا يترك لذلك أثرا.. ولا كان عمله هذا له أهمية بالغة لإنقاذ أحد إخواننا فقد فكرنا أن نقدم له هدية مكافأة على خدماته .. وشد ما أخجلننا أنه قد رفض ذلك بإباء شديد وقال لنا ( أنتم بذلك تريدون أن تضيعوا ثوابي ) ولقد كان لهذا الموقف وتلك الكلمات أثرها العميق بل كانت عزاء وبلسما أسلت منا الدموع . ورغم كل ما أصاب الأخ عبد الرحمن فقد حاولوا مرارا أن يأخذونه ليعاودوا تعذيبه فلم يجدوا فيه قدرة على تحمل العذاب وقبل انعقاد جلسة المحاكمة جلسوا معه يلقنونه الأقوال التي يجب أن يدلي بها أمام المحكمة وظلوا يحفظونها له كررها أمامهم حسبما يطلبون وحذروه من أن تغيير أقواله سوف يؤدي به إلى الهلاك . ولكنه بفضل من الله لم يقل إلا الحق وسقط في أيديهم وبطل ما كانوا يعملون ..

الفصل الثالث: . حادث شبرا. الأسلحة. التحقيق

حادث شبرا

شهد حي روض الفرج صباح 14 /11/ 1954 معركة دموية خسيسة أشعل نارها ثلاثة من شباب الإخوان لم يراعوا الله في شئ فأطلقوا الرصاص والقنابل اليدوية على رجال البوليس غير مبالين بالأرواح التي ستذهب نتيجة هذا الحمق .

وكان رجال البوليس قد تقدموا إلى مسكنهم يطرقون بابه بكل هدوء ولا لشئ إلا تأدية واجب مقدس من واجباتهم فما كان من الشباب العابثين إلا أن فاجئوهم بحمم من الرصاص ينهال من شراعة الباب فأصابوا ضابطين بإصابات مختلفة ثم أحكموا إغلاق الشقة من الداخل وراحوا في جنون يقذفون القنابل اليدوية من النوافذ ويطلقون الرصاص من الشرفات غير مبالين إن كانت شظاياها ستقتل مواطنا بريئا أو حارسا من حماة الأمن فأصابوا بذلك بعض الأطفال والغلمان وبعض الجنود .

وبلغ بهم الهوس حد إطلاق الرصاص على جار بالشقة المقابلة لسكنهم وظلوا على هذه الصورة يطلقون الرصاص دون تعقل أو بصيرة حتي اضطر رجال لبوليس إلى إطلاق الغازات المسيلة للدموع لإجبارهم على فتحها ولما فتحوها بدأت معركة أحري حامية بينهم وبين رجال البوليس دارت رحاها على سلم المنزل وانتهت بقتل اثنين منهم والقبض على الثالث ولولا عناية الله ورحمة الأقدار لذهب مئات من المواطنين الأبرياء ضحايا لهذه المعركة الدموية.

دارت المعركة على سلم المنزل وكانت الساعة السابعة والنصف صباحا ولأول مرة تدور معركة في منزل مكتظ بالسكان كانوا قد استيقظوا من نومهم وأعدوا أطفالهم للذهاب إلى مدارسهم وتأهب كل ساكن منهم للتوجه إلى مقر عمله مستقبلا يوما جديدا من حياته .

في هذه اللحظات فوجئ السكان المطمئنون بدوي مرعب وقصف يصم الآذان فتملكهم الذعر والفزع وأخذ زجاج النوافذ والأبواب يتطاير في الداخل والخارج وتزايد رعبهم وهلعهم عندما أصبحت الأبواب والنوافذ لا حاجب يحجبها وتكشف المعركة الرهيبة أمامهم واضحة جلية وشاهدوا بأعينهم الموت مائلا أمامهم في جوانبها .. شاهدوا رجال البوليس بخوذاتهم الحديدية يحتمون بستار من النار أمامهم ويصعدون على المنزل طابقا بعد طابق في حين كان سيل من القنابل اليدوية ينهمر من الطابق العلوي عندئذ مرت لحظة حاسمة ي تاريخ حياتهم فقد تعلق الغلمان بآبائهم وأخذت السيدات يصرخن وضممن في لهفة أطفالهن الرضع في حنان ووجل . ودفعت رهبة الموت بعضهم إلى الاندفاع نحو الأبواب ملتمسات الخلاص ولكن صيحة من رجال البوليس ردتهم على أعقابهن وأصيب بعض السكان بإغماء وفوض البعض أمره لله كل ذلك والمعركة لا تزال دائرة وعلى هذه الصورة المفزعة دامت المعركة زهاء45 دقيقة فتقدم إليهم رجال البوليس وبثوا الطمأنينة في نفوسهم ... وكانت معلومات رجال المباحث العامة قد توصلت إلى أن [[عبد العزيز العراقي إسماعيل]] بالسكة الحديد وأحد أعضاء الجهاز السري للإخوان قد استأجروا شقة بالطابق الخامس من المنزل رقم 40 شارع فخر الدين المتفرع من شارع طوسون بشبرا وأنه يعقد في هذه الشقة اجتماعات تضمه مع بعض أعضاء الجهاز السري المطلوب القبض عليهم وأنه يخفي في مسكنه كميات كبيرة من الأسلحة .. وبالطابق الخامس وجد رجال المباحث أمامهم شقتين فطرقوا باب الشقة التي على يمين السلم وسألوا عن عبد العزيز في هدوء فخرج إليهم أحد الأشخاص وأفهمهم أن هذه الشقة يستأجرها ( جمال مصطفي محمد) أما شقة عبد العزيز فهي الشقة المقابلة لها وعندئذ اتجه رجال المباحث إلى الشقة المقابلة وطرقوا الباب ولكن بدلا من أن يرد أحد فوجئوا بطلق ناري ينبعث من الداخل في اتجاه شراعة الباب فتحطم الزجاج وتطاير في وجوه الجنود .

وهنا أدرك رجال القوة خطورة الأمر فتراجعوا إلى الوراء وهبطوا السلم وفي أثناء نزولهم قابلهم رجال باقي القوة وكانوا يقفون عند الباب الخارجي للعمارة بتقديمهم القائمقام يوسف عبد الله القفص مفتش المباحث العامة فأشار إليه الضابط المصاب بأن هناك خطورة إذا ما تقدمت القوات إلى الشقة .

ولم تمض لحظات قصيرة حتي راح الرصاص يتساقط كالمطر من فوق رؤوس رجال المباحث الذين كانوا قد تجمعوا أمام باب العمارة وانقطع صوت الرصاص فجأة وحل محله دوي القنابل وتبين أن صاحب الشقة وأعوانه المجهولين قد أعلنوا حربا شعواء لا هوادة فيها ولا رحمة .

وعندئذ تعقد الموقف وأسرع بعض رجال المباحث العامة بإبلاغ الحادث إلى البكباشي احمد بليغ مأمور قسم روض الفرج طالبين نجدة من قوة القسم فانتقل المأمور إلى هناك يرافقه اليوزباشيان سعد زغلول البهي رياض على رأس قوة من لجنود المسلحين وهناك وجدوا شارع طووسن والشوارع المحيطة به قد خلت من المارة وأغلقت المحال وأبواب المنازل ولاذ كل شخص بمسكنه وأقفرت المنطقة من كل صوت إلا دوي القنابل المزعجة وطلقات المدافع الرشاشة المتتابعة .

ووجد رجال البوليس أن الموقف يزداد تعقيدا فالإرهابيون يقطنون في شقة بأعلي العمارة والسلم المؤدي إليها سلم حلزوني أشبه بسلالم مآذن المساجد وهم بذلك في موقع حصين يمكنهم من التفكك بأية مهما يكن عددها وإفنائها في لحظات وجيزة إذا ما حاولوا الصعود على السلم لاقتحام الشقة .

وإلى جانب هذا فهم يمطرون القوات بالقنابل ورصاص المدافع الرشاشة من نوافذ الشقة وشرفاتها وفي مقدروهما أيضا أن يبيدوا القوات إذا ما وقفت بالقرب من المنزل .

أبلغ الأمر إلى إدارة المباحث العامة وقامت قوة من رفقة الأمن العام المدرعة إلى مكان المعركة وعندما وصلت هذه القوة إلى تقاطع شارع طوسون بشارعي فخر الدين وعلى محمود طه وجدوا رجال البوليس يحتمون من الرصاص والقنابل التي كانت تلقي عليهم .

وتشاورت القوات مجتمعة في إيجاد حل سريع للموقف لأن طغيان الإرهابيين قد تمادي وأن شظايا قنابلهم التي أطلقوها دون هوادة أو رحمة قد أصابت خمسة من الغلمان الأبرياء ويخشي أن تمتد إلى المنازل المجاورة فتصرع سكانها .

واستقر الرأي على أن تصعد فرقة الأمن إلى سطح العمارة المواجهة لعمارة هؤلاء الإرهابيين وأن تطلق على شقتهم عدة قنابل مسيلة للدموع وذلك لإرغامهم على فتح باب الشقة حتي تنتقل المعركة إلى خارجها وحتي تمتد ويجد رجال البوليس أمامهم منفذا للقبض عليهم

وشعر الإرهابيون بضيق في التنفس ولكنهم مع هذا ظلوا يتابعون إطلاق القنابل والرصاص حتي كادوا يختنقون من كثرة الغازات .

وهنا اضطروا إلى مبارحة الشقة وفتح أبوابها للتخلص من تهديد الغاز لهم بالاختناق فأشارت قوات القنابل المسيلة للدموع إلى باقي القوات بأن الإرهابيين قد غادروا الشقة بعد أن فتحوا جميع منافذها .

فاندفعت القوات إلى داخل العمارة وسارت في المقدمة القوات المدرعة المسلحة وكان الإرهابيون قد تنبهوا لذلك فأسرعوا إلى مكان حصين ورابطوا بجوار سور قصير يطل على بير السلم ويمكنهم من التحكم في القوات وأعدوا أنفسهم بطريقة منظمة فخصصوا واحد منهم لأعداد الذخيرة بينما وقف الاثنان خلف مدفعين رشاشين وراحا يطلقان الرصاص على القوة التي كانت قد صعدت إلى الطابق الثاني من العمارة .

ووجدت القوات أن تحمي أنفسها بستار كثيف من النار ففتحوا فوهات مدافعهم الرشاشة وبنادقهم الأوتوماتيكية بوابل من الرصاص وفي هذه اللحظة بالذات بدأت المعركة الرهيبة على أشدها وتحول المنزل إلى قلعة حربية وراح دوي الرصاص يحدث قصفا كالرعد يهز جدران العمارة ونوافذ المنازل .

وزاد الموقف رهبة أن زجاج النوافذ والأبواب كان يتطاير مع دوي الرصاص فيختلط صوته بصوت القنابل وتطايرت قطع منه في وجوه أفراد القوات وألقي الإرهابي قنبلتين فوق الشرطة سقطت إحداها في بير السلم وسقطت الأخري بالقرب من الطابق الثاني على السلم وشاءت إرادة الله ألا تنفجر القنبلتان مما زاد من حمية رجال البوليس وقوي من عزائمهم للاستبسال في سبيل السيطرة على الموقف وأخذوا يطلقون الرصاص في طريقهم وكنت الرصاصات ترتد في الجدران وسقط الكثير منها أمام الشقق فتعالت صيحات السكان فزعا ورعبا وأصيب الكثيرون منهم بما يشبه الذهول فاندفعوا في حركة لا شعورية نحو أبواب الشقق فقوبلوا بستار من النيران مما جعلهم يرتدون إلى مساكنهم .

وواصلت قوات البوليس صعودها حتي الطابق الثالث وعندما وصلت إليه أخذت المقاومة من جانب الإرهابيين تفتر قليلا ومع هذا استمرت القوات في لإطلاق الرصاص خشية أن تكون هناك خدعة .

ولما وصلت القوات إلى الطابق الرابع أن مقاومة الإرهابيين قد توقفت تماما فأدركوا أنهم إما أن يكونا قد صرعوا وإما أن يكونوا قد فروا فأسرعت القوات في التقدم ووصلوا إلى الطابق الخامس ووقفوا هناك على الحقيقة .

شاهدتها القوات أمامها جثتين غارقتين في بحر من الدماء إحداهما على بسطة واتضح أن صاحبها يدعي أحمد حسين الموظف بالسكة الحديد والثانية عند مدخل الشقة وتبين أنها للإرهابي [[عبد العزيز العراقي إسماعيل]] الكهربائي بورش أبو غاطس وهو صاحب الشقة التي بدأت منها المعركة .

واقتحم رجال البوليس الشقة للبحث عن باقي الإرهابيين فوجدوا في إحدي الحجرات شابا منكفئا على وجهه وهو طالب بالسنة الرابعة بكلية الهندسة وقرر لهم أن الرصاص أصابه في يديه وقد سقط على الأرض حتي لا يظن رجال البوليس أنع سيقاومهم فيقتلونه بالرصاص وانكفأ على وجه تأمينا له وهذا الطالب محمد شاكر خليل .

وقرر أيضا أن الشقة لم يكن يها غيره وزميلاه القتيلان ولأول وهلة قال أنه لم يشترك في إطلاق الرصاص في المعركة وإنما كانت مهمته تزويد زميلاه بالذخائر والقنابل ثم أخذ رجال البوليس في تفتيش الشقة فعثروا بداخلها على كميات كبيرة من الأسلحة كما وجدوا كميات من المنشورات الخطيرة .

أثناء قيام رجال البوليس بالمعاينة ترامت إلى أسماعهم أن زوجة الإرهابي القتيل عبد العزيز تختفي في شقة عبد الحليم محمود بالطابق الثاني من العمارة فأسرعوا إليها ولأول وهلة قررت لهم أن زوجها عندما أطلق الرصاص في أول الأمر على رجال البوليس وتراجعوا أمامه أمرها بمغادرة الشقة والاحتماء بمسكن آخر لي جار من سكان العمارة ولما تلكأت في إجابة ما أمرها به وجه إليها فوهة مدفعه الرشاش وأنذرها بالقتل هي وأولادها إذا لم تطع أمره على الفور فحملت أطفالها معها وأسرعت إلى شقة عبد الحليم وظلت بها حتي قبض عليها البوليس .

وأصدر حكمدار القاهرة تعليماته بتفتيش جميع شقق العمارة فتبين أن صاحب الشقة المقابلة لشقة الإرهابيين مصاب وحالته سيئة ولما سألوا عن ذلك قرر لهم أبوه أن ابنه جمال مصطفي محمد الموظف بكلية الطب البيطري فتح شراعة الباب عندما أطلق الإرهابيون أول رصاصة لهم ليستطلع حقيقة الأمر . فما كان منهم إلا أن طلبوا منه إغلاق الباب وعاجلوه برصاصة أصابته في عنقه .

هاذ وقد أسفرت هذه الحادثة عن إصابة بعض الأهلين والجنود ... جاء ذكرهم فيما سلف .

وعندما أستدعي المتهم الثالث- وهو الذي بقي على قيد الحياة – ويدعي محمد شاكر خليل وكان يرتدي بيجامة مخضبة بالدماء من اثر الجراح التي أصيب بها وقد عصب رأسه ويده اليمني فقد أصيب برصاصتين أثناء المعركة .

وقد سئل هذا المتهم عن سبب وجوده في هذا المنزل فقال أنه صديق لعبد العزيز العراقي لأنهما ينتميان لشعبة الإخوان بروض الفرج ,وجاء لزيارته ليلة أمس الأول وكان معه أحمد حسين فاستضافهما عبد العزيز لقضيا الليل في داره .

وسئل عن مصدر الإصابات التي في رأسه ويده فأجاب بأنه استيقظ في الصباح فشاهد عبد العزيز ممسكا بمدفع رشاش من طراز ( ستن) فأخذ ينصحه بأن يسلم نفسه ولا يلجأ للمقاومة والعنف ولكن عبد العزيز وأحمد حسين ثارا وقالا له ( إحنا ميتين ميتين.... فلازم نقاوم) وأخذ يشير لرجال البوليس بالصعود فأصيب بطلق ناري في رأسه ولا يعرف إن كان مصدره البوليس أو زميلاه .

وفي هذه الأثناء كان البوليس قد أخذ يلقي على الشرفة القنابل المسيلة للدموع فعاد إلى داخل الشقة وأغلق باب الشرفة وفي هذه اللحظة اقتحم رجال القوة باب الشقة فرفع يده اليمني علامة التسليم فأصيب برصاصة أطلقها أحد الجنود فأسرع واختفي تحت الفراش خوفا من أن يقتل .

وسئل عما إذا كان قد رأس الأسلحة في المسكن فأجاب بأنه لم يرها لأنها كانت ملفوفة وأنه استنتج أنها أسلحة وفي الصباح شاهد القنابل اليدوية موضوعة في صناديق صغيرة من الخشب .

وسئل هل هو في الجهاز السري فأجاب بالنفي وقال إنه من شعبة الإخوان المسلمين بروض الفرج وأن هذه الشعبة تضم نحوا من 150 طالبا .

وقال إنه ترك هذه الشعبة وانفصل عنها من سبعة أشهر وأنه انصرف إلى الاستعداد لدخول امتحان الدور الثاني إذ أنه رسب في امتحان الدور الأول .

مدافع وبنادق ومسدسات وخناجر وقنابل في المسكن .

وقد قام رجال البوليس بتفتيش دقيق للشقة التي كان يستأجرها الإرهابي عبد العزيز العراقي ويجعلها وكرا لزملائه في الجهاز السري للإخوان فوجدوا كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر عبارة عن :

عدد:

5 مدافع رشاشة من نوع استن اتضح أن أربعة منها استعملت في هذا الحادث.

9 بنادق لى أنفيل

1 مسدس

1 خنجر ذو حدين

4 قنابل يدوية

1 مكبر صوت

1 جهاز إرسال لاسلكي

10000 طلقة معبأة في صناديق خاصة

وكمية من مسحوق يرجع أنها مادة ناسفة

هذا وقد عثر أمام العمارة على بعض الشظايا وقام خبير المفرقعات يجمعها كما عثر على قنبلتين لم تنفجرا على شظايا قنابل أخري .

وقرر الخبير أن هذه القنابل من النوع الانجليزي الشديد الانفجار .

المعركة كانت نتيجة خطة مرسومة :

تعليمات للإخوان بمقاومة البوليس حتي الموت :

أسفر تفتيش وكر الإرهاب في شبرا عن ضبط كميات كبيرة من المنشورات التي قام بطبعها الجهاز السري للإخوان وسرع أخيرا في توزيعها وكانت هذه المنشورات من أنواع ثلاثة ولعل اخطر ما ضبط من منشورات الجهاز السري تلك النشرة التي تم ضبطها وضبطت منها عدة ألاف في هذا الوكر والتي عنوانها ك ( الإخوان المسلمين والتأمين الفردي ) .

فقد دلت هذه النشرة على أن المعركة التي نشبت بين الإرهابيين الثلاثة ورجال البوليس لم تكن بنت الساعة أو اقتضتها ظروف خاصة اضطرت الإرهابيين إلى البدء بالعدوان فيها وإنما كانت تنفيذا لتعليمات مصادرة من قيادة الإخوان صدرت بها هذه النشرة.

وهذه التعليمات تقضي بأن يقوم أفراد الجماعة بمقاومة رجال البوليس الحربي والمباحث العامة الذين يحاولون القبض عليهم بكل عنف وشدة وألا يسلم أى منهم نفسه إلا جثة هامدة .

كما تضمنت هذه التعليمات إرشادات للمقاومة لتأمين أفراد الجماعة عند مهاجمتهم وقد اتضح أن الإرهابيين الثلاثة كانوا يديرون معركة شارع طوسون بشبرا على ضوء ما ورد في هذه النشرة من تعليمات المقاومة .

إستدعاء

استدعيت فجأة إلى مكاتب إدارة السجن لاستيفاء بعض المعلومات . وحين خرجت سيرا على الأقدام راعني ما شاهدت من مناظر مخيفة فعلي جانبي الطريق أري عشرات من الشباب يقفون في تصلب ووجوههم إلى الحائط لا ينظرون يمينا أو يسارا والعساكر يشبعونهم ضربا وركلا ورأيت بعضهم قد سقط على الأرض مغشيا عليه من أثر الضرب والوقت الطويل الذي قطعه واقفا بدون أية حركة .. وكانت هناك مسافة لا تقل عن متر بين كل منهم حتي لا تعطي لهم فرصة للكلام أو التعارف أو التفاهم .

وشاهدت الضباط بالملابس المدنية وهم يصدرون أوامرهم إلى الجنود باستعمال أقسي أنواع التعذيب بكل الوسائل ولا مسئولية عليهم فيما يحدث من أخطار وأنهيت هذه المقابلة وعدت إلى الزنزانة في هذه المرة بالخطوة السريعة وحدثت إخواني عن مشاهدتي التي أفزعتهم .

محمود عبد اللطيف المتهم بمحاولة اغتيال عبد الناصر

وفي ساعة متأخرة من الليل سمعنا ضجة غير عادية وفي الصباح علمنا أن المتهم محمود عبد اللطيف قد جئ به من الإسكندرية إلى السجن الحربي ووضع تحت حراسة مشددة معلنا وبجوارنا في سجن 5. وقد رأيناه وهو يخرج إلى دورة المياه في حراسة الباشجاويش ( يسن) بعبع السجن الذي يلازم محمود عبد اللطيف ملازمة الظل فلا يسمح له بالتحدث مع أى إنسان مهما كانت رتبته ولا يسمح لأحد بالاقتراب منه على الإطلاق وقد حاولت مع زملائي أن نتسرب إليه حتي نسمع منه كلمة نتبين منه الحقيقة في هذا الاتهام ولكن محاولاتنا قد فشلت فضلا عن أنه لم يسبق لنا به معرفة شخصية حتي يطمئن غلينا خاصة في مثل هذا الموقف الخطير وظل محمود عبد اللطيف يعامل بلا إهانات ولا تعذيب .

القبض على يوسف طلعت وإبراهيم الطيب

على أثر حادث شبرا الرهيب أعلنت وزارة الداخلية عن مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه لمن يرشد عن مكان تواجد يوسف طلعت وصدرت الصحف وعلى صفحتها الأولي صورة له وهو يقف خلف مدفع ميدان يوم كان يحارب اليهود في معركة فلسطين عام 1948 وبعد يوم تم القبض على الأستاذ إبراهيم الطيب المحامي ومن بعده قبض على الحاج يوسف طلعت وتمت عليهما عمليات تعذيب بشعة حتي كسرت بعض ضلوع الحاج يوسف وعجزت يداه عن الحركة حتي أنهم حين ساقوه إلى ساحة المحكمة ألبسوه الجاكت بصعوبة شديدة .

ولما ذهب إلى قاعة المحكمة كان جمال سالم يعرف أن يوسف طلعت لا يقوي على الوقوف أمام هيئة المحكمة لفرط إرهاقه وتحطيم عظامه – فحين دخل ساحة المحكمة قال جمال سالم ليوسف طلعت . أظنك عاوز تقعد؟ ويقصد بذلك أن لا يكشف للصحافة عن آثار التعذيب الرهيب الذي وقع على يوسف طلعت .

أما التعذيب الذي صب على إبراهيم الطيب فهو شئ مرعب ويكفي أن أقول أنني شاهدته وهو يجلس في حوش السجن بجوار مكاتب التحقيق وبجواره عسكري يمسك بيده فلكة وكرباج وشكل إبراهيم الطيب كإنسان مصاب بمرض الجذام فوجهه وفروة رأسه فيها إصابات وشرخ عميق فضلا عما يغطي كل جسده من آثار الكرابيج .

القبض على بعض من ضباك السلاح البحري

حين ذهبت إلى دورة المياه واجهني ضابط ملازم أول بحري عرفني بنفسه أحمد رمزي سيلمان فسألته عن الأحوال فقال : سيئة جدا لقد تجاوز عدد المعتقلين في جميع سجون مصر وأقسام البوليس ما يزيد عن عشرين ألفا والإذاعة تحرض الناس على جماعة الإخوان وتشوه سمعتهم وتكتب قصصا وهمية ونكت وتسرب الإشاعات وتقوم بتصوير أنواع الأسلحة المضبوطة عندهم لإثارة التهم الباطلة ضدهم ولما سألته هل قبضوا على أحد من زملائك الضباط قال : لقد قبضوا على أكثر من عشرة منهم المقدم المهندس بحري عمر أمين والملازمين سعيد بلبع وأحمد علي حطيبة .

بعض الأسلحة والمفرقعات التي ضبطت عند أفراد من الإخوان . والتي قالت أجهزة إعلام عبد الناصر أنها تكفي لنسف مدينة الإسكندرية كما جاء في كتاب ( جرائم عصابة الإخوان ) إعداد لجنة كتب قومية .

4 طبنجة أوتوكاتيك عند ملازم أول بحري سعيد بلبع

2 ضبط عند ملازم أول أحمد عز الدين صادق ضابط فنارات الإسكندرية في 9/11/1954.

68 مفجر كهربائي

3 لفات فتيل

1 مدفع أستن

2 خزنة مدفع

1 مفجر أمان

14 قنبلة يدوية

1 قالب قطن بارود ( رطل )

4 قالب

40 قالب جلجنايت

2 ضبط عند رئيس الجهاز السري بالإسكندرية في 10/11/1954 :

600 طلقة مدفع تومي جن

060 قالب من الجلجنايت

010 أسطوانة مملوءة بمادة تي إن تي

040 قنبلة يدوية . تسجيل كهربائي

01 طبنجة أوتوماتيك

02 طنبجة أوتوماتي لى أنفليد

03 كبسولة دخان للطائرات

04 خزنة مدفع رشاش قصير

001 لفة فتيل

002 خزنة لمدفع رشاش قصير

01 سونكي بالجفير

3 قنبلة هاون

1 قنبلة دخان

1 خزنة طبنجة

1520 طلقة عيار 35

0550 طلقة عيار 603

0265 طلقة عيار 303 بالمساكات

0675 طلقة عيار 710 براوننج

0439 طلقة عيار 45

0044 طلقة مدفع برتا

0045 خرطوشة برتا 9 ملم

00075 خرطوشة صيد

0242 طلقة عيار 756

0116 طلقة عبوة ثانوية للهواء عيار 8 ملم

05 خرطوشة طبنجة إشارة صوتية

0264 قالب

0015 رطل جلجنايت

4 ضبط عند مصطفي فهمي عميد بكلية الهندسة بالإسكندرية في 9 / 11/ 1954 :

0004 لفات فتيل

0011 قنبلة مليز

0850 طلقة عيار 303

1000 طلقة 9 مللي

0510 أصبع جلجنايت

5 عثر عسكري من قوة السواحل على رصيف الكورنيش بمنطقة جليم بالإسكندرية في 9/11/ 1954:

02 بندقية ألماني

0385 طلقة

0167 طلقة ذخيرة مدفع فيكرز

06 طلقات إشارة أخضر

0005 طلقات إشارة أحمر

0009 إشارة أبيض

0013 خزنة مدفع رشاش

03 كفة جنجان

6 عثر بواسطة قوة سواحل الإسكندرية في 9/ 11/ 1954:

0002 بندقية ألماني

385 طلقة ذخيرة عيار 9 مللي

0001 واحد منظار تنشين

391 طلقة ذخيرة عيار 303

07 واحد شريط صلب بطلقات مدفع رشاش ثقيل

0007 طلقات إشارة أخضر

04 طلقات إشارة أحمر

0013 خزنة مدفع رشاش

0002 كفة ذخيرة جيب

7 عثر مفرغ صناديق بريد في 10/11/1954:

05 طلقات ذخيرة لى أنفيلد

06 طلقات لمسدس كولست

8 ضبط بمنزل الملازم أول أحمد رمزي سليمان بالسلاح البحري بالإسكندرية

0579 طلقة عيار

0079طلقة طبنجة

158 مفجر كهربائي

07 طلقات إشارة

9 ضبط طرف السيد إسماعيل عيسي وأخيه إبراهيم الريس بباكوس بالإسكندرية:

01 مدفع برن

08 قنبلة هاون

0015 قنبلة هاون صغيرة

0347 طلقة لي أنفيلد

0006 خزنة مدفع برن

0025 طلقة خرطوش عيار 22

02 علبة بها عبوات بارود أسود

تعليق ..

هذه هي كمية الأسلحة والذخيرة التي تم ضبطها أو العثور عليها عقب حادث المنشية في مدينة الإسكندرية وحدها . ويلاحظ أن المضبوطات عبارة عن تشكيلة مختلفة ومتنوعة العيارات ومختلفة الأغراض ذلك لأنها جمعت في الأصل من مخلفات الجيش الإنجليزي والألماني والإيطالي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 على أرض الصحراء الغربية في مصر .. وكان الغرض من جمع هذه الأسلحة هو استعمالها في حرب فلسطين ضد اليهود.. وقد حدث ذلك بالفعل والأسلحة المضبوطة هي الكمية التي تعذر استعمالها حين صدر قرار حل جماعة الإخوان المسلمين في ديسمبر 1948 ... وتم اعتقال الإخوان المجاهدين حال وجودهم في ميدان القتال على ا{ض فلسطين كما صودرت أسلحتهم .

ولما كان الإخوان في الإسكندرية التي جرت فيها حادثة الشروع في اغتيال جمال عبد الناصر يملكون هذه الكمية من الأسلحة والذخيرة . وعندهم مجموعة الشباب المدرب وضباط من السلاح البحري فكيف يعقل أن يكلف الأخ المتهم محمود عبد اللطيف وهو من إخوان القاهرة بالتوجه إلى الإسكندرية للقيام بهذه المهمة الخطيرة . وكيف يتم ذلك دون التنسيق مع الإخوان بالإسكندرية من باب التكامل والتعاون في إنجاح الخطة !!

إلى سجن رقم 6

وحين ازدحم سجن رقم 5 بالوافدين الجدد من كبار الإخوان – قامت الإدارة بنقلنا إلى سجن رقم 6 وهو عبارة عن عنبر كبير احتشدت فيه كل العناصر التي كانت موجودة بالسجن قبل حادث المنشية من مختلف الأحزاب . حيث أن المعاملة التي تتبع مع هؤلاء معاملة عادية فيسمح لهم بقراءة الصحف والزيارات ويأتيهم الطعام الخاص من الكلية الحربية كما يسمح لهم بالسراير والمراتب وشراء متطلباتهم من الكانتين وكان أصعب ما نراه ما يسمي ( العرسة ) وهي آلة خشبية يربط فيها العسكري الذي صدر عليه حكم بالجلد من قدميه ويديه بحيث لا يستطيع أن يتحرك حين يلهب ظهره الضرب بالكرباج .

محمود أبو ريا

والأخ محمود أبو ريا هو أول من رأيته مشدودا على تلك العروسة . والصول يسن ينهال على ظهره بالكرباج ولا يستر جسمه سوي كلسون قصير . لقد تشوه جسمه بشرائط من الدم حمراء الضارب يضربه من الجهة اليمني ثم يتحول إلى الجهة اليسري والأخ محمود يتلوي ويتألم ولا يصرخ حتي إذا بلغ به الجهد مالت رأسه فلم يقو على حملها . تركوه على حالته كما هو وانصرفوا تهافت عليه الذباب الذي يقع على الجروح الدامية فيزيد من الألم ويضاعف من العذاب وتعجبت أن أحدهم قد تجاوز قانون الإرهاب فأحضر قطعة من القماش ألقاها على ظهره حماية له من جيش الذباب وبقي الأخ الأستاذ محمود أبو ريا على هذه الحال عدة ساعات.

الأخ مجدي زهدي

كان الأخ مجدي زهدي زميلنا في سجن رقم خمسة شابا ملتهبا بالحماس . والده مستشارا بالنقض .. تمكن من أن يرسل لنا كثيرا من الأخبار الخارجية والداخلية وما يدور داخل السجن من التحقيقات مما كان له أعظم الفائدة في توضيح الموقف ومعرفة الجديد من أسماء الإخوة الذين قبض عليهم فإن ذلك يفيد ف يمعرفة اتجاه التحقيق ودرجة حرارة المحنة وظل الأخ مجدي معتقلا لفترة ثم أفرج عنه وبعد أن تخرج من الجامعة هاجر إلى عمل محترم في أمريكا .

التحقيق مع عباس السيسي فجأة

وفيما أنا وقد مضي على اعتقالي عاما ونصف لم أستدع إلى أى مساءلة أو تحقيق . يفاجئني طلب بالتوجه إلى مكتب التحقيق وأسرعت أرتدي ملابس ثقيلة خوفا من البرد حيث كنا في شهر نوفمبر وأخشي أن لا أعود إلى زملائي.. وبالخطوة السريعة وجدت نفسي أدخل بوابة سجن رقم 3 أوقفوني ووجهي إلى الحائط وبدأت أسمع الصرخات المدوية وتبين لى أني مقدم على محنة شديدة وبعد نصف ساعة خرج من غرفة التعذيب الأخ عبد الكريم عطوة من إخوان العباسية وشاهدته شبه عريان وجسده ملطخ بالدماء .

وما لبث أياما حتي استودعه الإخوان شهيدا ودفن سرا في جبال المقطم .

ووجدت نفسي في حجرة التعذيب أما الصاغ حمزة البسيوني والصاغ علي شفيق وقبل أن أسمع منهما كلمة واحدة أمطروني ضربا بالكرباج كل يضرب في أى اتجاه سواء على الوجه والرأس وباقي الجسم وبعد أن وقعت في حالة إغماء سحبوني على الأرض حيث وضعوني وفتحوا دش الماء الذي بلل كل جسمي فقمت أجري وهم يتابعونني بالضرب الذي كان أشد إيلاما حيث أن الملابس المبللة كانت تلتصق بجسمي حين يهوي عليها الكرباج .. ثم دخلت في مرحلة الاستجواب فطلبوا مني أن أخبرهم عن أسماء كل الذين أعرفهم من الإخوان في جميع أسلحة الجيش ! وكلما ذكرت لهم إسما من الأسماء قالوا هذا قد قبضنا عليه يا ابن ... فأقول لهم اسما أخر فتتكرر الإجابة وهكذا يتكرر التعذيب حتي لم أجد في ذاكراتي من أعرفه من غير الإخوة الذين تم فعلا القبض عليهم قبل أن أدخل غرفة لتعذيب وبعد هذه المرحلة التي ظلت أكثر من ساعة أخرجوني ولم أستطع الوقوف فأجلسوني أرضا . وتوجهت إلى الله تعالي أن يعيدوني إلى المكان الذي تركت فيه إخواني وأن لا يعزلوني عنهم .. ونودي على العسكري الحارس وأمروه أن يعيدني إلى مكاني مع إخواني ... وفي طريقي إليهم تجملت بالصلابة والصبر رغبة مني أن لا أدخل في قلوب إخواني الخوف والوهن . وأن أجعل الأمر هينا في نفوسهم .. كما أن تواجد بعض الحزبيين من الشيوعيين ذكرني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله أمرا أراهم من نفسه اليوم قوة " ودخلت على إخواني الذين استقبلوني بحرارة الشوق وعاطفة الحنان وأفسحوا لى مكانا مريحا وقدموا لى طعاما مختارا ومشروبا حار استدفئ به وعبثا حاولوا أن يضمدوا هذه الجروح المتناثرة ... وحرمت الاستحمام فترة طويلة حتي جفت الجروح .

نقلونا إلى السجن الكبير

صدر أمر من حمزة البسيوني أن ينقلونا نحن الأربعة من الصولات من سجن 6 إلى السجن الكبير . ولما دخلنا من البوابة الكبيرة فوجئنا بضخامة السجن واتساع مساحته فأدخلونا حجرة واسعة توجد على يمين الداخل يقع أمامها حوض من الماء جعله الله تعالي غوثا ورحمة وإنقاذا . وقد راعنا أن عدد الإخوة المعتقلين في هذا السجن يزيد عن 2000 ألفين وعدد الزنازين 330 زنزانة والسكن يتكون من ثلاث طوابق وتقع دورتين للمياه تحت ضلعين متقابلين بالدور الأرضي كل دورة مياه بها عشرة أبواب وبعد أن استوطنا هذه الحجرة أحضروا لنا الأسرة وبقيت معاملتنا كما سبق أن كنا في سجن 6 حيث تصلنا الصحف والطعام من الكلية الحربية كالمعتاد .

وفي هذا السجن رأينا مئات من الإخوة من كل أنحاء مصر كما شاركنا في الاعتقال بعض الإخوة من السودان وسوريا .. وعشرات من الإخوة المتطوعون بالقوات المسلحة في كثر من أسلحة الجيش وخاصة من سلاح الصيانة وسلاح الطيران وسلاح الإشارة المنتدبون في سلاح الحدود وسلاح المهندسين وغيرهم كما كان يوجد مجموعة من الضباط الإخوان معتقلون في عنابر أخري داخل السجن ويعاملون معاملة مماثلة كما أنه قد قبض على كثير من الضباط في قضايا غير قضايا الإخوان وهؤلاء أيضا قد جري تعذيبهم وتجريدهم من رتبهم لاتهامهم بمحاولة قلب نظام الحكم .

مشاهد يوم في السجن الكبير

قبل الفجر يفتح الحراس الزنازين لعدد 2000 من الإخوة كل مائة تجلس القرفصاء أمام احدي دورات المياه .. يعطي لكل مائة حوالي عشرة دقائق لقضاء الحاجة !! وليس في الدورات مياه للاستنجاء بعضهم يمزق بعضا من ملابسه للاستنجاء بها والبعض الآخر يختلس كوب ماء قبل دخوله الحمام . الحراس يستعجلون فيضربون ويصيحون على الإخوة أن يخرجوا فالوقت قد انتهي بعض الإخوة يدخلون معا ويقفون خلف الباب يغلقونه بأجسادهم ويناوبون قضاء الحاجة حتي إذا قضوا حاجتهم , فتحوا الباب وخرجوا بسرعة والكرابيج تلسعهم .. ويظل السجن على هذا الحال حتي يقضي 200 أو يزيد من الإخوة ضروراتهم إن استطاعوا إلى ذلك حيلة . ولهذا فإن الكثير منهم قد أصيب " بالبواسير" يعود الإخوة إلى الزنازين لأداء صلاة الفجر بدون وضوء لأنه من المتعذر أن يجدوا ماء وبهذا جازت لهم رخصة التيمم التي درجنا عليها في أكثر الصلوات.

حتي إذا انتهت صلاة الفجر بدأت تسمع الجميع يقرأون المأثورات في صوت كأزير النحل وكثيرا ما يتعرض لهم الحراس بالإيذاء ليصدوهم ويمنعوهم كما سبق أن صادروا منا المصاحف الشريفة منذ دخلنا السجن .

نشيد يا جمال يا مثال الوطنية وطوابير العذاب

وقبل شروق الشمس ينتظم هذا العدد الكبير في ساحة السجن في شكل فصائل في صفوف منظمة في وضع انتباه لا حركة ولا صوت . والزبانية يراقبون ويسارعون بالضرب والتنكيل . ولما كان الكثير من الإخوة فقدوا أحذيتهم حيث تغيرت أحجام أقدامهم بعد عمليات التعذيب الرهيبة فإنهم يقفون الساعات الطويلة على الأرض الترابية في أيام الشتاء البارد بلا حركة فيشعرون بالألم الشديد في مفاصل أرجلهم .. ولا ينقذهم من هذا البلاء إلا حين يأتي السادة الضباط العظام الساعة الثامنة صباحا ليستعرضوا طوابير المعذبين وبعد أن يسمعونا نشاز أصواتهم وتعليماتهم وإهاناتهم يفتح باب السجن الكبير وتخرج تلك المئات إلى الساحة الكبري التي يتجمع فيها الإخوان المعتقلون في سجن 3 وكذا سجن 4 حتي يربو عددنا عن ثلاثة آلاف الجميع يقفون في صمت رهيب ويقف في جانب آخر فضيلة الأستاذ المرشد وأعضاء مكتب الإرشاد تحيط بنا حراسات مدججة بالسلاح وفوق الأسطح جنود يمسكون بأسلحتهم في وضع الاستعداد .. أما السادة الضباط فإنهم يقودون المعركة في أنفة وكبرياء واستعلاء وينطلق الميكرفون بصوت أم كلثوم التي لحنت لها أغنية عقب حادث المنشية كان مطلعها ( جمال يا مثال الوطنية أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية ...) ويطلب من الإخوان أن يرددوا معها هذه الأغنية .... ويقوم الأستاذ المرشد بعمل كالمايسترو ويشير بيده للجمهور من رجال الإخوان .. ويراقب جنود فرعون الذين لا يفتحون أفواههم يرددون هذه الأغنية فيضاعفون لهم العذاب . وقد ثبت عند الإخوان أن المشير عبد الحكيم عامر كان يحضر بنفسه ومعه بعض حاشيته ليشاهدوا بشماتة هذه الصورة تشفيا في رجال الإخوان .

وبعد انتهاء الأغنية يبدأ الطابور في الجري بالخطوة السريعة على شكل دائرة يتقدمهم الأستاذ المرشد وصحبه ويستمر هذا الطابور من ساعة إلى ساعتين دون راحة أو رحمة بالمرضي والشيوخ الذين يتساقطون منهكين على أطراف الطابور . فتنهال عليهم الركلات بالأقدام حتي يقوموا ويشتركوا في الطابور ... وأسمع الأخ الملازم أول طيار الحاج محمد الشناوي وهو يقول للأخ الشاويش أحمد شعبان بسلاح المهندسين يا أخ أحمد تجلد واصبر هل نسيت إننا بايعنا على الموت في سبيل الله ؟! قال الأخ أحمد وهو غاضب نعم لقد بايعت على الموت ولكنني لم أبايع على التعذيب !!

وبعد طابور الصباح تفتح بوابة السجن ليعود الطابور لاهثا من العطش يبحث عن شربة من الماء ويجلس على أرض حوش السجن في جماعات صغيرة ويوزع عليهم طعام الغداء وغالبا ما يكون فاصوليا ناشفة مما تسبب انتفاخا في المعدة ثم يعودوا إلى زنازينهم وهم في غاية من التعب .

وبعد العصر بإشارة من حضرة الباشجاويش أمين ينزل هذا الجمع الحاشد إلى أرض السجن الكبير ويجلسون القرفصاء على شكل صفوف يفصل بين الصف الأمامي والصف الخلفي حوالي متر . وتقوم هذه الصفوف بعملية كنس ونظافة الأرض من الحصي الرفيع بواسطة أيديهم حتي يصلوا إلى بوابة السجن ثم يصدر لهم الأمر " الخلف در " ويتكرر هذا المشهد يتخلله الضرب والسب والإهانات .

وبعد ذلك تقوم جماعة منهم باستحضار قصاري البول من الزنازين ويكلفون بعملية رض الحوش بالماء حيث تملأ القصاري من حوض المياه وهي فرصة للعطاشي والمحرومين وكثيرا ما يري الإخوان أستاذهم المرشد وهو يحمل قصرية ويشار في هذا المهرجان ! وذات مرة والأستاذ يقف في الطابور قال له عسكري " أضرب رجلك في الأرض تطلع ماء " قال له الأستاذ " سأضرب رجلي في الأرض تطلع بترول "

وفي المساء يعود الإخوة إلى طابور دورة المياه ليقضوا حاجتهم وتتكرر المأساة القذرة التي تشوب الوجوه بالخجل والحياء ففي حالة قضاء الحاجة في الزنزانة فإن الأخ ينزوي في ركن من أركانها وباقي الإخوة يجلسون في ركن آخر ووجوههم إلى الحائط ثم يكون طابور التمام الذي يتم فيه مراجعة العدد القانوني للموجودين في هذا السجن . ويتم التمام بطريقة أن يجلس الأفراد على أقدامهم ثلاثة ومن خلفهم ثلاثة حتي يتم العدد 33 صفا فيكون العدد تسعة وتسعون ثم يقف فرد واحد من خلفهم فيكون العدد مائة فإذا نظرنا وكان عدد الوقفين عشرين فيكون إجمال العدد ألفين وبهذا ينتهي طابور التمام وينصرف الجميع إلى زنازينهم .. ثم ينادي أن ينزل من كل زنزانة أحدهم ومعه قروانة ليتسلم تعيين وجبة العشاء ولا يستطيع أحد الاعتراض علة نوعية أو كمية هذا التعيين الذي أحيانا لا يكفي نصف العدد .

صورة عن طابور التمام

إن الصورة التي نجلس عليها في طابور التمام صورة مقصودة بها الذلة والانكسار فإن الأخ يجلس على أطراف قدميه ثانيا ركبتيه منحني الظهر يكاد ينقلب على وجهه الذي لا يلتفت إلى أعلي يمينا أو يسارا ويداه متشابكتين حول ركبتيه هذه الصورة التي تبدو كئيبة محزنة تقرأها في مشهد في آخر سورة إبراهيم حين ينذر الله الظالمين ويرسم لنا الحالة التي يكونون عليها في قوله تعالي ( ولا تحسبن اله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه لأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء )

تفاهات صبيانية

ومن وسائل التعذيب المبتذلة حين ينتهي الأخ من وجبة التعذيب البدني ويجلس بجوار مكاتب التحقيق يطلب منه الصف ضابط أو العسكري الحارس أن يقوم بعملية حسابية فيذكر عدد الطوب الذي بني به هذا السور ولا شك أن هذه عملية مستحيلة بل إنه قد بلغ بهم حد الهزء حين يطلبون من بعض الإخوة أن يقوموا بجمع عدد ورقات النجيل المزروع على الأرض !! ومع هذا فإن هؤلاء الأغبياء كانوا يسألوا عن كيفية عمل السجاير فقال لهم أحد الإخوة إن السجاير تزرع كما يزرع الخيار . كما سألوا عن لحم علب البلوبيف فقال لهم الأخ المصنع يدخل الجاموسة أ البقرة في ماكينة تطلع علبة بلوبيف ثم يرجع العلب مرة أخري في الماكينة ترجع جاموسة !! هذه هي العقليات التي ولدت بلا عقول وتلك هي النوعيات التي تصلح لمثل مهنهم في السجن الحربي . ومن العوامل التي تساعد على جحود وحقد وقسوة الحرس من هذا النوع إلى ما يقوله لهم الضباط في محاضرات تحريض ضد الإخوان فيقولون لهم إن الإخوان يريدون أن يعيدوا الجيش الإنجليزي إلى مصر بعد أن أخرجه جمال عبد الناصر وقالوا لهم إن الإخوان يريدون أن يجعلوا الماهية الشهرية لكل عسكري 54 قرشا بدلا من 200 قرش التي قررها لكم جمال عبد الناصر قالوا لهم إن الإخوان يريدون أن يقتلوا الزعيم الخالد جمال عبد الناصر .. وهكذا مثل هذه الافتراآت الكاذبة حتي يوغروا صدورهم ويشحنوا غضبهم ويحرضوهم بالضغائن علينا فيكون تعذيبهم لنا بعداوة وحقد وكم فعل هؤلاء من جرائم وارتكبوا من مخزيات يندي لها جبين كل شهم وحر حتي أن الواحد منا كان يتابع عن بعد بأذنيه المرهفة العذاب والشر .. وكم من إخوة أصيبوا بالصمم إذ كانوا يتعمدون الضرب الشديد على الأذن بأكفهم الغليظة التي تنزل كالمطرقة .

مشاهد محزنة ومخزية

حين نشاق لنقضي حاجتنا في الدورة أو الحمام يحدث أننا لا نجد ماء للإستنجاء ويترتب على ذلك أن لإبراز يتراكم ولا يجد الماء الذي يدفعه في المجاري فيأتي الشاويش ويأمر بعض الإخوة أن ينقلوا هذا البراز بأيديهم !! ويلقونه في مكان آخر ! وكم من أخ أصابه القرف ومرض نفسي من جراء هذا الجرم وهذه النفوس التي تجردت من الإحساس والشعور .

وفي السجن توجد نوعية من الكلاب المدللة والمدربة على أنواع معينة من التعذيب أشدها الانقضاض على ( محاشم ) الإنسان بصورة مفزعة ومرعبة ولا تتركه حتي يكاد يصاب الأخ بالجنون .. وبعض الإخوة تسكن معه في الزنزانة بعض الكلاب التي تستمر معه عدة أيام فإذا جئ به بالطعام تسابقوا والتهموه. يتبرزون إلى جواره حتي تصير رائحة المكان لا تطاق ولا تحتمل ولكن أين المفر . وعلى الأخ بعد ذلك أن يقوم بنظافة الزنزانة ويحمل بزار الكلاب بكلتا يديه !! وهذا أخ معه صفيحة وكريك يتجول في حوش السجن ينظفه من مخلفات الكلاب فكان يرفع مخلفات الكلاب بواسطة الكريك ويلقيه في الصفيحة. ولكن الشاويش يأبي إلا أن يحمله بيديه ويلقيه في صفيحة الزبالة !! المهم كيف يمكن لهؤلاء الإخوة أن يطهروا أيديهم مع شح الماء وندرة الصابون . بل حدثني بربك كيف يطيب لهم طعام وشراب وقد تعمقت هذه المآسي في ضمائرهم ! كيف بالله يصح الانتماء لهذا البلد وكيف تستعذب النفوس الحياة على أرضه .. وكم جمعتنا جلسات داخل الزنازين نتدب حظ هذه الأمة التعسة .. وفي هذا الظلام من القهر والظلم تبرق في قلوبنا هواتف دعوة الإنقاذ ونقول لأنفسنا : أليست مهمتنا ورسالتنا أن ننقد أمتنا الإسلامية من هذا البلاء وتقدم لها الدواء ألسنا دعاة قد عرفنا أن الطريق طويل وشاق وأن عقباته كثيرة ومريرة وليس لها والله إلا الصبر والإنابة والاحتساب ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم )

إشراقات وأنوار

في هذا الجو المشحون بالغضب والاستفزاز فيما يحدث لنا وما نسمع من أخبار الاعتقالات المستمرة ونري ن امتهان وإذلال لآدمية البشر .. في هذا الجو تتلألأ درر من فضائل الأخلاق وتسمو نفوس إلى مراتب الأولياء . فتدق السياط المتوحشة مسامير تثبت الحب وتقوي العزائم وتربط على القلوب فتغسل دموع الحزن والألم ما علق في النفس من حظ ومطامع الأمل وتكون قطرات الدم التي تدفقت هي بعض الوفاء للدعوة وصدق الإيمان بها وأمام هذا الطغيان الذي تخلي عن الإنسانية والآدمية وانساق مع الهوي والضلال بصورة لم يعهدها الشعب المصري فليست من أخلاقه وطبيعته التي ورثها عن آبائه وأجداده الذين تعايشوا بالحب والنجدة والوحدة فيسبب هذا الطغيان كما تجاوبت عقول وصححت أفكار وتلاحمت وتآلفت أرواح فهذا أخي أكتشف الحقيقة وعرف الحق فارتقي فهمه وتفتح وعيه وهذا يعطي من ماله وذلك يقدم زاده وهذا أخي إذا شاهد السوط يهوي على جسدي أسرع يحتمله عني وهذا أخي يقف أمامي كالدرع يحميني من الطغاة وهذا يسرق رغيف الخبز يقسمه بالسوية وهذا يرق الماء في عقب الحذاء .. إنها محنة الأعداء . منحة السماء .

الأستاذ الدكتور توفيق الشاوي

كان الدكتور توفيق الشاوي الأستاذ بكلية الحقوق قد سبق اعتقاله في يناير 1954 وأفرج عنه في أحداث مارس من نفس العام وبدأ يكتب يوميات في جريدة المصري اليومية تحت عنوان ( اعرف حقوقك أيها المواطن) يبين فيها حقوق المواطن في التعامل مع مؤسسات الدولة وخاصة مع رجال الأمن وأمام النيابة العمومية وكان لهذه الإرشادات أهميتها أمام ظروف القبض والاعتقال وعقب حادث المنشية زج به في السجن كما زج بأمثاله في مثل مركزه الأدبي من محامين ومهندسين وأطباء وعلماء وكان للدكتور توفيق شقيقان اعتقلا معه .. وتضاعف وسائل التعذيب عليه انتقاما منه لما كان يكتبه في جريدة المصري وكم رأيناه يجري في الطابور رث الثياب حافي القدمين فقد صرف له حمزة البسيوني خمسون ضربة بالسياط وجبة كل يوم وشارك في هذه المحنة الأستاذ الدكتور عبد الله رشوان والكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان .

البق وحلاقة الشعر وقص الأظافر

لم تكن المحنة غيابا عن الأهل والأحباب ولا الضرب بالسياط ولكي بالكهرباء ولا الحرق بالسجاير والحرمان من قضاء الحاجة والحرمان من النوم والتقتير في الطعام والشراب والحرمان من الاستحمام لكن كانت هناك وسائل غير مدبرة فحلاقة الذقن مأساة فالموس صدئة متعثرة تترك وجه الإنسان بركا وأخاديد من الجروح وكم يقاسي الإنسان صعودا وهبوطا من الألم حين يتحرك الموس ... أما الأظافر فقد حوت من الأوساخ ما تشمئز منه النفس ولا حيلة لنا إلا أن نقضمها بأسناننا أو نقوم باستخدام الأسفلت كمبرد أما قص شعر الرأس فهي محنة أخري إذ أن ماكينة الحلاقة مصممة على أن تشد الشعر ولا تحلقه وليس من سمع كمن ذاق هذا الوبال . أما البق فهو ابتلاء شديد يتساقط علينا من السقف كالرمية يحيط بأركان الزنزانة . حين شكونا للمسئولين ان يرحمونا بالمبيدات قالوا لنا : إن إدارة السجن هي التي سخرت هذا الجيش من البق ليكون من أسلحة التعذيب وقد ابتكر الإخوان حيلة لإبادة هذه الحشرة التي عششت في ثنايا ملابسنا الداخلية بكثرة. فقدم قام الإخوان بعمل حزام من الصابون المذهون على حوائط الزنزانة على بعد حوالي متر من الأرض حتي إذا حاول البق أن يصعد إلى سقف الزنزانة فإنه يتزحلق ويتعذر عليه الصعود وفي الصباح نقوم بإعدامه بالجملة وهكذا فالحاجة تفتق الحيلة . ومن فضل الله تعالي الذي نذكره بالشكر حين نجد العصافير تدخل من شباك الزنزانة فتأكل أو تقتل هذه الحشرة التي تمتص دماءنا وتعكر علينا نومنا .

المهندس محمد سليم والمهندس مصطفي فهمي

وأما الحجرة التي نعيش فيها وقفت مجموعة قادمة من السجن الحربي بالإسكندرية وكانت هي المجموعة المسئولة عن التنظيم الخاص بالإسكندرية في مقدمتهم المهندس مصطفي فهمي المعيد بكلية الهندسة والمهندس محمد سليم بورش سلاح الصيانة وقد سبقهم الأخ الكبير الأستاذ عبد العزيز عطية عضو مكتب الإرشاد العام ومعه المهندس محمد إبراهيم القراقصي الأستاذ بكلية الهندسة وقد قام أحد الضباط وجنوده باستعمال أشد أنواع التعذيب قسوة فكانت السياط تتوجه مباشرة إلى وجوههم ولا اعتبار أن يصيبهم العمي أو الصمم فقد نزعت الرحمة من قلوبهم إن كانت لهم قلوب .

الفصل الرابع محكمة الشعب

الحكومة تشكل محكمة مخصوصة ( محكمة الشعب )

في أول نوفمبر 1954 أصدر مجلس قيادة الثورة أمرا بتشكيل محكمة مخصوصة برئاسة قائد الجناح جمال سالم نائب رئيس مجلس مجلس الوزراء وعضوية كل من القائمقام أنور السادات وزير الدولة والسكرتير العام للمؤتمر الإسلامي ومدير عام دار التحرير والبكباشي أركان حرب حسين الشافعي وهم أعضاء في مجلس قيادة الثورة .

وقد نص تأليف المحكمة على إنشاء مكتب للتحقيق والإدعاء يلحق بمقر قيادة الثورة ويلحق به نواب عسكريون أعضاء من النيابة العامة وتولي رئاسة هذا المكتب البكباشي زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة وفي عضويته كل من البكباشي محمد التابعي والبكباشي إبراهيم سامي جاد الحق وبالبكباشي سيد جاد وهم نواب أحكام والأستاذ عبد الرحمن صالح عضو النيابة وقد تولي هذا المكتب التحقيق ورفع أحكام والأستاذ عبد الرحمن صالح عضو النيابة وقد تولي هذا المكتب التحقيق ورفع الدعوي والإدعاء بالمجلس والأمر بالقبض على المتهمين وحبسهم احتياطيا وقد نص في القرار أيضا على عدم جواز المعارضة في هيئة المحكمة أ أحد أعضائها وأمر مجلس قيادة الثورة بأن يلحق بالمكتب كل من مصطفي الهلباوي رئيس نيابة أمن الدولة الذي تولي الإدعاء أمام محكمة الثورة وعلي نور الدين وكيل أول نيابة أمن الدولة وقررت المادة الثامنة أن أحكام هذه المحكمة نهائية ولا تقبل الطعن بأية طريقة من الطرق .

وفي 28 نوفمبر تألفت ثلاث دوائر فرعية لهذه المحكمة التي أطلق عليها ابتداء من 6 نوفمبر اسم " محكمة الشعب " فكانت رابع محكمة من هذا النوع تشكلها الثورة بعد المجالس العسكرية ومحكمة الغدر ومحكمة الثورة وقد تألفت الدائرة الأولي برئاسة اللواء صلاح حتاتة والثانية برئاسة القائمقام حسين محفوظ ندا والثالثة برئاسة قائد الجناح عبد الرحمن شحاتة عنان وقد عقدت جلسات هذه الدوائر الثلاث في مبني الكلية الحربية بينما عقدت جلسات محكمة الشعب الرئيسية بمبني قيادة الثورة بالجزيرة .

وقد عقدت أول جلسة لمحكمة الشعب صباح يوم الثلاثاء 9 نوفمبر 1954 أى بعد أسبوعين تماما من حادث المنشية واستمرت إلى يوم 2 ديسمبر 1954 لتستأنف المحاكم الفرعية مهمتها ابتداء من 5ديسمبر وقد حوكم أمام محكمة الشعب الرئيسية برئاسة جمال سالم كبار أعضاء الجماعة والتنظيم السري وهم : بالإضافة إلى محمود عبد اللطيفحسن إسماعيل الهضيبي المرشد العام ويوسف طلعت رئيس التنظيم السري وهندواي دوير رئيس منطقة إمبابة في التنظيم السري وإبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة ومحمد خميس حميدة نائب الرشد والشيخ محمد فرغلي عضو في مكتب الإرشاد وعبد القادر عودة وكيل الجماعة والدكتور حسين كمال الدين والدكتور كمال خليفة ومنير الدلة وصالح أبو رقيق . ومحمد حامد أبو النصر والشيخ أحمد شريت وعمر التلمساني وعبد العزيز عطية وعبد الرحمن البنا والبهي الخولي وعبد المعز عبد الستار كان الثلاثة الآخرون مفرجا عنهم.

أحكام بالجملة

وفيما عدا محاكمة محمود عبد اللطيف التي استمعت فيها المحكمة إلى كثير من الشهود من أعضاء الجهاز السري وقيادات الإخوان السياسية واستمرت بالتالي وقتا طويلا إذا استمرت إلى يوم 20 نوفمبر – فإن بقية المحاكمات لم تستغرق وقتا يذكر فلم تستغرق قضية حسن الهضيبي سوي ثلاثة أيام وانتهت في 25 نوفمبر – واستغرقت محاكمة يوسف طلعت يوما هو يوم 27 نوفمبر وفي يوم 29 نظرت قضيتنا كل من هنداوي دوير وإبراهيم الطيب وفي يوم 30 نوفمبر نظرت خمس قضايا لكل من محمد خميس حميدة ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة وحسين كمال الدين وكمال خليفة كما نظرت قضايا منير الدلة وصالح أبو رقيق ومحمد حامد أبو النصر وأحمد شريت وعمر التلمساني .. وعبد العزيز عطية في يوم واحد . وهذا كله يبين صورية المحاكمة . ومدي الضمانات التي كان يتمتع بها المتهمون لقد كانت جلسات للتشهير لا للحكم والقضاء والفصل كما يحدث في المحاكمات الحقيقية .

وكان الأمر في الدوائر الفرعية لحكمة الشعب من المهازل الكبرى نظرا للأعداد الضخمة من قضايا المتهمين التي كانت تنظرها في اليوم الواحد وعلى سبيل المثال ففي 9 ديسمبر نظرت قضايا 28 متهما وفي 11 ديسمبر نظرت 21 قضية وفي 12 ديسمبر نظرت 13 قضية وفي 13 ديسمبر نظرت 19 قضية وفي يوم 18 ديسمبر نظرت 40 قضية وفي 21 ديسمبر نظرت 48 منها وفي 28 منه نظرت 42 قضية وفي 9 فبراير أعلنت الصحف عن محاكمة 69 إرهابيا ( كما كانت تطلق على المتهمين ) أمام الدائرة الثالثة وحدها 126 متهما في مدي شهر ونصف فقط – أدين منهم مائة وسبعة وبرئ تسعة عشر وقد حكمت هذه الدوائر بأحكام كثيرة بالإعدام والمؤبد والأشغال الشاقة لمدد متفاوتة ولكن أحكام الإعدام خففت إلى المؤبد وكان من بين المحكوم عليهم بالإعدام أمام هذه الدوائر صلاح شادي والذي كان الوحيد بين المتهمين الذي حوكم في جلسة سرية ثم خفف الحكم عليه .

مطلوب القبض على هؤلاء

يعلن مكتب الإدعاء والتحقيق بمحكمة الشعب الصادر بها أمر تشكيل من مجلس قيادة الثورة بتاريخ أول نوفمبر 1954 بأنه مطلوب القبض على كل من :

1- عبد المنعم عبد الرءوف بكباشي سابق بالجيش

2- حسن محمد العشماوي المحامي

حيث أنهما متهمان في جرائم تدخل في اختصاص هذه المحكمة .وتوجه نظر المواطنين إلى المادة الثانية فقرة 3 من أمر مجلس قيادة الثورة الخاص بتشكيل محكمة الشعب والتي تنص على اختصاص المحكمة لمحاكمة كل من أخفي بنفسه أو بواسطة غيره متهما بارتكاب إحدي جرائم التي التي تختص هذه المحكمة بنظرها وكذلك كل من أعان المتهم بأى طريقة كانت على القرار – وعقوبتها الإعدام والأشغال الشاقة أو السجن .

وشاء الله تعالي أن يتمكن الأخوين الكريمين من الهرب من مصر إلى الخارج .. وأصدرا قبل وفاتهما كتابين سجل كل منهما قصة جهاده في سبيل الله وكفاحه ضد الطغاة .

اللجوء إلى السودان

في 10 نوفمبر 1954 لجأ الإخوان المهندس مصطفى جبر . والأستاذ جمال عامر إلى الشعب السوداني هربا من باستيل جمال عبد الناصر - وقد استقبلتهما لحكومة السودانية – ومنحتهما حق اللجوء السياسي – واحتفل بهما الإخوان بشعور الإخوة الإسلامية واستمر هناك عدة سنوات .

رسالة من السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب الجلالة الفخامة الملوك والرؤساء العرب نحمد إليكم الله الذي لا إله غيره ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

وبعد – فإنكم وقد اجتمعتم اليوم تتبادلون النصيحة والرأي وتتلمسون أنجح الطرق للخروج بالأمة مما ألأم بها من نكسات وهز كيانها من مصائب . فإنكم دون شك مصغون السمع لكل صوت يرتفع إليكم بالحق من شعوبكم مستمعون إلى كل رأي ياـي إلى مؤتمركم هذا بالخير من قلب رعاياكم الذين ولاكم الله أمرهم وجعلكم مسئولين عنهم ..

أصحاب الجلالة والفخامة

لقد قضي الله أن تكون مصر كنانة الله في أرضه ومركز الثقل بين حملة رسالته , وإنا لنعلم ما تكنونه لمصر في قلوبكم من حب وما تبذلونه في سبيل خيرها من جهد بل إنا لنعلم أنكم لم تجتمعوا اليوم إلا لتقيلوا عثارها وتصلحوا ما فسد من أمرها وأمر أشقائها ولذلك وجهنا إليكم هذه الكلمة أداء لحقكم من النصح وأعذارا إلى الله تعالي وإلى الناس .

أصحاب الجلالة والفخامة

إننا شديدو القناعة بأن خير ما توجهونه من نصح للمسئولين اليوم في مصر إنما هو أن يغمدوا سيوفهم التي ظلت طوال خمسة عشر عاما مسلطة على رقاب " الإخوان المسلمين " وأن يجنبوا أسر هؤلاء الإخوان وأطفالهم عواقب نقمتهم ونكبات غضبهم ويكفوا أذاهم وملاحقتهم لكل يد تمتد لهم أو قلب يرق لحالهم ..

إننا نخاطب أعلي مستوي من المسئوليات في العالم العربي .. ومن ثم فإن لا نجد حاجة لأن نفيض في وصف الأهوال التي لاقاها " الإخوان المسلمين" وعائلاتهم في مصر ولا يزالون. إذ أنكم تعلمون كل ذلك كأدق ما يكون العلم وأوسع ما تكون التفاصيل .

لقد عطلت جميع القوانين وتنوسيت كل الشرائع في مصر وتجوهلت أبسط حقوق الإنسان كل ذلك لتنفيذ السلطات الحاكمة في مصر خطط الإبادة ضد الإخوان المسلمين ولتمارس ضدهم أشد أنواع التعذيب وحشية وهمجية حتي أصبح شعار معتقلاتهم وسجونهم لهذه الصفوة من أبناء مصر ( أقتل وادفن )

كذلك لاحقت السلطات عائلات الإخوان ونسائهم وأطفالهم وأقاربهم وحتي معارفهم وأصدقائهم بالفصل والتشريد وعاقبت بالسجن كل من يمد لهم يدا بمساعدة أو يحاول أن يخفف عنهم غائلة الجوع أو الرد أو الفاقة .

ومن الحق أن نقول أن الشيوعيين وكل أصحاب المذاهب الهدامة في مصر والقتلة والسفاحين واللصوص يلقون وعائلاتهم من المعاملة القانونية مالا يحلم بمثله أخ مسلم أو عائلة مسلمة .

إن هذه الجرائم التي تلطخ جبين العرب والمسلمين ومسئولية تاريخهم أن لا يشارك في وزرها كل من يستطيع أن يفعل شيئا ومن العبث أن نناقش دعاوي الحاكمين في مصر ضد الإخوان المسلمين وقد أقاموا من أنفسهم خصما وحكما في آن ومن إضاعة الوقت أن نحاول تفنيد التهم التي وجوها للإخوان والحاكمات الهزلية التي لفقوها . لأنكم أصحاب الجلالة والفخامة تعرفون كل ذلك حق المعرفة .

إن النصيحة الخالصة التي يجب أن توجه أحكام مصر اليوم هي الكف عن اقتراف هذه الجرائم والإفراج عن المعتقلين والمسجونين وصيانة حقوق هؤلاء المواطنين طبقا للقوانين المصرية التي أصدر رئيس الجمهورية إرادة خاصة بتعطليها غليله من الإخوان وطبعا لحقوق الإنسان .

فإن لم يكن ذلك ممكنا فلا اقل أن يكف الطغاة عن اضطهاد النساء والأطفال والمستضعفين بالإفراج عن عائلهم وأن يسمحوا على الأقل بوصول المساعدات إلى هذه العوائل من الداخل والخارج إليهم إذا أصروا على حرمانهم من حقوقهم ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الإخوان المسلمين

القبض على الأستاذ سيد قطب والأستاذ عبد العزيز عطية عضو مكتب الإرشاد

في 18 نوفمبر 1954 تم القبض على الأستاذ سيد قطب رئيس تحرير مجلة الإخوان المسلمين أثناء محاكمة الأستاذ المرشد العام ولقد كان الأستاذ سيد أثناء محاكمته صلبا وفيا لدعوته جريئا للغاية لم تأخذه في الحق لومة لائم .. فقد قال أمام المحكمة " إنني نصحت الأستاذ المرشد أننا جماعة الإخوان يجب أن نقضي على حركة الجيش قبل أن تقضي علينا " قال ذلك في وجه رئيس محكمة الشعب جمال سالم وقد تم في نفس اليوم القبض على الأستاذ الكبير عبد العزيز عطية عضو مكتب الإرشاد وكذلك كان موقفه أمام المحكمة قويا كما كان في فترة سجن ليمان طرة وسجن الواحات كأعظم ما يكون صاحب العقيدة وقد توفاه اله بعد الإفراج عنه صحيا عام 1976 ودفن بمدافن سيدس بشر بالإسكندرية . وكان رحمه الله مدرسا للإمام حسن البنا حين كانا طالبا بمدرسة المعلمين بمدينة دمنهور .

لقطات وواقف في محاكمة الأستاذ المرشد العام

قال الأستاذ حسن الهضيبي في أول لقاء أمام محكمة الشعب " إنني لا أخاف الموت وإنه لشرف كبير أن أنال الشهادة في سبيل الله إن كنت أهلا لها " وحين دخل الأستاذ قاعة المحكمة – كان رئيس المحكمة عنده فكرة عن التعذيب الذي وقع عليه . فقال جمال سالم للأستاذ – أنت تعبان من الوقوف – قال فضيلة المرشد – أيوه – قال مال سالم هات كرسي من فضلك ..( أحضر أحد الجنود كرسي )

الأستاذ المرشد : لا معلهشي.

الرئيس : أتفضل أستريح

الأستاذ المرشد : لا

الرئيس : أتفضل أستريح على الكرسي

الأستاذ المرشد : لا

الرئيس : تأخذ راحة إلى أن تستريح – توقف الجلسة ربع ساعة ثم أعيدت الجلسة .

وجلس الأستاذ المرشد على الكرسي أثناء الاستراحة ولما دخلت هيئة المحكمة وقف

الرئيس الأستاذ أظن أنت استريحت دلوقت شوية مش بطالة .

الأستاذ المرشد : لكن الواحد يحل عليه التعب لما يستريح.. ( وكانت هذه الإجابة فيها إشارة صريحة إلى التعذيب الذي وقع عليه الأستاذ المرشد )..

وفي مجال المناقشة – سأل رئيس المحكمة سؤالا – فرد الأستاذ على السؤال – بكلمة ما أعرفش

وفي مجال المناقشة – سأل رئيس المحكمة سؤالا – فرد الأستاذ على السؤال – بكلمة ما أعرفش

فقال رئيس المحكمة : أنا عايز تقول كلام محدد – أيوه ولا لأ.

فقال الأستاذ المرشد : اقدر أقول أيوه وأقدر أقول لا.

وسئل الأستاذ المرشد : عن ما يسمي جريمة محمود عبد اللطيف

فقال : أنه إذا أثبت أن المتهم كان أداة فاقد الإرادة فإنه لا يؤخذ على جريمته ويعاقب الذي حرضه !!"

سئل الأستاذ المرشد : هل تؤثر مصلحة الجماعة على الوطن وعلى الإسلام أم ماذا أهم في الترتيب ؟

قال : أولا الإسلام والوطن يدخل في الإسلام .

سئل الأستاذ المرشد : إذا كنت ككثير النسيان كما تذكر ذلك مثيرا فكيف اختارك الإخوان مرشدا لهم ؟

قال : إنني في عام 1951 كنت مريضا وأصبت بشلل وأنا في محكمة النقض والإخوان ألحوا عليّ في قبول منصب المرشد .

سئل الأستاذ المرشد : ما المقصود من كملة الجماعة ؟

قال : جماعة الإخوان .

سئل : وهل جماعة الإخوان جزء من هذا الوطن ؟

قال : أمال غيه .

سئل : لماذا يخصصوا بوصف خاص ؟

قال  : لأن لهم مبدأ خاص .

سئل : هل مبدأ الإخوان يختلف عن مبدأ المسلمين ؟

قال : لا بس لهم رسالة تفهيم المسلمين ؟

سئل : هل هذا وقف على الإخوان ؟

قال : لا – الباب مفتوح .

الدفاع : هل من ضمن وسائل الفهم الضغط؟

قال : لم نقل هذا .

قلت في التحقيق أن النظام لازم يكون له سلاح .

قال : البلد مليانة سلاح واللي عايز يتعلم يحمل سلاح وإن ضبط ينال جزاءه .

المدعي : وكيف تبيح هذا ؟

قال : ثلاثة إخوان مرة ضبطوا والجيش أقر أنهم يتدربون للمصلحة العامة وتركهم ووجود النظام بعد الثورة لأنه يوجد في البلد إنجليز – وكما قلت للدفاع عن الوطن الإسلامي .

سئل : عن سبب اختفائه في الإسكندرية؟

قال : لقد سافرت إلى الإسكندرية لسببين أولا عندما عدت من البلاد العربية والشرقية وأنا كنت رحت علشان قيل أن الإخوان عاوزين يتفقوا مع الحكومة وإن أنا اللي واقف عقبة في سبيل الاتفاق فسافرت وقعدت شهرين ونصف وعدت فوجدت الحالة متوترة أكثر وقيل لى أن الحكومة عايزة تغتالني .

المدعي : من قال لك هذا ؟

قال : يمكن عبد القادر عودة يمكن خميس .

سئل : هل اسم الشخص الذي يذكر هذا الأمر لا يعلق بذهنك مدي فأنا إكمالا لخطتي أني أبعد عنهم اعتزلت

المدعي : وهل هذا يدعو غلى الاختفاء

قال : مش اختفاء – أنا عايز حد يزورني ... والحادثة كان ممكن تدبر وأنا قاعد في المركز العام لو سمح ضميري بهذا ..

كان المحامي الذي تطوع للدفاع عن الأستاذ المرشد العام هو الأستاذ سامي مازن – وكان المحامي الذي انتدبته المحكمة للدفاع عن الأخ محمود عبد اللطيف هو الأستاذ حمادة الناحل – الذي طلب من المحكمة أن تسمح له بمناقشة الأستاذ المرشد.. وكانت مناقشته للأستاذ فيها كثير من التحدي والتعدي بل تجاوزت ذلك إلى عدم احترام الزمالة والمهنة . ويمكن الرجوع إلى هذه المناقشة المثيرة في جريدة الأخبار عدد 750 السنة الثالثة في 23 ربيع الأول 1374 الموافق 19 نوفمبر 1954 .

تعليق

ذكرت لهم كيف أن الدكتور عبد الحليم محمود لما عاد من بعثته في باريس مرتديا الملابس الإفرنجية فوجئ يوما بالرئيس جمال عبد الناصر يشن في مؤتمر سياسي مشهور حملته الضارية ضد الأزهر ورجال الدين وفيها قال : إن أى إنسان يستطيع أن يشتري فتوي من أى أزهري بإعطائه أوزة ( قالها بالعامية : وزة )!

وطيرت وكالات الأنباء ونقلت الإذاعات ونشرت الصحف في العالم أجمع عنه ما جاء في حملته .. وذهل العالم الإسلامي لأن رئيس [[الأزهر الشريف]] يحاول تدمير أمضي أسلحة الإسلام مصر على الأثير أمام العدو والصديق .. بلا جريمة ارتكبها هؤلاء العلماء أو هذا الصرح الإسلامي الكبير !

وبدأ من " دينهم على حرف " يخلعون في الأيام التالية زي الأزهر اتقاء لمكائد كتاب التقارير أو تفاديا لسخرية العوام حتي أن أحد المنحلين كان كلما رأي أزهريا قال له يا أبو " وزة " .

وبدأت أجهزة الفن والتسلية والإضحاك تواكب حملة الجمهورية على الأزهر بمضاعفة شحنات السخرية من رجاله والتي كانت قد بدأت منذ سيطر اليهود والمتآمرون على السينما والمسرح المصري لإضحاك المتفرجين علي كل من يرتدي الزي الأزهري أو يتكلم بالعربية الفصحي !

وقرر الدكتور عبد الحليم محمود أن يتصدي لعبد الناصر ومناصريه !..ورآه الأزهريون – ومن هم في ذهول من هذه الحملة ومن هم على حرف – وقد خلع زيه الإفرنجي بعد الخطاب مباشرة وذهب إلى الأزهر مرتديا الزي الأزهري وفي عينيه الصامتتين بريق العزة بإلهه وفهمت أجهزة الرقابة والإذلال والإشارة !.

من عناوين الصحف

جاء في جريدة الأهرام في 4 ديسمبر 1954 العدد 24846 ما يلي :

- دور العسكريين في مؤامرة الإخوان الكبرى – البكباشي أبو المكارم كان معتزما نسف طائرة نقل الرئيس عبد الناصر – خطة لتدمير الطائرات الحربية النفاثة حتي لا تقاوم انقلاب الإخوان ..

- سرقة ملابس من مخازن الجيش للتنكر في زي البوليس الحربي .

- ضبط كميات من أسلحة الإخوان في مقبرة بالإمام الشافعي والإسماعيلية . العثور علي نوع جديد من البنادق يسميه الإخوان ( عصابة الهضيبي ).

- مكافأة (500) جنيه للإرشاد عن عبد المنعم عبد الرءوف في إعلان عن وزارة الداخلية .

- 3 محامين يرفضون الدفاع عن محمود عبد اللطيفمحمود عبد اللطيف يقول لمحكمة الشعب ( أنا مذنب ) .

- مكرم عبيد باشا يقول أنا لا أدافع عمن يعتدي على جمال عبد الناصر .

- العثور على محطة لا سلكية وقنابل وذخائر عند إخواني في بور سعيد .

- يوسف طلعت يدافع عن نفسه ويقول أنا الوحيد الذي يعلم سر حزام الديناميت.


الإخوان المسلمين في الجيش

وفي مساء يوم الجمعة 3 ديسمبر أخرجوا من الزنازين جميع الإخوان العسكريين من صولات وصف ضباط وجنود متطوعون وكان العدد فوق الخمسين وذهبوا بنا إلى مكاتب التحقيق وهناك وجدنا رجال الصحافة ومصوري الصحف والمجلات ونظمونا في جماعات ثم التقطوا لنا مجموعة من الصور وفي اليوم التالي صدرت الصحف .

تتصدرها هذه الصور مع نشره عن اتهامات لم تخطر لنا على بال ولم يسبق لنا فيها أى تفكير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

ونشرت جريدة أخبار اليوم 4 ديسمبر 1954 بالعدد 526 ما يلي :

- سر المؤامرة الكبرى – القبض على جنود وضباط وصولات من الإخوان .

- البوليس الحربي يضع يده على الإخوان في القوات المسلحة .

- الإخوان يشيعون أن قادة الثورة أعضاء في الجماعة ويحرضون العساكر على سرقة الأسلحة من الجيش .

- الإدعاء يطلب إعدام تسعة من قيادات الإخوان .

- الإخوان يستأجرون مئات الشقق للاستيلاء على القاهرة .

- عبد الرحمن البنا والبهي الخولي وعبد المعز عبد الستار تقديمهم لمحكمة الشعب غدا الخميس .

- تقديم نائب رئيس الجهاز السري للمحاكمة أمام محكمة الشعب بتهمة التستر على أخيه .

محاكمات العسكريين

رغم أن الصولات الأربعة محمد الجبالي محمد عيسي عباس السيسي محمد صلاح الدين الذين سبق اعتقالهم في يناير 1954 واستمر اعتقالهم بالسجن الحربي بعد الإفراج عن جموع الإخوان في شهر مارس رغم عدم اشتراكهم في أى نشاط فإن الحكومة قد انتهزت حادث المنشية فزجت بهم في الأحداث الأخيرة وتصدرت صورهم الفوتوغرافية الصفحات في الجرائد المصرية .

وهال أهلنا الاتهامات الباطلة الموجهة إلينا ولا سبيل للاتصال بنا للإطمنئان على ظروفنا وفي هذا الجو المشحون بالخوف والرعب – كان احد الحراس قد عرف أنني من أهالي مدينة رشيد . فقال لى أنه يتمني أن يأكل ( فسيخ) من رشيد – وكتبت لأهلي رسالة أطلب منهم إرسال كمية من الفسيخ على عنوان الحارس وكانت رتبته شاويش وسرعان ما جاء شقيقي إلى القاهرة معه " والفسيخ" وبعض الملابس وتقابل مع الشاويش الذي حمل إليّ رسالة مكتوبة من شقيقي فقمت بتحرير رسالة ردا على رسالته أطمئنه فيها على أن الموضوع لا يدعو إلى القلق والانزعاج ويمكن أن يعود إلى رشيد وإذا لزم أي شئ فسوف أتصل عن طريق هذا الشويش وفعلا حين تحدد موعد محاكمتنا أمام مجلس عسكري مركزي أخطرتهم وحضر بعض أفراد الأسرة ومنهم ابنتي التي رايتها لأول مرة .

محاكمة الأستاذ عبد القادر عودة

قال الأستاذ عبد القادر عودة أمام المحكمة: أنا متهم لو صحت لكنت أنا الجاني وأنتم المجني عليكم - ولم أعرف حقا للمجني عليه في محاكمة الذي جني عليه

الرئيس : ليس لك الحق في هذا الاعتراض .

المتهم : لا ...لا..

الرئيس : غير مسموح لك بأي اعتراض على تكوين المحكمة .

أرجوكم بس اسمعوا الجملة الثانية ولكني أشعر...

الرئيس : كلام الخبث دا مش عايزينه طريقة تفسير القرآن بتاعتكم مش عايزينها تعرف تتكلم مضبوط وألا نجيب لك محامي . بلاش تضليل عايز تتكلم للصبح ولكن تضليل لا.

المتهم : مفيش تضليل يافندم .

الرئيس : اتكلم

المتهم : بلاش الحتة دي خالص . أنا لاحظت إن من ضمن أدلة الإدعاء أن هنداوي والطيب يعملان في مكتبي أنا أقول بأنه لم يعمل مطلقا في مكتبي – وإذا وجد في مكتبي مذكرة واحدة لهنداوي دوير أو أدعي هنداوي نه تمرن عندي ساعة واحدة فإني لن أدفاع عن نفسي .

الرئيس : اتمرن أم لا افرض إن الكلام دا محصلش

المتهم : أنا لا أريد أن أقول أن الواقعة لم تحصل .

الرئيس : يا سيدي أنت ضدك إدعاء والإدعاء يطالب بعنقك – تقوم تمسك لى في حتة هنداوي لم يعمل في مكتبك – أصل أنا ما باحبش المتهمين المحامين – نجيب لك محام أحسن .... ( باقي التحقيق استغرق حوالي أربع ساعات )

لم تترك المحكمة للأستاذ عبد القادر عودة فرصة ينطلق منها في دحض اتهاماتهم وكشف مؤامرة حادث المنشية – وكان أول كلماته قوة حين قال أنني لا أجد في الدنيا قانونا يبيح مثل هذه المحاكمة ... فكيف يعقل أن يكون القاضي هو الخصم وهو الحكم .

وجدير بالذكر أن السبب الحقيقي في محاكمة الأستاذ عبد القادر هو انتقام والخلاص منه بسبب الموقف الرهيب الذي وقفه إلى جوار الرئيس محمد نجيب في شرفة قصر عابدين في حوادث مارس الشهيرة 1954 حين طلب منه الرئيس محمد نجيب الصعود ليطلب من الجماهير الغفيرة المحتشدة في الميدان الفسيح الانصراف .. فلما دعاهم عبد القادر عودة للانصراف – انصرفوا في الحال .. فأسرها جمال عبد الناصر في نفسه وهو يري هذه الجموع الهائلة تسمع وتطيع – وأدرك خطورة عبد القادر على مستقبل الثورة

نشرت الصحف – خطابا بخط الأستاذ عبد القادر عودة موجها إلى جمال عبد الناصر يعده بتسليم الأسلحة والذخائر الموجودة طرف الإخوان في ظرف أسبوعين ووقف حملات الإخوان في الخارج فورا .. حل تشكيلات الإخوان في الجيش والبوليس .

محكمة يوسف طلعت

كان أبرز ا حدث في محاكمة يوسف طلعت أمام محكمة الشعب هو صورة المواجهة بينهم وبين جمال سالم رئيس المحكمة .

سأل جمال سالم يوسف طلعت : تعرف تقرأ سورة الفاتحة بالقلبة ( مقلوبة ) !!

قال يوسف طلعت وهو يشير بيده إلى جمال سالم – أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ثم بدأ تلاوة سورة الفاتحة على نهجها الصحيح كما أنزلها الله في كتابه العزيز .. وكان رد يوسف طلعت ذروة الثبات والشجاعة .

الرئيس : أنت بتشتغل إيه ؟

المتهم : بأشتغل نجار .

الرئيس : وكيف يكون رئيس الجهاز السري نجارا وتحت قيادته أساتذة في الجامعة.

المتهم : إن سيدنا نوح وهو نبي كان نجارا .

وقال يوسف طلعت طبعا إنتم بتكبروني بالألقاب ( رئيس الجهاز السري ) علشان لما تقطعوا رقبتي تبقوا أخذتم رأس كبيرة .

ولقد رأيت يوسف طلعت قبل أن يخرج إلى جلسة المحكمة – كيف كانوا يحاولون أن يلبسوه جاكت بصعوبة لكثرة الإصابات في جسمه . لهذا فقد استعاروا أكبر مقاس لجاكت أحد الإخوة المعتقلين ليسهل عليه ارتداؤها .

محاكمة الأستاذ إبراهيم الطيب

في ديسمبر وقف إبراهيم الطيب أمام محكمة جمال سالم يدلي بشهادته :

جمال سالم : ما الغرض من النظام السري ؟

قال : حماية الدعوة في الداخل والخارج ... في الداخل لأن التدريب فرض على كل مسلم . وفي الخارج لأن المسلمين منكوبين ودا علشان الإخوان يمكنهم تقديم رجال فى مصر أو مراكش إذا دعت الحال .

جمال سالم : كيف كان التنظيم يقوم بمهمته في مصر ؟

قال : قبل الاتفاقية ( معاهدة بين مصر وانجلترا) كان فيه جنود احتلال في مصر .

جمال سالم : أذكر غرضه .

قال : مقاومة الاحتلال

جمال سالم : كيف تسمح وأنت محام تزاول المهنة المساهمة في هذا التنظيم؟

قال : أنا فهمت أن البلد والعرب في حاجة إلى هذا التنظيم .

جمال سالم : أنت في هذا التنظيم فاعل إذ قمت بعمل تنظيمي مرتبط بعمل مسلح وهذا غير موافق لقوانين الدولة.

وأنت محام وموافق عليه فما الغرض ؟

قال : ليس له غرض غير شرعي .

جمال سالم : ما هو أساس الاتصال بين الإخوان ومحمد نجيب ؟

قال : أساسه العودة بالبلاد إلى الحياة الطبيعية وإيجاد برلمان منتخب بعيدا عن الحياة البرلمانية السابقة وإطلاق الحريات خاصة حرية الصحافة وحرية الرأي ومن ناحية أخري الإفراج عن المعتقلين .

جمال سالم : وماذا تعرفه عن سياسة الإخوان بالنسبة للحكومة ؟

قال : ضرورة التعاون والتآزر مع الثورة .

جمال سالم : في أى اتجاه .

قال : في كل اتجاه .

جمال سالم : بدون طلبات ؟

قال : كل الطلبات هي أن ينحو مجلس الثورة المنحي الإسلامي .

جمال سالم هو الجهاز السري له صفة علنية ؟

قال : أقرر أنه لا علاقة له بالسرية وهو موجود في كل المناطق.. ويسأل المحامي حماده الناحل : ده كان دفاع عن مصر ؟

قال : وكمان عن الجزائر .

جمال سالم : والنبي أسكت

قال : أنا مستعد أسكت.

جمال سالم : أنت بتتجبه علي ّ؟

قال : لا يا فندم .

ويرد جمال سالم في محكمة جمال عبد الناصر :

دي محكمة الشعب وثبت إنها شعبية ... وكلنا متربيين في الحسينية وباب الشعرية ودرب الحجر مش في القصور .. وفاهمين الحركات . جاوب على قد السؤال وأنا بأقولك نظام إبراهيم الطيب : حاضر .

إصدار أحكام الإعدام

حين أصدرت محكمة الشعب يوم 7 ديسمبر 1954 أحكامها بالإعدام على سبعة من قيادات الإخوان على رأسهم فضيلة الأستاذ المرشد العام. أذاعتها وكالات الأنباء العالمية في الحال فاندلعت مظاهرات الاحتجاج الصاخبة حول السفارات والقنصليات المصرية في السودان وسوريا والأردن ولبنان وباكستان .. كما قامت مسيرات للجماعات الإسلامية في كثر من البلاد تندد بأحكام الإعدام وتهتف ضد الطاغية جمال عبد الناصر وأبق زعماء العالم الإسلامي باحتجاجهم وطلب تخفيف الأحكام . وأمام هذه الموجة المندلعة بالغضب والاحتجاج – أسرع جمال عبد الناصر بتخفيف الحكم عن الأستاذ المرشد إلى الأشغال الشاقة وفي صباح يوم الثلاثاء 11 من ربيع الثاني 1374 الموافق 27 ديسمبر 1954 تم تنفيذ حكم الإعدام ( الشهادة) في ستة من الإخوان .

تنفيذ حكم الإعدام

وكما جاء في جريدة الجمهورية العدد 362 يوم الأربعاء 12 ربيع الثاني الموافق 28 ديسمبر 1954 بدأ منذ الساعة الثامنة صباح أمس تنفيذ حكم الإعدام شنقا في كل من - محمود عبد اللطيفويوسف طلعتوهنداوي دويروإبراهيم الطيبومحمد محمد فرغليوعبد القادر عودة – وهم الإخوان الستة الذين حكمت عليهم محكمة الشعب بالإعدام . وقد اقتيد محمود عبد اللطيف الساعة 7,55 إلى ساحة التنفيذ وتلي عليه الإدعاء والحكم وتقدم منه واعظ السجن ولقنه الشهادتين ونفذ عليه الحكم وفي الساعة الثامنة والنصف جئ بيوسف طلعت وتلي عليه الحكم والإدعاء ولقنه الواعظ الشهادتين ثم نفذ عليه الحكم .

وفي الساعة التاسعة – نفذ بنفس الإجراءات على إبراهيم الطيب ؟

وفي الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والثلاثين اقتيد هنداوي دوير إلى قاعة التنفيذ حيث نفذ الحكم.

وفي الساعة العاشرة نفذ الحكم في محمد محمد فرغلي .

وفي الساعة العاشرة والنصف نفذ الحكم في عبد القادر عودة.

وقد أشرف على تنفيذ الأحكام هيئة مكونة من السادة الأميرالاي حسن سيد مساعد المدير العام لشئون النزلاء بمصلحة السجون والأميرالاي محمد الميزي وكيل الحكمدار بصفته مندوبا عن محافظة القاهرة والصاغ فؤاد سعيد مأمور سجن الاستئناف ووكيل أول نيابة جنوب القاهرة . والدكتور منير رياض طبيب السجن والدكتور سعيد محمد المنباوي الطبيب الشرعي والقائمقام صدقي فريد مأمور الضبط بالمحافظة وكان اللواء محرم عثمان مدير عام مصلحة السجون قد تلقي في الساعة الرابعة من مساء أول أمس أوراق التنفيذ من الأستاذ حافظ سابق النائب العام فحد على الفور موعد التنفيذ .

وقد نقل الستة من السجن الحربي إلا سجن الاستئناف في تمام الساعة العاشرة والثلث من مساء الاثنين وعلى أثر نقلهم وأودعوا بغرف مستقلة بسجن الاستئناف رقم 28, 29, 30, 31, 32,33 – حسب ترتيبهم ثم ألبسوا الملابس الحمراء .

وقد سمح لعشرين مندوبا من مندوبي الصحف ووكالات الأنباء بحضور عملية التنفيذ وعند تنفيذ أحكام الإعدام رفع العلم الأسود على سارية سجن الاستئناف .

وبعد أن قام الواعظ بالصلاة على الجثث سلمت جثة محمود عبد اللطيف إلى والده عبد اللطيف محمد إبراهيم حيث دفنت بالإمام . كما سلمت جثة يوسف طلعت إلى والده لدفنها بالإسماعيلية – وجثة عبد القادر عودة إلى شقيقه لدفنها بمدافن باب الوزير – أما جثث الباقين فلم يتقدم أحد من ذويهم لاستلامها فدفنت على نفقة الحكومة بمدافن سيدس جلال بالسيدة عائشة.

أما نحن الإخوان داخل السجون والمعتقلات فقد فوجئنا بخبر تنفيذ الأحكام فأصابنا الذهول والصمت والبكاء فلم نكن نتصور أن يبلغ الأمر بالحكومة هذا الحد من الخصومة والحقد وانتشرت الإشاعات وسط الناس تقول أن جمال عبد الناصر كان يريد تخفيف الحكم ولكن جمال سالم هو الذي تحدي عبد الناصر وأصر على التنفيذ.

ماذا قال الشهداء عند التنفيذ – تحت حبال المشنقة كانوا يتلون القرآن

تحت هذا العنوان قالت مجلة باري ماتش الفرنسية : حتي اللحظة الأخيرة للإخوان المسلمين الستة كان هناك أمل في العفو ولكن صباح 7 من ديسمبر رفع العلم الأسود على سجن القاهرة ليعرف وليعلن للعائلات والأعضاء في الجماعة أن عبد الناصر لم يبادر بالعفو المتوقع وفي الساعة السادسة سيق المحكوم عليهم بأقدار عارية وملابس الإعدام الحمراء وبدأ تنفيذ الأحكام وفي الساعة التاسعة صباحا فتحت ( الطبلية ) تحت أقدام عبد القادر عودة سادس شخص مسجل في الستة المحكوم عليهم بالإعدام .

ثم وصفت باري ماتش تنفيذ الأحكام , اللحظة الأخيرة للإخوان المسلمين الستة المحكوم عليهم بالإعدام لحظة الموت .. لقد وضعوا على وجوههم الطاقية في حجرة الإعدام في سجن القاهرة . محمود عبد اللطيف أول من تقدم للمشنقة بشجاعة منقطعة النظير وهم يصلون لله ويشكرونه على حصولهم علي شرف الاستشهاد .

إن حركات عديدة من الاعتراض شملت العالم العربي وحكومات سوريا والعراق وباكستان بذلت محاولات عند عبد الناصر في محاولة لإنقاذ الإخوان المسلمين الستة ولكن بدون جدوي .

قال عبد الناصر عودة آخر من نفذ فيهم الحكم :" إن دمي " سيكون لعنة على رجال الثورة ".

قال إبراهيم الطيب لحظة تنفيذ لحكم " خصومنا كانوا قضاتنا"

كان محمود عبد اللطيف – في آخر لحظة يتلو القرآن .

قال محمد محمد فرغلي :" أنا على استعداد للموت مرحبا بلقاء الله ".

قال يوسف طلعت : فليسامحني الله وليسامح هؤلاء الذين عذبوني وأساءوا إليّ".

من لوائح السجون – أن إدارة السجن تسمح لأهل المسجون المحكوم عليه بالإعدام أن يزورونه زيارة أخيرة قبل يوم التنفيذ... وجاء أهل الشهيد إبراهيم الطيب لزيارته وكان يومئذ صائما فاعتذر عن المقابلة وقال " لقد اعتزمت لقاء ربي فلا أشرك بلقاء ربي أحد "

من عناوين الصحف

- قصة الجهاز السري في البحيرة – أربعة ضباط يحاكمون أمام محكمة الشعب وثمانية أما المحاكم العسكرية .

- القبض على الضابط سعيد بلبع رئيس الجهاز السري في البحرية المصرية – العثور على وثيقة خطيرة .

- مخابرات الجهاز السري كانت متغلغلة في دواوين الحكومة الخلايا الشيوعية .

- أسرار التنظيم السري للإخوان بالإسكندرية – تقسيم الإسكندرية إلى 3 مناطق لكل منطقة 12 إرهابيا .

- مطلوب القبض على 133 من الإخوان الإرهابيين.

- ضبط أكبر مخبأ في الإسماعيلية – قنبلة تنفجر بمكتب المباحث العامة .

- ضبط أجهزة المقر الرئيسي للجنة الدعاية للإخوان ومطبعة سرية وأوراق ومنشورات ومفرقعات .

- جمال سالم سأل الحاضرين بالجلسة كمحلفين ويقول هذه محكمة الشعب و وليست محكمتنا .

- صغر السن والتدريب على القتال شروط الصلاحية للجهاز السري .

- اعترافات الضابط الطيار الملازم أول محمد علي الشناوي المتهم في مؤامرة نسف جمال عبد الناصر في الطائرة .

- صلاح شادي يحاكم في جلسة سرية يحضرها محاميه .

الفصل السادس: الشهــــــداء

الشهيد محمد فرغلي

كان الشيخ فرغلي داعية إلى الإسلام بمفهوم الإسلام . عمل مع الإمام البنا منذ أن بدأ دعوته في مدينة الإسماعيلية واختاره الإمام الشهيد فكان عند حسن الظن به . شمر عن ساعد الجد وسط مدينة كانت ترابط حولها من كل جانب قوات الاحتلال تظن أن النيام سيظلون في رقاد وأن الغافلين سيظلون في سبات وما دري الانجليز أن الأرض بدأت تميد تحت أقدامهم .

نزل الأستاذ حسن البنا بليل إلى الإسماعيلية أيام حرب فلسطين سنة 1948 وقضي مع الشيخ فرغلي جزءا من الليل . وكان الشهيد على وشك السفر إلى ميدان القتال . قال له الإمام البنا ربما أمكنك الصفر مع الفجر وتقضي ليلط معا.. وفي صلاة الفجر قالوا له لقد سافر الشيخ مبكرا , فقال الشيخ البنا هكذا يكون الرجال المسلمون في وضع المسئولية .

وأعلن الأستاذ البنا أن تحرير فلسطين عن طريق المجاهدين المؤمنين أقرب منه عن طريق الجيوش النظامية تحركها حكومات هزيلة يحكم الاستعمار قبضته حول أعناقها وطالب الإخوان يؤمئذ حكومة محمود النقراشي بفتح الطريق أمامهم إلى فلسطين وإفساح المجال لهم في الداخل للتدريب والتسليح فرفضت ورأي الإخوان أن يتسللوا في خفاء إلى فلسطين – فأحكمت الحكومة قبضتها على الحدود وعند القنطرة شرق لمنعهم وأحكم الإنجليز إغلاق حدود فلسطين ليمنعوهم من دخولها ومع ذلك تسلل الإخوان ملبين نداء ربهم مستخفين بكل العوائق والعقبات .

وكان الشيخ الشهيد في موضع القيادة والمسئولية وسط كل هذه الظروف . وقام الإخوان بتدريب الفلسطينيين ولم شمل المتفرقين وخوض المعارك ضد المعتدين – واستطاع الشيخ الشهيد والمجاهدون معه أن يقضوا مضاجع اليهود فهاجموا مستعمراتهم وطردوهم من معاقلهم وادخلوا الفزع في قلوبهم واستطاع الشيخ محمد فرغلي أن يسطر بحروف من نور لا تمحي ولا تبلي على صفحات التاريخ في فلسطين أن المجاهدين المسلمين كانوا أشجع المقاتلين وأصدق المناضلين فقد رووا أرضها بدمائه .. وحاول اليهود أن يثروا الدنيا وقعدوها ضد جريدة المصري فكتبت " روث كاربت" في صحيفة " صنداي ميرور" مقالا نشرته جريد المصري حينئذ قال فيه : إن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع الغرب أنهم أسمي الشعوب وأن الإسلام هو خير الأديان وأفضل قانون تحيا عليه الأرض كلها .

كان الشيخ محمد فرغلي مسئولا عن الإخوان المسلمين ومعارك الإخوان وجهادهم في فلسطين

كما كان مسئولا عن دعوة الناس إلى القرآن عبادات الإسلام وتربيتهم على الجهاد وهو يقيم في الإسماعيلية .

خرج بليل هو وثمانية من المجاهدين وراء خطوط اليهود وتسللوا إلى مستعمر قرب الفجر وصعد الشيخ أعلى مكان وأذن الفجر وظن اليهود أن الإخوان المسلمين داهموهم بليل فولوا الأدبار وفي مقدمتهم حراس المستعمرة وفي الصباح سلم المجاهدون المستعمر إلى الجيش المصري دون استخدام سلاح أو إراقة دماء إلى هذا الحد كان خوفا اليهود وهلعهم من الإخوان وإلى هذا الحد وأكثر كانت جرأة وإقدام الشيخ محمد فرغلي وإخوانه المجاهدين ..

وفي عام 1951 ألغت الحكومة المصرية معاهدة 1936 .وقابل الانجليز الأمر باستخفاف وعلى طول البلاد وعرضها اتبع رجال الأحزاب المصرية زعماؤها الأمر بالخطب والبيانات إلا الشيخ فرغلي ومن معه ... نزلوا إلى المعركة في عزم وصدق وجلد وخبرة وأعلن تشرشل في لندن " أن عنصرا جديدا قد نزل إلى ساحة المعركة" وعلى أرض القتال وفي معسكرات التل الكبير وسط ثكنات المستعمرين في بور سعيد والإسماعيلية والسويس دارت رحي الجهاد وفاضت أرواح وسالت دماء .. وتأكد لدي الانجليز أن مقامهم في مصر لن يطول .

لم يكن الشيخ فرغلي مجهولا عند الانجليز ومواقفه في الإسماعيلية مشهورة ومعروفة . كم أنذروا رجال الحكومة وكم نزلوا شوارع المدينة متحدين عابثين ووقف رجال الحكومة والأحزاب عاجزين .. إلا الشيخ فرغلي واجه صلف المستعمر بصفعة وقابل غروره بالسلاح .. أنذر قائد قوات الاحتلال محافظ الإسماعيلية يوما وأنزل إلى الشوارع جنوده ومصفحاته .. وتوجه الشيخ فرغلي إلى المحافظ في عربة جيب وفي زيه الأزهري ومعه سلاحه – لينذر المنذرين بضرورة الانسحاب وليساند رجال الحكومة في موقفهم وليسد أزرهم – وانسحب المنذرين بضرورة الانسحاب وليساند رجال الحكومة في موقفهم ولشد أزرهم – وانسحب الانجليز بالفعل من شوارع الإسماعيلية وسحبوا إنذارهم وخسر الإنجليز في معارك القناة الكثير – قطعت مواصلاتهم وهوجمت معسكراتهم وقتل جنودهم فرصدوا ألوف الجنيهات لمن يأتي بالشيخ فرغلي حيا أو ميتا .

وفي سنة 1954 بدت نذر القطيعة وتأزمت الأمور وتلبد الجو .. ووسط أساليب الإغراء وصور التهديد وقف الشيخ الشهيد صامدا لا يلين ... قويا لا يحيد .. ثابتا لا يتزعزع ... رابط الجأش لا يخشي .. في عزم المجاهدين وصلابة الأولين . أعرض عن الدنيا بمنافعها ومفاتنها وكانت تحت قدميه . ورفع رأسه شاخا فلم يقبل في دينه الدنية ..

وفي 7 ديسمبر 1954 وقف الشيخ الشهيد أمام حبل المشنقة باسما في إقدام فرحا في إيمان مرددا من سبقوه وهم يمضون على الطريق " إنني لمستعد للموت فمرحبا بلقاء الله ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) مضي الشيخ الشهيد في طريقه إلى ربه يحكي سيرة المجاهدين مضي فقيرا شروي نقير رحل عفيفا زاهدا ... كريما عزيزا ... رابط الجأش ثابت الجنان – صافي الوجدان تقبله الله مع لشهداء .

الشهيد يوسف طلعت

بور سعيد في 31 يوليو 1938 لمراسل الأهرام – ألف جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية مظاهرة بدءوها من الجامع العباسي إلى دار الجمعية إظهارا لشعورهم وعطفهم نحو فلسطين وقد أعتقل البوليس عددا من المتظاهرين وبعد أن انتهت نيابة الإسماعيلية من التحقيق معهم قررت القبض على حسن البنا ويوسف محمد طلعت , ومرسي سيد أحمد الطربي ومحمد عبد الهادي عفيفي وحسن مرسي وحبسهم أربعة أيام على ذمة التحقيق... وأفرجت بكفالة خمسة جنيهات على كل من عثمان الحضني]] ومحمد درويش وإسماعيل إبراهيم والسيد المنياوي وزكي المغربي ومحمد أبو العلا وبديوي زناتي وحسن محمود صادق ومصطفى طرطور .

في هذه المقدمة نشير إلى أن الشهيد يوسف طلعت له جهاد في عمق التاريخ لنصرة قضية فلسطين منذ عام 1938 – كما نشير إلى الأخ الحاج مصطفى طرطور من الإخوة الذين حكم عليهم بالسجن المؤبد في قضايا حادث المنشية عام 1954 وقضي عشرون عاما في السجون حيث أفرج عنه عام 1974 عليه رحمة الله تعالي .

والشهيد يوسف عز الدين محمد طلعت من مواليد الإسماعيلية في أغسطس عام 1914 وحاصل على كفاءة التعليم الأولي . ومنذ تعرف على الإمام حسن البنا قبل عام 1936 وقد ارتبطت حياته برسالة جماعة الإخوان المسلمين فما كانت تحدث حادثة في أسوان أو الإسكندرية أو القاهرة إلا ويعتقل يوسف طلعت بالإسماعيلية ومعه رفيق الكفاح والجهاد الشيخ الشهيد محمد فغلي .. وبعد اعتقاله 1936 خرج من معتقله ليصل إلى المجاهدين في فلسطين وليقرن القول بالعمل فعرف دروب فلسطين وربوعها وهضابها ومسالكها وجمع السلاح لمحاربة الإنجليز في القنال بكافة الطرق والوسائل .. وترك مهنة التجارة وعمل في تجارة المحاصيل الزراعية .. وتفرغ للدعوة . وكانت حرفته الجديدة تساعده على الانتقال والحركة وجاب المحافظة كلها وأنشأ الكثير من الشعب ووثق الروابط بين الناس .. وتتبعه رجال المخابرات البريطانية يرصدون حركاته ومع ذلك خدعهم كثيرا كان يوما يحاول نقل كمية من البنادق فوضعها في جوالين من التبن وحملهما على بعير وتنكر في ثياب ريفية وأحاطت به وهو في طريقه مجموعة من الشرطة العسكرية الإنجليزية وسألوه عن وجهته فأجابهم بأنه يقيم في المنطقة ومعه تبن لماشيته وصار بريت في رباطة جأش على رقبة بعيره فانصرف رجال العدو وغير يوسف من وجهته ووصل بحمولته .

كان الإسلام وطنه . ومنذ عام 1936 وقلبه يقطر أسي وحزنا من أجل فلسطين ومع مقدم عام 1948 وجد المجاهدون أنه لابد من سلاح وفير وذخيرة كافية لمكافحة اليهود .

ورأي يوسف طلعت ومجموعة من إخوانه ضرورة تصنيع السلاح وتخزينه بالإضافة إلى ما يستولون عليه من العدو الإنجليزي ووضع مشروع ورشة ومخزن لصنع السلاح وتخزينه إلا أن مخزنهم ضبط يوما بمعرفة السلطات المصرية وكان يوسف يقظا .. مفتوح العينين على الإستعمار وجواسيسه ومعروفة قصة ذلك " الخواجه" الذي كان يتستر تحت اسم تاجر روائح ويعمل في متجره مجموعة من الفتيان الجميلات وكان يتجمع عنده كثير من ضباط الجيش والبوليس المصري وغيرهم من أهل المدينة وتتبع يوسف وإخوانه أمره فعرفوا أنه يهودي خطر يتعامل مع الاستعمار واليهود .. وكان له جزاؤه الذي يليق به .. مما أذهل مخابرات الانجليز وأربك خططهم .

وبلاء يوسف طلعت في فلسطين معروف ومشهور أنه أول من سارع مع فريق من إخوانه إلى فلسطين سنة 1948 . خرجوا من الإسماعيلية إلى معسكرات النصيرات يحملون زادهم وما معهم من سلاح وبدأوا مهاجمة المعسكرات اليهودية .. وكان اليهود يفضلون الانسحاب من أى معركة يكون الإخوان المسلمين طرفا فيها وأصيب يوسف في يديه يوما فخاط جرحه بخيط عادي وإبر من إبر الحياكة . وأخذ إجازة من الميدان طاف فيها القطر مع الإمام الشهيد حسن البنا يواسي أسر الشهداء ويجمع السلاح للمجاهدين وعاد إلى الميدان وقاد معركة دير البلح التي استشهد فيها إثنا عشر من الإخوان وعقدت الهدنة لتسلم الجثث - حضرها قائد إنجليزي ... وتفقد الإنجليزي جثث شهداء الإخوان فوقف مذهولا .. لقد لاحظ أنهم جميعا مصابون في صدورهم .. ودار نقاش علم منه أن من صفات المؤمنين أن يقبلوا في المعارك ولا يولون الأدبار .. ويقال إن القائد الإنجليزي قال " لو أن عندي ثلاثة آلاف من هؤلاء لفتحت بهم الدنيا " وقاد يوسف قافلة اخترق بها خطوط اليهود ليصل بالإمدادات إلى قوات الجيش المصري المحاصرة في الفالوجا. واعتقل يوسف في فلسطين وجردن سلاحه كما المجاهدون من إخوانه ومرت الأيام ونزل يوسف الطور منفيا مع من نزل وفي معتقل الطور كان هناك معتقلون من اليهود , كانوا يعاملون أفضل معاملة ... بينما المسلمون من أبناء البلد يضيق عليهم الخناق .. ويعيشون في الحرمان وأجواء التعذيب .

وخرج من المعتقل فما هدأ ولا أخلد إلى الدعة ظل في طريق الكفاح يهاجم المعسكرات الإنجليزية ويستولي على السلاح ويحرض الشباب على خوض المعارك ويجمع المعلومات عن العدو وحاصر الانجليز الإسماعيلية أكثر من مرة يفتشون عن يوسف وعن الشيخ محمد فرغلي .. خرج ذات مرة قبل أن يدهموا منزله يحمل طفلا رضيعا فظنه الإنجليز عجوزا مسنا فأمروه بالابتعاد مع المبتعدين .

ويتأزم الموقف سنة 1954 . وتتوالي الأزمات من يناير 1954 حتي أكتوبر . ويطلب القبض على يوسف فيهرب ويقع حادث المنشية .. وكان في منزل أحد أشقائه ويسمع يوسف بالحادث فيقول : عملها عبد الناصر ونجح .. وغدا سيلصقها بالإخوان – وأذاعت الإذاعة اسم محمود عبد اللطيف ويسأل يوسف شقيقه : هل تعرف هذا الشخص .. فيجيبه بالنفي , ويعلق شقيقه لو كان الإخوان وراء الحادث لعلم يوسف كل شئ فلقد كان رئيسا للنظام الخاص في الجماعة .

ويقول أحد المقربين من يوسف : ذهبت إليه يوم 26 أكتوبر ليلا في منزل أخيه كان يستمع إلى الراديو وسأله : ما هذا ؟ فكان جوابه النفي والاستنكار " لقد أكد لى يوسف أن الإخوان قد التقوا من يوم نشأتهم وعلى رأسهم المرشد العام على سياسة ليس فيها ذلك التصرف ولا مثله وقد رصدت مكافآت لن يقبض على يوسف ومع ذلك كان يخرج من مقره يؤم المساجد ويصلي الجمعة .

أصيب بكسر في عموده الفقري وكسر في ذارعه وشروخ في جمجمته وشوه جسمه وطلب من جمال سالم كرسيا ليجلس عليه فكان يسأله في تبجح " لماذا ألا تستطيع الوقوف : فيرد يوسف في إباء: اسأل نفسك . وسأل جمال سالم الأستاذ حسن الهضيبي عن أقوال نسبها جمال سالم ليوسف فكان رد الأستاذ المرشد : اكشفوا على يوسف طلعت؟!

وفي يوم حزين .. من أيام ديسمبر سنة 1954 دخلت الإسماعيلية مصفحتان تحملان جثماني الشهيدين .

يوسف طلعت – والشيخ فرغلي – ومنعوا الناس من السير فى جنازتيهما فأقفلت الإسماعيلية أبوابها ونوافذها .. وخيم عليها الحزن .. ووضعت وزارة الداخلية نقطة حراسة ثابتة لمدة ستة شهور . رحم الله شهيدنا المبرور وهنيئا له ولإخوانه الجنة .

الشهيد إبراهيم الطيب.

ولد إبراهيم الطيب المحامي عام 1922 بمدينة شبين الكوم كان والده أستاذا للفقه الشافعي في كلية الشريعة بالأزهر وكانت نشأة إبراهيم من أجل ذلك نشأة دينية علمية فقد رباه والده تربية إسلامية صحيحة .... على الشهامة والمروءة وقوله الحق والثبات عليه وعن أبيه تلقي علوم القرآن والحديث ونهل من شتي العلوم الإسلامية .... كان ذواقة للأدب والشعر والرسم ذا إحساس مرهف وشعور حي نبيل وكانت حياته الفكرية وقفة تأمل وانبهار أمام إعجاز القرآن وبلاغة الرسول .. وانطبع ذلك عليه إحساسا وشعورا .. وإيمانا وفهما وسلوكا .. يقول عنه عارفوه ومحبوه :" كان إبراهيم قوي الشخصية .. ثابت النظرة ... دائم الفكر فيما حوله ... راسخ الجنان ... رزينا ... ذكيا .. حسن الخلق ... جم الأدب .. رقيقا رفيقا ..... تقيا .... تقيا ...وفيا ... صادقا ... زاهدا في الدنيا ومتاعها .. مقبلا على ربه محبا لرسوله يذوب حبا في الصحابة والتابعين .. وكان مثله الأعلي الحسين بن على ثباتا على الفكر والفكرة... مع التضحية من أجلها وفي سبيلها وصلابة في الدفاع عنها .. وكان شغله الشاغل أحوال المسلمين وأمورهم .. وقهر المستعمرين وتسلطهم وكان ينتقل بالفكرة بينما كان عليه المسلمون وما أصبحوا فيه .. كانوا شعاع العالم ومصدره فأصبحوا في زوايا النسيان والجهل ... وكانوا في مقدمة الركب فأصبحوا في زوايا النسيان ولذلك ما أن سمع إبراهيم الطيب مناديا ينادي للإيمان وداعي من دعاة الإخوان المسلمين عام 1940 حتي كان أول المستجيبين فقد كان الالتقاء في الفكر والروح .. ورأى إبراهيم الطيب في الإخوان المسلمين نفسه وأحلامه وسبيله ومقصده .. وتساؤلاته التي كان يقضي فيها ليلة ونهاره يقول أحد رفاق جهاده في صيف 1940 كان معهم رجل في طريقه إلى طنطا وفي حديث اتسعت آفاقه .. ذكر الرجل شيئا عن الإخوان المسلمين وعن حسن البنا وكان هذا أول العهد بهذا الفكر الجديد والتف إبراهيم وقليلون حول الرجل ودار حديث طويل عن الإخوان المسلمين وإلى أى شئ يدعون الناس وعن حسن البنا وشخصيته وأسلوبه وفهمه وسلوكه .. وكان الضيف فصيح اللسان واضح البيان فشرح فكر الإمام البنا ودعوته شرحا وافيا وتفتح قلب إبراهيم ورضيت نفسه واستقر فؤاده .. ومع بداية الخريف رحل إبراهيم إلى القاهرة وهناك سعي إلى الإمام الشهيد حسن البنا وكان لقاء الفكر والإيمان والعهد والارتباط , وانطلق إبراهيم من يومها مع الإمام لا يكاد يفارقه في غدوه وترحاله فقد امتلأ به قلبه وامتلك منه الإمام سمعه وبصره وأصبح له عونا من أقرب أعوانه وداعية من دعاته في المدارس والمجتمعات . وفي عام 1944 أنهي إبراهيم دراسة الحقوق ... واشتغل بالمحاماة وبالدعوة كرسالة وفي 1948 صدر قرار بحل الجماعة وفتحت المعتقلات وجهز جبل الطور ... وكان إبراهيم بينهم وفي عام 1949 استشهد حسن البنا وتوالت المحن .. وكان آخر عهده بالمحاماة المكتب الذي افتتحه مع الشهيد عبد القادر عودة ... وفي عام 1952 قام الجيش بحركته .. ونشب الخلاف وكان عميق الجذور .... وفي يناير 1954 حلت الجماعة واعتقل إبراهيم وفي 26 أكتوبر دبر حادث المنشية تدبيرا على طريقة الجستابو وألصق بالإخوان المسلمين وفؤجئ به الأبرياء . حتي أن سائلا يسأل الشهيد يوسف طلعت وكان مسئولا عن تنظيمات الإخوان كيف دبر هذا الحادث وكيف تم ؟ فيجيبه لا صلة لنا به وإن كنت أحس أنه سيلصق بنا إلصاقا .

لقد أراد الله أن تهب ريح الجنة على رهبان الليل وفرسان النهار . فهبت . وشملت من شهداء الإخوان على حبل المشنقة ستة من الذين اختراهم الله تعالي .. كما شملت تحت سياط التعذيب والنفخ والطوق الحديد وكي الأجساد وآخرون دفنوهم في أعماق رمال الصحراء ...وكان الشهيد إبراهيم الطيب مثالا للدعاة – ومضرب المثل لأصحاب العقيدة الصحيحة والفكر المستقيم ..

القاضي الشهيد عبد القادر عودة

بقلم الأستاذ عمر التلمساني

تمضي الأيام وئيدة الخطي أو لاهثة وتضرب أستار النسيان على البلايين والبلايين من البشر في بطون الحقب والقرون ... لأنهم عاشوا ولم يوجدوا – كما تمضي القرون والحقب على أعلام من البشر لا تطوي ذكراهم ولا تخفي معالم حياتهم ولا تدع للنسيان سبيلا يزحف منه على جلائل مواقعهم من أجل الحق وفي سبيل الخير . رجال انفردوا بسجايا وخصال وعاشوا على مستوي المثل والقيم وشقوا في الحياة طريقا على مبادئ وأصول لقوا الموت في سبيلها أو تحملوا صنوف العذاب من أجلها .

أرأيت إلى الرجل من آل فرعون يوم أن التقي القوم على الفتك بموسي وتلمس كل طريقة إلى رضا فرعون بالوشاية وذكره بكل سوء ومفسدة ... فيقف فريدا وحيدا وسط الكفر والفساد ومن خلال الظلم والظلام لا يبالي ولا ينافق .. بل يقذف بالحق من أعماقه ... ناصعا كالنور قويا كجيوش يحركها الإيمان ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيانات ) ويمضي إلى موسي محذرا ناصحا : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) تري كم من الآلاف أو مئات الآلاف من انحنوا لفرعون وسجدوا له وتقربوا إليه واروا في ركبه وأعلنوا الإيمان به إلها من دون الرحمن والتمسوا الرزق والخير والقصور ومتاع الدنيا في رضاه ظنا منهم أنه المانح والمانع والمحيي والمميت ..

تري كم من هؤلاء مضي كما مضي فرعون وراحوا في طي النسيان وإن حلت ذكراهم يوما في الأذهان انهالت عليهم اللعنات والحق بهم كل خزي وعار ويبقي الرجل المؤمن ذكري على الدرب الطويل تحتل مكانها في التاريخ صفحات كلها مجد وفخار .. قدوة ومثالا وعطرا ونورا ؟!

وعبد القادر عودة من هذا الصنف من الرجال ... الذين ساروا وما زالوا يسيرون على الطريق .. وقف على حبل المشنقة فازداد على الحق إصرارا رأي الموت بعينيه فأسرع للقياه .. ولم تكن جريمته إلا أنه قال كما قال من سبقوه على الطريق : ربي الله !! ولم تكن فعلته إلا أنه أنكر على الظالم ظلمة للناس وأبت عليه أن يسكت على صنوف الذل والهوان يراد الله أن تحيا خلالها وتعيش في ظلها ... فمضي شهيدا ... بعد أن سطر على صفحات التاريخ سطورا لا تنمحي وحفر في القلوب والأذهان ذكري على مر الأيام تنمو وتزدهر !! سنون منذ أن قتل الشهيد عبد القادر عودة وإخوانه الأبرار انقضت ونقول قتل لأنه لو صح وهذا غير صحيح أنه اشترك في شروع في قتل فما من قانون وضعي ولا سماوي يعاقب على الشروع في قتل بالقتل ... ولكنه الظلم والبغي بغير الحق !!

ولي عبد الرحمن عودة أعمال القضاء فكان المناورة الزاهية بين القضاة لأنه أبي إلا أن يطبق قانون السماء ما وجد إلى ذلك سبيلا ورفض أن يقيد نفسه بقوانين الأرض التي عجزت أن توفر لبني البشر أمنا يفتقدونه وهدوءا يبحثون عنه وحبا يتوقون إليه .

كان جريئا في الحق ولو خالفته الدنيا بأسرها لأنه كان يحرص على مرضاة ربه قبل أن يفكر في إرضاء الناس وقف إلى جوار حركة 23 يوليو 1952 ظنا منه أن رئيسها سيحقق الخير الذي أعلنه على الناس وأغضب في ذلك الكثيرين من أخوانه ومحبيه ولكنه لما تكشفت أمامه النوايا وبدأت تظهر الحقائق سلك الطريق الذي ألزم به نفسه في حياته - طريق الحق والصدق ... قال له رئيس الجمهورية السابق أنه سيقضي على كل من يعترض طريقه . فأجابه الشهيد في صراحة المؤمنين:" ولكن من يبقون منهم سيقضون بدورهم على الطغاة الظالمين !!"".

خرجت جموع الأمة في 28 تطالب الحكام بالإقلاع عن الظلم وتنحية الظالمين وزحفت الآلاف إلى ميدان عابدين تطالب رئيس الجمهورية وقتذاك السيد محمد نجيب بالإفراج عن المعتقلين وتنحية الباطش ومعاقبة الذين قتلوا المتظاهرين عند كوبري قصر النيل وتطبيق شرع رب العالمين وأدرك القائمون على الأمر يومئذ خطورة الموقف وطلبوا من المتظاهرين الثائرين أن ينصرفوا ولكن بلا مجيب فاستعان محمد نجيب بالشهيد عبد القادر عودة على تهدئة الموقف متعهدا بإجابة الأمة إلى مطالبها ... ومن شرفة قصر عابدين وقف الشهيد يطلب من الجماهير الثائرة أو تنصرف في هدوء وقد وعد رئيس الجمهورية بإجابة مطالبها ... فإذا بهذا البحر الزاخر من البشر ينصرف في دقائق معدودة .. و من منطق الحكم الدكتاتوري الذي كان يهيمن على البلد حينذاك كان لابد أن يصدر قرار في عبد القادر عودة . فإذا كان الشهيد قد استطاع أن يصرف الجموع الحاشدة التي جاءت محتجة تطالب بالإطلاق الحريات وإفساح المجال للحياة الدستورية السليمة الأصيلة والوفاء بالوعود وتأدية الأمانات .. فهو يمثل خطورة على هذا الحكم الذي كان مفهومه لدي الحاكم أن يضغط على الأجراس فيلبي نداؤه وعلى الأزرار فتتحرك الأمة قياما وقعودا .

ومن هنا كانت مظاهرة عابدين هي أول وأخطر حيثيات الحكم على الشهيد عبد القادر عودة بعد ذلك بالإعدام ؟!! لذلك لم يكن غريبا أن اعتقل هو والكثيرون من أصحابه في مساء اليوم نفسه ووقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة صباحا حتي السابعة صباحا يضربهم ضباط السجن وعساكره في وحشية وقسوة ... شأنهم شأن الذين إذا خلا الميدان أمامهم طلبوا الطعن وحدهم والنزالا!!

وقدم عبد القادر عودة في تهمة لا صلة له بها ولا علم . وحكموا على الشهيد بالإعدام ظنا منهم أن قتل عبد القادر عودة سيمضي كحدث هين لا يهتم به أحد .. ولكن حاكم ذلك العهد لما رفعت إليه تقارير جواسيسه بأثر ذلك الاغتيال قال في حديث نشرته الصحف ما معناه " عجبت لأمر هذا الشعب لا يرضي بالجريمة ولكن إذا عوقب المجرم ثار عطفه على المجرمين" ولكن ثورة العواطف عند الشعب لم تكن من أجل المجرمين . فما كن في الموقف واحد منهم ولكن الشعب ثار عاطفيا كراهية منه للظلم ووفاء منه للأبرياء – وسيق الشهيد إلى غرفة الإعدام فكان الرجل الذي لا يجزع والمؤمن الذي لا يبالي ولا يهلع .. كان " عبد القادر عودة " الشهيد الذي جاد بالروح في سبيل المبدأ اليقين !!

رحمك الله يا عبد القادر وأسكنك الفردوس الأعلي وتلقاك بالروح والريحان .

كلمة الأستاذ عبد العزيز الشوربجي نقيب المحامين السابق – في نقابة المحامين للاحتفال بذكري استشهاد عبد القادر عودة

قال : استشهد عبد القادر عودة .. وغيبت ذكراه أعوام عجاف خلت من نخوة الرجال .. وبات الناس يرثون عبد القادر في صمت وفي خفاء ولو علموا أن اله يحب عبده القوي لآثروا أن يموتوا شهداء مثلما مات عبد القادر لقد خشينا الحاكم ولم نخش الله ..

خشينا الظالم ولم نتذكر العادل القاهر القوي الجبار المنتقم , خشينا الحاكم بصولجانه ونسينا أن الله قد أدوع فينا قرآنه وسنة رسوله .. ومضت الأيام حتي إذا أتيحت فرصة اللقاء كان هذا الجمع الحافل .. ليتنا كنا عشرة فيما سلف نتذكر عبد القادر عودة في الساعة المناسبة ولا نتذكره بعد خمسة وعشرين عاما . ولكنها الجماهير الضعيفة فلا حول ولا قوة إلا بالله...

لقد تمكن هذا الظالم لأننا ولينا وجوهنا شطر قبلته ..ز تمكن منا لأننا هجرنا قرآننا وتركنا سنة نبينا وهكذا بدت الأمة فرقا لا كيان لها ولا فكر .. فعبث بنا العابثون تري ماذا نفعل أتترك الذكري تمضي كلا أيها السادة إني أدعوكم دعوة صادقة إلى تخليد ذكري البطل الشهيد وأنا أدعو نقابة المحامين أن تطبع كتاب ( التشريع الجنائي في الإسلام ) وتوزعه على روح ذكري عبد القادر وأنا أدفع لسكرتير النقابة هذه الليلة ماشة جنيه أفتتح بها الاكتتاب . وفي انفعال وثورة قال النقيب عبد العزيز الشوربجي :

إذ لم نستطيع أن نقاتل من أجل عبد القادر عودة فلنتذكر أن مصر أنجبت عبد القادر . إنني أطالب نقابة المحامين أن تطلب باسمك مجميعا وباسم الحق والعدل أن تعاد محاكمة الشهيد عبد القادر عودة ولا يمكن أن تمضي قضية عبد القادر عودة كما مضت الأحداث كلها .. لابد من محاكمة عادلة جديدة يقف فيها المحامون ليدافعوا عن عبد القادر عودة ولو كان تحت الثري أو غيبته القبور .

وقد حضر حفل التأبين مئات من المواطنين كما كان خطباء المؤتمر – الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ شوكت التوني رحمهما الله تعالي ونقيب المحامين الأستاذ عبد العزيز الشوربجي .

فضيلة الشيخ حسنين مخلوف .. وشهيد الإخوان محمد الصوابي الديب

الزمان : أواخر سنة 1954 وبالتحديد في شهر ديسمبر .

المكان : منزل فضيلة حسنين مخلوف – مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت شارع نجيب باشا شكور بكوبري القبة .

الوقت : بعد الغذاء حوالي الساعة الثالثة يطرق باب المنزل .. يذهب لخادم ليري الطارق ثم يأتي ويقول للشيخ إنه شاب طليق اللحية رث الثياب ويريد مقابلتك .

يقول الشيخ حسنين مخلوف تعجبت من ذلك وظننت أنه عابر سبيل ... دخل الشاب المنزل ولم أقابله في البداية بل أعد له الخادم طعام الغداء فأكله بشهية وكأنه لم يأكل منذ مدة طويلة .. بعد الغذاء ظننت أنه سينصرف إلا أنه أصر على مقابلتي وألح في ذلك فذهبت إليه وما أن رأيته حتي ظننت أنه سيطلب صدقة فقد كان الثياب يبدو عليه شدة التعب .

بدأ حديثه بأنه عرفني بنفسه ... محمد الصوابي الديب طالب بكلية الشريعة بجامعة [[الأزهر الشريف]] اهتز جسمي وأصبت برعشة عندما قال لي أنه كان من متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين فقد كان الإخوان المسلمين في ذلك الوقت ( 1954 ) في أوج محنتهم وكانت كلمة الإخوان المسلمين تترادف معها كلمات : الاعتقال – التعذيب – السجن – المحاكمات .. وتلمع عينا الشيخ وهو يقول : نظر الشاب لى في هدوء ثم قال بصوت منخفض ولكنه قوي : أنا في محنة واحتاج إليك فأنا مطلوب القبض عليّ وقد مكثت أكثر من شهر هاربا في المقابر متخفيا في الصباح ثم أخرج في الليل لأقتات الطعام .. لقد كرهت الحياة بين الأموات وأريد أن أعيش بين الأحياء فهل تقبلني ؟ ويقول الشيخ : سيطر الذهول تماما على نفسي ولم أفق إلا عندما قال الشاب ما رأيك ؟

استأذنت منه وذهبت إلى أولادي .. الدكتور علي وابنتي زينب والذهول ما زال مسيطرا على نفسي .. لاحظ أولادي ذلك على الفور فسألوني : مالك يا بابا .. حصل إيه أخبرتهم بالقصة وفجأة وجدت نفسي أقول : إنه صادق إنه صادق ... قلت لأولادي : إنني متأكد أن هذا الشاب ليس من الشرطة أو المباحث جاء ليختبرنا بل إنني موقن أنه يقول الصدق فهو صادق وأضفت أنني لا أستطيع أن أرد مستجيرا في هذه المحنة وأنا موقن أنه مظلوم وقد قررت قبوله ولن الذي يقلقني هو ما ستفعله لكم أجهزة المباحث والدولة كلها إذا اكتشفوا وجوده بيننا " كان هناك قانون أو فرمان جمهوري قد صدر في ذلك الوقت يعاقب مل من تستر على أى من الإخوان المطلوب القبض عليهم بالأشغال الشاقة خمس عشر سنة " قال ابني على بعد فترة صمت ( افعل ما تراه من الناحية الإسلامية والله يتولانا جميعا ".

ويضيف الشيخ حسنين مخلوف : خرجت مع ابني على إلى الشهيد وعرفته به وأخبرته أننا قد قررنا قبوله عندنا وأنه يشرفني ذلك . ارتسمت إمارات الراحة والاطمئنان على وجه الشهيد وما زلت أذكر ابتسامته المضيئة على وجهه حتي الآن .

وسيطرت الدهشة على وجه الشهيد عندما قال له الدكتور علي مخلوف :" لابد أن تولد من الآن بشخصية جديدة وتدفن شخصيتك الحالية" يقول الدكتور علي مخلوف ويعمل حاليا رئيس أمراض النساء والولادة بطب عين شمس : كان في اعتقادي أنه لا يمكن إخفاء محمد الصوابي الديب وخاصة في منطقتنا التي كانت تشتهر بكثرة ضباط البوليس الذين يسكنونها فكان الحل أنه لابد أن يولد الشهيد الديب بشخصية جديدة تماما .. وأن أحسن طريقة " لإخفاء " أى شخص هو أن " تظهره بشخصية جديدة وتكون جميع تصرفاته طبيعية .... أما الهروب والاختفاء عن أعين الشرطة والناس فإنها طريقة فاشلة ينكشف أمرها دائما إن عاجلا أو آجلا واتفقنا على أن يعمل الشهيد سكرتيرا لوالدي الذي كان فعلا في حاجة إلى سكرتير فقد كان مفتيا للديار المصرية في ذلك الوقت وكانت ترد إليه استفسارات دينية كثيرة بالإضافة إلى أنه كان يكثر من تأليف الكتب . واحترنا في الإسم الذي نطلقه عليه وأخيرا قال والدي للشهيد ... أنت صادق فى جميع تصرفاتك وأقوالك فاسمك منذ الآن " صادق أفندي " وضحكنا جميعا . وفي اليوم التالي كان الشهيد محمد الصوابي الديب شخصا آخر تماما نظيف المظهر حليق الذقن ويصف الدكتور على صورة الشهيد فيقول إنه كان أبيض اللون واسع العينين متوسط الطول نحيف الجسم .

ويقول الشيخ : إن الخطة التي تم وضعها لإخفاء الشهيد قد نجحت تمام : فقد أذعنا على كل أفراد الأسرة أنه جاء لوالدي سكرتير اسمه صادق أفندي ولم يعرف بالسر على الإطلاق إلا أربعة أشخاص إبني الدكتور علي – إبنتي الدكتورة زينب – وأنا بالإضافة إلى الدكتور سعاد الهضيبي زوجة الدكتور علي مخلوف التي لم تتردد في الترحيب بالشهيد رغم أن والدها مرشد عام الإخوان المسلمين حسن الهضيبي وجميع إخوتها في السجن .

ويضيف الشيخ حسنين مخلوف : أن الشهيد محمد الصوابي الديب . أو صادق أفندي كان فعلا سكرتيرا ممتازا عاونني كثيرا في عملي وخاصة في الكتب التي أخرجتها في ذلك الوقت .. وكان الشهيد يصحبني دائما في كل مكان أذهب إليه وقد اعتبرته فعلا سكرتيري الخاص وليس مجرد هارب من الشرطة . والطريف أن الشهيد كان يقابل ضباط الشرطة الذين كانوا يسكنون بجواري بأعصاب في منتهي الهدوء وأقدمه لهم على أساس أنه سكرتيري الخاص صادق أفندي . عاش صادق أفندي لمدة ثمانية أشهر كاملة مع أفراد أسرة الشيخ حسنين مخلوف كأنه واحد منهم يأكل معهم ويعيش معهم ودائما مع الشيخ الذي كان يطلب منه كثيرا الإجابة على الاستفسارات الدينية الكثيرة التي ترد إليه باعتباره مفتيا للديار المصرية وكان الشهيد يسكن في حجرة منفصلة بحديقة المنزل بها صالون ومكتبة كبيرة وغرفة نوم وحمام خاص تم تخصيصها لصادق أفندي .

عميل عراقي أرشد عن الشهيد :

ويقول الشيخ حسنين مخلوف : في أحد أيام صيف 1955 على ما أذكر جاءني صادق أفندي وقال لي  : أنه يريد السفر إلى السعودية ليعمل هناك وحاولت أن أثنيه عن ذلك ولكنه أصر وأخبرني أن هناك شخصا عراقيا قد أعد له الرحلة بالباخرة عن طريق السويس ويضيف الشيخ حسنين مخلوف : أن قلبي لم يطمئن واستعنت بإبني على لإقناعه بعدم السفر دون جدوي وقال : إنه يريد أن يكون نفيه هناك ويستريح من القلق الذي يعانيه كهارب رغم إجادته التامة لشخصيته صادق أفندي ..

وغادرنا الشهيد البطل بعد أن وعدنا بأن يرسل لنا برقية فور وصوله إلى السعودية لكي نطمئن وأرسلت إلى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان مستشار الملك سعود ليهيء له عملا عند وصوله إلى هناك ... مضي على سفر الشهيد إلى السعودية حوالي شهر ولم تصل أى برقية تفيد بوصوله إلى هناك يقول الدكتور علي مخلوف : كانت الأسرة كلها قلقة وبما أنني أكثرهم هدوء فقد حاولت دائما أن أطمئنهم ولكن دون جدوي وضاع هدوء أعصابي في أحد الأيام أخبرتني زوجتي الدكتور سعاد الهضيبي أنها سمعت في راديو لندن أنه قد تم القبض على اثنين من الإخوان المسلمين في باخرة بالسويس وهما في طريقهما إلى جدة . ولم تذكر الإذاعة أسماء ولكننا شعرنا أن الشهيد محمد الصوابي الديب هو أحدهما .

ويقول الأخ وهبي الفيشاوي ويعمل حاليا مديرا لمطبعة مصر .. أن الشهيد محمد الصوابي الديب سجن معنا بعد القبض عليه في سجن 4 بالسجن الحربي وقد علمنا أنه قد تم القبض عليه بواسطة شخص عراقي وكان زبانية السجن الحربي يعذبون الشهيد تعذيبا وحشيا بعد أن وضعوه في زنزانة بسجن أربعة تسمي زنزانة الركن وهي مخصصة للتعذيب وكانوا لا يتركونه ينام أبدا وكان الشهيد أشدنا تعذيبا لا يرحمه مجرموا السجن حتي في أوقات الراحة .

وتقول الدكتور سعاد الهضيبي إبنة مرشد الإخوان المسلمين الشهيد حسن الهضيبي وتعمل حاليا مديرة معهد شلل الأطفال بجامعة القاهرة ذهبت يوما إلى السجن الحربي لكي أسلم والدي بعض الحاجات وعقب خروجي من مكتب مدير السجن حمزة البسيوني شاهدت الشهيد وهم يقومون بتصويره داخل السجن لعمل بطاقة اتهام وكتمت صرخة كادت تنطلق مني وأسرعت إلى المنزل وأخبرت زوجي بما شاهدته فصاح وقال " رحنا في داهية " وكانت أعصابنا في غاية التوتر وأعد زوجي حقيبته التي سيأخذها معه إلى السجن فقد كنا نتوقع في كل لحظة أن تأتي الشرطة العسكرية والمباحث العامة للقبض علينا .

ويقول الدكتور علي مخلوف : كنت خائفا على والدي الشيخ حسنين مخلوف فهو قد جاوز الستين من عمره ولا يستطيع تحمل أهوال السجن الحربي ولذلك كنت أنا وزوجتي لا نفارقه ليلا أو نهارا متوقعين في أى لحظة مداهمة الشرطة لمنزلنا وتلمع عينا الشيخ حسنين مخلوف وهو يقول : لم أكن أتوقع أبدأ أن يتحمل الشهيد محمد الصوابي الديب التعذيب الذي لا يصدقه عقل من أجلي لم أكن أتوقع أن يضحي بحياته من أجلي حقا هذه هي تربية الإسلام .

وفاة الشهيد داخل السجن الحربي :

وتقول الدكتور سعاد الهضيبي: تعجبنا جميعا عندما مرت الأيام ولم تداهم الشرطة بيتنا كما كنا نتوقع وفي أحد الأيام ذهبت لزيارة أبي المرحوم حسن الهضيبي بالسجن الحربي وسألته عن محمد الصوابي الديب الذي كان يعرفه كان من الإخوان من الإخوان المسلمين من ناحية بالإضافة إلى أن بلدته شبين القناطر مجاورة لبلدة أبي وهي عرب الصوالحة في القليوبية فهز رأسه بطريقة تدل على الأسف وأخبرني أنه من الشهداء وأضاف أبي قائلا :

الذي تعجبت له أن الذين كانوا يقومون بتعذيبه كانوا لا يسألونه إلا سؤالا واحد فقط " أنت كنت فين ؟" فلا يجيب إلا بآيات من القرآن الكريم حتي كسروا عموده الفقري وبرزت ضلوعه وكان تمرجي السجن يخرج من مكان تعذيبه وفي يده صفيحة مليئة بالدم .

ويقول وهبي الفيشاوي : إن بعض الإخوة المسجونين الذين كانوا يقومون بتوزيع الطعام علينا كانوا يخبرون المسجونين بأحوال السجن والمعذبين فيه وفي أحد الأيام أخبرني أحدهم أن جراح محمد الصوابي الديب – فادحة ومتقيحة وان حالته قد ساءت لدرجة أن الحشرات تسري بين جروحه وأنه قد امتنع عن الطعام بعد أن منه عنه زبانية السجن الحربي الماء .

ويضيف الأخ وهبي الفيشاوي ولم تمض أيام قليلة على هذا الحديث حيت أطفئت أنوار السجن الحربي كلها في إحدي الليالي وشاهدت من ثقب زنزانتي حراس السجن يحملون إنسانا ملفوفا داخل بطانية ويضعونه داخل سيارة جيب مغلقة وشعرت أنه الشهيد محمد الصوابي الديب وقلت في نفسي استرحت وفزت بالجنة – ويختتم الشيخ حسنين مخلوف الحديث عن الشهيد البطل قائلا : إذا كانت تربية الشهيد من تربية الإخوان المسلمين فأنا أضم صوتي بقوة إلى علماء الأزهر في المطالبة بعودتهم فتربيتهم هي خير تربية .

من وحي الشهداء – وجها لوجه – للإمام الشهيد حسن البنا

( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )

أمام حقائق الدعاية وجها لوجه .

لابد من امتحان لحقيقة إيمان المؤمنين

ودعوي الإيمان وحدها لا تكفي في كثير ولا قيل ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) .. وهذا ناموس من الله الذي لا يتغير . وسنته التي لا تتخلف (ولنبلونكم حتي نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) وكلنا مؤمنون بحكم الوراثة فقد ولدنا على هذا الدين القيم والحمد لله على نعمة الإيمان وكثير هم المؤمنون بالتعلم والخطابة الذين يستطيعون أن يتمثلوا معني الإيمان ويحسنوا التعبير عنه لأنفسهم وللناس , ومن هؤلاء من يصدق فيه معني الإيمان حتي يتذوق حلاوته ويجد طعمه ويستشعر برده على فؤاده كما يحس بحرارته ودفئه ونوره وإشراقه .

ولكن هذا كله لا يكفي حتي يقف المرء وجها لوجه وأمام حقائق الإيمان العملية وأوضح هذه الحقائق : ما اتصل بالجهاد والشهادة والموت في سبيل الله والعزوف عن متع الحياة الدنيا إيثارا لما عند الله .

وهؤلاء الشهداء الإثني عشر ومن قبلهم الشهيد العزيز السيد حسين الحلوس – الذي اختاره الله لجواره في حادث انقلاب سيارة المؤن والمهمات بسيناء ... قد أوقفونا نحن الإخوان وأوقفوا أسرهم الكريمة وأوقفوا الأمة المصرية كلها حقائق الإيمان وجها لوجه .

إن من حقائق الإيمان الأولي أن الموت حق وأن الأجل محدود و أن العمر واحد ولا ينقض ولا يزيد ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ... وأن الجبن لن يؤخر الوفاة وأن الشجاعة لن تدني الموت . وأن قدر الله من وراء ذلك كله ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ( أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين )

ولن يستطيعوا أن يدرءوا طبعا... ومن لم يمت بالسيف مات بغيره وإن حقائق الإيمان الأولي .. أن الله تبارك وتعالي كتب على المؤمنين كتابا لازما .... فريضة محكمة ... أن يقاتلوا في سبيل الحق وأن يدافعوا وأن يجاهدوا في سبيل الله تعالي حتي تعلوا كلمته وترفع رايته وأن من نكص عن ذلك فله عذاب أليم في الدنيا بالصغار وفي الآخرة بالجحيم والنار ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن يحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ...) ( إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون , وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )

ومن حقائق الإيمان الأولي : أن من مات في سبيل الله أو قتل مجاهدا ...فهو شهيد حي يرزق عند الله تبارك وتعالي وأنه لا يجد من الموت – إلا كما يجد الإنسان الحي الحساس من قرصه نملة فإنه لا يفتن في موضع – وأنه يبعث يوم القيامة بكلومه وجروحه ودمائه الطاهرة الزكية اللون لون الدم والريح ريح المسك – وأن له عند الله تبارك وتعالي من المثوبة والأجر أفضل ما عند الله لسائر الذين ماتوا بغير شهادة ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسني وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) .

( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنسفهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم قيم . خالدين فيها ابدأ إن الله عنده أجر عظيم )

تحية للشهداء الأبرار

يا شهيدا رفع الله بـــه
جبهة الحق على طول المدي
سوف تبقي في الحنايا علما
هاديا للركب رمز الفداء
ما نسينا أنت قد عملتنا
بسمة المؤمن في وجه الردي

رثاء فضيلة الشيخ : علي الطنطاوي

وفي ديسمبر 1954 كتب الداعية الإسلامي الشيخ علي الطنطاوي من كبار علماء سوريا معبرا عن حزنا سوريا وحزن العالم الإسلامي كله لإعدام الدعاة والتنكيل بالأبرياء قال : لو كان الأمر لى لما جعلته يوم حداد بل يوم بشر وابتهاج , ولما صيرته مأتما بل عرسا . عرس الشهداء الأبرار على الحور العين . ولما قعدت مع الإخوان أتقبل التعيزيات بل التهنئات وهل يرجو المسلم إلا أن يموت شهيدا ؟ وهل يسأل الله خيرا من حسن الخاتمة ؟

إنى لأتمنى والله شاهد على ما أقول – أن يجعل من بيت على يد فاجر ظالم فأمضي شهيدا إلى الجنة ويمضي قاتلي إلى النار , فتكون مكافأتي سعادتي به – ويكون عقابه شقاؤه بي .

هذا هو العقاب لا عقابك يا جمال – عقاب الله الناصر لأوليائه القاهر فوق أعدائه الذي ستقف أمامه وحدك ليس معك جيشك ولا دباباتك ولا سلاحك ولا عتادك تساق إليه وحيدا فريدا لا تستطيع انجلترا أن تجيئ معك – ولا أمريكا فيسألك عن هذه لدماء الزكية فيما أرقتها ؟ وعن هذه الأرواح الطاهرة فيما أزهقتها ؟ وعن هاتيك النساء القانتات الصابرات فيم رملتهن ؟ وعن أولئك الأطفال البرءاء فيم يتمتهم ؟ وعن هذه الجماعة الداعية إلى الله المجاهدة في سبيله فيم شمت بها أعداء الله ورسوله ؟

فإن كان عندك دفاع فأعده من الآن . لتدل به أمام محكمة الجبار التي لا تحكم بالموت شنقا بل الحياة الدائمة التي يصغر الشنق ألف مرة من عذاب لحظة منها يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا حزب ولا أعوان ولا سيف ولا سلطان يوم تتبدل الموازين وتتغير المقاييس ويكون الفضل للفاضل والصدر للصالح فيذل أعزة أو يعز أذلاء وتنزل ملوك وتعلو سوقه يوم يناد المنادي لمن الملك اليوم للطغاة؟ البكباشة ؟ لسادة بكنجهام والبيت الأبيض والكرملين ؟ كلا لا جرم – لله الواحد القهار .

فعش مهما عشت وسد مهما سدت فهل تقدر أن تجد لك طريقا لا يمر بك في المحشر ؟ ولا يقف بك موقف الحساب ؟ هل تعرف ملكا غير ملك الله تفر إليه . كما يفر المجرم السياسي من دولة أساء إلى حاكميها إلى دولة أخري تحميه ؟ وها تظنها تدوم لك يا عبد الناصر ؟ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك ولقد حكم مصر من قبلك فاروق من قبله المماليك ومن قبلهما فرعون وهامان ؟ فأين اليوم فرعون والمماليك وفاروق ؟ أين من بني رشيد ؟ أين من أحيا وأمات وطغي وبني وقال أنا ربكم الأعلى ؟

لقد ساروا جميعا في ركاب عزرائيل تشيعهم دعوات المظلومين حين ردوا على من لا يضيع عنده مثقال ذرة في السموات والأرض فاتق أيها الرجل دعوات المظلومين في الأسحار فإنها السهام التي لا تخطئ واعتبر مضي قبل أن تصير عبرة لمن يأتي وابك على نفسك قبل ألا تجد من يبكي عليك .

أما أنتم أيها الشهداء فهنيئا لكم فادخلوها خالدين فلقد أبتم ب ثواب الدنيا وحين ثواب الآخرة وشيعتكم في كل بلد من بلدان هذه الأرض المسلمة الملايين من لم يكن يعرفكم ولا تعرفونها ولكن الله ملأ قلوبهم جميعا حبا لكم , وألسنتهم هتافا بأسمائكم بوادر من تكرمته إياكم النساء في الخدور والأطفال في المدارس والتجار في الأسواق الذين قاموا من أجلكم وثاروا فترك الطالب درسه والتاجر كسبه وخرجوا حبا فيكم وغضبا لكم فإن ضن عليكم الظالمون بالماء .. غسلوكم بالدموع الجواري وإن بخلوا بالقبور دفنوكم في الأفئدة البواكي , ثم مشوا بكم في موكب النور التي لا تفتأ تتسلل وتتعاقب سائرة في الزمان من لدن حمزة وجعفر وشهداء الفتح في بدر والقادسية واليرموك ومن قتل الطغاة الظالمون من أمثال الحجاج وهولاكو وتيمورلنك إلى شهداء النضال في الجزائر وتونس والغوطة والقناة لقد سلككم الله في هذه المواكب التي بدأت يوم بدأت في الأرض دعوات الخير والإيمان على لسان نوح وهود وموسي وعيسي ومحمد صلي الله عليه وسلم جميعا ... إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

فهل من التكريم أبلغ من هذا يا نساء الشهداء ؟ ويا أولادهم ؟ ويا من فجعة هذا الظالم بالزوج والأب وبالأخ وبالولد ؟ فيا إخواني ويا أخواتي ويا بناتي ويا أبنائي .. إن فقدتم الولد والأخ فإن كل مسلم على ظهر الأرض أخ لكم اليوم والله خير من الجميع .

الفصل السابع

- بعض العلماء وأئمة المساجد

- إعفاء الرئيس محمد نجيب

- عودة إلى أحداث السجن الحربي

بيان للمسلمين – من جماعة كبار العلماء – على رأسهم الشيخ عبد الرحمن تاج

- الإخوان المسلمين حرب على الإسلام أشد من حرب أعدائه .

- أساليب التآمر والاغتيال والتضليل خروج على حدود الله – أعلنت جماعة كبار العلماء بالأزهر – رأي الإسلام في عصابة الإخوان – فاستنكرت في بيان أصدرته أمس 17 نوفمبر 1954 انحراف هذه العاصبة عن منهج القرآن، في الدعوة وأوضحت أن الخروج على هذا المنهج وسلوك العنف والإرهاب والتضليل والخداع والتآمر على قتل الأبرياء وترويع الآمنين واغتيال المجاهدين وإعداد العدة لفتنة طائشة لا يعلم مداها إلا الله وتضمنت أن كل هذه الوسائل التي تسترت بها العصابة للوصول إلى غايتها ومطامعها هي الحرب على الإسلام أشد عليه حرب خصومه وأعدائه وفي ذلك مشاقة لله ورسوله وافتراء على الإسلام ونقض لحدود الله .

- وفيما يلي مقتطفات من بيان هيئة جماعة كبار العلماء

بسم الله الرحمن الرحيم – الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله رحمة للعالمين أما بعد :

فهذا نداء من جماعة كبار العلماء بالأزهر الشريف نتجه به إلى الشعب المصري الكريم وإلى سائر المسلمين وتحت عنوان التستر بالدين .

وقد ابتلي المسلمون في عصورهم المختلفة بمن أخذوا تلك المبادئ على غير وجهها الصحيح أو لعبت بقلوبهم الأهواء فجعلوا منها باسم الدين وسائل يجدون بها ثقة الناس فيهم ويتسترون بها للوصل إلى غايتهم ومطامعهم والتاريخ الإسلامي حافل بأنباء تلك الطوائف التي انبعثت من خلاله – ثم كانت حربا عليه أشد من هذه الجماعة نفر حاولوا وتحولوا عن الجماعة وسلكوا غير ما رسم القرآن فكان منهم تآمر على قتل الأبرياء وترصد لاغتيال المجاهدين المخلصين .

وجماعة كبار العلماء تشكر الله تعالي القدير أن أمكن لأولي الأمر في هذه الأمة أن وضعوا أيديهم على بذور الفتنة ووسائلها أن يشتد أمرها ويستفحل شرها .

جمال عبد الناصر يستقبل مظاهرة من علماء المساجد

قصد إلى دار رياسة مجلس الوزراء صباح يوم 9 نوفمبر 1954 جميع أعضاء المؤتمر الذي عقده أئمة المساجد في جميع أنحاء البلاد أمس . لإعلان تأييدهم لبطل الجلاء الرئيس جمال عبد الناصر وتهنئته بالنجاة من مؤامرة الخونة الرجعيين .

وخرج السيد الرئيس إلى السادة أئمة المساجد ومعه القائمقام أنور السادات وزير الدولة وفضيلة الأستاذ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف .

وتعاقب كثير من الخطباء فألقوا كلمات وطنية جامعة عبروا فيها عن إيمان علماء المساجد بالثورة وما حققته للبلاد من عزة وكرامة وهنأوا المسلمين ومصر بنجاة محررها ومنقذها جمال عبد الناصر – وبعد أن أنتهي الخطباء من كلماتهم تليت عدة قرارات.

أولا: التأييد التام لاتفاقية الجلاء التي تحقق للبلاد العزة والكرامة وتمهد السبيل لمستقبل عظيم مجيد.

ثانيا : تهنئة الرئيس جمال عبد الناصر لنجاته من حادث الاعتداء الأثيم .

ثالثا : العمل على تأييد ما نالته البلاد من مثل عليا على أيدي رجال الثورة الأبرار

كلمة الرئيس جمال عبد الناصر

إخواني الأئمة أحييكم وأشكركم على هذه الروح العالية وإنني إذ أنظر إليكم الآن استبشر بالمستقبل وأشعر في نفس الوقت أن الإسلام في أمان . ولن يكون الإسلام نهبا للخداع لقد كنت أسأل نفسي دائما يا إخواني – هل نترك النهب والخداع والضلال يسايران الإسلام كيف شاءوا وكنت أسأل وأسأل هل هذا في صالح الدعوة الإسلامية وكنت أشعر في الوقت نفسه بأن الإسلام يطلب من أهل الرأي وأهل العلم أن يعلموا ويعملوا ليسيروا بهذه الدعوة في طريق الحق . وينقذوها من نهازي الفرص المخادعين المضليين وهذه هي رسالتكن أمام الله وأمام الوطن . ولن نترك الإسلام أبدا لنهازي الفرص وأنتم تعلمون أمام الله وحده هذه الرسالة رسالة نشر الوعي وإنقاذ الدين من هذا الخداع وهذا التضليل هذه رسالتكم في المدن والقرى وفي كل مكان أن تنقذوا الدين من هؤلاء الذين يوجهونه نحو الشر معتقدين أنهم يضللون باسم الحق هذه رسالتكم وهذا هو واجبكم فالوطن يعتمد عليكم في تعريف أبنائه بالدين الصحيح والإسلام الحق والله يوفقكم .

إعفاء الرئيس محمد نجيب

كان وفد الحزب الوطني الإتحادي قد اجتمع أمس 21 نوفمبر بالرئيس جمال عبد الناصر ودام الاجتماع ست ساعات ونصف صدر عقب انتهائه البيان التالي :

لقد اطلع وفد الحزب الوطني الإتحادي على دقائق الأمور وقد كان متتبعا لسير الحوادث التي قادت إلى ظروف الراهنة في مصر وهو مقتنع تماما بأن إجراء تنحية اللواء محمد نجيب عن منصبه كان إجراء لا مفر منه روعيت فيه مصلحة البلاد العليا أولا وأخيرا تلك المصلحة التي ما كانت لتتحقق لو سارت الأمور على ما كانت عليه وقد تلاقت وجهات النظر بين الحسيب النسيب السيد على الميرغني ووفد الحزب الوطني الإتحادي وبين المسئولين في مصر على إقفال هذا الموضوع نهائيا بعد تقديم اللواء محمد نجيب للمحاكمة حتي لا تعطي لأعداء البلاد الذين يتربصون للنيل من وحدة الصفوف وتدمير أهداف البلاد . وإنا نعتبر المبئ تسمو على الأشخاص فالأفراد زائلون والوطن هو الباقي وفق الله الجميع لما فيه الخير والعزة لوادي النيل .

محمد نور الدين : نائب رئيس الحزب الوطني الإتحادي .

إبراهيم المفتي : عضو اللجنة التنفيذية للحزب

الطيب محمد خير : عضو اللجنة التنفيذية للحزب

يحيي عثمان الكورتي : عضو اللجنة التنفيذية للحزب .

جريدة الجمهورية العدد 346

برقية تحذير من واشنطن للأستاذ جلال الدين الحمامصي

عقب وقوع حادث محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في الإسكندرية بخمس دقائق كان الخبر قد أذيع في جميع أنحاء العالم وسمعته أمريكا وأوربا قبل أن يسمعه الشعب المصري !! ومع هذا لا ننكر أن الإذاعة المصرية بذلت مجهودا كبيرا وكبيرا جدا حين أذاعت عقب إطلاق الرصاص بربع ساعة وأذاعت التسجيل الصوتي لهذا الحادث الكبير عقب وقوعه بساعتين !

ولقد استعانت محطة الإذاعة بأربعة خطوط تليفونية لنقل خطاب الرئيس السياسي من الإسكندرية إلى القاهرة وتسجيله وذلك زيادة في الحرص على أن يأتي التسجيل سليما.. والذي لا شك فيه أن التسجيل كان موفقا غاية التوفيق ...وأنه أول نصر صحفي تسجله الإذاعة – وتسبق به كل وسيلة من وسائل الإذاعة ... ولكن الذي لا شك فيه أيضا أن المذيع أصيب كغيره بحالة من الذعر جعلته ينسي تسجيل بعض جوانب الموقف الرهيب .

ولو أنه كان متمالكا لأعصابه لاستطاع أن يسجل على الشريط وفي نفس الوقت وصف الحالة التي كان عليها الجمهور ساعة وقوع المفاجأة وكيف وقف جمال عبد الناصر صامدا متحديا هذا الاعتداء .وكيف كان الرئيس يلقي كلمته التاريخية ... فإن هذا الوصف لو سجل فعلا لجاء التسجيل تحفة فنية .. وقد سجلت سفارة مصر في واشنطن نصرا إخباريا عظيما قبل وقوع هذا الحادث فقد بعثت ببرقية هامة إلى وزارة الخارجية سجلت فيها أن المعلومات التي تلقتها وزارة الخارجية الأمريكية من سفارتها في عمان تفيد أن الإخوان عقدوا اجتماعا هاما في جهة ما يشرق الأردن وأنهم قرروا البدء باغتيال الرئيس عبد الناصر – وأن يكون ذلك إيذانا ببدء " الجهاد الأكبر !!

فتنة بقلم الدكتور طه حسين

رحماك ربي ؟؟ أحمدك اللهم وأستغفرك فقد شاءت إرادتك ولا راد لمشئتك أن تصون الرجل الذي وضع روحه على كفه لا يبغي إلا رفعة أمته وإعلاء كلمتها ورفع شأنها بين الأمم شاءت عنايتك ان ترد الباغي وأن تقهر الخونة وأن تحطم الأشرار حتي يعودوا إلى جحورهم أردت ولا راد لإرادتك أن تظهر حب الشعب " لجمال عبد الناصر " حب الشعب له كانت مصر أكرم على الله من أن يرد ابتهاجا إلى ابتئاس وسرورها إلى حزن ومن أن يحيل أعيادها البيض إلى أيام حداد سود , ومن أن يجزي الخير بالشر والإحسان بالإساءة والمعروف بالمنكر ومن أن يكافئ الوفاء بالغدر والإخلاص بالخيانة والحياة بالموت – فصرف عن رئيس الوزراء ما كيد له من الكيد – وما أريد به من المكروه ...

والحمد لله على أن هذا الكيد الذي كيد قد رد في نحور كائديه فلم تلق مصر منه شرا وإنما كان امتهانا مرا ثقيلا ممضا خرجت منه ظافرة مطمئنة إلى أن الله يرعاها وأن مصر بعض أبنائها في رعايتها ولم يفكر أولئك الممحقون في عاقبة ما حاولوا من الأمر لو تم لهم ما دبروا وأتيح لهم ما أرادوا ولم يقدروا أنه الهول كل الهول الكارثة لتي يعرفون أولها ولا يعرف أحد آخرا .

كان رئيس الوزراء مؤمنا بوطنه حين ثبت لهذا الكيد وحين قال ما قال بعد أن صرف الله عنه الشر بتلك اللحظات القصار فرد الأمل إلى الذين كانوا من حوله وأشاع الثقة في الدين كانوا بعيدين عنه وأشعر مصر أنها أقوي من عبث الجهال وحمق المحمقين .

وقد أصدرت وزارة الإعلام المصري عدة كتب إسمتها ( كتب قومية ) تشوه فيها صورة الإخوان وتزيف تاريخهم وتندد بقيادتهم وفي هذا الشأن أصدرت كتابا في 95 صفحة بعنوان ( هؤلاء هم الإخوان ) بأقلام – طه حسين - محمد التابعيعلي أمين - كامل الشناوي – جلال الحمامصي – ناصر الدين النشاشيبي – كتب كل منهم يفرغ ما في نفسه من حقد على الإخوان ودعوتهم . بأسلوب ماكر نفاقا وتزلفا للسلطة ورضا بكل الإجراءات التعسفية التي تباشرها أجهزة الدولة مخالفة بذلك الدستور والقانون – لقد شاركوا في تمجيد القهر والطغيان المجافي لكل قواعد الحق والعدل والإنسانية وانفردوا وحدهم بتوجيه الاتهامات الظالمة ولم يسمحوا أبدا بأن يدافع الإخوان عن أنفسهم على أى مستوي من الخطابة أو الكتابة ضد هذه الحملة الشعواء المكثفة الملفقة ضد هذه الجماعة بينما أن مهمتهم في الأصل الدفاع عن حقوق المظلومين والمضطهدين الذين لا يملكون حيلة للدفاع عن دعوتهم وأنفسهم .

تمثيلية المنشية

انتشر على لسان الناس في جميع أنحاء مصر " أن حادث المنشية تمثيلية " فقد أدرك الشعب المصري بفطرته أن هذا الحادث مدبر ومصنوع بدقة فإن المقدمات منذ اعتقال الإخوان المسلمين في يناير 1954 تم الإفراج عنهم في مارس تحت ضغط الشعب . ثم توقيع اتفاقية الجلاء في 19 أكتوبر وتنحية الرئيس محمد نجيب عن مواجهة الجماهير .. يكون بذلك قد ثبت قدمه وحمي ظهره من أن يصطدم مع الانجليز حال حدوث مفاجآت حين ينفذ خطته وتخطيطه لضرب جماعة الإخوان المسلمين وهاج الصحفيون والكتاب في حملة مشبوهة عاتية شارك فيها كثير منهم إلا من اعتصم بالشجاعة والحق وقليل ما هم وأصدروا الكتب المزيفة يدافعون عن باطلهم في ظل الطغيان والدكتاتورية والظلم والقهر . وخرج أهل الفن الرخيص يستدرون عواطف الشعب المقهور ,وشاركت الإذاعة في هذه التمثيلية المكشوفة .

الإذاعات الأجنبية تذيع أخبار السجن الحربي

دخل حمزة البسيوني وخلفه مجموعة من جنود الحرس المتوحش مدججين بالسياط وعلى وجوههم صورة من الغضب الشديد فتحوا أبواب الزنازين ودخلوا كل زنزانة يقفون انتباه وهم في صمت ورهبة كان يبحثون عن أى مسمار مثبت في الحائط فينزعوه أو أى حبل فيقطعوه وقد علمنا أنهم يبحثون عن آلات اتصال بالخارج فقد انطلقت إذاعات خارجية تصف الأحداث التي تجري داخل السجن الحربي بصورة دقيقة مع ذكر أسماء الإخوة الذين استشهدوا وأسماء الضباط والجنود الذين يقومون بالتعذيب وكانت هذه الإذاعات تتابع الأحداث الجديدة يوميا مما أثار المسئولين وأزعجهم ومن الظريف أن أحد الحراس قال : إن أحد السادة الضباط قال لهم في إحدي المحاضرات أن هؤلاء الإخوان يمكنهم أن يصنعوا من الصفيح والأسلاك وسائل اتصال بالخارج لهذا يجب أن لا يكون عندهم في الزنازين أى شئ من ذلك .

محنة الخطابات

ورغم دقة وسائل الأمن المصرية على السجن الحربي وشدة الحذر والاحتياط .. فإن الإخوان قد استطاعوا أن يكسروا ذلك الحاجز . فإن كثيرا من الخطابات قد تسربت من داخل السجن إلى أهالي المعتقلين في الخارج – وكذلك خطابات تأتي من الخارج إلى أصحابها في الداخل وظل هذا الأمر يجري يوميا وبانتظام .

فقد أرسلت وزارة الداخلية إلي السجن الحربي – موظفيها ليقوموا بعملية " أخذ بصمات كل معتقل على نموذج .." وتعرف بعض الإخوة على أحدهم ممن أشفق على حالنا مما شاهد من العذاب والامتهان فقبل مساعدتنا في الاتصال بأهلنا ليطمئنوا علينا ولكن الأهالي طمعوا في أن يأتيهم بدليل كتابي يزيدهم ثقة واطمئنانا – ومن هنا بدأت كتابة الخطابات المتبادلة والخيار تتسرب إلى الخارج كان أحد الإخوان يقوم بعملية جمع الخطابات ويذهب إلى دورة المياه – وهناك يقابله هذا الشخص وهو ( أمباشي شرطة) فيأخذ منه الخطابات ويخبئها فيما يسمي ( التزلك) وهو حذاء برقبة عالية ويخرج من السجن ولا يشتبه فيه أحد ثم في المساء يذهب إلى منازل الإخوان يعطيهم الخطاب ويأخذ منهم الرد . فضلا عن السخاء في الضيافة والأجر وظل الأمر على هذا الحال والمنوال حتي حدثت الطامة .

إذ خرجت مجموعة من الإخوة إلى جلسة في المحكمة خارج السجن في حراسة مشددة وكان مع بعض الإخوة خطابات عليها طوابع بريد . قبل أحد الجنود من الحرس أن يتطوع بوضعها في صندوق البريد – ولكن هذا الجندي طمع في أن يأخذ الطوابع لنفسه .. ثم وضع الخطابات في ( صندوق السجن الحربي !!) ونزع طوابع البريد يلفت النظر – فضلا عن أن خطابات البريد الحربي تراقب ومن قراءة الخطاب تبين أن هناك اتصالات سابقه ومتبادلة بين المعتقلين داخل السجن وأهاليهم في الخارج وكانت العبارات المشتركة في هذه الخطابات مكررة – مثل قد أرسلنا لكم الأمانة وخطاب آخر يقول وصلتنا الأمانة – وعرف أسماء أصحاب الخطابات – واستنتج من ذلك أن شخصا من العاملين بالسجن يقوم بهذه العملية واهتزت جميع الإدارات من مباحث ومخابرات وقيادة السجون الحربية واكتشفوا سر هذه الأنباء التي تذيعها الإذاعات الخارجية .

وأعلنت حالة الطوارئ بالسجن - ودخل حمزة البسيوني وشعر رأسه " منكوش" وبيده اليمني ( سوط) واليسري " مسدس" ثم يفتح الزنزانة ويخرج منها أخ يصرخ والسياط تنهال عليه من كل اتجاه وكان أحدهم الأخ الأستاذ عبد المنعم أبو حلوة والأخ حسني كاوتش وغيرهم ولم يقف الأمر عند هذا بل يساقون إلى مكاتب التعذيب وحمزة البسيوني في حالة هياج هستيري يصيح كالمجنون – والسجن يعيش في رعب ... وفي كل لحظة يأخذون أخا لمكاتب التعذيب مساقا بالسياط والركل وظلت أسماعنا مرهفة وقلوبنا واجفة نتوقع المصائب .

وخرجت من بوابة السجن الرهيب سيارة جيب بقوة من البوليس الحربي بقيادة ضابط مهمتها إحضار ( الإمباشي شرطة) المتهم بتوصيل وإحضار الخطابات – ولا يغيب عن مخيلتك الصورة التي استقبل بها وجهنم التي حشر فيها حتي سار قطعة من اللحم مشوهة وقدموه إلى المحاكمة أمام مجلس عسكري ومصيره إلى السجن لا محالة وعلى أثر هذا الحادث تضاعفت وسائل الأمن والحراسة المشددة والتفتيش الذاتي لكل داخل وخارج .

صدر أمر بنقلنا إلى الزنازين

ودخل علينا نحن الأربعة الصولات في حجرتنا الفسيحة التي لا تزال نتمتع فيها بمزايا كثيرة الصاغ حمزة البسيوني غاضبا – نظر يمينا ويسارا ثم لاحظ أن هنا نوافذ تطل على حوش السجن فداخله الشك ثم قال يا جماعة لا داعي لبقائكم في هذه الحجرة يجب أن تزاملوا إخوانكم وتعيشوا معهم وأمر بنقلنا معهم في الزنازين وسمح لنا بالمراتب فأخذناها معنا ومن بعد فقد حرمنا من الصحف والطعام الذي كانا يأتينا من الكلية الحربية وحرمنا من التعامل مع الكانتين .. وبعض الخدمات التي كنا نؤديها للإخوان وصرنا نعامل نفس المعاملة سواء بسواء وكانت فرصة للتعارف مع مئات من الإخوة الذين جاءوا من أنحاء الجمهورية – ومن الإخوة الذين سعدت برؤيتهم من الإسكندرية الأخ أحمد محمد حيدر رحمه الله والأخ عبد المنعم أمين الخوالقة والأخ محمد الأمين رجب والأخ حسني كاوتش والأخ يوسف مصطفى ندا ومن الخواطر النفسية رغم هذا البلاء فقد قلت لإخواني أنني علي استعداد أن أبقي مع الإخوة على أساس أن أعيش في كل زنزانة أسبوعا واحد لأستكمل التعارف معهم وكان عدد الزنازين 300 .

قصة مع الدكتور مصطفى عبد الله رحمه الله.

حين خرجنا من الحجرة ذهبوا بنا إلى زنازين بالدور الثالث – وبينما كنت أنزل إلى ساحة السجن شاهدت الدكتور مصطفى عبد الله رئيس مكتب إداري الإسكندرية سابقا ومدير صحة مدينة الفيوم وجدته يقف بين جنود الحراسة وقد ربطوا في وسطه حزاما وطلبوا منه أن يرقص ... والرجل قد بلغ الستين عاما – ويقف في حرج وخجل ويحاول أن يتخلص من هذا الموقف المؤلم ولكن كيف ؟

وبعد أن أطلقوا سراحه أمكنني أن أهذب إليه في زنزانته ونصحته بأن يتظلم أي مسئول ولا أدري كيف رآني الباشجاويش أمين وعرف الحديث الذي دا بيني وبين الدكتور مصطفي وبعد أن عدت إلى زنزانتي - فوجئت بمجموعة من الجنود يدخلون علىّ في همجية وينهالون علىّ شربا وركلا وأخرجوني وضعوني في زنزانة حبس انفرادي وليس معي أى شئ على الإطلاق - ولا يوجد في الزانزنة ( قصرية ) للبول .. وتبادلوا زيارتي من حين لآخر للضرب والإهانة ويقول حدهم ( يا ابن ... بتحرض الجماعة المدنيين على العسكريين ) وفي هذا اليوم كان عندي إسهال .. ولا حيلة لي !!

وفي الصباح صدر أمر بانضمامنا نحن الأربعة إلى باقي إخواننا العسكريين الذين يعيشون في الدور الأرضي فأصبح عددنا حوالي خمسون من الإخوان من جميع أسلحة الجيش ..

وكانت فرصة يسرت لنا التعرف على مجموعة من الإخوان لم يسبق لنا اللقاء بهم من قبل كما يسرت لنا رؤية مئات من الإخوان الذين لابد لهم من أن ينزلوا إلى دورات المياه الموجودة بالدور الأرضي والتي تقع بجوار الزنازين التي نسكن فيها على كل حال نحن نؤمن أن فعل الله تعالي كله حكمة ( وما تشأؤون إلا أن يشاء الله ) و( وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ).

الإنسان والكلاب والماء

حدثني أحد الإخوان أنهم حبسوه في زنزانة حبسا انفراديا بدون طعام ولا غطاء ولا ماء ثلاثة أيام متوالية حتي أخذه الجهد واشتد به العطش ثم دخلوا عليه ومعهم زمزمية بها ماء .. وظننت أنهم قد تعطفوا علىّ بالماء ولكنهم صبوا الماء على أرض الزنزانة .. وقالوا لي إذا كنت تريد أن تشرب فعليك أن تلحس الماء ولشدة العطش أخذ يلعق الماء كما يلعقه الحيوان .

وكان في السجن الحربي مجموعة من الكلاب كالوحوش مدربة على وسائل معينة من التعذيب ولها أكثر من مدرب .. وكم من الإخوة تعاملت معهم هذه الكلاب بصورة مفزعة وفي أماكن حساسة يستحي الإنسان من ذكرها وهي صور يندي لها جبين الإنسان والزمان ... وفي الوقت الذي يحرم الإنسان من الطعام والشراب نري كيف يؤتي في حوش السجن أمام أعين المحرومين بالكلاب ويوضع لهم الطعام بكثرة من اللحوم وشوربة اللحوم وللأسف الشديد يقوم على تعيين غذاء هذه الكلاب أحد السادة الضباط تكريما وإعزازا . بينما الجميع لا ينال من الطعام إلا العزم والفتات ومن الماء ما يسد رمق الإنسان حتي لا يفقد الحياة .

ولا تعجب إذا قلت لك أن حمزة البسيوني – كلف أحد الأطباء البيطريين من المعتقلين وهو الأخ الدكتور فتحي العجمي ليقوم بالإشراف على صحة الكلاب – وأصبحت زنزانة الطبيب بمثابة عيادة خاصة بالكلاب يبيت معها كل كلب يصاب بمرض يحتاج للملاحظة والتمريض !!

أنواع مبتكرة من التعذيب

يأمر جنود الحراسة أن ينبطح الإخوان على وجوههم على الأرض .. وتقوم مجموعة من العسكر بالجري والقفز على ظهور الإخوان بأحذيتهم الخشنة الغليظة لا يبالون أين تقع أحذيتهم على رؤوسهم أم آم آذانهم وهم يهزأون ويضحكون .

وبعض الإخوة بأسمائهم قد تعرضوا لأفحش وأبشع نوع من الإذلال الكرامة الإنسانية حيث أجريت معهم عملية نفخ من أسفل حتي تكاد الإمعان والبطون أن تنفجر ومثل هؤلاء قد أصيبوا بعد ذلك بأمراض اقلها هو الحلل في التفكير ووظائف مكونات الجسم وسلامته .

وبعضهم كان من ضمن وسائل تعذيبه هو وضع ما يشبه الطوق حول رأسه يقفل على رأسه رويدا حتي يكاد يصيبه بالجنون .

وفي السجن جعلوا من زنزانة بالدور الأرضي ما سموه ( ثلاجة) حيث قاموا بإغلاق نصف ارتفاع باب الزنزاني بالمباني – وملئت بالماء القذر شديد البرودة حيث كان الوقت شتاء ويؤتي بالأخ كيوم ولدته أمه فيقذفوه بها يظل هذا الإنسان واقفا لا يستطيع جلوسا فيغرق ولا منقذ فيخرج ولا طعام ولا ماء . والحارس يرقبه حتي إذا أدركه الهلاك . أخرجوه إلى مكاتب التحقيق ليقول ( الحق ) ويعترف على مالا رأى ولا سمع !!

وذلك ما كان في السجن الحربي .. أما ما حدث من وسائل التعذيب في السجون الأخري مثل سجن مجلس قيادة الثورة . وسجن المخابرات وسجن البوليس الحربي وسجن القلعة وسجن طره وسجن أبو زعبل . فهي وسائل يختلف بعضها عن بعض في الابتكار والإرهاب والقسوة والذين تعايشوا في هذه السجون هم أول وأصدق من يقص ويكتب ما تجرعه وما أصابه من فنون أدوات وحالات التعذيب الرهيب الذي تستعمل فيه وسائل علمية وكيماوية وغير ذلك مما استوردناه من دول الكتلة الشيوعية ...

ملحمة الابتلاء

متابعة للأحداث التي مرت بنا في السجن الحربي يجدر الإشارة إلى القصيدة الرائعة التي للأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي الذي شارك في المحنة بنفسه وعواطفه ومشاعره الحية التي انبثقت عنها القصيدة النونية التي ذاعت في أقطار العالم الإسلامي .

ونكتفي بأن نسجل هنا الأبيات الأولي منها ومن شاء فليرجع إليها في كتاب نفحات ونفحات للدكتور يوسف القرضاوي :

ثار القريض بخاطري فدعوني
أفضي لكم بفجائعي وشجوني
فالشعر دمعي حين يعصرني الآسي
والشعر عودي يوم عزف لحوني
كمقال صحبي : أين غر قصائد
تشجي القلوب بلحنها المحزون ؟
وتخلد الذكري الأليمة للوري
تتلي على الأجيال بعد قرون
ما حيلتي والشعر فيض خواطر
ما دمت أبغيه ولا يبغيني ؟!
واليوم عاودني الملاك فهزني
طربا إلى الإنشاد والتلحين
ألهمتها عصماء تنبع من دمي
ويمدها قلبي وماء عيوني
نونية والنون تحلو في فمي
أبدأ فكدت يقال لي :"ذو النون"
صورت فيها ما استطعت بريشتي
وتركت للأيام ما يعييني
ما همت فيها بالخيال فإن لي
بغرائب الأحداث ما يغنيني
أحداث عهد عصابة حكموا بني
مصر بلا خلق ولا قانون
أنست مظالمهم مظالم من خلوا
حتي ترحّمنا على " نيرون "!
حسبوا الزمان أصم أعمي عنهم
قد نوموه بخطبة وطنين
ويراعه التاريخ تسخر منهم
وتقوم بالتسجيل والتدوين
وكفي بربك للخليقة محصيا
في لوحة وكتابه المكنون

مع الأخ الحاج محمد حلمي المؤمن

كان ذلك يوم 12 من سبتمبر 1955 . حين اشتد العطش بالإخوة على أثر وجبة غذاء من العدس . ومنعوا عنا الماء مدة طويلة ... وكان الإخوة محمد حلمي المؤمن من الإخوة في دمياط والأخ عبد الغني عليان من الإخوة في أسوان يقومان بعملية رض فناء السجن بالماء وقت الظهيرة فشاهد الحراس الأخ محمد وهو يناول أحد الإخوان جرعة من الماء ..

فأمسك العسكري بالأخوين محمد وعبد الغني .. وأوقفهما وجها لوجه وطلب منهما أن يلطم الآخر على وجهه عدة مرات . وكان هذا الأسلوب يتبع حين يصيب العساكر التعب من كثرة ما يقومون به من ضرب الإخوان .

وحين طلبوا من الأخ محمد مؤمن أن يقوم بلطم الأخ عبد الغني . فإذا بالأخ محمد يتحول من ضرب الأخ إلى العسكري الآمر بالضرب فيلطمه على وجهه ويوقعه أرضا ويحاول أن ينتقم منه وهنا أسرع إلى الأخ محمد وقيدوه إلى عامود وسط فناء السجن بعد أن خلعوا عنه ملابسه وانهالوا عليه ضربا بالسياط والأسلاك الكهربائية المجدولة حتي دمي جسمه وهو صامد لهذه المعركة الخائنة وجمع الحرس شملهم وهجموا على كل زنزانة يفتحونها وحدها وينهالوا على من فيها ضربا بالسياط وقطع الخشب حتي إذا أصابوا من فيها أغلقوها – ثم فتحوا غيرها وهكذا حتي انهاروا من التعب وتركوا من خلفهم مصابون منهم من حذع أنفه ومنهم من جرحت أذنه من من أصيب في وجهه ورأسه واشتدت الأزمة واندلع الغضب ... لولا أن أسرع الأخ اللواء معروف الحضري فتصدي للإخوان الذين هاجوا وكادت تكون فتنة تقضي على خير شباب هذه الأمة .. واستجاب الإخوان لنداء أخوهم الكبير اللواء معروف الحضري رحمه الله تعالي .

وسكتوا لينقذوا إخوانهم من مذبحة قد تكون مقصودة وبعد فترة لا ندري ماذا قد حدث ... وإذا بالأمر يصدر وتفتح لزنازين وينزل جميع الإخوان إلى فناء السجن حتي استقر حوالي 2000 جلوسا على الأرض دخل حمزة البسيوني من باب السجن وتوجسنا خيفة وشرا... ولكنه على غير عادته وقف هادئا وصامتا . وهنا وقف فضيلة الشيخ مختار الهايج من علماء [[الأزهر الشريف]] وترجمت كلماته القوية الشجاعة عن شعور الإخوان الأليم ومأساتهم الظالمة التي يعيشون فيها بلا رحمة ولا إنسانية حتي أن الإخوان أمام هذه المحنة التي يقصد بها القضاء عليهم وعلي دعوتهم الشريفة بالفناء . باتوا يفضلون أن يموتوا هنا دفاعا عن عقيدتهم وحماية لشرف دعوتهم ونبل غايتهم كانت كلمة مؤمنة قوية فذة أعادت إلى النفوس توازنها وإلى القلوب العزاء . وبعد ذلك الأخ الأستاذ محمد كمال إبراهيم المحامي وهو من مدينة غمر يتلو بعض آيات من سورة إبراهيم حتي إذا بلغ قوله تعالي ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل كل المتوكلون ) إذ بالعيون تنهمر منها الدموع الساخنة وتشيج القلوب يهز هذا الجمع كله بالرهبة والجلال وما مرت بي لحظة في حياتي اصدق وأمتع من هذه اللحظة . لو أن الله تعالي رضي علينا بلقائه . رحم الله الشيخ الجليل مختار الهايج الذي سجل للدعوة الإسلامية في مواقف الشدة والمحنة مواقف خالدة من الإيمان والشجاعة والثبات وشكر الله للأخ الأستاذ محمد كمال إبراهيم تذوقه وحين اختياره للآيات الكريمة التي نزلت بردا وسلاما على قلوبنا .

محاكمات للإخوان العسكريين

لم تنقض الحكومة الحيلة أو الوسيلة كي تتخلص من الإخوة العسكريين الذين لم تجد لهم تهما تقدمهم بها إلى محكمة الشعب . فقدمت للمحاكمة أمام مجالس عسكرية مركزية حوالي أربعين من صولات وصف ضباط وكانت التهمة الموجهة إليهم :

( كونه منضما إلى جماعة الإخوان المسلمين مخالفا بذلك تعليمات الجيش التي تقضي بعدم تدخل رجال الجيش في السياسة ).

وعقد المجلس العسكري بثكنات العباسية وخرجنا على دفعات بحراسات مشددة وحين اجتمع أعضاء المجلس – نودي على اسمي ودخلن مع الحرس غلى قاعة المحكمة العسكرية حين تليت التهمة الموجهة إلىّ وقلت : أنني غير مذنب وقام المحامي العسكري بالدفاع عني بكلمات لا تقدم ولا تؤخر وإنما هي بمثابة ديكور في تمثيلية المحاكمة ثم استأذنت من القاضي فقلت يا سيدي إن السادة الضباط الذين قاموا ( بالثورة) قد خالفوا قانون الجيش الذي يقضي بعدم تدخل رجال الجيش في السياسة وقلت ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) ولكن أعضاء المجلس لم يعقبوا بكلمة واحدة وانفضت الجلسة خرجت للعودة إلى السجن .

وخارج المحكمة فوجئت بحضور شقيقي وزوجتي ومعها ابني عبد المنعم وكان عمره سنتان ونصف وابنتي محاسن التي قد ولدت بعد الاعتقال ولم يتجاوز عمرها سنة وكنت أراها لأول مرة واستمرت المحاكمات أسبوعا في الوقت الذي لا تزال الحكومة تقبض على مئات الإخوان كل يوم وبدأ بعض الإخوان يحاولون الهروب خارج مصر بشتي الوسائل والطرق .. في الوقت الذي شددت الحكومة الرقابة على الحدود والموانئ والمطارات . وحذرت الشعب من إيواء الهاربين والمطلوبين والتستر عليهم .. وبقينا في السجن في انتظار صدور الأحكام .

التصريح بقبول إدخال الملابس والأدوية

وبعد عدة شهور من المعاناة القاسية سمحت إدارة السجن لأهال المعتقلين بإحضار ملابس وأدوية لأقاربهم .. وكان الأهالي بعددهم الضخم يقفون خارج حدود السجن ناحية العباسية وتقوم سيارة جيش لوري باستلام هذه الأشياء وينادي كل اسم ليأخذ أمانته بعد تفتيشها جيدا .. فلا يسمح بالخطابات ولا المصاحف والكتب وتتكرر هذه العملية كل أسبوع مرتين.. يأخذ الأخ الأمانة .. ثم يرسل الملابس المستعملة وهكذا ومع الدقة في عملية التفتيش والبحث عن الخطابات الواردة داخل الطرود فإن الحيل تغلبت على كل عقبة فإن الكتابة بالقلم الرصاص على القماش الداخلي للياقة والأكمام وغيرها كان كافيا لتوصيل الأخبار الأسرية وغيرها .

بعض الإخوة الذين تأتيهم أمانات من الخارج. تحجز هذه الأمانات في المخازن حيث لا وجود لصاحبها وتتكرر هذه العملية . ولا يدري أهل هذا الأخ أنه أصبح في عداد الشهداء ولا يوجد ولا يستطيع من يبلغهم أحد بذلك وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

يعذبون الإخوان ويأتمنوهم على الأموال

ومن المتناقضات المثيرة للدهشة أن ضابط الأمانات الذي يشرف على استلام المبالغ المالية من أى شخص حين اعتقاله – تراه يوكل أحد الإخوة لمسك دفاتر الحسابات ويقوم بالإشراف على الصرف حين يلزم للأخ شراء أدوية عند العلاج كما كان الإخوان عند الذهاب لاستلام تعيينات الطعام والفاكهة ! هم الذين يتولون التوزيع حتي على قوة حراسة السجن وكان الضابط يقول إنه لا يأتمن غير الإخوان على الأموال والتوزيع .

في نفس الوقت تعجب أن نقيب طبيب من الضباط الأطباء الذين يشرفون على علاج المعذبين في السجن وهو شقيق المقدم علي شفيق الذي يشرف ويباشر بنفسه عمليات التعذيب هذا النقيب كان يكتب روشتات بأنواع من الأدوية للمرضي ثم يقوم هو بنفسه بشرائها وسحب أثمانها من الأمانات الخاص بكل مريض ولا تأخذك الدهشة إذا علمت أن الإخوان قد اكتشفوا أن هذه الأدوية من نوع ( العينة) وبعض الأدوية قد انتهي تاريخ صلاحيتها والقليل صالح للاستعمال .. وحين صارحوا السيد الطبيب بذلك ادعي أن صف ضابط هو الذي قام بالشراء !!

ترحيل المحكوم عليهم بالسجن إلى سجن ليمان طره

وفي كل يوم يعود الذين صدرت ضدهم أحكام أمام محاكم الشعب الفرعية . فالذين صدرت ضدهم أحكام من عشر سنوات إلى السجن المؤبد يرحلون إلى سجن ليمان طره والذين صدرت ضدهم أحكام أقل من ذلك يرحلون إلى سجون المحافظات .. وبدأت مظاهر توديع الإخوان لإخوانهم المغادرون إلى السجون بعواطف جياشة فياضة بروح العاطفة والحب الممزوجة بدموع الأسي والحزن مقرونة بحرارة وخالص الدعاء أن يمنح الله إخواننا القوة والصبر والثبات وأن يجمع بيننا وبينهم في ميادين الجهاد لتحرير الوطن الإسلامي من أعداء الإنسانية والإسلام .

محاكمة نواب صفوي زعيم جماعة فدائيان إسلام في إيران

فى الوقت الذي دبرت للإخوان المسلمين في مصر مؤامرة حادث المنشية – كانت هناك في إيران محاكمات ضد زعيم جماعة فدائيان إسلام ( نواب صفوي ) الذي كان في زيارة جماعة الإخوان في يناير 1954 حيث قد حضر في جامعة القاهرة المؤتمر الذي انعقد للاحتفال بذكري شهداء الإخوان في معركة القنال ( الشهيد عمر شاهين والشهيد أحمد منيسي) وحدث فيه اصطدام بين شباب الإخوان وبعض المدفوعين من شبابا هيئة التحرير – وترتب على ذلك صدور قرار في المساء بحل جماعة الإخوان المسلمين!!

وأقيمت في طهران محاكمات لنواب صفوي وإخوانه مثلما يحدث في مصر .. وأصدرت المحكمة عليه حكما بالإعدام ونفذ الحكم وصدرت الصحف في مصر وعلى صفحاتها الأولي صورة لجثمان الشهيد نواب صفوي بعد أن فاضت روحه إلى بارئها .

محاكمة أبو الأعلى المودودي إمام الجماعة الإسلامية في باكستان

وكما يتم في مصر وفي إيران – فقد قبض على الإمام أبو الأعلى المودودي في باكستان وصدر قرار بحل الجماعة الإسلامية وحوكم أمام محكمة أمام محكمة عليا أصدرت ضده حكما بالإعدام خفف بعد ذلك إلى السجن المؤبد – بعد أن هاجت جماهير الأمة الإسلامية في كل مكان وأصبح من الواضح أن هناك وحدة في التوجيه نحو إبادة قيادات العمل الإسلامي الجاد المنظم في العالم .

مناقشات وآراء بين الإخوان

بعد أن نفذت أحكام الإعدام في قيادات الجماعة ... ويبدو أن الحكومة كانت تنوي التمادي في تنفيذ حكم الإعدام الذي أصدرته المحاكم الفرعية على كثير من الإخوان . لولا هذه الضغوط التي واجهتها من الشعوب والحكومات العربية والإسلامية فتراجعت وخففت جميع أحكام الإعدام إلى أحكام بالسجن المؤبد فقد بلغ عدد المحكوم عليهم بأحكام مختلفة أحكام الإعدام إلى أحكام بالسجن المؤبد.. فقد بلغ المحكوم عليهم بأحكام مختلفة حوالي 800 ثمانمائة ن رجال الإخوان وأودعوا جميع السجون التي لاقوا فيها أشد وأشر أنواع التعذيب ..

وبدأت الأفكار تتفاعل وحرارة المناقشات ترتفع. فمن قائل لو أننا صبرنا على هذه الحكومة ولم نستعجل مخاصمتها ؟ ومن يقول إن الحكومة كان في نيتها الحكم بالشريعة ولكنها تري أن هذه خطوة يجب أن تكون متأخرة حتي تستقر الأوضاع وأن الإعلان عن الحكم بالشريعة يغلق علينا أبواب دول الشرق والغرب كان هذا من أقوال فئة من الإخوان . وهناك فئة تقول لهؤلاء . إن الإخوان أدو واجبهم بالنصح للحكومة وعدم قيامنا بهذا الواجب فيه تخاذل وتراجع عن القيام بالواجب الشرعي . والجماعة قامت أصلا للدفاع عن حقوق الأمة الإسلامية فإذا هي قصرت في الوفاء بالتزاماتها الشرعية فما قيمة وجوده ؟ والمؤامرات التي دبرتها الحكومة منذ شردت القيادات سواء المدنيين والعسكريين إلى أطراف مصر من أسوان إلى مرسى مطروح إلى العريش ثم تدبير الفتنة بين قيادة الجماعة والجهاد السري بقيادة عبد الرحمن السندي ثم قتل الشهيد المهندس. ثم قتل الشهيد المهندس سيد فايز . ثم حل الإخوان في يناير 1954 واتهامنا بالباطل بالاتصالات بالإنجليز من خلف ظهورهم وهم الذين طلبوا ذلك بأنفسهم لتأييد موقفهم أثناء مفاوضة الانجليز ثم حادث المنشية المزيف الذي نعيش في محنته بما لم نسمع بمثلها في تاريخ مصر منذ مؤامرة محمد على باشا والي مصر على المماليك تحت أسوار القلعة فالذي حدث من الحكومة ويحدث علينا وتحت سمعنا وأبصارنا هو دليل بين وقاطع على نية الحكومة العسكرية للقضاء على الدعوة والدعاة وأن الأخلاق التي تتعامل بها معنا على هذه الصورة المجرمة الشائبة لا تؤهلها للمقام الذي ننشده ونسعى إليه لقيام دولة الإسلام وأننا لو كنا تعاملنا مع الحكومة بالصورة التي يرجوها هؤلاء فإن المعركة كانت قادمة لا ريب فيها حيث أن عقيدة هذه الحكومة بالصورة التي يرجوها هؤلاء فإن المعركة كانت قادمة لا ريب فيها حيث أن عقيدة هذه والحرب مخالفة تماما لعقيدة الإخوان وتوجهاتهم ولو قلنا للحكومة أهلا لتريثوا بعض الوقت والحرب للإسلام جد مسدد وهذا ما كشفت عنه الأيام بأكثر مما تحسبنا ولسوف يتضح بما لا يدع مجالا للشك أن جمال عبد الناصر هو صورة طبق الأصل " لكال أتاتورك " الذي قضي على الخلافة الإسلامية .

محاضرات التوعية في السجن

ابتكرت إدار السجن بالتعاون مع المخابرات .. في دعوة بعض العلماء من رجال الأزهر لإلقاء محاضرات على جموع المعتقلين – فيخرج الإخوان إلى فناء السجن ويجلسون على الأرض ثم يأتي المحاضر ويتحدث إلينا عن منجزات الثورة وأهمها مشروع الإصلاح الزراعي واتفاقية جلاء الإنجليز عن مصر وإلغاء الألقاب وزيادة المرتبات وغير ذلك من المستحدثات من قطار الرحمة وفهمنا أن الغرض من ذلك هو عملية غسيل مخ للمعتقلين .

وكان من العلماء الذين تكرر حضورهم لإلقاء مثل هذه المحاضرات فضيلة الشيخ محمد عثمان وكانت كلماته التي يلقيها علينا ونحن جلوس على الأرض الترابية حفاة عراه فينا من الإخوة العلماء الحاصلون على العالمية الأزهرية ومنا الحاصلون على درجة الدكتوراه وفينا المستشارون والمحامون والأطباء والعمال والطلاب في الثانوي والجامعة .. وفينا كبار الضباط والجنود والذين جاهدوا في سبيل الله في فلسطين وعلى ضفاف القناة .

وكان الشيخ محمد عثمان – قاسيا في كلماته متحاملا علينا حتي أنه قد ذكر في احدي محاضراته ( أن من حق الحاكم أن يقتل ثلثي الشعب في سبيل المحافظة على الثلث الباقي ) ومنذ قال الشيخ هذه الكلمات القاتلة . أصبح في قلوبنا أبغض إلينا من جمال عبد الناصر .

وذات يوم جاء الشيخ لإلقاء محاضرته كالعادة وكلنا له كاره . وبدأ حديثه بانفعال شديد وتحدث عن قصة موسي وفرعون وتوسع في الحديث عن فرعون وجنود فرعون وكان يستشهد ويقول ( إن فرعون علا في الأرض وجعل من أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ويذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين ) وشعرنا بأننا لسنا في السجن الحربي بل نحن في المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة لقد ثارت الدماء في عروقنا واستيقظت عواطف والتهبت مشاعرنا ثم أنهي كلمته فقال سوف أدعو فأمنوا على دعائي .. قال ( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك من تبلغنا به جنتك . ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ... اللهم متعنا بأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ..( واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ) ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا ).

كانت ساعة ربانية حين نصيح بأعلى وأقوي صوت " أمين" وخاصة حين كان يقول ( واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادنا) كان ( آمين ) تخترق الحجب تستقبلها الملائكة بالبشري والقلوب بالاطمئنان والأمل ) يالها من لحظات خففت من الآلام ولطفت من حرارة الضيق والغضب.

ماذا حدث للشيخ كيف تغير من حال إلى حال ؟ نعم في أول الأمر قد شحنوا الشيخ بالكراهية ضدنا وأوغروا صدره علينا بما قدموا له من أكاذيب وأضاليل فصدقهم بغير بينة وصد رفي كلماته لنا بما أفسدوه ضدنا من معسول القول زورا وبهتانا وكان عند حضوره لإلقاء المحاضرة علينا يأتي من طريق بعيد عن مكاتب التحقيق فلا يري تلك المذابح التي يشيب لها الولدان ولكنه في هذه المحاضرة ألخيرة طلب مقابلة حمزة البسيوني ولم يتنبه الشاويش فأخذه إلى حيث مكتب حمزة البسيوني .. وفي الطريق شاهد الشيخ بعينيه وسمع بأذنيه مالم يخطر له على بال من وسائل التعذيب الجهنمية المجنونة – مما أحدث له صدمة أفاق بعدها إلى الحق وجاء إلينا مقتنعا فأفضي بهذه الكلمات الحارة العامرة بالإيمان وكانت هذه هي آخر محاضرة يلقيها الشيخ وخير الأمور خواتيمها .

اليوزباشي الشربيني

من الرجال ما يزال حيا في قلوب الإخوان .. فقد ذكر لى أحدهم – أنه وإخوانه حين كانوا يعذبون عذاب الهون وفي أحلك هذه الساعات التي اسودت فيها الدنيا وضاقت بهم السبل .. في لحظة من هذه اللحظات القاتمة - فتحت عليهم الزنزانة وأطل عليهم من يقول ( السلام عليكم .. أزيكم يا رجالة ) فانسابت دموعنا قبل أن ترد السلام ؟ ليس السلام عليكم من كلام أهل السجن الحربي ولا الكلمة الطيبة ولا الابتسامة . إن كلامهم ظلمة وابتسامتهم نكد إن معادنهم من الحجارة جافة ليس فيها شيء من النداوة .. تري فمن هذا صاحب القلب الرقيق هز المشاعر وأسال المدامع – إنه اليوزباشي الشربيني الذي لا نعف من اسمه غير ذلك .

موقف جليل لرشاد مهنا الوصي على العرش

كان رشاد مهنا الوصي على العرش . والذي حوكم أمام مجلس عسكري عال وقتي بتهمة الإعداد لعمل انقلاب إسلامي والحكم بالشريعة الإسلامية وحكم عليه بالإعدام وخفف إلى السجن المؤبد . كان موجودا معنا في السجن مع زميله العقيد حسني الدمنهوري الذي صدر ضده حكم بالإعدام خفف أيضا إلى السجن المؤبد حيث إنه قاد مجموعة من الضباط والجنود لإخراج زميله العقيد رشاد مهنا من السجن الحربي .

كان رشاد مهنا جزاه الله خيرا على صلة طيبة بالإخوان وخاصة البكباشي أركان حرب معروف الحضري الذي كان مسجونا معنا في السجن الكبير وفي كثير من الأزمات المصنوعة من الاستفزاز والتعذيب والحرمان من الماء والتضييق الشديد في الذهاب لقضاء الحاجة مما سبب لنا أمراضا ومتاعب نفسية كل ذلك يسبب لإخوان لحظت من الضيق والاختناق النفسي مما يجعلهم يفضلون الموت على تلك الحياة البائسة الذليلة حتي ليتصور الإنسان أننا مقبلون على ثورة والأمر تجري بالمقادير !!

فكان رشاد مهنا يرسل إلى معروف الحضري من يخبره ويحذره من أن يستجيب الإخوان لهذا الاستفزاز المدبر والمقصود ... حتي يضطرونا إلى مخالفة الأوامر والتجمهر داخل السجن .. فتكون فرصة لإصدار الأوامر بإطلاق النار ويسقط القتل بالجملة ... وكلنا نري الجنود فوق سطح المستشفي التي تواجه بوابة السجن ... وهم يحملون أسلحتهم في وضع الاستعداد في انتظار التعليمات .. وقال رشاد مهنا إن ضياع هذا لجيل المؤمن المجاهد سيكون خسارة فادحة على الإسلام والمسلمين .. ودعانا إلى اليقظة والوعي والصبر والاحتمال ( اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )

يوم الهول الكبير

كان ذلك بعد العاشرة من صباح أحد الأيام في السجن الكبير – حيث أطلق الشاويش الصفارة الأولي فخرجنا من الزنازين ووجوهنا إلى الحائط . ثم أطلق الصفارة الثانية فأسرعنا بالنزول إلى ساحة الحوش ووقف الإخوان البالغ عددهم ألفين أو يزيد وقفنا على شكل مربع ضلعه حوال 25 مترا في أربع صفوف ... وقفنا انتباه بلا حركة والشمس شديد الحرارة والرؤوس حاسرة مضت ساعة على هذا الحال .. ثم جئ بالعروسة وهي الآلة التي يربطون عليها من يصدر ضد حكم بالجلد .. ووضعوها في وسط هذا الجمع وبدت علامات الإجهاد وتساقط بعض الإخوة مغشيا عليهم ولا أحد منا يتحرك ولا احد منهم يقترب للإسعاف مضت الساعة الثانية بعض الإخوة يتبول وهو واقف وبعضهم يستغيث لقضاء الحاجة فلا يستجاب له !! كل هذا والسياط تلهب ظهورنا إذ تحرك منا أحد .

وبعد الساعة الثالثة – دخل السجن ثلاثة قادمون من سجن أربعة يحيط بهم الجنود ومن خلفهم حمزة البسيوني في صورته المتوحشة وكان الثلاثة هم : البكباشي أركان حرب معروف الحضري – والحاج أحمد ذكري – وأووري وهو شاب يهودي معتقل ..وبعد أن وقف الثلاثة أمام العروسة أخرج حمزة البسيوني ورقة قرأ فيها أنه قد حكم على الحاج وذكري وأووري كل واحد منهما بعشرة جلدات وعلى البكباشي معروف الحضري بالحبس الانفرادي وتم تنفيذ عملية الجلد أمامنا .

وقد تبين أن سبب هذه المأساة المريرة التي أوقفونا من أجلها ثلاث ساعات أن حمزة البسيوني قد صرح لكل من من الحاج ذكري ومعروف الحضري ( بمصحف ) وقد ضبط الحاج أحمد ذكري وهو يكتب بين سطور الآيات القرآنية . بعض المعلومات التاريخية التي تحدث في السجن ليستفيد بها بعد الإفراج عنه – أما تهمة معروف الحضري أنه كان يستخدم اليهودي ( أووري) في توصيل بعض الأشياء كالأطعمة والملابس لبعض الإخوة المعتقلين حيث كان أووري يقوم بخدمة الحرس وله الحق في الحركة داخل السجن وكانت هذه هي كل الأسباب التي جلبت لنا هذا الموقف الذي تصورنا أنه قد تقرر أن ينفذ فينا حكما بالإعدام فورا !!

خاطرة الموقف

في الموقف الرهيب الذي سبق على الصورة التي ذكرت من الخوف من المجهول . ومن المفاجآت الشاذة كان يتحكم في هذا الجمع الذي تجاوز ألفين من رجال الإخوان " فرد واحد سواء كان شاويشا أو عسكريا فهو الذي يراقب من يتحرك ليطرد ذبابة تقف على وجهه أو يحاول لحديث مع من بجواره ومن يسقط منهم مغشيا عليه لا يستطيع أحد الالتفات إليه .

شخص واحد يفعل ذلك كله ولا جد من يعترض على تصرفاته لمريضة . ومن هذا ؟ إنه شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم . في هذا الموقف يلتقط الإنسان من آيات القرآن الكريم ما يثبت الله به القلوب وما يؤكد قوله تعالي في سورة المدثر ( فقال إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدرك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر . عليها تسعة عشر . وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو ماهي إلا ذكري للبشر."

حين كنا نقرأ الآية الكريمة كنا نقول : كيف يتحكم في السيطرة على جهنم المهولة التي لا يعلم مداها إلا الله تعالي ؟ كنا نسمع هذه الآية ( عليها تسعة عشر ) فتأخذنا الحيرة وتشتت الأفكار . حين رأينا بأنفسنا وأعيننا في موقف من مواقف الدنيا كيف أن عسكريا واحد يتحكم في هذا العدد من المعتقلين وليس في وسعهم إلا الصمت والامتثال ولله سبحانه وتعالي المثل الأعلى !

الزلزال

أطلق الباشجاويش أمين صفارته فنزلنا جميعا إلى ساحة السجن .. لنقوم بنظافة الحوش ورشه بالماء ويعتبر ذلك بمثابة تكدير أو عقاب نمارسه كل ... وفيما نحن نمارس هذا الأمر إذا بزلزال عنيف يقع في القاهرة ونحسه ونحن جالسون القرفصاء على الأرض .

فيظهر الغيظ على وجه الباشجاويش أمين وهو يقول لنا ( يا أولاد ... لكم عمر ) لقد كان يتمني أن يحدث هذا الزلزال ونحن موجودون داخل الزنازين ومغلقة علينا الأبواب ولما كان البناء قديما فيكون وجودنا بهذا الثقل سببا في انهياره والقضاء علينا!! ولكن الله تعالي لطف بنا وحفظنا ( فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين )

رؤيا تتحقق

كنت شديد الحرص على التعرف على أكبر مجموعة من الإخوان وكان الأخ عماد الدين حسين شرف الدين من هؤلاء – وكان يسكن في زنزانة مع الإخوة الأستاذ محمد فريد عبد الخالق والأستاذ محمد فهمي القراقصي مدير منطقة دمنهور التعليمية .وبعد الفجر قال لإخوانه أنه قد رأي في منامه الليلة أن والده قد توفي إلى رحمة الله وأنه شخصيا قد شارك في تشييع الجنازة فقال له الإخوة إنها رؤيا مطبوعة بالجو الحزين الذي تعيش فيه وطمأنوه وهدأت نفسه . ولم يمض وقت طويل حتي جاء من يستدعيه لمقابلة مدير السجن وهناك قدموا له التعزية في وفاة والده ( موظف كبير في القصر الجمهوري ) وارتدي ملابسه وخرج في صحبة أحد الضباط بالملابس المدينة .. ولازمه حتي استكمل تشييع الجنازة العزاء ثم عاد به مرة أخري إلى زنزانته . وكان هذا الذي حدث مما ضعف حب الإخوان للأخ عماد .

وكالة أبشروا

الرؤيا في السجون هي أبرز ما يتحدث به النزلاء ... وهي شغلهم الشاغل يؤملون فيها كثيرا كما أن هناك بعضا من الإخوة قد اجتهدوا في تأويل ما يعرض عليهم من مثل ذلك وفي مقدمتهم الأخ لكبير الأستاذ محمد عبد الفتاح الشريف وهو من إخوان مدينة دمنهور وكان جزاه الله خيرا بعد أن يستمع إلى صاحب الرؤيا .. يبتسم ويقول ما يكون فيه الأمل والفرج والبشري. وكان كلما تقابل مع إخوة في طريقه إلى الزنزانة يقول لهم : أبشروا ... فأطلق الإخوان عليه اسم ( وكالة أبشروا ) ولقد كان لوكالة أبشروا أثرا طيبا في تهدئة النفوس وترطيب القلوب وكان كل من يصله من الإخوان خبر طيب يبعث به الأستاذ محمد عبد الفتاح الشريف ثم يتولي هو إذاعته على الإخوان . كما كانت له تنبؤات وتأويلات صادقة جعلت الإخوان يستبشرون .

النطق بالحكم على الإخوة العسكريين بالحراسة ووقفنا على شكل مربع في وسطه العروسة ففهمنا أن الأحكام تتضمن عقوبة الجلد . ثم جاء وكيل السجن ومعه بعض الصولات بعد أن تضاعفت قوة الحراسة من حولنا .

قرأ وكيل السجن الأحكام التي تقضي على الصولات – بالحبس لمدة سنة واحدة و35 جلدة والعزل من الرتبة- والطرد من الخدمة العسكرية !!

وعلى جميع الباقي من الإخوة العسكريين – بالسجن لمدة سنتين – و50 جلدة والعزل من الرتبة والطرد من الخدمة العسكرية !!

ثم بدأت عملية تنفيذ الجلد .. على كل واحد بمفرده فكان يقف ملقيا بصدره مادا ذراعيه على العروسة وهو مكشوف الظهر .. ث يقول الصول ياسين أوامر الضباط – حين يقول واحد . ثم يقول – اثنين – وهكذا حتي يتم العدد المحكوم به على الأخ – وبعد إتمام عملية الجلد .. أعادونا إلى السجن الكبير وظهورنا دامية .. وجميع الإخوة في السجن شاركونا شعورنا بالتحية والتشجيع .

بالطبع لم نكن نتوقع أن تصدر في مثل هذه القضايا أحكام بالجلد – لأنها ليست جرائم أخلاقية كما أننا نتحمل كل يوم عشرات من السياط التي تلهب أجسادنا . ولكن ذلك يتم بدون أحكام قضائية! ودل ذلك على بلاده التفكير وضراوة الخصومة وقد جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحذير :" صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " وبالنسبة للأخ الصول محمد عيسي الذي كان قد ضبط في نوبة حراسة للأستاذ المرشد بمنزله وحين صدر قرار حل الجماعة في يناير 1954 وكانت الحراسة بسبب ما حدث من بعض الشباب حين توجهوا إلى الأستاذ المرشد في منزله بتقديم استقالته من منصبه كمرشد عام الجماعة والأخ محمد عيسي من أبناء قرية النجيلة مركز كوم حمادة وقد لاقي كثيرا من العذاب والعنت .. حيث أنه مصاب بمرض ( سيولة الدم المسمي بالهيموفليا) فكان إذا أصيب بأي جرح من أثر الضرب فإنه يظل ينزف حتي تتداركه رحمة الله تعالي ومع ما كان يعانيه فقد آثر أن يقوم ببعض الحركات مثل تقليد أصوات كثير من الطيور وغير ذلك للتخفيف عن إخوانه ولم يلبث أن توفاه الله بعد عام من خروجه من السجن رحمه الله تعالي

الرمان من المكافأة والمعاش عشرون عاما ؟

تطوعت بمدرسة الصناعات الميكانيكية الحربية بالعباسية بالقاهرة في منتصف عام 1939- وتخرجت وعملت بسلاح الصيانة ( مساعد فني ) حتي فصلت من خدمة الجيش عام 1955 فكانت مدة الخدمة حوالي خمسة عشر عاما ونصف وكان قرار الفصل يقضي بحرماني من مكافأة آخر الخدمة وكذلك المعاش .. مع أن التهمة تعتبر تهمة سياسية لا يترتب عليها مثل هذا الإجحاف .

وبعد عشرون عاما كاملة أى في عام 1975 صدر قرار من إدارة السجلات العسكرية طبقا لأحكام المادة 12 من القانون رقم 90 لسنة 1975 بشأن التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة للعمل بقانون رقم 25 لسنة 1978 . قد تم تعديل موقف ( عباس حسن السيسي) إلى معاش يعادل رتبة مقدم فني حتى 30/8 / 1975 !!.. أى إلى معاش الرتبة التي خرج بها زملائي في الجيش حتى 30/8/75 .

وأمام هذه الواقعة يقف الإنسان يستشرف العبرة ويستلهم عون الله تعالي وقدرته فقد يطول بالإنسان الطريق ويشمله الأسي والضيق ولكن عين الله لا تنام ( وما كان ربك نسيا )..

مغادرة السجن الكبير إلى سجن رقم 3

بعد أن نفذت الأحكام على الأخوة العسكريين فقد ترتب على ذلك فصلهم من الجيش وتحويلهم إلى أشخاص مدنيين – وتقرر نقلنا من السجن الكبير إلى سجن 3 – لحين الانتهاء من إجراءات الترحيل إلى السجون المدنية . وعلم عامة الإخوان بأمر ترحيلنا وكيف الوداع في هذا السجن الرهيب والكلام وإلقاء جريمة فكان الذهاب إلى دورة المياه هي الحيلة الوحيدة للقاء بعض الإخوة .. وكانت لحظات قاسية عواطف مشحونة ودموع ساخنة وبكاء مكتوم ونظرات تحمل كل المعاني وكل الأحزان لاشك أن كل إنسان يتمني أن يغادر هذا السجن ولا يعيش فيه لحظة من زمان ولكن أصعب منه وأشق على النفس هو مغادرة هؤلاء الأحباب الذين انصهرت نفوسنا في نفوسهم وذابت ذواتنا في ذواتهم وتعلقت أرواحنا بأرواحهم ودمجت حرارة المحنة كياننا في كيانهم وخرجنا من السجن وعيوننا شاخصة متشبثة بعيونهم حتى تلاشت الظلال في جوف الليل إلى الأمل في لقاء قريب في ظل الحق والقوة والحرية . توجهنا إلى سجن 3 – وقد تحول غلى سجن خاص بالجيش المحكوم عليهم في قضايا عسكرية وتستخدمه إدارة السجن في الخدمات وعمليات النظافة وخصصوا لنا الطابق العلوي ومنعنا من الاتصال بالجنود . والأصل أننا لانرضي أن تكون بيننا وبينهم صلات لما سوف يترتب على ذلك من مشاكل أمنية وأخلاقية من سرقات وغير ذلك .

جهاز مارس

وفي طريقنا إلى سجن 3 شاهدنا مجموعة كبيرة تزيد عن المئتين من شباب الإخوان وهم يقفون في طابور صامت حزين . وقد علمنا أن هؤلاء يشكلون تنظيما جديدا يسمي تنظيم شهر مارس اى بعد حادث المنشية بأكثر من أربعة شهور إذ أن بعض الإخوة إحساسا منهم بواجب التعاون والتكافل فكروا في تشكيل مجموعة منهم تقوم بعملية جمع تبرعات مالية من الإخوان وأصدقائهم ... لتوزيعها على الأسر الفقيرة من الإخوان المعتقلين وهذا عمل خيري تندينا إليه الشريعة والمروءة وفضائل الأخلاق ولكن جمال عبد الناصر لا يرضي عن مساعدة الأسر التي تركها عائلها فجأة دون رصيد من مال أو طعام يسد جوعهم . حتى هؤلاء اعتقلهم بل أصدرت المحاكم ضدهم أحكاما ضدهم أحكاما بالسجن من خمس سنوات إلى خمس عشر عاما .

مظاهرة في محكمة الشعب وليلة سوداء في السجن الحربي

وبينما نحن نغط في نوم عميق . إذا بنا نستيقظ على أصوات مزعجة تنبعث من خارج السجن فقمنا فزعين ولم نرفع أصواتنا بالحديث والتزمنا الصمت الرهيب لأن الصوت المسموع خطر علينا . ولما اشتدت الأصوات بالفزع والرعب حملنا أحدنا على أكتافنا لينظر من خلال فتحات الشباك الصغير ماذا يحدث حولنا في جوف هذا الليل البهيم .

ونزل الأخ لنا, إنه رأي مجموعة تزيد عن ثلاثين من الإخوان( عراة) تماما من كل ملابسهم كيوم ولدتهم أمهاتهم يقفون في صفوف متباعدة وبين كل واحد والآخر مسافة متر أو يزيد ويقف خلف كل واحد منهم جندي مسلح ببندقية ويضع السونكي خلف ظهره – وقد رأي عددا من الكلاب المتوحشة المدربة تدور حولهم تنهش في أجسادهم وهي تنبح وقد رأي أن بعضا منهم ملقي على الأرض على ظهره وعلى وجهه في حالة من الإغماء ورأي حمزة وهو يقود هذه المعركة في ميدان السجن الحربي !! ويقول أنه لم يستطيع أن يتعرف على أى منهم .

وقد علمنا فيما بعد أن هذه المجموعة . حال القبض وهي من الشباب الذي لم يتجاوز العشرين عاما ذهبوا بها إلى إحدي دوائر محكمة الشعب قبل أن تستهلكه طاحونة التعذيب . فملا ووجهوا التهم الملفقة لهم أمام المحكمة , فقد أنكروها بقوة وإصرار. بل سخروا من المحكمة وهتفوا بهتافات الإخوان تحديا للظلم الذي اكتشفوه يقينا فأعادتهم المحكمة إلى السجن الحربي كي ينالوا نصيبهم في طواحين العذاب والامتهان . ثم يعودوا بهم إلى ساحة المحكمة صم بكم عمي فهم لا يبرصون ولا يتكملون !! لقد كانت هذه الحادثة في ضراوتها وبشاعتها وسفالتها آخر نموذج من الإجرام نراه السجن الحربي قبل من حياتنا التي أوقفناها على الدعوة والجهاد في سبيل وإن ظن أعداء الدعوة أن سبيلهم هذا وهو سبيل المجرمين الظالمين سيؤدي إلى طمس الدعوة وتدمير الدعاة وإطفاء نور الله فإنهم جد غافلون واهمون فإن مثل هذه الصور القذرة من التعذيب. إنما تؤجج في نفوسنا النار وتورث في قلوبنا البغضاء للنظام وأنصاره لقد كانت فكرة المعتقلات والسجون والنفي والتعذيب والقتل عندهم لتفتيت الجماعة وتشتيت الشمل وتخويف وإرهاب الناس وتشويه الدعوة وحجب الدعاة .

فكان العكس هو المحصلة – إذ أن هذه المحن المتكررة أقامت البناء والفت بين القلوب ووثقت الروابط ووحدت الأهداف . وأخرجت الفكرة من حيز النظيرة إلى جوهر التطبيق وكشفت معادن الرجال . وأوضحت معالم الخصومة ومخططات الأعداء في الداخل والخارج وحسمت المعركة بكل أبعادها العلنية والخفية والقريبة والبعيدة . وصدق الله بها سنة الله تعالي ( ليميز الله الخبيث من الطيب ) .

الترحيل إلى السجون المدنية

أصدرت محاكم الشعب بكل دوائرها أحكاما بالسجن على حوالي 1000 ألف شخص من جماعة الإخوان المسلمين ورحل جميع المحكوم عليهم إلى جميع سجون مصر .. فأصحاب الأحكام الكبيرة ورحلوا إلى سجن ليمان طرة ثم إلى عشرة رحلوا إلى سجون المحافظات مثل سجن بني سويف والمنيا وأسيوط وقنا وسجن القناطر وسجن مصر ( أرميدان ) ..

ولو استطاع كل أخ له قدرة على الكتابة والتسجيل أن يسجل ما عاشه وما شاهده في هذه السجون السجون فإنه بذلك يقدم الحقيقة الصادقة كشهادة للتاريخ وبهذا نقدم للأجيال القادمة ملحمة تاريخية من واقع الحياة التي عشناها بأنفسنا .

إلى سجن دمنهور العمومي

خرجت من السجن الحربي حزينا لفراق إخواني مشفقا عليهم من الحال الذي يعيشون فيه خرجت بحراسة مسلحة مكيلا من معصمي بالكلابس الحديد.فما وصلت إلى محطة سكة حديد القاهرة شاهدت لأول مرة ( تمثال رمسيس) قائما في ميدان المحطة وركبنا القطار المتوجه إلى دمنهور ولما كان الوقت متأخرا فقد ذهب بي الحرس إلى شرطة بندر دمنهور وتسلمني ضابط القسم وأودعني حجرة خاصة ولم يتحدث معي في أى موضوع إذ لا تزال المحنة قائمة وشديدة في المجتمع المصري وفي الصباح توجهت مع الحرس إلى سجن دمنهور العمومي .. الذي كان الأخ الأستاذ محمود أبو شلوع وهو من مدينة شبراخيت التابعة لمحافظة البحيرة .. قد سبقني إليه منذ أسبوع وتمت إجراءات تسلمي إلى إدارة السجن ثم خلعت ملابسي ووضعتها في حقيبتي الخاصة التي وضعت في مخزن السجن وسكنت مع الأخ الأستاذ محمود أبو شلوع في زنزانة واحدة مع شخص ثالث حيث لا تسمح لائحة السجن بتسكين اثنين معا وإنما تسمح بواحد – أو ثلاثة – ثم وزعتني إدارة السجن إلى المشاركة في خدمات السجن ... وظلت حياتنا هادئة بعيدة عن الخوف والتوتر فالحياة اليومية روتينية منذ الصباح إلى غلق الزنازين في المساء وسمح لنا بالزيارات فزارتني أسرتي وبعض من العائلة .

الفصل الثامن: .الإفـــــراج .مفاجأة الإفراج

وفي عصر أحد أيام الجمعة وبدون مقدمات نودي على أسمائنا في كشف المفرج عنهم بنصف المدة أى بعد انقضاء نصف مدة السجن المحكوم بها علينا – أى بعد انقضاء مدة ستة شهور ولقد كنا في شك من أمر الإفراج لغرابته بالنسبة لظروفنا وتعنت الحكومة معنا أو قل إن إدارة السجن طبقت القرار دون أن تتنبه لوجود عناصر من الإخوان في السجن . أو أن نظام عدم الإفراج عن الإخوان بنصف المدة لم يكن قد تقرر في هذه الفترة كانت مفاجأة لم تخطر لنا على بال !

ذهبنا بالحرس إلى شرطة بندر دمنهور حيث تمت تسليمنا وخشينا أن نبيت هذه الليلة في حجز الشرطة وفي الصباح نعرض على مأمور القسم فيقوم بتحويلنا إلى إدارة المباحث ولا ندري بعد ذلك ماذا سيكون من أمرنا ولكننا بتوفيق من الله استطعنا أن نقنع الضباط النوبتجي أن يقوم بترحيل كل منا إلى بلده وتم سفر الأستاذ محمود أبو شلوع إلى بلده ( شبراخيت ) في حراسة صف ضابط وتم سفري إلى رشيد في حراسة مثله .. وركبت مع الحارس ( قطار الدلتا) من دمنهور إلى ( إدفينا) ولم نجد من إدفينا مواصلة إلى رشيد حيث كانت الساعة الحادية عشر ليلا . فتوجهنا إلى مدينة مطوبس التي تواجه إدفينا ويفصل بينها مجري النيل فرع رشيد وسرنا لأول مرة على قناطر إدفينا التي افتتحها رفعة مصطفي بينها مجري النيل فرع رشيد وسرنا لأول مرة على إدفينا التي افتحها رفعة مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة في عام 1951 .

ثم ذهبنا إلى لوكاندة وأقمنا فيها ليلتنا وفي الصباح الباكر غاد رناها إلى رشيد في سيارة تاكسي .. وأرسلت واحدا من أصدقائي الذي فوجئ بوجودي ليذهب كمقدمة إلى أهلي ليخبرهم بأني قادم إليهم وفعلا لم يصدقوا ذلك حتى وجدوا معه حقيبتي التي أرسلتها معه كي يطمئنوا إلى صدق قوله .فاستقبلوني بحماس وفرحة غامرة وأكرموا وفادة الأمباشي الذي يلازمني وبعد أن قمت باستبدال ملابس .. توجهت مع الحارس إلى قسم الشرطة وانصرف هو حيث يعود إلى دمنهور . وعند قسم الشرطة وجدت بعضا من أسرتي وأهلي وقابلت ضابط المباحث الذي لم يحسن مقابلتي .. فوجدت أن أتعامل معه بطريقة مناسبة فوجدت كرسيا بجوار مكتبه فقمت بالجلوس عليه دون أن استأذن منه – فشعر هو بشئ من الإحراج فلم يحاول التمادي في أسلوبه الجاف ولم تمض لحظات حتى استدعاه مأمور القسم وكان اسمه ( الشكعة بك) فأخذني معه وحال دخولي عليه قام الرجل واقفا ورحب بي ودعاني للجلوس فجلست وبدأ يقول لي أرجو أن تنسي هذا الماضي فهي فترة وانتهت وأرجو أن تبدأ حياة جديدة موفقة إن شاء الله – ثم قال : أنه قد وردت إشارة من المباحث العامة في دمنهور تطلب أن تسافر غدا لمقابلة المدير !

فقلت له إن سفري غدا أمر مفزع لأهلي . فكيف أصل اليوم وأعود غدا ؟ إنني أرجو مهلة يومين أو أكثر حتي أستريح وأطمئن أسرتي ثم بعد ذلك أسافر حيث المباحث العامة فقال الرجل هذا كلام معقول وأنا موافق على ذلك .

وبعد أربعة أيام أعددت حقيبتي بعيدا عن رؤية زوجتي وسافرت مع شقيقي ليرافقني في هذا الموقف – فربما يتم اعتقالي فيكون على بينة من الأمر ولما وصلت إلى مكتب المباحث – قابلني أحد الضباط الذي أخذ يوجه إلىّ بعض النصائح بالابتعاد عن جماعة الإخوان وعدم الاشتغال بالعمل السياسي وحذرني بأنني سأكون تحت المراقبة على الدوام .. وقدم لى استمارة كتبت فيها بعض البيانات وكتبت إقرارا بعدم عمل أى نشاط ثم وقعت ..وسمح لى الانصراف وعدت إلى رشيد تم توجهت إلى السيد مأمور قسم شرطة رشيد لأقدم له الشكر على أخلاقه الفاضلة .

ومنذ غادرت رشيد أواخر عام 1934 في الدراسة والعمل وأعود اليوم كي أستقر بها وأباشر حياتي ف يعمل جديد ... لم أحدد نوع هذا العمل إلى الآن .. فالذي يشغلني هو هو البحث عن مسكن لأسرتي التي ظلت تعيش في منزل أسرتها وفي ضيافتها منذ اعتقالي إلى الآن .. ووفقت إلي شقة تجاورهم حتي انتقلت إلى شقة في منزل العائلة الجديد بشارع الشيخ قنديل وفي الشهور الأولي حدث أنني توجهت إلى مسكني المجاور لأصهاري ووضعت المفتاح في باب المسكن ولكن تعذر علىّ فتح الباب ومضيت أمشي في الشوارع المجاورة أبحث عن مسكني الذي ضللت عنه حتى قابلني أحد الأصدقاء فصاحبني إلى نفس مسكني الأول وقام هو بفتح الباب . وكنت في هذه الأيام لا أطيق الأصوات العالية ولا الضجيج وعشت فترة طويلة حتى تأقلمت مع الأوضاع ولا يفوتني أن أشير إلى أن الذين حضروا لزيارتي والترحيب بي بعد هذا الغياب وتلك المحنة عدد لا يتجاوز العشرة فالناس في خوف شديد ممن الاتصال بنا ولا تزال الإذاعة والصحافة تشن حملات التشويه والإساءة إلى الدعوة والدعاة .ورجال الأمن يتابعون تحركاتنا ويرهبون الناس من الاتصال بنا .. ومن ناحيتي فإني قدرت الظروف التي يعيش فيها الناس .

استقرار في المنزل

بدأت حياتي مع أولادي في السكن الجديد لا يعكرها سوي عدة أمور الأمر الأول أن أبنائي عبد المنعم في الرابعة من عمره ومحاسن في الثانية لم يتجاوبا معي ويرفضان مجالستي والحديث معي وكلما شددتهما إلىّ صاحا بالبكاء والابتعاد والنفور . وبمساعدة الأم وشراء أدوات اللعب والهدايا وتوالي الأيام هدأت حالة الجفاء حتى صارت هينة لينة .

أما الأمر الثاني ... فإن بعض الناس كانوا يقابلوني مقابلات جافة وبحذر دون أن يدخلوا معي في أحاديث .. وبعضهم كان يلمز ويغمز .. و وقليل من كان يزورني.

أما الأمر الثالث : فكان شدة الحرج حين كنت ألتقي بأقارب أحد الإخوة الذين زالوا في السجن أو المعتقل . كنت أشعر بالخجل ( كيف تركت إخواني ) يعذبون ويحرمون من أسرهم وأولادهم؟ ولم يكن إلى هذا الوقت قد تم الإفراج إلا عن بضع من الإخوان المعتقلين والإخوة العسكريين الذين أنهوا مدة الحكم عليهم بالسجن لمدة عام وصدر قرار بالإفراج عنهم بعد قضاء نصف مدة الحكم .

أما الأمر الرابع :فكان البحث عن عمل بعد أن فصلت من وظيفتي ولا يسمح لي بالعمل في مؤسسات الدولة ولما كنت حاصلا على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية ودرست ميكانيكا هندسة السيارات. فإني قد اتجه تفكيري إلى العمل في هذا النشاط الجيد . ولكن القدرة المالية لم تكن جاهرة ..

معمل لصناعة ألبان

وكان في رشيد صديق قد بدأ في إنشاء معمل في الدور الأرضي من منزله لصناعة الألبان ( جبنة بيضاء وجبنة رومي ) ورغب في أن أشاركه وحررنا عقدا واتخذنا كل الإجراءات القانونية في هذا الشأن واستمر العمل يسير طبيعيا حتي عرض علينا بعض الأصدقاء أن نستثمر لهم بعض أموالهم فتضاعف رأس مال الشركة وأصبح من اللازم أن نضاعف الإنتاج لتزداد قيمة الأرباح ولابد أيضا من زيادة العدد والآلات من أحواض وأفران وأحواض خشبية وفناطيس وسيارات نقل الألبان في أوسع مساحة من القري والكفور المجاورة في مسافة تبعد عن رشيد 25 كيلو مترا جنوب وشرق وغرب رشيد .. مرتين يوميا صباحا ومساء . وكذلك مضاعفة العمال وغير ذلك من مستلزمات كالملح والمنفحة .. كما يجب ان يكون محل العمل فيه سعة كافية لاستيعاب هذه الإضافات الجديدة . حيث كانت كمية الألبان التي كانت تصنع سابقا حوالي 1000 ك والآن زادت حتى صارت 2000ك. ومساحة المكان ظلت كما هي – مما أثر ضيق المكان في سوء الإنتاج وعدم إعطائه حقه في مدة التسخين وتذويب الملح .. وسرعة التصنيع لملاحقة كمية اللبن خوفا من أن ترتفع نسبة الحموضة ويصيبها التلف .. وأما ضغط كمية الألبان – فقد تعاقد معنا أحد التجار لتصنيع ( ألف صفيحة جبنة بيضا سعة 12 أق ( 15 كيلو) وكان ثمنها 200 قرشا لا غير .. وأدخلنا هذه الكمية في احدي ثلاجات مدينة الإسكندرية واستلمنا قيمتها وفي فصل الصيف ذهب هذا التاجر ليتسلم الكمية ليبيعها .. ولكنه فوجئ بأن العبوات منبعجة وبعضها منفجر وان كميات الجن تالفة وطعمها مر ( وأعادها التاجر لنا ودفعنا له قيمة ثمنها وحاولنا بكل الوسائل العلمية والبديلة لتغيير طعم ومذاق الجبنة دوني جدوي .

الأسباب الفنية التي تسببت في هذه الخسارة

أول سبب كما ذكرت هو ضيق محل العمل وعجزه عن استيعاب أكبر من مساحته ثم تبين أن الألبان لم تأخذ درجة تسخين مناسبة للتفاعل مع المنفحة وتبين أن المنفحة التي استعملت في تجبين الألبان كانت قديمة ومفعولها كان ضعيفا .

وتبين أن الملح إلي استعمل كان جديدا وطعمه مرا ونسبة الرطوبة فيه عالية كل هذه الأسباب مجتمعة أو بعضها كان سببا مباشرا لإفسادها .

تصفية الشركة

وأما هذه الخسارة رأي شريكي أن من الضروري تصفية الشركة وانسحب هو والتزمت بمتابعة العمل وحدي بعد أن حررنا العقود اللازمة وأرسلت على أحد الإخوة بإسكندرية فأقرضني 150 جنيها بدأت بها من جديد . على أساس أني أوقفت العمل مدة حتى أدرس السلبيات والإيجابيات – وقمت باختبار موردين الألبان الحسني السمعة وقللت الكمية إلى 500 كيلو فقط ...

آية ربانية

حين أعلنت عن موعد افتتاح المعمل – كنت في شك من عودة الموردين لأن فشل الشركة لا يشجع على التعامل – وفي صباح الافتتاح – فوجئت بسيارة نصف نقل تحمل عشرة فناطيس من اللبن قادمة من مزرعة الحكومة من منطقة تسمي البوصيلي وكانت كمية الألبان حوالي 300 كيلو – لبن بقري ( فريزيان) كانت مفاجأة من تدبير الله تعالي والقصة أن الحكومة قد استوردت عددا كبيرا من البقر الفرزيان وأرسلته إلى مزرعة البوصيلي التي تبعد عن رشيد حوالي ستة كيلو غربا ولم تكن الوزارة قد أعلنت عن مناقصة لبيع كمية الألبان التي لابد أن يتم حلبها يوميا صباحا ومساء وكان الدكتور عبد المنعم عامر وهو المسئول البيطري عن منطقة رشيد يعرف ظروفي فأرسل كمية الألبان إلى رشيد حتي يتم عرض المناقصة على عموم التجار ومن الجدير بالذكر أن هذه الكمية تمتاز بخصائص جيدة إذ أنها جاءت من مصدر واحد ونظيف ونسبة الدهن حوالي 4,5% وأن المسافة إلى رشيد لا تزيد عن ربع ساعة مما يساعد على سلامتها وأن قيمة ثمن هذه الألبان يدفع نهاية كل أسبوع وقد تحقق في مدة التوريد وهو شهر واحد من الأرباح مما ساعد على تغطية الديون والمصاريف ... ثم بدأت في عمل إجراءات ترخيص المعمل باسمي بعد أن تنازل شريكي عن ذلك رسميا .. وتغير اسم الشركة ( شركة منتجات رشيد) حيث اعتزمت على تعبئة – العسل النحل – الليمون المملح – السردين المملح . وخلافه .

الدكتور عوض الدحة

حين نزلت رشيد كان الدكتور الأديب عوض الدحة هو جراح مستشفي رشيد الأميري وقد استقبلني استقبالا حسنا وكان مثالا للطبيب الإنسان الذي يقدم خدماته لعموم المرضي دون النظر إلى مستواهم الاجتماعي فهو لا يأخذ أتعابه إلا على ضوء ظروف المريض المادية وأحيانا يذهب إلى المريض في بيته فيري من حاله ما يجعله يتنازل عن الأجر . وربما يرسل له بعض ما عنده من دواء وكن محبوبا من أهالي رشيد حتي أنه يوم غادرها منقولا إلى كوم حماده ودعه الناس متأثرين لفراقه هو والسيدة الدكتور حرمه طبيبة العيون وهو الآن مديرا لمستشفي المنيا الأميري . جزاه الله خيرا .

الوفاء

لم تمض أسابيع حتي توافد على زيارتي في رشيد بعض الإخوة من ميدنة العريش على رأسهم الأخ الكريم الأستاذ محمد القصاص وكان لهذه الزيارة أريحا طيبا فقد عشت في رحابهم وبني قلوبهم عاما كاملا تذوقت فيه معني الحب الصادق وكان يسعدنا بجلساته الطيبة فضيلة الشيخ عبد المنعم تعليب واعظ المحافظة وكان بيته منتدي لكل القلوب .

كما سعدت بإخوة كرام وفدوا من مدينة أسيوط على رأسهم الأخ الكبير الحاج محمد عبد الحافظ النشار الذي يحمل قلبا كبيرا وصلابة في الحق لا تلين .

طلائع الجيل الجديد

وفي وسط هذا الظلام الدامس من الكبت والخوف والقلق جاء لزيارتي مجموعة من شباب كلية هندسة إسكندرية في رحلة بالدراجات وكان على رأسهم الدكتور أحمد فريد مصطفى عميد كلية الهندسة والعمارة بالدمام بالسعودية والدكتور عبد الفتاح الجندي رئيس قسم الأمراض الجلدية بمستشفي الملك بالمدينة المنورة كانت صورة الشباب المؤمن مثيرة إنها زهور ناضرة ووجوه مستبشرة تحيي الأمل تعين على الصبر والثبات ولا أنسي الأخ الكريم المهندس يوسف مصطفى ندا وهو محضن هذه القلوب الطاهرة .

أوامر للصحف بعدم ذكر اسم الإخوان المسلمين

ورغم الأصداء العالمية في الشرق والغرب حول هذه المحنة الضارية التي ملأت أخبارها الشرق والغرب في جميع وسائل الإعلام. ورغم وجود أكثر من ألف من رجال وشباب الإخوان المسلمين يرسفون في أغلال القيود الثقيلة المريرة المسلسلة في أقدامهم ويق5ومون بالأشغال الشاقة في قطع في قطع الأحجار الضخمة في جبل سجن ليمان طرة – ورغم مئات الإخوان المنفيون في سجن الواحات الخارجة في أعماق صعيد مصر لإبعادهم عن أهليهم لتعذر الوصول إليهم رغم أن اسم الإخوان المسلمين غطي مساحة العالم فإن الحكومة أصدرت أوامرها بعدم ذكر اسم الإخوان في الصحافة وكل وسائل الإعلام - كي تطوي اسمهم في عالم النسيان وإذا ذكرتهم وكالات الأنباء العالمية في أى مناسبة خارج مصر – فإنها تضطر أن تذكر فقط كلمة ( الإخوان ) ولا تذكر الإخوان المسلمون .

الإفراج عن الإخوة المعتقلين

وحين انتهت الحكومة من تنفيذ مخططها في ضرب جماعة الإخوان وشعرت باستقرار أوضاعها بوسائل الرعب والإرهاب ... بدأت مرحلة الإفراج عن الإخوة المعتقلين في السجن الحربي بأن خففت عنهم الطوابير وسمحت لهم بالرياضة والتعامل مع الكانتين ثم سمحت بالزيارات وبعد أن تحسنت صحتهم عن طريق تواجدهم في الشمس والمشي والرياضة قامت بترحيلهم مجموعات إلى سجن القلعة للترفيه عنهم توطئة للإفراج عنهم .

تأميم شركة قناة السويس

وفي ميدان المنشية أيضا خطب جمال عبد الناصر 26 /7/ 1956 ومن هناك أعلن تأميم شركة قناة السويس واشتعلت الحرب بين الجيش المصري على أرض مدينة بور سعيد وجميع مدن القنال وبين جيوش انجلترا وفرنسا وإسرائيل واحتلت إسرائيل عموم أرض سيناء وخطب جمال عبد الناصر على منبر الجامع الأزهر مستنجدا بمسلمي العالم شعوبا وحكومات .

وكانت هذه الحرب سببا في فتنة وقعت بين المساجين الإخوان في سجن طره وسجن الواحات – بعض الإخوة أبرق إلى عبد الناصر يبدي رغبته في لتطوع للدفاع عن لوطن وبعضهم تحفظ وامتنع عن إبداء رأيه . وبعضهم الآخر عارض فكرة التطوع باعتبار أنه مسجون والمتطوع لابد أن يكون حرا .

ومن تدخل ( الفقه) هل نحن جماعة من المسلمين أو جماعة المسلمين هل هذه دار حرب أمن دار إسلام ؟! وأخذت كل فئة تدلل عن وجهة نظرها في بطون الكتب وآراء الفقهاء وبدأ رجال المباحث حين قامت المباحث بالإفراج عن بعض المؤيدين للحكومة طمعا في تشجيع غيرهم . ثم توقف الإفراج . وكانت محنة شديدة في طريق جهاد الإخوان ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) .

الأخ مجدي عبد العزيز متولي

زارني في رشيد الأخ المهندس يوسف ندا وفي صحبته الأخ مجدي متولي الطالب بكلية العلوم والذي أراه لأول مرة – هو شاب وسيم غاية في الأدب والحياة والرجلة تعارفنا وتآلفنا وتكررت الزيارات والحديث في الدعوة وواجبنا نحوها في هذه الظروف – وتبادلنا الزيارات في الإسكندرية وتعرفت إلى بعض من أصدقائه من الشباب الذين يتعاطفون مع الإخوان. ويتحركون في صورة زيارات ومقابلات أكثرها فردية ليس فيها اتجاه حركي أو تنظيمي ولكن هي مجرد عاطفة تجمع هذه القلوب وبعض هؤلاء قد هاجر من مصر لى الخارج وبقي هناك إلى الآن ولم يفكر في العودة أو مجرد الزيارة .

الأخ محمد فؤاد إبراهيم

زارني في رشيد الأخ المهندس محمد فؤاد إبراهيم وهو من الإخوة القدمي وله معي تاريخ في حركة الإخوان ... وكان معه الأخ المهندس عبد الحميد يونس الذي هاجر إلى أمريكا منذ ثلاثين عاما – وتحدثنا في شئون دعوتنا وواجبنا نحو أسر الإخوة المسجونين – وتعاهدنا على اتصال ببعض الإخوة تجمع منهم زكاة أموالهم كي نردها على إخوانهم وقبل أن نبدأ تنفيذ هذا المشروع 0 قام الأخ مجدي متولي بدعوة مجموعة من أصدقائه كان من بينهم الأخ محمد فؤاد إبراهيم في منزله على حفل شاي وبلغ أمر هذا الحفل إلى المباحث – التي استدعتهم للمساءلة وبهذا انقطعت الصلة بيننا . الدعوة في رشيد.

في عام 1956 وما قبله وما بعده لا يمكن أن تسمع إلا مديحا في جمال عبد الناصر بعد عمليات الإعدام والسجن والاعتقال والمباحث والمخابرات والرعب ولقد كنت أسير في الطريق وأسمع بأذناي السب والشتم في شخصي ولكن كنت أتجاهل ذلك وكأني لم أسمعه .. فكيف في مثل هذه الظروف أستطيع أن أتحدث إلى الناس في ما جري للإخوان والناس تقول ( الحيطة لها ودان ) ورغم أن الناس في مثل هذه البلاد لضيقة أكثرهم أقارب وبينهم صلات مودة ولكن الكلام يجري وليس له حدود أو ضوابط .

وكان هناك مدرس ثانوي من خريجي الأزهر – يتطوع لإلقاء خطبة الجمعة في أى مسجد يختاره – فإنه حين يدخل أى مسجد فإن الإمام المسئول يقدمه لخطبة الجمعة خوفا ورعبا – وتكون خطبة الجمعة تمجيدا في شخص جمال عبد الناصر – الذي كان يطلق عليه نبي الوطنية ومنقذ الإنسانية ومن طبيعته أن لا يعلن عن المسجد الذي يعتزم الصلاة فيه . ويأتي إليه قبل الأذان بدقائق ..وكان بعض سائقي سيارات التاكسي حين يشاهدونه يدخل المسجد يقومون متوجهين إلى دورة المياه ويخرجون من الباب الخلفي إلى مسجد آخر وهكذا كان من الصعب الحديث عن ظروف الإخوان ودعوتهم حيث علا ضجيج الإعلام والمسرح والسينما والأغاني – وكانت الإسكندرية في ذكري 23 يوليو من كل عام تصرف آلاف الآلاف من الجنيهات تدفعها الشركات والمؤسسات في إقامة البوابات الضخمة المضاءة بالأنوار المكثفة وتنشد موسيقي البوليس وتسير فرق الكشافة والمزمار البلدي – وتوضع أجهزة التلفزيون في كثير من الميادين لتكون وسيلة لتجميع الشعب حولها فضلا عما تقوم به كل الصحف والمجلات وخاصة جريدة الأهرام التي كان يشرف عليها الأستاذ محمد حسنين هيكل وخاصة في مقاله الأسبوعي( بصراحة ) .

ولا أنسي أنه ذات مرة جاء يوم ذكري مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ( مولد لينيين) فاحتفل بذكري مولد لينين بصورة غطت على فرحة المسلمين بذكري مولد نبيهم عليه الصلاة والسلام .

الفصل التاسع: حادث ليمان طره والطريق إلى التنظيم الجديد

في حادث ليمان طرة

في صباح يوم السبت 3 ذو القعدة 1367 – أول يونيو 1957 كانت مذبحة سجن ليمان التي جاء ذكرها من قبل .. وفي صباح اليوم التالي قرأت على صفحات جريدة الأهرام – نبأ يفيد – أنه قد حدث تمرد من المسجونين في ليمان طرة واضطرت الإدارة أن تقابل هذا التمرد باستعمال القوة فأصيب بعض المسجونين وبعض العساكر من الحراس وأحسست في هذه اللحظة أن هذا الحادث كان موجها إلى الإخوان – وأن الأمر أكبر وأخطر من هذه السطور المرتجفة .

وتابعت واستمتعت إلى الإذاعات العالمية التي ذكرت تفاصيل الحادث الوحشية التي أدت إلى قتل واستشهاد اثنين وعشرين شهيدا من خيرة شباب المسلمين فضلا عن اثنين وعشرين جريحا – فضلا عن معركة التعذيب الجماعي الذي استمر شهورا في سجن القناطر الخيرية الذي ذهب إليه هؤلاء الضحايا .

فقدت وعيي

حين استمعت إلى تفاصيل هذا الحادث المروع في بيان أذاعه الدكتور سعيد رمضان من إذاعة الأردن – عدت إلى منزلي مروعا لا أقدر أن تحملني جلست شارد الذهن في حالة من الذهول – كيف قتلوا إخواني ؟ ولماذا قتلوهم ؟ وكيف يكون مصيرنا بعدهم – هل صرنا حشرات لا يؤبه لها هل بقي لنا في الدنيا من شئ نبكي عليه .. وفيما أنا تائه في هذه الفجيعة فقدت وعيي .. وصاحت زوجتي وأسرع والدي ووالدتي وكل أهلي فزعين مرعوبين – فتلك كانت حياتنا على الدوام . وأسرعوا حيث جاء الدكتور عوض الدحة الذي طمأنهم بأن الحالة هي صدمة عصبية – وكان الذي جاء بالدكتور هو الأخ المهندس يوسف ندا حيث جاء لزيارتي في هذا الوقت فأسرع لنجدتي واستمرت الحالة في تفكير مستمر حيث وجدت نفسي إنسانا أعزل لا أملك وسيلة أظهر بها غضبي واحتجاجي !.

حادث طرة أيقض الإخوان

لم أكن وحدي الذي صدم بهذه المصيبة – لقد شاركني عشرات بل مئات من شباب الإخوان هذا الشعور وأشعل هذا لحادث المروع حماسهم وجمع صفوفهم لقد بات كل أخ معنيا بالقتل والتصفية سواء عاش قريبا من الدعوة أو بعيدا عنها إن المصير قد تقرر – وعلى هذا وبهذا الشعور الملتهب – بدأ كثير من الشباب سواء من الإخوان أو من غيرهم يفكر في العمل وبدأ كل أخ في كل مكان يفضي بما في نفسه لأخيه فيجد عنده نفس الاستعداد ونفس التضحية وبدأت مشاعر الإخوان تلتهب لتستأنف الجهاد من جديد وزارني في منزلي برشيد الأخ الأستاذ محمد عبد الفتاح الشريف من الإخوة في دمنهور ومعه الأخ الكريم عبد الرحمن عبد الصمد . وجلسنا نستعرض الموقف من كل جوانبه – واستعرضنا ماذا يمكن أن نعمل لخدمة الدعوة في هذه الظروف التي لم ترع فينا الدولة إلا ولا ذمة – وتناصحنا بأن لا تشنا هذه الأحداث إلى نزوات العواطف ولابد من دراسة صابرة متأنية على منهج الإخوان حتى لا تتكرر محنة 1954 وبدأنا في التفكير في تكوين جيل جديد على نهج دعوة الإخوان وحددنا لذلك خمس سنوات كخطوة في التربية .

انقلاب في دولة الأردن

سمعت بعد حادث ليمان طره .. أن سببه ودوافعه هو الرد على جماعة الإخوان في الأردن – حيث أن الإخوان هناك قد اكتشفوا أن بعض قيادات الجيش في الأردن على وشك عمل انقلاب ضد الملك حسين – فقاموا بإبلاغ الملك الذي قام بدوره بالقبض على جميع الضباط ومن كان معهم على هذا الأمر – وانكشف المؤامرة فكان من جمال عبد الناصر أن صنع هذا الحادث انتقاما من الإخوان المسلمين !!

الأستاذ محمد عبد الفتاح الشريف

بدأ الأستاذ محمد الشريف جولة في بعض المحافظات لتكوين جبهة موحدة اتجه إلى الإسكندرية حيث استطاع أن يكون مجموعة من الشباب .. حدث هذا دون أن يعود لمقابلتي مرة أخري وطال غيابه – وفي نفس الوقت قد شغلت بعملي التجري الذي استنفذ كل وقتي ليلا ونهارا حيث أنهض في الصباح المبكر و أ‘ود في منتصف الليل مما جعلني أعيش حياة صعبة وجافة – وكانت زوجتي هي الوحيدة التي تتابع الإذاعات العالمية وتعطيني صورة عن الأحداث وخاصة بما يتصل بدعوة وحركة الإخوان .

اتحاد سوريا مع مصر

كانت الوحدة التي تمت بين سوريا ومصر عام 1958 حدثا تاريخيا أثار هزة عنيفة في العالم العربي لقد قابلت قيادات الدول العربية هذا الحديث بحذر شديد ولا سيما الدول التي تقع على حدود سوريا وقد استقبل عبد الناصر من شعب سوريا استقبالا شعبيا فوق الخيال ولعله كان الأول والأخير ( فما طار طائر وارتفع إلا كما ارتفع وقع ) .

ولقد قابل الإخوان في سوريا هذه الوحدة بشئ من الخوف والقلق إذ لا يغيب عن ذاكرتهم ما يحدث لإخوانهم في مصر وما قد يكون في مستقبل أيامهم من نفس المصير .

ولن ينسي عبد الناصر ما قام به الإخوان في سوريا من برقيات إحتجاج مظاهرات شعبية عارمة ضد أحكام الإعدام والسجن التي أصدرها إخوانهم في مصر .

بعض الإخوة شعروا بالمرارة والآسي من غفلة الشعب السوري عن مخططات عبد الناصر التي تهدف إلى ضرب الاتجاه الإسلامي ولن تفلت سوريا من هذه المؤامرة وانتصارات جمال عبد الناصر في الوحدة مع سوريا هي فاتحة القائمة لانضمام دول عربية أخري مثل العراق والإخوان في مصر يعرفون نوايا أهداف عبد الناصر. ولكن وسائل الإعلام تضلل وتخادع الشعوب العربية حتي تفتح الطريق أمام الطاغوت . ولقد بلغ تعلق بعض الشعوب العربية بشخص جمال عبد الناصر وافتتانه به مبلغا أثار قلق المنطقة العربية وتجاوزها إلى المشرق والغرب وحدثني أحد الإخوة من علماء الأزهر الذين أوفدتهم وزارة الأوقاف واعظا إلى بيروت في لبنان أنه خطب الجمعة في احد مساجد بيروت وفي نهاية الخطبة لم يتوجه بالدعاء للرئيس جمال عبد الناصر ويقول أنه بعد انتهاء الصلاة – قام المصلون يتشاجرون معه – كيف لم يدعو في نهاية خطبته للرئيس جمال الناصر ! فقام بينهم خطيبا وقد أمسك بيده ( جواز السفر ) وقال أيها الناس . هل أنتم أحق منا بجمال عبد الناصر وهو منا ونحن ومنه إنني من مواليد القاهرة عاصمة دولة عبد الناصر !! ولولا أن أسعفه الله بهذه الكلمات لأوسعوه لكمات . هكذا استطاع دولاب عبد الناصر ووسائل إعلامه بما تستنزف من أموال المستضعفين أن يخدعوا هذه الشعوب ويغرروا بها .

أما الإخوان في السجون التي يلاقون فيها الأهوال والمحن فضلا عن التنكر والمجافاة والحرمان وعوامل الإذلال وبث روح اليأس وقتل الأمل في نفوسهم – رغم كل هذه المرارة و الشديدة – فإن إيمان الإخوان بأنهم على الحق المبين وأن دعوتهم سوف تنتصر ولو بعد حين وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .

محنة ابني معاذ وفضيلة المرشد العام

رزقني الله تعالي بمولود أسميته معاذ .. وحين بلغ عامه الثاني أصيب بمرض ( شلل الأطفال) وكانت مفاجأة شديدة وقاسية وكانت ظروفي المادية في هذا الوقت محدودة للغاية وهذا المرض يحتاج إلى مصاريف كثيرة – توجهت للإسكندرية لعمل جلسات العلاج الطبيعي ونزلنا ضيوفا عند أسرة كريمة من أقاربنا ..

وعلم فضيلة الأستاذ المرشد الذي كان ينزل في الصيف في المندرة احد أحياء مدينة الإسكندرية . بحالة ابني معاذ فدعاني لزيارته .. فتوجهت إلى مسكنه فوجدت عليه حراسة من قوات الأمن – فلما اعترضوني – قال لهم فضيلة المرشد أنه دعاني لزياراته وكان لقائي بالأستاذ المرشد وجلوسي معه من العوامل التي خففت عني الكثير – وقد أخبرني الأستاذ أن ابنته الدكتور سعاد الهضيبي هي مدير مستشفي أبو الريش بالقاهرة وهي المستشفي المتخصصة في علاج مرض شلل الأطفال – ودعاها للكشف على ابني معاذ وبعد أن قامت بذلك بكل عناية أعطتني بطاقة لدخول المستشفي .

وشكرت لفضيلة الأستاذ والدكتور سعاد حسن ورعايتهم وعدت مسافرا إلى رشدي تم توجهت مع زوجتي ومعاذ إلى القاهرة ويسرت الدكتور سعاد دخولنا إلى المستشفي وقامت بجهد كبير حتي تمكن معاذ من السير على قدمه بعد حوالي شهرين من العلاج ولا أنسي الصور والمشاهد الحزينة التي رايتها تتمثل في أطفال أحدهم مصاب بشلل نصفي والآخر في احدي يديه واحدي رجليه – ولا أنسي الظروف الصعبة التي تحملتها أم معاذ في معايشة مجتمع المرضي . وكان لابد من أنها تتعلم في هذه الفترة وسائل التدليك الطبية الصحيحة كي تستأنف العلاج في المنزل في رشيد وكانت تستعين في عملية التدليك بزيت طيور العصافير التي تتوفر كثيرا في مدينة رشيد .

مراقبة الشرطة

وبدأت مباحث أمن الدولة والمخابرات تبعث برجالها لمراقبتي سواء في رشيد أو في الإسكندرية وكانوا يسألون سيارات ألجرة من أهالي رشيد عن تحركاتي وكان أصحاب السيارات يرسلون من يخبرني بذلك وقد خصصت المباحث من رجالها رجلا اسمه ( زين) يتابعني من رشيد للإسكندرية ويعود معي ويكتب التقارير ويرسل بها إلى إدارة المباحث في دمنهور وكنت أتعمد أن تكون معاملاتي فى إسكندرية مع تجار خواجات من الأجانب وعرف الإخوان بذلك فامتنعوا عن زيارتي .. وسافرت إلى الإسكندرية وفي الطريق توقفت سيارة ملاكي ونزل منها الأخ المهندس يوسف ندا واتجه إلى بعواطف حارة . كان رجل المباحث على قرب مني فغضبت وقلت للأخ يوسف كلام عنيف وأفهمته أنني مراقب ..وبعد فترة استدعيت المباحث صاحب السيارة فكان هو الأستاذ هارون المجددي وهو من كبار الإخوان الأفغان وكان الخ المهندس يوسف ندا قد استعارها منه – واستمرت هذه المراقبة حوالي شهرين ... وكان عم زين لا يفعل أى حركة أو مشكلة تتسبب لى إحراجا فقد تعودنا على أسلوب يسمح له بأداء واجبه دون أن أشعره بأي غضاضة أو اشمئزاز فالرجل كان يقدر ظروفي فلا يحاول أن يتدخل في شئوني .

الأخ عباس جبان

وفي هذه الظروف جاءني أحد الإخوة زائرا من الإسكندرية... ووجدته أمامي . ولما كان أى إنسان من غير أهل رشيد فإنه يلفت النظر .. وبعد أن رحبت به وقدمت له التحية الواجبة . ثم أفهمته أنني مراقب ويقف بالقرب من مصنع الجبنة رجل من المباحث العامة ولا شك أنه سوف يتحري عنك – فأنا سأهدي إليك علبة جبنة صغيرة. كأنك قد جئت لتشتريها وتنصرف بسلام وكنت أظن أن الكريم عاقل ويقدر المصلحة للطرفين ولكنه قام واقفا غاضبا متهما إياي بالجبن وهو يقول إلى متي تخاف ؟ وترك علبة الجبنة وانصرف. وذهب الأخ غفر الله له إلى الإسكندرية وقص هذه الرواية على بعض الإخوة متهما أخاه بالجبن . ولا أدري أى نوع من أنواع الجبن يقصد ؟

تأليف كتاب عن تاريخ رشيد

لما كنت لا أنقطع عن الكتابة فقد تعودت أن أسجل خواطري حول الدعوة في كراسات- وحين بدأت رقابة المباحث فقد خشيت أن تضبط هذه الكراسات ويضيع هذا المجهود كما ضاع غيره من قبل – لهذا فقد رأيت أن أستغل هذه الطاقة في كتابة موضوع بعيدا عن الدعوة فعزمت أن أكتب عن تاريخ رشيد ولم يكن أحد قد سبقني من قبل في طباعة مثل ذلك ولكن بعضهم كتب ولم يطبع إلى هذا التاريخ وبدأت أستعين بالكتب التاريخية مثل الجبرتي وغادة رشيد للأستاذ على بك الجارم وأذكر ماضيها وحاضرها للأستاذ محمد زيتون وغير ذلك من دعوة كبار السن وبعض العلماء القدامي من الذين تجاوزوا الثمانين عاما . ويستطيع أن يتذكر ما هو أبعد من سنه مما سمعه ووعاه من أهله وأصدقائه السابقين – وبهذا جمعت معلومات من أهل الثقة والتقوي . وقد حدث فعلا أنه حين تم القبض عليّ في أغسطس 1965. عثروا على أصول الكتاب وبعد أن تصفحوه تركوه – حتي تمت طباعته بعد الإفراج عني عام 1974.

شركة منتجات رشيد

بعد أن فشلت شركة ألبان رشيد بانسحاب الشريك الذي سبق الحديث عنه – قمت بإنشاء شركة جديدة بمشاركة الأخ الفاضل الحاج محمد أحمد القرط وهو من الإخوة من مدينة شبين الكوم وسجلناها باسم ( شركة منتجات رشيد ) وبدأ العمل يثمر ويتسع في نفس الوقت بدأ الشريك القديم يحاول العودة إلى الشركة مرة أخري ولكنني رفضت ذلك. واتسع الخلاف بيننا وزدات مضايقاته لنا بصورة استدعت تدخل الشرطة عدة مرات .. مما اضطرنا للبحث عن مكان آخر – يباعد بيننا وبينه ويلائم ويستوعب العمل الذي اسع عن ذي قبل . وبالفعل وفقنا الله تعالي لشراء أرض مساحتها ألف متر تقع على شاطئ نهل النيل وأقمنا حولها سورا ثم قمنا في وسطها بناء لتصنيع الألبان – وقمنا بالتعاقد مع شركة سيكلام بإسكندرية لتورد ألفني كيلو من الألبان الطازجة يوميا وتصنيع حوال 1000 كيلو جبنة بيضاء دمياطي وجبنة رومي المسماة بالجبنة الرأس يوميا – واستمر العمل يسير سيرا حسنا ... ولم نقبل التنازل عن المصنع القديم لهذا الشريك بل خصصناه لبيع البن الطازج للأهالي .

وفي حدود هذه السنوات استفدت خبرة علمية وفنية على ضوء التجارب الواقعية التي مارستها في الصناعة وفي طريقة لتعامل مع الفلاحين من موردي الألبان – وكيف يتفننون في عمليات غش الألبان على مستوي شيطاني يحتاج إلى صفحات من هذا الكتاب – كما عرفت أسلوب التعامل مع التجار الذين قد تمرسوا على المغالطة والخصم وإرجاء الدفع وغير ذلك كثير .

الرئيس جمال عبد الناصر يزور مدينة رشيد

وفي ذكري انتصار أهالي مدينة رشيد على قوات الاحتلال البريطاني في 1807 - أعلن عن زيارة جمال عبد الناصر للمدينة في 19 سبتمبر 1959 واستقبلت لمدينة الرئيس الذي وصل إليها بالقطار بين حفاوة بالغة من هتافات وزينات وفرق الموسيقي والألعاب النارية وجموع الناس الذين وفدوا من المحافظات القريبة وكنت أتوقع أن يتم القبض والتحفظ عليّ حتي تنتهي زيارة الرئيس – ولكني شاركت في مهرجان الاحتفالات دون أى إجراء شاذ وفي أحد الصفوف الأمامية في المؤتمر الذي خطب فيه الرئيس تقدمت احدي الأخوات وهي زوجة أحد الإخوة المسجونين - بعريضة التماس للإفراج عن زوجها تسلمها الرئيس بنفسه ! وكان أهم ما ورد في الخطاب قول الرئيس ( إن إسرائيل لن تمر من قناة السويس ) وفي طريق عودته قام بإفتتاح ( متحف رشيد ) ثم ودعه الأهالي بمثل ما استقبل به من حفاوة بالغة .

زيارة الحاج محمود شكري إلى رشيد

وذات يوم زارني في منزلي برشيد الأخ الفاضل الحاج محمود شكري ومعه مجموعة من الإخوان بالقباري والورديان من أحياء الإسكندرية وبعد أن تناولنا طعام الغداء . جري بيننا حديث – قلت فيه إن الشهيد حسن البنا رحمه الله قد أدي واجبه – وترك لنا الدعوة أمانة في أعناقنا فإن كنا صادقين مع الله في بيعتنا فلابد أن نواصل العمل الجاد على نفس الطريق ونفس المنهج حتي نلقي الله تعالي على نفس مالقيه أستاذنا حسن البنا رحمه الله – وبعد ذلك انصرف الإخوة دون أن يتم بيننا أى تعارف ولكني عرفت أن أحدهم يعمل في تجارة الألبان .

تشكيل لجنة قيادة العمل الإخواني بإسكندرية

تكونت لجنة قيادة العمل للإخوان بإسكندرية من الإخوة .

1- الأخ عباس حسن السيسي مسئولا عاما.

2- الأخ الكيمائي عبد المجيد الشاذلي عن التنظيم الخاص .

3- الأخ الأستاذ محمود عيد أبو العنين عن التنظيم العام .

4- الأخ الأستاذ سيد إسماعيل أبو شلوع مندوب عن محافظة البحيرة .

5- الأخ الكيميائي مجد

6- عبد العزيز متولي – مندوب اتصال بين القاهرة والإسكندرية .

أهداف هذا التنظيم

كان الهدف من تشكيل هذا التنظيم هو تكوين جيل امتداد لجماعة الإخوان المسلمين الذين لا تزال قيادتهم مع كثير من قواعدهم يمضون فترة السجن المؤبد في ليمان طره وبني سويف وأسيوط وقنا والواحات . وتقوم تنشئة الشباب على الأصول التربوية التي انتهجها الإخوان حسب رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ومناهج الأخلاق والسلوك والمعاملات الموحاة من سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم .

وتكون مهمة الأستاذ محمود عيد أبو العينين – هي الدعوة العامة لشرح وتوضيح منهج الإخوان لإحياء ما اندثر من معالم هذا الدين وتصحيح ما لصق في عقول الناس وإفهامهم من تهم باطل وادعاءات كاذبة نشرتها وأذاعتها وسائل الإعلام المضللة وتكون وسائله في تحقيق ذلك – إلقاء الدروس في المساجد مع تجنب الإثارة والإعلان المباشر عن دعوة الإخوان . التعارف بالشباب وتوثيق الصلة به عن طريق إهداء الكتب والزيارات الدعوة الإخوان التعارف بالشباب وتوثيق الصلة به عن طريق إهداء الكتب والزيارات الدعوة إلى زيارات محدودة في المنازل ومناقشة القضايا الإسلامية وخاصة قضية الإخوان .

وتكون مهمة الأخ الكيميائي عبد المجيد الشاذلي هي تلقي الأسماء المرشحة لبناء التنظيم الخاص الذي شكل الأساس من الإخوان الذين يأخذون الأمر بالجدية والعزيمة وهؤلاء تدرس لهم مناهج فى العقيدة الإسلامية وأصول الفقه والسيرة الشريفة – والسنة من كتاب الدكتور مصطفى السباعي مراقب الإخوان في سوريا بالإضافة إلى رسالة التعاليم ورسالة المؤتمر الخامس والسادس وغيرها .

وتكون مهمة الأخ الكيميائي مجدي عبد العزيز متولي هي حلقة الاتصال بين قيادة العمل في مدينة الإسكندري وبين القيادة العامة في القاهرة – والتي لم تكن عرف أحدا منهم .

وكان الأخ الأستاذ سيد إسماعيل أبو شلوع المحامي يمثل الإخوان في محافظة البحيرة الذي قد تكون لهم تنظيم على نفس الصورة .

ومن أهم ما اتفقنا عليه جميعا وبكل وضوح .. هو البعد بالتنظيم عن التسليح بكل أشكاله حتي السلاح الأبيض – وأن يكون التدريب على كل أنواع الرياضة بالاشتراك في الأندية الرياضية المنتشرة في المدينة .

وأن لا ينضم إلى التنظيم إلا من اجتاز الشروط المتفق عليها ووافقت عليه اللجنة المكلفة بذلك وكل الأمر يجب أن تكون بالشورى وبإجماع المكتب وأن تكون مدة المرحلة الأولي لهذا التنظيم خمس سنوات اعتبارا من أول عام 1963 .

كتاب معالم في الطريق

نزل هذا الكتاب إلى السوق بعد كتاب ( جاهلية القرن العشرين ) للأستاذ محمد قطب – ولكن كتاب معالم في الطريق ما أن انتشر بين الشباب المتلهف والمحترق شوقا للعمل للإسلام حتي أثار ضجة هائلة في نفوسهم ومشاعرهم حتي أن الكثير من الشباب و قد حفظ أبوابا من الكتاب يتحدث بها إلى الناس . وظل الكتاب يحرك كوامن الشباب وأفكارهم وهمتهم – والحكومة كأنها لا تعرف عنه شيئا – أو ربما كانت تريد أن تتحسس أثره وتتعرف على مدي الشعور العام بالنسبة لما جاء في مضمون الكتاب .

وصار هذا الكتاب من الكتب الهامة التي تدرس في برنامج التوعية .

دعوة لزيارة القاهرة

دعيت لزيارة في القاهرة حضرها الأستاذ إسماعيل حسن الهضيبي المحامي وفضيلة الشيخ فتحي رفاعي وفي هذه الجلسة بدأت مناقشات عن آراء يتناولها الإخوة حول العمل في هذه المرحلة – ثم قرئت علينا مذكرة من عدة صفحات فهمت أنها من إعداد الأستاذ سيد قطب – والتي كان عنوانها " خيوط خطة " والواقع أن موضوع هذه الرسالة " عميق وخطير" ولعلها من أهم الأسباب التي كشفت عن عظمة وخطورة سيد قطب على النظام – ولا يوجد لهذه الرسالة الهامة صورة إلا عند سلطة الاتهام .

إنذار من الرئيس جمال عبد الناصر

وفي عيد العمال الذي تحتفل به أكثر الدول الإشتراكية في شهر مايو من كل عام . وفي أول مايو 1965 – أقام العمال في مصر مؤتمرا شعبيا في شبرا الخيمة – خطب فيه الرئيس جمال عبد الناصر – وفي خطابه الشعبي ندد بسلبية أعضاء الاتحاد الاشتراكي وتراخيهم في العمل والنشاط وقال إن هناك في مصر جماعة تعمل بنشاط وهدوء ونظام أكثر فاعلية من الاتحاد الاشتراكي المدعم من الدولة .

لقد استعملنا إلى هذا التصريح فأدركنا أنه يعني الإخوان المسلمين – ذلك لأنه لا توجد في مصر أحزاب غير الاتحاد الاشتراكي. أما الحزب الشيوعي فقد قرر حل تنظيماته رسميا ويعمل الآن في وظائف الدولة خاصة وسائل الإعلام وبعض الوظائف الكبري بعد أن تم الإفراج عنهم جميعا على أثر زيارة خروشوف لمصر لتدشين مشروع السد العالي بأسوان .

وكانت تعليقا الإذاعات الأجنبية إذاعة إسرائيل تشير بالإتهام إلى جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت تنشط من جديد مستوحية ما جاء في كتاب (معالم في الطريق ) وتحركت في الظلام دسائس الشيوعيون والعلمانيون وعملاء الصهيونية ليزيدوا من حقد الرئيس وغضبه وبدأنا نسمع أن المخابرات الأمريكية أبلغت الرئيس أن هناك تنظيما جديدا للإخوان المسلمين في مصر – وكثرت الإشاعات حول نشاط الجماعة .

" قضية جديدة للإخوان المسلمين " باسم خطاب السيد خطاب

شاع في الشارع السكندري نبأ القبض على مجموعة من رجال جماعة الإخوان المسلمين – ورجعنا في الحال إلى قواعد التنظيم فلم يثبت لنا القبض على أى عضو . وقد تحفظنا بحذر على مقابلاتنا واتصالاتنا وأجرينا البحث والاستقصاء حول هذه الأنباء المباغتة فتبين أنه تم بالفعل القبض على بعض الإخوة القدامي من إخوان إسكندرية عرفنا منهم – الأخ خطاب السيد خطاب والأخ المهندس محمد فؤاد إبراهيم وفضيلة الشيخ مصطفى محمود مساهل – ولم نعرف باقي الأسماء .

وعلمنا أن تحقيقا بالطريقة المعهودة يجري في أماكن مختلفة – في اتهامات بقيامهم بنشاط سري وصل إلى علم المباحث يجري معهم في أماكن مختلفة – في اتهامات بقيامهم بنشاط سري وصل إلى علم المباحث العامة فرع إسكندرية – وعلمنا أنه قد عثر مع أحدهم على أوراق فيها كلمات رمزية تخفي شفرة معينة – وأنه قد عثر مع أحدهم على كمية من المتفجرات وقيل أنهم على صلة بالأخ الدكتور سعيد رمضان المقيم في سويسرا والذي سحبت منه الجنسية في 23/9/1954 ..

ولم تصلنا معلومات أوسع من ذلك .. حتي صدر أمر إحالة إلى محكمة أمن الدولة العليا في الجناية رقم 12/ 1965 أمن دولة عليا والذي سوف نعود إليه بشئ من التفصيل في حينه في الجزء الرابع من كتاب ( في قافلة الإخوان المسلمين ) إن شاء الله تعالي .

تعريف بالأخ خطاب السيد خطاب ( رحمه الله)

سبق أن كان عضوا في حزب مصر الفتاة عام 1935 . انضم الإخوان عضوا في شعبة الحجازي برأس التين بإسكندرية عام 1947 – قبض عليه عام 1949 متهما في إخفاء الأخ يوسف على يوسف أحد أعضاء التنظيم الخاص على اثر قرار حل الجماعة عام 1948 عمل في المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف الذي كان يشرف عليه الدكتور سعيد رمضان والأستاذ كامل الشريف من قادة الإخوان في حرب فلسطين – له جهاد مشرف في حرب فلسطين – كما قام بعملية نسف أكبر مخزن للأسلحة والذخيرة في منطقة أبو سلطان في حرب القنال عام 1951 – علمت أن له مذكرات لم تنشر بعد .

تعريف بالأخ المهندس محمد فؤاد إبراهيم

من الإخوة الذين عرفتهم عام 1943 في منطقة رأس التين – متواصل النشاط من الإخوة وخاصة في قسم الطلاب بكلية الهندسة ... لبي نداء الجهاد المقدس في فلسطين تحت قيادة الأستاذ المجاهد محمود عبده – أصيب في معركة " جبل المكير" في القدس وحول إلى مستشفي غزة للعلاج . استمر على العمل في تدعيم جهاد الإخوان وشاركت معه في بعض المواقف . وقد تخرج في كلية الهندسة – وساهم في خدمة القوات المسلحة – نقيب مهندس – حتي قبض عليه .

الشيخ مصطفي مساهل ( رحمه الله )

إمام وخطيب مسجد ومأذون شرعي بالمنطقة - ومن الإخوة العاملين الثابتين على الحق حتي لقي الله تعالي على بيعته .

لقاء هام في منزل الكيميائي عبد المجيد الشاذلي دعيت لتناول الإفطار في شهر رمضان المبارك بدعوة من الأخ عبد المجيد الشاذلي في منزله .. وهناك وجدت الأستاذ مجدي عبد العزيز متولي والأستاذ سيد أبو شلوع والأستاذ محمد عبد الفتاح الشريف والمهندس عبد الحميد راجح وكيل وزارة الري والذي كنت أراه لأول مرة ..

بعد الإطار جلسنا نتحدث حول ظروف الدعوة وخطاب الرئيس عبد الناصر- وكان أخطر ما قيل في هذا اللقاء هو الحديث الذي أدلي به الأستاذ محمد عبد الفتاح الشريف – إذ قال : أنه كان في زيارة لفضيلة العالم الجليل الشيخ محمد الأودن – وهو من هيئة كبار العلماء ومعروف بنشاطه الإسلامي وله صلة معرفة سابقة بالضباط الأحرار حيث كانوا يستمعون إليه في أحاديث إسلامية قبل قيام حركة 23 يوليو .

قال الشيخ محمد الأودن للأستاذ محمد الشريف . أن بعض الضباط الذين هم على صلة به شخصيا غير راضين عن الأوضاع السياسية في مصر – وهم مستعدون لعمل انقلاب ضد النظام – على شرط أن يقوم الإخوان المسلمين – بعملية اغتيال للرئيس عبد الناصر أولا ... وعندما يتم ذلك سوف نقوم نحن الضباط بالاستيلاء على الحكم فورا !!

كان هذا الكلام خطيرا صدمة عنيفة للمنهج الذي اتفقنا عليه والذي لم يكن في حسابنا من قبل .. ومع هذا فقد أخذنا سياق الكلام إلى مناقشته .

فقال بعضنا – إنه يجب الحذر من دسائس المخابرات التي تريد أن تورطنا في محنة جديدة كي تصفي ما بقي من شباب الإخوان . فقد حدث أن بعضا من ضباط المخابرات تقربوا من شباب الإخوان وشجعوهم على جمع تبرعات للمعتقلين من الإخوان عام 45 ,55 وبعد أن استجاب الشباب تم القبض عليهم وأطلقوا عليهم التنظيم المخالي وصدرت ضدهم أحكام .

وقال بعضنا – إننا لا ولن نثق على الإطلاق بأى ضابط ولو أقسم على المصحف .

إذا كان هؤلاء الضباط يفكرون في عمل انقلاب وهم جادون ذلة ذلك .. فإن الأقرب إلى العقل لسلامة لخطة وتحقيق الهدف – أن يقوما هم بكل الأدوار من الألف إلى الياء – ولا يجوز أن يشركوا أحد ليست عنده الإمكانيات الهائلة المتوفرة لديهم وأن تسرب مثل هذه الأفكار إلينا دليل قاطع على أن هناك نية لتوريط الإخوان في محنة جديدة .

وقال أحدنا : إن تنظيمنا هذا لم يقم على فكرة اغتيال جمال عبد الناصر .. ولو كان الأمر كذلك – فما كان هناك داع لتشكيل هذا التنظيم الواسع .. بل كان الأمر يقتضي عددا قليلا من الإخوان للقيام بالمهمة .

وانتهت المناقشة على رفض ما جاء به الأستاذ محمد الشريف بل واستنكاره وانقضي اللقاء وانصرفنا .

جلسة أخري في منزل الحاج أحمد حسين

واستدعيت للحضور للإسكندرية وحددت المقابلة في محل الأخ الحاج أحمد حسين صاحب محل بقالة في المندرة والذي كنت أتعامل معه في تجارة الجبنة .. وقد لاحظ الأخ الحاج أحمد أننا في حاجة إلى مكان نلتقي فيه .. فعرض علينا أن نلتقي في منزله المجاور حيث لا يوجد أحد في المنزل .

وكان الحاضرون – الأخ مجدي متولي والأخ عبد المجيد الشاذلي والأخ سيد أبو شلوع وتحدث الأخ مجدي فقال إن الموقف في القاهرة خطير جدا فقد تم القبض على الأستاذ محمد قطب شقيق الأستاذ سيد قطب – والأمر ربما يتطور إلى أسوأ من ذلك وتدخل في محنة لا تقل عن محنة 1954 – لهذا فلابد أن نستعد للمقاومة إذا حدثت مواجهة بيننا وبين الحكومة .

قلنا للأخ مجدي أننا هنا لسنا لى استعداد لهذه الخطوة المفاجئة ولم يكن في برنامجنا هذا الاصطدام – ومع تقديرنا للظروف التي تمر بها الدعوة فإن لنا طلب هام جدا ... وهو أننا قبل الدخول في أية عمليات لمواجهة الموقف لأن المسألة سوف يكون فيها كثير من التضحيات – فإن الجندي في هذه الحالة يجب أن يتعرف على قائده ويكون على ثقة من تقديره للأمور – ويطمئن على أن قائده على مستوي هذه المسئولية الخطيرة – لهذا فنحن نريد معرفة اسم ( القائد ) الذي سوف نعطيه الولاء ولكن الأخ مجدي أصر على أنه ليس في حل أن يعرفنا عن اسم القائد وقال دعوني أسافر للقاهرة وأستأذن في ذلك !!

والعمل بالأحوط فقد تم اختيار ( مطعم أندريا) في المندرة البحرية والذي يقع على الشمال عند انحراف السيارة القادمة من تحت نفق السكة الحديد من المعمورة والمنتزه إلى شارع وقد كلف أحد الإخوة ليتخذ هذا الفندق مكانا لمراقبة تطورات الموقف .

وقد رغب الإخوة في أن أبيت هذه الليلة في ضيافتهم ولكنني أوضحت أنه من الأولي في مثل هذه الظروف أن يبيت كل منا في منزله وسافرت إلى رشيد .

البوليس في الفجر

حاولت أن استغرق في النوم ولكن عوامل القلق كانت تسيطر .. حتي سمعت طرقات شديدة ومتلاحقة على باب مسكني – طرقات مفزعة – قمت وأسرتي وكانوا أطفالا – فتحت الباب فدخل الضباط ومعهم ( عم زين) رجل المباحث قاموا بتفتيش الشقة وأخذوا معهم الصور الخاصة وبعض الكتب – وطلبوا مني أن أحضر باكر صباحا إلى مكتب مفتش لمباحث العامة في مديرية أمن دمنهور . ولم يتم القبض عليّ – وظلل والدي والدتي وجميع أهلي في توتر حتي ذهبت إلى دمنهور وقابلت مدير المباحث العامة الذي وجه إلىّ بعض النصائح لأن الظروف صعبة ويجب الاهتمام بعملك وتربية أولادك ولا داعي لمقابلة أحد من الإخوة – وقال ممكن تسافر الآن إلى رشيد وفي الحال قمت بالاتصال تليفونيا برشيد وطمأنتهم أنني في الطريق إليهم .وقد علمت بعد ذلك أن المباحث العامة قد عممت هذا الإجراء على كثير من الإخوان في عموم القطر المصري لعلهم يعثرون على شئ يدين الإخوان فلم يجدوا شيئا والحمد لله .

تجمعت تقارير التفتيش المفاجئ لرجال مباحث الدولة على مستوي القطر المصري ولم يعثروا على أى دليل يدين الجماعة _ ولو أنهم قد قبضوا على جميع الإخوان في هذا اليوم – ما استطاعت الدولة أن تجد دليلا أو مبررا لمحاكمتهم إلا بتدبير المؤامرات الكاذبة مثلما فعلت ف يحادث المنشية وكل الذي حدث من تجاوزات من شباب الإخوان – حدث بعد هذا التفتيش بأيام قليلة – بعد القبض على الأستاذ محمد قطب .. وبعد أيام تم القبض على الإخوة عبد الرحمن عبد الصمد وعبد المجيد محمد عبد المجيد من إسكندرية ..

القبض على الأستاذ مصطفى كمال

الأخ الأستاذ مصطفى كمال ( مدرس الثانوي ) وهو زوج شقيقة الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم . وكان في زيارة إلى رشيد .. حين صدور قرار بالقبض عليه . إذ أن المباحث الجنائية العسكرية بدأت تتوالي القبض والتحقيق مع الإخوان .ولما كان الأخ مصطفي قد صدرت ضده أحكام عام 1954 بالسجن – ثم أفرج عنه لانقضاء المدة – فقد أشيع أن الإخوة الذين أفرج عنهم قد تعاهدوا حين كانوا في السجون أن يشكلوا تنظيما جديدا حال الإفراج عنهم ولهذا صدرت قرارات بالقبض عليم وقد وصلت إلى رشيد سيارة جيب عسكرية وتم القبض على الأخ مصطفي وأودع السجن الحربي .

الإذاعات العالمية

تابعت بإهتمام ما تذيعه وكالات الأنباء والإذاعات العالمية .

فسمعت من إذاعة لندن – حادث القبض على أحد أفراد الإخوان المسلمين - اسمه يوسف عطية القرش – وقد وجدوا عنده مجموعة من القنابل – والحكومة قد قبضت على الأستاذ سيد قطب

وجاء يوم الخميس وهو موع عودة الأخ مجدي من القاهرة ليعطينا اسم الأخ المسئول عن التنظيم العام – ولكن الأخ مجدي لم يصل !!

الفصل العاشر: .إلى المعتقل من جديد .يوم القبض والترحيل

يوم 24 أغسطس 1965 سافرت إلى مدينة دمنهور لأعمالي التجارية وقبيل العصر ركبت الأتوبيس للعودة إلى رشيد –ولما اقتربت من منزلي بشارع الشيخ قنديل – قابلني بعض الأهالي وحذروني من الذهاب إلى المنزل لأن قوات الأمن تحاصر المنزل وهداني تفكيري أن أذهب إلى المنزل وليكن ما يكون لأن الهرب في مثل هذه الحالة عاقبته القبض على والدي وإخوتي وصعدت إلى الشقة في الدور الثالث وكان الشارع والمنزل محاطا بسيارات الشرطة .. وفوجئ الضباط بحضوري وتسليم نفسي فاستراحوا لذلك وكانت معاملتهم هادئة .

وأثناء التفتيش عثروا على جسم اسطواني يشبه القنبلة . فتحدثوا سويا على أنها لابد أن تكون قنبلة .. ولم أحاول أن أقنعهم أنها ليست قنبلة – وأخذوها معهم باهتمام بالغ – ثم توجهت القوة إلى مكان مصنع الألبان القديم وفتشوه ولم يعثروا على شئ وكان قد سبقهم إلى هناك قوة من رجال الشرطة انتظارا لحضورهم ثم توجهت القوة إلى المصنع الجديد وقاموا بنفس المهمة ثم أخذوني معهم إلى مديرية أمن دمنهور .

واستدعاني مدير المباحث العامة وسألني عن موضوع الأسطوانة فقلت له إنني عام 1940 كنت في قوات الجيش المصري في مرسى مطروح وأخذت هذه الأسطوانة من مخلفات الجيش لأقوم باستخدامها ( سبرتاية ) وظلت عندي حتي الآن –وهذه الأسطوانة تملأ بالهواء المضغوط وتكون مع الطيار حتي إذا حدث ما يسبب سقوط الطائرة فإن الطيار ينفخ بها قارب النجاة حتي يسقط في البحر وينجو وكان على الأسطوانة شريط من النحاس مكتوب عليه باللغة الانجليزية مثل هذا المعني – فاقتنع مفتش المباحث العامة – ولم يحرزها في المضبوطات – وقد علمت بعد خروجي من السجن أن هذا الرجل أصيب بصدمة عصبية بعد التحقيقات التي أجرتها المباحث الجنائية العسكرية وتم ضبط بعض الأسلحة – مما كان وقع ذلك عليه أليما شديدا ( فمات رحمه الله).

وهناك في إدارة الأمن وجدت الأخ الأستاذ سيد أبو شلوع مقبوضا عليه – وبعض الإخوة من محافظة البحيرة وقد ضبطوا عندهم جرائد ومجلات وكتب عن الإخوان .

وقد لحقني شقيقي بحقيبة ملابس قبل ترحيلي والأستاذ سيد أبو شلوع إلى القاهرة ففي عمق الليل قامت سيارة خاصة بقيادة وقوة حراسة فوصلنا إدارة المباحث العامة الساعة 7 صباحا وشاهدنا مئات من المخبرين على أشكال – أفندية - مساحين أحذية – سواقين تاكسي – عمال مهنيين – وكل واحد منهم يحمل معه طعام الإفطار – وبعد إثبات حضورهم ينصرفون لأداء مهمتهم في محيط هذا الشعب المسكين .

وعند عرضنا على مدير المباحث العامة – وجدنا خارج مكتبة الإخوة عبد الرحمن عبد الصمد وعبد المجيد محمد عبد المجيد الذين اعتقلا من أيام الإسكندرية – يقفون في حالة من الإرهاق الشديد وتبدو عليهما آثار التعذيب مما عاد بذاكراتنا إلى المحن السابقة في سجون عبد الناصر . ثم بعد تمام إجراءات تسليمنا من ضابط أمن البحيرة إلى إدارة المباحث العامة ركبنا سيارة بالحراسة المشددة حتي وصلنا إلى سجن القلعة الذي كنت أراه وأدخله لأول مرة ..

وإلى هنا ينتهي تسجيل بعض أحداث الجزء الثالث حتي 28 أغسطس 1965 نستأنف الحديث عن محنة عام 1965 بالتسجيل في الجزء الرابع بعون الله تعالي .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم