فقه الجهاد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٠:٤٤، ١٤ ديسمبر ٢٠١٠ بواسطة Moza (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

تعريف الجهاد وأنواعه

الجهاد.jpg

الجهاد ذروة سنام الإسلام، فريضة محكمة. وهو ماض إلى يوم القيامة. والجهاد بذل الوسع في دفع ما لا يُرضى(1). وقيل هو استفراغ الجهد في مدافعة العدو(2). وقيل: هو الاسم الجامع لمنتهى الطاقة(3). وقصر الجهاد على القتال في سبيل الله، لم يكن إلا تفريعاً فنياً كما هو في كتب الفقه، لأن الجهاد حسب ورود معانيه في الكتاب والسنة أعم من أن يكون بالقتال.

لقد قرن القرآن الكريم الجهاد بالمال والنفس في مواضع كثيرة. قال تعالى (وجاهَدوا بأموالهم وأنفسهم)(4) وقال: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم)(5). وقال: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)(6). وقال تعالى (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)(7). واتفق المفسرون على أن جهاد الكفار يكون بالقتال ـ حسب أحكامه المقررة ـ وجهاد المنافقين يكون باللسان وذلك بنحو الوعظ، وإلزام الحجة. ولم يحفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل منافقاً أو قاتله. بل قال: كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟!

وكان من أوائل ما نزل من الأمر بالجهاد في مكة، قوله تعالى (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً). وجمهور المفسرين على أن الضمير في قوله / به / إنما يعود على القرآن العظيم. وأن الله سبحانه وتعالى قد سمى الجهاد بالقرآن العظيم (جهاداً كبيراً) لأنه يحتوي على كل أنواع الجهاد. بل قال الألوسي في روح المعاني (.. ويستدل بالآية على الوجه المأثور، على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين، بما يوردون عليهم من الأدلة، وأوفرهم حظاً المجاهدون بالقرآن منهم)(8). ويشتق من هذه الآية في تعظيم أمر جهاد العلماء قوله صلى الله عليه وسلم (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر). وقوله (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب. ورجل قام إلى إمام جائر، أمره ونهاه فقتله). وتبدو أنواع الجهاد وآلياته أكثر ترتيباً ووضوحاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعده خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان)(9).

فالجهاد في الإسلام يكون بالنفس وبالمال وبالكلمة وبالقلب. ولكل نوع من هذه الأنواع آلياته وشعبه وأساليبه وأحكامه التي ترجح أسلوباً على أسلوب وآلية على آلية. والجهاد بأنواعه وأساليبه هو الماضي إلى يوم القيامة.


أحكام مرحلية ترتبط بواقع المسلمين

ثم إن المتتبع لتطور تشريع الجهاد في عصر نزول القرآن، يجد أنه أكثر التشريعات تدرجاً، ومراعاة لأحوال الجماعة المسلمة، وارتباطاً بها من حيث القلة والكثرة، والقوة والضعف. ثم لم يصدر للمسلمين أي إذن بالقتال حتى قامت لهم دولة، وكان لهم كيان مستقل في المدينة المنورة. حيث تدرجت الأحكام من الإذن بالقتال، إلى الأمر المطلق به في حق بعض، والأمر المقيد في حق آخرين.

تطور أحكام القتال في الإسلام في سياقاتها المتعددة، كانت مفتاحاً لقراءة واقع المسلمين في عصر الرسالة الأول. وستبقى هذه الآيات على مر العصور مرتكزات لحركة المسلمين السياسية العامة حسب الظروف التي تحيط بهم. إن دعوى أن آية السيف قد نسخت كل ما سبقها من آيات تأمر بالصبر والحلم والإعراض عن المشركين، والمجادلة بالتي هي أحسن، وكذا ما سبقها من آيات القتال في ظروفها المختلفة دعوى تجاوز بها بعض المفسرين حدود العلم حتى بدت وكأنها سيف حقيقي على أحكام القرآن.

قوله تعالى: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة..) حكم رباني يطبق في الظروف التي تقتضيه حسب قراءة الجماعة المسلمة لواقعها، أو تقرير ولي الأمر لذلك. وقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) آية محكمة لا تنسخها آية السيف، وإنما تبقى أصلاً من أصول الدعوة في هذا الدين. وقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..) آية محكمة أخرى لا تنسخها آية السيف، إذ للجدال والحوار مقامه، وللقتال والنزال مقامه.

في كل عصر من العصور يعمل من أحكام الجهاد ما يتناسب مع واقع المسلمين: جماعة، أو دولة، وقدراتهم. ولا يمكن أن تطبق أحكام النهايات في عصر الإسلام الأول، على بدايات أي كيان إسلامي ناشئ، أو قائم في عهد من عهود اختلال موازين القوى، بين المسلمين وأعدائهم اختلالاً بيناً مما يؤدي إلى تدمير الوجود الإسلامي، واستئصال شأفة المسلمين.



مناطات الجهاد

وللعلماء في مناطات الجهاد أقوال لا يجوز الخروج عليها، فجهاد الكلمة بشعبه المختلفة مناطه أهل العلم والحكمة، العالمين بحقائق الشريعة، ومواقع القول، وسياقات الكلام ومآلاته. وكم حذر العلماء من إنكار لمنكر يفضي إلى ما هو أكبر منه. أو أمر بمعروف يفوت ما هو أولى منه.

بينما يتولى ولاة الأمور حصراً أمر الجهاد القتالي ـ غير جهاد الدفع ـ فلا يتقدمهم فرد ولا جماعة في ذلك، إلا أن يكون منهم إذن عام مسبق. وإليك أقوال العلماء: قال ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغنى: (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك)(10). وقال في موضع آخر من الكتاب نفسه (ولا يخرجون ـ أي للجهاد ـ إلا بإذن الأمير لأن الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدد وقلتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يرجع إلى رأيه لأنه أحوط للمسلمين).

وقال القرافي المالكي في كتابه الإحكام (.. إن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس)(11).

وجاء في الشرح الصغير على أقرب المسالك ـ مالكي أيضاً ـ للدردير قوله: (وتعين الجهاد بتعيين الإمام لشخص.)(12)

وقال التهانوي في كشاف القناع (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، لأنه أعرف بحال الناس، وبحال العدو ونكايتهم، وقربهم وبعدهم.)(13)

ولا يخفى أن حكمة أن يناط أمر الجهاد بالإمام، أو المتولي كما أشارت إليه النصوص السابقة، لأنه أقدر على تقدير ميزان القوى، ونتائج المعركة. ولم يترك ذلك للأفراد لكي لا يتقدموا الحاكم أو الإمام بفعل، تكون جريرته على المسلمين عامة، ويحملوا بذلك المسلمين ما لا قبل لهم به. ولا يرد في هذا السياق التشكيك بتقوى المتولي، وشرعيته. فأصل الأمر في هذا أن الغزو كما الصلاة يكون وراء كل بر وفاجر. وهذا الأمر بشأن الغزو آكد وأوضح.

وفي جهاد الدفع أي حيث يحتل العدو بلد المسلمين فيسقط إذن الإمام ويكون من حق كل مسلم أن يدفع عن أرضه وعرضه ودينه بما يستطيع. ويخرج إلى ذلك الرجل والمرأة والعبد بدون إذن مسبق.


في مناط التغيير باليد داخل المجتمع

وإذا كان القتال خارج حدود الدولة مناطاً بالإمام أصلاً، فإن إقامة الحدود، وتتبع المنكرات، وأهل البدع والريب والنفاق لا يمكن أن يكون من حق فرد أو مجموعة، مهما كانت الظروف، وكان الاجتهاد.

فإقامة الحدود كما هو مجمع عليه عند أهل العلم إنما هي من شأن الإمام واختصاصه، وإن تقاعس عنها أو تركها، فليس لأحد من المسلمين أن يتولاها دونه.

وأهل النفاق على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم، لا يجاهدون إلا بالحجة والبيان والبلاغ، والصبر على أذاهم تارة والإغلاظ عليهم بالقول أخرى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ومعلوم أن الإغلاظ إنما يكون بالقول، وبالقول البليغ أخرى (وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً).

وتكفير الناس، والحكم عليهم بالردة أو الخروج من الملة ليس من شأن الأفراد، ولا من حقهم، وبالتالي فإن البناء على مثل هذه الأحكام ومبادرة الحاكم إلى العدوان على هؤلاء الناس بأي شكل من أشكال العدوان تحت شعار إنكار المنكر، أو تغييره باليد، ليس من دين الله في شيء، وإنما هو مفضٍ إلى الفوضى والاضطراب، وتمزيق وحدة المجتمع.

لقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، وهو مطلع على حقيقة نفاقهم لئلا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فكيف يمكن لفرد أن يحكم بالكفر والردة على آخر بسبب قول أو فعل يمكن أن يكون له عند صاحبه أكثر من تأويل.

ثم إن واجب الداعية في كل عصر أن يكثر سواد المسلمين، وأن يربط الناس بربقة الإسلام ولو بشعرة، لا أن يشرذمهم يمنة ويسرة.


مبدأ القتال وعلته

القتال للمقاتلين

ثم إن الإسلام إنما شرع القتال لرد عدوان المعتدين، ممن يريدون بالمسلمين شراً، وبالإسلام سوءاً قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(14). والعدوان هو قتال غير المقاتلين، من موادعين ومسالمين، ومن أفراد يكونون وسط المقاتلين كالنساء والأطفال والرهبان والأجراء والزراع، أو يكون العدوان في الخروج على آداب القتال بالمثلة أو بالحرق بالنار أو بقتل الحيوان أو قطع الشجر، أو الفساد في الأرض. وإليك التفصيل:

أولاً قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) فحكم غير منسوخ.

قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (.. قال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد هي محكمة.) أي الآية محكمة غير منسوخة. ثم قال القرطبي (أي قاتلوا الذين هم في حالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم.) وقال أبو جعفر النحاس: (هذا أصح القولين في السنة والنظر)(15).

وتأمل قول القرطبي رحمه الله تعالى ـ الذين هم في حالة من يقاتلونكم ـ لتعلم أن المقصود هو من يقاتلكم أو يستعد لقتالكم بإعداد وتعبئة وحشد. ولعل هذا الذي أشكل على كثير ممن ذهبوا إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف لما رأوا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومبادرته إلى مواجهة مراكز الخطر التي تتهدد المسلمين كما في غزوة خيبر، وغزوة مؤتة، ومسيره إلى تبوك.

وقال الألوسي في روح المعاني (ولا تعتدوا) (أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلام وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. أو لا تعتدوا بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة، أو قتل من نهيتم عن قتله)(16). وقال البغوي (.. وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا..) أي لا تبدؤوهم بالقتال(17).

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن القتال إنما وجب لمن يقاتل، وخالف في ذلك الشافعي رحمه الله تعالى. فقد رأى الجمهور أن العلة في مشروعية القتال هي إطاقة القتال لمن يتربص بالمسلمين. قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: (لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله تعالى كما قال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). وذلك أن الله أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق. كما قال تعالى (والفتنة أكبر من القتل) أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، يعاقب بما لا يعاقب عليه الساكت)(18).

وقد ذهب بعض المفسرين في تأكيد أن القتال والجهاد، لا يكون إلا في مقاتل وممانع حيث اعتبرت المقاتلة والممانعة هي علة الأمر بالقتال والجهاد. وليس محض الكفر الذي إن انتفى معه هذان العنصران (المقاتلة والممانعة) لم يضر (إلا) صاحبه كما قرره ابن تيمية. فقد ذهب هؤلاء إلى صيغة (المفاعلة) في (جاهد) و(قاتل) لا تكون إلا بالمشاركة حسبما تقتضيه لغة العرب.

قال الطاهر بن عاشور في قوله تعالى (وجاهدهم به جهاداً كبيراً.) وصيغة المفاعلة ليفيد مقابلة مجهودهم بمجهود فلا يهن ولا يضعف ولذلك وصف الجهاد بالكبير أي الجامع لكل مجاهدة(19).

وقال القرطبي في أحكام القرآن بعد أن نقل عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد القول بأن قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم.) أنه محكم غير منسوخ قال القرطبي (.. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر. فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان. رواه الأئمة. وأما النظر فإن فاعل لا يكون في الغالب إلا من اثنين كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة. والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون وبهذا أوصى أبو بكر رضى الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام)(20).

وقد تواردت أقوال العلماء، على أن المقصود من قوله تعالى (ولا تعتدوا) هو النهي عن قتل غير المقاتلين من نساء وأطفال ورهبان وفلاحين وأجراء، وممن ألقى السلام، ونفض يده من الحرب.

إن علة الأمر بالقتال للكفار هي مقاتلتهم للمسلمين، أو ممانعتهم لانتشار الدعوة، وليس كفرهم المحض، الذي لا يضرون به سوى أنفسهم.

إن اعتبار آية السيف ناسخة لقوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا..) فيه تجاوز لسيرورة أحكام الجهاد التاريخية. حيث يؤكد سيد قطب رحمه الله تعالى ومن سبقه من المفسرين أن آية السيف إنما تعلقت بمشركي العرب في الجزيرة العربية لتكون مخلصة لدين الله قال سيد قطب رحمه الله تعالى في حاشية الصفحة 191 من المجلد الأول للظلال (نزل فيما بعد في سورة براءة الأمر بقتال المشركين في كافة الجزيرة العربية حتى يقولوا لا إله إلا الله.. وهذا هو التعديل الذي اطرد مع مقتضيات موقف الإسلام والجماعة المسلمة لتخلص الجزيرة للإسلام، فلا يدع وراءه أعداء له وهو يواجه عداوات الروم والفرس خارج الجزيرة(21).


غاية القتال حتى لا تكون فتنة

الجهاد-2.jpg

إن غاية القتال في الإسلام ومنتهاه هو أن يصير الناس في حالة من الحرية تنتفي معها الفتنة. (والفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال الإنسان، وتشتت باله بالخطر والخوف على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام. وهي إلقاء الخوف في قلوب الناس واختلال نظام العيش)(22).

وبالتالي فإن غاية الجهاد ألا يتعرض مؤمن لفتنة مادية أو معنوية تزيله عن دينه، أو عن شعيرة من شعائره، وكذا أن تنتفي الفتنة عن الكافر لئلا يحال بينه وبين الإسلام، إن هو اختاره. قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.)(23) وقال (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.)(24)

وقال في تفسير المنار: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) عطف على قاتلوا في الآية الأولى. فتلك بينت بداية القتال. وهذه بينت غايته. وهي ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين، ولهذا قال الأستاذ الإمام ـ أي محمد عبده ـ أي حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم لأجل الدين، ويمنعونكم من إظهاره، أو الدعوة إليه. (ويكون الدين لله) (ويكون الدين كله لله) أي يكون دين كل شخص خالصاً لله، لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن لصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج إلى الدهان والمداراة أو الاستخفاء أو المحاباة(25).

ثم إليك ما قرره سيد قطب رحمه الله تعالى حول قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) (.. إن النص عام الدلالة، مستمر التوجيه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة. ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله، والاستجابة لها عند الاقتناع، والاحتفاظ بها في أمان. والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة، وتطلق الناس أحراراً من قهرها، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله.

وهذا التكرار في الحديث عن دفع الفتنة بعد تفظيعها، واعتبارها أشر من القتل. هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام. وينشيء مبدأ عظيماً يعني في حقيقته ميلاداً جديداً للإنسان على يد الإسلام. ميلاداً تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته، وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة، فترجح كفة العقيدة. كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء الإنسان.. إنهم أولئك الذي يفتنون مؤمناً عن دينه، ويؤذون مسلماً بسبب إسلامه، أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير، ويحولون بينها وبين منهج الله.

فإذا انتهى الظالمون من ظلمهم وكفوا عن الحيلولة بين الناس وبين ربهم، فلا عدوان عليهم ـ أي لا مناجزة لهم ـ لأن الجهاد إنما يوجه للظلم والظالمين)(26).

وقال الطبري في جامع البيان: [وقال آخرون معنى قوله (فلا عدوان إلا على الظالمين) فلا تقاتل إلا من قاتل] ثم يروي الطبري بإسناد عن مجاهد (لا تقاتلوا إلا من قاتلكم)(27).

لقد كانت غاية الجهاد في الإسلام هو إبطال الفتنة بجميع أشكالها، وتحرير الإنسان من جميع الضغوط المادية والمعنوية، التي تؤثر في إرادته، وتحد من حرياته ليختار طريقه في هذه الحياة. وليس كما يزعم الزاعمون أن غاية الجهاد، هي حمل الناس على الإسلام، وإكراههم عليه. وقوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وقوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..) على وجه التحذير والإنذار أحكم من أن يفتات عليه أحد. الدين خيار فردي وحرّ، والإسلام يطالب بكسر كل طوق يحول بين الناس وبين دين الله، كما يطالب بإبطال فتنة تنصب على مؤمن ليتخلى عن دينه (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).

إن إطلاق خيار الإنسان الديني، في أجواء الدعوة الصحيحة، وفي ظروف التكافؤ في وسائل الخطاب وآلياته إنما ينم على ثقة مطلقة بأهلية هذا الدين، واستجابته لنداء الفطرة البشرية، وانسجامه مع قوانين العقل، واستعلائه التام على كل ما عداه من مزيج الأديان التي اختلط حقها بكثير من الباطل (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله). ولا غرو أن يشهد هذا الدين هذه الفيئة المباركة من أبنائه إليه، وأن يكون من أكثر أديان العالم نمواً، واكتساباً للجديد من المعتنقين، حيث يتآكل الباطل، وتتجدد روح النماء في الدين الحق، على الرغم من حالة الوهن التي يعيشها المسلمون، والتي تشكل بإطارها العام، التخلف والضعف والفقر والجهل، ضروباً من الفتنة تصد الآخرين عن دين الله.. أوليست هذه نقطة بداية للدعاة أن يقاوموا عوامل الوهن في مجتمعاتهم لكي لا تكون هذه العوامل فتنة في الصد عن دين الله !!


دار حرب ودار إسلام

تقسيم استراتيجي ـ تاريخي

إن تقسيم الفقهاء المتقدم في العصور التي خلت العالم، إلى دار إسلام ودار حرب ودار عهد؛ إنما نشأ عن واقع قائم، كانت تحكمه الظروف والأعراف الدولية، القائمة في تلك الأزمان. إن تطور النظم والقوانين الدولية، وتوقيع المعاهدات والمواثيق التي تنظم حياة الأمم والشعوب على نحو يخدم قضايا الإنسان، ويتساوق مع روح الإسلام في رفض الفتنة، وإطلاق فضاءات الحرية الإنسانية والدعوية، كل ذلك يتطلب من الفقهاء المسلمين، أن يعيدوا النظر في التقسيمات السابقة، التي كانت تقسيمات واقعية ظرفية بالدرجة الأولى.

وممن يؤكد أن ذاك التقسيم كان اعتبارياً محضاً، الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى. إذ سئل عن مدينة (ماردين)، وكانت ثغراً من الثغور الشامية مع الروم، سكانها مختلطون /مسلمون ومسيحيون/ وإدارتها تنتقل تارة إلى الروم وتارة إلى المسلمين، سئل ابن تيمية عن حكم هذه المدينة، وحكم سكانها الذين يكونون طوراً في ولاية المسلمين، وأخرى في ولاية المسيحيين الروم. وهل هي دار حرب أو دار إسلام ؟ فأجاب. وننقل هنا السؤال والجواب على طولهما، لما فيهما ممن ضروب الفقه المفيد والنافع.

(وسئل رحمه الله عن بلد (ماردين) هل هي دار حرب أو بلد سلم ؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا ؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه وماله، هل يأثم في ذلك ؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه أم لا ؟

فأجاب: الحمد لله. دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزاً عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه. وإلا استحبت ولم تجب.

ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريقة أمكنتهم. من تغيب أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت.

ولا يحل سبهم عموماً ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم.

وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، وليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام بكون جندها مسلمين (يقصد أن جندها غير مسلمين). ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار (ففيها سكان مسلمون كثيرون) بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه)(28).

إن الذي تؤكده هذه الفتوى، هي اعتبارية التقسيم إلى دار حرب ودار إسلام. وإن قيام أي وضع دولي جديد يقتضي من حركة الفقه الإسلامي تقسيماً جديداً.

ودار الإسلام عند الفقهاء، هي التي يأمن فيها المسلم على دينه ونفسه وماله وعرضه، وتقام فيها شعائر الإسلام، وتنفذ فيها شرائعه. ودار الحرب أو دار الكفر هي التي لا يأمن فيها المسلم على دينه ونفسه وماله وعرضه، ولا تقام فيها شعائر الإسلام ولا تنفذ فيها شرائعه. وليست دار الإسلام هي من غالب أهلها مسلمون فقط، وليست دار الكفر هي التي غالب أهلها كافرون فقط.

مدار التقسيم التاريخي قام على عنصرين: الأمن ـ وطبيعة النظام القائم: بإعلان الشعائر، ونفاذ الشرائع ـ إن أي تأمل في طبيعة العالم اليوم، وعلى ضوء الواقع الدولي يؤدي إلى أنه ترتب واقع جديد، أو أقسام جديدة على ما أشار إليه ابن تيمية في حديثه عن مدينة (ماردين).

هل نستطيع أن نعيد تقسيم العالم اليوم إلى /دار دعوة/ حيث يأمن المسلم على دينه ونفسه وماله ويجد الحرية الكاملة للدعوة إلى دين الله. ودار فتنة حيث يتعرض المسلم لألوان الأذى والعدوان بسبب دينه وعقيدته، أو بسبب ممارسته لواجب الدعوة المناطة به !! وإذا كانت هذه القسمة مقبولة. فإن المطلوب من المسلم في الحالتين أن ينهج سبيل الحكمة في دفع الأذى وكف الفتنة، أو في نشر الدعوة وهداية الناس إلى دين الله.

إن الذين يتمسكون بالتقسيم التاريخي للواقع الدولي، رابطين بين التاريخي والديني، متجاوزين الواقع ومعطياته الجديدة بكل أبعادها المدنية والسياسية والدعوية يرتكبون خطأ استراتيجياً وخطيئة شرعية كبرى من حيث لا يشعرون.

ثم إن الذين يرون في تقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام، ثم حشر الكثير من بلدان المسلمين في الإطار الأول، ذريعة إلى استحلال دماء الناس وأموالهم، يرتكبون محرماً شرعياً حتى على الأساس الاعتباري الذي يقررونه على ما فيه من خطأ. فهم عندما يدخلون، ما يسمونها دار الحرب أو دار الكفر، إنما يدخلونها بعهد وأمان، متبادل بينهم وبين أهل تلك الديار، عهد يمثله نظام الإذن بالزيارة والمرور والإقامة التي تمنحهم إياه الهيئات المختصة من أهل تلك البلاد. ثم يكون منهم بعد ذلك من الغدر ووالختل ما لا يليق بمسلم، وإليك ما قرره ابن قدامة الحنبلي في المغني، جاء في متن الخرقي الحنبلي (من دخل أرض العدو لم يخنهم) وعلق عليه ابن قدامة بقوله (.. وأما خيانتهم فمحرمة لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ، فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً لعهده. فإذا ثبت هذا لم تحل خيانتهم لأنه غدر ولا يصلح في ديننا الغدر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون عند شروطهم، فإن خانهم أو سرق منهم، أو اقترض شيئاً، وجب عليه رد ما أخذ.)

الداخل إلى بلاد المسلمين يدخل بأمان حكوماتها، ويجير على المسلمين أدناهم، فكيف بمن كانت له ولاية أمر فيهم، بحق كانت هذه الولاية أو بغيره. والداخل إلى بلاد غير المسلمين يدخل بأمنهم وحسب شروطهم. ومن واجبه أن يفي بالعقود، وأن يلتزم بالشروط. وما عدا ذلك فليس ثم إلا الغدر.

إن التحرر الفكري والسياسي الذي يشهده العالم اليوم لهو فضاء رحب للعامل المسلم لكي ينطلق بكلمات الله إلى قلوب الناس ورؤوسهم، ولكلمة طيبة في قلب طيب خير ألف مرة من رصاصات طائشة تنطلق من هنا وهناك.

(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)