عبد الناصر الملف السري

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٧:٥٥، ٢٠ مارس ٢٠١٢ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
عبد الناصر الملف السري


تأليف: منتصر مظهر

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إهداء إلى العظيمة التي علمتني الكثير وأجزلت العطاء الوفير .أمي الحبيبة . . .وإلى أمنا مصر . . منتصر مظهر

جمال عبد الناصر .اسم له وقع قد يختلف من شخص لآخر وفقا لمعتقده السياسي والفكري . وحتى الإنساني , لكن البعض مختلف عليه لكونه من الشخصيات التي لعبت دورا بالغ الخطورة في صميم الحياة المصرية على الأصعدة المختلفة .

ومحاولة تقييم رجل عادي أو مسئول كبير أو حتى زعيم قد تبدو يسيرة إذا كان زمان التقييم يتم في ظروف طبيعية ومناخ سوي .أما الظروف التي مرت بها مصر والأمة العربية كلها خلال فترة حكم الرئيس عبد الناصر فإن الأمر قد يختلف بمقدار كبير .لذا يلزم التنبيه بداية أن هذا العمل " تاريخي " بالدرجة الأولى لأننا اليوم في ظل أوضاع مشابهة نوعا ما بالظروف المتغيرة في حقبة الخمسينات والستينات والتي كانت وفقا للتصور العالمي بداية الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية بعد حربين طاحنتين حتى منتصف القرن المنصرم .

وقد تميزت فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر بكم حافل من الأحداث .تراوحت بين الأفراح والأتراح .وبين السعادة والشقاء .وبين الأمل والألم .ولكن أهم خصائص تلك المتناقضات أنها كانت ساخنة للغاية .ولم تكن أحداثا عابرة ليس فقط على الصعيد الداخلي في الشأن المصري البحث .وإنما على الصعيدين العالمي والقومي أيضا .وأخذت سخونة الأحداث تزداد ارتفاعا بمرور الوقت حتى وقعت كارثة 5 يونيه 1967 وما تلاها من تغييرات شاملة في أروقة نظام الحكم " حتى بات الأمر وكأنه انقلاب من القمة إلى قاع السلطة , والحقيقة أن هذا " التغيير " لم يكن مفاجأة لمن اقترب من القمة إلى قاع السلطة , والحقيقة أن هذا التغيير لم يكن مفاجأة لمن اقترب من سدة النظام .بل جاء متأخرا عن توقيته كثيرا بحيث فقد تأثيره وكأنه جاء بعد " غرق السفينة " .. ولكن رغم ذلك جاءت السنوات الثلاث المتبقية من فترة حكم " ناصر " أيضا ساخنة ولكن على المستوى المحلي .

وتجلي ذلك في تغير فكر عبد الناصر بمقدار 180 درجة .حيث إن من كان في منأى عن السلطة قد أصبح في قمتها ومن كان خارج الأضواء أو على هامشها بات في بؤرة المسئولية .ومن كان ملء الأسماع والأبصار تلاشى وانقطع كره , وانتظر المصريون بشائر الفجر الجديد وما يحمله من آمال في إزاحة كابوس يونيه واعتدال الميزان .غير أن ما حدث جاء على خلاف المرجو .فقد تبوأت منصة الحكم وجوه جديدة بالفعل , ولكن ارتدت ذات الأقنعة لسابقيها وسلكت نفس الطريق الانهيار مرة أخرى .

ونحن في هذا الكتاب نستعرض أهم المحطات في تاريخ عبد الناصر حتى 28 سبتمبر 1970 – بكل أبعادها ونلقي الأضواء على صراعات النفوذ والقوة والسلطة التي دارت فيها .آملين أن يكون الجهد المبذول نافعا للجميع وأن يكون العمل تاريخا " أمينا " للأجيال التي لم تعش تلك الفترة الساخنة من عمر مصر .ورغم مرور خمسين عاما على قيام الثورة المصرية الحديثة فإنه على الشباب استرجاع ذكرياتها لأنه يحصد اليوم ما قد تم بذره من نصف قرن .

لقد ترك جمال عبد الناصر كما لا يستهان به من التراث الفكري وبقدر ما كانت شخصيته تحمل غموضا وتناقضات بقدر ما حملت أيضا وضوحا وصدقا , ويحسب له أنه شخصية لم تمر ما بين الميلاد والوفاة مرور الكرام بل لفت أنظار الجميع حولها , وتفاعلت مع الأحداث فيها أيضا , ومهما تأرجحت الآراء حوله سيظل محورا للحديث الثري البناء .سلبا وإيجابا .

ونحن إذ نحاول فتح الملفات السرية أو الغامضة للرئيس عبد الناصر فإننا نؤكد على كونها ملفات معقدة نوعا ما .كلغز موته .! ! وحقيقة سرقة خزانته الخاصة من داخل بيته بمنشية البكري .! ! وأمر المرض العضال الذي عاني منه ؟ إلى آخر الأشياء التي قد يجهلها البعض ونحاول كشفها .

الفصل الأول: ميلاد ناصر ونشأته

نشأ الرئيس جمال عبد الناصر في كنف أسرة متواضعة شأنها شأن ملايين الأسر في مصر والتي تعاني شظف العيش وضيق ذات اليد بينما كانت هناك في ربوع مصر حفنة تعد على الأصابع من كبار الملاك تملك ثروات مصر وخيراتها وتحكم بالكرابيج شعبها حتى أن المفكر الإسلامي الكبير خالد محمود خالد رحمه الله أطلق على هؤلاء " الإقطاعيين " مجتمع النصف في المائة .

كان والد عبد الناصر قد تلقى علومه الأولية في إحدى مدارس الإرساليات داخل مدينة أسيوط التي تبعد عن مسقط رأسه قرية " بني مر " حوالي أربعة كيلو مترات فقط كان يقطعها سيرا على الأقدام مع أقرانه من أبناء البلدة الصغيرة التي كانت ترزخ تحت نير الفقر والبؤس والجهل والمرض .

وبعد أن أنهى دراسته تسلم مهام عمله الجديد في مصلحة البريد في مدينة الإسكندرية عروس البحر المتوسط براتب لا يقل عن ثمانية جنيهات شهريا وفي سنة 1917 أبدى الأب عبد الناصر حسين رغبته في الزواج ووقعت عيناه على فتاة جميلة هائلة ابنة أحد أشهر تجار الفحم في مدينة الإسكندرية تدعى فهيمة محمد حماد وهو الأمر الذي يفسر عشق جمال عبد الناصر الابن وارتباطه بتلك المدينة وتمسكه الدائم في إلقاء أشهر خطاباته أمام شعبها .

وفي 15 يناير 1918 ولد جمال عبد الناصر حسين وعلى الفور انفرجت أسارير الأب الذي أبرق إلى أهله في أسيوط يبشرهم بمولد طفله وكما أبدى رغبته في تسجيل اسمه ضمن مواليد قرية بني مر طبقا لأعراف أهل الصعيد الذين يتمسكون بمسقط رأسهم ولا يميلون إلى الاستقرار في مسقط رأس الزوجة حيث إنه يتعارض مع أخلاقهم وطباعهم وتقاليدهم فقام أحد أقاربه بتسجيل اسمه نزولا على رغبة الأب الصعيدي الذي يعتز ببلده الفقير وفي عام 1921 انتقل والده إلى مدينة أسيوط وعاش الطفل وسط عائلته وبين أبناء قريته التي ظل فيها حتى التحق بإحدى مدارسها الابتدائية .

وفي صيف 1925 ألح عمه " خليل " على والده أن يصطحبه معه إلى القاهرة للإقامة معه حيث لم يكن قد أنجب أطفالا وتولى هو رعاية شئون جمال في مراحل الدراسة وهكذا كان صيف 1925 هو بداية ميلاد التأثر داخل جمال عبد الناصر .

وبيت عمه خليل كحان يقع في حي النحاسين أحد أشهر أحياء القاهرة القديمة والتي تتصف بالصناعات والمشغولات اليدوية وهو على بعد خطوات من أحياء الصاغة والموسكي والغورية والعطارين ومسجد الأزهر الشريف ومسجد مولانا الإمام الحسين رضي الله عنه .

وروى جمال عبد الناصر ذات مرة أنه قد شاهد في طفولته حادث مصرع فتاة مصرية فقيرة تحت عجلات سيارة جيب عسكرية يقودها أحد جنود الاحتلال البريطاني الذي لاذ بالفرار دون أن يعترض طريقه أحد وحين روى لعمه خليل تلك الواقعة التي أدمت قلبه وأثارت حفيظته أجابه عمه خليل قائلا في أسى وأسف :

" لا تتعجب يا ولدي .. فسوف نظل هكذا أذلاء حتى يظهر من بين أبناء هذا الشعب من يملك الإرادة على طرد هذا المستعمر البغيض " .

ويضيف جمال عبد الناصر أنه شعر في قرارة نفسه أنه سيكون هذا الرجل الذي سيطرد هذا الاستعمار الذي يحكم البلاد بالحديد والنار .

وهكذا ثارت نيران الوطنية وتأججت في صدر الرئيس جمال عبد الناصر منذ نعومة أظافره . . وطفولة الرئيس جمال عبد الناصر كما رواها بنفسه تؤكد ميله منذ صغره للانطوائية والعزلة فلم يعش طفولته كما عاشها من كانوا في مثل سنه , بل كان دائم التفكير في شأن البلاد والاستعمار وكان يسعى في نفسه إلى تدبير خطة تمكنه من الخلاص من هذا المستعمر البغيض فكان يشتري الأسلحة الخفيفة الخاصة بالأطفال , ويلعب دور الفدائيين بينما يتخيل بعض أقرانه كجنود الاحتلال .

وفي عام 1926 تعرض جمال عبد الناصر لأعنف صدمة في حياته حيث ماتت أمه وهو الذي قال بعد موتها : " إن موتها كان بمثابة ضربة صاعقة تركت آثارا وبصمات لا تمحى " .

وعاش جمال عبد الناصر يتيما محروما من حنان أمه , وبعد انقضاء نحو سبع سنوات فكر الأب عبد الناصر حسين في الزواج مرة أخرى بعد أن ألح عليه أشقاؤه في ضرورة العيش في كنف زوجته ترعى شئونه , وتولى ابنه جمال رعايتها , وخضع الأب , وراح يبحث عن زوجة تتلاءم مع ظروفه وظروف ابنه الذي كان قد التحق وقتئذ بالمدرسة الثانوية .

وهكذا تزوج الأب للمرة الثانية من إحدى سيدات مدينة السويس الساحلية والتي كانت تدعى عنايات مصطفى . . وانتقل والده مع زوجته الجديدة إلى القاهرة , وأدرك جما أن أحوال والده قد تغيرت فهو يعيش مع زوجة غير أمه ولا يستطيع أن يفعل ما كان يطيب له أن يفعل في وجود والدته مما دفعه للعودة إلى عمه خليل مرة أخرى مما أثار ضيق زوجة أبيه وراحت تعاتبه على ابتعاده عنها .

ورغم أن البعض قد أورد في كتاباته أنها أساءت معاملته كما هو معروف وشائع عن زوجة الأب , وهو ما لم يتأكد للباحثين والمحللين حيث أورد البعض الذين أنصفوه أن زوجة أبيه – رحمها الله – كانت تعامله برقة وأدب واحترام , بل كانت تتهيبه , وكثيرا ما رددت أنه كان يناديها قائلا : " حضرتك " وقد وصفته ذات مرة بأنه يتصف بالشهامة والبساطة والقوة والانضباط والشخصية الحازمة كما قالت عنه إنه كان يشبه الهرم ! ! .

وفي أثناء دراسته الثانوية انتقل جمال إلى مدينة الإسكندرية والتحق بمدرسة رأس التنين إحدى المدارس القريبة من القصر الملكي الشهير والمعروف باسم رأس التنين .

وفي أثناء إحدى المظاهرات التي كانت تجوب شوارع الإسكندرية احتجاجا على وجود الاحتلال البغيض راح الفتي جمال ينخرط في صفوف هذه المظاهرات وقد ألقى البوليس عليه أثناء اشتراكه فيها , وحين اقتادوه إلى عربة الشرطة سمع من زملائه الثوار الذين لا يعرفهم أنهم أبناء حزب مصر الفتاة.

واستدعى البوليس والده لكي يتسلمه بعد إقرار وقعه الوالد على ألا يعود ابنه التلميذ إلى المظاهرات مرة أخرى وإلا تعرض للاعتقال أو الفصل من المدرسة , وقيل إن والده كان فخورا به ولم يؤنبه أو يلمه على ذلك , مما دفع جما إلى مواصلة كفاحه ونضاله دون خوف أو حذر من الأب الذي كان يعتصر ألما هو الآخر من وجود المستعمر البريطاني داخل بلاده وسرعان ما انتقل الأب مرة أخرى إلى القاهرة لكى يتولى رئاسة مكتب بريد الموسكي , وأثناء تلك الفترة الزمنية قضى جمال مع أسرته ردحا من الزمان في حارة " خميس عدن " المجاورة لحارة اليهود بإلحاقه في مدرسة النهضة بالفجالة .

وطبقا لروايات الرئيس جمال عبد الناصر عن تلك الحقبة فقد قام بتحريض زملائه من مدرسة النهضة للخروج في مظاهرات قادها هو واتجه بها إلى الجامعة لتأييد طلابها الذين اعتصموا بداخلها , وقد حاصرت قوات الشرطة المظاهرة , وراحت تبحث عن قائدها فتمكن جمال من الإفلات من قبضتها الحديدية مع بضع زملائه وتوجه قاصدا بيت الأمة لكي يستمع إلى بيان زعيم الأمة مصطفى النحاس , ولكن كانت عيون رجال البوليس السياسي تراقبه وتلاحقه وتطارده فأمسكوا به وأودعوه رهن الاعتقال لحين حضور والده الذي هرع لاستلامه بعد الإفراج عنه .

وفي نهاية العام الدراسي أدى جمال امتحان الشهادة الثانوية ونجح وحصل على مجموع يؤهله للالتحاق بكلية الحقوق التي كانت آنذاك مفرخة لتخريج الزعماء والسياسيين العظام . . وكانت كلية الحقوق هي رغبة والده إلا أنه قد تمنى الالتحاق بالمدرسة الحربية غير أن طلبه قد قوبل بالرفض لاعتبارات عديدة فهو مجرد موظف في مصلحة البريد , وأن أسرته ليست ضمن الأسر الإقطاعية الشهيرة وليس من بينها ضابط أو أحد الباشوات أو البكوات فضلا عن اشتراكه كثيرا في مظاهرات ضد الإنجليز والملك وهو يتعارض مع توجيهات المدرسة الحربية آنذاك . . لم ييأس جمال ولم يستسلم وظل يبحث عن مخرج يؤهله للدخول في المدرسة الحربية التي كان قد نذر نفسه لها وألح على عمه خليل في البحث له عن وسيلة للالتفاف حول هذه الذرائع التي تعرقل انضمامه إلى المدرسة الحربية وأمام إصراره وتمسكه خضع عمه خليل ولجأ إلى صديقه ( اللواء إبراهيم خيري باشا ) سكرتير المدرسة الحربية ووافق الرجل على دخول جمال إلى المدرسة الحربية والتحق بالفعل بها عام 1937 .

وبعد عام واحد من الانضمام إليها تخرج ناصر برتبة ملازم ونقل إلى الخرطوم وبعد عدة سنوات عاد منها إلى المدرسة الحربية لكي ينضم إلى " مدرسة أركان الحرب " وكان أن حصل على دراستها وتم تعيينه مدرسا لأركان حرب الكلية .

من هنا أحس جمال بالاستقرار المادي مما دفعه ذلك للميل إلى البحث عن عروس تستكمل معه مشوار حياته الطويل وكانت تربطه علاقة وطيدة بصديق كان يكبره في السن ويملك مصنع سجاد يدوي ويدعى " عبد الحكيم كاظم " وفاتحه برغبته في ابنته تحية الفتاة الرقيقة السمراء التي تجنح للهدوء والبساطة والرقة ووافق الأب على الفور , وتبعته العروس فوفقت دون تحفظ واستمرت الخطبة نحو شهرين وبعدها تم الزفاف , وقيل على لسان جمال عبد الناصر أنه قد أهداها في فترة الخطوبة فوتوغراف ومجموعة اسطوانات موسيقية وغنائية للموسيقار سيد درويش .

كان جمال عبد الناصر آنذاك ميسور الحال يعيش في رغد وبحبوحة وقد قام باستئجار فيلا في منشية البكري بمنطقة هليوبوليس وتزوج فيها وعاش بها حتى مات , وقد اشترى سيارة أوستن سوداء صغيرة كانت شائعة بين ضباط الجيش في ذلك الوقت , وقد كان يطوف بها على أعضاء تنظيم الضباط الأحرار وهكذا عاش جمال عبد الناصر حتى أشعل شرارة ثورة 23 يوليو التي طردت الملك والاستعمار وقضت على الإقطاع , وأقامت جيشا وطنيا , وأممت قناة السويس , وإن كانت عرضت البلاد لنكسات ونكبات على يد الثورة والثوار مما أدى بخصومها إلى التشهير بالرئيس جمال عبد الناصر وسياسته التي أدت إلى ضرب الديموقراطية وظهور الديكتاتورية وإغلاق الأحزاب , وبناء السجون والمعتقلات , وتعذيب المعارضين من الإخوان المسلمين والشيوعيين والعداء مع بعض الأنظمة العربية وانتشار نفوذ مراكز القوى وهزيمة 1967 واحتلال سيناء , والجولان والضفة وغزة والقدس , ولكن مهما يكن فإن لجمال عبد الناصر إيجابيات لا تعد ولا تحصى كما أن له سلبيات وخطايا بنفس الكم .

وواقع الأمر أننا هنا لا ندافع عن جمال عبد الناصر أو منهاجه فالملف الذي أعددناه هنا هو دراسة شاملة ووافية حول مسيرة رجل كان وسيظل حديث العالم فلسوف نعرض بأمانة وصدق ما له وما عليه في حياد ونزاهة بعيدا عن العاطفة وما تجيش به نحوه سواء كانت العاطفة ضده أو معه , فإننا نقف أمام زعيم يستحق أن تروى عنه مجلدات خاصة أنه عاش أخطر حقب القرن العشرين وما شهده من أحداث حافلة بالتحديات والمخاطر والأهوال .

الفصل الثاني: عبد الناصر والمخابرات الأمريكية

ما من شك أن علاقة جمال عبد الناصر مع المخابرات الأمريكية أثارت جدلا واسعا داخل أورقة الإعلام المصري منذ رحيله عن عالمنا .

ومهما أورد البعض مبررات تؤكد سلامة ونوايا جمال عبد الناصر فلا يستطيع أمام ما تردد أمامنا من وثائق ومستندات أن نذكر وجود هذه الاتصالات بحال من الأحوال , كما أن المبررات التي يعرضها أنصار جمال تعزز إيماننا بوطنية هذا الرجل وصلابته أملم قوى الاستعمار والإمبريالية , ولكننا هنا نستعرض لما هو واقعي ومقبول فلا يمكن بالطبع الاستعانة بأقوال ضباط المخابرات الأمريكية , والإيمان بما ذكرته دون المرور أو الوقوف أمام سيل الوثائق والمستندات المصرية وإلا صار هذا إجحافا للحقيقة وانصياعا للرؤية الغربية التي رما تكون قد هدفت من وراء نشر وثائق علاقات جمال عبد الناصر السرية مع المخابرات الأمريكية هو تلطيخ سمه الزعيم وتشويه سيرته , وتحطيم صورته في أعين عشاقه من الأمة العربية التي ملك عواطفها , واستأثر على مشاعرها وصار هو زعيمها ورمزها وابنها البار .

ولكن بعيدا عن العواطف وساء كانت تلك العواطف مع جمال عبد الناصر أو ضده فلا ينبغي علينا سوى الإنصاف وأن نعطي كل ذي حق حقه .

وفي واقع الأمر أن بداية نشر علاقات جمال عبد الناصر مع رجال السي آي إيه أو المخابرات الأمريكية كانت وراءها كتاب مايلز كوبلاند أشهر ضباط المخابرات الأمريكية الذي نشره تحت عنوان " لعبة الأمم " أما مايلز كوبلاند هذا فقد كان ضمن فريق من رجال المخابرات الأمريكية ( السي آي إيه ) الذين أعدو مسرحا يضم ممثلي كافة دول العالم ليتخيل رجال المخابرات الأمريكية تصوراتهم وقراراتهم التي يصدرونها إزاء الأزمات التي يواجهونها , وكان مايلز كوبلاند هو الذي يقوم بأداء دور الزعيم جمال عبد الناصر في لعبة الأمم .

والحاصل أن كتاب لعبة الأمم الذي نشره مايلز كوبلاند عام 1969 قد تعرض للمنع من دخول كافة البلدان العربية ومن بينه مطابع مصر , حيث تضمن الكتاب أحداثا خطيرة تدين أغلب حكام الدول العربية وعلى رأسها جمال عبد الناصر وقد كشف الكتاب حقيقة علاقة ( الاسي آى إيه ) بالزعماء العرب ودور جهاز المخابرات في دفع هؤلاء لأريكة الحكم , وحمايتهم من مغبة التنظيمات المناهضة لأنظمة حكمهم .

والشاهد أن مصر التي منعت دخول الكتاب إليها نشرت على لسان محمد حسنين هيكل مستشار ناصر الصحفي أن مايلز كوبلاند ضابط مخابرات أمريكي عاطل لا يعمل وهو يطلب إتاوات من مصر نظير أن يتراجع عما جاء في الكتاب أو هو يسعى لإقامة جهاز مخابرات مصري يتولى الإشراف عليه , وقد ذكر هيكل أن خزانة الدولة لديها العديد من هذه الخطابات التي وقع عبد الناصر عليها بالرفض وعلى ما جاء بها وأورد هيكل في رده على كوبلاند أنه لا يعرف أحدا بهذا الاسم , وأنه لم يلتق مع ناصر أبدا وراح ينفي بكل قوة وجود أية علاقة بين ناصر أو أي من ضباط المخابرات الأمريكية .

إلا أن خطاب مصطفى أمين الذي كتبه في سجن المخابرات المصرية وهو جالس على مكتب صلاح نصر يؤكد وجود علاقات خفية قوية بين ناصر ومصطفى أمين وهيكل مع رجال ( السي آي إيه ) .

ومن غير الممكن أن يكذب مصطفى أمين في خطابه إلى عبد الناصر وهو يتوسل إليه أن يفرج عنه فكيف ستهم عبد الناصر بوجود علاقة تربطه بالسي آي إيه إلا إذا كان هذا صحيحا وواقعيا .

وقبل أن نتطرق لوثيقة خطاب مصطفى أمين الذي سماه هيكل في كتابه ( بين الصحافة والسياسة ) وثيقة الإدانة فينبغي أن نعرض فقرة قصيرة في حديث ناصر مع صحفي فرنسي تحدث فيه عن ولعه بالأمريكان وهذا هو نص الحوار الذي نشره في صدر رئاسته للبلاد .

ففي مجلة روزا اليوسف الصادرة في 25 / 1 / 1999 بعددها رقم 3685 نشرت نقلا عن مجلة جون أفريك الفرنسية حوارا مترجما للزعيم جما عبد الناصر مع الصحفي الفرنسي ( جاك بنواستي ميشان ) وقد سأل الرئيس قائلا في جزء من هذا الحوار :

"المحرر الفرنسي : لقد أكدوا لي أنه ليس لديك أي تعاطف مع الأمريكان ! ! .

جمال عبد الناصر : عندما وصلت إلى السلطة كنت في خدمتهم أتكلم لغتهم .أقرأ مجلاتهم , كنت في حالة إعجاب شديد بتقدمهم الفني فكرت في أن طريقة الأمريكان هي الأفضل في الحياة .وكنت معجبا بهم لأنهم ضد الاستعمار , وبعد ذلك عندما تلتقي بالأمريكان وتستمع إلى إنذاراتهم وتحدثهم المستمر عن الدولار انتهيت بأنني فقدت عزيمتي .أنا أعتقد أنهم لم يفهمونا , أن أستطيع أن أفهم ..... . .

هذا هو رد جمال عبد الناصر على سؤال المحرر الفرنسي وها هو يقول : إنني كنت في خدمتهم حين وصلت إلى السلطة واصفا إعجابه بأسلوبهم في الحياة .

وإليك رواية ذكرها عبد اللطيف البغدادي في الجزء الأول من مذكراته , وكان الرجل كما هو معروف يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية إلى جانب اشتغاله بعدة مناصب كبرى غير ذلك .

وهذا نص حوار دار بين كيم روزفلت مدير المخابرات الأمريكية بالشرق الأوسط والرئيس جمال عبد الناصر كما ذكره البغدادي  :

يقول روزفلت لناصر :

إن مستر ألن موفد برسالة من دالاس نفسه وأنه يعتقد أن دالاس ( وزير الخارجية الأمريكي ) . .هو الذي أملاها شخصيا كما يعتقد أن الإنجليز هم الذين أشاروا عليه بهذا لأنها عنيفة جدا وأنه يجب عليك ( يقصد ناصر ) أن تحزن ولكن لا تغضب وأنت تمسك أعصابك حتى يمكننا أن نحل هذه المشكلة في ما بعد . . كما ذكر أنه لو كان هناك في الولايات المتحدة وقت كتابة هذه الرسالة لمنع إرسالها بهذه الصورة .

ويضيف البغدادي أن كير ميت روزفلت قال لناصر أيضا في تلك المقابلة:

" إنك ستجرح كبريائك ولست أقصد كبريائك الشخصي , بل كبرياء بلدك حتى تمر هذه الأزمة دون اتخاذ أية إجراءات من جانبنا , أن تكون صبورا وأن تطلب منه أن يعطيك الفرصة للدراسة وأن تكون كأب حكيم وهو كابن أو أن تقبل ما في الرسالة " .

هذه هو نص ما جاء في مذكرات البغدادي وهو شاهد من أهلها فنحن لا نستشهد إذن بأقوال السي آي إيه حتى لا يتهمنا أحد بالاصطياد في الماء العكر .. .

وتأكيدا لما جاء في أقوال البغدادي فقد أكد هيكل في كتابه الصادر باللغة الإنجليزية تحت عنوان " قطع ذيل الأسد " وتحديدا في صفحة 56 حيث يقول : " إنه كان هناك لقاء جمال عبد الناصر مع كير ميت روزفلت في بيتي المطل على النيل " .

ثم تأمل ما ذكره الأستاذ أحمد حمروش في مقاله المنشور في مجلة روزا اليوسف بتاريخ 15 / 12 / 1986 وهو للعلم ناصري معروف وكان أحد أهم أفراد تنظيم الضباط الأحرار فماذا جاء في مقاله :

قال حمروش : " لم يقتصر اتصال الضباط الأحرار بالقوى والتنظيمات السياسية المصرية فقط ولكنه امتد ليشمل أيضا مندوبي وزارة الخارجية والمخابرات الأمريكية الذي استثارتهم منشورات الضباط الأحرار وانتصارهم في انتخابات نادي الضباط فبذلوا غاية جهدهم للتعرف عليهم , واكتشاف آراءهم ومحاولة اجتذابهم وكانت حلقة الاتصال مع ضابط المخابرات المصرية طبيعة عمله تسمح له بالاتصال مع العسكريين الأجانب بينما هو مرتبط بالضباط الأحرار وبجمال عبد الناصر شعبيا , ولم تتسع حلقة الاتصال بين المسئولين الأمريكيين وبين الضباط الأحرار رغم اعتمادهم على الصحفي المقرب منهم محمد حسنين هيكل رئيس تحرير آخر ساعة في ذلك الوقت ورئيس تحرير الأهرام في ما بعد لأنه لم يكن قد تعرف على جمال عبد الناصر أو غيره من الضباط الأحرار " .

إذن أكد أحمد حمروش أن هيكل كان قريبا من المخابرات الأمريكية واعتمدوا عليه , وكلنا نعرف كيف كانت طبيعة العلاقة بين هيكل وجمال عبد الناصر , ولماذا كانت قوية ومتينة إلى درجة فلتت الأنظار وحيرت العقول .

والآن سنتعرف معا على خطاب مصطفى أمين الذي كتبه باكيا راجيا شفاعة ناصر له وقد أكد هيكل أن هذا الخطاب هو الذي أدان مصطفى أمين بصفته جاسوسا يعمل لحساب المخابرات الأمريكية , وبما أن هيكل والقضاء المصري قد اعتبر الخطاب وثيقة إدانة فينبغي علينا بالطبع أن نأخذ ما جاء فيه كوثيقة صحيحة لا أن نعترف ببعضه وننكر أغلبه وإلا صار وثيقة تنقصها الدقة وتحتاج للموضوعية , فلو أننا سلمنا بما ذكره هيكل من أنه خطاب إدانة فلسوف نشهد به لكي ندين ناصر وهيكل معا في التورط مع السي آي إيه , وجدير بالذكر أن مصطفى أمين الذي كان قد وقع في قبضة صلاح نصر وزبانيته ما كان له أن يكذب أو يفتري على ناصر وهو رهين محبسه ويترجاه للإفراج عنه .

ففي إحدى فقرات خطاب مصطفى أمين جاء فيها ما يلي بالنص دون تصرف :

( كان كيم روزفلت مدير المخابرات الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط قد حضر إلى مصر في هذه المرة في مهمة قصيرة لا تزيد على يومين ثم قامت الثورة في 23 يوليو 1952 وحضر روزفلت إلى القاهرة أيضا في مهمة الاتصال بقادة الثورة ولم أقابله هذه المرة ولكني عرفت بحضوره من أعضاء مجلس قيادة الثورة ..

ثم زاد تردده على القاهرة بعد ذلك في مهام قصيرة وقد قابلته في أغلب المرات والحقيقة أنني كنت أسعى للقائه وكنت أجتمع به في حضور محمد حسنين هيكل , وكنا نتغذى معا في بيتي وقد توطدت علاقتنا وكانت مناقشتنا تدور حول المشاكل التي كانت تدور في الأذهان وجرى حديث أيضا عن محمد نجيب , ورأينا أنه لا يصلح وكانت المرحلة خلال الفترة 1953 , 1954 , وكان كيم روزفلت على اتصال وثيق بالثورة وكان يقوم بنشاط واسع في هذا المجال لدرجة أنه كان في ذلك الوقت صاحب أقوى نفوذ بين الأمريكيين في مصر بما فيهم السفير الأمريكي .

وفي فقرة أخرى من خطاب مصطفى أمين الذي اعتبرته المحاكم المصرية ومعها هيكل وثيقة إدانة لتخابر مصطفى أمين مع الأمريكان يقول أيضا ( استمرت علاقتي مع كيم روزفلت على هذا النحو عندما يحضر في مأموريات قصيرة وكانت مأمورياته متعددة في مهام تتعلق باتصالاته مع رجال الثورة ! ! ) .

ويقول : ( كنت في كل مرة يحضر فيها أتقابل معه وذلك إما عن طريقي أو بالمبادأة بالاتصال به أو هو يتصل بي في بعض الأحوال وكنا نجتمع أيضا في منزلي وقت الغداء في حضور الأستاذ محمد حسنين هيكل وكان الأستاذ هيكل يشغل وظيفة رئيس تحرير الأخبار وأخبار اليوم في ذلك الوقت , ولا تزال علاقاتي به قائمة كما تعلمون إذا حضر اتصلت به أو اتصل بي ) .

ويقول :( إما بخصوص مستر ليكلاند والذي ذكر لي المرحوم صلاح سالم أن يعتقد أنه ضابط مخابرات أمريكي والذي شككت من بعض تصرفاته وسألته أنه يعمل بالمخابرات , وقد عرفني عليه السفير كافري خلال إحدى حفلات السفارة والذي كنت أتناقش معه في المسائل السياسية , وكان على علاقة وثيقة بأعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر واستمرت مقابلاتي مع ليكلاند وكانت تتم إما في مكتبي بأخبار اليوم وإما في مكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل بآخر ساعة وتعرفت أيضا في هذه الفترة بمستر مايلز كوبلاند , ضابط المخابرات الأمريكية وكان يعمل بسفارتهم في القاهرة , وعرفني به نائب مدير مكتب الاستعلامات بالقاهرة في ذلك الوقت وكانت علاقتي به جيدة وكان يحضر إلى مكتبي وأحيانا إلى منزلي ) .

إذن اعتراف مصطفى أمين بمعرفة مايلز كوبلاند يتعارض مع ما ذكره هيكل مرارا من أنه لا يعرف من هو مايلز كوبلاند وأنه لم يلتق أبدا مع ناصر أو أنه لم يحضر إطلاقا إلى مصر ! ! .

ثم يقول مصطفى أمين في فقرة أخرى تدين هيكل مستشار السوء لناصر :

( في سنة 1956 قدمني الأستاذ هيكل إلى مستر وليام دورات ميلر الملحق السياسي بالسفارة الأمريكية , وهو كما علمنا في ما بعد أنه أحد ضباط المخابرات الأمريكية , وكان اتصالي به خلال فترة تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي وما بعدها وكنت أطلع سيادتكم ( جمال عبد الناصر ) يوميا على هذه الاتصالات وكنتم سيادتكم ( جمال عبد الناصر ) تسمونه ( ريكا ) وقد أصبح الآن منذ عهد كنيدي نائبا لمدير الاستعلامات الأمريكي وهو منصب كبير جدا هناك وأنا لا زلت على اتصال به عندما يحضر للقاهرة , وعندما وقع العدوان الثلاثي كنت أنا ومحمد حسنين هيكل على اتصال مستمر بسيادتكم وكنا نبلغ أمريكا باستمرار أثناء المعركة بطريقة سريعة غير الطريقة الدبلوماسية وجهة نظر بلادنا وذلك عن طريق ميلر وكما تعلمون أن فكرة البوليس الدولي ولدت أثناء اجتماعنا في أخبار اليوم بحضور الأستاذ محمد حسنين هيكل ثم تفضلتم وأرسلتموني في مأمورية أثناء العدوان إلى أمريكا لنشر صور العدوان " .

وفي فقرة أخرى يقول مصطفى أمين في خطابه الموجه إلى جمال عبد الناصر بالسفارة الأمريكية بالقاهرة أنه اطلع على برقية سرية جدا وصلت على التو من السفير الأمريكي في تل أبيب تشير لعدوان إسرائيل في سيناء وألح على ألا أخبر الرئيس جمال عبد الناصر بهذا الأمر , وقال : إنه إذا عرف أن هذه البرقية قد تسربت فسوف يفقد عمله وأسرعت على الفور وأخبرت سيادتك بما حدث , وأوليت هذا الأمر اهتماما بالغا وطلبت معلومات أوسع عن هذه العملية الخطيرة ومكانها " .

واتفقنا على أن أذهب أنا ومحمد حسنين هيكل ونقابل مستر بايرود السفير الأمريكي واستطعنا أن نعلم أن الخبر صحيح مائة بالمائة :

" وأحضر بايرود البرقيات السرية التي وصلت إليه وتفهمنا أنا وهيكل أن يشغله هيكل بالحديث بينما أنا أنقل البرقية وفعلا استطعت نقل نص البرقية وقدمناها لسيادتك فأصدرت على الفور أمرا إلى الجيش المصري بالاستعداد لصد هذا العدوان المفاجيء وتم العدوان في موعده وكان الجيش المصري مستعدا له ولقنا درسا لليهود وقد شكرتني يومها على هذا العمل الذي قمت به خدمة لبلادي " .

هذه عينة بسيطة من خطاب مصطفى أمين الذي كتبه إلى جمال عبد الناصر ومن حقنا أن نتسائل هل يستطيع مصطفى أمين أن يكذب أو يفتري على جمال عبد الناصر أو هيكل .

لقد أكد مصطفى أمين أن روزفلت كان على علاقة وثيقة واتصالات دائمة مع كل رجال الثورة بما فيهم الرئيس ناصر بنفسه , كما أشار في أكثر من فقرة إلى وجود هيكل معه في أغلب هذه اللقاءات وهو ما يعزز القول لدينا أن جمال عبد الناصر كانت له علاقات وطيدة مع المخابرات الأمريكية ومعه مستشاره هيكل .

ثم إن مصطفى أمين قد ذكر اسم مايلز كوبلاند وهو تأكيد لما جاء في الكتاب لعبة الأمم كما ذكر اسم ضابط المخابرات ايكلبرجر وهذا الرجل كان على علاقة وثيقة بمحمد حسنين هيكل باعترافه حيث ذكر في كتابه ( بين الصحافة والسياسة ) في صفحة 82 حوارا دار بينه وبين ايكلبرجر مدير المخابرات بالسفارة الأمريكية والمعرونف بصفته الوزير المفوض بالسفارة وهذا هو ما جاء في نص الكتاب :

( هيكل : لماذا توقظني الآن في هذه الساعة ماذا حدث ؟

_ ايكلبرجر : الأمر جد خطير .. هل عقدتم صفقة مع الاتحاد السوفييتي ؟

_ هيكل : وماذا يهمك في الأمر وهو يخص بالدرجة الأولى العسكريين . . .

_ ايكلبرجر : محمد .الموضوع جد .الموضوع خطير وهو بالغ الخطورة وهو لا يتصل , العسكريين كما تقول لكنه قرار سياسي .

ثم طلب مني أن اتصل بالرئيس فورا لأنصحه بالانتظار لأن هناك رسولا موفدا من الرئيس الأمريكي ) . إذن حديث ضابط المخابرات مع صحفي مصري مقرب من الرئيس بهذا الشكل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هناك علاقة وثيقة وقوية تربط هيكل برجل المخابرات وإلا لماذا اتصل به بعد منتصف الليل , ولم يتصل مثلا ( بسامي شرف أو عامر أو علي صبري ) ؟ ثم هل هذه لغة دبلوماسي مع صحفي مصري أن يقول له محمد .الموضوع جد خطير , ولم يقل له مستر محمد مثلا كما هو معروف عن لغة الدبلوماسيين ثم تأمل أسلوب هيكل وهو يقول له كأنه يخاطب مدير مكتبه قائلا له : ماذا حدث حتى توقظني في هذه الساعة ؟ وماذا يهمك في الأمر ؟ إنه أسلوب رجل يتحدث مع سكرتيره لا مع وزير مفوض وهي لغة ( عشم ) زادت عن حدها وعززت رأينا حول علاقة النظام الناصري بالمخابرات الأمريكية .

أضف إلى هذا ما ذكره مصطفى أمين عن قيامه بإبلاغ جمال عبد الناصر ما يدور في أورقة أخبار اليوم وآخر ساعة وصالون بيته مع رجال السي آي إيه بحضور صديق ناصر ومستشاره محمد حسنين هيكل ..

ثم نلاحظ أن فكرة البوليس السياسي الدولي التي في أخبار اليوم لم يعرف أحد عنها شيئا فلم نكن نعرف في مصرأن هناك قوات طواريء تقيم في سيناء إلا قبل نشوب حرب يونيو 1967 بعد أن أمرها ناصر بالرحيل , وهكذا اعترف مصطفى أمين وكشف سر وجودها من خلال مفاوضات سرية قامت على قدم وساق بين ناصر وهيكل ومصطفى أمين مع المخابرات الأمريكية التي وضع صيغة ملائمة لوضع حد للصدام المستمر بين المصريين واليهود في سيناء وتوصلوا إلى ضرورة وجود قوات طواريء تقف على حدود البلدين , وقد تم هذا طبقا لاتفاق أخبار اليوم بمباركة ناصر وحضور هيكل ! !

وفي سياق اعترافاته يقول صلاح نصر مدير المخابرات العامة في مذكراته :

( إن فكرة المخابرات العامة فكرة غريبة .)

كما يعترف نائب رئيس المخابرات العامة عبد المنعم النجار قائلا في مذكراته :

( كانت هناك صلات ودية مع بعض الأمريكيين الذين قدموا لنا أبحاثا ودراسات عن تنظيم المخابرات ) . ويعترف عبد الفتاح أبو الفضل الذي كان يشغل منصب نائب رئيس المخابرات العامة قائلا : إن بعض ضباط المخابرات الأمريكيين عقدوا حلقات دراسية لأربعة من ضباط المخابرات المصريين للاستفادة بخبراتهم وهؤلاء الخبراء الأمريكان في شئون المخابرات أحضرهم حسن التهامي بواسطة مايلز كوبلاند الذي كان على علاقة به ) بالنص من كتاب ( كنت رئيسا للمخابرات ) .

وفي كتاب ( ملفات السويس ) يؤكد محمد حسنين هيكل على وجود علاقة قوية مع المخابرات الأمريكية ومعه هو وجمال عبد الناصر .

وهذا هو النص المنشور ( حين وصل كيرميت روزفلت إلى القاهرة أول مرة بعد الثورة اتصل الوزير الأمريكي المفوض بالسفارة جيمس إيلكبرجر وأبلغني أن كيم روزفلت – حرصا على السرية – سينزل في بيته واقترح على هيكل أن يمر عليهم في الصباح لتناول الإفطار معهم والتحدث بصفة غير رسمية قبل لقاء كيرميت روزفلت بجمال عبد الناصر بعد ذلك حين تأزمت الأمور ورفض جمال عبد الناصر مقابلة كيرميت روزفلت اقترحت أن أدعوا الطرفين للعشاء في بيتي المطل على النيل ليكون لقاء ذا طابع اجتماعي وشخصي ) .

إن هذه الأقوال دعت الدكتور فؤاد ذكريا يكتب مؤلفا بعنوان ( كم عمر الغضب ) جاء فيها ردا على اتصالات هيكل مستشار ناصر بالأمريكيين ( كلما أمعنت النظر في هذه الظاهرة ( ظاهرة هيكل ) بدا لي أنها أعقد وأوسع نطاقا من إمكانات إي فرد بل إي جهاز في دولة متخلفة وخيل لي أننا سنجد أنفسنا هنا على مستور يكاد يصل إلى مستوى أجهزة المخابرات في الدول الكبرى ) .

وتأكيدا على اتصالات ناصر بالمخابرات الأمريكية يقول عبد الفتاح أبو الفضل نائب رئيس المخابرات العامة في كتابه ( كنت نائبا لرئيس المخابرات ) .

( إن حسن التهامي احتل الدور الأول من برج القاهرة وأحاط جزءا منه بأسوار عالية وجعل له بوابات ضخمة وبصورة عامة كان هذا المقر أشبه بقلاع القرون الوسطى وقد أطلق عليه ضباط المخابرات المصريون اسم ( قلعة الأسرار ) وعجز هؤلاء أن يعرفوا ما يفعله حسن التهامي في هذا الحصن وبعدها نقل حسن التهامي معززا مكرما للعمل برئاسة الجمهورية في أعمال لا يعلمها أحد ) . هذا نص اعتراف نائب رئيس المخابرات العامة الذي يعترف أنه كان لا يعرف طبيعة عمل حسن التهامي وهو الذي اعترف صراحة بعلاقته مع المخابرات الأمريكية وكان بعدها في عهد السادات المفاوض السري في الرباط مع موشى ديان تمهيدا لزيارة السادات للقدس , بل إن أمين هويدي نفسه الذي تولى رئاسة المخابرات العامة قد تحير من وجود حسن التهامي في رئاسة الجمهورية دون وظيفة معروفة حيث قال في كتاب ( مع عبد الناصر ) :

( لا تسألوني لم استوزره عبد الناصر ؟ فهذا سؤال يضاف إلى عشرات الأسئلة التي تحيرني ولا أجد جوابا لها وعزائي أنني لست الوحيد في حيرتي ) .. ونحن أيضا نشاركك الحيرة يا سيادة الوزير في هذا الصدد .

الفصل الثالث: ناصر . . واتصالاته الخفية مع اليهود

أعرف مقدما أن الحديث حول طبيعة اتصالات جمال عبد الناصر الخفية مع اليهود هي مهمة محفوفة بالمخاطر تشبه مغامرة السير في حقل ألغام أو الجري على رمال ساخنة أو محاولة القفز من شاهق أو إن شئت الدقة قل هي خيانة للوطن والقومية والعروبة في نظر مريديه ودراويشه وعلى رأس هؤلاء شيخ مشايخ الطرق الناصرية محمد حسنين هيكل الذي بذل قصارى جهده في تزوير الحقائق وتدليس الوثائق لعله ينجو هو وصاحبه من محاكمة التاريخ التي لن ترحم ولن تشفع لهما خطاياهما وآثامهما معا .

نعم حاول هيكل كثيرا ولكن الحقائق كعادتها عنيدة والوثائق بطبيعتها لا تتلون أو تتغير وهي كما سنراها بعد قليل تخرج لسانها لهيكل وتلاميذه نكاية في ما زعموه وأدعوه من أكاذيب .

ولعلنا لا ننسى أن هيكل ومعه حفنة من تلاميذه الناصريين البلهاء قد شنوا أبشع هجوم على شخص الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي أعلن جهارا نهارا أنه يسعى للتفاوض مع اليهود ورموا الرجل بالخيانة والعمالة والتصوفية والإمبريالية وغير ذلك من أوصاف ونعوت وهمية .

ولأن جمال عبد الناصر قد أعلن جهارا ونهارا .لا للتفاوض لا للصلح .لا للاعتراف فقد صار وطنيا وزعيما قوميا رغم ما يعرفه هيكل من خفايا وخبايا وأسرار تمت في سراديب المخابرات المصرية والإسرائيلية فصار الذي أعلن صراحته خائنا وعميلا والذي تفاوض سرا زعيما وطنيا لا يشق له غبار بفعل أهل السوء ( هيكل وأصحابه وتلاميذه ) وحتى لا نطيل في مقدمة تلك الفضيحة التي كان بطلها جمال عبد الناصر فلا بد من اقتحام هذا الحقل المزروع بالديناميت لعله ينفجر في وجوه الجميع حتى تسيل الدماء لعل قلوبهم وعقولهم تتطهر من هذه الأكاذيب والجرائم والخيانات .أو لعلهم يستيقظون من سباتهم وينتبهون من أوهامهم لتشرف في عيونهم شمس الحقيقة التي حاولوا طمسها وإخفاءها خلف سحب وغيوم ظنوا أنها ستستمر وتدوم ولكن هيهات .هيهات ما يفكرون ويخططون .

قنبلة ثروت عكاشة

في مطلع عام 2000 نضر ثروت عكاشة مذكراته الشخصية الحافلة بالأحداث والزاخمة بالحقائق الخطيرة . . وللعلم فقد كان ثروت عكاشة يشغل من قبل منصب الملحق العسكري بالسفارة المصرية في باريس , وهو المنصب الذي شهد تفاوضه السري مع اليهود الإسرائيليين بموافقة ومباركة الرئيس جمال عبد الناصر حيث استهل الرجل اعترافاته التي ذكرها في نوبة حق قائلا بالحرف : " في السابع من ديسمبر 1954 اتصل بي " دان أفني " الملحق الصحفي بسفارة إسرائيل ملحا في مقابلتي لإبلاغي رسالة مهمة فالتقيت به مصطحبا معي المستشار ( حسن ماهر ) من أعضاء السفارة بأحد مقاهي الشانزلزيه وانصب حديثه على أن حوادث الاعتداءات المصرية على الحدود في قطاع غزة قد زادت ثم تساءل إذا كان يمكن أن يفهم من ذلك تغييرا في اتجاه الحكومة المصرية نحو إسرائيل ؟ ! , وصارحته قائلا : بأنني لا أحتل منصبا يخول لي الرد على مثل هذا السؤال الذي يعد بمثابة سياسة عليا لا شأن لي بها .. وهنا سألني الملحق الإسرائيلي عن رأيي الخاص فقلت له إن وقوع الحوادث على الحدود المشتركة هو أمر عادي . فرد الملحق الإسرائيلي الصحفي .إن الحكومة الإسرائيلية لا تبغي أن تضيف متاعبا جديدة إلى المتاعب الحالية التي تواجهها الحكومة المصرية , ولذلك نأمل أن نتخذ الحكومة المصرية من الإجراءات داخليا وخارجيا ما يساعد حكومة إسرائيل على المضي في سياسة التهدئة التي تنتهجها ولما سألته عما يقصده بالإجراءات الداخلية فسرها بمعاملة العناصر اليهودية في مصر معاملة عادية . .

فقلت له : هل سمعت تصريح حاخام اليهود في مصر الذي أعلن فيه عن ارتياحه هو والجالية اليهودية في مصر للمعاملة السمحة التي يعاملون بها ؟ .

بعد ذلك كشف عكاشة النقاب عن توابع هذه الاتصالات المتوالية حيث أورد ما يلي بالنص في نفس المذكرات حيث يقول : " في اليوم التالي 8 من ديسمبر كتبت خطابا للقاهرة أبلغها بما دار من حديث مع الملحق الإسرائيلي ثم استطرد يقول في فقرة أخرى : " وأثناء عملي ملحقا حزبيا في باريس كنت قد تعرفت على الصحفي الفرنسي " روبيرا بار " المعروف بصداقته للعرب , وكان يعتبر أن إسرائيل دولة رجعية وفي بيت هذا الصحفي التقيت بمواطن إسرائيلي اسمه ( جولدن جولان ) وهو مستشار الشئون العربية لناحوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي وذلك عام 1956 ..

وكان من الطبيعي أن يدور الحديث بيننا عن قضية الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط وإذا به يكاشفني بإيمانه بإمكان إقرار السلام بين العرب واليهود وأن هذا ما ينادي به رئيسه ( جولد مان ) وذلك باستبعاد الحلول العسكرية في الصراع الدائر بالمنطقة وبطبيعة الحال نقلت فحوى هذا اللقاء إلى القاهرة ! ! .

" وفي ربيع عام 1957 تسلمت رسالة من صديقي الفرنسي الصحفي " روبيرا بار " أرسلها مع زوجته التي كانت تزور مصر بدعوة وجهت إليها وفي الرسالة استعاد ( بارا ) وقائع اللقاء الذي تم في منزله وحضره ( جولد مان ) وأعرب عن امله في أن يقبل لقاءه من جديد في أي مكان بأوروبا يسمعني فيه وجهة نظر ( ناحوم جولدمان ) في ما يتصل بإحلال السلام بين العرب وإسرائيل والوقوف على أية أفكار إيجابية قد تفيد القضية " .

وهكذا يمضي بنا عكاشة في سرد تفاصيل لقاءاته السرية مع اليهود بموافقة جمال عبد الناصر نفسه وهو ما يشير إليه عكاشة في فقرة أخرى من نفس المذكرات حيث يقول صراحة ودون مواربة : " نقلت الصورة إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي أمهلني أياما ريثما يصل إلى قرار وأبلغني بعدها ( بموافقته ) على إجراء هذا اللقاء لاستطلاع ما عندهم ونعرف موقفهم جليا دون أن نلتزم معهم بشيء ولا سيما أني لم أكن عندها أشغل منصب رجل مسئول في الدولة لأتكلم باسمها . . ولم يغب عن بالي لحظة واحدة أن هذا الاتصال ليست له طبيعة سياسية بل كان عملا يدخل في نطاق الخدمة السرية المشروعة لتبادل وجهات النظر لنستطيع التعرف على ما يدور في المحيط الإسرائيلي ما قد يفيد الدولة فائدة ما فلقد وقر في الأذهان حينذاك أن الصلح مع إسرائيل أمر مستحيل ! ! ! ! ..

ثم يضيف ثروت عكاشة في اعترافاته قائلا : " إن إخلاصه بمبدأ السلام الذي ينادي به رئيسه هو الدافع لهذا اللقاء .وأن ناحوم جولدمان غير مستريح إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية بقيادة بن جوريون , ولهذا فإن جولد مان يقترح اللقاء بالرئيس عبد الناصر في مصر مذكرا إياه بأن جنسيته أمريكية برغم عقيدته الدينية اليهودية " .

" واقترح جولان على هذا اللقاء تزويد جولد مان بتصريح مرور يتيح له مغادرة المطار إلى حيث تتم المقابلة ثم العودة إلى المكان دون أن يثير ذلك التفاف أحد " .

" لأن جولد مان كان سيلتقي مع الزعيم الهندي نهرو في لندن أواخر شهر يونيو 1957 لمعرفة رأيه حول انضمام إسرائيل إلى دول الحياد الإيجابي فقد اقترح جولان على أن يكون لقاء جولد مان مع عبد الناصر يوم 1 أو 3 من يوليو 1957 إن كان ذلك مناسبا مع تأكيده على أن هذا الموضوع سيبقى سرا خفيا .

ثم في صفحة 222 بمذكراته يقول ثروت عكاشة : " أنهيت إلى الرئيس جمال عبد الناصر ما دار بيننا من حوار بما في ذلك بعدم رغبة ناحوم جولدمان في لقائه ولكنه طلب مني أنر أرجيء الأمر إلى حين .ولا أبت فيه بكلمة قاطعة " .

ويمضي ثروت عكاشة في سرد أسراره مع ناصر قائلا

" أذن لي الرئيس جمال عبد الناصر ولقيته مرة ثانية بجنيف في 16 سبتمبر 1957 حيث أنهى إلى خبر لقاء ناحوم جولدمان بعدد من زعماء الثورة الجزائرية للوصول إلى تفاهم يحمي مصالح الرعايا اليهود بالجزائر ثم انتقل إلى توضيح السبب الذي من أجله طالب تحديد هذا اللقاء قائلا : " إنه تقابل مع موشى ديان الذي تربطه به صلة أسرية منذ الصبي الباكر واعترف ديان أن معركة 1956 كانت مخيبة لآمال الجيش الإسرائيلي , وعلى إسرائيل بعد أن استنفدت قدراتها العسكرية عبثا أن تبحث عن وسيلة أخرى غير عسكرية لتحقيق أغراضها ! ! ! . . وحين حاول جولد مان أن يعرف الأسس التي يمكن أن يقوم عليها التفاهم مع مصر رأي ديان أن هذه تفاصيل وأن مبدأ التفاهم هو الأمر الجوهري بالنسبة لإسرائيل إذ ليس لها مخرج سواه " .

وفي نهاية اللقاء أعلن جولد مان جولان عن استعداد جولد مان لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر في أي مكان يختاره بأية شروط مع ضمان السرية التامة فأوضحت له تعذر ذلك في الظروف الحالية , وأنه قد يمكن إرسال مندوب من قبل الرئيس للقاء جولد مان لو تمخضت دراسة هذه المقترحات عن نتيجة إيجابية " .

وأراد جمال عبد الناصر مكافأة ثروت عكاشة على هذا الجهد الرائع في مفاوضاته السرية مع اليهود حيث يقول عكاشة : " إن الرئيس طلب مني تولي منصب مدير المخابرات العامة إلا أنني رفضت ذلك حتى فوجئت بقرار تعييني سفيرا لمصر في روما يوم 20 أكتوبر 1957 وبعدها بعدة شهور تلقيت رسالة من جولان يلح فيها على ضرورة لقائه واستقبلته في مكتبي بالسفارة وقد اتخذت المقابلة طابعا استفزازيا على غير العادة , فقد كانت ذات طابع غريب فبعد أن استهل حديثه بتهنئته بقيام الجمهورية العربية المتحدة معلقا بأنه تعد في الحق الثورة الثانية بعد 1952 .

ويضيف عكاشة قائلا : وكنت قد تلقيت في يوم 18 فبراير 1958 مظروفا بالبريد العادي يحمل الشارة الرسمية لإسرائيل وإذا به رسالة من سفير إسرائيل إلياهو ساسون هذه ترجمتها :

سري وشخصي :

سيادة السفير على الرغم من أني لم أتشرف بمعرفتك ومن عدم قيام علاقات دبلوماسية بكل أسف بين بلدينا فإني أبادر بأن أسمح لنفسي أن أتوجه إليكم بكل صراحة وإخلاص بصفة شخصية وسرية كي أبلغكم بأنه في مساء الاثنين 10 فبراير 1958 أعلنت إذاعة القاهرة الناطقة بالعبرية بأنه عندما تتم وحدة الدول العربية ستجد إسرائيل نفسها بين خيارين فإما أن تعيش معزولة تحت وطأة الضغط الذي يتهددها وإما أن تتدرج ضمن هذه الوحدة .

_ نحن نعتقد أن مثل هذا الانضمام ممكن مع استطاعة اليهود في هذه الحالة الاحتفاظ باستقلالهم الداخلي لحريتهم التامة .وهكذا يكتب الختام للصراع العربي الإسرائيلي هذا هو الحل المناسب للقضية الفلسطينية من خلال احتواء إسرائيل في الوحدة العربية احتواء تاما أي التعاون داخل الوحدة من أجل صالح الشعب كله .

وإني في الوقت نفسه أرحب بلقائكم في سرية مطلقة في اليوم والساعة والمكان الذي تحددونه كيفما أتلقى الإيضاحات اللازمة نحو هذا الموضوع وأن رقم تليفوني الخاص في المنزل هو 7 1 1 9 5 8 وأنسب الأوقات للاتصال بي شخصيا هو ما بين الثامنة والتاسعة صباحا .

وتفضلوا بقبول وافر الاحترام

جولدن جولان

انتهت رسالة الضابط الإسرائيلي وقد تضمنت أنباء خطيرة أذاعها راديو القاهرة الناطق بالعبرية والذي طرح فكرة إدماج إسرائيل في منظومة العمل العربي المشترك وما من شك أن الإعلام وقتذاك كان يتحدث بلسان حال الرئيس جمال عبد الناصر الذي بسط نفوذه على جميع أجهزة البلاد , وهو ما يعزز قولنا إن جمال عبد الناصر أراد ذلك في الإذاعة العبرية لمعرفة ردود الفعل الإسرائيلية ليدحض بذلك شعاراته التي صدع بها رؤوس أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج في ضرورة التخلص من الكيان الصهيوني وغيرها من الشعارات الديما جوجية التي ألهبت حماس الأمة بينما كان يسعى سرا لمخاطبة ود اليهود في تل أبيب وواشنطن .

ولكن في حوزتنا الكثير من تلك الأدلة والعديد من الوثائق ما يتعارض مع الأيدولوجية الناصرية الرسمية التي خدعت الأمة وانطلت على شعبها .

ونعود لاعترافات عكاشة مرة أخرى ونختتم بها تلك الفقرة التي جاء فيها ما يلي :

" ثم بعد مرور حوالي شهر من وصول هذه الرسالة راح جولد مان يلح في لقائي فالتقيت به في صباح الإثنين 24 مارس بمقر بروما وأمسك جولان بخيط الحوار حيث بدأ كلامه لي قائلا : إنه يمضي الوقت يتبين لإسرائيل أن الحاكم الوحيد الجدير بالالتزام في الدول العربية كلها هو الرئيس جمال عبد الناصر , وأن الوحدة الثانية بين مصر وإسرائيل تعبر عن تصور جديد يجدر بإسرائيل إدراكه والتفاهم معه وهناك أمر من اثنين إما أن عبد الناصر ينوي القضاء على إسرائيل ولسنا نعتقد أن يضمر هذه النية وإما أنه سيصل في النهاية إلى تفاهم واقعي مع إسرائيل . . فإذا كان الأمر الأول فلا فائدة ترجى في مثل هذه المناقشة وإذا كان الأمر الثاني فإن جولد مان مستعد للقائه في أي مكان وأن يقترح فتح الممر بين الحدود السورية ومصر عبر إسرائيل نظير مناقشة مجدية بصدد المشكلات القائمة ولنتصور حلولا عملية مرضية للطرفين " .

وهكذا استمرت اللقاءات بين عكاشة وضابط المخابرات الإسرائيلي تتم بأوامر جمال عبد الناصر وقد التقيا معا بعد ذلك طبقا لاعترافات ثروت عكاشة في 31 مايو 1958 , 25 يونيو 1958 , 11 سبتمبر 1958 وفي نهاية هذه اللقاءات المريبة طلب ثروت عكاشة أن يتولى أحد غيره مواصلة هذه اللقاءات بدلا منه وهو ما حدث حيث بدأ إسنادها إلى أحمد حمروش الناصري القح وصديق الأستاذ هيكل وأحد دعاة الناصرية وهو ما اعترف به وسنورده حتى يتبين لنا كذب ما كانوا يزعمون ويدعون .

وثروت عكاشة كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة وأحد الساسة المعروفين وأنشط سفراء مصر في أوروبا وهو أحد رموز التيار الناصري ولا يمكن بحال من الأحوال اتهامه بالكذب أو التلفيق أو السعي لضرب جمال عبد الناصر بعد رحيله .

ومن أسف أن أحدا من جوقة التيار الناصري لم يشأ أن يرد على الرجل أو يشكك في ما أورده أو يناقشه في ما زعمه بل على العكس نشر الرجل مذكراته في صمت مريب دون أن يعلق عليها أحد منهم بالمدح أو الذم خوفا من أن يشاع أمرها بين العامة فيعرف الناس حقيقة اتصالات الزعيم الثائر والذي وعدهم بالقضاء على إسرائيل وإذا بهم يكتشفون أنه شيد جسورا خفيه بينهم وبينه فكانت الصدمة التي ألجمتهم وأذهلتهم جميعا ولكننا لن نكتفي بما رواه ثروت عكاشة ففي الجواب الكثير من الأهوال التي يشيب لها الأطفال الرضع وعلى سبيل المثال وكما أشرنا من قبل فلدينا رواية أحمد حمروش وهو موضع ثقة الناصريين وأحد أصدقاء هيكل ..

قنبلة حمروش الانشطارية

وقنبلة أحمد حمروش أشد فتكا من قنبلة عكاشة لأسباب سياسية وتاريخية وقد فجر تلك القنبلة في حديث أدلى به لمجلة نصف الدنيا بتاريخ 26 / 10 / 1997 وقد استهل حديثه قائلا :

" أتذكر أثناء زيارة لفرنسا التقيت ببعض اليهود المصريين هناك وفهمت منهم أن هناك في المجتمع الإسرائيلي فريق من الناس يؤيد السلام وأنه من الأفضل الاتصال بهم من أجل تحريك الأمور داخل إسرائيل – قعدت وكتبت مذكرة لعبد الناصر بذلك فوافق على الاتصال بهذه العناصر وذلك عام 1968 وتطورت الأمور عندما أبلغني الصحفي الفرنسي " أريك رولو " والذي عمل سفيرا لفرنسا في تونس أن ناحوم جولدمان رئيس المجلس اليهودي العالمي يرغب في مقابلتي فالتقيت فعلا في فرنسا بمبادرة خاصة الذي قال إن لديه دعوة من جمال عبد الناصر عن طريق – بعد ذلك سافر ناحوم جولدمان إلى إسرائيل وقال لجولدا مائير أنه سيسافر إلى مصر بدعوة فرفضت الموافقة على ذلك .. قرأت ذلك في صحف الصباح أثناء عودتي من باريس للقاهرة " .

" وبعد لقائي بناحوم جولدمان – الكلام طبعا لحمروش – عدت مسرعا لوم أذهب إلى بيتي ولكني اتجهت إلى سامي شرف حيث تركت مذكرة بما حدث خاصة إنني لم أكن قد أبلغت عبد الناصر ( ! ! ! ) .

وفي نفس الوقت كانت الصحف العربية تتناول القضية الداخلية في إسرائيل ورغبة فريق من الشعب هناك في السلام – حيث كانت حرب الاستنزاف مشتعلة وتكبد الإسرائيليين خسائر فادحة يوميا – بعد أيام فوجئت بتأشيرة عبد الناصر على المذكرة بضرورة سفري إلى باريس لعقد صداقة شخصية مع جولد مان ! ! وبالفعل تحركت في هذا الاتجاه وكان الهدف الوصول للسلام الشامل في المنطقة القائم على العدل وكان الهدف من هذه الاتصالات الضغط على حكومة إسرائيل فقد كانت هناك اتصالات مع اليهود أيام ثروت عكاشة وعبد الرحمن صادق ويوسف حلمي في باريس . . . . المهم ( والكلام لا زال لحمروش ) أن جمال عبد الناصر كان يعلم ذلك وقد أشار في خطابه في عيد العمال عام 1970 إلى أن هناك عناصر سلام داخل إسرائيل وهذا يعني أننا كنا في مصر على وعي ورغبة في السلام العادل منذ سنوات طويلة " .

إذن استمرت الاتصالات بين ناصر واليهود عن طريق مبعوثيه من رجالات ثورة يوليو بل ولم تقف الاتصالات عند هذا الحد بل وصلت إلى أروقة الصحف المصرية حيث أرسل ناصر أحد الصحفيين إلى تل أبيب لمواصلة الحوار مع اليهود وهكذا يتبين لنا أن جمال عبد الناصر لم يكن ضد المفاوضات مع اليهود إطلاقا بل كانت المفاجأة التي ألقى بها حمروش هو رفض جولدا مائير لهذه المفاوضات خاصة حين عارضت لقاء ناصر مع ناحوم جولدمان الذي تلقى دعوة كريمة من الزعيم عبر تيتو الرئيس اليوغسلافي الشهير .

على أية حال فلندع أقوال عكاشة وحمروش جانبا ولنمض معا لنقرأ أقوال الصحفي المصري إبراهيم عزت مبعوث ناصر إلى تل أبيب لكي نعرف حقيقة تلك الاتصالات التي كانت تجري على قدم وساق منذ عام 1954 وحتى عيد العمال عام 1970 أو إن شئت الدقة حتى وفاة الزعيم ثم جاء أنور السادات ليعلنها صراحة دون مواربة أنه يلعب مع اليهود على المكشوف وعلى عينك يا تاجر دون أدنى حرج أو خجل كما كان يفعل سلفه جمال عبد الناصر .

بأمر الرئيس .مصر في تل أبيب

في مجلة روزا اليوسف الصادرة في عام 1956 ومجلة " المجلة " الصادرة في 29 أكتوبر 1983 ومجلة وادي النيل الصادرة عام 1981 وعدد آخر لمجلة روزا اليوسف رقم 7 7 7 3 الصادر بتاريخ 28 / 10 / 2000 اعترف إبراهيم عزت مراسل مجلة روزا اليوسف في جنيف بسفره إلى تل أبيب لإجراء مفاوضات سلام مع العدو الإسرائيلي بأمر الرئيس جمال عبد الناصر وبدأ إبراهيم عزت اعترافاته الخطيرة قائلا : " إن زيارتي إلى إسرائيل جاءت بناء على رغبة راودت الرئيس جمال عبد الناصر لكشف نوايا العدو وما هي تصوراته حول إشكالية الشراع العربي الإسرائيلي .ولقد بدأت خطوات رحلتي من خلال علاقة وثيقة ربطتني بالسير " كينيث ليفي " مراسل جريدة نيويورك تايمز بالقاهرة حين قام أبدى رغبته في دعوتي لزيارة تل أبيب وإجراء مفاوضات فيها مع قادتها السياسيين والعسكريين على السواء .

وأخبرت المسئولين في القاهرة وقد تمت دراسة العرض ومناقشة بين الرئيس جمال عبد الناصر ورجاله الذين توصلوا إلى قرار يدعو إلى تلبية الدعوة التي وجهها لي السفير الإسرائيلي على ان تكون في إطار السرية البالغة تفاديا لإثارة مشاعر الرأي العام العربي والمصري ويضيف إبراهيم عزت قائلا :

تلقيت أوامر القاهرة الرسمية السرية معا فقمت بإبلاغ السفير الإسرائيلي في لندن باستعدادي للسفر إلى تل أبيب وانتظرت ريثما ترد المؤسسات العسكرية والسياسية والمخابراتية في تل أبيب .

في تلك الأثناء أرسل صلاح نصر لي بجواز سفر برازيلي احتوى على صورتي وصفة عملي كصحفي من أصل عربي وقد أبرزت جواز السفر في وجه السفير الإسرائيلي الذي أبدى موافقته على هذا التصرف تقديرا لمشاعر وأحاسيس صانع القرار السياسي في مصر الذي يرغب في تغليف الزيارة بالسرية التامة وبعد ذلك – والحديث موصول للصحفي إبراهيم عزت – تلقيت نبأ بموافقة تل أبيب لزيارتها وحجزت في طائرة بريطانية متوجهة إلى تل أبيب وكان في استقبالي مدير مطارد ( اللد ) سابقا ( بن جوريون حاليا ) إلى جانب مندوب خاص من وزارة الخارجية الإسرائيلية والتي تكلفت بتوفير وسائل الراحة لي من خلال سيارة خاصة يقودها سائل من رجال الموساد الإسرائيلي ومرافقة شخص يلازمني في تنقلاتي أغلب الظن أنه من ضباط الموساد أيضا وقضيت في إسرائيل قرابة أحد عشر يوما تنقلت فيها بين تل أبيب والقدس الغربية وحيفا وبئر سبع فضلا عن قيامي بزيارة بعض المستوطنات الإسرائيلية إلى جانب عشرات المصانع والمدارس والمزارع والدواوين الحكومية .

في خضم تلك التنقلات التقيت مع السيد ديفيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل ويوسي شاريت وزير خارجيتها وجودا مائير رئيسة اتحاد عمال إسرائيل .

ويؤكد إبراهيم عزت أن بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل قال له في ختام زيارته السرية " أرجو عند عودتك إلى القاهرة إذا التقيت مع الرئيس جمال أن تنقل له أنني على أتم استعداد للقائه دون شروط مسبقة وفي أي مكان في القاهرة أو في تل أبيب في سيناء أو في النقب في أي مكان يختاره سرا أو علنا للنقاش في أي شيء وفي كل شيء " .

وعدت بعد ذلك على طائرة قبرصية وقد التقيت فور عودتي بالدكتور محمد عبد القادر حاتم الذي كان يشغل منصب رئيس الهيئة العامة للاستعلامات وقد سمته تقريرا احتوى على أدق تفاصيل زيارتي الطويلة لتل أبيب وما دار فيها من حوارات مع الساسة اليهود وعلى رأسهم دايفيد بن جوريون والسيدة جولدا مائير .

ويضيف إبراهيم عزت في اعترافاته المنشورة : " ثم التقيت بعد ذلك مع صلاح نصر مدير المخابرات العامة وقد استغرق لقائي معه قرابة ثلاث ساعات في حوار تضمن أسرارا وخبايا زيارتي لتل أبيب وقد شدد صلاح نصر على ألا أبوح بأمر هذه الزيارة إلى أي شخص مهما كانت درجة قرابته لي أو صداقته معي والتزمت بإتباع تعليمات صلاح نصر ومن قبله عبد القادر حاتم وسرعان ما تسرب نبأ زيارتي إلى إسرائيل حيث نشرت مجلة الحوادث اللبنانية التي أكدت أن سعيد فريحة الصحفي المعروف علم به من أحد أصدقائه في القاهرة وعرفنا أن هيكل هو الذي زوده بهذا الخبر الذي ظن أنه سر مكتوم وقد هاج الرأي العام العربي ضد جمال عبد الناصر الذي أمر روزا اليوسف أن تزعم أن زيارة إبراهيم عزت كانت صحفية خدع فيها رجال الموساد الإسرائيلي .

ويؤكد إبراهيم عزت أنه بعد انتهاء الضجة التي أربكت حسابات صناع القرار السياسي في مصر دعاني الرئيس جمال عبد الناصر لزيارته على العشاء وحين فرغنا من تناوله سألني الرئيس إن كنت على استعداد لزيارة جوريون مرة أخرى أم لا فأجبته بالموافقة ولكن حدث أن انضم ديفيد بن جوريون إلى العدوان البريطاني الفرنسي على مصر ولم أشأ أن أعود مرة أخرى إلى تل أبيب بعد وقوع هذا العدوان الثلاثي على مصر " .

انتهت اعترافات إبراهيم عزت ويبقى السؤال لماذا وافق عبد الناصر على عودته إلى إسرائيل وماذا كلن سيحمل معه إبراهيم من ردود زوده بها ناصر فمن المؤكد أنه كان سيبلغ قادة إسرائيل بأنباء سارة لهم وإلا لماذا أصر جمال عبد الناصر على عودته مرة أخرى أليس كذلك ؟ .. .

عبد الناصر وصديقه الإسرائيلي

إذا كانت اعترافات ثروت عكاشة وأحمد حمروش وإبراهيم عزت لا تكفي لكشف النقاب عن حقيقة علاقة عبد الناصر باليهود والتي بدأت طبقا لما ورد في تلك المذكرات عام 1954 واستمرت إلى عام 1970 أي طيلة فترات حكم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فإن لدينا حديثا منشورا للرئيس جمال عبد الناصر مع الصحفي الفرنسي الشهير " جاك نبواست ميشان " مراسل مجلة " جون أفريك " الفرنسية وقد أعادت مجلة روزا اليوسف القاهرية نشره مرة أخرى في عددها الصادر برقم ( 3658 ) المنشور بتاريخ 25 / 1 / 1991 داخل صفحات 23 , 24 , 25 , 26 لعل الأستاذ هيكل يقر ويعترف بما سبق له أن أنكره وكذبه .

وهذا نص الحديث بحروفه :

_ المحرر الفرنسي : لقد سرت في العديد من الطرق منذ خطواتك الأولى ومنذ أن قبضت عليك الشرطة , هل تعرف أن الشرطة أيضا خدمتك ؟ .

_ جمال عبد الناصر : " ابتسامة كبيرة تعلو وجهه وهو يقول : نعم لقد كان لدي خطر كبير في كل شيء وأحمد الله على ذلك وسأحكي لك عن حادثة وقعت لتعرف شيئا أكثر وأحمد الله على ذلك ففي عام 1947 في الفالوجا وأثناء حرب فلسطين كنت أنا ومجموعتي نحتل مركزا هاما جدا والكابتن الإسرائيلي الذي واجهنا في هذا القطاع وأنا ما زلت أذكر اسمه كان اسمه " باروخام كوهين " وكان عندي تعاطف معه لأنه كان ضابطا جيدا , هذا الضابط الشاب وصل إلى حدودنا وطلب أن يتحدث معي وقال لي : " أنت محاصر وغدا سنقوم بغارة وسيكون من الأفضل لكم الابتعاد عن هنا أو الانسحاب لحدوث مذبحة .

هل يمكن أن تصدق ذلك من فم عسكري ؟ ! أنا لا أريد أن تكون هنا إراقة للدماء فأنا لست رجلا دمويا وعرفت بعد ذلك أن كل شيء ضاع ولن أستطيع البقاء بفرض حمل السلاح فقلت له لا تطلقوا النار علينا سنرحل واعتقد الكابتن كوهين أنني سلمت بكل شيء وغادر المكان وفي فجر اليوم التالي قمنا بالهجوم لا أعرف كيف قمنا بذلك ولكننا قهرنا الإسرائيليين في ذلك اليوم وكانت خسائرهم فادحة وفي ثالث يوم طلب كوهين السماح له بالبحث عن قتلاه في الجزيرة التي كانت تفرقنا ووافقت وطلبت من رجالي ألا يطلقوا النار في الصباح والالتزام بالشرف العسكري مع الجنود الإسرائيليين فقال لي " كوهين " " إن لديك حظا كبيرا وهذا أعطاني ثقة كبيرة ليس في نفسي ولكن في الله حيث إنني لم تكن لدي ثقة في أن أعيش ولا أقتل .

المحرر الفرنسي : أوه .هل تتذكره منذ ذلك الوقت ؟

جمال عبد الناصر : هل تريد أن تتحدث عن كوهين ؟ نعم .. . بعد عام من ذلك وأثناء الاحتفال بالعيد السنوي للفالوجا كنا مسئولين نحن الاثنين عن البحث عن أجساد المفقودين في منطقة القتال فتذكرنا سويا ذكرياتنا ثم افترقنا لأننا لم نكن ندري أن القدر هو الذي جعلنا نتحارب " .

هذا هو جزء من نص حديث الرئيس جمال عبد الناصر وقد ندد الأستاذ محمد جلال كشك في كتابه في كتابه " ثورة يوليو الأمريكية " بأقوال الرئيس حول هذا الضابط اليهودي وهو ما يكشف النقاب حول بداية اتصالات عبد الناصر باليهود منذ حصار الفالوجا ويدفعنا ذلك لكي نتساءل لماذا عبد الناصر بالذات هو الذي وقعت عليه عين الموساد لكي توطد علاقتها به دون غيره من الضباط ولماذا استمرت علاقته بهذا الضابط وظل يذكره مع الصحفي الفرنسي دون مناسبة لذكره ولماذا وقع اختيار الموساد على كوهين نفسه لكي يعاود الاتصال مع جمال عبد الناصر للبحث عن أجساد المفقودين وأي احتفال هذا الذي حضره ناصر وكوهين أليس كل هذا يدعو للتأمل والدهشة معا ؟ .

ثم ما هي حكاية الإنذار الشفوي منذ متى يرسل العدو إشارة بالهجوم لعدوه وعن طريق المخابرات فهل كان كوهين عميلا أم ماذا ؟ .

وأما حكاية إعجاب جمال عبد الناصر بكفاءة كوهين فلا نعرف لها سببا فهل كان كوهين ضابطا قتاليا حازقا لا يشق له غبار آثار إعجاب عدوه إلى هذا الحد ؟ كيف ذلك وكوهين ضابط مخابرات إسرائيلي بعيد عن لغة السلاح أليس هذا يدعو للدهشة والاستغراب مرة أخرى ؟ .

ثم إذا كان جمال عبد الناصر ضد إجراء مفاوضات سلام مع اليهود فلماذا أصر على تعيين الدكتور محمد فوزي رئيسا للوزراء ونائبا لرئيس الجمهورية بينما تاريخ الرجل قبل اندلاع ثورة يوليو يؤكد ضلوعه في إجراء مفاوضات سرية مع اليهود وعرفها القاصي والداني وإليك هذه الوثيقة التي تؤكد صدق ما نقول وقد نشرها هيكل نفسه في كتابه " المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل " صفحة 243 .

وثيقة رقم 3548 – 4 / فلسطين ب ب 501 .

برقية من المندوب الدائم للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة .

السفير أوستن إلى وزير الخارجية الأمريكي :

نيويورك 25 أبريل 1948 .

" عقد بروسكار رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية اجتماعين مع محمد فوزي بك المندوب المصري وكان فوزي بك متقبلا بما فيه الكفاية فكرة تشجيع الاتصالات بين العرب واليهود في فلسطين بهدف ترتيب هدنة تيسر ترتيب الأحوال فور انتهاء الانتداب البريطاني وقال فوزي بك إنه مخول من القاهرة وفي الغالب من الجامعة العربية أيضا حسب إشارته بأن يجلس مع وسطاء وممثلين يهود لبحث الموقف كله بدون تعهد نهائي من جانبه "

إمضاء ،أوستن

إذن كان فوزي بك شديد القناعة بإجراء مفاوضات مع اليهود ولم يسمع أنه اعترض وقدم استقالته احتجاجا على ذلك وهو ما يدفعنا للتساؤل هل عينه عبد الناصر نائبا له من أجل ذلك وماذا فعل ؟ إن عبد الناصر أجرى اتصالات عديدة ومن المؤكد أنه استفاد من وجود فوزي بك بجانبه كتائب رئيس في تلك الأحداث الخطيرة ؟ .

أضف إلى كل هذه الفضائح فضيحة أخرى مدوية نشرتها مجلة روزا اليوسف في عددها الصادر بتاريخ 15 يناير 1997 بالعدد رقم 3581 وقد نشرت بداخله عدة خطابات أرسلها جهاز الموساد للرئيس جمال عبد الناصر عن طريق ضابط أسير وقد انتهت هذه الرسائل بالإفراج عن المتهمين في فضيحة لافون الشهيرة وتسليم بعض جثث القتلى اليهود ونحو ستة جنود وقعوا في الأسر مقابل الإفراج عن 6000 أسير مصري في عام 1967 وذلك بعيدا كما .ومتبع عن هيئة الصليب الأحمر " .

الفصل الرابع: حادثة المنشية ومذبحة الإخوان

شهد ميدان المنشية الشهير بمدينة الإسكندرية عام 1954 حادثا مروعا أثار في حينه وحتى الآن العديد من علامات الاستفهام والتعجب بين المراقبين على جمال عبد الناصر وأعوانه واعتلاء الإخوان المسلمين أريكة الحكم بينما يؤكد الفريق الاخر أن الحادث من تدبير وصنع أجهزة جمال عبد الناصر الأمنية التي استطاعت تنفيذها بدقة وذكاء .

وأيا كانت الأسباب التي تقف خلف حادثة المنشية سواء أكانت صحيحة أم باطلة فإن جمال عبد الناصر قد استطاع بمكره ودهائه إلى القضاء على جميع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في ضربة أمنية قاصمة عرفت في ما بعد بمذبحة الإخوان المسلمين وذلك عقب قيام أحد الشباب بإطلاق الرصاص عليه .

والشاهد أن جمال عبد الناصر كان يلقي خطاباته في ميدان المنشية أمام حشد غفير من الجماهير التي توافدا عليه من كل أنحاء الجمهورية وبينما كان ناصر يهدد أعداء الثورة وخصومها تسلل شاب يدعى محمود عبد اللطيف وراح يطلق نيران مسدسه صوب جمال عبد الناصر الذي التف حوله أنصاره ورجاله وحرسه ودفعوه بعيد عن الشرفة التي كان يلقي خطبته منها .

وهاج المكان وماج وعمت الفوضى أرجاء الميدان وتملك الرعب الكثيرون وثارت شائعات حول مقتل الشاب الثائر جمال عبد الناصر ولكن أمام تلك الفوضى العارمة والتخبط الذي عم أرجاء المنشية وحالة الهلع التي أصابت الجماهير إذا بالشاب جمال عبد الناصر يخرج إلى الجماهير بعد دقائق طالبا من الجميع الوقوف وعدم الانصراف وراح يلقي خطبته في حماس شديد قائلا أيها الأخوة المواطنون .. كل يعود إلى مكانه .. كل يقف في مكانه .إنني فداء لكم .. وأنتم فداء لي .. إذا مات جمال عبد الناصر كلكم جمال عبد الناصر .كلكم جمال عبد الناصر .. وأردف قائلا : أنا الذي أعدت لكم العزة .. أنا الذي وضعت فيكم الكرامة .. أنا فداء لكم وأنتم فداء لي .. ومضى ناصر وسط عاصفة من التصفيق الحاد ومواصلة خطبته النارية وسرعان ما انفض سامر المنشية لتصدر الأوامر إلى أجهزة البوليس الحربي في إلقاء القبض على عشرات الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بتهمة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر والسعي إلى قلب نظام الحكم وهكذا وجد الإخوان المسلمون أنفسهم للمرة الأولى بعد قيام الثورة وبين جدران سجون الثورة ومعتقلاتها في غضون ساعات حتى روى أحد الشهود أن نحو 17 ألف عضو تم إلقاء القبض عليهم في تلك الليلة الكئيبة وحدها .

والحاصل أن صراعا حول السلطة كان قد نشب بين مجلس قيادة الثورة وقيادة مكتب الإرشاد الذي يتولى قيادة جماعة الإخوان المسلمين .

وكانت جماعة الإخوان المسلمين ترى أن لها حقوقا في الاستيلاء على أريكة السلطة متذرعة بدورها الكبير في نجاح الثورة من خلال اشتراك العديد من أعضائها ضمن تنظيم الضباط الأحرار ودعمها كقيادة وأعضاء مدنيين للثورة حال نشوبها .

والشاهد أن مجلس القيادة رأى أن جماعة الإخوان المسلمين لا تستحق أكثر من مقعدين من مقاعد السلطة الجديدة إرضاء لدورها ونفوذها وهو ما لم يرض به الإخوان المسلمين وعارضوه بشدة فما كان من قيام الثورة إلا اللجوء لضرب وحل جماعة الإخوان المسلمون لتنتهي مطالبهم وتتلاشى رغباتهم وتندثر طموحاتهم وتنكمش أحلامهم داخل سجون الثورة الرهيبة .

وبالفعل ألقي القبض على كافة القيادات التي لاقت ألوان وصنوف من التعذيب والإذلال وهكذا سمى المؤرخون تلك الحقبة بمذبحة الإخوان الأولى . . وإذا أمعنا النظر في رؤية الإخوان المسلمين حول حقيقة الحادث لوجدنا أن الجماعة تنظر إلى الحادث باعتباره تمثيلية دبرتها أجهزة الثورة الأمنية للتخلص منهم بواسطة شاب معتوه يدعى محمود عبد اللطيف كان قد اعترف بأنه أحد أعضاء التنظيم السري الخاص للجماعة .

واستشهد البعض قائلا في نفيه لحقيقة الحادث كيف يعود ناصر إلى الشرفة بعد دقائق ليواصل خطبته وسط آلاف المواطنين دون أن يفطن لوجود قتلة آخرين يتربصون به وهل تأكد رجال الأمن إلى خلو الميدان من أعوان لمحمود عبد اللطيف – واستطرد المعارضون يقولون إن أبسط قواعد الأمن هو إخلاء الساحة من الجماهير أو إنهاء المؤتمر لعل أحد أفراد التنظيم ينتظر دوره في إنهاء حياة جمال عبد الناصر إذا عاد للشرفة سليما معافى أما أن يعود ناصر بعد دقائق ليلقي خطبته فهذا إن دل على شيء إنما يدل على أنها كانت تمثيلية صنعتها أجهزة الثورة الأمنية بغرض تصفية جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا يرهبون مجلس قيادة الثورة ويثيرون القلاقل ضده .

على أية حال سواء كان الحادث حقيقة أم تمثيلية فإن الثورة تمكنت من تحقيق أغراضها إزاء تلك الجماعة التي كانت تشكل خطرا داهما عليها حيث تخلصت في ليلة واحدة من قوى كانت تحسب لها من قبل ألف حساب خاصة أن هذه القوة كانت تؤيد الرئيس محمد نجيب ضد جمال عبد الناصر الذي رأى فيه أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أنه شيوعي وهو أحد أفراد تنظيم حدتو الشيوعي الشهير بل أكد البعض أن جمال كان له اسم حركي داخل تنظيم حدتو عرف ( بموريس ) وهكذا بدأ الصدام مبكرا بين ناصر والإخوان بهدف تقويض نفوذهم وشل حركة محمد نجيب ومحاصرته من أجل السعي للقضاء عليه هو الآخر في مسلسل طويل استهدف سيطرة ناصر وانفراده بأريكة السلطة .

والواقع أن حادث المنشية سيظل علامة تعجب كبيرة تحير الجميع حيث تعوزه الروايات حولها الدقة والأمانة الموضوعية ومن ثم فسوف يظل الخلاف بينهما دائما حول حقيقة الحادث وأكذوبته من جانب آخر .

كما أن حادث المنشية وما أعقبه من اعتقالات لأعضاء وأسر الإخوان المسلمين سيظل أيضا أحد أهم الضربات التي تلقاها الإخوان عقب قيام الثورة لتبدأ بعد ذلك حلقات الوأد بهم والتخلص منهم وإسكات أصواتهم طيلة فترة حكم جمال عبد الناصر .

الفصل الخامس: انفراد ناصر بالسلطة

بعد نجاح ثورة 23 يوليو 1952 راح الجميع يتحدثون عن القائد الحقيقي لثورة يوليو وتضاربت الأقوال وتناقضت الأخبار بين مؤيد للرئيس محمد نجيب بصفته قائد الثورة والذي تحمل مسئوليتها جهارا نهارا أمام الملك والحكومة والإنجليز والشعب وبين جمال عبد الناصر الذي تحمل مسئوليتها منذ قيامه بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار في بداية الأربعينات وقد بذل قصارى جهده من أجل انتشار خلاياه في كافة وحدات الجيش المصري واستقطاب رموز ضباطه الذين ضمهم جمال إلى صفوفه متحديا القصر وقيادة الجيش والمخابرات الإنجليزية .

كان الشعب المصري يتطلع إلى محمد نجيب في شوق ولهفة بصفته أول حاكم مصري يخرج من صلبه ومن بين صفوفه بعد عقود طويلة مريرة حكمها الغرباء من الطغاة والغزاة , أضف إلى هذا أن محمد نجيب كان يتحلى ببشاشة الوجه وكبر السن مما دفع أبناء الشعب المصري إلى النظر إليه كأب لهم جاء ينهي آلامهم ويعيد البسمة إلى وجوههم .

وعلى الجانب الآخر وداخل مجلس قيادة الثورة كان أغلب أعضائه ينظرون إلى محمد نجيب كرمز فقط للثورة أو واجهة لها حيث إنهم كانوا في حاجة إلى ضابط كبير برتبة لواء تضفي وقارا ومهابة على ثورتهم حتى يرتعد منه باقي الضباط الكبار .

وبدأت فصول المأساة وككل الثورات لا بد لها من ضحايا وهكذا كان محمد نجيب أحد أشهر ضحاياها على يد جمال عبد الناصر الذي كان يمسك خيوط اللعبة في يده ويفرض نفوذه وقوته على جميع أفراد مجلس قيادة الثورة الذين كانوا ينظرون إليه بصفته القائد الفعلي للثورة واحتدم الصراع بين كلا الرجلين وشهدت الساحة السياسية انقساما هائلا بين أعضاء المجلس فكانت قائمة محمد نجيب تضم خالد محيي الدين وعبد المنعم أمين ويوسف صديق بينما قائمة جمال عبد الناصر تضم باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسهم الإخوان جمال وصلاح سالم وعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وعبد اللطيف بغدادي وذكريا محيي الدين وأنور السادات .

وراح جمال عبد الناصر يضع خطة دقيقة شديدة الاتقان حيث بدأ مسلسل الخلاص من زملاء محمد نجيب المؤيدين له والمعبرين عنه فبدأ بالكباشي عبد المنعم أمين وقد أسند إليه مهمة السفر إلى الخارج للعمل سفيرا لمصر في بلجيكا وحين اعترض على ذلك هدده ناصر بالنفي الإجباري فرضخ الرجل بعد أن شاعت أنباء عديدة حول نفوذ زوجته التي زعم البعض أنها كانت تجلس في نادي الجزيرة بين سيدات المجتمع وتقول في ثقة إن الجيش في قبضة يدها اليمني والشرطة في يدها اليسرى ! ! !

وهكذا سقطت ورقة من أوراق اللعبة التي يحتفظ بها محمد نجيب وغادر عبد المنعم بعد أن تولى مهام سفير مصر في بلجيكا .

واستمر عبد الناصر في تنفيذ مخططه فبدأ الصدام العلني مع اليوزباشي يوسف صديق منصور أحد أشهر رجال ثورة يوليو والذي حقق لها نجاحا لم يكن متوقعا حيث تحرك مبكرا بقواته وفرض حصارا على قيادة الجيش وألقى القبض عليهم وأودعهم في المعتقلات وتمكن من قطع خطوط الاتصالات وهكذا كان يوسف أهم أسبابا نجاح ثورة يوليو .. ولكن لم يشفع له ذلك عند جمال عبد الناصر بل واصل الضغط عليه حتى قام باعتقاله نحو ثلاث سنوات وحين ساءت حالته الصحية بعد إصابته بنزيف حاد في الرئة أفرج عنه وأرغمه على الرحيل إلى سويسرا منفيا ولكن استبد الشوق بيوسف وأرقه الحنين فعاد سرا إلى البلاد وقضى ردحا من الزمان في قريته بصعيد مصر حتى انكشف أمره وأعاد جمال عبد الناصر اعتقاله مرة أخرى ثم أفرج عنه ووضعه تحت الوصاية والتحفظ رهين بيته .

أما خالد محيي الدين أشهر مؤيدي محمد نجيب فقد ساءت العلاقة بينه وبين جمال عبد الناصر وتدهورت حتى نفاه جمال عبد الناصر إلى سويسرا وغادر خالد البلاد وقضى في سويسرا سنوات عديدة وحين اشتاق إلى رؤية والدته بعث إلى جمال عبد الناصر يطلب منه العودة لرؤيتها على أن يغادر البلاد مرة أخرى دون أي اعتراض منه بذلك ووافق جمال على طلبه وعاد خالد لأحضان أمه ثم عاد مرة أخرى منفيا إلى سويسرا وبعد سنوات قضاها في جنيف أرسل ثانية إلى ناصر يترجاه في العودة بعد أن أوجعته الغربة وأرقه الحنين للوطن مع عدم الانخراط في أي أعمال سياسية وعاد يعمل صحفيا في أخبار اليوم .

أما محمد نجيب فحدث ولا حرج مما فعله به فقد انقلب عليه في أعقاب حادثة المنشية الشهير في عام 1954 وقد استغل جمال عبد الناصر الحادث في إعلاء نفوذه ونمو شعبيته بعد أن ألقى خطبة حماسية ألهبت نفوس المواطنين ليولد زعيم جديد من بين رجال مجلس قيادة الثورة .

وألقى القبض على الرئيس محمد نجيب إلا أن الشعب المصري كان متمسكا بقيادة نجيب له ومؤيدا لسياسته فخرج الشعب وثار في مظاهرات تخريبية مطالبا بعودة نجيب إلى الحكم وأمام ضغوط الشعب عاد محمد نجيب مرفوعا على الأعناق تهتف الجماهير بحياته ولكن لم ييأس جمال عبد الناصر بل استمر في مخططه الجهنمي وراح يلقي القبض على قادة المظاهرات التي خرجت لتأيد محمد نجيب وزج بهم في سجون مصر وتعرضوا بداخلها لأبشع صنوف العذاب . ثم ما لبث جمال عبد الناصر أن زعم في إحدى الصحف أن محمد نجيب يسعى إلى إعادة الملكية والوفد إلى الحكم وقد ساعده في ذلك نفر غير قليل من الصحفيين المعروفين كان على رأسهم مصطفى أمين وشقيقه علي ومحمد حسنين هيكل وغيرهم من رموز الإعلام حينذاك وهنا لاحت الفرصة لجمال عبد الناصر للتخلص من غريمه ومنافسه العنيد اللواء محمد نجيب الذي ألقى القبض عليه وأودعه في فيلا السيدة زينب الوكيل زوجة مصطفى النحاس بضاحية المرج واليت قضى فيها سنوات عمره وطيلة فترة حكم جمال عبد الناصر .

وعانى الرجل كثيرا في معتقله بعد أن تقطعت عنه وسائل الاتصالات والإعلام ومنعوا عنه الزيارات وأدخلوا عليه الفئران التي كان يخشاها وراح الرجل يقضي وقته في رعاية القطط والكلاب وقد قيل إن كلبا من كلابه قد مات فبكي عليه كثيرا ودفنه بجوار سكنه وكتب أمام قبره هنا يعيش أعز أصدقائي ! ! ! ! .

وكان محمد نجيب يريد أن يقول إن أصدقائه من الكلاب هم أخلص وأوفى من أصدقائه من البشر ووصلت الرسالة للرئيس جمال عبد الناصر ! ! ثم استدار جمال عبد الناصر وفكر في التخلص من باقي زملائه الثوار الذين ساعدوه وساندوه في ثورته حتى تستقر في يده مقاليد السلطة دون أن ينافسه أحد فيها .

وبدأ في ضرب جمال سالم الذي كان يتصف بسلاطة اللسان والواقع أن هناك واقعة رواها البعض في مذكراتهم أشارت إلى أن جمال سالم قد قذف الرئيس جمال عبد الناصر بدواية الحبر في وجهه أثناء واحد من اجتماعات مجلس قيادة الثورة مع سيل من الشتائم والبذاءات وقيل إن ناصر تمسك بالهدوء وحافظ على أعصابه فلم ينس له تلك الواقعة الخطيرة وتحرك في بطء لحين الانقضاض عليه وبالفعل قام جمال عبد الناصر بتجريد جمال سالم من سلطاته وتحفظ عليه وظل رهين البيت ثم اتجه على الفور إلى صلاح سالم الذي كان عائدا لتوه من الخرطوم وقد زعم جمال عبد الناصر أنه فشل في مهمته التي أوكله إليها في توحيد السودان وقد روى البعض أن جمال عبد الناصر هو الذي قام بتأليب القبائل السودانية ضد صلاح سالم وقد قاموا بطرده حتى يتسنى له اتخاذ قرار يتناسب مع فشل مهمته وهكذا أدرك صلاح سالم أنه أمام مخطط يهدف إلى التخلص منه وقد ذهب إلى مجلس قيادة الثورة وصرخ في وجه جمال عبد الناصر وذكريا محيي الدين مؤكدا لهم أنه عرف بما كانوا يفعلونه ضده في السودان من أجل إفشال مهمته والخلاص منه وطالب صلاح سالم بمحاكمته محاكمة علنية لإظهار الحقائق وهدد جمال عبد الناصر بإبراز دوره الخفي في ضرب الوحدة مع السودان وطعنه في الظهر من أجل الانفراد بالسلطة ولم يعلق جمال ولكنه دعا مجلس قيادة الثورة إلى اجتماع عاجل طاريء دون أن يخبر صلاح سالم وقرر مجلس القيادة إنهاء خدمة صلاح سالم وإيداعه رهن التحفظ لما بدر منه في الاجتماع السابق وفشله في مهمته في السودان والجنون الذي استولى عليه وهكذا لحق صلاح سالم بشقيقه جمال بعد أن كانا الإخوان ملء الأسماع والأبصار في جميع دور الصحف والإذاعة ! ! ! .

لم يكتف جمال عبد الناصر بالتخلص من جمال سالم وشقيقه صلاح فقد كان يخشى دائما من قوة علاقة عبد اللطيف البغدادي وراح يكيل له الاتهامات زاعما أن والد عبد اللطيف وأشقاءه يستغلون نفوذه ويفرضون سيطرتهم على أبناء قريتهم وهنا أمر جمال عبد الناصر بالتحفظ على والد عبد اللطيف البغدادي واعتقال أشقائه وأزواج شقيقاته ومنع أهالي القرية من التردد على بيت والده وحين اعترض البغدادي على تلك الإجراءات التعسفية أمر الرئيس جمال عبد الناصر بوضعه هو الآخر رهن التحفظ وابتعد عبد اللطيف البغدادي عن دائرة العمل السياسي وتلاشى دوره واختفى نجمه أمام شمس ناصر الحارقة .

أما كمال الدين حسين صديق عبد اللطيف البغدادي فقد ساءه ما تعرض له زميله البغدادي ورغم أن كمال الدين حسين كان يتولى مناصب عديدة إلا أنه جاهر علنا أمام جمال عبد الناصر باعتراضه على ما فعله البغدادي وأسرته وسرعان ما واجه كمال الدين حسين نفس الإجراءات وتم تجريده من جميع مناصب وإيداعه فيلا بضاحية الهرم تحت حراسة مشددة وقد كانت معه زوجته وأولاده الذين افترشوا أرض الفيلا للنوم فيها ! ! ! .

ومن أسف أن زوجة كمال الدين حسين قد تدهورت حالتها الصحية أمام هذا الظلم وهذه الإجراءات القمعية وتعرضت لنكسة صحية خطيرة وحين استدعى حرس الفيلا الطبيب المعالج كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة وكان عبد الناصر قاسيا حين أمر بدفن زوجته دون أن يمشي في جنازتها عقابا له على اعتراضه على ما فعله بالبغدادي وهكذا انكمش دور كمال الدين حسين وانزوى .

ثم اتجه بعد ذلك إلى حسن إبراهيم نائب رئيس الجمهورية وطلب منه صراحة اعتزال العمل السياسي حيث إنه أيد جمال عبد الناصر يلاحظ أن حسن إبراهيم لم يعد قادرا على العمل السياسي ورضخ حسن إبراهيم أمام رغبات عبد الناصر الجاحمة والطامعة والدموية واستقر به المطاف أن اعتزل العمل السياسي نهائيا وراح يعمل في مجالات التجارة الحرة ولم ينبش بعدها بينت شفة حول ما دار بينه وبين جمال عبد الناصر .

والتفت جمال عبد الناصر حوله فرأى زكريا محيي الدين الذي كان يتصف بالمكر والدهاء ويتحلى بالصمت الطويل فأسند إليه وظائف لا ترقى إلى مستواه العملي بعيدا عن النفوذ بعد أن جرده من منصب مدير المخابرات العامة وهكذا عاش ذكريا بعيد عن الأنظار وهو الثوري الوحيد الذي لم يتحدث إطلاقا عما تعرض له على يد جمال عبد الناصر بل الوحيد الذي رفض كتابة مذكراته واتجه بعد ذلك إلى تجارة المواشي في قريته ومسقط رأسه كفر شكر إحدى قرى ريف القليوبية .

وعاد ناصر ببصره مرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال فلم يجد أمامه سوى أنور السادات وحسين الشافعي وعبد الحكيم عامر أما الأول فقد كان يجيد اللعب على كافة الحبال وقد أوهم جمال عبد الناصر أنه ينتظر الموت بين لحظة وأخرى حيث أدعى أنه مصاب بأزمة قلبية وقد أوصى جمال عبد الناصر على رعاية أولاده من بعده ثم راح يؤلف كتابا مليئا بالنفاق والكذب كان عنوانه " يا ولدي هذا عمك جمال " وزاد السادات في العزف على أوتار النفاق حتى أنه سمى ابنه على اسم جمال عبد الناصر لكي يوهم جمال عبد الناصر بأنه من عشاقه ومحبيه ومريديه وابتلع ناصر طعم السادات الماكر ولم يتعرض له بعد أن اطمأن قلبه لسلامة تصرفاته وتلاشي خطره .

كان السادات في ما مضى وعند بداية نشوب الثورة يعلن صراحة في اجتماعات مجلس قيادة الثورة تأييده وولاءه التام لجمال عبد الناصر حتى قال هو نفسه في كتابه " البحث عن الذات " أنه قام بتوثيق توكيل أعطاه لعبد الناصر للتصويت لصالح جمال حال غيابه عن أي اجتماع طاريء أو إذا كان خارج البلاد في مهمة عمل رسمية أو طريح الفراش ! ! ! .

ولم يكن غريبا أن أطلق أعضاء مجلس قيادة الثورة على السادات لقب " مستر نعم " أي الرجل الذي لا يقول لا لجمال عبد الناصر لا , ومعروف أيضا أن السادات كان ينادي جمال عبد الناصر علنا أمام الكافة بلقب المعلم وكان يحدثه تليفونيا كل صباح قائلا له : " صباح الخير يا معلم " .. أضف إلى ذلك أحاديث الزهد والتصوف التي كان يرددها أنور السادات كثيرا أمام ناصر فضلا عن دعوات العشاء التي كانت تعدها زوجته جيهان السادات بنفسها كل ليلة للزعيم في بيتها تقديرا له واحتفالا بقدومه السعيد إلى بيتهم وهكذا بعث السادات الطمأنينة في قلب ناصر .

وأذكر أن الأستاذ أنيس منصور قد ذكر في أحد مؤلفاته أنه قال ذات مرة للرئيس أنور السادات أنه مندهش لعلاقته بالرئيس جمال عبد الناصر ويستغرب بقاءه بجواره طوال فترة حكمه دون أن يتعرض لما تعرض له زملاءه من أعضاء مجلس قيادة الثورة واستطرد أنيس منصور قائلا للسادات : " إن لدي تفسيرا لهذا يا ريس فنظر إليه السادات في اهتمام شديد لسماع هذا التفسير فأردف أنيس قائلا إن أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا أشبه بمسامير لها رؤوس فكان سهلا على جمال عبد الناصر خلعها إلا أنك يا سيادة الرئيس كنت تبدوا أمام عبد الناصر مسمارا بلا رأس فكان عسيرا عليه أن يخلعك كما خلعهم أليس كذلك ..فضحك الرئيس السادات ملء شدقيه وقال ها .. ها .. ها .. والله يا أنيس أنت أسوأ من العقاد ها .ها .. ها .. ها "

وبالطبع دلت ردود فعل أنور السادات على صحة تفسير أنيس منصور وإلا كان قد أسكته على الفور ولم يدعه يستكمل تفسيره المنطقي وهو ما نعتقد أنه صحيح مائة في المائة فلقد عاش السادات طيلة فترة حكم ناصر مسمارا بلا رأس فعاش واستقر حتى عينه نائبا يدين له بالطاعة ويشهد أمامه بالولاء .

أما حسين الشافعي فقد كان زاهدا متصوفا عابدا ناكسا راضيا بما وصل إليه رافضا الجهر بطموحه أو البوح بما تكنه نفسه أمام جمال عبد الناصر حيث كان قد استوعب الدرس الذي عاشه مع زملائه الثوار فرضي أن يعيش في الظل مكتفيا بمنصبه كنائب رئيس لا يهش ولا ينش وهكذا ارتاح له ناصر وأسند إليه مهام الاحتفالات مع وزارة الأوقاف والأزهر والطرق الصوفية بالمناسبات الدينية على أن يبتعد تمام من دائرة العمل السياسي .

ولكن وآه من لكن .. فقد كان عبد الناصر يعرف أن أمامه أسدا هصورا لا يقوى على إيذائه أو النيل منه وكان هذا الأسد هو عبد الحكيم عامر الذي نجح في بسط نفوذه وانتشار شعبيته بين صفوف الجيش والشعب وأحاط نفسه بجوقة من رجاله الذين اتصفوا بالدموية والوحشية .. . نعم كان عبد الحكيم عامر محاطا بشمس بدران وزير الحربية وصلاح نصر مدير المخابرات العامة الرهيب وعباس رضوان وزير الداخلية العنيف وعلي شفيق مدير مكتب شمس بدران وحمزة البسيوني قائد السجن الحربي وغيرهم من رموز القمع والقهر والكبت الذين تربصوا بعد وهم جمال عبد الناصر .

كان هذا الأخير ينتهز الفرصة بين الحين والآخر للانقضاض على عصابة المشير للتخلص منهم وكان يعرف أن شوكتهم في داخل ثكنات الجيش قوية وصلبة لا تقوى عليها رياحه مهما بلغت درجة قوتها .

كان عبد الناصر بالفعل شعر إزاء المشير ورجاله بالضعف فيكفي أنه بعد الانفصال وبعد هزيمة 1956 وبعد حرب اليمن لم يجرؤ على إعادة ترتيب أوضاع الجيش وإعادة تنظيمه وبنائه أمام هذه الأحداث الحافلة بالمخاطر أودت بالبلاد إلى الخراب .

ولكن جاءت هزيمة يونيه 1967 وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير عبد الحكيم عامر والفرصة التي اغتنمها جمال عبد الناصر وقد جاءت إليه راكعة طائعة للتخلص من عامر ورفاقه السوء وقام جمال عبد الناصر ومعه حسين الشافعي وأنور السادات وذكريا محيي الدين باستدعاء عامر للتباحث معه حول أهمية إعادة بناء جيش بعد هزيمة 1967 .

كان المشير عامر قد علم أن ناصر ينوي القضاء عليه والتخلص منه وهنا قام بتحصين بيته في الجيزة وتدشينه بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة مع وجود كافة قيادات القوات المسلحة على رأسها شمس بدران وغيره من القيادات الشهيرة .

والحاصل أن عبد الحكيم عامر حين وصل إلى بيت ناصر قام حرس البيت بتجريده من السلاح وقد دخل صالون البيت ثائرا وهائجا وهو يصرخ قائلا لجمال عبد الناصر : " إيه الإجراءات دي يا جمال يا ابني .. . أنت النهاردة جاي تعمل راجل يا .. والله أنا هديلك بال .. مش هتقدر تعمل معايا حاجة يا ابن .. " ولم يشأ جمال أن يرد عليه وقد غادر الصالون إلى غرفة نومه في الطابق العلوي وتركه بصحبة أنور السادات والشافعي وذكريا محيي الدين .

وسرعان ما قام سامي شرف بإبلاغ جمال عبد الناصر تليفونيا في غرفة نومه أن المشير عامر حاول الانتحار داخل حمام المنزل ولم يفكر عبد الناصر في مغادرة غرفته لتقصي حقيقة الأمر وكأنه أراد ذلك أو توقعه دون أن يغمض له جفن وغادر عامر البيت في حالة صحية خطيرة وتوجه إلى منزله بعد أن تناول أقراص مخدرة واعتنى به الأطباء واستمر الحال هكذا عبد الناصر في منزله ينتظر ردا من عامر على ترك مناصبه داخل الجيش وعامر ينتظر في بيته المدجج بأعتى الأسلحة والمكتظ بأقوى رجاله ردا من نصار يسمح له بالعودة إلى قيادة الجيش .

ولم يعكس ناصر ولم يتراجع عن مخططه وكيف يتراجع وقد أتته الفرصة التي انتظرها طويلا على أحر من الجمر وهكذا أسند مهمة اختراق بيت المشير للواء عبد المنعم رياض رحمه الله واللواء محمد فوزي رحمه الله وقاد الرجلان قوة عسكرية كاسحة اقتحمت بيت المشير الذي تحول إلى نكثة عسكرية مدججة بأحدث وأفتك الأسلحة وتم تبادل النيران كانت الغلبة فيها لأنصار جمال عبد الناصر بالطبع وقام عبد المنعم رياض ومحمد فوزي باقتياد المشير عامر في سيارة عسكرية أمام زوجته وأولاده واتجهوا به ناحية الهرم وقاموا بالتحفظ عليه وتناقضت الروايات بعد ذلك فمن قال أن عبد الحكيم عامر قد انتحر في معتقله ومن أكد بعد أن أقسم بأغلظ الإيمان أنه مات مقتولا وعلى كل حال فقد كانت نهاية حتمية منطقية وواقعية لعامر الذي أدت تصرفاته إلى هزيمة الجيش في 1967 بعد أن انتشر الفساد وتعاظم شأنه هو ورفاقه الذين عاثوا وماجوا في عرض البلاد ولم يعد يهمنا أن مات منتحرا أو مات مقتولات لا بد أن ينزوي هو الآخر خاصة وإنه كان أحد أهم أسباب هزيمة يونيه .

والشاهد أن الرجل مات وانتهى عمره الافتراضي في الحياة وتم نقل جثمانه إلى مسقط رأسه في قرية أسكال بمحافظة المنيا وكانت أسرته فقط التي مشت خلف جثمانه حتى وارى الثرى وتم منع الأهالي من تشييع جنازته وسط حراسة عسكرية شديدة ألقت الرعب في نفوس أهالي القرية الذين كانوا يعشقون عبد الحكيم عامر .

وهكذا دانت الأمور لجمال عبد الناصر وأحس بقوة قبضته ونفوذه ولكن سرعان هو الآخر ما انقض عليه ملك الموت لكي يتخلص منه نهائيا قبل أن يتمتع بانفراد السلطة والتكويش عليها والاستبداد بها ولله في خلقه شئون .

الفصل السادس: عبد الناصر والإخوان

لم تتعرض علاقة عبد الناصر بطائفة فكرية أو سياسية للجدل بقدر تعرض علاقته بالإخوان المسلمين من جانب المؤيدين للفريقين أو المعارضين لهما أيضا .

موجة الإخوان في الأربعينات حينما كانت الحركة في الانقلاب أو الثورة يوم 23 يوليو 1952 بل إن ناصر قد ذهب إلى قبر الشهيد حسن البنا هو حسن الهضيبي وقرأ الفاتحة على روحه بعد قيام الحركة بأيام .. . وفي إشارة مهمة لفضل الإخوان على ثورة يوليو .علاوة على إعادة فتح ملف التحقيق في قضية اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا , غير أن عبد الناصر عندما تمكن من الوصول للحكم بمساعدتهم له ضد محمد نجيب قام بتصفيتهم عن طريق حادث المنشية أو – تمثيلية – المنشية , ثم اغتال العديد منهم في المعتقلات وبالأحكام المشبوهة , وقام بعدها بمطاردة الرموز المعتدلة في الحركة الإخوانية واتهامهم بالإرهاب ومحاولة قلب نظام الحكم وتشكيل الخلايا السرية من أجل الإطاحة برموز الثورة وقوادها .حتى تم القضاء على أغلب القيادات ما بين 1954 و 1956 بمحاكمات الدجوي الشهيرة وسجن شباب هذه الحركة الإسلامية .

ويسوق المناصرون للإخوان أمثلة على أن تقديمهم للمحاكمات والاضطهاد الذي لقوه إبان الحقبة الناصرية من أهم مقدمات الكوارث التي أصابت مصر في العصر الحديث .. فيذكرون أن اعتقالات 1954 جاءت بعدها بعامين كارثة العدوان الثلاثي عام 1956 .ثم اعتقالات عام 1965 جاءت النكسة المرة بعدها بعام واحد .. وكأن الحركة مع موعد بالقدر أنها كلما وجهت إليها ضربة فإن القدر يخبيء للنظام ضربات قاتلة .. " .

وينقل لنا الكاتب محمد رجب في كتابه " ما لم تنشره الصحف " أن الشيخ الشهيد سيد قطب قد تلفظ بكلمات والحبال مشدودة حول عنقه قبل لحظات من تنفيذ حكم الإعدام عليه وهو ابن السبعين من عمره .. قال الشيخ رحمه الله " اللهم اجعل دمي لعنة في رقبة عبد الناصر ! ! .. وقد سمعه صحفي شهير يومها يتمتم ولكن لم يتبين من الكلمات إلا عندما ضغط على عشماوي ليستبين معاني الكلمات فقال الصحفي : ربنا يستر على البلد ! ! ! .

بينما يرى أنصار الزعيم جمال عبد الناصر أن الإخوان كانوا من أهم أسباب نثر بذور الفرقة والشقاق في المجتمع المصري وأن معولهم الهادم للنظام الثوري غير خفي على كل ذي بصيرة بداية من حادث المنشية إلى الجهاز السري فالخلايا الإرهابية وعمليات التخطيط لتقويض أركان النظام الحاكم .. غير أكوام المؤلفات التي سطرت في معاداة النظام والتحالف مع الراديكالية العربية في وجه التقدم التحرري الثوري الذي تبنته البلاد من خلال قيادتها الوطنية المخلصة , مما أوقع النظام في إشكالية التعامل الجبري بالقوة مع هذه العناصر الهدامة .. وانشغال القيادة بالداخل عن تحديا الخارج .

وإننا نرى أن الفريقين كلا منهما متحمس لرأيه غير قابل للتراجع قيد أنملة عما قد ارتآه من قناعة .. . ونحن نترك للقاريء المنصف تبني أحد الطرفين .ولكننا يستوقفنا أنه في سبيل محاربة التوجهات الإخوانية الخاطئة وفقا لوجهة نظر القيادة السياسية تمت محاربة الخط الإسلامي كله ومعاداة التدين وتشجيع ما يضاده .. ويذكر أحد الشباب الجامعي أيام فترة السبعينات أنه كان بالجامعة المصرية بالقاهرة شاب من المتفوقين – اشتراكي وشيوعي – وكان يهزأ من الدين الإسلامي رغم أنه يعتبر من المسلمين ويقول لزملائه بسخرية .. سأثبت لكم أنه لا يوجد لهذا الكون إله .. فيتعجب البعض منه .. غير أنه يستمر في استهزائه ويقول : لو أن لهذا الكون إله فليميتني في خلال ربع ساعة .. وتمر الربع ساعة المرجوة ولا يموت الشاب .. فيقول كأنه اكتشف سر الذرة .. ألم أقل لكم إنه لا إله لهذا الكون ! ! ! .ويكمل الشاب الراوي لهذه الواقعة .. في اليوم التالي لم يأت للكلية صاحبنا الذي كان بالأمس يبرهن أنه لا إله لهذا الكون .

ولم يأت أيضا اليوم الذي تلاه .. فلما طالت غيبته ذهبنا إلى حيث يقطن .. وصعدنا إلى شقته لنجدها مفتوحة وتلاوة القرءان الكريم تسمع من داخلها .ظننا أن والده توفى أو والدته قد توفيت أو أحد أقربائه .. ولكن صعقنا عندما قابلنا والده هو يجهش بالبكاء لوفاة صديقنا في نفس ذات اليوم الذي كان يبرهن لنا فيه على أنه لا إله لهذا الكون .ولما ذهبت عنا الدهشة سألنا كيف حدثت الوفاة .فقال الوالد : إنه لما عاد من الكلية تناول طعام الغذاء .وطلب شرب كوب من الماء .وبينما يتناول المياه سقطت المياه في أنفه وسقط هو بدوره ميتا .. " يقول العلماء التشريحيون أن هذه الميتة تحدث كثيرا للكلاب " .فلو أن مثل هذا الشاب الخاسر لدنياه ودينه وآخرته كان يعلم أن النظام الحاكم سيأخذ برهانه على معاداته للدين ويحاسب عليه ويعتقل كما يعتقل الإخوان المسلمين .. .

ما تجرأ أن يتفوه بكلمة واحدة ولا حرف واحد .حتى ولو كان يعتقد ما يقول .ولكن لأن الأجواء كانت مناصرة للاعتداء على الدين والسخرية من المتدينين أخرجت مثل هذه السفالات من عقلية عفنة ملوثة بأدران الشيوعية .. وقد ذكر أحد المشاركين في فاعليات الاتحاد الاشتراكي أيامها أنه في إحدى الاجتماعات الحزبية الدورية بدأ كلامه ب " بسم الله الرحمن الرحيم " .ولم يكد يكملها حتى تكهرب رئيس الشعبة وقال له : " بس .. بس .. أنت عايز تودينا في داهية .ويقولوا علينا من الإخوان .. " كما ذكرت اعتماد خورشيد في كتابها المسمى : " شاهدة على انحرافات صلاح نصر " أن صلاح نصر كان يقول لها : " من لا ترضي عنه .فأمري .قولي بس إنه من الإخوان وأن أبهدله " .مما أربك الناس وأبعدهم عن المساجد لأداء حتى الصلوات المكتوبة ووصل الأمر لدرجة خشية البعض من معرفة أنهم يصلون لله .. بل لا يجرؤ أحد الاعتراف بأن لديه سجادة للصلاة في بيته أو مكتبه .. كل ذلك بفضل ما تسرب من داخل المعتقلات والسجن الحربي أن التعذيب داخلها لا يصمد إليه بشر وأن كثيرا من الأرواح البريئة قد زهقت وأن من يحيي داخلها فالموت أكرم له وأطيب من ملاقاة صنوف الويلات والتنكيل الذي كان أباطرة التعذيب يبتكرونه لتعذيب الأبرياء الذي تم الزج بهم بمناسبة وبدون مناسبة .وقد كشف الإخوان في مؤلفاتهم عن الأهوال التي لاقوها في السجن الحربي على يد حمزة البسيوني وصلاح نصر وشمس بدران وغيره .. ما لا يصدق وقوع مثله في دنيا البشر .. لدرجة أن غالبية من كتبت لهم النجاة من السجون ومن الكبت النفسي والعزلة عن المجتمع ككل .

قد تقدم للمحاكمة يطلب محاكمة المسئولين عن هذه الجرائم البشعة المصنفة جرائم ضد الإنسانية وطالبوا بتعويضات مالية طائلة من الدولة عما ارتكبته في حقهم .. وقد قضت المحاكم لهم بالحق في التعويض وأن التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم .فقد يكون لك الحق في الاعتراض على سلوك بعض أفراد أو مجموعات المجتمع ومحاولة الحفاظ على كيان وهيبة الدولة .. ولكن ذلك من الممكن أن يتأتى بأسلوب مغير لما انتهجته القيادة السياسية في حق الإخوان ووقوفها بمنتهى الشدة والعنف والقوة أمامهم .ففي حين لو أن نصف تلك المواجهات الداخلية كانت بالقوة ذاتها خارجيا ما لقينا بالتأكيد الهزيمة والعار في 1967 .

إن الناصرية والإخوانية في النهاية من صميم نبت هذا البلد الطيب .. ومن الخسارة خسران أيهما .فالمفاضلة ممكنة ولكن هناك بونا شاسعا بين المفاضلة والمقاصلة .بين الوفاق . . والشقاق .بين الوسطية .والتطرف .وإن كان التطرف من جانب الإخوان غير مقبول فإنه بنفس الدرجة غير مقبول ناصريا بل أشد .لأن القوة الناصرية هي قوة الدولة .أما الإخوان فمهما تعالت قدراتهم غير أنهم حركة محدودة الإمكانات والقدرات فيكون رد فعلهم دوما يتسم بالضعف المحدود , والخاسر الوحيد هو الشعب المصري الذي يمثله التياران المتناحران والرابح دوما هو العدو .أي عدو تلك أن تتخيله يربح من هذه الحالة المتردية , فلم لم نأخذ أفضل ما لدى الإخوان ونتغاضى عن سلبياتهم .ولم لم نأخذ أفضل ما لدى الناصريين ونتجاوز عن اتباع اعوجاجهم , وإن كان الإخوان المسلمون ليسوا الإسلام بعينه – وهذا حق – فلم تمت معاداة كل ما هو إسلامي حتى أصبح الأمر وكأنه حرب على الدين وليس ضد حركة سياسية متبنية للمفهوم الإسلامي كأساس للحياة والتعامل .

ومن مفارقات العداء للإخوان أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كان في مطلع شبابه وهو يخطو الخطوات الأولى في دهاليز السياسة أراد الحصول على مباركة الرئيس جمال عبد الناصر لتولي زعامة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبار أن ناصر زعيم الأمة العربية ومباركته تعني الكثير عربيا .ولكن التقارير التي وضعت على مائدة عبد الناصر جعلته ينصرف حتى عن لقائه فضلا عن قبوله كزعيم لحركة مسلحة فلسطينية , ولكن الصحفي المقرب لفكر وعقل وقلب عبد الناصر الأستاذ محمد حسنين هيكل أراد التعرف على سر رفض ذكر اسم ياسر عرفات في أي موضوع يخص الشأن الفلسطيني .حتى توصل هيكل إلى أن سبب ذلك يرجع إلى أن تقارير المخابرات عن عرفات تثبت انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين بفلسطين وهي جزء من الجماعة الأم بالقاهرة .

لذا فياسر عرفات لا يصلح لأن يكون له أي دور سياسي أو عسكري يخص الشأن الفلسطيني , ولكن هيكل طمأن عبد الناصر وأفهمه أن عرفات ورفاقه يريدون لقائه وليسمع منهم ثم يتخذ من بعد ذلك القرار الذي يراه مناسبا .. " وبقية القصة تكاد تكون بادية لكل ذي لب .. سيظل الجدل دائرا بين الأطراف كلها حول تقييم التعامل الناصري للإخوان .. والرد الإخواني على الناصريين .. وسيدلي كل بدلوه .. وتبقى حقيقة مهمة لا يستطيع أحد التجاوز عنها أو مداراتها .. وهي أن الخلاف الذي ما كان أن ينشب أصلا بينهما قد جلب إلى البلاد المزيد من الويلات والصعاب حتى وقعت الطامة الكبرى في يونيه وحدث الانكسار الكبير للناصرية والمفهوم السياسي القائم إبانها ! ليبقى السؤال الأهم هو .. من الجاني ؟ .. هذا السؤال أترك تحديد إجابته للقاريء الفطن ليحدد من الذي جنى على البلاد ومن هم المجني عليهم .

الفصل السابع: ناصر .. 1956

بعد أن تمكن جمال عبد الناصر من السيطرة على مقاليد السلطة في مصر خاصة بعد أن زج بمنافسه الرئيس محمد نجيب داخل فيلا زينب الوكيل في ضاحية المرج وظل بها حبيسا وبعد أن زج بخصومه من أعضاء الإخوان المسلمين والشيوعيين ورموز الأحزاب المصرية وقادتها ونفى بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة واعتقال العديد من ضباط المدفعية والفرسان الذين تمردوا ضد أسلوب سياسته في الحكم والقضاء على الإقطاع راح يعلن أمام العالم في بيان شهير تأميم قناة السويس الأمر الذي دفع انجلترا وفرنسا وإسرائيل إلى القيام بهجوم جوي بحري بري مشترك عرف في حينها بالعدوان الثلاثي كان الهدف من ورائه القضاء على نظام جمال عبد الناصر الذي بات خطرا يهدد مصالح بريطانيا العظمي ومعها فرنسا وإسرائيل .

وبدأت المعركة وسط خطب حماسية ألقاها ناصر باقتدار وكفاءة دون أدنى استعداد لمقاومة الغزاة وراح يقف على منبر الأزهر يدعو الجميع للقتال وتحرك الجيش المصري الذي كان يعاني ضعفا وهوانا وتحركت المقاومة الشعبية في بورسعيد والسويس والاسماعيلية بعد أن تم توزيع الأسلحة على كافة أفراد رجال المقاومة المتطوعين للتصدي للغزاة .

ولكن كانت موازين القوى تميل كفتها لصالح الغزاة الذين جاءوا بأحدث الأسلحة وأشدها فتكا وقد قامت تلك القوات بالاعتداء على وحدات الجيش المصري في سيناء وقد دفعته للتراجع والاستسلام حتى أن جمال عبد الناصر أمر بحل الجيش وعودته لحماية الشعب والعمل في صفوفه لحماية القاهرة هكذا كانت تصدر القرارات في عصبية دون اللجوء للحكمة حيث تضاربت الأقاويل بين كل من عامر الذي يدعو للمقاومة ومواصلة التصدي وناصر الذي كان يدعو للتراجع والوقوف في صفوف المقاومة الشعبية خوفا على سقوط القاهرة .

وأمام عنف الغارات الجوية والبحرية وسقوط آلاف القتلي والأسرى من أبناء الجيش المصري دبت الخلافات بين أعضاء مجلس قيادة الثورة حيث راح صلاح سالم يطلب من جمال عبد الناصر ضرورة أن يسلم نفسه للإنجليز حقنا للدماء وحفاظا على الأرواح ولحماية ممتلكات الأمة وانتشرت هذه الرغبة في صفوف باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة إلا أن جمال عبد الناصر رفض هذا الطلب مؤكدا في شجاعة أنه يرغب في الاستشهاد وهو يقاتل من أن يموت جبانا مستسلما وحدثت المعجزة التي كان ينتظرها ناصر على أحر من الجمر حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة إيزنهاور إنذار شديد اللهجة يدعو الغزاة للانسحاب خلف القناة ووقف إطلاق النار وهو ما خضعت له دول العدوان الثلاثي .

ومن هنا تحققت لعبد الناصر رغبته في انتصار سياسي ضد الغزاة والمعارضين له في مصر وتم وقف إطلاق النار وارتفعت أسهم جمال عبد الناصر إلى عنان السماء بعد وقف إطلاق النار وراح في مهارة واقتدار يتحدث في كافة المؤتمرات بصفته قائدا منتصرا استطاع إلحاق الهزيمة بالغزاة دون أن تتعرض بلاده لأية هزيمة عسكرية أو سياسية .

وراح هيكل يكتب له في مقالاته الشهيرة في أخبار اليوم سر انتصاراته على دول العدوان الثلاثي وتحدث في إفاضة عن شجاعته وبطولته واستبساله ونجح هيكل في إلحاق هزيمة إعلامية بعيد عن واقع الميدان ضد الغزاة وكذب هيكل فصدقه ناصر وأنصاره أنه قد انتصر فعلا في تلك المعركة .

ولا يستطيع أحد أن ينكر بحال من الأحوال انتصارا سياسيا رمزيا حققه ناصر كما لا يمكن لأحد أن ينكر هزيمة وقعت في صفوف الجيش المصري الذي تعرض لضربة قاتلة أودت بحياة الآلاف من أفراده وتدمير معداته وأسلحته .

ويذكر عبد اللطيف البغدادي في مذكراته أن اصطحب الرئيس ناصر في سيارته لتفقد أحوال الجيش في طريق الاسماعيلية وقد شاهد الرجلان مئات العربات والمدرعات في الطريق الصحراوي وبداخلها جنود تفحمت جثثهم حتى أن جمال عبد الناصر قد هبط من سيارته وراح يتأمل صور هذا الخراب ثم سرعان ما عاد للبغدادي وهو يبكي ويرتمي على كتفه قائلا :

" لقد هزموني بواسطة جيشي "

واعترف البغدادي أنه للمرة الأولى كان يشعر بالإشفاق على ناصر رغم ممارسته الديكتاتورية والقمعية مع الجميع .

وكان ناصر قد اشترى معدات وأسلحة للجيش المصري قبل نشوب معركة العدوان الثلاثي بلغت في حينها مائة وثلاثون ملايين من الجنيهات وقد تعرضت جميعها للدمار والخراب والفساد .

ولكن الحقيقة التي يجب أن نعلنها هنا أن عدم استسلام ناصر للغزاة والخضوع لشروطهم كان من أهم أسباب نجاح جمال عبد الناصر وصعود أسهمه ولمعان نجمه لتبدأ مرحلة جديدة من الزعامة حازت على إعجاب الجميع سواء الخصوم والمعارضين .

أضف إلى هذا تلك الفوضى العارمة التي سيطرت على الحياة السياسية في بريطانيا والتي أدت إلى سقوط أنطوني إيدن بسبب هذا العدوان واحتجاج أغلب أبناء الشعب البريطاني ضد هذا الغزو الغاشم وهو السبب الرئيسي الذي صنع بطولة جمال عبد الناصر وتضخم شعبيته في صفوف شعبه بل في صفوف أمته العربية .

ولكن مهما يكن من أمر فإن جمال عبد الناصر قد أخفى على أبناء أمته الاتفاق السري الذي أبرمه مع الإسرائيليين حول سيناء حيث صاغ اتفاقية هدنة اتبعتها موافقته على وجود بوليس دولي في سيناء يقف على حدود مصر وفلسطين المحتلة وقتذاك فضلا عن موافقته على مرور السفن الإسرائيلية من مضيق تيران الشيخ وهي تحمل أعلامها الإسرائيلية .

ومن أسف أن هذا الاتفاق تم كشفه قبيل عام 1967 وهو الأمر الذي فوجيء به العالم كله خاصة في مصر الذين كانوا لا يتوقعون منه هذا وعلى أية حال فرغم أن مصر خسرت في حرب 1956 الآلاف من جنودها وأسلحتها ومعداتها وفقدت سيطرتها على بعض المناطق القريبة من حدودها مع إسرائيل وتلاشى نفوذها في مداخلها البحرية . فإن انتصار 1956 كان هو سلم صعود ناصر للمجد والعظمة .

الفصل الثامن: ناصر ديمقراطي أم ديكتاتور ؟ !

ما من نظام حاكم لأي دولة إلا ويرفع شعار الديمقراطية كأسلوب إدارة لبلاده . . حتى وإن كان من طبقة كبار إقطاعيي الديكتاتورية .حدث هذا في الوجود منذ الخليقة إلى يومنا هذا وسيحدث من بعدنا حتى قيام الساعة .

فمن عهد نيرون حتى بين وشيه " الديكتاتور شيلي السابق " شهدت شعوب الأرض حكاما تميزوا بالتطرف الديكتاتوري ورغم ذلك وصفتهم أبواقهم الدعائية بالديمقراطية , وقبل الخوض في الحديث يجدر بنا تعريف الديمقراطية والديكتاتورية , فالديمقراطية تعني ببساطة حكم الشعب لنفسه بالطريقة التي تحقق له كلا من الحرية والرفاهية , والديكتاتورية هي حكم الفرد للشعب بالطريقة التي تحقق للحاكم حرية التصرف في كافة الأمور التي يراها في صالحه وإن كانت في غير صالح الشعب .

ورغم بعد الهوة والاختلاف في مقاصد الاتجاهين غير أن حدودهما مشتركة وتفصل بينهما شعرة دقيقة لا تكاد أن ترى إلا لمن أعطاهم الله نعمة البصيرة , والبطانة الصالحة التي تعين الحاكم على عدم تجاوز المسموح به من تصرفات , وتلك البطانة ينبغي عليها ألا تكون من هواة التملق ومحترفي النفاق ومدمني الطب والتصفيق , وذلك لأن الحاكم مهما كانت جديته والتزامه غير أنه بشر , بمعنى أنه عرضة للخطأ وتقلب المزاج وأن يحتويه " الكرسي " بدلا من أن يحتوي هو عليه , وإذا قدر لحاكم ما وجود بطانة السوء حول فلا بد من سقوطه مرغما في مستنقع الفردية والديكتاتورية وإذا أضفنا وجود شعب يرتجف هلعا فإن الديكتاتورية المتطرفة تلك تتحول في نظر الحاكم إلى عدل مطلق وديمقراطية حرفية .ومؤد لواجباته تجعل الحاكم على الدوام محتذيا للعدل والإنصاف بعيدا عن الجور والظلم .

لذا نجد في الأنظمة الديمقراطية " الحقيقية " شعبا متحررا من الخوف ويرصد ويراقب ليس بهدف التهكم وإنما الغرض الأساسي التقويم عبر مؤسساته البرلمانية وعبر الصحافة النزيهة البعيدة عن الأهواء وعبر أجهزة رقابية محمودة السيرة .

وفي حالة تقييم الحقبة الناصرية يجب إخضاع تلك الفترة لهذه العناصر التي أعانت وأعاقت " ناصر " في مسيرته , فمن جانب البطانة فحدث ولا حرج من عامر لنصر وبدران ثم من شرف لشعراوي , تجد ما يشبه التنظيم المشبوه أقرب منه للتنظيم السياسي , علاوة على المنتفعين " الصغار " وإذا أضفنا وجود شعب عانى .سبعين عاما احتلالا قاسي فيها الكبت والإرهاب والضيم كما أن أحزابه الموجودة قبل الثورة تتناحر فيما بينها للقرب من الملك والمندوب السامي مهملين أفراد الشعب وآمالهم , وهذا ما عدا عبد الناصر في وقت لاحق إلى حل جميع الأحزاب لأن رموزها نفس الوجوه في عهد الملكية وقد ثبت فسادها السياسي وعدم تقديمها خيرا للشعب .

ونجد أن في بدايات الثورة وأثناء الاجتماعات الأولى لمجلس قيادتها اتفق ناصر مع أعوانه على الحكم الديمقراطي رغم ما لاقاه من معارضة شديدة وحكاية ناصر الديمقراطي ليست غريبة عن بداية معرفة الناس به , إذ أنه فاجأ زملاؤه وبالتحديد بعد أربعة أيام من نجاح الثورة بمقولته : لقد نجحت المرحلة الأولى من الثورة ومنذ اللحظة التي غادر فيها الملك ميناء الإسكندرية وأصبحنا مسئولين عن حكم مصر وبدأت مرحلة جديدة ولذلك فإنني أتنحى عن رئاسة الهيئة التأسيسية وتجري انتخابات في ما بيننا لاختيار رئيس جديد للهيئة , ورغم الاعتراض من زملاؤه غير أنه أصر على التنحي والانتخاب , فوافق الأعضاء على أساس أنه إجراء شكلي , وجرت الانتخابات وكتب كل عضو ورقته ودون فيها رأيه , وكانت النتيجة حصول عبد الناصر على 7 أصوات من 8 , أما صوته فقد أعطاه لأحد زملاؤه ولم يعطه لنفسه , غير أن عبد الناصر عاد لإلقاء ثاني " قنابله " في هذا الاجتماع وهو مناقشة فلسفة الحكم هل تكون ديمقراطية أو ديكتاتورية , ومرة أخرى تحدث المفاجأة إذ اختار زملاؤه الديكتاتورية .

إذا كيف يتم الإصلاح مع المفسدين إلا باستخدام القوة الجبرية التي هي قمة هرم الديكتاتورية , غير أن عبد الناصر انصرف وقال : أنا لا استطيع أن أحكم إلا بالديمقراطية ولا أستطيع أن أعيش في بلد يحكم بالديكتاتورية , وتكهرب المجلس بأعضائه وأرسلوا جمال سالم خلفه محاولا تهدئته فعاد على أساس إقرار الديمقراطية كفلسفة الحكم .

وفعلا تم لناصر ما أراده وأقر مجلس قيادة الثورة الحكم الديمقراطي كأسلوب وفلسفة , وصدر قانون تنظيم الأحزاب والتزم مجلس قيادة الثورة بإجراء الانتخابات في فبراير 1953 إلى آخر القرارات التي صدرت من منطلق الديمقراطية .

تعليق :

مهما اختلف المفسرون والمحللون على استنباط مقاصد الرئيس جمال عبد الناصر مما حدث في الأيام الأولى للثورة إلا أننا لا نملك إلا تحيته وبصدق على ما ارتآه من توجه , والواقع شهد أن ناصر يوليو 1952 حتى فبراير 1954 لم يصدر قرارا منفردا ولم يفرض رأيا خالفه فيه أعوانه في مجلس قيادة الثورة ولم يتجه إطلاقا إلى إقصاء عضو من مجلس القيادة بل كان حريصا على زملائه وإصدار قرار ما منسوب لمجلس قيادة الثورة , لا يتم إلا بالمجلس كله , بل أن هناك من أعضاء المجلس من هدد ناصر في بيته وهو جمال سالم إذ قال بصوت مرتفع مهددا ناصر : أنا سأكتب عنك كتابا أسودت , وتقبل عبد الناصر التهديد بهدوء ولم ينفعل .

ولكن ..؟

ماذا جرى بعد فبراير 1954 وخاصة بعد إحكام قيادته للمجلس والتي فرض عبد الناصر شخصيته القوية عليهم وما كان يحدث أن يدعو عبد الناصر المجلس لمناقشة موضوع ما يكون قد قتله بحثا ودراسة من كافة جوانبه ويكون باقي أعضاء المجلس لا يعلمون عنه شيئا ويفاجأوا بعرضه عليهم وطبعا تختلف الآراء ما بين مؤيد ومعارض لعدم استضافتهم في دراسة أبعاده , فيقوم هو بتفنيد رأي هذا المعارض وتقوية حجة المساند أو بيان ضعف رأي الموافقين وإضافة أسباب منطقية للرافضين , ومن ثم يتبين لهم سلامة رأيه وبعد نظره مما أكسب لكلمته في ما بعد المهابة والثقة في نفس الوقت , علاوة على ان تأمينات قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر أكسبه شعبية طاغية غير قابلة للنزاع داخليا وعربيا وعالميا وعلى مستوى الحكم أضاف إليه الإبهار . وجاء دور محترفي النفاق والتملق ومن أدخلتهم أجهزة الاستخبارات العالمية لتضعف من التوجه المحمود لجمال عبد الناصر .

وفي اعتقادي أن ناصر كان أبعد ما يكون عن الفردية في الحكم والطغيان في السلطة , لذا أحبته الجماهير بكل صدق وإخلاص , فالناس عندما تحب تحب من بيده سوط , قد يرهبونه وينافقونه بالحب أما الإخلاص الممزوج بالحب فلا يتأتى إلا لمن يعطي لهم الأمن ويبادلهم الحب .

وأمرا كهذا في بلد كمصر مع حاكم كعبد الناصر لا يمكن أن تصمت عليه قوى الاستكبار العالمي خاصة الصهيوني . . لذا مرورا – عن طريقهم أو بواسطة غيرهم – من يمكن تغيير الخط الجاد والمثمر الذي تبناه عبد الناصر , وجميع رموز الفساد في عهد ناصر أضيفت لقائمة السلطة بعد 1954 بدءا من صلاح نصر ومرورا ببدران ووصولا لشرف وعلي صبري وجميعهم تربطهم صلة بالدائرة الشرقية الحمراء , وبقليل من الدقيقة نجد أن بطانة عبد الناصر كلها قد ارتدت الزي الأحمر ومن بعدها بدأت عجلة الديمقراطية في التوقف لتدهور القوى المحركة للحكم العادل .. كيف لا وقد تم إيهام عبد الناصر بأنه مستهدف من الجميع وجاءت تمثيلية المنشية والتي يكاد يتضح وجوه مدبريها – من العملاء بطانة ناصر – جاءت حادثة المنشية لتثمر بذور الشك في صدر ناصر تجاه الشعب وتياراته الفكرية والدينية ولتثبت مراكز قوى العملاء حول صدق نصائحها بعدم الجدوى مع هذا الشعب إلا بالشدة والقهر , ومن يومها تبنت المؤسسة الحاكمة الريبة في التعامل مع أفراد الشعب خاصة المفكرين والمعارضين ( في أحد الكتب التي تتحدث عن تجاوزات مراكز القوى قال عبد الناصر : صلاح نصر وعبد الحكيم عامر كانا مصورين لي أن البلد كلها عايزة تقتلني وهما فقط يعملان على حمايتي ) .

ومن يستطيع مقاومة عصبة ملتفة حوله من العملاء الذين يتحقق لهم في حالة الديكتاتورية كامل شهواتهم في السلطة والحكم وإرهاب الآخرين ونفوذ بغير حساب ؟ ! فأنت قد تنفق مائة جنيه على الأعمال الخيرية ولكن إذا اشتد عليك الألم لمرض ما فأنت تنفق الآلاف بشرط بقائك دون ألم يهدد حياتك , وقد تحقق لهم ما أرادوا إذ أطلق ناصر يدهم في الجيش وداخل جهاز المخابرات للحفاظ على أمنه وسقط من حيث لا يدري في قبضتهم الآثمة وشيئا فشيئا أعطوه لقب الزعيم الملهم , وأسقطوه سياسيا في برك ومستنقعات كحرب اليمن والتي تجرع الإنسان المصري والاقتصاد والجيش المصري عموما فيها المرارات المتتالية حتى انتهت السقطات إلى السقطة الكبرى وهزيمة 5 من يونيه 1967 والتي من أجلها فقد عبد الناصر الكثير من عزيمته التي كانت لا تلين وانتصر عليه المرض الذي حاول قبله التسلق إلى الجبل المسمى عبد الناصر ولكنه فشل , فقام ناصر بتصفية مراكز القوى الأولى ولكن كانت هناك خطوط احتياطية للطابور الخامس ولم يستطع إزاحتها وأزاحها السادات بعد أن خلفه .

وإذا أردنا شيئا من التفصيل بعد الإجمال , نذكر أن هناك أمورا وأحداثا جسيمة وقعت خلال السنوات الأولى من عمر الثورة توضح كيف كل جهد عبد الناصر إبان رئاسة محمد نجيب موجها إلى إزاحته , وفي سبيل ذلك جمع أعضاء مجلس قيادة الثورة حوله ليصدر المجلس في 25 فبراير 1954 بيانا جاء فيه أن محمد نجيب رئيس الجمهورية لم يكن قائد الثورة ولا له فضل عليها ولم يكن يعرف عنها شيئا إلا قبل قيامها بشهرين ولم يرأس مجلسها إلا بعد شهر من قيامها وأنه لا هم من يوم تنصيبه رئيسا إلا إقصاء الضباط الشبان أبطال الثورة من مراكزهم وأنه يحاول العودة بالبلاد إلى الوراء وتسليم الحكم للأحزاب القديمة وعندما وقف مجلس الثورة أمامه موقفا حاسما قدم استقالته فقبلها المجلس , غير أن عبد الناصر لم يكن يتوقع أن لمحمد نجيب شعبية كبيرة داخل صفوف الجيش كما أن الرأي العام يؤيده , لذا قامت مظاهرات عنيفة في يومي 25 , 26 فبراير 1954 عقب ذلك البيان تعلن تأييدها المطلق لمحمد نجيب مما دعا مجلس الثورة إلى التراجع مضطرين عما قرروه من إقصاء محمد نجيب وتم في مساء 27 فبراير عودة نجيب لرئاسة الجمهورية .

غير أن عبد الناصر بمعاونة عبد الحكيم عامر قد وجها جهودهما إلى استمالة القادة فلما تم لهما ذلك وفي 25 مارس 1954 أعلن مجلس الثورة أنه اتخذ قرارات بحل نفسه والسماح بعودة الأحزاب وإجراء انتخابات جديدة خلال ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر تأتى بمجلس نواب , يؤلف هذا المقترح لجنة تأسيسية تكون لها سلطة البرلمان وتنتخب رئيس الجمهورية , كان ناصر قد استتب له الأمر بتأييد الجيش ويعرف أن معظم قاداته سترفض هذه القرارات وسيطالبون مجلس الثورة بالاستمرار في أداء عمله كما أن الشعب لا يمكن له قبول فكرة عودة الأحزاب الرجعية لكرهه الشديد لها خاصة أن الجماهير تظن بأن نجيب سيظل رئيسا للجمهورية , وبحصول عبد الناصر على تأييد الجيش والرأي العام تمكن من السيطرة على القيادة الفعلية للبلاد وقد نظمت مظاهرة في 29 مارس 1954 هتفت ضد نجيب وكل مؤديه زاعمين رغبة محمد نجيب في عودة الإقطاع والأحزاب الفاسدة , وقد حدث قبل ذلك التاريخ بيومين خرجت أغرب مظاهرة في تاريخ البشرية إذ هتفت بسقوط الحرية ولعن الديمقراطية مطالبة بالديكتاتورية , كانت المظاهرة مكونة من عمالة مديرية التحرير الذين نقلتهم اللوريات إلى القاهرة حيث طافوا شوارعها واعتدوا على مقر مجلس الدولة والدكتور عبد الرازق السنهوري رئيس المجلس وقتئذ .

بذلك تمكن جمال عبد الناصر من تحقيق أول أهدافه في الانفراد بالزعامة وفي مذكرات محمد نجيب ( كلمتي للتاريخ ) قال نجيب " جاءتني معلومات مؤكدة أن اتفاق قد تم بين الأمريكان وبعض أعضاء مجلس الثورة على وجود مؤامرة وأن قوات الاحتلال البريطاني وضعت في حالة استعداد وأنها احتلت مواقع متقدمة على طريق السويس القاهرة للتقدم في حالة حدوث اشتباك مسلح لاحتلال القاهرة وأجمعت أمري على رفض استعمال القوة , ولم أوافق على تحريك قوات عسكرية ولم أوافق أيضا على اعتقال المجلس بعملية قد تعرض حياته للخطر وقد تعرض استقلال مصر للضياع .

نقطة أخرى كانت جسرا عبرت منه الديكتاتورية إلى داخل نظام الحكم وقتها وقد تم ذلك عقب تولي عبد الناصر المسئولية الرسمية وتمثل ذلك في قانون تأميم الصحافة علاوة على زحف جحافل المنتفعين حول عبد الناصر الذين لم يكونوا يجيدون غير الطاعة العمياء لاكتشافهم النرجسية المتحكمة في شخصية عبد الناصر .

ثم أتت عملية التأميم التي بدأت بتأميم أموال الأجانب خاصة اليهود ثم بالرأسماليين المصريين أمثال أحمد عبود باشا وشركاته المتعددة وكذلك مصانع سيد ياسين للزجاج قد أدت إلى انهيار الأمن الاقتصادي , وجدير بنا تحليل تلك الخطوة بالذات لعدم جدواها خاصة أن الإدارة التي تولت تأميم الشركات والمصانع المؤممة لم تفعل خيرا بل اعتبرت نفسها على رأس غنيمة لا بد من العمل على الانتفاع بها ويكون الهدف الأساسي من وراء التأميم هو تجرد كل ذي قوة من قوته فصاحب الرأي والفكرة قد تم احتواءه عن طريق التأميم والسياسيون تم احتوائهم بإلغاء الأحزاب ورؤوس الأموال تم احتواؤها بالتأميم أيضا وفي أواخر أيام سلطة المشير عامر كان ينوي ضرب وتأميم العائلات ! ! . . وأعد العدة لذلك في مايو 1967 غير أن ما جرى بعد ذلك من وقوع النكسة قد حال بينه وبين ذلك كما أن الاعتقالات التي تمت في عام 1954 للإخوان ومحاكماتهم وإعدام رموزهم قد قضت على أي قوة تقف في طريق الانفرادية بالحكم .

وعلى جانب آخر كانت لجان مصادرة أملاك العائلة الملكية بمثابة " مغارة علي بابا " بالنسبة للمنتفعين حول الثوار , وقد بدأت هذه اللجان عملها في أغسطس 1952 وظلت تعمل وإن تم تغيير اسمها إلى لجان تصفية الإقطاع حتى عام 1967 كانت السلطة فيها في يد رجال مجلس الثورة ومن اتصل بهم , كانوا صغارا وصاروا مع الزمن كبارا , كانوا فقراء من متوسطي الحال على أحسن تقدير فأصبحوا جميعا أغنياء ولكن ضابط من ضباط مجلس الثورة كان له فريق من أتباعه ومساعديه يأمرونهم وهم ينفذون بالطريقة التي يرون وما دام الضابط الكبير من أتباع عبد الناصر وأنصاره أو من أتباع عبد الحكيم عامر فلا سبيل إلى محاسبته قط والذي حدث لقصور الملك والأمراء والأميرات لا يمكن أن يوصف إلا بأنه شائن لأن كل ما تبقى من محتويات هذه القصور .. . ! ! ! قطعة من المصاغ والجواهر محفوظة في خزائن البنك المركزي في عهدة سيدة مريضة كانت موظفة في وزارة الثقافة هي السيدة منجي مصطفى , وهي تلح في أن تعفى من هذه المسئولية , ولكن أحد لا يصغى لها , وهذا أمر مفهوم لأنه إذا كانت كل كنوز سليمان قد نهبت ولم يبق منها إلا تاج الهدهد وهو من الريش فمن هو المجنون الذي يتسلم هذا التاج الرخيص لكي يسأل بعد ذلك عن كنوز سليمان .

وتمت العملية على أسوأ صور الفوضى فإن وزير المالية إذ ذلك أصدر أمرا بأن يخرج كل أفراد الأسرة من بيوتهم وتغلق وتشمع حتى يتسنى للجان الجرد حصر محتوياتها ثم تعاد إليهم على أن تعتبر القصور وما فيها عهدة في أمانتهم يسألون عنها , على أن يسمح لكل منهم بالإقامة قصر واحد من قصوره وتترك له سيارة واحدة ويظل الأمر على هذا الوضع حتى تتخذ الدولة ما تراه في القصور وأصحابها وما فيها , أما قصور الملك , وكلها ملك الشعب , فكان المفروض أن تتسلمها لجان الجرد وتتخذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على كل شيء فيها , وتكونت لجنة مركزية للمصادرة والجرد , وإلى كل قصر من قصور الملك والأمراء , وعدد أسرهم 417 أسرة , ومعظمهم كان يملك أكثر من قصر كانت تذهب لجنة جرد والمسألة بدأت بقصور الملك والأسرة المالكة , ثم اتسع الموضوع بمصادرة أموال من سموهم بالإقطاعيين , ثم – بعد حرب السويس في صيف 1956 – بمصادرة أملاك الأجانب وشركاتهم وبيوتهم ومتاجرهم وبنوكهم , ثم أصبح الأمر فوضي بلا ضابط لأن جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر في حربهما , واحدا مع الآخر انطلق فيما أصبح يسمى : مزيدا من الاشتراكية , حتى أممت مخابز ومحلات حلوى ومصانع أثاث ومتاجر صغيرة وما إلى ذلك لأن الأمر أصبح عملية نهب وكل هذه العمليات يقوم بها مكتب رئيسي للجرد والمصادرة في جاردن سيتي يتولي عملية تنظيم الاستيلاء على أموال المصريين ومدخراتهم خلال قرن ونصف لأن الأمر بلغ أن كل من كان يطمع في شيء من رجال عبد الناصر وصاحبه كان يتقدم باتهام تعقبه الموافقة على المصادرة والتأميم , وفي العادة يكون الاستيلاء والنهب قد تم قبل ذلك , أما بالنسبة لمجوهرات أسرة محمد علي فقد بلغ مجموع ملفاتها 1200 ملف وكل واحد من هذه الملفات يحتوي على توصيف فني لكل تحفة وقد حدث أن طلب عبد الناصر من ياوره بأن يذهب ويختار " هدية مناسبة " لسيدة مصرية كما أهدى منها لزوجة نكروما الزعيم الإفريقي , مما يؤكد على نظرة السلطة لهذه المجوهرات أنها ملكية خاصة بهم , ومن علامات القهر في هذا العصر تلك الواقعة التي تحكي عن سيدة مسنة كانت تملك 40 فدانا وقد عهدت إلى محمد شعراوي باشا مسئولية إدارتها لأنها تجاور بعض أراضيه وقد قال محمد شعراوي كلاما لم يعجب عبد الناصر فصادر أملاكه البالغة 4000 فدان ومن ضمنها الأربعين فدانا لهذه السيدة حتى لم يترك لمحمد شعراوي المائتي فدان التي نص عليها القانون على تركها لصاحب الأرض وقتها وعندما ذهبت السيدة للقائمين على مكتب جاردن سيتي لقت من الإهانة ما اقشعر له بدنها وعادت وهي لا تجد سد حاجتها ول لا لعم الشيخ الباقوري وزير الأوقاف بقصتها ورقة قلبه لمشكلتها مما حداه إلى إصدار قرار بإخراج نفقة شهرية قيمتها 27 جنيها شهريا كانت تدفع منها 14 جنيها قيمة المسكن و 5 جنيهات نفقات صيانة المنزل والبواب والباقي وقدره 8 جنيهات تعيش به شهرا كاملا وعندما اشتد بها المرض كانت تنفق 5 جنيهات في الدواء وتشتري بالباقي خبزا تعيش عليه بجوار الماء ومن سخرية واقع تلك الأيام أن موظفا من رجال لجان التصفية تلك قد عرض على هذه السيدة 40 جنيها نفقة شهرية إذا هي كتبت سكنها باسمه ليرثها بعد موتها فرفضت بكرامة وإباء ولكن بعد موتها استولى هذا الشخص على منزلها دون مقابل .

وإذا أضفنا إلى ذلك تحويل البلاد إلى ما يشبه المعتقل الكبير بمنع دخول أو خروج المواطنين إلا في حالات شبه محالة نجد أن المناخ العام يوصف بالشمولية المستعصية وقد ذكر د . حسين مؤنس : ذات يوم من أيام يونيو 1963 رأيت في دار السفارة المصرية بمدريد – حيث كنت أعمل – امرأة تطلب مقابلة السفير والسفير يرفض ويأمر بإخراجها من مقر السفارة فأخرجوها , ودخلت بعد ذلك ولقيت السفير لبعض شئون عملي وسألني إذا كنت رأيت هذه المرأة فأجبت بأنني رأيتها فكان تعليقه : لقد أمرت بعدم إدخالها السفارة لأنها " حرامية بنت كلب " كان هذا شرح واضح مفصل ومقبول , وبعد ذلك بشهرين ونصف دخلت مقهى مشهورا يسمى خيخون فوجدت هذه السيدة جالسة مع صاحبة لها فنهضت إلي ودعتني إلى الجلوس وحكت لي حكايات كثيرة عما سرق منها وما نهب منها ومن بيتها قبل أن تخرج من مصر فأصغيت إليها مليا ثم قلت إنني أرى من جواز سفرك يا سيدتي أنك يهودية مصرية وأرى في الجواز خاتم يقول : ممنوع من مغادرة البلاد لحين صدور أوامر أخرى , فهل صدر أمر برفع هذا المنع ؟ .

وتنظر إلى المرآة وتقول : لا لم يصدر وانظر إلى الجواز كيف شئت فلن تجد خاتم مغادرة البلاد , فقلت : إذن : كيف خرجت ؟ فكشفت عن ذراعها وأشارت إلى رسغها ثم إلى مرفقها وقالت : كان هذا كله من هنا إلى هنا مصوغات وجواهر , فهززت رأسي وفهمت ونهضت بعد قليل لأنني لم أحب أن اسمع التفاصيل التي كانت تريد أن تقصها علي وأيامها كان خيرا للمواطن ألت يعرف شيئا مما جرى في بلاده وهناك أناس كثيرون نالهم أذى شديد لأنهم كانوا يعرفون أشياء كثيرة . . ولكني فهمت لماذا قال السفير إن تلك المرأة " حرامية بنت كلب " لأن هذا السفير كان نفس الرجل الذي ذكرت أنه شغل في وقت من الأوقات مركزا خطيرا يسمح له بأن يعرف الكثير وهذه " حرامية بنت كلب " كانوا قد أخذوا منها أشياء كثيرة ووعدوها بأن يردوا لها بعضها بعد أن يدبروا لها أمر الخروج من مصر وها هي ذي تأتي لتطلب أن يردوا لها بعض ما تم الاتفاق عليه فرفضوا حتى مقابلتها وقالوا عنها : " حرامية بنت كلب " .

مثال آخر للعشوائية والتي كانت من المفردات المعروفة وقتها , ويقصد أيضا د . حسين مؤنس : أذكر أنني استقبلت في مدريد إنسانا غريبا عرفت في ما بعد أنه كان ضابط بوليس ولكنه في ذلك الحين كان قد أصبح رئيسا لمجلس إدارة شركة مخابز كبرى في السيدة زينب نزل عليها سيف التأميم فقسمها نصفين وأصابها إصابة لم تقم منها بعد ذلك أبدا , والسيد رئيس مجلس الإدارة يأتي إلى مدريد ليدرس نظام المخابز الشعبية في أسبانيا , وأقول له أنني لا أعرف أن في أسبانيا شيئا يسمى المخابز الشعبية لأن أسبانيا في أيام فرانكو كانت دولة رأسمالية وأسبانيا على أي حال لا تشكو أزمة خبز أو قمح لأنها ثاني بلاد أوروبا إنتاجا للقمح بعد روسيا , ويقول الرجل : كيف تقول أن أسبانيا رأس مالية مع أن السفير أعطاني نشرة تقول : إنها بلد اشتراكي ؟ فقلت :

وأين هي هذه النشرة أيها العزيز ؟ ويفتح حقائبه ويستخرج النشرة ويناولني إياها وفيها فقرة وضع صاحبنا خطا بالقلم الرصاص إلى جوارها والعبارة تقول أن أسبانيا نقابية , وهي عبارة عن عبارات الدعاية قالوها في إحدى مراحل عصر فرانكو ومعناها الحقيقي إذا كانت قد ألغيت الحرية السياسية فقد نظمت النقابات وأطلقت عليها حرية العمل , وصاحبنا رئيس مجلس الإدارة فسر هذه العبارة بأن أسبانيا دولة اشتراكية وما دامت اشتراكية فلا بد أن يزورها سيادته ليدرس نظامها وهو لا يعرف الأسبانية أو الفرنسية أو الإنجليزية وفهمت من حديثه أنه يقوم بجولة دراسية في إيطاليا وفرنسا وانجلترا وأسبانيا لدراسة نظام المخابز , ولم لم تكن هناك مخابز حكومية فقد جعلنا نأخذه إلى المخابز الخاصة , وكلما زار مخبزا قال : عندنا أحسن , وحرصت على أن أجهده فكنت كل يوم آتيه بقائمة مخابز ومطاحن يزورها , وبعد ثلاثة أيام ضاق بي وقال : كفاية بقى أفران وقرف , فقلت له : ولكن نقابة الطحانين والخبازين وضعت لك برنامجا حافلا , فقال : شوف يا حضرة , دول جماعة مجانين , وأسبانيا بلد متأخر ونحن سبقناها بمراحل والمخابز التي أديرها أحسن من أي شيء زورته في أسبانيا , ويجلس صاحبنا إلى مائدة الغذاء عند السفير ويقول : تصور يا أحمد بك أنني عندما دخلت مبنى الإدارة في المخابز ( في مصر ) لم أجد فيها صورة واحدة للرئيس جمال عبد الناصر , فعملنا خمسين صورة ببراويز مذهبة وأقمنا يوما سميناه يوم الرئيس . علقنا فيه الصور وأعطينا العمال منحة من الرئيس لمدة ثلاثة أيام , ولسوء حظ صاحبنا أن السفير كان في تلك الأيام من حزب عبد الحكيم عامر فقد كان خصومه قد دسوا له عند جمال عبد الناصر فلجأ إلى الناحية الأخرى واعتصم بحبل من المشير وكانت تعجبني فيه أحيانا صراحته والرئيس جمال عبد الناصر أقصاه إلى مدريد لأنه كان طويل اللسان ويعرف الكثير ( هذا كان كلامه للدكتور حسين مؤنس ) .وانتظر السفير حتى فرغنا من الأكل ثم أراد أن يشفى غليله في هذا الرجل , ويريني في نفس الوقت جرأته وعدم اكتراثه به فبدأ حديثا مع الرجل أشبه بالتحقيق بدأه بقوله : الآن وقد قمت بواجبك , ودعوتك إلى الغذاء من حقي أن عرف بصفتي سفيرا لماذا عينوك رئيسا لمجلس إدارة مخابز كبرى وأنت لا تفهم في الخبز أو الدقيق ؟ ويفاجأ الرجل ويفتح فمه دهشا ويقول : وهل أنا عينت نفسي في هذا المنصب أم سيادة الرئيس هو الذي اختارني ؟ فقال السفير / أنهم كذبوا على السيد الرئيس وهو لا يعرفك أما أنا فأعرفك الآن , وقد طلبت عنك معلومات بالشفرة وجاءتني , أنت زوج فلانة , وفلانة أخت فلان , وفلان أخوك وكلكم شلة يعلم بها ربنا .

أما على المستوى الشعبي فقد وقعت اعتقالات واسعة خاصة عام 1954 بعد حادثة المنشية وعام 1965 طالت جماعة الإخوان المسلمين , وكانت تأخذ بالشبهة دون التحقيق لدرجة القبض على بعض المسيحيين بتهمة الانضمام للإخوان المسلمين ! ! وحدثت فيها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وتعرض المعتقلون إلى تعذيب بشع الأمر الذي أدى بهم بعد مرور الحقبة الناصرية وبداية عصر الرئيس السادات أن تقدموا بقضايا تعويض لما نالهم من تعذيب وقد قضى فيها بإلزام الحكومة بدفع مبالغ تعويضية متباينة وأن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم , كما عرض أصحاب الفكر اليساري من اشتراكيين وشيوعيين إلى الاعتقال والتعذيب أيضا ولكن لسعة رقعة المنتمين للفكر الإخواني الإسلامي كان عددهم أكبر , ومن السخرية أن موجة الاعتقالات في تلك الفترة ألقت ذات مرة بإحدى المجموعات إلى السجن ولم تذكر التيار التابع لتلك المجموعة المقبوض عليها , فما كان من إدارة السجن إلا أن قيدت في سجلاتها , أنهم من الشيوعيين الإخوان .

لقد تعرضت مصر خلال ستة عشر عام إلى أحداث كانت تكفيها قرنا ونصف قرن , تغيرت فيها أفكارها , وتبدلت فيها أوضاع , نزعت قيم , وزرعت قيم أخرى نبتت شيطانيا , تجرع الجميع مرارات متتالية , ومن الفاعل ؟ إن سألت الناصريين رفضوا الأمر جملة وتفصيلا ويقولون إنك لا ترون في الثوب الأبيض غير البقع السوداء , وإذا سألت معارضيهم , أكدوا أنه هو وليس غيرهم المتحمل لمجموعة الكوارث القومية والاقتصادية والأخلاقية التي أصابت البلاد وإذا سألت .وإذا سألت ؟

والجميع يغفل أن الصراع المحموم على السلطة وما يتطلبه من انفرادية وشمولية جعل البلاد كلها كرقبة يلفها طوق هذا الصراع ومع كل شد من هنا وجذب من هناك , اختنق الشعب كله , وإلا فانظر معي إن كانت السلطة وقتها تحارب المتدينين والإخوان فلم اضطهدت وطاردت نقيضهم اليساريين ؟ وإن كانت في صراع فكري مع الشيوعيين فلما ألظت التيار الإسلامي بالنيران ؟ إن الإزدواجية في السلطة وعدم ضبط المنحرفين الملتفين حول القيادة العليا أثمرت عن خروج " النظام " على المتعارف عليه إداريا وإنسانيا وبتوالي تسديد اللكمات لمشاريع النظام خارجيا .

رد النظام اللكمات إلى الداخل بمزيد من الضغط وسوء الإدارة , ولننظر إلى ما حل بمصر بعد عام 1970 من أمور خيالية , من هزيمة نكراه إلى نصر مجيد , ومن تكميم الأفواه إلى إطلاق حرية التعبير والشجار الفكري البناء , ومن كبت الصحافة العربية إلى حرية لم تشهدها مصر منذ الثورة , من فساد إداري وسوء تخطيط إلى تنظيم جيد مستندا على العلم والشفافية , وقد تم كل هذا " بجرة قلم " عندما هبط الصراع وخفت سخونته وانعدمت تمام , ليكون للسفينة قائدا واحدا استوعب خطايا النظام الشمولي المترجل ولفظ سموم العمالة , وحطم أغلالا قيدت العقول قبل الأيدي , غير أنه بدأ ولأمد بعيد ستظل ذكرياته عالقة بالقلوب تلهبها كلما راحت خواطرها , ذكريات يشعر مرارتها من لم يعشها , وتقشعر أبدان من عاصرها , تلك الذكريات التي ينبغي علينا دوما وضعها نصب أعيننا لتحذرنا بعد السماح " للشللية " ومراكز القوى ان تطل برؤوسها من جديد فلقد عاني " ناصر " منها أد المعاناة إلى أن تمكن من إزاحة رموزها الأولى بشق الأنفس , وقبل الإفاقة وجد نفسه في قبضة غيرهم مرة أخرى , ويخطيء من يتصور أن مراكز القوى هي نتاج عصر مضى أو ظرف بعينه , بل هي تأتي بإسناد الأمر إلى غير أهله وبترك الحبل لهم على " الغارب " إن الديكتاتورية كزهرة ثابتة رائحتها تجذب النحل إليها , ومع الفارق في التشبيه غير أنه واقعي , فالسلطة والجاه والنفوذ المطلق أمور تخالط النفس البشرية وتستجيب إليها , وكلما شعر الإنسان بضآلته بجوار المنصب الذي يعتليه , كافح في سبيل الحفاظ على ما لم يحلم الوصول إليه بشتى الأساليب المشروعة منها والممنوعة , ويكون شاغله الأوحد التملق لكسب رضاء من ولاه الأمر , بغض النظر عن مفردات واهية في نظره كالمصالح العام والمسئولية الوطنية , ولأن أصحاب تلك المباديء لا يعتنقون غير الميكيافيللية فهم لا يتحركون في النور , تراهم عاشقي الظلام , ففي الظلام ترتع الخفافيش وكلما اشتد الحلاك دق بصرهم , أما الشعب فلا يبصر إلا في وضح النهار ودفء الشمس , ولنتخيل وضع شعب ولاة أمره والمسيطرون على مقدراته يجعلون من أيامه ظلاما دامسا على الدوام ليتمكنوا من العمل فيه , فأي مصير يكون مصير مثل هذا الشعب البائس .

إن مراكز القوي تنتظر بشوق الظلام ولكن كلنا ثقة في أننا كما بددناه بنور الحق شيئا فشيئا , ونطمح للمزيد من الأنوار فلن يعود للظلام بعدها , لقد أبصرت العيون الضوء وتعلقت به وألفته ولن تتخلى عنه مهما كثر الظلام وارتدى أقنعة الضياء .. .

الفصل التاسع: الصدام مع عامر .. وقضية المؤامرة الكبرى

بنهاية يوم الثامن من يونيو من عام 1967 تأكد وقوع الهزيمة المرة وكانت المفاجأة تحتل الصدور قبل العقول وجثم الحزن باركا على أعين الجماهير وبالطبع كان أكثر المتضررين هم القادة العسكريين الذين ذاقوا النكسة كثوسا مثلما انتشوا بالمدام طويلا قبلها .

ويذكر أن المشير كان أثناء الحرب قد أصدر توجيهاته للفريق محمد فوزي أن يضع خطة لانسحاب الجنود المترامية في صحراء سيناء دون غطاء من الطيران الذي أخرج من ميزان القوة المصري بعد ساعات قليلة من نشوب الحرب لأنه تم تدميره على ممرات الطيران في المطارات غرب القاهرة والغردقة والعريش ببير ثماده والأقصر وبني سويف ..وبعد صدور تعليمات عامر لفوزي بقليل جاء فوزي ليبلغ المشير أنه وضع تصورا للانسحاب خلال ثلاثة أيام , غير أن وجه عامر انتفخ وقال : ثلاثة أيام يا فوزي .. أنا أصدرت التعليمات بالانسحاب الفوري خلاص .. . وبعدها راح المشير في حالة قلق نفسي مما دعا بشمس بدران الاتصال بعبد الناصر لنقل ما وصل إليه عامر من حالة نفسية وخشيتهم إقدامه على الانتحار .. . فذهب ناصر على الفور وانفرد بعامر ليخرج ناصر مسرعا ويبلغ عامر الحاضرين اتفاقهما على تنحي ناصر من الرئاسة وعامر من الجيش .

وبالفعل توجه ناصر وأعلن تنحيه " بمفرده " عن الحكم وعودته إلى مقاعد الجماهير واستعداده لتحمل مسئولية العار والنكسة بمفرده .وتم الإعلان في التليفزيون عن تنحية المشير عامر لنفسه أيضا من قيادة الجيش .. غير أن عامر أدرك عند سماعه لتنحية عبد الناصر دون الإشارة إليه أن هناك شيئا يحاك له في الخفاء وأراد الذهاب إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون بنفسه ليلقي بيانا بالتنحي مثلما فعل ناصر غير أن " حواريه " أشاروا عليه بذهاب معاون له يلقي البيان حتى لا يبدوا الأمر وكأنه تحد .. وذهب بعض معاوني عامر ليلقي بيان المشير غير أنه وجد مبنى التليفزيون محاطا بقوات الحرس الجمهوري واعتذار المسئولين أن سامي شرف أصدر أوامره بعدم إذاعة أي بيان بعد بيان عبد الناصر .. عندها أصيب عامر وشمس بدران بقاصمة أفقدتهما صوابهما فاتصل عامر مباشرة بسامي شرف سكرتير ناصر للمعلومات والذي انهال عليه بوابل من السباب والشتائم والتي قابلها سامي شرف ببرود شديد ودهاء قائلا : أنا يا فندم يبقى لي ألف عام في التراب لما أمنع بيان سيادتك .

أنا لا دخل لي إنما تعليمات الرئيس : فأعاد عامر اتصاله بعبد الناصر الذي هدأ من روعه وحدته وأخبره أن نبأ تنحيه سيذاع وسينشر في الصحف غير أن القاهرة كلها تحولت إلى ساحات للمظاهرات رافضة للتنحي الذي أعلنه عبد الناصر وعدم قبولها ذكريا محيي الدين الذي أعلن عنه عبد الناصر أنه رئيس البلاد بعده وعاد ناصر في تنحيه ولم يعلن عن عودة عامر وشمس بدران لمناصبهما بل تم تعيين الفريق فوزي وزيرا للحربية خلفا لشمس بدران وتولى عبد الناصر قيادة الجيش .. وكان هذا إعلانا عن انتهاء دور عامر العسكري .. وفقدانه الهيئة والنفوذ داخل البلاد هو أعوانه مما أدى إلى محاولة إرباك عبد الناصر بأن تقدم كل القادة العسكريين الموالين لعامر باستقالتهم وكأن السماء أرسلت هديتها لعبد الناصر الذي لم يلبث أن قبلها على الفور دون تردد .. ولما وجد عامر أن هذه الحيلة لم تنطل على ناصر أراد استعراض القوة في ما بقى من مخزون استراتيجي داخل القوات المسلحة فقام عدد من القوات بمظاهرة محدودة وطاقوا شوارع مصر الجديدة بسياراتهم مرددين " عامر " , ناصر " لا قائد إلا عامر " فتم إلقاء القبض على أفرادها .

وبعدها استجاب عامر لنصائحه وابتعد إلى قرية إسطال مسقط رأسه بمحافظة المنيا .. ومعه شمس بدران وعباس رضوان الذي عاد مسرعا حتى لا يلحظ أحد غيابه عن القاهرة .وفي اسطال ابتدأ التدبير للتآمر على عبد الناصر ولكن بخط تصاعدي .وكان غياب عامر وبدران في اسطال يثير قلق عبد الناصر خاصة عامر , فأوفد إليه المبعوثين في محاولة لإخراجه من عرينه .فلم يفلحوا رغم عروضهم بالعودة للحكم كنائب لعبد الناصر دون سلطات من الجيش .. غير أن عامر أبى ذلك .إلى أن أرسل عبد الناصر ورقته التي لا تخيب وهو هيكل الذي نجح في إقناع عامر بالعودة لتصفية ما في النفوس بين عامر وناصر . . ولما عاد عامر لم يذهب لناصر ولا ناصر استدعاه ولكن وجد نفسه مراقبا ومن يقم بزيارته يتم اعتقاله خاصة من لهم صلة بالقوات المسلحة .

فدبر بعض ضباط المدفعية والصاعقة خطة لإجبار ناصر على عودة عامر أو السيطرة على مقاليد الأمور في حالة رفضه .وتم الكشف عن المؤامرة واعتقال المتآمرين أثناء دعوة ناصر لعامر للقائه في 25 أغسطس 1967 وقبل سفر الرئيس لمؤتمر الخرطوم العربي الذي يبحث فيه مسألة العدوان على مصر وسوريا والأردن .. وعندما دخل لم يجد إلا كراسي متراصة يجلس عليها حسين الشافعي وأنور السادات وعبد الناصر وأمامهم كرسي ليجلس عليه عامر في ما يشبه المحاكمة وتمت مواجهة عامر بكل الحقائق من تآمره وأنه من تلك اللحظة رهن الإقامة الجبرية بفيلا المريوطية .. وترك ناصر الحاضرين وذهب لغرفة نومه في قصر المنشية .بينما أخذت أعصاب عامر في الانهيار لدرجة محاولته الانتحار داخل بيت عبد الناصر فأسرع السادات وحسين الشافعي بإنقاذه ونقله إلى فيلته التي كان الفريق فوزي قد أنهى السيطرة عليها وتم إلقاء القبض على شمس بدران والضباط الذين كانوا يحتمون داخلها , وكذا ألقى القبض على الحرس " الصعيدي " الذين استقدمهم عامر من بلدته بعدما رفعت الحراسة الرسمية عن منزله .. واستطاع ناصر هذه المرة إزاحة عامر للأبد عن طريقه .. بل وإزاحة أعوانه جميعا بعدما انكشفت مؤامرتهم لقلب نظام الحكم الناصري وتقديمهم إلى المحاكمة في ما عرف بقضية المؤامرة الكبرى وانحرافات جهاز المخابرات , وبعده تم الإعلان عن المؤامرة وأفرادها وأبعادها والمشاركين فيها من عسكريين ومدنيين وهم شمس بدران وزير الحربية السابق وصلاح نصر مدير جهاز المخابرات المصرية وعباس رضوان وزير الداخلية .. . وهذا الأخير كان آخر من تم إلقاء القبض عليه وقد حدثت واقعة طريفة لعباس رضوان .. وهي أنه كان من ضمن من قاموا باستقبال ناصر شرفيا لدى عودته من مؤتمر القمة العربية بالخرطوم وأثناء مصافحته للرئيس جمل عبد الناصر نظر إلى عباس رضوان وقال له العيال جابت سيرتك ! ! .

وقد تقدم للمحاكمة ضباط الصاعقة والمدفعية وأفراد من جهاز المخابرات وتولي رئاسة المحكمة حسين الشافعي وقضت بأحكام متفاوتة على المتآمرين وبذلك انتهت دولة مراكز القوى الأولى في مصر .. تلك الدولة غير المعلنة التي أذاقت المصريين جميعا ألوانا من العذاب الجسدي والنفسي والاجتماعي والتي عانت منها البلاد طويلا بسبب سوء الإدارة والعشوائية في القرارات والخوف الذي تربص بالناس من مجرد إبداء الرأي , وتبادلها لشيوع التلصص وانتشار فبركة القضايا .. حتى أصبح عنوان النجاح الأوحد هو شارع النفاق عمارة التملق شقة المحسوبية .. . أما النابهون والمخلصون فمكانهم محجوز ومضمون في مكانين لا ثالث لهما .. المعتقل أو مستشفى الأمراض العقلية .

وأيضا أذاقت دولة مراكز القوى الأولى رأس الدولة وزعيمها الكثير من القلق نتيجة ازدواجية القرارات وتخبطها مما أدى إلى فقدان ثلث البلاد في المعركة غير المتكافئة نتيجة وقوع الجيش في دائرة دولة مراكز القوى الرهيبة ..

الفصل العاشر: عبد الناصر في قبضة مراكز القوى

شاءت الأقدار في وقوع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على الدوام – في قبضة المنتفعين أو ما اصطلح عليه " بمراكز القوى " فقبل حرب الأيام الستة التف حوله عبد الحكيم عامر وصلاح نصر وشمس بدران وأعوانهم .. . وشكلوا ما يشبه الحلقة وجعلوا " ناصر " في وسطها يدور حيث يداروا .. و أوشك الزعيم الراحل أن يملك ولا يحكم .. لدرجة خروج نفوذه وسلطانه من الدائرة العسكرية التي دانت بالولاء التام للمشير عامر ورجاله وفي أكثر من موقف تبين ضعف سيطرة " ناصر " على الجيش .. نذكر على سبيل المثال فترة الانفصال عن سوريا عام 1961 وعودة المشير عامر من دمشق حاملا أنباء الانقلاب السوري وما لاقاه من معاملة سيئة في القطر الشمالي لدرجة الإهانة من مدير مكتبه عبد القادر النحلاومي والذي كان أحد قادة الانقلاب البارزين .. وكان يتردد وقتها إصرار عبد الناصر على إبعاد عض قادة الجيش الثابت لتقاسعهم فأبدى عامر الموافقة على اقتراح " ناصر " ولكنه طلب إمهاله شهرا للتنفيذ .. ومرت الأيام بسرعة ولم يخرج أي منهم من القوات المسلحة .

عندما أدرك جمال عبد الناصر أن زمام القوات المسلحة " ملعبه الأصلي " لم يعد بيده فحاول الالتفاف حول عامر بإنشاء مجلس الرئاسة في مارس عام 1961 الهدف منه تولي شئون الدولة وكافة أجهزتها ومنها القوات المسلحة .ولكن عامر لم يعدمه الدهاء في إدراك حقيقة هذا المجلس وأن هدفه الأساسي سحب القوات المسلحة منه لذا بادر على الفور بتقديم استقالته والغياب عن الأنظار في مرسى مطروح ليقوم معاونوه في الجيش بمظاهرة أمام مجلس قيادة الثورة وعند قصر الرئاسة بالمنشية مطالبين عودة المشير والضغط على عبد الناصر الذي استشعر حقيقة الموقف ومدى دقته في حالة قبوله لاستقالة عامر " الصورية " فأعاده ورفض الاستقالة ولكن الأخير عاد متنمرا هو وجماعته وأنشأ جهاز الشرطة العسكرية الخاضع له وبسط نفوذه على قطاعات مدنية وترأس لجان الإقطاع وشارك في اختيار الوزراء الموالين له بالطبع .

بل تعدى الأمر من القناعة العسكرية إلى الطموح السياسي المدني فطلب عبر رسول إلى عبد الناصر أن يتولى رئاسة الوزراء .. . حدث هذا في فبراير 1967 .. . وما نقله رسول عامر للرئيس عبد الناصر أنه طالما الجيش يتولى الإصلاح في البلاد فإن الوضع الطبيعي تولي عبد الحكيم عامر منصب رئيس الوزراء وهذه رغبة المشير , وكان رد الرئيس جمال عبد الناصر على هذا الطلب : ليس عندي مانع ولكن لي شرطا واحدا هو أن يترك عبد الحكيم عامر القوات المسلحة .. . وانصرف موفد المشير ولم يأت برد على شرط .. . الأمر الذي اعتبره المراقبون تمسك عامر بمنصبه كقائد عام للقوات المسلحة وعدم استعداده للتنازل عنه وإن كان من أجل مقعد رئاسة الحكومة .. كان من الواضح أن " الأوراق قد انكشفت وبدأ " اللعب على المكشوف " وأن تحركات ومناورات عامر تخطت صفة التمويه إلى الهجوم المباغت واختبار النوايا " وعلى الجانب الأخر أصبح عبد الناصر ورجاله يتحسبون الهجمات ويصدون الهجوم المضاد قبل وقوعه .

وقد حدث أن أتى السادات لعبد الناصر بعد انصراف من أوفده عامر رئاسته للوزراء , وقال بالحرف للسادات : البلد تحكمها عصابة .. وكان من المعروف أن " عصابة " عامر العسكرية يرأسها شمس بدران , والمدنية يرأسها مدير المخابرات صلاح نصر .. والأخير ما ترك مناسبة إلا وأشعر ناصر أن المؤامرات تحاك ضده ليلا ونهارا ولو لا يقظته لانقض أعداء الثورة عليه من كل جانب .. فتارة الإخوان .وأخرى الإقطاع وأعوانه .. وثالثة الشيوعيين .. ورابعة .. وخامسة إلى آخر ملفات التآمر الوهمية التي كانوا عن طريق التعذيب المروع يقتطعون بها الاعترافات , وعن طريق التسجيلات والمونتاج ينقلون لناصر حقيقة المؤامرة أو غالبيتها العظمي إن لم تكن كلها من النوع الوهمي الهدف منه وضع عبد الناصر في سجن اختياري " بحيث تكتمل قبضتهم عليه , فيعيثون في البلاد كما يشاءون ويذهب خيرها إلى بطونهم المنتفخة بأموال آكلي الفول والفلافل وساكني الأزقة والدروب بينما هم يمتلئون ويملأون بطون من سار تباعا لهم .. إلى أن وقعت الهزيمة المرتقبة في يونيو 1967 .

الفصل الحادي عشر: ناصر .. 67

بعد أن سكنت أصوات المدافع وهدأ أزيز الدبابات وتوقفت سيول الدماء وتجمدت أنها الدمع ووضع الحرب أوزارها راح جمال عبد الناصر يمشي مختالا كالطاووس أو أحد آلهة الأغريق وأبطال الموروثات والروايات الشعبية حتى صار حلما وبطلا وأملا في عيون أبناء وطنه بفعل إعلام هيكل وأذنابه .

وهكذا عاش ناصر في غرور وخيلاء وعظمة وكبرياء ضاربا بآراء كل من حوله عرض الحائط ولم يعد يأبه أحد أو يحسب حسابا له حتى لو كان هذا الأحد هو الشعب بكافة فئاته وطوائفه ودوائره وقطاعاته عاش ناصر منتفخا كديك رومي كبالون طائر يحلق بأجنحته في الفضاء رافضا النزول على الأرض .

ولم يكن هناك أحد يستطيع أن يقول لناصر بعد حرب 1956 لا سوى رجل واحد ظل هو الشوكة المغروسة في عنقه وحلقه ولم يستطع نزعها أو كسرها لأنه كان عبد الحكيم عامر بقوته ونفوذه وعصبيته وشعبيته وحيويته . وحاول ناصر مرارا أن يزيح عامر من طريقه بعد العدوان الثلاثي لعل الأمور تستقر في يده دون أن ينازعه فيها عامر وشلته التي عاثت في ربوع البلاد فسادا وخرابا دون أن يتصدى لهم أحد ومن كان يجرؤ على الكلام حتى لو كان ناصر نفسه بكل طغيانه وجبروته وعنفوانه وسلطانه .

ولكن فشلت محاولات ناصر في تحديد مهام عامر أو تقليص اختصاصه وامتيازاته وأصر عامر على استمراره وبقائه قائد عام للقوات المسلحة رغم أنف ناصر وهو الجرح الذي ظل غائرا في قلب ناصر الذي أدرك جهل عامر بأبسط مباديء فنون القتال العسكري في أثناء العدوان الثلاثي على البلاد عام 1956 .

والحاصل أن شعبية جمال عبد الناصر بلغت عنان السماء وارتفعت قيمة أسهمه وتضخمت مكانته وتعاظمت صورته وتطلعت الأمة العربية إليه والتفتت نحوه والتفت حوله وطالبته بالوحدة فبدأت بدمشق وحملته الجماهير السورية على الأكتاف هو وسيارته كأنه الفاتح العظيم أو صلاح الدين أو أحد أبطال الأساطير ولم يصدق ناصر ما حدث له في دمشق وشعر بالزهو والفخر والعزة من هذا الحب الجارف والدعم العاصف الذي لم يشهده زعيم من قبل أو من بعد .. .

وعاد ناصر إلى مصر وأسند شئون الوحدة إلى عبد الحكيم عامر بصفته قائد الجيش المصري والسوري ونائبا لرئيس الجمهورية العربية المتحدة ولكنه كالعادة فشل عامر في إدارة شئون الوحدة فقد كان مشغولا في مجالسه الغرامية وسهراته الحمراء والزرقاء مع صلاح نصر وعباس رضوان وعلي شفيق وشمس بدران . وفشلت الوحدة وتفككت أوصالها وتمزقت حلقاتها وحطمت مبادئها أمام استخفاف عامر بها وكاد رجال البعث السوري أن يتخلصوا منه في دمشق أولا أنهم قد أدركوا مغبة هذا التصرف الأحمق وما قد يترتب عليه من نتائج مؤسفة تضر بمصالح الأمة العربية .

واكتفى هؤلاء المعارضون لسياسات عامر وناصر إلى طرده على متن الطائرة العسكرية مع أعوانه دون المساس به بعد أن أطلقوا سراحه وعاد إلى مصر يجر خلفه أذيال الخيبة والفشل الذريع .

وأصيب جمال عبد الناصر بالهلع والجذع وتفتت مشاعره وتناثرت خواطره كعاشق فقد محبوبته وعاش عبد الناصر أصعب لحظات حياته وتاريخه على الإطلاق .. لقد تمزق ناصر وانهار وبكى كما لم يبك من قبل على ضياع سوريا حبيبة القلب ومهجة الروح وعاد أدراجه واسترد وعيه وراح يعاود الكرة مرة أخرى طالبا من عامر أن يعتزل العمل العسكري وأن يتجه إلى الانخراط في شئون العمل السياسي بصفته نائبا لرئيس الجمهورية وأن يترك قيادة الجيش لمن هم يملكون القدرة والإرادة والخبرة والريادة في الشئون العسكرية ولكن أبى عامر واستكبر وعاند في الخضوع لمطالب ناصر للمرة الثانية وفشل ناصر كما فشل في المرة الأولى عقب حرب 1956 وتمنى الخلاص منه إلا أن قبضة عامر كانت حديدية يصعب تحطيمها أو كسرها .

وتوالت الأحداث وعادت الأمور بين الرجلين إلى سابق عهدها وإن كان كل منهما ينتهز فرصة الانقضاض على الآخر لإفساح الطريق إلى السلطة وبدأ جمال عبد الناصر في المضي قدما نحو هاوية 1967 وراح يطلق تصريحاته العنيفة في كافة مؤتمراته الصحفية بعد منتصف مايو 1967 وهدد إسرائيل وتوعدها وتعهد بالخلاص والقضاء عليه .

واندفع ناصر غير عابيء بما قد يترتب على تصريحاته من مخاطر وأهوال واستعدت تل أبيب وأعدت خطتها وانتظرت الصيد الثمين كمن يقع في شباكها وراح ناصر يتشاور مع عامر في لقاء عسكري ضم أغلب قادة القوات المسلحة وحين سأله ناصر عن مدة جديته في إلحاق الهزيمة بالعدو الإسرائيلي صاح عامر أمام الحضور قائلا في نوبة حماس صعيدي : " برقبتي يا ريس " وحين عاد ناصر يسأله عن حجم الخسائر المتوقعة من جراء الضربة الأولى الوشيكة التي ستقوم بها إسرائيل ضد مصر أجاب عامر في ثقة أن الخسائر لن تتجاوز بحال من الأحوال نسبة ال 30 % فقط وأنه مستعد للرد المباشر والفوري بما في يده من قوات لا تزيد عن 70 % وحين طالب أحد ضباط الطيران من الرئيس ناصر في هذا اللقاء بأن تقوم مصر بالضربة الأولى بدلا من انتظارها صاح عامر فيه : " اسكت يا ولد .. واسمع اللي يقول عليه الريس " وسكت الجميع وعاد ناصر يقول : أنني تلقيت معلومات هامة وخطيرة تشير إلى احتمال وقوع عدوان على مصر يوم الاثنين القادم الموافق 5 يونيه وأنني أقول لكم من الآن أن تستعدوا وتتأهبوا لوقوعه وسوف نتلقى الضربة الأولى ثم نبدأ بعدها بعد أن نشهد العالم على وقوعها بالرد الفوري والمباشر .

واحتج بعض ضباط الطيران مرة أخرى على هذا التصريح إلا أن عامر نهر جموع المعارضين والذين يطالبون ببدء الضربة الأولى وانتهى الاجتماع وانفض السامر في انتظار الضربة الأولى التي كانت الأخيرة ليسدل الستار على مهزلة عامر وناصر واستخفافهم بمقدرات الوطن وتغليب أطماعهم الشخصية على مصالح الوطن العليا وسقطت سيناء في قبضة العدو الإسرائيلي من أسف أن هذه الحرب قد دفنت الآلاف من جنودنا في رمال سيناء إلا أنها لم تفلح أبدا في دفن الحقائق معها تلك التي أودت بالوطن إلى الهاوية وراح الكل يتساءل ولكن بعد رحيل جمال عبد الناصر بالطبع أين ذهبت تصريحات عبد الناصر ولماذا بادر بطرد قوات الطواريء الدولية وإغلاق خليج العقبة ضد الملاحة الإسرائيلية التي اعتبرت تلك القرارات بمثابة إعلان حرب تستدعي التحرك الفوري والحاسم وتزاحمت عشرات الأسئلة كيف ولماذا وأين ومتى ولمصلحة من ؟ دون أن تجد لها جوابا شافيا وكافيا لتهدئة الخواطر الثائرة في النفوس الحائرة .

تساءل الجميع لماذا أقام قادة الجيش حفلا غنائيا ساهرة في قاعدة أنشاص ليلة 5 يونيه بينما الكل يعرف وينتظر نشوب المعركة بين لحظة وأخرى .

كما تبادرت الأذهان علامات تعجب كبيرة وكثيرة لماذا طار المشير بالجو بطائرته صباح 5 يونيه بينما كان العدو الإسرائيلي يغير بطائراته على قواعد مصر ومطاراتها العسكرية وهو الأمر الذي يتطلب وقف إطلاق نيران المدفعية حفاظا على روح المشير وحياته التي تحلق في الفضاء ؟ وضرب الكل كفا بكف وأخماسا في أسداس كيف تم الانسحاب بهذه السرعة وبهذه الفوضى دون وضع آلية عملية مدروسة لتنظيم الانسحاب ما دامت الضرورة قد دعت لتنفيذه ؟ أين المشير عامر وشمس بدران وأجهزة صلاح نصر ؟ أين ولماذا ظلت الطائرات المصرية قابعة على الأرض كالفراشات وقد تم ضربها وهي جاثية راكعة على ركبتيها دون مقاومة ؟ أين الظافر والقاهر ؟ أين الخطة جرانيت أو غيرها من الخطط التي صدع بها ناصر وعامر رؤوس أبناء الأمة ؟ ولماذا اندفع ناصر نحو أتون المعركة دون أن يعد ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل للنيل من العدو الرابض على حدوده ؟ لقد روى عبد اللطيف البغدادي في مذكراته أنه ذهب إلى غرفة العمليات صباح 5 يونيه وقد وجد فيها عامر وقد بدت عليه معالم السقوط والانهيار وحين جاء جمال عبد الناصر إلى غرفة العمليات وراح يسأل عامر أمام الجميع عن الموقف العسكري في جبهة القتال نهره عامر أمام الجميع قائلا : " صه .. صه ولا كلمة أنا مرهق ولا داعي للدوشة " وابتلع كلمات عامر الجارحة أمام الجميع وقد ارتمى بكل جسده على أريكة كانت قريبة منه وقد أدرك على الفور أن الأخبار على جبهة القتال تسر العدو وتدمي قلب الحبيب وانهار ناصر وكاد أن يبكي ولم يتحمل الجلوس طويلا داخل غرفة العمليات التي كانت أشبه بمسرح عرائس حيث لاحظ عبد الناصر وجود قيادات وضباط وجنود لا قيمة لهم سوى أنهم من رجال المشير وقبل مغادرة ناصر غرفة العمليات تسللت إلى مسامعه بضع كلمات تطايرت من لسان عامر قائلا في عصبية وهو يتحدث في تليفون لا سلكي لأحد جنود الجبهة : " عيب يا واد .. . أديله المدفع .ما يصحش كدة يا واد .. ايه التهريج ده .. . إديله المدفع بقى " .

وغادر ناصر غرفة العمليات وهو يضرب كفا بكف مخاطبا البغدادي قائلا في هوان وأسى : " شايف يا عبد اللطيف .. شوفت عبد الحكيم بيكلمني أزاي أمام اللي يسوى واللي ما يسواش " .

وبينما كانت سيناء تتساقط في قبضة العدو كأوراق الخريف وتتساقط طائراتنا كالحشرات وأرواح جنودنا كالجراد كان إعلام ناصر وهيكل يصدر بياناته الكاذبة الزائفة التي خدعت الجماهير وضللتهم حتى أفاق الجميع واستيقظ الكل على خطاب التنحي الشهير الذي ألقاه عبد الناصر باكيا أمام شاشات التليفزيون مؤكدا مسئوليته التاريخية والسياسية والعسكرية أمام الشعب والوطن والأمة وضرورة عودته للعمل في صفوف الجماهير .

وانطلقت الجماهير في جميع أنحاء مصر غاضبة باكية تلطم الخدود وتشق الجيوب مطالبة الرئيس عبد الناصر بالبقاء والاستمرار في أريكة السلطة وعاد جمال عبد الناصر إلى الحكم مرة أخرى متعللا أنه عاد نزولا على رغبة الجماهير التي زحفت وهرولت تصرخ وتبكي تطالب زعيمها بالبقاء .

كان جمال عبد الناصر يعرف أنه حتما سيعود للحكم لأنه يعرف أن رجال حكمه لن يسمحوا له بالرحيل وإلا تعرضوا جميعا لمحاكمة الشعب والتاريخ .لقد أصر هؤلاء على بقاء ناصر لحين تزييف الحقائق وتزوير الوثائق لإبراء ذمة زعيمهم وذمتهم معه ضمانا لحياتهم وحفاظا على ثرواتهم وصيانة لأرواحهم .

وكان على رأس هؤلاء الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي صاغ ببراعة بيان التنحي وقد قام بتحريك قيادات الاتحاد الاشتراكي لتهييج جموع الشعب المسكين للذين روعهم تولي زكريا محيي الدين خلفا للرئيس وكانوا يعرفون دموية زكريا وقسوته وجبروته وهو ما أراد ناصر وهيكل أن يخدعوا به الشعب المقهور .

وعلى أية حال فقد عاد ناصر للحكم واستطاع أن يتخلص من عامر أو دفعه لكي يتخلص من حياته وانفرد ناصر بالحكم وأعاد بناء الجيش وأسند مهام القيادة للفريق محمد فوزي وأسند المخابرات إلى اللواء أمين الهويدي وبدأ يعمل في صمت من أجل إزالة آثار العدوان وأشعل شرارة حرب الاستنزاف ولكن كان عبد الناصر قد ضعفت قوته بعد أن أصابته صرعة الانفصال عن سوريا وحتى أن البعض قال إن الرصاصة التي انطلقت ناحية عبد الناصر في المنشية أصابته عام 1958 بعد الانفصال وأنه مات في 1967 بعد هزيمة يونيو وشيعت جنازته في 1970 بعد أن أعاد للجيش قوته وتجهيزاته أملا في تحقيق النصر .

الفصل الثاني عشر: عصابة الأربعة

كانت النهاية الدرامية للمشير عام وأفول نجم صلاح نصر وشمس بدران وعباس رضوان وأتباعهم بعد محاكمة حسين الشافعي بمثابة إسدال الستار عن الجولة الأولى من صراع الوحوش الكاسرة .. الطامعين في النفوذ والسلطان . . ونظرا لخلو الساحة السياسية والعسكرية من الوجوه الراحلة والحبيسة فكان لا بد من ملء هذا الفراغ الشاسع فتم إسناد الفريق فوزي لسد الهوة العسكرية والوزير أمين هويدي ليحل محل صلاح نصر في المخابرات وتم تفويض شعراوي جمعه لإمساك زمام الداخلية وأصبح الجميع تحت قيادة سامي شرف سكرتير جمال عبد الناصر ومدير مكتبه للمعلومات .. وكذلك تم إسناد أمانة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي إلى علي صبري .. الذي أصبح في ما بعد نائب الرئيس والرجل المدلل لموسكو .

كان عبد الناصر في تلك الفترة التالية للنكسة يعاني من متاعب عديدة تمثلت في ما يلي :

أولا : الاحتلال الذي اقتطع ثلث مساحة مصر وبات على بعد 100 كيلو مترا من العاصمة .

ثانيا : تعرضه للمؤامرة الحقيقية من جانب صديق عمره وتلميذه عبد الحكيم عامر وأتباعه .

ثالثا : إعادة التسليح بعد الخسائر المتتالية بدءا باليمن ثم 5 يونيه ومراوغة الاتحاد السوفييتي له ومماطلتهم إياه في هذا الشأن .

وهذه النقطة بالذات شغلت أغلب فكر الزعيم الراحل إن لم تكن بالفعل هي شغله كله .. لذلك ترك للأربعة مهمة تسيير شئون البلاد الداخلية بحيث يكونون مسئولين أمامه عن الأوضاع والأمن العام للدولة .

رابعا : الهجوم الشرس للمرض الذي تعرض له " ناصر " نتيجة للعوامل السابقة والتي ازدادت حدة آلامها شيئا فشيئا " سنتعرض لمسألة مرض عبد الناصر بالتفصيل لاحقا " .. ونعود للأربعة وقصتهم في تكوين الإمبراطورية الجديدة لمراكز القوى التي كانت حكم البلاد بالفعل من وراء الكواليس .. . فهم ابتداء لم يشاركوا في حركة الأحرار ولا دخل لأحدهم ولا علاقة بثورة 23 يوليو .كما أنهم قبل دخولهم لبؤرة الأضواء لم يظهروا ميزة عالية أو مؤهلات خاصة .بالإضافة إلى أنهم لم تجمعهم زمالة سلاح أو صداقة عمر .. أما ما جمع بينهم هو تملقهم لبعض رجال الثورة وكانت شرارة البدء بالنسبة لهم العمل في جهاز المخابرات إبان فترة صلاح نصر وكان ذلك كفيلا أن يلقي عليهم الضوء أمام " عين عبد الناصر " .

وكانت فرصتهم السانحة إذ استعرض كل منهم ما يملكه من " ميكافيليليه " وتملق و " تفان " ماكر في العمل الدءوب لاكتساب ثقة الرئيس عبد الناصر .لذا جاءتهم الفرصة مرة أخرى بعد سقوط الرموز الكبرى حول عبد الناصر .. وإسناد مسئولية الحكم لهم .فدان لهم الصغير والكبير بالولاء والخضوع رغم جمع عبد الناصر لمنصبي الرئاسة ورئاسة مجلس الوزراء أيضا إلا أنه كان يريد وضع شعراوي جمعة وسامي شرف في مكانة خاصة لدى الجميع , وحدث ذات مرة أن طلب " ناصر " من شعراوي جمعة توجيه لوم ما إلى أحد الوزراء ولما حاول شعراوي التهرب معللا ذلك بشعوره بالحرج غير أن عبد الناصر قال : " أنا عاوز الوزراء يشعروا إنهم بتوعكم " فرد عليه سامي شرف بتملق ومكر شديدين : " بتوع سيادتك يا أفندم " فكرر عبد الناصر مؤكدا : " لا .. بتوعكم أنتم " .

من هنا اكتسب اثنان من الأربعة مكانة متميزة .. كيف لا وقد فتحت لهم الأقدار طريق السلطة بما يحتويه من صولجان وزخارف ونفوذ .. ولكن هل تم منهم استيعاب درس عامر وبدران ونصر .؟ الإجابة لا .فلقد سار الجميع في نفس طريق الهاوية .. فلقد أعاد شعراوي جمعة وسامي شرف نفس سيرة صلاح نصر وأسلوبه في فرض الرقابة على من أرادوا مهما كانت مرتبة المراقب ومنصبه وكانت تلك العملية تتم بواسطة جهازين الأول المخابرات العامة التابع لسامي شرف والثاني المباحث العامة التابع لشعراوي جمعة .. !

وكانت عملية المراقبة تتم بثلاثة أساليب :

1 – تسجيل الأحاديث التليفزيونية ويتم ذلك في قاعة مخصصة بمبنى سنترال رمسي بمعرفة المخابرات والمباحث .. وترسل شرائط التسجيلات إلى سامي شرف بواسطة المخابرات العامة وإلى شعراوي جمعة عن طريق المباحث العامة ثم يتم الاطلاع عليها وحفظها في ملفات باسم شخصية المراقب لاستخدامها عند الضرورة .

2 – وضع أجهزة تصنتية في منزل أو مكتب " الهدف " ويتم هذا عن طريق أفراد مدربين من أجهزة الأمن لدخول البيوت والمكاتب بمفاتيح مصطنعة وزرع ميكروفونات دقيقة .وقد يتم هذا عن طريق تجنيد بعض الأشخاص المتعاملين مع " الهدف ومحل ثقته كعمال التليفونات وسعاة المكاتب وخدم البيوت والسائقين " أو حرفيين كعمال السباكة والكهرباء وخلافه .. وبعد تدريبهم يقومون بوضع أجهزة التلصص .

3 – المراقبة الشخصية وتتم عادة بواسطة أفراد الشرطة السرية ثم يعدون تقريرا عن " الهدف " وتحركاته ومقابلاته واستقبالاته ويعرض التقرير على سامي شرف وجمعة وتأخذ بعد ذلك نفس الروتين الأشرطة المسجلة السابق ذكرها .. أما ضلعا المربع الآخران .فوزي وصبري فلكل منهما رواية تختلف عن الآخر .. فالفريق محمد فوزي تم إسناد مهمة القضاء على اعتصام الوزير شمس بدران وجماعة المشير وفرقة الحرس الخاص التي استقدمها عامر من اسطال بمحافظة المنيا ويحسب للفريق فوزي أنه قام بنجاح بالسيطرة على الموقف دون اللجوء لإراقة الدماء وأيضا تولى منصب وزير الحربية تحت قيادة عبد الناصر .

أما على صبري الأمين العام للتنظيم بالاتحاد الاشتراكي ورئيس الوزراء والرجل القوي الذي حصل على أعلى نسبة من أصوات اللجنة المركزية للحزب في انتخابات اللجنة التنفيذية فقد بات نفوذه يتعدى " المحلي " " للعالمي " إذ أنه تقرب للمسئولين والقادة السوفييت وجعلت علاقته هذه الجميع ينظرون إليه على أنه رجل موسكو الأول في مصر .. وقد بدأ تنظيم حياته " تنظيميا " بمعنى انخراطه في الحياة الحزبية وتكوينه لتنظيم الطليعة الناصرية وداخل المؤسسة العسكرية حاول تجنيد الطلبة ومزجهم بالأفكار " الناصرية " لذا كان على خلاف مع شمس بدران على الدوام وقد كان مساعده هو سامي شرف .. والذي بدأت صلته بعلي صبري عام 1955 عندما تم تعيينه سكرتيرا لرئيس المعلومات , على صبري يشغل منصب مدير مكتب الرئيس للشئون السياسية مكتبه في نفس مبنى مجلس الوزراء .

وكانت المسائل ذات الطابع السياسي تنسق في ما بينهما قبل العرض على عبد الناصر كي يتفادوا ازدواجية العرض .

غير أن ما يميز علي صبري شعبيا هو عدم الارتياح الذي ترسخ لدى الشعب تجاهه لكونه شخصية برجوازية ارتدت مسوح الناصرية تملقا وانتشرت الشائعات بأنه شيوعي ورجل الاتحاد السوفييتي .. وإن ما توخينا الأمانة فإن الرأي العام اعتبره " عين " موسكو على النظام وعلى عبد الناصر خصيصا رغم أن الحقيقة كانت على غير هذا .. إذن المخابرات الروسية لم تكن من السذاجة في كشف أوراقها بهذه السهولة فإن بدا للجميع .. حتى عبد الناصر أن علي صبري هو رجلهم الأوحد فإن هناك " آخر " يقوم في الخفاء بكل ما تريده موسكو حرفيا .

أما علي صبري فهو ورقة الضغط المحروقة من حيث لا يدري هو ولا ناصر حقيقة الأمور وبوقوع النكسة وغياب المشير ومحاكمة مراكز القوى الأولى .أبعد عبد الناصر خصومة الألداء وأراد إبعاد علي صبري ونجح بالفعل .غير أن الاتحاد السوفيتي أراد رفض علي صبري على عبد الناصر فأعاده لمناصبه مرة أخرى وإن كان دون سلطات حقيقية لانتقال صراع مراكز القوى إلى طور جديد نظرا لاعتلا صحة الرئيس ناصر وعلم موسكو باحتمال وفاته في أي لحظة ..لذا كان لا بد من " إبراز " أوراق " وتمزيق " أخرى .

الفصل الثالث عشر: الضرب تحت الحزام

كانت الأنباء السيئة التي ترد إلى القيادة الروسية عن طريق د . يفجيني شازوف الطبيب الخاص المعالج للرئيس جمال عبد الناصر لها كبير الأثر على تعجيل مسألة خلافة عبد الناصر .. وكما سنرى أن علي صبري رجل السوفييت , " الوهمي " كان لا يدري عن قرب سامي شرف من موسكو لذا بدا وكأنه الرئيس القادم بعد رحيل عبد الناصر .. غير أن قادة الكرملين كانوا يريدون التخلص من علي صبري ليظهر سامي شرف أكثر في مقدمة الصفوف .

من هنا بدأ الصراع مبكرا بين مراكز القوى وتجلى هذا في العام السابق لوفاة ناصر وتحديدا في 23 يونيو 1969 عندما سافر علي صبري على رأس وفد مرافق له إلى موسكو وكان ضمن رفاقه حرمه ونجله وقد قضوا في موسكو ثلاثة أسابيع وقبل العودة كلف علي صبري سكرتيره الخاص مصطفى ناجي بالسفر وحده للقاهرة على أن يحمل معه ما يخص علي صبري وأسرته من حقائب وطرود زاد وزنها على 2000 كيلو جرام فما كان من " ناجي " إلا وأبرق لمديري مكتب علي صبري بالاتحاد الاشتراكي بالقاهرة , بالتنبيه بانتظاره في مطار القاهرة بسيارة لوري وجيب تحمل أمتعة علي صبري والاتصال بشركة مصر للطيران ليرسلوا لمدير فرع موسكو بالموافقة على نقل 2 طن أمتعة تخص علي صبري وأن تتم المحاسبة عن طريق الاتحاد الاشتراكي ! ! .. .

غير أنه لم يتم كل هذا لأن المسئولين في موسكو أعدوا لعلي صبري طائرة خاصة لنقله ووفده بمتاعهم كله على نفقة الحكومة السوفيتية مما دعا " مصطفى ناجي " إلى إرسال برقية ثاني بإلغاء ترتيبات البرقية الأولى ..وعاد صبري للقاهرة وتم نقل أغراضه من أسفل سلم الطائرة مباشرة إلى فيلا علي صبري الفخمة الكائنة بجوار كازينو الميريلاند بضاحية مصر الجديدة الراقية .

إلى هنا والأمر يبدو شبه متعارف عليه خاصة في ظل الأنظمة الشمولية التي تبيح لكبار المسئولين أوضاعا خاصة .غير أن القصة كلها تكاد تكون مدبرة بإحكام لإسقاط علي صبري من على منصة تتويجه و " حرقه " .. فعلى صبري صنعته القيادة في موسكو أساسا ولا يملك من المؤهلات السياسية والفنية ما يؤهله إلى ما وصل إليه .ولكنها المخابرات التي جملت قبائحه ليسطع في أعين الصفوة وعلى الجانب الآخر فقد كان هو الآخر طامحا لأعلى مطلعا دائما لشهوة السلطة بحيث يريد الوصول لعنان السماء .. كما كان لا يقتنع بمنصب رغم فقدانه للقاعدة الشعبية التي يجب أن يرتكز أي قائد عليه .

نعود للراوية ونذكر أنه وفقا لصراع العمالقة الأوشاس فقد استغل سامي شرف الموقف ووجد ضالته المنشودة في إثارة عبد الناصر تجاه علي صبري فسارع معه شعراوي جمعة إلى نقل الموضوع بحذافيره للرئيس وكيف أن موسكو قد خصصت لنقل علي صبري وحده وكل هذا على نفقة موسكو .. وكيف أن اللوري انتظر عند أسفل سلم الطائرة ومضى إلى فيلا علي صبري دون المرور على الجمارك وكيف .وكيف .. .

حتى تم شحن ناصر ببركان الغضب والذي ما لبث أن تطاير منه الشرر فأصدر أوامره لشعراوي جمعه لبدء التحقيق في هذه الواقعة .

وقد كانت تلك التعليمات لم يسبق أن صدرت مع أحد من كبار المسئولين وخاصة مع من هو في مكانة علي صبري .

ويبدوا من الرواية أن عبد الناصر وجد فرصته لتأديب علي صبري والحد من نفوذه وتقليص سلطاته من ناحية .. ومن ناحية أخرى أراد إثبات حجم علي صبري الحقيقي لديه أمام قادة الكرملين .الذي ضجر منهم عبد الناصر " لفرض " علي صبري عليه ومماطلتهم المستمرة في إمداد الجيش المصري بما يلزمه لمواجهة الأخطار العدوانية الصهيونية ومحاولة ناصر في إزالة آثار العدوان .

وبدأت المباحث العامة بالفعل التحقيق في الأمر بصورة سرية وتم استدعاء بعض موظفي مكتب علي صبري ومنهم سكرتيره الخاص مصطفى ناجي وأيضا من قاموا باستقباله في المطار وكذا سائق اللوري وتم استجواب الجميع عن الوزن الزائد ومحتوياته وانتهى الأمر إلى اعتقال " ناجي " بسجن القلعة دون اتهام أ و أمر قضائي ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد شهرين عندما ساءت حالته النفسية وأصابته بانهيار نفسي وساء موقف علي صبري .. وعبثا حاول أن يحصل على ميعاد لمقابلة عبد الناصر مما أدى به إلى الاختفاء وعدم الظهور في الحفلات والمناسبات العامة .

وتطورت الأمور أكثر فقد دارت الألسنة – أو أديرت – تثرثر بأن على صبري في طريقه لفقد مناصبه .إلى أن أفردت " الأهرام " في صدر صفحتها يوم الأحد 21 سبتمبر 1969 كلمة واحدة وهي : " الحقائق " وتناولت موضوع علي صبري كاملا وكيف أن علي صبري وجد أنه من اللازم لسلامة التحقيق الجاري مع سكرتاريته أن يجمد نشاطه في الاتحاد الاشتراكي إلى انتهاء التحقيقات .وانتهى التحقيق الذي " أكد " سلامة موقف على صبري الذي لم يكن يعلم بالتفاصيل وعلى ضوء ذلك جرى الآتي :

1 – أن علي صبري دفع كل ما يستحق من الرسوم الجمركية على الأمتعة التي دخلت حتى ما كان منها لا يخصه .

2 – رغم مسئولية علي صبري شخصيا عما حدث فإنه قد وضع استقالته تحت تصرف الرئيس وتخليه عن جميع مناصبه .. وقد استقر الرأي على ترك علي صبري أمانة لجنة التنظيم في الاتحاد الاشتراكي مع استمرار عضويته في اللجنة التنفيذية العليا وندب شعراوي جمعه مكانه كأمين عام للتنظيم .

كان هذا هو قمة نجاح مراكز القوى في إجراء تصفية ذاتية وانفراد سامي شرف بمقاليد الحكم الفعلية وكان أيضا بمثابة رفع الأيدي المساندة لعلي صبري من جانب موسكو فلقد كانت كل تقارير الطبيب المعالج لعبد الناصر تشير إلى إمكانية حدوث الوفاة في أي لحظة ويا حبذا لو جاءت وفاته وسامي شرف " رجلهم الخفي " منفرد بالسلطة الفعلية للبلاد وعلي صبري " رجلهم الوهمي " خارج دائرة النفوذ والسيطرة .

وقد جاء التوقيت أيضا موفقا لأن بعد إعلان تقليص نفوذ علي صبري بعام واحد حدثت الوفاة المرتقبة للرئيس جمال عبد الناصر مما كان ممهدا لسامي شرف وشعراوي جمعة لتولي قيادة البلاد بعد الإطاحة بالسادات الذي جاء به عبد الناصر كنائب له قبل وفاته بعام واحد أيضا .

من هنا يتضح أن الصراع المدمر للانفراد بمراكز القوى لم يكن محاولة سوفيتية للإبقاء على موضع قدم ثابت في مصر .خاصة بعد قيام الرئيس عبد الناصر تعيين أنور السادات نائبا له وهو المصنف جزئيا بميوله الغربية ونفوره من المعسكر الشرقي , كما أن إعلان عبد الناصر لقبوله مبادرة روجرز التي تدعو إلى وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل ودعوة الأطراف إلى إجراء مفاوضات لتسوية الأوضاع سلميا .. . رغم رفض الكيان الصهيوني لذلك في ما بعد .وأيضا الضجر الذي كان يبدو عليه الرئيس عبد الناصر من قادة الكرملين لعدم وفائهم بعهودهم في إعادة تسليح الجيش المصري وخاصة صفقة الصواريخ لحماية الصعيد السد العالي لدرء أي عدوان أو غدر صهيوني على تلك المنطقة الخطيرة والحساسة , كل هذا أدى إلى سرعة ترتيب الأوراق .. لعلم موسكو أن مسألة وفاة جمال عبد الناصر هي أيام وتتحقق ومن جانب آخر كانوا يعلمون مدى عناد " ناصر " في أن يغير اتجاهه للغرب وخاصة أمريكا وبريطانيا واستعداده للموت الأحمر الشرقي على الشفاء الإمبريالي الغربي .. لذا قاموا باللعب على أوتاره الحساسة والضغط عليه نفسيا للتعجيل بوفاته لينقض سامي شرف وشعراوي جمعه ومعهما رجل الحربية فوزي علي السادات أو جعله كناصر ولكن في أواخر أيامه يحكم برأيهم ويبصر بعينهم ويتكلم بلسانهم .

الفصل الرابع عشر: سامي شرف والخديعة الكبرى

يعتبر عالم الجاسوسية .. بمفرداته وتمويهاته .. لغزا يحير أجهزة الاستخبارات في كل دولة .هذا هو حق الجواسيس العاديين .. أما في حالة " كبار " العملاء المصنفين كمرتبة أولى .. فالأمر يتخطى التمويه إلى التعمية التامة .. ومن الغرف المظلمة إلى خنق القبور .. وهذا بالتحديد ما تم مع سامي شرف سكرتير عبد الناصر للمعلومات .فقد كانت العيون تبصر علي صبري .والآذان يترامى لمسامعها أنه رجل السوفييت الأول وكانت تلك هي التعمية فقد أفردوا علي صبري بالاحترام والمودة وأسبغوا عليه هالات التقدير لا لشيء إلا لإفساح الطريق أمام سامي شرف للوقوف بجوار عبد الناصر بأمان ودون ريب لتنفيذ ما تريده موسكو أن يفعله عبد الناصر دون الحاجة لطلب ذلك منه .

وقد بدأت محاولا المخابرات السوفييتية في التقرب إلى سامي شرف منذ عام 1955 وذلك عندما سافر إلى موسكو ضمن الوفد العسكري المصري الطالب للمعونة السوفيتية وبعد رجوعه تم تعيينه مساعدا لصبري وسرعان ما أعاد سامي شرف تنظيم مكتب علي صبري وقد حصل لنفسه على مزيد من النفوذ .. وقد عاد ضمن وفد مصري آخر إلى موسكو عام 1957 .

ولكن النقطة الأهم في تاريخ علاقته بالمخابرات السوفيتية لم تتم في موسكو بل في نيويورك وذلك بعد لقائه سرا مع فلاديمير موسليف عام 1958 وهو ضابط بجهاز K D B ويشغل وظيفة مستشار بالوفد السوفيتي بالأمم المتحدة .وكان لقاؤهما أثناء تمهيد سامي شرف للزيارة التي سيقوم بها عبد الناصر للأمم المتحدة وقد اتخذوا له اسما رمزيا هو الأسد .

ثم صدرت له التعليمات بالابتعاد عن علي صبري لإحكام العملية على عبد الناصر بأن يقترب لناصر عن طريق رفع شعارات القومية العربية والتطرف فيها .واستطاع عن طريق الذكاء إقناع عبد الناصر بضرورة الميل الاستراتيجي تجاه الشرق وحاميته روسيا لأنه لأسباب سياسية ستذهب إسرائيل جهة الغرب وحاميته أمريكا .

ووفقا للاتفاقية السرية بين مصر والاتحاد السوفييتي في مجال الاستخبارات أشرف سامي شرف على إيفاد ضباط المخابرات المصرية لموسكو وكان ذلك لتغطية لقائه مع فاديم كريتشنكو وهو من كبار رجال المخابرات السوفييتية بالقاهرة .. كما أنه بمرور الوقت أشرف على جميع تعيينات الخارجية المصرية في سفارتنا , كما تولى إدارة عمليات المخابرات لذا أنشأ داخل جهاز المخابرات شبكة خاصة تقدم إليها تقاريرها ثم يتولى هو تحديد ما يعرضه على عبد الناصر .. ويبقى السؤال الأهم .. لماذا تم اختيار سامي شرف دون كافة الوجوه المحيطة بعبد الناصر كرجل خفي يعمل لحساب الاتحاد السوفييتي والإجابة ببساطة تتلخص في أن سامي شرف كسكرتير للرئيس للمعلومات يجعله من أقرب المقربين لفكر جمال عبد الناصر .كما أن موسكو تعلم شغف عبد الناصر بالحصول على المعلومات وخاصة ما يأتيه من جهات خارجية والتي يمسك بخيوطها أيضا سامي شرف .. كما أن سقوط مراكز القوى الأولى أتاح انفراد سامي شرف بناصر وحصوله على نفوذ وسلطة ولم يعد يقومه سوى سلطة ونفوذ عبد الناصر نفسه , وتجلى ذلك في أنه كان الناقل لأوامر ناصر للوزراء والمسئولين الكبار .

أما أهم أسباب اختياره كعميل خفي هو نجاحه في كتمان تلك العلاقة المريبة مع موسكو وارتدائه قناع الناصرية والقومية العربية لأن ناصر كان يعلم أن موسكو لا تشير عليه إلا ما هو يدور في فلك مصالحها العليا ويخدم سياستها الخارجية وهذا قد لا يتفق مع الصالح القومي أو المصري .. . كما أن ناصر يعلم استمالة موسكو – الظاهرية – لكثير من المحيطين به وخاصة علي صبري .. نائبه وأيضا شعراوي جمعة ومحمد فوزي وزيري الداخلية والدفاع .. لكن سامي شرف ناصري حتى النخاع وقومي من منبت رأسه إلى أخمص قدميه .فلا بد أن يستمع له عبد الناصر ويعمل بنصائحه .لذا أولاه ناصر كامل ثقته والتمس لديه الرأي المخلص السديد .

فكان عبد الناصر يفعل ما تريده موسكو دون طلب منها أو تلميح وربما أبدوا امتعاضا من قرار كانوا يعتبرونه حلما أن يوافق عليه ناصر إذا هم طالبوه بذلك .لذلك كان موضوع عمالة سامي شرف من أنجح العمليات الخداعية لجهاز الاستخبارات السوفييتي في حقبتي الخمسينات والستينات لدرجة أنه في عام 1974 أصدرت مؤسسة الريدرز ديجست الأمريكية كتابا ضخما بلغ عدد صفحاته 462 صفحة وكان عنوانه " K . G . B . " وهو اختصار معناه الاستخبارات السوفيتية من تأليف جون بارون ..وذلك الجهاز يخدمه حوالي 500,000 شخص وتشغل رئاسته ثلاث مبان ضخمة في ميدان زيزرزنسكي .. " ولبيان أهميته سابقا وحاليا .. أن من بين من تولوا رئاسته يوري أندروبوف وتشيرنينكو وفلاديمير بوتين " الرئيستين السابقتين والرئيس الحالي لروسيا , ويجيء أهمية هذا الكتاب في توقيت صدوره في النصف الأول من السبعينات إبان استعار الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن وقد حصل المؤلف على مادة الكتاب من ضابط سابق بالمخابرات السوفيتية كان عميلا مزدوجا لصالح المخابرات الأمريكية C . I . A .

وهو فلاديمير سخاروف وقد كشف مؤلف الكتاب الكثير من أسرار وأساليب المخابرات السوفيتية في دائرة نشاطه في كل من مصر واليمن والكويت كما كشف أيضا عن كثير من الشخصيات ذات المناصب الحساسة في مصر الذين جندتهم المخابرات السوفيتية للعمل لحسابها .. وذكر له أنه أثناء عمله بمصر بعد نكسة يونيه 67 كان يشغل قادة السوفييت احتمال توصل مصر وإسرائيل لتسوية سلمية تؤدي لانتهاء حاجة مصر للأسلحة والمعدات السوفيتية وبالتالي إنهاء الوجود الأحمر بمصر , وكان هذا هو ما دفع المخابرات السوفييتية لإنشاء دائرة سرية في مصر تابعة لها لاستمرار الهيمنة على مصر في المستقبل .. لذا , بذلت قصارى جهدها لتجنيد المزيد من العملاء في المؤسسات العسكرية والأمنية و الإعلامية و الحزبية و حتى الجامعية .. . و تولى " سخاروف " مسئولية ترجمة التقارير من العربية التي كان ينقلها تمام إلى الروسية .

وقد جاء في الكتاب أيضا أنه " سخاروف " أثناء اجتماعات في القنصلية السوفيتية بالإسكندرية طرح سؤالا عما إذا كان نفوذ الصحفي محمد حسنين هيكل قد يتسبب في وجود مصاعب للاتحاد السوفييتي فرد عليه مسئول دبلوماسي : " لن يحدث ذلك طالما استمر سامي شرف حيث هو " فقال القنصل شوميلوف : " إني لم أسمع عنه من قبل فقال ذلك الدبلوماسي : " إن سامي شرف هو الشخصية الأولى في الحكومة في الواقع فهو مستشار الرئيس لشئون المعلومات وهو الرجل الذي ينصت إليه أكثر مما ينصت لأي رجل آخر وهو يعتبر من وجهة نظرنا أكبر قوة إيجابية في مصر فهو القوة التي نعتمد عليها .

ثم ينتقل بنا جون بارون نقلا عن " سخاروف " إلى وصف الأخير لسامي شرف بقوله : " كان سامي شرف في ذلك الوقت عميلا من أهم عملاء المخابرات السوفيتية في العالم كله فهو يمثل حالة رجل صغير لا شأن له تحول إلى صاحب شأن ونفوذ لقد كان بمثابة تزكية الأسباب الذي يتبعه جهاز المخابرات السوفيتية الذي يتمثل في تجنيد عدد لا يحصى من العملاء على أمل أن بعضهم سوف ينجح بعد سنوات لقد كان سامي شرف نموذجا ممتازا لإيضاح كيف يمكن لعميل واحد ذي نفوذ أن يغير مجرى التاريخ " .

ونحن إذ نورد تلك الحقائق لا نملك إلا الوقوف أمامها موقف المحايد الذي لا يؤكد ولا يستطيع نفي مضمونها .. . غير أن لنا تعليقا عليها يدور حول " احتمالية " تأكيدها لكونها صادرة من واحد من العاملين بالمخابرات السوفيتية من ناحية .. والعمل لأمريكا من ناحية أخرى .كما أن " حجم " كارثة يونيه لم يكن ليقع بهذه الصورة التي تمت إلا ولا بد من أصابع خفية أرادت لهذا البلد أن ينهار ويصبح تابعا ذليلا .. بالإضافة أن السنوات ذات الربع قرن التي تلت الأحداث والتي تصدع فيها الاتحاد السوفيتي بصورة درامية تؤكد اختراق جهاز K . G . B . .. بالفعل من جانب نظيره الأمريكي .. مما يصبغ اعترافات " سخاروف " بالمصداقية عندما " فضح " جهازه القديم لكاتب أمريكي .. ولم يكن بطبيعة الحال " نشر الغسيل القذر " الأمريكي يتم بسذاجة أو اعتباطا بل كان له محاور وأهداف منها إضعاف ثقة المخابرات السوفيتية في رجالها إبان الحرب الباردة في السبعينات .. ومن جهة أخرى إظهار المخابرات الأمريكية بقدرتها الكبيرة في استقطاب عملاء لها من الطابور الأحمر الممثلة في الكتلة الشرقية المناورة , بالإضافة إلى ترسيخ قاعدة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية خصوصا .. مفادها " مع أمريكا .. تربح أكثر " .

كما أن الصمت الرهيب الذي لاذ به سامي شرف يضفي على الاعترافات صفة الصدق .إذ أنه اتهم بالعمالة والخيانة .. وليس هناك لدى الشرفاء ما يحافظون عليه أكثر من وطنيتهم وإخلاصهم القومي .ولم يكن يعدم رجلا مرموقا مثل سامي شرف أن يستعين " بمجرد صحفي " كي يقدم مستندات براءته من تهمة العمالة .

ونحن نعلم أنه ليس هدف بارون أو سخاروف خدمة العرب أو الحق .. ولكن هذه هي أصول اللعبة السياسية .. ومنها نتعلم أن كل شيء معرض للكشف عن حقيقته مهما طال الوقت ومهما تاهت المعالم .. ولا يوجد ما يستطيع أحد كتمانه مهما حفرت له قيود أو غلقت خلفه جدران وأبواب حديدية فسوف يجيء وقت ما تفتح الأبواب وتهدم الجدران وتنبش القبور .. سواء بيد الجاني أو بيد المجني عليه أو بأيدي غيرهم .لا يهم ولنكن على ثقة فقط من أن الله يمهل الظالمين حتى إذا ما توهموا أنهم في مأمن أخذهم ولم يمهلهم .

الفصل الخامس عشر: ناصر والسادات

تحير الكثيرون من اختيار عبد الناصر للسادات ليكون نائبا له .رغم أن سيناريو العلاقة ما بين الرجلين لم تكن بالقوة التي عرفت عن " آخرين " والرئيس عبد الناصر .. كما أن وداعة واستكانة السادات قبل توليه مقاليد السلطة لم تكن تعطي انطباعا أنه الرجل المناسب لذلك المنصب البالغ الحساسية .. وحتى نستطيع معرفة الأسباب الحقيقية والأسرار الخفية لهذا الموضوع فعلينا أن نعود قليلا إلى الوراء .. إلى كواليس حركة الأحرار في آخر ساعات حكم فاروق وما تلى هذا التاريخ من أحداث غيرت مسار الحركة ومن قاموا بها .

التقى عبد الناصر بالسادات لأول مرة في منقباد بصعيد مصر وقد نقل السادات ما شعر به تجاه " ناصر " بقوله : " كان انطباعي عنه أنه شاب ذو عقل خطير لم تدخل اهتمامات أتباعه في الهزل عنده ولم يكن يسمح لأي منهم بأن يمزح معه .. إنه كان يشعر أن الكرامة في المقام الأول لذلك كان معظم رفاقي يحتفظون بمسافة من البعد عنه يتجنبون التحدث معه مخافة أن يسيء فهمهم " .. من تلك الكلمات التي توحي بالرهبة تجاه شخصية عبد الناصر " الثوري " نستطيع إدراك طبيعة العلاقة بين الرجلين .

فإذا كانت شخصية عبد الناصر تميل للكبرياء والمزاجية وهو وضع غير سلطوي .. فكيف به الحال وقد ملك زمام الحكم وتحكم في صولجان القرار .. فلا بد إذا أن ينأى السادات عن أي مظهر من مظاهر الرغبة في المنصب .. ويبدو أن ذكريات السادات السابقة على قيام الثورة إبان محنته في قضية اغتيال أمين عثمان ومكوثه عامين قيد الحبس حتى تمكن من الهرب من داخل المستشفى العسكري , وما عاناه عقب هروبه لدرجة أنه قام بالعمل " تباعا " على سيارة لوري .

علمته التجارب القاسية أن يكون أكثر مكرا وأن يحتاط لنفسه ويحتفظ بما لا يؤدي إلى إعادة ذكرياته الأليمة .وبدأ كما لو كان ممثلا يحصل على متعته في خداع الآخرين وأن يلعب دور المسالم الوديع .. كيف لا و قد حدث أثناء رحلته ما بين الضياع والارتفاع أن ماتت ابنته نتيجة سوء التغذية .وكيف أنه اضطرته قسوة الأيام أن يرهن الجاكيت المحبب إلى نفسه من أجل قروش قليلة .. لذا فإن طبيعته وما صبغته الأيام على لوحة شخصية السادات جعلته في جانب آخر من الصراع على السلطة ولم يفعل ما فعله بعض رفاق الثورة من الوقوف في وجه عبد الناصر كجمال سالم وعبد الحكيم عامر .. .

وهناك وجه آخر للسادات يقربنا أكثر من مفاتيح شخصيته .. وهو أنه في عام 1930 وقبل التحاقه بالكلية الحربية كان يسعى للقاء أي شخص يمكن أن يمنحه دورا في مسرحية أو عمل فني .. وذات يوم رأى إعلانا لأمينة محمد تطلب فيه وجوها جديدة فيلم ستقوم بإنتاجه مع الصينيين تحت اسم " تيتا وونج " وذهب بالفعل إلى حيث مقر الشركة في شارع إبراهيم باشا ووقف في الصف مع بعض المرشحين الآخرين وجاءت أمينة ورأته وكانوا حوالي 20 شابا ولكنها اختارت اثنين لم يكن السادات واحدا منهم .. .

يتبين لنا أن السادات بحكم ولعه بالتمثيل إلى هذه الدرجة يمكنه أن يلعب أدوارا قد لا تعبر عن حقيقة شخصيته ولكن ظروف المشهد تحتم عليه القيام بهذا الدور .. وهو ما كان مع عبد الناصر تماما .ففي أعقاب سجن السادات تولى عبد الناصر مسئولية تنظيم الأحرار وبعد عودة السادات للجيش مرة أخرى عام 1950 كان قد استتب الأمر في يد عبد الناصر كقائد للأحرار وارتضى السادات ذلك بحكم تغير الأحوال .

ثم في أعقاب نجاح الثورة عقد عبد الناصر اجتماعا مع مجلس قيادة الثورة لبحث الطريقة التي يجب أن تدار بها دفة الحكم , وهل تكون فلسفة الحكم ديمقراطية أم ديكتاتورية ؟ وقال عبد الناصر لنبدأ المناقشة وكل يدلي برأيه وسأحتفظ بالكلمة الأخيرة , وتكلم الجميع وبلا استثناء أيدوا الديكتاتورية وتحدث السادات وكان في قمة الحماسة للحكم الديكتاتوري .وكيف نترك الخونة ؟ وكيف نترك من تاجروا بأقوات الشعب ؟ كل هذا يحتاج إلى البتر السريع .. الشعب في أسوأ حال ولا علاج إلا بالديكتاتورية .

وكم تبلغ الدهشة إذا عرفنا أن من دافع عن الديمقراطية في هذه الجلسة هو من اتهمه الجميع في أواخر عهده بالتطرف في الديكتاتورية وأن من حمى قلاع الديكتاتورية هو من اتهمه أنصاره بالتوسع في الديمقراطية عندما تولى سدة الحكم .نعم الدهشة تتملكنا إذا عرفنا أن نتيجة مجلس قيادة الثورة قد انفضت عن رأي مغير لرأي كل الأعضاء .إذ أصر ناصر أن يستهل الحكم بغير الديمقراطية وقال : " أنا لا استطيع أن أحكم إلا بالديمقراطية ولا استطيع أن أعيش في بلد تحكم بالديكتاتورية .

وقد اشتدت المناقشة بين " ناصر " والسادات واستفاض عبد الناصر في تفسير مفهومه لفلسفة الحكم حتى حسم الأمر بينه وبين السادات وقال له : أنا مش فاهم هل أنت عضو بالمجلس أم أنك رئيس المجلس ؟ .. عندها استعاد السادات هوايته الأولى " التمثيل " فجاوز الحدث وطلب فتح باب المناقشة من جديد .

ثمة نقطة أخرى تبين شدة ذكاء السادات وعدم رغبته في إثارة عبد الناصر عليه منذ نعومة أظافر الثورة في بلاط الصولجان والحكم والملك .. خاصة وقد تفهم السادات مفاتيح شخصية " ناصر " وأدرك بفطنته ودهائه أن لكل شخص في الحياة عوامل مكتسبة أو موروثة تتحكم في تصرفه وسلوكه .. وكان " ناصر " مفتاحه ذا الوجهين .الأول يتمثل في الشك الدائم البالغ حد الوساوس , فلقد كان من الصعب بل من المحال أن يعطي كامل ثقته في شخص ما مهما بلغت درجة قربه منه , وإن حدث أن أعطى نسبة من الثقة لأحد فإنه يقابلها بنسبة أكبر من الريبة والشك .. حتى الاثنان الشهيران في حياة عبد الناصر .. عامر وهيكل . لم يكن ناصر يوليهما ثقته الكاملة فالأول قد أثبتت الأيام عدم وفائه طبقا لمفهومه والذي أدى لإثمار بذور الشك في كل المحيطين به .. أما الآخر وهو هيكل رغم قربه منه وأنه كان الوحيد الذي يملك خطا تليفونيا مباشرا مع عبد الناصر لا يخضع لأي رقابة من أي نوع .ورغم أن هذا قد سبب للكثير من مراكز القوى هلعا وخوفا من هيكل لأنهم لم يكونوا يعلمون ما يدور بينهما .. حتى هيكل نفسه كانت هناك تسجيلات عليه ووثائق ضده في خزينة عبد الناصر .

أما مفتاح شخصية " ناصر " الثاني هو أصل نشأته .وظروفه الاجتماعية الأولى وكيف أنه تربى يتيما ومزقه سوء معاملة زوجة أبيه له وترعرعه دون أصدقاء حتى بعد اشتداد عوده وتوليه الرئاسة ظل بلا صداقة حقيقية , وأسرته لم تعرف معنى الحياة الاجتماعية إلا جزئيا مع عبد الحكيم وفي أواخر أيامه مع السادات .

قرأ السادات شخصية عبد الناصر وعرفها وأدرك أن المحيطين بناصر سيتساقطون كورق شجرة تتلاعب بها رياح الخريف وترك للأيام مسئولية أن تقربه من السلطة دون أن يبدي صراعا على منصب أو غضاضة من إقصائه عن سدة الحكم .. رغم قناعته الشخصية بأنه أحق من أغلب أقرانه بالحكم .. إذ أنه يعتبر نفسه سياسيا من الطراز الأول وأن اشتغاله بالعسكرية لم يدم إلا بضع سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة وبقية عمره يعارك الحياة السياسية .. وقد حدث في أوائل اجتماعات مجلس الثورة وأثناء توزيع الحقائب الوزارية دور السادات في الاختيار .. فقال : " أنا سياسي ولا عمل لي إلا في السياسية , فغضب زملاؤه ومنهم جمال سالم الذي عبر عن سخطه أكثر من الحاضرين جميعا وانضم إليه عبد الناصر بقوله : " كلنا نؤدي دورا سياسيا " .

وعاد السادات مرة أخرى وارتدى ثياب المهادن بعد المعارض .. خاصة بعدما لمح من عبد الناصر عدم ارتياح من كلمته تلك .. فآثر إلا ان يقع في فخ الصدام مهما كلفه هذا من تأجيل حلمه في المشاركة في القيادة فضلا عن انفراده بها .وارتضى منصبا سياسيا هامشيا وهو مسئولية سكرتير الاتحاد القومي ومن بعدها الاتحاد الاشتراكي .

غير أن السادات لم يتمالك نفسه وشهوته في الظهور في " كادر " مشهد السلطة .حدث أن فاتح عبد الناصر في لقاء لهما عن أهمية وجود حزب يكون قاعدة للثورة داخل الشارع المصري وأنه على الاستعداد أن يرأس الاتحاد الاشتراكي لهذا الغرض .

غير أن عبد الناصر كان قد عقد عزمه على أن يتولى بنفسه رئاسة الحزب وأوحى للسادات بذلك إذا تجاهل رغبته فلقد كان ناصر يريد جمع كل السلطات في يده من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الاتحاد الاشتراكي .إلى رئاسة الوزراء .

ابتلع السادات ضياع الحلم " الاشتراكي " وبدأ في ترتيب أوراقه للحلم " الجمهوري " وعلم أن عبد الناصر إذا رأى في شخص رغبة في تولي سلطة فعالة في البلاد فإنه حتما سيقصيه .. فاتخذ موقف الصديق الناصح المبتعد عن أي هدف سياسي ! .. من هنا أتقن السادات أداء دوره لدرجة اقتناع عبد الناصر بذلك وتصور البعض أن السادات ورقة قد سقطت من مفكرة عبد الناصر بذلك والحقيقة أنه ابتعد عن ناصر الحاكم واقترب من ناصر الصديق ولم يكن يؤدي السادات أيامها إلا دور المتفرج , ونزل مؤقتا من خشبة مسرح السلطة إلى مقاعد المشاهدين .

ويبدي الرأي " السديد " فعلا والرشيد لعبد الناصر حتى في أعقاب الهزيمة السوداء في 1967 وبعد أحداث التنحي والعودة برهن السادات لناصر عن حبه الجم وصداقته الوفية لدرجة بكائه وهو في مجلس الأمة يعلن قبول الرئيس للعودة إلى الحكم وكان مشهدا مؤثرا للغاية ذرفت فيه دموع من أسعدتهم الظروف برؤية هذه " اللقطة الفريدة " .. وبعدها أيضا وفي أثناء المحاكمة السرية لعبد الحكيم عامر في منزل منشية البكري الخاص بأسرة " ناصر " لم يكن يحضر المحاكمة تلك سوى عبد الناصر نفسه وحسين الشافعي وعامر والسادات وهي الجلسة التي صارح فيها ناصر عامر بحقيقة تآمره عليه وأنه منذ تلك اللحظة قيد التحفظ بمنزل المريوطية .

الفصل السادس عشر: أسرار اختيار ناصر للسادات نائبا له

كان لتساقط رجال الثورة من حول عبد الناصر الواحد يلي الآخر .ومن بعد ذلك هزيمة يونيه .ومن بعدها هزيمة لا تقل عنها لناصر في صدمته بعبد الحكيم عامر الذي كان يعتبره صديقا وابنا .فقد أعطاه أكثر مما يعطي الصديق صديقه وتحمل منه أكثر ما يتحمله الأب من ابنه .. لقد كونت الأضلاع الثلاثة السابقة مثلث الإحباط والانهيار النفسي لدى عبد الناصر , فماذا بقى من الثورة وثوارها .. . ؟ سؤال بالتأكيد قد تبادر إلى ذهن ناصر في تلك الفترة .. والإجابة عنه .أن الثورة قد تعرضت من الداخل والخارج لقاصمات عديدة .. بدأت بالعدوان الثلاثي في 1956 , ثم ضياع الحلم الوحدوي العربي الوردي مع سوريا بالانفصال عام 1961 , ثم دخولها مجاهل اليمن وانزلاقها في مستنقع لم يعد يجدي الخروج منه إلا بالأوحال , ثم الانهيار الداخلي للوشايات والنميمة ثم صراعات مراكز القوى من جانب عبد الحكيم عامر وصلاح نصر وشمس بدران وأعوانهم .ثم الهزيمة المنكرة في 1967 وضياع ثلث أرض مصر , ثم خيانة الصديق والخليل عبد الحكيم عامر .

هذا من ناحية الثورة .. أما الثوار فقد تساقطوا تباعا بدا من صلاح سالم .. وبعده عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين .. وأخيرا زكريا محيي الدين الذي ابتعد في أعقاب مظاهرات الطلبة في فبراير 1968 وأعلن أن الثورة قد انتهت ولا فائدة من الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو العسكري , فضلا عن أن جمال سالم ابتعد وإن ظل يشهر بكل خطأ يقوم به عبد الناصر .

وطبقا لطبيعة الثوار العسكرية فلقد كانت الأقدمية تلعب دورها في ترتيب الأهمية بالنسبة لهم .. وعند قيام الثورة كان ترتيب الأقدمية :

1- زكريا محي الدين

2- أنور السادات .

3- حسين الشافعي .

4- جمال عبد اللطيف البغدادي

5- جمال سالم .

وبما أن عبد الناصر قد تولى القيادة للثورة ثم للبلاد وأيضا وضع عبد الحكيم عامر قائدا للجيش رغم حداثته تنفيذا لرغبة عبد الناصر .. ثم تساقط البغدادي ومن بعده جمال سالم و زكريا محيي الدين وعامر .. فأصبح الترتيب بعد 5 يونيه 1967 كما يلي :

1 – جمال عبد الناصر.

2 – أنور السادات .

3 – حسين الشافعي .

ولذلك عين عبد الناصر نائبين له كان أحدهما زكريا محيي الدين والآخر حسين الشافعي ثم خرج زكريا محيي الدين من الحلبة وظل حسين الشافعي نائبا دون سلطة رسمية وبعده ألغى عبد الناصر هذا المنصب إلى إشعار آخر .

في هذه الأثناء كان السادات كما هو يشغل منصب رئيس مجلس الأمة " مجلس الشعب حاليا " وكان وفقا لما سلف لا يزال بعيدا عن منصبه الذي كان يتولاه رسميا سامي شرف وشعراوي جمعة , وفكريا محمد حسنين هيكل .. أما السادات فرغم ذلك أؤكد أنه كان يطمح في الحكم بأي حال من الأحوال .. لماذا لأن الدستور المصري ينص على أنه في حالة وفاة رئيس الجمهورية يعين رئيس مجلس الأمة " الشعب " رئيسا للجمهورية بصفة مؤقتة إلى أن يتم الإعلان عن إجراء استفتاء شعبي لانتخاب رئيس جديد .ووفقا للحالة المرضية الخطيرة التي وصل إليها عبد الناصر في أعقاب النكسات التي تعرض لها ووفقا للدستور وطالما ظل السادات رئيسا للبرلمان سيكون رئيسا ولو مؤقتا .. وعندها لن تفلح قوة على الأرض أن تزيحه من عرشه الجديد أو تجعله يتنازل عن حلمه القديم .. وهذا ما حدث بالفعل بعد ذلك .

نعود إلى عبد الناصر وما قرره في صيف 1968 من تولي لجنة ثلاثية تتولى شئون الحكم من السادات وحسين الشافعي وعلي صبري في حين أن قيادة البلاد الفعلية في أيدي سامي شرف وشعراوي جمعة .. وكان السادات يعلم ذلك جيدا ولكن لفاعلية العلاقة بين شرف وشعراوي من ناحية وناصر من ناحية أخرى فلم يكن السادات بادئا في إثارة خلاف من أي نوع معهما وإن عمل على " كشف حقيقة كل منهما لعبد الناصر " الصديق ..! !

وأثناء تلك الفترة ووفقا لطبيعة عبد الناصر في إرباك من حوله اعتمادا على الشك الدائم لديه في الآخرين حدث أن قامت انتخابات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي واستدعى شعراوي جمعة وطلب منه الاحتفاظ بالأقدمية في الانتخابات وقال له : أنا وبعدي السادات وبعده حسين الشافعي وبعد ذلك لا يهم الترتيب , وأجاب شعراوي : حاضر يا أفندم .. ولكن شعراوي وشرف كان لهما رأي آخر بعد إزاحة علي صبري بإثارة حفيظة عبد الناصر ضده في أعقاب موضوع الطائرة السوفيتية وما حملته من متاع خاص لعلي صبري بلغ ألفي كيلو جراما لم يبق أمامهم إلا السادات والشافعي .. والأخير من شيمته المسألة الحقيقية فلا يبقى إلا السادات .. فما عليهما إلا إظهاره بأن لا شعبية له في الشارع السياسي لذا جاءت نتيجة الانتخابات بحصول السادات على الترتيب الرابع وقبله الدكتور محمد فوزي والشافعي .. عندها لم يتمالك السادات نفسه وقرر الاعتكاف بقريته ميت أبو الكرم فذهب إليه عبد الناصر وبذل جهوده في إقناعه بعدم ترك القاهرة وأنه يفهم جيدا ما وراء هذه النتيجة .واستدعى بعدها ناصر شعراوي جمعة وأظهر له غضبه غير أن الأخير أقسم له بالأيمان الغليظة أن هذا الموضوع لا يعدو كونه إرادة شعبية لأن الناس تعلم أنه صديق لعامر .. . ! ! !

يمكن القول أن تلك الحادثة كانت المحرك الأساسي لتغير فكر عبد الناصر ميلا تجاه أنور السادات .. لأن عبد الناصر وخلال أكثر من خمسة عشر عاما من السلطة لم يختلف معه السادات مطلقا .. كما أن السادات من جانبه لم يطلب أي منصب قيادي تنفيذي من عبد الناصر كما أن علي صبري مصنف لديه بالعمالة لموسكو .. وأيضا عبد الناصر غير مقتنع بصلاحية حسين الشافعي للرئاسة .. ليس في عدم كفاءة حسين الشافعي ولكن لأن منصب الرئاسة يتطلب من الدهاء والمكر والحيلة ما قد يفتقره الشافعي .. وسامي شرف يصلح مساعدا من الدرجة الممتازة ولكنه لا يصلح كرئيس .. وشعراوي جمعة يخرج من دائرة اهتمام عبد الناصر لمنصب الرئاسةوينقل إلينا موسى صبري حوارا تم إجراؤه مع عبد الناصر نقله كما هو .

" قال عبد الناصر " : سأعين مجلس الثورة كله .. سأقول لهم اتفضلوا حولوا المشكلة .. قيل له : وما ذنب مصر أن تعيد السلطة لأشخاص يمسكون الخناجر لبعضهم البعض وهم جميعا يمسكون الخناجر لك ؟ .

قال ناصر : وما العمل ؟ .

قيل له : إنني أحمل عنك عبئا كثيرا .. أنت تتصور أن تضع القدرة وهذا فوق قدرة الإنسان .. انظر ماذا فعل لعبد الحكيم عامر لقد فعلت له أكثر ما يفعل الأب لأبنه .. فرضته ضدك طبيعة الأشياء وضد كل شيء في سبيل أن تفرضه .. كنت تتصور أنه من صنعتك .. ولكن انظر ماذا جرى . . .؟ وماذا فعل ؟ إنها إشارة من السماء تقو قف اعلم أنك كنت مخطئا .

قال عبد الناصر : إذن .ماذا أفعل ؟ كيف أتصرف ؟ .

قيل له : أعلم أنك لن تحكم بعد أن تموت .

قال ناصر : هذا صحيح ولكن ماذا يعني ؟ .

قيل له : يعني أن تتذكر أن على أرض مصر شعبا من حقه أن يختار طريقه اترك الطريق سليما ممهدا – بعد موتك – للجماهير أن تختار لا تفكر أبدا في عودة مجلس الثورة .البلد لا تريد صراعات جديدة ولن تتحمل هذه الصراعات لقد ذبحت عبد الحكيم عامر أكثر ما ذبحتك الثورة لا تفكر في أنك ستحكم بعد أن تموت لا تفرض شيئا من الآن .. ضع أسس حكم جديد يتيح للشعب أن يختار طريقه السليم .. لعلك تفكر الآن في علي صبري .. قال عبد الناصر : نعم .

قيل له : هذه ستكون كارثة أخرى .. أنت تعلم أن علي صبري هو عميل السوفيت .

قال ناصر : هذا صحيح .ومن أختار .

قيل له : ضع الأسس السليمة ودعك من الأشخاص أنت لن تحكم بعد أن تموت .. أكرر لك هذه العبارة دع مصر تختر من تريد لست وحدك .أنت نسيت يا جمال أن هناك قوة أكبر منك ومن أي إنسان على هذه الأرض لقد نسيت ربنا يا جمال .. اترك الشعب يختر .. لا تفرض أحدا حتى بعد موتك وكلنا في زوال فقط عليك أن تضع الأسس للاختيار الصحيح .

بغض النظر عن المتحدث مع عبد الناصر والذي لم يفصح موسى صبري عن شخصيته إلا أننا نؤكد أن هذا الحوار " الغامض " قد تأثر به عبد الناصر فعلا لدرجة تنفيذه حرفيا .. فحقيقي أن مراكز القوى الخفية والممثلة في سامي شرف و شعراوي جمعة لم تكن تريد السادات .. غير أن عبد الناصر أراد للبلاد أن تستقر في يد السادات .. وإن كان قويا وأمينا سيحافظ على ما سيوليه من قيادة البلاد .وإن كان ضعيفا لا يصلح للحكم كما يشيعون عنه وأن الشعب لا يقبله فحتما سيزاح عن منصبه .. وهذا ما حدث ففي يوم الثامن عشر من ديسمبر 1969 م تم استدعاء أنور السادات للقاء الرئيس في أمر مهم وفور دخوله على عبد الناصر قال له استعد ستتولى نائب رئيس الجمهورية .. كان هذا القرار هو حلم السادات طيلة سبعة عشر عاما ولكن تلك الفترة قد أفادت السادات الصبر الجميل على الأحداث وأنها قد تكون مراوغة من عبد الناصر واختبارا له ولنواياه الحقيقية التي يبدو على السادات زهدا في المناصب القيادية , لذا بادر السادات بأن قال : إنني لا أريد أي منصب .إنني أتولى المسئولية الآن .. إذا كان لا بد من منصب فأنا اقترح عليك أن تعييني مستشارا لرئيس الجمهورية ورفض ناصر اقتراح السادات وقال له : محمود الجيار يحمل هذا المنصب .ستعمل نائبا لرئيس الجمهورية بصفة رسمية وأرجو أن تراجع نفسك .

وفي يوم العشرين من ديسمبر عام 1969 م كان في منزل عبد الناصر بمنشية البكري رجلان تم استدعاؤهما على عجل الأول حسين الشافعي والآخر كان أنور السادات وكان ذلك لاصطحاب عبد الناصر للمشاركة في أعمال القمة العربية بالرباط .. وجاء عبد الناصر واتجه للسادات وبلغة صارمة قال له : أدعوك إلى حلف اليمين نائبا لرئيس الجمهورية .وتمت مراسم القسم وسافر عبد الناصر تاركا السادات يمارس مهام منصبه بعد أن تم الإعلان عنه في الصحافة والتليفزيون وانتقل السادات بعد سبعة عشر عاما من الظل لأول مرة في بؤرة الأضواء مما أصاب أحلام مراكز القوى الخفية بخيبة شديدة لم يبددها إلا الأمل في إزاحة السادات فور وفاة عبد الناصر لظنهم أن السادات شخصية مستكينة كما كان يظهر دائما من بعده عن الصراعات وزهده في المناصب القيادية الحساسة .. .

الفصل السابع عشر: عبد الناصر والفن

يلعب الفن المعاصر دورا توجيهيا بمعنى استخدامه من قبل مؤسسات الحكم والتربية لخلق تيار معين , أو الوقوف أمام فكر معارض , وتلجأ المؤسسات الحاكمة للفن على اعتبار أن أدوات العصر الحديث – من موسيقى وطرب وتمثيل باتت تشكل بالنمط الذي تتبناه هذه العناصر إحدى ركائز الشخصية الإنسانية الوجدانية للشعوب , فمثلا صرعة الجاز والروك والخنافس في الستينات كانت تعبيرا عن محاولة السيطرة على فكر الشباب في العالم عن طريق الجنس .. . والحركات المثيرة الغرائز , وقد هدأت هذه الصرعة نوعا ما في أواسط السبعينات مع اقتراب الحرب الباردة من نهايتها .. لتشهد حقبة الثمانينات طورا جديدا عبر انتشار البوب والميتال الصاخبة لجذب الشباب بطريقة جديدة مرة أخرى لما يعرف بالعولمة .. ودون سطحية فإننا لا ندعي أن الفن هو وسيلة الأمم للسيطرة على هذا الجانب أو ذاك ولكن نؤكد على استخدامه كوسيلة من عشرات الوسائل الأخرى لتحقيق هدف ما .. هنا أو هناك , وفي مصر خلال حقبتي الخمسينات والستينات تم استخدام الفن كوسيلة للقيادة السياسية الثورية للوصول إلى زرع أفكار تخدم توجهات الساسة المصريين داخليا وخارجيا , وبدا هذا واضحا في نوعيات الأعمال المقدمة أيامها فعلى صعيد العمل الدرامي .. بعد العدوان الثلاثي ظهرت أعمال سينمائية تؤرخ للحدث التاريخي عام 1956 بأفلام .. . بورسعيد .. . عمالقة البحار .. . الباب المفتوح , كما نشطت الأغنية الثورية المشحذة للهمم .. وأيضا لا ننسى الأعمال التي يصعب حصرها من أفلام وأغان وأشعار مجدت الثورة والثوار .. وصورت أن تاريخ مصر الحديث والمعاصر لم يبدأ إلا يوم 23 يوليو 1952 .. والذي نتعرض له الآن هو العلاقة بين ثورة يوليو .. ممثلة في زعيمها وقائدها " جمال عبد الناصر " وأهم عنصر فني في الساحة وقتها .. السيدة أم كلثوم .. فإن كانت أم كلثوم قد زاع صيتها وتوجت على عرش الطرب النسائي قبل الثورة .. فقد كانت علاقته بها نوع من المكسب للثوار

عبد الناصر .. وأم كلثوم

نظرا لتمتع أم كلثوم بالشهرة العريضة الطاغية قبل قيام الثورة عام 1952 وارتباطها شيئا ما بالملكية والملك فاروق .. وذلك عندما شدت له وحصولها وسام منه لم تحصل عليه إلا أميرات العائلة المالكة .. فعندما كان النادي الأهلي بالجزيرة يقيم حفلا في حديقته تغني فيه أم كلثوم فوجيء الحاضرون أثناء الحفل بالملك فاروق يدخل النادي ويجلس على المائدة التي يجلس عليها أحمد باشا حسنين رئيس النادي الأهلي آنذاك .. وكانت أم كلثوم تغني أغنية " هلت ليالي الأمر " .. ولما انتهت الأغنية نادى الملك فاروق على الكاتب الصحفي مصطفى أمين الذي كان من بين الحضور وأمره بالصعود فوق المسرح ويعلن نبأ إنعام الملك فاروق على أم كلثوم بوسام الكمال .. ! !

وبقدر سعادة أم كلثوم بهذا التقدير والتكريم العالي وغير المسبوق لكونها اول من تحصل عليه من عامة الشعب .. فلم يسبق أن حصل فنان على رتبة أو نيشان , وقد سعد بالخبر أيضا غالبية الشعب المصري .. إلا أنه بمقدار السرور والسعادة كان على الجانب الآخر فريق لم يرق له هذا التكريم .. وهن الأميرات وزوجات رؤساء الوزراء .. لدرجة أن إحدى الأميرات استبد بها الغضب وصرحت أنها سترد إلى الملك وسام الكمال وتبعها في هذا القرار العديد من الأميرات وزوجات رؤساء الوزارات , وكان من الطبيعي عند وصول نبأ احتجاج زوجات رؤساء الوزارات أن تتحول سعادة أم كلثوم إلى شقاء .. والفرحة إلى هموم ..ولم يتبدد لديها هذا الشعور إلا حينما زارتها صفية زغلول في بيتها لتقديم التهاني على هذا الوسام الرفيع وحصولها على لقب " صاحبة العصمة " وبعد الثورة وطبقا لتقاليد هذه الفترة كان العداء لكل رموز الملكية وتحطيم مظاهرها .

وكان أغلب الظن أن هذا العداء سيلاحق أم كلثوم أيضا ولكن ما حدث كان النقيض تماما فلقد ارتأى الثوار تجنب العداء معها نظرا " لإدمان " الشعب لصوتها وارتباطه بها .. فعمدت الثورة على استغلال الحب الجارف لها في ما يصب بالنفع لها , فشدت أم كلثوم للثورة في أعيادها والأيام السعيدة .. كما شدت في أوقات " الشدة " أيضا .. فصدعت ب " الله معاك " و " صوت السلام " و " و الله زمان يا سلاحي " و " منصورة يا ثورة الأحرار " و " قوم بإيمان " و " يا جمال يا مثال الوطنية " .

وقبل الاسترسال .. جدير بنا البحث في سر العلاقة التي ربطت أم كلثوم بزعيم ثورة يوليو .. جمال عبد الناصر .. وهل هي ميلاد قيام الثورة .أم .يرجع عمر العلاقة بينهما إلى تاريخ أبعد من ذلك .. . ؟

في الواقع أن العلاقة بين أم كلثوم .. وناصر .تنقسم إلى ثلاث مراحل , بدأت بمعرفة ناصر بأمم كلثوم ككل المصريين .. صوتا شجيا أحبه الناس وارتبطوا به .. لدرجة أن مجموعة من المقاتلين في الجيش المصر أثناء حرب فلسطين عام 1948 وهم محاصرون في الحصار الشهير " بحصار الفالوجا " أرسلوا رسالة بالشفرة يطلبون فيها " أغنية " لأم كلثوم يسمعونها لتشحذ عزيمتهم القتالية ! ! ! . ثم كانت المرحلة الثانية من تاريخ العلاقة التي جمعت ناصر بأم كلثوم في بيت أم كلثوم بعد عودة " أبطال " حصار الفالوجا ومنحهم أوسمة .. فطلبوا من حيدر باشا وزير الدفاع وقتها مقابلة أم كلثوم فتم هذا بحضور الصحفي الكبير مصطفى أمين .. حيث أعلن " أبطال 1948 " أن صوت أم كلثوم عبر الأثير كان الشيء الوحيد الذي ربطهم بمصر بعد انقطاع كل وسائل الاتصال ! وقد قابلتهم أم كلثوم في صالون فيلتها وكان من بينهم إبراهيم البغدادي وجمال عبد الناصر والسيد طه .. وعندما سألهم مصطفى أمين عن سر طلبهم لقاء أم كلثوم وسر طلبهم سماع إحدى أغانيها .. أجاب إبراهيم البغدادي أنه في أحدى ليالي الحصار اقترح أحد " الأبطال المقاتلين " أن نبعث برسالة نطلب أن تغني لنا أم كلثوم في حفل الخميس القادم أغنية .وقال بعض الضباط .

هو ده معقول ؟ طبعا الأغاني محجوزة والوقت متأخر وأكيد الأمراء والوزراء طلبوا أغاني معينة , إلا أن الضابط جمال عبد الناصر هو الوحيد الذي قال إن أم كلثوم لا يمكن أن ترفض لنا هذا الطلب لأنها فلاحة مصرية وطنية ولا بد أن تشعر بنا و نحن محاصرون , و قد كان تقدير جمال عبد الناصر في محله تماما .

وتتحدث أم كلثوم عن هذا اللقاء فتقول :

" عندما بدأت حرب فلسطين ضد العصابات الصهيونية كان قلب مع كل مقاتل هناك واقرأ في الصحف واستمع إلى الراديو وحين حوصر أبطالنا في الفالوجا كان الدسوقي ابن شقيقتي ينقل لي الأخبار من هنالك وقول لي : إنهم يريدون أغاني كذا أو كذا فأغني لهم وأذهب إلى الإذاعة لأقدم لهم ما يطلبون وأعيش معهم على البعد بجميع أعصابي وكل حواسي , وعندما عادوا كان الملك يخاف منهم ويخشى غضبهم بعد واقعة الأسلحة الفاسدة وكانت النقابات قررت الاحتفاء بالعائدين وكنت يومئذ نقيبة للموسيقيين وقررنا الاحتفال بالأبطال ." الضبع الأسود " سيد طه , جمال عبد الناصر , صلاح الشاهد وغيرهم .

وقد أمر القصر الملكي إلغاء الحفاوة المقررة من قبل النقابات وكنت قد وجهت الدعوة لكل القادمين من الفالوجا .. دعوة خاصة إلى بيتي وجاءني الأمر ألا أفعل ورفضت تنفيذ الأمر .. وتعللت بأني وجهت الدعوة بالفعل وحضر إلى بيتي بالزمالك حوالي 50 ضابطا وأكثر منهم من الجنود وملأوا البيت والحديقة وأدرت لهم كل التسجيلات التي كانوا يطلبونها وهم في الفالوجا , ومن ناحية أخرى فلقد ذكر الكاتب الكبير مصطفى أمين عن ذكرياته بالنسبة لذلك الحفل فقال : " لما كنت أنا المدني الوحيد المدعو لهذا الحفل بحكم صلتي وصداقتي بأم كلثوم كنت أتنقل بين أماكن هؤلاء الضباط ومن حين لآخر كان يلفت نظري الضابط جمال عبد الناصر الذي كان يفضل أن يجلس بمفرده صامتا رغم أن بقية زملائه عن الضباط كانوا يمرحون ويضحكون وتناوبوا الحديث مع أم كلثوم .. هذا السلوك الهادىء من جانب الضابط جمال عبد الناصر كان محل تساؤل من أم كلثوم أيضا فقد كنا نرى حتى قائد الكتيبة " الضبع الأسود " سيد طه .

يمرح ويضحك ويتنقل من مكان لآخر في صالون فيلتها إلا جمال عبد الناصر الذي استمر في جلسته الصامتة طويلا حتى انتهى اللقاء .. وبين الحين والآخر كنت ألحظ نظرات متبادلة بين أم كلثوم وعبد الناصر .ولم أستطع وقتها أن أترجم هذه النظرات في حينها فربما كانت نظرات لقاء قادم ومصير مشترك بين زعامتين .. لا يزال دورهما حتى هذه اللحظة في علم الغيب , أما المرحلة الثالثة تاريخ علاقة ناصر .وأم كلثوم فقد كانت بعد ساعات من إعلان قيام الثورة عام 1952 .فقد كان أم كلثوم ككثير من أبناء الشعب كالحامل المتم .. لا يدري في أي وقت تضع حملها , وببزوغ صباح 23 يوليو استبشر الشعب الخير بالمولود الجديد ووضعوا كامل ثقتهم في " الأحرار " والتفوا حولهم من كل حدب وصوب .

وكان راعي الثورة ودرعها الأول " الشعب " .. ( هذا الشعب الذي تحول بعد 1952 بسنوات قليلة إلى خلايا شيوعية تارة وبؤر إرهابية تارة أخرى .. وإقطاعيين مرة ثالثة .. ) .

كانت أم كلثوم تقضي أيامها في الإسكندرية للتغلب على حرارة صيف القاهرة الملتهب , والذي زاد من لهيبها أنباء هجوم " العسكر " لتغيير الأوضاع المائلة .. فعادت أم كلثوم للقاهرة لتبارك هذه الثورة الوليدة .. وذهبت إلى مجلس قيادة الثورة وكم كانت فرحتها غامرة إذ علمت أن الضباط الشبان الذين كانوا في ضيافتها منذ سنوات قليلة هم تقريبا قادة البلاد الحاليون ..ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن .فرغم هرولة أم كلثوم إلى تأييد الثورة فور وقوعها .. إلا أن بعض " الثوار " لم يقتنعوا بوطنية وإخلاص أم كلثوم .

واعتبروها " انتهازية " وأصدروا أوامرهم للإذاعة بعدم تقديم أي أغنية لأم كلثوم لكونها من إفرازات ومخلفات العهد الملاكي البائد .. وكاد هذا الخبر أن يقضي على أم كلثوم قضاء مبرما .وتدخل مصطفى أمين لدى قيادة الثورة في محاولة منه لإثنائهم عن هذا القرار .. ووجد جمال عبد الناصر يقف معه بشدة ودافع عن أم كلثوم .. واستنكر وقف أغانيها وأمر بإعادة الأحوال إلى سابق عهدها بالنسبة لأم كلثوم وعلل ذلك لرفاقه في مجلس قيادة الثورة أنه إذا كانت أم كلثوم من رموز العهد الماضي فلماذا لا نردم النيل ونهدم الهرم فإنهما من رموز العصر الماضي أيضا .. وبعد عدة أشهر حدث صراع من نوع جديد بين شباب الثورة وأم كلثوم .. تمثل في ذهاب أم كلثوم إلى الإذاعة لتقاضي أموال نظير حق الأداء العلني عن قصيدتها " مصر التي في خاطري " والتي كانت الإذاعة تبثها قبل أي بيان لمجلس قيادة الثورة .. وفوجئت أم كلثوم عندما أجابها مندوب الثوار الموجود في مكتبه بالإذاعة أن جميع التسجيلات التي في حوزة الإذاعة أصبحت منذ قيام الثورة المباركة ملكا خاصا للدولة ولا يوجد لأحد حقوق نظير إذاعتها .. " على ما بدو أنه كان من بين الثوار من يعتقد أن أفكار الناس وملكاتهم الإبداعية وموهبتهم من أسلاب الملك والملكية يجب تأميمها والسيطرة عليها بالقوة الغاشمة , وقد ظل هذا الهاجس يطارد الثوار حتى أفرزت قراراتهم العشوائية بتصفية كل من يملك شيئا ذا قيمة وإن كان مصريا حتى جده الألف .. وبديهيا أن هذه القرارات لم تجلب الخير للبلاد بل الشرور المتعاقبة .. خاصة وإن كانت القيادة قد استولت على مقاليد الأمور لتعيد الأمان والثقة وتعيد البناء الصحيح لأوضاع رأت فسادها , أما بالنسبة للشعب فقد شعر أنه قد تم إزاحة ملك واحد .. وجاء ليحكمهم ألف ملك .

ونعود لأم كلثوم .فلقد جاء أقوال مندوب القيادة العامة في الإذاعة بمثابة الصدمة الثانية في تعاملها مع الثورة , ولكنها تماسكت وذهبت إلى مجلس قيادة الثورة واستقبلها عبد الناصر ورفاقه واستمعوا لشكواها ولم تمض إلى بضع دقائق حتى جاءها المندوب بكافة مستحقاتها .

وموقف ثالث كان تأثيره كبيرا في تاريخ العلاقة بين ناصر وأم كلثوم .وقد حدث هذا في العام التالي لقيام الثورة أي عام 1953 .. وكانت مناسبته هي انتخابات نقابة الموسيقيين .ومعروف أن منصب النقيب منذ سنوات طويلة يكاد يكون محجوزا لأم كلثوم ولا يجرؤ أحد على الترشيح أمامها .سواء رغبة أو رهبة .. ! على خوض معركة الانتخابات على منصب النقيب .لإزاحة أم كلثوم من موقعها .فقررت أم كلثوم الرد على هذا المخطط وأبلغت المقربين منها أنها ستعتزل الغناء ردا على محاربة " الثورة " لها دون أن ترتكب ما يستدعي هذا العداء .. .

وتسرب الخبر فورا إلى الثوار فاتصلوا بها وتم إبلاغها أن جمال عبد الناصر ورفاقه سيكونون ضيوفا عليها في الغد .. وفي اليوم التالي استقبلت أم كلثوم .. عبد الناصر وصلاح سالم وعبد الحكيم عامر وغيرهم من أعضاء مجلس قيادة الثورة وتمت إزالة سوء التفاهم بين أم كلثوم " و الثوار " وأزيح من على كاهل أم كلثوم جبال من الأحمال وراء كل ذلك كان يقف جمال عبد الناصر .

وهكذا نرى أن المواقف المتلاحقة التي تعرضت لها أم كلثوم في بداية الثورة كان ناصر يلعب دور المنقذ فيها ربما كنوع من رد الجميل لذكرياته في حصار الفالوجا .. واستقبالها للضباط العائدين من حرب فلسطين رغم الاعتراضات الملكية لها .مما رسخ في وجدان أم كلثوم أن ناصر له فضل عليها ولا بد من الوقوف بجانبه من ناحيتها بكل ما أتيت من قوة وما تملكه من ملكة التأثير بصوتها وفنها .علاوة على إحساسها به كمواطنة مصرية عادية في أنه قائد قارب الحياة السياسية المصرية في بحر الظلمات التي كانت مصر تعبره آنذاك .. مما أوجد الخصوصية في علاقة الزعامتين .. الزعامة السياسية الثورية الممثلة في جمال عبد الناصر .. والزعامة الشعبية الفنية الممثلة في " الست أم كلثوم " .

وتجلى هذا بوضوح حينما تعرضت أم كلثوم لنكسة مرضية عام 1953 فقد عانت قبل الثورة من الغدة الدرقية وعاودتها الآلام عقب وفاة والدتها وبكاءها المستمر عليها ( ومعروف طبيا أن مرض الغدة الدرقية إذا زادت الإفرازات فإنها تؤثر على العين وتؤدي إلى حدوث جحوظ ظاهر بالعينين ) وقد تم عرضها على أطباء أخصائيين بالقاهرة غير أنهم أشاروا بضرورة السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء مزيد من الفحوص أو العلاج بالتدخل الجراحي .. وبالفعل قررت السفر لأمريكا ولكنها أجلت سفرها لارتباطها بإحياء إحدى المناسبات الوطنية , وبعد ذلك وفي عشية سفرها علمت من خلال مكالمة هاتفية من الرئيس عبد الناصر أنها ستعالج في مستشفى البحرية الأمريكية وأنه سيكون في وداعها أنور السادات عضو مجلس قيادة الثورة نيابة عنه , فشكرته أم كلثوم وكانت هذه اللفتة لها الأثر البالغ في نفسها .

وفي المستشفي بأمريكا كان ناصر يداوم الاتصال بها بصفة دورية وكذا أعضاء قيادة الثورة .. وبعد عودتها ردت لعبد الناصر هديته الممثلة في اهتمامه بها أن شدت له من كل قلبها :

يا جمال يا مثال الوطنية
أجمل أعيادنا الوطنية

على منصة الحكم .. " منفردا " .. بعد إزاحة محمد نجيب .وضرب الإخوان المسلمين بعد أحداث المنشية الشهيرة , وأصبحت أم كلثوم بمثابة الجسر الذي سهل لناصر العبور لقلوب المصريين .. فلقد كان الشعب يحب أم كلثوم ويحب أغانيها , لذا تحولت أم كلثوم لأداء دور وطني .. وقد ساعدتها الظروف للعب دور آخر في حياة عبد الناصر الشخصية هذه المرة .وذلك عندما قامت باستضافة أسرة عبد الناصر في عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي على مصر .. وقد حدث ذلك عندما اشتدت الغارات الجوية على القاهرة .ورأى عبد الناصر أنه ربما يتعرض بيته بمنشية البكري لعمليات القصف الجوي فقرر إبعاد أسرته إلى مبنى حكومي محكم في حي الزمالك حفاظا على أرواحهم .وكان هذا المبنى قريبا من فيلا أم كلثوم ..وقد علمت أم كلثوم بخبر انتقال أسرة عبد الناصر لهذا المبنى والذي كان أحد القصور الملكية .. فسارعت بالاتصال بأسرة الرئيس جمال عبد الناصر ودعتهم للإقامة بفيلتها وقامت بدور المضيفة على خير وجه بوصفها فلاحة مصرية أصيلة , وقد كان لهذا الموقف من جانب أم كلثوم أكبر الأثر في تأصيل العلاقة المتينة بين عبد الناصر وأم كلثوم من جهة وبين أسرة عبد الناصر وأم كلثوم من جهة أخرى .. إذ أنه أصبحت من المقربات للسيدة زوجة جمال عبد الناصر.

على أننا و وفقا للتسلسل التاريخي نقفز سريعا لنعبر أحداث 1956 لنقف في محطة مصر الحزينة في العصر الحديث .. محطة نكسة 1967 .وما جرى من أحداث ربطت أيضا أم كلثوم بعبد الناصر .قبلها مباشرة وبعدها أيضا , ففي عام 1960 نالت أم كلثوم من الدولة وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى .. وأيضا كرمها الجيش عندما قلدها المشير عبد الحكيم عامر وسام " رمز الجيش " وذلك عندما حضر الرئيس جمال عبد الناصر ورفاقه الثوريون حفلا من حفلات أول خميس من كل شهر وغنت أم كلثوم وفي نهاية الوصلة الثانية نالها التكريم , وكان هذا اعترافا ضمنيا من جانب قائد الثورة ورفاقه بالمجهودات العظيمة التي أدتها أم كلثوم لهم ولعبد الناصر شخصيا .. فلقد كانت أم كلثوم هي " المخدر " الذي أدمنه الشعب ليلقى فيه همومه اليومية والسلون من ضياع الأحلام الوردية التي نثرها الأحرار عليهم يوم أن اعتلوا سدة الحكم , وكانت أم كلثوم أيضا المدافع عن خطايا الثورة وتجميلها أمام الشعب رغم الحنث بالوعود في إيجاد حياة اجتماعية عادلة وما رفعته شعارات تلك الأيام التي سرعان ما اكتشف الناس أنها لا تساوي حتى المداد التي كتبت به .. لذا كان حريا من حاصدي " فوائد " أم كلثوم أن يقلدوها أوسمة ونياشين ويسبغوا عليها هالات التقدير التي اكتسبتها من قبلهم , فعملوا على زيادة شعبيتها لدرجة تدخل الرئيس جمال عبد الناصر شخصيا في إذابة الجليد بين عبد الوهاب وأم كلثوم بأن يلتقيا في عمل فني مشترك تلحين عبد الوهاب وغناء أم كلثوم وتمخض الاتفاق عن رائعتهما " أنت عمري " والتي أسماها النقاد ( لقاء السحاب ).

بالإضافة إلى أن فكر الرئيس جمال عبد الناصر قد أثمر على ضرورة إنشاء موجة إذاعية خاصة بأغاني أم كلثوم فقط وهو ما يعرف ب " محطة أم كلثوم " تقوم تلك المحطة بإذاعة أغانيها طيلة مدة بثها اليومي , ومن الطرافة بمكان أن هذه الفكرة لم تجد من يعارضها سواء على المستوى الشعبي أو الفكري من جانب المثقفين أو حتى من جانب المتدينين .. إذ أن البلاد المحروسة بأزهرها لم يكن بها آنذاك محطة تبث القرءان الكريم وعلومه الإلهية , ولم يعترض المثقفون من عدم وجود محطة أدبية وفكرية والشعر الهادف , لم يعترض لا هذا الفريق ولا ذلك الفريق لسبب بسيط .. وهو أن أهل الطائفتين كانوا قابعين في غياهب السجون والمعتقلات يلاقون سوء العذاب لعدم خنوعهم – كغيرهم – وخضوعهم كالآخرين , إن المعارض الوحيد لهذه الإذاعة الكلثومية كان أم كلثوم نفسها ؟ نعم أم كلثوم هي الوحيد التي عارضت فكرة إنشاء محطة خاصة بها , إذ انه رأت أن إذاعة أغانيها بصورة مستمر سيؤدي إلى نتائج عكسية بعزوف الناس عنها وعن فنها ومللهم لها , ونقلت هذه المخاوف لصديقها الصحفي مصطفى أمين الذي بدوره أفهمها أن هذه رغبة " ناصرية .عامرية " وتعتبر رغبتيهما من القرارات السياسية علاوة على أن عبد الناصر أصدر القرار وانتهى الأمر , فنقلت أم كلثوم مخاوفها لعبد الناصر شخصيا فأحالها " للخبير " عبد الحكيم عام .. الذي تولى تهدئة خاطرها وأفهمها أن البلاد في حاجة لأغانيها لأن الأوضاع الشعبية صعبة والناس لازم تجد متنفسا آخر غير الاشتغال بما يجري على الساحة , علاوة على أن أغانيها الوطنية " المقررة " تقرب الناس من الثورة والثوار أكثر .. فسكتت أم كلثوم على مضض خاضعة هي الأخرى للأمر الواقع .خاصة بعد أن أكد لها البعض أن شعبيتها ستزيد أضعافا مضاعفة لأن صوتها سيغزو أفاقا جديدة عبر الأثر .

على أن هناك واقعة جديرة بالتوقف أمامها قبل النكسة .عندما زجت الوشايات بصديق عبد الناصر الكاتب مصطفى أمين إلى المجهول في السجن الحربي : بتهمة العمالة والتجسس لحساب أمريكا .. ومن المعروف العلاقة الوثيقة التي ربطت مصطفى أمين بأم كلثوم ويكفي قول مصطفى أمين عنها : عرف الناس أم كلثوم وأنا عرفت أم كلثوم أخرى ..عرفوا الأسطورة وعرفت الإنسانة .. عرفوها بخيلة وعرفتها كريمة .

عرفوها فوق المسرح والأضواء مسلطة عليها وصوتها يملأ الدنيا متعة وبهاء .وعرفتها في غرفتها الصغيرة في الطابق العلوي من بيتها منزوية فوق كنبة صغيرة تبكي في صمت " .. لذا لا غرابة في وساطة أم كلثوم لدى عبد الناصر من أجل مصطفى أمين للإفراج عنه واستغلت حفلة كانت بمناسبة أعياد يوليو بعد القبض عليه بيومين وكان يحضر هذه المناسبة عبد الوهاب .. وقال له عبد الناصر : طبعا أنت زعلان علشان مصطفى أمين ؟ .. فقال عبد الوهاب : أبدا يا أفندم المسيء يلقى جزاؤه .وأضاف عبد الوهاب : أنه لم يكن صديقي إلا من مدة قصيرة .. !

! أما أم كلثوم ففي جلسة خاصة بعبد الناصر وعبد الحكيم عامر بادر الرئيس بفتح موضوعه مصطفى أمين أمامه .

فقالت : اعرف مصطفى أمين طوال حياته وأعرف وطنيته وأعرف كيف أدخل كل مليم في أخبار اليوم .. إلا أن عبد الناصر أشاح بوجهه معرضا عنها ولكنها استمرت تدافع عن مصطفى أمين بحماس بالغ ولم تتوقف في محاولتها لدى عبد الناصر وعبد الحكيم عامر من أجل الإفراج عنه حتى باءت كل جهودها المضنية بالفشل التام , ورغم ذلك لعبت أم كلثوم دور الصديق الوفي عندما تمت مصادرة أموال مصطفى أمين بوضعه تحت الحراسة وتمت محاصرته حتى يحكم حصاره نفسيا .فأرسل مصطفى أمين برسالة لأم كلثوم من المعتقل أنه بحاجة إلى مائتي جنيه بصفة عاجلة .. ونبهها أنه لو اكتشف أحد مساعدتها له فربما توضع أمواله هي الأخرى تحت الحراسة وهو يعذرها إن لم تستجب لطلبه .. واختتم رسالته بأنه قد يستطيع إيفاد دينها وقد لا يستطيع رده لها مطلقا , فما كان منها إلا أن أرسلت إليه خمسمائة جنيه وقالت : إنها مستعدة أن ترسل له خمسة آلاف إذا تطلبت حاجة مصطفى أمين لها .على جانب آخر لم تكتف أم كلثوم بتقديم الدعم المادي لصديقها الواقع في أزمة من أكبر الأزمات التي يمر بها الإنسان في حياته وهي محنة الحرمان من الحرية .

فكثيرون قبل مصطفى أمين تعرضوا للسجن جزاء لمواقفهم .. . فيوسف عليه السلام تعرض لبلاء فقد الحرية سنين طويلة لموقفه الرافض في عصيان الله تعالى وإن كان ثمن الحرية جسد امرأة العزيز الجميلة , كما تعرض شيخ الإسلام ابن تيميه للحبس جزاء لجرأته في التصدي للمنكر وفاعليه وأمر الناس بالمعروف والتصدي لعوامل الفساد وللمفسدين .وقد توارت عنه مقولته الشهيرة عن السجن والاعتقال ." ماذا يفعل أعدائي معي .

إن سجني خلوة بربي .ونفيي سياحة .وقتلي شهادة في سبيل الله " . . إن محنة السجن والاعتقال يتعرض له " الخاصة " من الناس وليس عامتهم .وهي بمثابة النار التي تنقي المعدن النفيس من شوائبه وتكشف له أيضا معادن أخرى .. وقد كشفت محنة مصطفى أمين عن معدنه الأصيل ومعادن أخرى رديئة .وعن معدن أم كلثوم التي سبق أن أشرنا إلى دعمها له ماديا ومعنويا وذلك عندما سربت إليه عن طريق طبيب السجن أنها ستغني في حفلتها القادمة قصيدة فيها بيتان أو ثلاثة توجههم إليه .

وعندما حل الخميس الأول من الشهر وهو موعد حفلة أم كلثوم الشهرية كانت قصيدة " الأطلال للدكتور إبراهيم ناجي وأذاعت إدارة السجن الحفل على النزلاء وجاء صوت أم كلثوم الشجي يصدع قائلا :

أعطني حريتي أطلق يديا

إنني أعطيت وما استبقيت شيئا

آه من قيدك أدمى معصمي

لما أبقيته وما أبقى عليا

واحتفاظي بعهود لم تصنها

وإلام الأسر و الدنيا لديا

فانتفض مصطفى أمين بجسده وروحه وشعر أن أم كلثوم تنقل أناته الخافتة كي يسمعها القاصي والداني وتعبر عن لسان حاله مع القيادة السياسية .وكأن أم كلثوم كانت صوت الشعب كله وخاصة في البيت الأخير.

ووقعت كارثة يونيه 1967 .. وحدث الزلزال الأكبر في السياسة والجيش والحياة الاجتماعية في مصر .

وأفاق الناس وهم مذهولون يبكون على أطلال الأحلام والوعود الكاذبة بدحر العدوان وإلقاء الصهاينة في البحر .. وعلم الشعب أن مقولة من لا تعجبه توجهاتنا القومية التحررية عليه أن يشرب من البحر الأحمر إن لم تعجبه مياه البحر الأبيض .. علم الشعب أنها مقولة تخديرية مثلها مثل كلمات الأغاني التي غرق الناس فيها .وأننا لم نعد نستطيع شرب مياه البحر الأحمر لأن اليهود سيطروا على سيناء بالكامل .

كما أن مياه البحر الأبيض تحاصرها الزوارق الصهيونية .. أما مياه النيل فقد تعكرت بفعل " الصدمات " المتتالية للشعب المغلوب على أمره .وأدرك الناس أنه قد جاء الظمأ بعد أحلام الري الكاذبة .وقد أحال البعض مسئولية الهزيمة على أم كلثوم وإدمان الكرة أيامها .وأنهما وراء التعمية التي كان الناس يعانون منها في حقبة الخمسينات والستينات .. ولا نؤيد تلك النظرية .فرغم أن الدولة قد ذهبت في تشجيع الكرة وأم كلثوم لدرجة التطرف المتطرف ! ! .. ورغم أن النماذج المحببة لدى الشباب والقدوة كانت للفنانين ولاعبي كرة القدم .

ورغم إنشاء محطة إذاعية خاصة بأم كلثوم وإجزال العطاء وتسليط الأضواء على الفنانين عموما وانشغال القادة العسكريين برئاسة الأندية الرياضية .من المشير عامر إلى الفريق صدقي محمود وغيرهما .ورغم أن قدوة الشباب كانت من أمثال ريعوصالح سليم . . و يكن .. و الفناجيلي .. بدلا من عمر بن الخطاب .أو علي بن أبي طالب .. أو أسامة بن زيد .. أو حتى من النابهين أمثال أينشتاين .أو اديسون .أو الإخوان رايت .. أو العقاد , وباتت كل فتاة حلم حياتها أن تصبح كأم كلثوم .أو فاتن حمامة .أو هند رستم و نجوى فؤاد . . ورغم أن القيادة السياسية لم تقف في وجه هذا الطوفان الأعمى بل بذلت الطاقات من أجل تأصيله وخلق جيل لا يجيد من فنون الحياة والرقي إلا الرقص والتلوي والغناء و " الهيلا هوب " وفنون الترقيص " الكروي " من سبعات إلى ثمانيات ثم التويست .لدرجة وصول الاهتمام بالرياضة من خلال كرة القدم لدى قطاعات الشباب لما يصلح تسميته بالهوس .

رغم كل ذلك فإننا نؤكد أن كرة القدم وأم كلثوم خاصة والفن عامة من السطحية تحميلها أوزار النكسة رغم أن ريشتها قد عملت الأثر البالغ في لوحة الهزيمة السوداء , غير أنها كانت دليلا على انهيار الجبهة الداخلية بفعل الاعتقالات الواسعة وكبت الحريات السياسية وتكميم الأفواه والعقول أيضا .

فماذا يفعل الشباب إذا ؟ ! إنه إن ذهب إلى المسجد سيعتقل كما سبقه الآلاف .وإذا نشط عقله قليلا وأصبح له توجه سياسي معين فكان لا يسمح من الأفكار السياسية إلا ما تعتقده القيادة السياسية من عقيدة فكرية .وحتى إن فعل فعليه أن يكون حذرا واعيا للتقلبات الكثيرة للعقيدة السياسية المصرية حتى لا يتهم بمناصرة " صديق " قديم أصبح اليوم " ألد " الأعداء .. أو ربما يستمر في عداء " عدو " الأمس الذي أصبح الآن " رفيق درب " .أي أن القيادة السياسية كانت تريد ببغاوات أكثر من حاجتها لإنسان عاقل يفكر ويعلق ويناقش ويجادل الجدل المثمر المنتج للابتكار والإبداع .. لذا لم يجد الشباب الطريق مفتوحا دون رقيب إلا في الفن والرياضة .. ويا ليت القيادة السياسية تركت الرياضة والفن للشعب ليتقدم بهما .

لعل وعسى أن نفلح فيهما .بل تدخلت فيهما فلم يكن هنالك إلا الأهلي والزمالك وباقي الأندية كومبارس , والفن تدخلت الدولة بتأميم الاستديوهات والانحرافات الكثيرة التي قام بها رموز النظام بمشاركة بعض الفنانات .. فكان لزاما على الشباب – عدة أي أمة – أن ينزلق لطريق الهاوية والتردي أو أن يلزم الصمت المطبق على غالبية الشعب إلا عندما تصدر الأوامر في الدواوين والمدارس والجامعات للخروج لاستقبال هذا أو ذاك .أو التظاهر مؤيدين أو معارضين وفقا لخطط القيادة .إن هزيمة يونيه لها أبعادها الكثير والخطيرة سواء داخليا أو خارجيا .غير أن أهم عواملها بأمانة قد جاءت من الداخل .. عندما تاهت مصر بين الفرقاء الذين كانوا رفقاء .. عندما تلاعبت قلة منحرفة بمقاليد شعب ومستقبل أجيال وأحلام امة .عندما لم تجد البلاد العقلية الواعية القادرة على الدفاع عن هذا البلد الطيب , لقد تم تدمير الإنسان المصري قبل أن تدمر طائراته في الممرات .

لقد تم تخريب الجبهة الداخلية قبل أن تخرب الآلة العسكرية .لقد تم تبوير متاعب العقل والفكر قبل كل شيء .. إن المسئولية أمانة يتحملها النظام بأكمله من سفحه لقمته بل إن مسئولية قمة هرمه أكد وأعدل .. وإن كان لكل منا أخطاؤه فإن الخطأ يكون إجراما إذا تعدى ليشمل الناس جميعا بل الأجيال التي تتعاقب .وما تعانيه مصر الآن من مصاعب في شتى المجالات إنما هو بقايا أوزار الستينات .. وإن كان البعض يتحدث عن تطرف أو انحراف أو تفكك أسري أو انحلال أخلاقي في المجتمع المصري فإننا نرى بصدق أنه من جراء خطايا تلك الحقبة المرضية التي عاشتها مصر .أما الرياضة و الفن و تحميلهما من جانبنا بعض المسئولية عن الهزيمة العوراء .فلا يحسب لأحد أننا ضد الترفيه عن الناس أو من دعاة العزلة والكبت للمجتمع .بل ندعو فقط للوسطية في الأمور غير المصيرية .وعدم إشغال الناس بما لا ينفعهم ولا جدوى حقيقية منه فمن غير المعقول أن تعطي مهندسا أو عاملا في مصنع مائة جنيه كمرتب شهري وهو الذي ينتج ويفكر .في حين أن لاعب الكرة يتقاضاها في ساعتين .أو يكون ذلك المبلغ هو أجر لفنان أو راقصة في مسرحية أو مطرب في وصلة غنائية أيامها .إن حدوث ذلك يسوق الخلل والانقسام المميت للأمم .

فلم نعد نرى وقتها عالما يكرم بل ." العوالم " .ولا مخترعا يوليه النظام اهتماما بل .. " المخربون للأخلاق " .ولا مفكرا أو أديبا يتسابق هذا وذاك في تقديم الشقق الفاخرة أو السيارات الحديثة بل ينهال كل ذلك على لاعبي كرة القدم والغواني .بل إن الدولة كانت تطارد كل صاحب رأي أو فكر أو دين , حتى ابتعد الناس عن العلم والعلوم والمساجد أيضا .. وسادت مقولة إن الشهادة الجامعية لا تساوي شيئا إلا تعليقها فوق الجدار كذكرى لصاحبها عن ضياع ستة عشر عاما من عمره هباءا وأن عليه تعلم السباكة أو الكهرباء أو النقاشة أو قيادة سيارات الأجرة ليتكسب قوت يومه ويدخر لزواجه من أجل تحقيق ذاته اجتماعيا .أما الذين عاندوا الصعاب وقهروا تلال الروتين فهاجروا من البلاد لأخرى تحترم العقل الإنساني ومن قبله احترام الإنسان كإنسان له حق في الاختيار والتوجه والجدل والحوار وأيضا هاجروا لبلاد تعطي لكل شيء قدره .فالعمل مقدم على اللهو .وهناك يعملون بعقل . . ستة أيام ويريحون عقولهم في اليوم السابع ليلهون كيف ما شاءوا .ورغم الاعتراض على أسلوب اللهو لديهم إلا أنهم يفعلونه يوما في الأسبوع .أما نحن فقد أحلنا اللهو لأسلوب حياة وتساعدنا أساليب التعمية المحكمة على نهج هذا الخيار المريح للبدت والعقل أيضا .

ونعود لأم كلثوم بعد النكسة فقد طافت البلاد المصرية تغني وتجمع التبرعات للمجهود الحربي .وجابت العديد من العواصم الأوروبية والعربية لتوفير العملة الصعبة وتنازلت عن أجور تلك الحفلات الداخلية والخارجية لصالح المجهود الحربي لتقف بجوار مصر في محنتها وبجوار عبد الناصر الذي بدأت حالته النفسية تأخذ في السوء بعد الهزيمة إلى أن كان موعده لمغادرة الحياة في 28 سبتمبر 1970 وكانت وفاته صدمة لأم كلثوم شأنها شأن الشعب والأمة , وقد بكته كثيرا حتى ساءت حالتها الصحية والفنية معا . . حتى لاقت هي الأخرى ربها في 5 فبراير 1975 لتنتهي صفحتان من أهم صفحات مصر في القرن الماضي أثرتا على مقدرات مصرنا الغالية .وليطوي الثرى جثمانهما وقد كانت جنازتهما مهيبة متشابهة .غير أن الله تبارك وتعالى في غضون خمسة أعوام فقط أراد للبلاد شيئا آخر غير الذي كانت عليه .شيئا مخالفا لما أدمنه الناس من أشعار أو كلمات أشبه بالغناء .

.إن الناس قد يريدون إقامة واقع معين ويستعينون بكل الأسباب المؤدية لنجاح وضمان استمرارية الحدث المراد منهم .غير أن الله قد يتدخل – إن شاء – ويغير كل ذلك من جذره ومن حيث لا يحتسب أو يدرك المرء .. لتبقى حقيقة واحدة أبد الدهر .إن الله هو المسيطر وليس سواه .إن الله هو الباقي وليس سواه .وأن ما عداه فان مهما تعالت أصواتهم .ومهما برقت صورهم .ومهما أقام الناس لهم تماثيل وأحاطوهم بهالة من التقدير .فإن مصيرهم المحتوم .هو مواراة الثرى .وتستمر الحياة رغم أنف الجميع . .

الفصل الثامن عشر: الحياة الخاصة لعبد الناصر

لكل منا شخصيتان " الأولى الوجه الظاهر في تعاملنا مع " العامة " والثاني الوجه الذي نتعامل به مع الآخرين والمقصود ب " الآخرين " هم القريبون من أنفسنا وما يطلق عليهم " الخاصة " وأنت إذا كنت مسئولا في موقع ما أو لك منصب رفيع فإن تعاملك مع مرءوسيك لا يكون بنفس الأسلوب مع أصدقاء العمر , وهكذا الحال بالنسبة للقادة والرؤساء .

وإن كانت ظروف الحياة السياسية تختلف جذريا عن غيرها من أنماط الحياة العملية الأخرى , غير أن ما يجمع الكل هو " القالب " البشري الذي نشترك فيه , الزعيم مهما تعالت مرتبته إلا أنه " إنسان " له من شئون وشجون البشر كغيره تماما , ربما لم يتعرف الناس على عبد الناصر " الحقيقي " إلا بعد رحيله عبر أكوام المؤلفات التي دارت ماكينات الطبع لتنشر ما لم يكن معرفته في حياته مباحا . . سلبا أو إيجابا , وأيضا مواقفه الاجتماعية التي غابت عن أنظار العامة ولكن قد لتلك المواقف أن تعرف عن طريق " خاصة " عبد الناصر – وهم محدودون .

من هؤلاء كان السيد / صلاح الشاهد كبير الأمناء برئاسة الجمهورية , وهو أيضا الوحيد من حاشية وأتباع الملك فاروق الذي أبقت عليه الثورة يعمل معها , وقد حدث أن وجه دعوة للرئيس جمال عبد الناصر لحضور حفل زفاف كريمته , وقرر ناصر تلبية الدعوة , وقبل ميعاد حفل الزفاف المقام في منزل صلاح الشاهد بالدقي , حضر ضباط الحراسة الخاصة بالرئيس وخبراء المفرقعات لتأمين " الموقع " . . وبعد معاينة المنزل بدقة لفت نظرهم صورة معلقة على الحائط .. ! وقبل انصرافهم قالوا لصاحب المنزل : " عليك أن تخلع هذه الصورة من الحجرة التي سيجلس فيها الرئيس وألا تقدم له القهوة في تلك الفناجين لأن صاحب الصورة مرسوم عليها ومن غير المعقول أن يجلس الرئيس فتقع عيناه على هذه الصورة أو يشاهد صاحبها كلما اقترب الفنجان من فمه وسوف يغادر الزعيم فورا وتفسد ليلتك .. واحتار صلاح الشاهد من هذه التحذيرات المبالغ فيها , فصاحب الصورة لم يكن بن جوريون , ولا ليفي أشكول ولا حتى موشى ديان , كما ان صاحب الصورة لم يكن في لقطة إباحية تؤذي إحساس عبد الناصر , إن صاحب الصورة هو الملك فاروق ! ! .

وفاروق كان يخدمه صلاح الشاهد بوصفه من ضمن أعضاء ديوان الملك , صحيح البلد كلها منذ قيام الثورة وهي في مارثون تحطيمي لكل رموز الملكية وعلى رأسها فاروق بالطبع , وصوره في كل موقع وطئتها الأقدام والنعال , لكن صلاح الشاهد لم تكن من شيمته الغوغائية , كما أنه بعيد عن التيار الاستهوائي واتباع كل ناعق , فلقد كان في خدمة الملك وأخلص له ويعلق صورته لأنه يحبه لشخصه , قد يكون غير راض عنه سياسيا غير أنه يكن له التقدير إنسانيا , وجال بخاطره احتمال غضب عبد الناصر , أو ربما يدس له البعض لديه فيقع ما لا يحمد عقباه وقد يفسر ذلك على انه من أعداء الثورة وأنصار العهد " كما كان يقال أيامها " , وقد يطلق الصائدون في المياه العكرة لخيالهم العنان فيوحون للرئيس أن " الشاهد " من صلاح الشاهد ولاؤه للملك فاروق وأنه يدير خلية سرية تعمل على استعادة فاروق لعرشه الضائع , وقد .وقد .حتى ماجت الأرض من تحت قدم والد العروس , , لكنه التفت فجأة إلى كبير ضباط الحرس الجمهوري وحسم دورة القلق التي تلاعبت برأسه ليقول : " لن أخلع الصورة ولن أقدم القهوة في غير هذه الفناجين , عليكم أن تنقلوا موقفي هذا إلى عبد الناصر واتركوه يتخذ القرار الذي يراه " .

كانت هذه الكلمات أشبه بالكلمات المتتابعة بالنسبة لقائد الحرس غير أنه خرج مسرعا وكأنه قد وجد ضالته , لقد كان في تلك الأيام آفة " لوي " الحقائق . . وتزييف الواقع هواية لها كثير من المعجبين والرواد والأتباع , فما بالنا في رجل يتحدى الإرادة " الناصرية " ويعلن هذا , الأمر أسهل بكثير من كافة التقارير المفبركة والتحريات الكاذبة , ولا بد أن " وليمة " اتهامات ستنزل على " الشاهد " من أكثر من " شاهد " , وعلى الفور نقل قائد الحرس " عجرفة " صلاح الشاهد إلى الرئيس عبد الناصر , و " كيف يا أفندم وجدونا .

كذا .و كذا .. وللأسف فإنه قال كذا .. و كذا , ونحن ننقل لسيادتك الحقيقة كاملة وهناك من طاقم الحراسة غيري من أصمت كلماته آذانهم , ونحن في انتظار تعليمات سيادتك يا أفندم , غير أن المفاجأة الكبرى كانت في ابتسامة صغيرة على وجه " ناصر " وهو يأمر طاقم حراسته بالتأهب لمغادرة منزل المنشية , إلى حيث مقر إقامة صلاح الشاهد , (ماذا يقصد الرئيس من ذهابه لمنزل صلاح الشاهد , أتراه ليتأكد من وجود صورة الملك على الجدران وفي أقداح القهوة ؟ أم تراه يذهب ليقلب فرح " الشاهد " إلى مأتم ويضبطه متلبسا بالإدانة , وفي ثوان يصبح " الشاهد " ." غائبا " عن العيون والعقول والأفكار إلى حيث نعلم , لقد كنا ننتظر الأوامر من الرئيس بالقبض عليه فورا , ولكن لا بأس فبمجرد تأكد الرئيس بصدق كلامنا سيصدر لنا هذا الأمر , حسنا فلننتظر حتى وصولنا إلى " الدقي " ساعتها " يا داهية دقي " ) هذا بالتأكيد ما دار في خلد طاقم الحراسة الخاص بالرئيس ناصر .

ووصل ركب الرئيس إلى منزل والد العروس وبينما كانت العيون تتلهف رؤية جمال و هو يصعد إلى حيث القاعة المعدة في منزل صلاح الشاهد لإقامة حفل زفاف ابنته , كان صلاح الشاهد في صراع داخلي , أتراه قد أخطأ بإصراره على عدم نزع صورة فاروق من الجدران ومن أقداح القهوة , أترى عبد الناصر يتفهم موقفه وأن الأمر لا يعدو إلا أنه وفاء من رجل " تمتع " في خيرات الملك ورأى بعد خلعه أن الوفاء يتطلب منه وضع صورته التي نزعت من كل مكان لدرجة أن هناك فيلما شهيرا لنجيب الريحاني وليلى مراد وشاركهما أنور وجدي والموسيقار محمد عبد الوهاب كانت تظهر في إحدى المشاهد صورة الملك فاروق , فأصر " الرقيب الثوري " على خدش ومحو الصورة كي لا " تؤذي مشاعر الثوار , وتذكر " الشاهد " مشهد آخر يجمعه مع ناصر , وهو يدعوه لحفل زفاف ابنته هذا , فلقد ثار عبد الناصر من " توقيت " الزفاف لأنه يواكب نفس يوم إعلانه " للميثاق " وناصر يرى أنه من الواجب حضور زفاف ابنة كبير أمنائه , غير أن صلاح الشاهد تدارك الموقف قائلا " سوف نؤجل الحفل يوما أو يومين لتشريفي بالحضور يا سيدي الرئيس " , غير أن ناصر يرد قائلا " هل وزعتم كروت الفرح على المعازيم " , فيقول الشاهد نعم يا سيادة الرئيس " , فيقول ناصر " , خلاص .. البنت ذنبها إيه , زمانها عزمت زميلاتها وصديقاتها .

كما أن تأجيل الفرح " فال " مش كويس , اسمع يا صلاح عاوزني الساعة كام , فيرد صلاح الشاهد " اللي تشوفه يا ريس , خمسة .. ستة , فيقول عبد الناصر " اتفقنا " .

لاحت هذه الخواطر المتتابعة برأس صلاح الشاهد – كشريط سينمائي – بسرعة كبيرة بينما كان يتأهب لشرف استقبال " رأس الدولة ورمزها , ودخل عبد الناصر إلى الصالون المعلق فيه صورة الملك فاروق على جدرانه , وأشار عبد الناصر للشاهد أن يجلس إلى جواره ومعه أعضاء مجلس قيادة الثورة , وهمس عبد الناصر لصلاح الشاهد في أذنه وقال : " على فكرة يا صلاح حكوا لي حكاية الصور دي وفناجين القهوة , وأنا عارف أد إيه إخلاصك للملك ولو كنت وافقتهم كنت هتغير رأيي فيك لأنك لو شيلتها هيجي يوم وتشيل صورتي أنا كمان , لو كان عندي صورة من فاروق زي دي وموقع لي عليها بخطه وإهداء ظريف زي ده مكنتش هفرط فيها " , كانت تلك الكلمات الواعية كفيلة في إزاحة الجبال من على أكتاف صلاح الشاهد , وكانت كافية أيضا " لإخراس " الوسواس الذي ظل يتلاعب به طوال الوقت , وسريعا استعاد ذاكرته التي فقدها من التحذيرات والتنبيهات التي سمعها من طاقم حراسة الرئيس , وتذكر الشاهد أنه يعلم مدى إعجاب عبد الناصر بفاروق بل وحبه له ؟ صحيح كان له رأيه أن فاروق سيء الإرادة ولكنه معجب به لشخصيته وشمائله الأخرى , أما " ضجيج " الحديث عن سلبيات وفساد فاروق فهو من ضروريات التغيير " الثوري " , ورغم ذلك كان ناصر من القلائل الذين عارضوا قتل فاروق – إن لم يكن الوحيد – وأثر نفيه وخروجه مكرما تطلق له المدفعية طلقاتها الإحدى والعشرين تحية إكبار وإجلال له , تذكر الشاهد هذا فلعن الظنون والهواجس التي كادت أن تفسد عليه أغلى ليلة في عمره , ليلة انتقال ابنته إلى " القفص الذهبي " بينما طاقم الحراسة يتعجبون من مرور الموضوع مرور الكرام , وتعجبوا وناصر يطيل النظر إلى صورة فاروق ويعيد التدقيق في علامات موحية على الصفاء والود , بل طاش صوابهم وناصر يرشف من أقداح القهوة باسما وهو يقلبها وهي مرسوم عليها " صورة الطاغية .. ورأس الفساد " .

إن هذه القصة لعبد الناصر مع أحد " خاصته " تبرهن على سعة أفق عبد الناصر وتبرهن في الوقت نفسه على " غرام " بعضهم بالصيد في الماء العكر وافتعال الأزمات والدسائس دون وجود أثر لها , لقد كان البعض – كما في كل زمان – ملكيون أكثر من الملك , وناصريون أكثر من عبد الناصر , لقد حاولوا إفساد كل صالح , وإظلام كل منير , وتعكير كل صفو , ففشلوا مرات ونجحوا مرات , وتبقى العظة ترشد وتهدي كل مسئول , في عدم الاستسلام للوشاية , وضرورة عدم الإصغاء لكل الألسنة .

ومن ناحية أخرى تكشف لنا عن " سر " ظل صامتا , وهو إعجاب عبد الناصر بالملك فاروق , وكيف أنه – على غير المعلن عنه – دافع عنه لخروجه آمنا من مصر , وتكشف لنا تلك الواقعة أيضا على أن اللعبة السياسية قد تدعو عند الضرورة إلى معاداة " الحبيب " إذا كان لا سبيل آخر " للبقا " غير ذلك , ويكون السياسي في هذا الموقف كالذي يجري استئصالا للوزتين أو الزائدة الدودية .يقطع جزءا من جسده ليتعافي باقي الأجزاء , ومن منا يريد استئصال اللوزتين أو الزائدة الدودية إلا عندما يستحيل الحياة بوجودهما , ولكن نظل متذكرين أنه كانت توجد " لوزتين " أو زائدة دودية في جسدنا يوما من الأيام .

وقد حدث هذا للرئيس عبد الناصر مرتين , الأولى عندما تحتمت الظروف إقصاء الملك فاروق عن الحكم من أجل مصلحة البلاد , رغم شغفه به , والمرة الثانية عندما لم يعد هناك إلا " إقصاء " عبد الحكيم عامر الصديق والرفيق عن دائرة السلطة رغم ما اشتهر عن عمق الصداقة والمحبة التي جمعت بينهما , و في المرتين كان لا بد من التدخل " الجراحي " لإنقاذ ما يمكن إنقاذه , وهكذا هي الحياة والسياسة .. تجبر الإنسان على ارتداء قناع ما لظرف ما , قد يبدو للعامة بمفهوم ولكنه بمفهوم آخر لدى الخاصة كما أشرنا من قبل .

قصة أخرى لعبد الناصر مع أحد وزرائه

وهو المرحوم فتحي رضوان أيام كان وزيرا للمواصلات فيقول :

" كان جمال عبد الناصر خلال الفترة التي عملت فيها وزيرا سمح الخلق , واسع الصدر , وهو في مجلس الوزراء والمؤتمر المشترك لا يكاد يتكلم تأييدا و لا معارضة على عكس ما صار إليه الأمر حين أصبح رئيسا لمجلس الوزراء وأصبحت الأمور كلها في يده , عندما أصبحت جلسات المجلس استماعا له فقط , يتكلم هو و الباقي صامتون , ويأخذون الملاحظات ويتلقون التوجيهات فإذا ما أراد أحدهم أن يعلق أو يتكلم كان عليه أن يطلب الإذن بالكلام , لقد كانت هذه إحدى شمائل سلوكيات عبد الناصر , لقد كان يريد أن يعامله الجميع كما كان يتعامل مع رؤسائه , من طاقة وتقدير مبالغ فيه , فنرى عندما كانت عضوا بالمجلس ينصت ويتلقى التعليمات , فلما أصبح رئيسا أحب أن ينصت الجميع ويتلقوا تعليماته كما كان يفعل .

ويكمل فتحي رضوان ذكرياته مع عبد الناصر :

كنت في تلك الليلة وزيرا للمواصلات وعرض الرئيس جمال عبد الناصر على المجلس موضوع فتح اعتماد بمبلغ كذا ألف جنيه لمواجهة مصروفات عيد الثورة : فقلت – الكلام لفتحي رضوان – بهذه المناسبة أنا أريد أن أشير إلى أن الأخوين الصاغ عبد الله طعيمة والصاغ إبراهيم الطحاوي " وكانا أميني الاتحاد القومي وقتها , قد أذاعا على أعضاء التنظيم السياسي في طول البلاد وعرضها أن من الممكن القدوم إلى القاهرة من سائر أنحاء الجمهورية وأطرافها على قطارات السكة الحديد بتخفيض قدره 75 % من الأجر الرسمي بشرط إبراز بطاقة الدعوة إلى حضوره المؤتمر العام , وان سلطات السكة الحديد استغاثت من هذا القرار الذي لم تستشر فيه ولفت النظر إلى النتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على زحف عارم كهذا على إمكانيات النقل المحدودة وبمثل هذه الخسارة الرهيبة على مرافق النقل وبمثل هذه السهولة التي تتجلى في مجرد إبراز بطاقة دعوة مطبوعة على ورق خشن , ويمكن اصطناعها بسهولة لأنه لا يميزها أي علامة خاصة أو أختام يصعب تقليدها وأفضت في شرح هذا المعنى , فإذا بعبد الناصر يرمقني بنظرة احتياج مندهش , ويتساءل .

إيه المناسبة ؟ إحنا بنتكلم عن اعتماد مصروفات عيد الثورة السابق فأنت موافق على الاعتماد ولا مش موافق , هذا السؤال لا دخل له بتذاكر الدعوة التي يثيرها دون مناسبة وبدون علاقة بالموضوع المعروض ؟ وفاجأتني هذه اللهجة التي لم أكن أعهدها فيه , ولم يكن غيري من الوزراء يعهدها فلم أرد في الحال .. ثم قلت : المناسبة إننا في صدد الاحتفال بعيد الثورة , فقال : لكن الموضوع مش عيد الثورة , الموضوع فتح اعتماد مالي , ثم تصاعد غضبه فقال : " يعني أنت عاوز تحرجني , عاوز تعمل من الحكاية دي موضوع تعرضه على مجلس الوزراء يمكن يا أخي أن أعطيتهم وعدا ويمكن هذه الإجراءات أنا موافق عليها فاتفضل اعرض وخد الرأي وكرر نفس العبارة عشر مرات تقريبا , فلم أرد .. فاستثاره صمتي , وعاد يكرر نفس العبارة , ثم أشعل سيجارة بطريقته العصبية المركزة التي كانت تلازمه عند الغضب وقام مطرقا وغادر قاعة الاجتماع دون أن يعلن رفع الجلسة ! !

وقمت على الفور في هدوء أجمع أوراقي وأضعها في حقيبتي وقد ساد الاجتماع وجوم شديد , لما هممت بالاتجاه ناحية الباب توطئة لمغادرة مقر مجلس الوزراء اتجه نحوي وقال لي جمال سالم : ما تزعلش أصله لم ينم الليلة اللي فاتت ولا دقيقة , واقترب مني نور الدين وهمس في أذني واضح أن الموضوع نفسه كان معروضا على مجلس قيادة الثورة , ويظهر أن رأي المجلس كان من رأيك , فأنت وضعت يدك على الجرح ؟ ولم أعقب – سرت في اتجاه الباب – وإذا بصلاح شاهد يأتي لاهثا , فيقول الحمد لله لقيتك , الريس قال لي أحصلك على الباب وأرجعك بأي طريقة , واصطحبني صلاح الشاهد إلى حجرة جمال عبد الناصر رحمه الله , ما كدت أدخل حتى عانقني وبدا عليه تأثر شديد , وتوالى دخول الضباط أعضاء مجلس القيادة , وكان أكثرهم وزراء عسكريين , وتبارى كل منهم في تطييب خاطري والاعتذار لي , وختم الرئيس عبد الناصر هذه الباقة من الكلام الطيب بأن قال لمن حوله : " كفاية كدة الاجتماع , فضوا جلسة المجلس " ثم التفت ناحيتي وقال لي : الساعة 11 صباح غد أنا عاوزك , إوعى ما تجيش , وفي الصباح ذهبت إليه في الموعد المحدد فأمسك بسماعة التليفون وطلب الصاغ عبد الله طعيمة وقال له : يا طعيمة اللي يقوله السيد وزير المواصلات يمشي , ويبدو أن طعيمة قال من على الطرف الآخر من الخط التليفوني : إن التعليمات وصلت فعلا إلى سائر أنحاء لجان الاتحاد القومي , فإذا ألقيناها فإن الناس مش حتيجي الاجتماع الكبير فرد عبد الناصر قائلا : يا سيدي إن شاء الله عنهم ما جم .

قصة أخرى لعبد الناصر مع الوزراء

ويروي الدكتور البرلسي في مذكراته أنه كان من التقاليد المتبعة للرئيس جمال عبد الناصر أن يجتمع لفترة من الوقت مع الوزراء بعد أداء اليمين الدستورية , وقد اجتمعنا مع الرئيس يومها في مكتبه بقصر القبة لمدة ساعة ونصف , وكان الموضوع الرئيسي في اللقاء هو موضوع المشكلة السكانية , وضرورة بذل المزيد من الجهد لوضع خطة قومية للحد من المعدل المرتفع للتزايد السكاني , وقال عبد الناصر لحافظ بدوي إنه يبني عليه بالذات أمالا عريضة في إقناع الناس بتحديد النسل , ولا أذكر بالضبط من الوزراء الجدد الآخرون الموجودون في الاجتماع , وفجأة قال الدكتور عبد العزيز كامل للرئيس عبد الناصر : إن خير وسيلة لإقناع الناس بتحديد النسل هي صورة الوزير الجديد , وهو جالس بين أولاده وبناته الأحد عشر ! فسأل عبد الناصر بدهشة : هذا صحيح يا سيادة الرئيس , وكلهم يدعون لك ومؤمنون بمبادئك , وقد أنجبتهم في أيام الخير , أما الآن .. , فقاطعه الرئيس ضاحكا : حتقول كده للناس في تنظيم الأسرة : لا يا سيدي نشوف وزير تاني معندوش القبيلة دي .وتم الاتفاق على انتقال الأشراف على الدعوة إلى تنظيم النسل إلى وزارة الصحة وكان حافظ بدوي وبناته الإحدى عشرة هم السبب في ذلك .

قصة أخرى

كان الرئيس عبد الناصر ضحية – أحيانا – لأخطاء " الآخرين " الذين التفوا حوله كخيط العنكبوت , يتكلمون على لسانه دون أن يقول , ويصدرون الأوامر باسمه دون أن يعلم .وما إلى غير ذلك من الأفعال التي مست وطالت الرئيس عبد الناصر دون أن يعلمها , من بينها حادثة مهاجمة الملك فيصل عاهل المملكة العربية السعودية الراحل , لمصر والرئيس جمال عبد الناصر شخصيا , فما كان من " ناصر " إلا أن تملكته الدهشة وغلب عليه الاستنكار من هذا الهجوم الحاد خاصة وهو لا يعرف سببا له , ولما كان عبد الناصر يعلم عمق العلاقة التي تجمع كبير أمنائه برئاسة الجمهورية صلاح الشاهد وبين الملك السعودي , فطلب منه تفسير هذا السلوك السعودي الغريب ؟ فأوضح صلاح الشاهد لعبد الناصر أن هذا الهجوم " الفيصلي " له مبرراته و هو عبارة عن ردود لأفعال قامت بها بعض الجهات الحكومية في مصر .. !

وزاد الأمر عبد الناصر دهشة واستثارة فاستوضح المزيد من المعلومات , فأفصح كبير أمناء رئاسة الجمهورية له أن هناك تصرفات عديدة تمت ضد الملك السعودي كان آخرها الاستيلاء على قطعة أرض مملوكة للملك فيصل ملك السعودية في مصر وهي على النيل بالدقي وتمت إقامة فندق شيراتون عليها , وكذلك تم الاستيلاء على قصر زوجته ويقيم به الآن الملك سعود ملك السعودية السابق والذي خلعه الملك فيصل الملك الحالي, كانت الواقعتان اللتان ذكرهما صلاح الشاهد كبير امناء رئاسة الجمهورية للرئيس عبد الناصر كافيتين لإخراجه من الدهشة من الهجوم الفيصلي عليه وعلى مصر , ولكن في الوقت نفسه أدخلت ناصر لتيار آخر من علامات الاستفهام , لذا بادر قائلا " غريبة .شعراوي جمعة حينما أخبرني أنه أنزل الملك السعودي بأحد القصور لم يخبرني أنه قصر زوجة الملك فيصل .. " ودخل عبد الناصر في حالة من الصمت والذهول لم ينقذه منها إلا وصول نبأ وفاة الملك سعود بعد ذلك بأيام فبادر على الفور باستدعاء صلاح الشاهد وطلب منه كتابة اعتذار شخصي للملك فيصل يعلمه فيه أن الاستيلاء على قصر زوجته تم دون علم عبد الناصر , واستدعى عبد الناصر بعدها مباشرة شعراوي جمعة وأمره بعدم السماح لأي شخصية من دخول القصر مهما كانت حتى يأتي أصحاب القصر ويستلموه وتفسر لنا هذه الواقعة أن هناك " أصابع خفية " أدمنت التشويه لشخصية عبد الناصر بل وإدخاله في صراعات " غامضة " تسيء إليه وتجلب عليه الخصومات المتعددة داخليا وخارجيا , لكن الغريب في الأمر هو عدم معاقبة عبد الناصر لمن يتسبب في وقوعه في هذه الخصومات , فقد كان من الواجب – عرفا – أنك إن تعرضت لأي متاعب من شخص ما أن تحترس منه إن كنت في موضع لا تستطيع معاقبته , أما إذا كنت صاحب القرار الأول في البلاد فإن تركك له يعتبر موافقة ضمنية لما قام به من " مشاغبات " وهذا ما يتضح من الرواية التالية .

قصة أخرى

رفعت التقارير الصادرة من جهاز المخابرات إلى الرئيس جمال عبد الناصر ما تتضمن أن الدكتور رمزي استينو وزير التموين يصدر التصريحات كما يشاء بخصوص استيراد الأقمشة الحريرية من فرنسا مخالفا بذلك اللوائح والقوانين المعمول بها , وبعد قراءة التقارير المرفق معها قطعة قماش مكتوب عليها بالحروف اللاتينية " صنع في فرنسا " استدعى ناصر أحد المسئولين وقال له : إن هذا النوع من القماش يباع في محل بشارع قصر النيل , وأطلعه على إعلان منشور بجريدة الأهرام يبين أن المحل المذكور يقوم ببيع الأقمشة المستوردة – الممنوع التعامل بها في هذا الوقت – وطلب منه إجراء التحريات اللازمة لاستجلاء حقيقة الأمر , وحينما ذهب " رجل عبد الناصر " للمحل , كان صاحب المحل يعرفه جيدا ورحب به , وأوهمه " رجل الرئيس " أنه يريد منه قماشا حريريا يصلح كفستان من الأقمشة الفرنسية الموجودة لديه " طبقا لقطعة القماش التي أعطاها له الرئيس عبد الناصر " , لكن صاحب المحل قال له : إنه لا يبيع الأقمشة الفرنسية المستوردة , فلما سأله عن العبارة اللاتينية المكتوبة على القماش والتي تثبت أنه " صنع في فرنسا " كانت الإجابة بأن صاحب المحل يحصل على الحرير المصري الخام ثم يقوم بإرساله عن طريق الجمارك إلى فرنسا حيث يتم إعادة تجهيزه وصبغه وطبعه ثم يعاد إليه من فرنسا مرة أخرى , وعاد " رجل الرئيس " إليه وأخبر ناصر بالحقيقة الكاملة وكيف أن تقرير المخابرات هذا ما هو إلا " فبركة " كيدية الغرض منها الإساءة إلى الوزير " استينو " والوشاية به , فعلت على وجه عبد الناصر علامات الدهشة والذهول وقال بالحرف الواحد : " نحن نعاني أزمة أخلاق , هل أحضر ملائكة لتعمل معي دون أن تكذب أو تظلم أو تلفق تهمة لوزير تريد ان تتخلص منه , إنني سأعاقب هذا الضابط .

وبعد هذا كانت المفاجأة أنه لم تمتد يد المعاقبة للضابط المذكور , بل بعد مرور عام على هذه الواقعة تمت ترقية هذا الضابط إلى منصب من أعلى مناصب الدولة .

تعليق

ربما لانشغال الرئيس عبد الناصر بأمور الدولة المتشعبة والخطيرة , كانت تفوته مثل هذه " الأمور الرخيصة " لكن تثبت الحادثة أن هواة الدسائس كانوا من المحيطين به وإن كانوا يفعلون ذلك في الأمور " التافهة " فما بالنا بجسام الأمور وعظيمها " .

وأيضا حادث آخر " كيدي " وقع فيه أحد أتباع الرئيس عبد الناصر , مرفوع له من " الجهات المختصة " وبطل هذا الحادث سكرتير ناصر الخاص محمود فهيم , ويتلخص الموضوع في أن الرئيس عبد الناصر قد أهداه سيارة مهداة له من الرئيس اليوغسلافي " تيتو " , وذات يوم تم استدعاء محمود فهيم إلى مكتب الرئيس عبد الناصر وحين دخل محمود فهيم وجد الرئيس في قمة ثورته وتنم قسمات وجهه أنه في أعلى مراتب الغضب , وعلى الفور سأله بلهجة حادة : " أين السيارة التي أعطيتها لك ؟ فرد محمود فهيم : " موجود يا سيادة الرئيس , غير أن عبد الناصر أكد : " لا ... ليست موجودة يا فهيم .لقد بعتها .. ! وارتبك محمود فهيم سكرتير عبد الناصر غير أنه تماسك ليدفع هذه التهمة عن نفسه وقال : " كيف أبيعها يا أفندم وهي الشيء الوحيد الذي أفاخر به أمام الناس .. إنها الآن مع زوجتي وأستطيع إحضارها لك بالتليفون " .

ارتاح عبد الناصر من كلمات سكرتيره , وبدأت التجاعيد التي كانت على جبهته تعرف طريق الارتخاء , وأعطى سكرتيره إشارة تعني إمكانية انصرافه دون أن ينطق بكلمة واحدة , غير أنه يبدو عليه أنه اقتنع بمبررات سكرتيره . . وبعد أيام قليلة تم استدعاء محمود فهيم ثانية إلى مكتب الرئيس عبد الناصر والذي وجده معتدل المزاج على النقيض من المقابلة الماضية وقال له " أنا آسف يا فهيم , لقد كنت ضحية وشاية سخيفة قام بها أحد الحاقدين " , وأفهمه ناصر أن " البعض " قدم له تسجيلا لنص مكالمة هاتفية بين شخصين من الذين تعرضوا لفرض الحراسة من جانب الثورة على أملاكهم , وقال أحدهما للآخر في هذه المكالمة إن محمود فهيم سكرتير الرئيس باع سيارة الرئيس ووضع ثمنها في جيبه , ولكن بعد التحريات التي قام بها ناصر بنفسه ثبت له كذب الوشاية وأنها لا تخرج عن كونها " صيدا في الماء العكر " قام بها البعض لشغل الرئيس عبد الناصر ووضعه في دوامة الدسيسة والمؤامرات والوقيعة حتى على أعضاء سكرتاريته والمقربين به , لا لشيء إلا رغبة منهم في إزاحة الجميع من حوله والانفراد به وحده كي يقوموا بالسيطرة على مقاليد الأمور كيف شاءوا , وقد نجحوا للأسف في كثير من مسعاهم الحقير , وفرقوا بين الرئيس وأغلب المخلصين إليه , ولقد كان عبد الناصر يعرف ذلك أو يضع ربه خاصة إذا تعلق الأمر بالمقربين له , وعلى جانب آخر كان – فريق الدسائس – لا ينقلون إليه سقطات حقيقية لأتباعهم , ولكن كان يكتشفها عبد الناصر بذكائه الرهيبة , من مكتبه بشارع قصر العيني , وكان عنصر المفاجأة والسرية هما سلاح عبد الناصر في التأكد من ريب يصده " تجاه هذا " المساعد الكبير " , في هذه الأثناء كان " المساعد " مع بعض أصدقائه في جلسة يغلف أجواءها الدخان الأزرق المتصاعد من السجائر المحشوة , وأسرع حرس الرئيس لإخطار " المساعد " بخبر قدوم عبد الناصر المفاجيء , فتسابق الجميع في إطفاء السجائر وفتح النوافذ والتخلص من آثار الجريمة , وانصرف الأصدقاء ودخل الرئيس بوجه غاضب ونظرته الحادة تمسح أرجاء المكتب , فبالرغم من إخفاء " المساعد " لبقايا جلسة " الأنس " إلا أن عبد الناصر شعر بوجود شيء كان يدار , وقال بحدته المعهودة , أنا لا أفهم في المخدرات , لكن الرائحة التي أشمها لا أشك لحظة في أنها حشيش , اسمع سأعتبر الأمور منتهية لو لم يتكرر مرة ثانية , أما إذا تكرر فسوف آمر بقتلك ونقول للناس أنك انتحرت .. . !

في مجال تعرضنا لعلاقات عبد الناصر بالآخرين جرت تلك الواقعة لأحد المقربين منه , ولم تكن تلك الشخصية ارتبطت بناصر ارتباطا عابرا أو كانت وليدة العمل الثوري أو السياسي , فقد كان بطل تلك القصة هو " عمه " الحاج " خليل " , ولنرجع قليلا لنبدأ الحكاية من أولها , عقب العدوان الثلاثي عام 1956 وبعد إلقاء ناصر خطابا من خطبه الحماسية الثورية التي اعتاد عبد الناصر إلهاب المشاعر فيها , أعلن عن بدء جمع التبرعات بغية شراء أسلحة تعين مصر في صد أي عدوان عليها , وبالفعل أثمرت تلك الدعوة عن جمع 1035 مليون جنيه , وهو رقم كبير في هذا الوقت , على جانب آخر كان هناك رجل أعمال سعودي وهو في نفس الوقت من الوزراء المقربين للحكومة السعودية وهو الشيخ حسن الشربتلي , وحدث أن ألف لجنة بالمملكة لجمع التبرعات التي دعا إليها الزعيم عبد الناصر , وبلغ إجمالي التبرعات السعودية مليون جنيه أخرى , فأعجب به عبد الناصر وأشارت الصحف وأشادت بوطنيته وحسه القومي وتمت دعوته لمصر ومقابلة الرئيس جمال عبد الناصر الذي قلده وسام الجمهورية , ولكن صورة واحد من أكوام الصور التي امتلأت الصحف بها ومجلات تلك الأيام أقامت الدنيا ولم تقعدها , فلقد كانت صورة الوزير الشربتلي وإلى جواره الحاج خليل عم الرئيس عبد الناصر وتحتها تعليق ينبيء بأن تعاونا تجاريا سوف يتم بين الحاج خليل حسين ووزير الدولة السعودي , طار عقل عبد الناصر من تلك الصورة وأصدر أوامره الفورية بضرورة القبض على عمه واعتقاله , كان ناصر يخشى رد الفعل الجماهيري من جراء الصورة وكيف يمكن أن تستغله الدوائر الإعلامية لدى الغرب وخاصة أمريكا وبريطانيا في تشويه النظام الاشتراكي التقدمي الذي يسير ويدعو إليه ناصر في كل مناسبة مهاجما الإمبريالية البريطانية والرأسمالية الأمريكية , لذا فقد عادت طوابير الوساطة الرسمية والعائلية التي تدخلت لدى عبد الناصر للإفراج عن عمه الحاج خليل , وعادت بخفي حنين إلى أن استغل كبار المقربين لعقل وقلب عبد الناصر مناسبة الإعلان عن وقفة عيد الفطر المبارك وألحوا عليه وهم يهنئونه بالعيد أن يعيد الفرحة والبهجة إلى منزل عمه الحاج خليل ذلك المنزل الذي احتضنه صغيرا , ويكفي عمه أن الدرس كان قاسيا وأمام الإلحاح قال ناصر وهو يصعد سلم الطائرة متوجها للهند " فرجوا عنه وأمري لله " .

ولم تكن تلك هي المصادمة الأولى بين ناصر و عمه فقد حدث أن أمر حراس بيته بعدم السماح لعمه بزيارته أو دخول المنزل أو مجرد الاقتراب منه , لا بد أن هناك لغزا آخر فعله هذا " العم " والموضوع هو أن عم الرئيس كان متزوجا من سيدة فاضلة ولكنها كانت محرومة من نعمة الأمومة أي لا تلد , ولما تأكد عم الرئيس من عقمها تزوج بأخرى شابة صغيرة , فثارت الزوجة وتحركت الأنثى وتركت له المنزل وهرولت لمنزل عبد الناصر , كيف لا وهي التي ربته صغيرا وحنت عليه وعوضته شيئا ما عن حنان الأم لدرجة أنه كان يناديها " ماما " .. لذا اعتبرته ابنها الذي حرمتها الأيام منه , ولا عجب أيضا في أن ترتمي بين ذراعي عبد الناصر وهي جاهشة بالبكاء وتقص عليه " نزوة " عمه وتزوجه بأخرى بعد طول العشرة ورحلة العمر التي قاربت شمسه أن تغيب , تأثر عبد الناصر من الحالة النفسية الصعبة التي عليها " أمه " وكيف أن أفعال عمه غير المسئولة تسبب له دوما المشاكل وتحاصره بالقلق , ولكنه أراد أولا تطييب خاطر زوجته وأولاده وقال : " من اليوم زوجة عمي هي الست الكبيرة في هذا المنزل , كلمتها هي المطاعة وأوامرها تنفذ بالحرف , أما عمي فسوف أصدر تعليماتي تعليماتي للحرس بألا يدخل هذا البيت أبدا والحاجة فيه , كانت تلك الكلمات بمثابة البلسم الشافي الذي هبط على جراح الزوجة المصابة في كرامتها , وبالفعل عندما أدرك عم الرئيس أن " الموضوع " قد وصل إلى منشية البكري , علم أن الدنيا ستنقلب عليه , فلما حاول الوصول لابن أخيه " رئيس الجمهورية " تم منعه أكثر من مرة , لقد كان يحاول شرح ملابسات هذا الزواج لعبد الناصر وكيف أنه لم يرتكب جرما من هذا الزواج , فالشرع يبيحه , وكيف أن الأيام تمر عليه وتوشك صفحاتها أن تنقضي وحتى الآن لم يرزق بابن يخلد ذكراه في هذه الدنيا خاصة أن سبب عدم الإنجاب لا يرجع إليه بل إلى زوجته التي تحمل معها أكثر من عشرين عامة من الحرمان من نعمة الإنجاب , وكان ينوي تكملة المشوار معها دون أن يتخذ لها شريكة في حياته غير أن مشاعر الأبوة وحلم الإنجاب والذرية ظل يفترسه إلى أن خارت مقاومته , فابتغي الزواج على سنة الله ورسوله , غير أن زوجته لم يشفع له عندها كل هذا وتركت المنزل , ولما بلغ بالعم مبلغ اليأس من لقاء عبد الناصر أسرع في فراق الزوجة الشابة الجديدة , وتم الطلاق بينهما إرضاء لعبد الناصر , ولكنه لم يتمكن أيضا من رؤية ابن أخيه , حتى دخلت على ناصر زوجة عمه ذات ليلة وتلعثمت كلماتها أمامه , فأدرك عبد الناصر بفطنته أن هناك أمرا تخجل منه " أمه البديلة " وحدثته نفسه في أنه ربما أساء إليها أحد ما دون أن يدري , أو ربما حدث موقف أساءت تفسيره لذا دعاها على الفور في حنان أن تخرج ما انحشر في صدرها وكشفه وجهها , فتشجعت وقالت : " سامحه بقى يا جمال .. ما هي برضه عشرة عمر وأنا كنت زعلانة ليروح مني وهو رجع برجليه سامحه يا ابني عشان خاطري " .

وأدرك عبد الناصر أن ما تم جمعه في أكثر من عشرين عاما لم يكن حادثا عابرا أو نزوة يمكن اقتلاعها بسهولة , فسمح لعمه أن يدخل فور مجيئه مرة أخرى , وبالفعل جاء العم كعادته وتهللت أساريره عندما تم السماح له بالدخول واعتذر بحلو الكلام , وقبل ناصر الاعتذار وأوصاه خيرا بزوجة عمه , ورجعا معا إلى الإسكندرية بعد طول الخصام .

وإن كان لنزوات الحاج خليل عم الرئيس عبد الناصر نصيب في تعكير صفوة بناء على شكوى زوجة عمه إليه , فإن الشيخ أحمد حسن الباقوري قد أصيب من جراء النزوات هذه ولكن دون أن يقدم عليها , بل نسجت له بإحكام ودقة وتم تقديمها لعبد الناصر من البعض .

وتبدأ الحكاية عندما حضر لمكتب الشيخ الباقوري وقت ما كان وزيرا للأوقاف ضابط بالمخابرات وبصحبته فتاة جميلة , ليطلب هذا الضابط مائتي جنيه شهريا من أموال أوقاف المسلمين كإعانة " لساحرة الجمال " في الوقت الذي كان فيه من تؤمم أموالهم يتقاضون إعانة عشرين أو ثلاثين جنيها على الأكثر من الحكومة , ولم يترددالباقوري في نهر الضابط الشهم الساعي في " الخير " وأفهمه أن أموال المسلمين لا تهدر للغواني والحسان السيئات السلوك , فغادر الضابط متوعداالباقوري في نفسه أن يرد له " الدرس " ولكن بالطريقة التي يتقنها رجل المخابرات هذا , وبعد أيام طار تقرير للرئاسة يحمل اتهامات للباقوري بالانحرافات الجنسية وعلاقاته بنجمات السينما وفاتنات المجتمع , ونظرا لشغف عبد الناصر بالتقارير وولعه بها , فقد اقتنع بما تحويه فور عرضها عليه وقرر إقالةالباقوري من وزارة الأوقاف وحدث من كان حوله قائلا : " أدي اللي افتكرته موسى طلع فرعون " , وكانت الألسنة قد دارت وحاصرتالباقوري شائعة وقوعه أسيرا لغرام وعشق الفنانة لبنى عبد العزيز , وعلى الرغم من بعد المسافة التي تجمع التيارين إلا أن " التقارير المفبركة المتقنة " والخبرة الواسعة التي تكونت لدى المحيطين بناصر في مجال الوقيعة والمكائد قد أحكمت حلقاتها حولالباقوري , فآثر الانزواء داخل بيته ولحقته الأمراض الناجمة عن القلق الذي عاش فيه , إلى أن علم عبد الناصر – أيضا – بأن الأمر لا يتعدى الوشاية الكاذبة البعيدة كل البعد عن أرض الواقع , وعبثا حاول ناصر إعادته إلى منصبه وكرسيه بباب اللوق , غير أن الأخير رفض وأصر على موقفه , وكنوع من جبر ما كسره – البعض – تم تكليفالباقوري برئاسة جامعة الأزهر , ولكن لعلم ناصر بأن للباقوري رأسا حجريا , فلقد وضعه أمام الأمر الواقع عندما استدعاه للمقابلة في تمام الثانية والنصف ظهرا في أحد الأيام , وهو نفس توقيت إذاعة نشرة الأخبار في إذاعة القاهرة , التي تصدر أنباءها خبر تعيينالباقوري رئيسا لجامعة الأزهر , ليسد عبد الناصر السبل أمام الباقوري في أن يعتذر أو يرفض .

في حياة الناس نقاط مركزة تشبه إشارات المرور منها الأخضر الموحي بالذكريات السعيدة والآمال الطيبة للغد , وأخرى صفراء بلون أحداثها أو ترقبها ونقاط حمراء عن المواقف الحرجة التي مرت أو يمكن أن تمر بها مستقبلا , والزعماء كذلك لديهم هذه الألوان وربما أكثر من غيرهم لكثرة ما يتعرضون له في حياتهم سلبا وإيجابا ولقد ارتبط ناصر في إحدى نقاطه الحمراء " بمعروف الحضري " , وهو فدائي جسور لم تفلح أي سلطة – حتى سلطة شهوة النفوذ – أن تجره ليرتع في ملعبها كما فعل آخرون .. لم يقدموا لأمتهم ولا لبلدهم معشار ما قدمه معروف الحضري , فقد كان ضابطا بالجيش المصري وعضوا بارزا في تنظيم الضباط الأحرار , وشارك في حرب فلسطين عام 1948 وكون مع زملائه كمال الدين حسين وحسن فهمي عبد المجيد فرقة بعدما استقالوا من الجيش – وكان يقودهم الشهيد البطل أحمد عبد العزيز .. وبعد أسابيع – تجاسرت القوات العربية وقررت الدخول في حرب فلسطين وأعادت الضباط المستقيلين إلى صفوفها .. وأصيب " الحضري " بإصابات بالغة اضطر على أثرها أن يدخل المستشفى ويعود لبيته ولكن بعد عودته بيوم واحد أوهم أسرته أنه سيذهب للاستجمام بالإسكندرية .. ولكن غيابه طال .. .

وأرسل إلى ذويه خطابا ليس من الإسكندرية .. ولكن من الجبهة بفلسطين الحبيبة , وكان ضمن القوات المصرية التي قاتلت قتال الأبطال في حصار الفالوجا الشهير .. وتم محاصرة أبطالنا بكافة أنواع الحصار .. من غذاء .. إلى دواء .. وماء , وكان لدى قيادة القوات المصرية هدف استراتيجي في عدم تسليم كتيبة " الفالوجا " أنفسهم من أجل الحفاظ على الروح المعنوية لبقية القوات الملتحمة في قتال شرس مع العدو الصهيوني الغاضب , واستقرت القيادة على القيام بمهمة خاصة محددة لتوصيل الإمداد من الماء والغذاء والدواء للكتيبة المحاصرة بالفالوجا , ولم تجد القيادة خيرا من " معروف الحضري " لقيادة المجموعة الفدائية ذلك الضابط الفدائي الذي لا يقيم لأيام العمر وزنا ولا تخدعه الدنيا بزخارفها الفانية .. أمام تأدية ما يراه حقا .. . فخلع " الحضري " زيه العسكري وارتدى مع مجموعة من الضباط الفدائيين زي الأعراب وحملوا جميعا المدد للقوة الشجاعة الصامدة في الفالوجا , وتكررت عملية الإمداد هذه أكثر من مرة . . . إلى أن أدركت قيادة العدو الصهيوني ان صمود القوات المصرية أمرا غير طبيعي ولا بد أن هناك ثغرة في هذا الحصار .. فبدأوا في نصب الكمائن إلى أن توصلوا إلى أن مجموعة " العربان " التي تغدوا وتروح ما هي إلا قوات فدائية تقوم بإيصال المدد إلى القوات المصرية المحاصرة في الفالوجا , فتم محاصرة " الحضري " ورفاقه ودارت معركة شرسة بينه وبين قوات العدو حتى نفذت ذخيرته تماما فلم يستسلم لها بل استعان بالله ثم بسلاحه الأبيض في مقاومة جحافل اليهود .. ولكن لأن الكثرة قد تغلب الشجاعة .. فقد تمكنوا من أسره إلى تل أبيب وغادر " الحضري " ميدان القتال .

الفصل التاسع عشر: أسرار وخفايا مرض عبد الناصر

يتصور البعض أن حياة الزعماء والقادة مفعمة بالقوة والترف وأن الآلام والمتاعب لا تعرف طريقا لهم , ويساعد على ترسيخ هذا المفهوم أن أجهزة الإعلام والمحيطين بالزعماء دوما يصورونهم على أنهم رموز شامخة لا تهتز ولا تؤثر عليها تقلبات الزمان والأحداث , فالزعيم لا بد من ظهوره .. قويا . . .. باسما .وإن كان يعتصر ألما .وإن كانت الانفراجة التي في فمه من التأوه وليست من السعادة , ولذا نجد أن " بعض " الزعماء يستعينون " الماكيير " ليداري شحوبا عارضا , أو يغطي آثار الألم والإرهاق التي تعتلي قسمات وجهه , وإن حدث وتعرض الزعيم لمرض ما فلا بد أن يكون في طيات الكتمان وعلى أعلى جانب من السرية ويكون خبر مرض الزعيم من أسرار الدولة العليا لا تعرفه إلا الدائرة المحيطة به , وربما يحدث هذا خوفا من قلق الشعب على زعيمه , أو الدائرة المغلقة المحيطة , وربما يحدث هذا خوفا من قلق الشعب على زعيمه , أو رغبة في عدم " التشفي " فيه من جانب خصومه داخليا وخارجيا , وفي إطار الحديث عن أسرار وخفايا مرض جمال عبد الناصر تجدر بنا الإشارة إلى أنه ومنذ حلت نكسة 1967 تعرض لسلسلة متعاقبة من الأزمات الصحية وهنا ما يؤكد أنه مات في 5 يونيو بصورة مؤقتة وتأكدت وفاته الكاملة في 28 سبتمبر 1970 , ولنحدد بداية تعرف المرض على عبد الناصر , بدأ مرض " السكر " في فتح جبهة داخل جسد عبد الناصر توالت بعده على مراحل جحافل الأمراض لتخترق أجهزة المناعة الخاصة به .

كان هذا عقب تعرضه لموجات متتالية للقلق النفسي الشديد من جراء الانفصال السوري من الوحدة التي كانت تجمعها مع مصر , لقد كانت هذه الوحدة تشكل قوة نفسية وإقليمية لديه , كما كان عطاء الشعب السوري لشخصية " ناصر " يشعره أنه أمام مسئولية كبيرة في الحفاظ على مكاسب الوحدة المتمثلة في وجود جبهة شمالية وجنوبية تبلغ من القوة قدرا يمنحها وضعا هجوميا على أعلى مستوى , لذا لا عجب من تسلل القلق البالغ عند وصوله أنباء الانفصال السوري لدرجة أن الانقلابيين السوريين قطعوا كل خطوط الاتصال بين دمشق والقاهرة , فما كان من عبد الناصر إلا أن توجه إلى دار الإذاعة بشارع علوي ليتابع عبر إذاعة دمشق تطورات الأوضاع بالقطر الشمالي , وكانت تلك الإذاعة المصدر الوحيد لديه , وتوالت الأنباء ليتأكد من خروج الجبهة الشمالية من دائرة الجبهة المزمع إقامتها لحصار الكيان الصهيوني الغاضب , كان مرض " ناصر " بالسكر مفاجأة لأن هذا المرض من الأمراض " العائلية " بمعنى انتقاله بالوراثة , ولم يكن والد او والدة عبد الناصر من حاملي هذا المرض , مما يؤكد أن المعاناة النفسية والقلق الشديدين هما المفتاح السحري لعبور هذا المرض إليه , وتوالت نسبة السكر في الارتفاع وكانت أنباء حرب اليمن التي لم تكن نزهة للجيش والاقتصاد المصري بل كانت مجاهل ومستنقعات سببا رئيسا أدى إلى ارتفاع نسبة السكر إلى حدوث التهابات حادة في الشرايين وخاصة شرايين القدم , وبمرور الوقت تصاعدت حدة الآلام الناتجة عن التهاب الشرايين بالقدمين , ثم حدثت الكارثة المروعة في يونيو الحزين , وأصبحت آلام " ناصر " لا تطاق , فأجرى الأطباء المصريون فحصا عاما عليه وجاء نتيجته مشوبة بالمخاطر على صحة الرئيس جمال عبد الناصر , واقترحوا عليه استقدام بعض الأطباء الغربيين لتقدمهم في المجال الطبي , غير أنه رفض ذلك بشدة وفضل تحمل الألم والاعتماد على المسكنات على أن يتم علاجه على أيدي أطباء بريطانيين أو أمريكان , لأنه كان يدرك أن أي طبيب أمريكي أو بريطاني سيعالجه سيضع لدى حكومته بالتأكيد تقريرا بحالة عبد الناصر وبديهيا سينتقل هذا التقرير على الفور ليصل إلى تل أبيب علاوة على " شماتة " الأمريكان والإنجليز فيه باعتباره العدو الأول لهما في الشرق الأوسط والعالم العربي .

تعليق

( لبيان مدى اهتمام أجهزة المخابرات وخاصة الغربية والصهيونية بالحالة الصحية للزعماء العرب والقادة العرب , نذكر أن التمهيد للمفاوضات السورية الإسرائيلية بشأن عملية السلام كانت دوما ترتطم ببحيرة طبرية ومساحة عشرة كيلو مترات في مرتفعات الجولان , وكان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد يعجب من هذا التلكؤ الإسرائيلي في إجراء المفاوضات المباشرة , وكانت إسرائيل مع الجانب الآخر تريد اكتساب عنصر الوقت لأن مخابراتها نجحت في أخذ عينة بول من الرئيس حافظ الأسد في المرة الوحيدة التي دخل فيها الحمام في مطار عمان عندما كان يؤدي واجب العزاء في الملك حسين بن طلال عاهل الأردن , وعلى الفور طارت العينة إلى تل أبيب حيث وضعت قيد الاختبارات العديدة المركزة لتخرج نتائجها بإصابة الرئيس السوري الراحل بعدة أمراض قاتلة , لذلك كان اليهود يماطلون في إجراء المفاوضات مع سوريا على أمل موت الرئيس حافظ الأسد وأن يأتي بعده من يستطيعون الضغط عليه و قبول شروطهم الاستسلامية ) .

واستمر عبد الناصر رافضا العلاج الغربي و أيضا فضل عدم وصول أنباء مرضه إلى حلفائه في موسكو , وتولى علاجه نخبة ممتازة من الأطباء المصريين الذين أفادوه في مراحل مرضه الأولى حيث اعتمدوا على المسكنات والنصائح في الخلود للراحة , غير أنه كان يضرب بنصائح أطبائه عرض الحائط .

هذا ملخص ما كشف عنه الكاتب محمد حسنين هيكل المستشار الصحفي للرئيس جمال عبد الناصر في حديثه مع الأستاذ فؤاد مطر في كتاب " بصراحة عن عبد الناصر " حديث مع هيكل , ولكن موسى صبري الصحفي الراحل يؤكد أن إصابة عبد الناصر بمرض السكر أتت قبل هذا التاريخ 1961 – بثلاثة أعوام وبالتحديد أثناء زيارة خاطفة قام بها " ناصر " لموسكو عام 1958 بعد قيام الثورة في العراق , وكان سبب الزيارة محاولة الحصول على تأييد الكرملين لثورة الأشأوس في بغداد بعد سقوط حلف بغداد – وهو حلف إمبريالي – ولكن تعرض عبد الناصر لمفاجأة قاصمة إذ قابلت موسكو أنباء ثورة العراق بفتور وعدم اكتراث , لذا تساءل عبد الناصر – كما يؤكد موسى صبري – أليست هذه ثورة ضد الاستعمار الذي تحاربونه ؟ أليست هذه ثورة ضد الأحلاف العسكرية التي تحاربونها ؟ أليست هذه ثورة من أجل الحرية ؟ أليست هذه ثورة تقدمية ؟ وعاد عبد الناصر من موسكو مصدوما , وتوجه إلى دمشق وهناك أعلن على غير الحقيقة أن الاتحاد السوفييتي يقف إلى جوار ثورة العراق ضد أي عدوان عليها , لقد كانت الحقيقة موجعة لنفس عبد الناصر وبمجرد عودته إلى القاهرة ظهرت عليه أعراض مرض السكر الذي كان يكمن من خلاله العلاج المنتظم لخفض نسبته وتعويض البنكرياس ووظائفه , ومن المعروف أن تدهور جهاز البنكرياس يؤدي إلى ترسيب أملاح حول عصب القدم خاصة والرجل عامة , وحول الشرايين اللاصقة للعصب وأي حركة في الجسد تتحول إلى آلام مبرحة لا قبل للإنسان بها .

تعليق

سواء كانت رواية هيكل هي الحقيقة أم رواية موسى , فالأمر اليقيني أن التعرض للأزمات النفسية والقلق هما القاسم المشترك في سر إصابة ناصر بالسكر , ما يهمنا وخاصة في الرواية الثانية أن عبد الناصر تعرف على " حقيقة " الرفاق التابعين في الكرملين , وأن ما ينادون به ما هو إلا شعارات جوفاء واهية لا تلبث أن تذهب أدراج الرياح وخاصة في وقت الحاجة والمحنة , والسؤال الأهم : لماذا ترك عبد الناصر القارب يسير به جهة الشرق , بل لماذا حطم كل القلاع إلا الحمراء منها بعد ما سمعه من قادة الكرملين إبان اندلاع الثورة العراقية , ألم تخالجه نفسه أنه ربما يفعلون معه مثلما فعلوا مع رفاق بغداد – وهو ما حدث فعلا في محنة يونيو 1967 – وحتى لا يساء بنا الظن لم نكن نتمنى الهروب من الدب الروسي للوقوع في قبضة الكاو بوي الأمريكي إطلاقا ... كنا نتمنى فقط تنفيذ شعارات تلك الأيام في وقوفنا موقف الحياد , وعدم الانحياز للشرق أو للغرب , لعلنا كنا نتدارك بعضا من أسباب كارثة العصر الحديث – يونيه 1967 .

إلى أن حانت لحظة " المكاشفة مع المرض " وكانت بالتحديد في يوليو 1968 .حيث كثف المرض هجومه المركز على عبد الناصر في عملية خاطفة وهو في طريقه لعقد مباحثات في الاتحاد السوفييتي لدرجة عدم استطاعته الجلوس في مقعده , من شدة الألم .وكان يرافقه وفد طبي , فقاموا بنصب سرير في مقدمة الطائرة حتى يتمكن من الخلود للراحة , وقد كان يرافقه في تلك الرحلة زعيم رحلاته موسكو , وبعد وصوله للكرملين وانتهاء المباحثات , كان مرغما أن يفصح عن حقيقة آلامه وأوجاعه , وطلب من القادة السوفييت أن يعالج لديهم , ولنترك د . يفيجني شازوف الذي تولى علاج الرئيس عبد الناصر يقص علينا حقيقة مرض عبد الناصر , في الأيام الأولى من يوليو 1968 .

" جاءني صوت ليونيد بريجينيف على الهاتف رغم أنه لم يصارحني باسم من أرادني فحصه إلا أنني أدركت أنه واحد من أعز أصدقائنا الأجانب ومريض للغاية , وتحدث بريجينيف عن احتمال وجود " ورم " قد تكون له علاقة بالجهاز البولي , وكان بريجينيف طلب مني دعوة من أثق فيهم من المتخصصين ثقة مطلقة حتى لا يتسرب النبأ , وفي اليوم التالي حضر لفيف من الأطباء الأخصائيين المصريين واجتمع بهم أفضل الأطباء السوفييت وقصوا علينا أن عبد الناصر بدأ يشكو في الفترة الأخيرة من آلام مبرحة في قدميه ورجليه وبدأت الشكوى منذ حوالي عام عندما كان يقوم بالمشي لمسافات طويلة وتكررت الشكوى بعد فترة مع المشي مسافات قصيرة , أما الآن فقد أصبح يتألم من قدميه دون أن يحركها , ولاحظ الأطباء أن الآلام انتقلت من القدمين إلى الفخذين , وبدأ عبد الناصر يعاني من " خدر " في قدميه وبداية ظهور " غرغرينا " في أصابعهما أما جلد قدميه فقد بدأ في التغيير بما يؤكد أنه غير سليم وكان التمثيل الغذائي الخاص بالسكريات والدهون يعاني من خلل لدى عبد الناصر , كما أنه كان مدخنا شرها لسنوات طويلة , ومع ذلك قال لنا أطباؤه المصريون إن أيا من علامات قصور الشرايين التاجية لم تظهر على عبد الناصر , وبناء عليه تم استبعاد وجود أورام وأن حالته تتعلق بتصلب تقليدي للأوعية الدموية في الساقين وبداية اختلال للدورة الدموية بهما , وفي يوم 6 يوليو 1968 وفي ساعة مبكرة كان أول لقاء مع " ناصر" كان المرض والهزال والقلق واضحا على وجهه وإلى جانب أطباؤه كان معه السادات , واستمعنا إلى شكواه وكيف أنه عانى وقاسى أثناء رحلته لموسكو ورغم أنه لا يقوى على المشي فقد كان عليه أن يتحمل آلاما مبرحة وأن يرسم ابتسامة مشجعة على وجهه خلال زيارته الدائمة للمواقع العسكرية حتى لا يكتشف شعبه أنه مريض , والطريف أن حالة عبد الناصر الصحية لمن تمكنه من مناقشة قضايا كان ينوي بحثها مع عرفات , الذي جاء تحت غطاء انه مستشار فني وباسم مستعار " أمين " , وعندما بدأنا في علاج عبد الناصر قلت له : أول ما نطلبه منك أن تقلع عن التدخين , فوافق على الفور , وبعد فحوص عديدة قررنا بدء العلاج بحمامات المياه المعدنية والطينية " أي العلاج الطبيعي " , كان هذا لتأكدنا من عدم جدوى التدخل الجراحي , خاصة أن الوقت كان مبكرا بالنسبة للتقدم الطبي الحالي في مجال جراحة الأوعية الدموية لمعالجة تصلب الشرايين , كما أن حالة عبد الناصر لم تكن تحتمل ذلك لأن الأجزاء الطرفية من شرايين الساقين أكثر الأجزاء إصابة بالتصلب ولا يمكن للجراحة أن تقدم النتائج المرجوة , واقترحنا العلاج في ينابيع تسخالطوبو , بجمهورية جورجيا السوفيتية , ولقد وافق عبد الناصر من حيث المبدأ إلا أنه أرجأ ذلك لحين عودته للقاهرة وبحث هذا الموضوع مع القيادة المصرية ومجلس الأمن القومي المصري , ونقلت إلى بريجينيف نتائج الفحص الطبي لناصر فقال لي : " افعلوا كل ما بوسعكم كي يسترد عبد الناصر عافيته , لا يوجد في الشرق الأوسط زعامة أخرى يمكنها أن توحد العرب في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة ولو أن عبد الناصر اختفى من المسرح السياسي فإننا سنتلقى أكبر ضربة قاصمة تضر بمصالحنا ومصالح العرب , افعل كل شيء لازم لعلاجه وسوف يوجه مجلس السوفييت الأعلى دعوة لناصر للاستجمام والراحة " .

ويستطرد الطبيب المسئول عن علاج عبد الناصر د . شازوف مع ذكرياته : أثناء التمهيد لعلاج عبد الناصر في مدينة تسخالطوبو فيقول : " لم يكن هناك أي مقر يليق بإقامة رئيس دول أجنبية صديقة وكبرى وكانت تلك الاستراحات القديمة " الريفية " قذرة ومهملة أما دور التفاهة فقد كانت عنابرها وغرفها ضيقة المساحة ( بين 12 , 14 مترا مربعا ولا تتوفر فيها وسائل الراحة .

وقبيل وصول الرئيس قام موظفو مكتب الرئيس المصري بزيارة تفقدوا خلالها مقر إقامته المقترح , حيث وجدوا ثلاث غرف صغيرة مساحة الواحدة منها 14 مترا مربعا وطلبوا على استحياء وقالوا : ألا يوجد مكان أكثر اتساعا من هذا ؟ وساعتها أجبتهم في حدة تسببت فيها معاناتي الطويلة من إهمال وتسيب المكلفين بإعداد استضافة ناصر قائلا : هذا أفضل ما عندنا وليس عندنا مكان آخر , فأجابوه بنبرة أكثر حدة : ألا ترون أنكم تستقبلون رئيسا لدولة أجنبية ؟ وفي داخلي كنت في قناعة بأسباب تذمر المصريين , وكان من المفترض أن يكون رجال المخابرات السوفيتية قد فعلوا ما بوسعهم لتأمين سرية زيارة عبد الناصر وذهبت إلى سوق المدينة كي أنظف حذائي , وكان ماسح الأحذية رجلا عجوزا يميل إلى المرح وظن العجوز أنني من المصطافين فأخذ يطنب في الحديث عن جمال وروعة المدينة ثم أومأ برأسه وقال لي : أنت تبدو رجلا طيبا , سأقول لك سرا تستطيع الوقوف على ناصية الميدان وسترى عبد الناصر , الطريف أن الرجل وصف بدقة خط سير السيارة المقلة لعبد الناصر , رغم أن رجال المخابرات السوفيتية وضعوا خط السير في الليلة السابقة بسرية تامة ! واستطاع عبد الناصر أن يزيل التوتر الذي نشـأ عن تواضع مقر إقامته وأخبرنا المترجم المرافق له أن ناصر قال لرجاله : " لا تتحدثوا في هذا الموضوع فالمكان هنا يروق لي ولا تنسوا أننا ضيوف وأنني جئت لالتمس الشفاء " .

وبدأ العلاج الطبيعي بالطمي والمياه الطبيعية وتعامل مع معالجيه ببساطة وتواضع وكان من حين لآخر يخرج للتنزه معنا في الحدائق , وبالتدريج بدأت أعراض الغرغرينا في أصابع القدمين بالاختفاء واختفت الآلام واختفى معها الأرق الذي كان يمنع عبد الناصر من النوم قبل ذلك , كان عبد الناصر مندهشا للسرعة التي أنقذناه بها من مرض بدا ميئوسا من شفائه , وأخيرا انتهت فترة العلاج واستعد ناصر للعودة إلى بلاده في صحة طيبة , وقبل سفره كانت نصائحنا له أن يلتزم بالنظام الغذائي الخاص الذي وضعناه .. وأن يبتعد عن الإجهاد والانفعال والتوتر .. وكنا نعرف أن التحسن الذي طرأ على صحته يعود إلى نمو أوعية جديدة إلى جدار الأوعية الدموية القديمة مما وفر دورة دموية طبيعية للساقين , ولكن قدرة الطب في هذا الوقت لم تصل إلى إيقاف تصلب الشرايين تماما وتمنع ظهوره في أجزاء أخرى من جسم المريض خصوصا أن عبد الناصر كان يعاني من مرض السكر وكنا في ذلك الوقت ندرك بأن مرضه سيستمر ويزداد وكان من الصعب توقع أي من الأوعية الدموية سيصاب مستقبلا , ولذا كانت نصائحنا قاطعة بضرورة اتباع ناصر لنظام العلاج وتجنب الإجهاد والانفعالات , استمع ناصر لنا وابتسم قائلا : " من الصعب أن تبقى رئيسا لمصر وأن تنفذ كل هذه النصائح , واقترحنا عليه أن يشاركه طبيب سوفيتي في متابعة حالته خلال ثلاثة أو أربعة أشهر ( ميعاد زيارة الفريق الطبي للاطمئنان على صحته في القاهرة ) , غير أنه اعتذر مشيرا إلى خشيته أن يفسر ذلك على اعتبار أنه لا يثق في أطبائه المصريين وقال : لن يفهم الشعب ذلك , وبعد عدة شهور عندما زرنا القاهرة التقينا بالرئيس ناصر يمشي كثيرا ويعمل كثيرا ويلعب التنس وغادرنا القاهرة ونحن راضون تماما عن وضعه الصحي , لكن المستقبل يخفي الكثير .

كان الهجوم الشر للمرض على عبد الناصر كفيلا بهيمنة أعضاء مراكز القوة الممثل في سامي شرف وشعراوي جمعة أن يزيدوا من إحكام قبضتهم وسيطرتهم على الأوضاع , ومن ناحية أخرى تجاهل عبد الناصر النصائح الطبية في الالتزام بالراحة ولنا في هذا الموقف وقفة , " نظرا لما يتطلب منصب الرئاسة من أعباء جسام وجهد شاق متواصل كان لزاما على الرئيس عبد الناصر ترك مسئولية الحكم لغيره من الأكفاء القادرين على مواصلة العمل الشاق المستمر هذا ليس تقليلا من قيمة وقدر وزعامة عبد الناصر ولكن الحقيقة , وهذا الموقف أيضا يفسر نظرة حكام العالم الثالث إلى منصب الرئاسة على أنه أبدى مهما كان ذلك يعرضهم وحدهم قبل أوطانهم لمخاطر قد تودي بهم .

ومثال قريب تونس حيث ظل الحبيب بو رقيبة قابعا في منصب الرئاسة منذ الاستقلال التونسي عام 1956 ولمدة زادت على ثلاثين عاما حتى كان في أواخر أيام حكمه يحضر الاجتماعات والمناسبات الوطنية يسنده شخصان عن اليمين واليسار إلى أن تم انتقال السلطة إلى وزير داخليته الرئيس الحالي زين العابدين بن علي , إننا وبكل التقدير لشخص عبد الناصر – مهما اختلفت حوله الآراء – إلا أننا نفضل لو كان تنازل عن السلطة وهو متمتع ببعض عافيته بدلا من تركه لها مضطرا , ولبرهان ذلك نترك الحديث عما تعرض له ناصر من متاعب صحية لمستشاره الفكري , الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل , فيقول : " يوم 10 سبتمبر 1969 كان عبد الناصر يشهد تدريبا عمليا على طريق السويس وبينما هو يشهد هذا التدريب بلغه أن الإسرائيليين قاموا بعملية إنزال في منطقة الزعفرانة الواقعة في خليج السويس وبــدأت الأنباء الصادرة من تل أبيب وبعض العواصم الأوروبية تصور العملية على أنها محاولة لغزو مصر حتى ان بعض وكالات الأنباء كانت تبعث برسائل صحفية تقول فيها إنها من " مصر المحتلة " ولم يكن معروفا لأحد أن الرئيس عبد الناصر خارج القاهرة يشهد التدريب العملي , عندما علم عبد الناصر بالعملية تضايق جدا خصوصا أنه لم يعرف حجمها الحقيقي , وعندما بلغ عبد الناصر العملية أمر كبار قادة الجيش الذين كانوا حوله بإلغاء التدريب ورفع حالة الاستعداد لدى القوات , هذا معناه أن تصبح القوات جاهزة بعملية هجومية أو دفاعية , كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا عندما بلغه نبأ العملية في منطقة الزعفرانة ونحو الحادية عشرة أي بعد ساعتين عاد إلى القاهرة , وأذكر أنه بعد وصوله إلى القاهرة اتصل بي هاتفيا وطلب أن أقرأ له كل ما تقوله وكالات الأنباء عن العملية , وقرأت له كل ما كانت هذه الوكالات تقوله نقلته من تل أبيب وبعض العواصم الغربية , في ذلك اليوم اهتم عبد الناصر كثيرا بما نقلته وكالات الأنباء لسبب أساسي هو أن المعلومات التي توافرت لدى المخابرات المصرية عن العملية لم تكن كافية أو أنها لم تكن مكتملة وواضحة بما فيه الكفاية , وقد لمست من صوته عبر الهاتف أنه في غاية الضيق , كان هذا نحو الخامسة بعد الظهر وحتى ذلك الوقت لم يكن عبد الناصر قد وقف على الهدف الحقيقي لهذه العملية ولو أنه عرف أنها ذات هدف نفسي فقط لأن الإسرائيليين كانوا مع حلول الليل قد سحبوا قواتهم لكان ضيقه أقل , لقد كانت العملية عبارة عن إنزال بعض القوات لمساندة نحو 16 دبابة برمائية وتحركت الدبابات والقوات بضع ساعات في المنطقة ثم انسحبت ومعها عدد من الأسرى المدنيين , وفي اليوم التالي 11 سبتمبر شعر بإرهاق شديد مصحوبا بنوع من الدوار ودعا طبيبه الخاص الدكتور الصاوي حبيب ليكشف عليه وكان الصاوي في الأصل سيجري كشفا عاما ليعد تقريرا كاملا قبل السفر لأن ناصر كان حدد سفره إلى تسخا لطوبو بعد أيام واكتشف الصاوي أن الرئيس عبد الناصر أصيب بجلطة لكنه حاول إخفاء الحقيقة وتظاهر بأنها حالة أنفلونزا , وأجرى رسم قلب ليتأكد من حدوث انشداد في فرع الشريان الأمامي للقلب , وبعد مناقشة الأطباء أجمعوا على ضرورة أن يعرف عبد الناصر أنه أصيب بأزمة قلبية , انتهت المناقشة إلى اتخاذ قرار بحاجة عبد الناصر إلى إجازة لمدة ستة أسابيع قابلة للتجديد لا يعمل خلال ذلك شيئا غير أنه يرقد فوق السرير ويرتاح .

تعليق

لم تكن العملية الإسرائيلية استعراضا للقوة , فالقوة تم استعراضها في يونيه وانتهى الأمر , ولم تكن بهدف نفسي للشعب , فالشعب أدرك مدى خواء قدراته الدفاعية وقتها , إنما كان الهدف الأساسي هو تعجيل القضاء على عبد الناصر , فموضوع مرض عبد الناصر بتصلب الشرايين من المؤكد انه تم تسريبه إلى تل أبيب عبر موسكو أو من خلال جحافل الطابور الخامس المتراصة حول عبد الناصر , وبدليل أن وكالات الأنباء وهي في الغالب تكون من شباك الموساد , كانت تصر على أن بياناتها تأتي من " مصر المحتلة " وأمرا كهذا مع شخص بطبعه قلق كعبد الناصر ولديه من الأمراض ما إن تعرض للانفعال أو توتر شديد قد يودي بحياته على التو , أو على أقل تقدير إصابته بنوبة قلبية , و هو ما حدث بالفعل , وهذا يبرهن على أنه رغم التعتيم المبالغ فيه بالنسبة لموضوع مرض عبد الناصر إلا أن اليهود قد وصلهم و ربما فورا أنباء تدهور الحالة الصحية للرئيس المصري الراحل , وهناك أمر آخر يتعلق بما ذكره هيكل من أن عبد الناصر كان يستمد معلوماته حول عملية الإنزال الإسرائيلي في الزعفرانة عبر تقارير وكالات الأنباء وليس من قادته العسكريين ؟ وهذا أيضا يدل على مدى التخبط والارتجال الذي كان يسود الوضع العسكري لمصر خلال حقبة الستينيات , و لو أن وضعا كهذا كان يمكن قبوله قبل النكسة ولكن بعد هزيمة يونيو يظل الاسترخاء وعدم تقدير المواقف والارتجالية , فهو أمر غير مقبول ويخرج عن المألوف ويدعو للتساؤل المحير : إن كان قادة تلك الحقبة من العسكريين لا يعلمون , والمخابرات كانت في " ملعب " آخر , فماذا كان يشغلهم عن مهامهم الجسيمة في الحفاظ على ما تبقى من الكرامة الوطنية والشرف العسكري الرفيع ؟ .. . الله أعلم .

أما ما حدث في أعقاب تعرض عبد الناصر لأول أزمة قلبية فلندع هيكل يكمل حديثه الشيق والمثير فلقد كان من أقرب الناس إلى فكر وعقل و شخص الرئيس جمال عبد الناصر , " اتصل بي السادات في ذلك اليوم نحو الساعة السابعة والنصف مساء وطلب لقاءي للاجتماع به في منزل الرئيس عبد الناصر وتوجهت على الفور وهناك وجدت السادات جالسا في مكتب سامي شرف الذي يقع في المبنى المقابل لمنزل الرئيس وكان هناك أيضا الفريق أول محمد فوزي وشعراوي جمعة وأمين هويدي .. ثلاثي الدفاع والداخلية والمخابرات , وقال لنا السادات : إن الغرض من هذا الاجتماع هو إطلاعنا على أمر مهم , وهو أن الرئيس عبد الناصر مصاب بأنفلونزا ومن الضروري أن يأخذ أجازة طويلة , وقلت للسادات – الكلام ما يزال لهيكل – أنا مش فاهم حكاية الأجازة والأنفلونزا , ثم إن اجتماعنا علشان إيه ؟ وأوضح السادات أن الرئيس قرر حيال اضطراره إلى الأخذ بفكرة الأجازة أن يؤلف هذه اللجنة التي تضم أنور السادات وسامي شرف وشعراوي جمعة والفريق أول فوزي و أمين هويدي و أنا – هيكل – لكي تعقد اجتماعات وتبحث في مسائل الدولة والقضايا التي تستجد وقال السادات أيضا إن الرئيس عبد الناصر كلفه أن يكون صلة الوصل بينه و بين أعضاء اللجنة التي طلب الرئيس أن تستمر في عقد اجتماعات إلى أن يصبح قادرا على مزاولة العمل , وتوجهنا لمشاهدة الرئيس ووجدناه في غرفة نومه جالسا على كنبة وكان عند دخولنا يأكل لبن زبادي , فقلت له : هل هناك أمر مهم ؟ أجاب .. أبدا كل ما في الأمر أن الأطباء نصحوا بأن أستريح شهرا في السرير ووجدت حيال ذلك أن تجتمعوا وتبحثوا المسائل المتعلقة بالدولة بدلا من أن أشغل نفسي بها , وذلك إلى أن تنتهي فترة الأجازة وأصبح قادرا على مزاولة العمل كما كنت في السابق , وبعد خروج الآخرين بدأت ألح على عبد الناصر لكي يوضح لي حكاية الأنفلونزا , وبعد طول إلحاح قال لي يظهر أني أصبت بذبحة صدرية , ولكن الأطباء يقولون أن المسألة بسيطة وأنه يجب أن ألازم السرير وأرتاح , المهم ألا يعرف أحد كي لا تقلق البلد ولكن قل لي كيف يمكن أن نغطي غيابي هذه المدة التي يقترحها الأطباء ؟ وقلت : قد نقول الأنفلونزا , لا يهم ما نقوله ولكن المهم أن تستريح , ويكمل هيكل بصراحة حديثه عن عبد الناصر في كتاب فؤاد مطر فيقول : بعد يومين اتصل بي الرئيس هاتفيا وقلت : الله مفروض يا فندم ما تتكلمش , ورد : المسألة مش خطيرة للدرجة دي , و واصل كلامه وكان يسأل عن بعض الأمور , وبعدما انتهت المكالمة اتصلت بالسادات طالبا لقاءه , وفي هذا اللقاء قلت له : إن الدولة عندما تعالج أحدا على نفقتها فإنها تستقدم إليه أكبر الأطباء , أو توفده إلى الخارج لكي يعالجه أكبر الأطباء ويجب إيجاد طريقة ما لاستقدام أحد كبار أطباء القلب وليس ضرورة استشارة الرئيس في ذلك الأمر , وفي الليلة نفسها استدعى أنور السادات السفير السوفييتي في القاهرة , وكانت تلك المرة الأولى التي يعرف السوفييت أن أزمة قلبية فاجأت الرئيس جمال عبد الناصر وقال السادات للسفير إن الأمر في منتهى الأهمية وسلمه رسالة إلى ليونيد برجينيف تشير إلى الأزمة القلبية المفاجئة التي تعرض لها الرئيس جمال عبد الناصر وتطلب إيفاد أكبر أطباء القلب في الاتحاد السوفييتي إلى القاهرة .. .

وأجد أنه من الضروري بمكان ترك الطبيب شازوف يروي لنا بقية قصة إصابة عبد الناصر بأول أزمة قلبية , لأنه من أوفدته موسكو إلى القاهرة على عجل للقيام بما يراه مناسبا تبعا لتدهور الحالة الصحية للزعيم المصري و الحليف الرئيسي لموسكو .

يقول د . يفجيني شازوف : " خلال شهر سبتمبر 1969 ذهبت إلى منتجع على ضفاف نهر " الفالوجا " لقضاء الراحة وأخبرني أحد المسئولين المحليين بالمنطقة أن موسكو اتصلت تليفونيا وتطلب مني أن أكون في مكتبي غدا في الصباح الباكر للضرورة , وبعد رحلة عودة قدرت بألف كيلو متر جاء صوت الهاتف بمكتبي وكان المتحدث يوري أندروبوف المسئول عن جهاز المخابرات السوفيتية ( كي .جي .بي ) الذي أبلغني أنه وصلته رسالة عاجلة من القاهرة تطلب إيفادي للقاهرة على وجه السرعة على أن يتم هذا بسرية تامة بناء على رغبة من المصريين , وقال أندرو بوف : إن إعداد طائرة خاصة للسفر إلى القاهرة الآن قد يستغرق وقتا طويلا كما أنه يلفت انتباه موظفي الطيران المدني بالقاهرة والعاملين في شركة الطيران السوفييتية , " إير فلوت " خاصة أن المخابرات الإسرائيلية " الموساد " مفتوحة أعينها على القاهرة ولذا اقترح أن تسافر على متن طائرة ورحلة عادية وغالبا لن يثير حضورك إلى القاهرة الاهتمام أو الفضول , قليل من يعرفك هناك وسوف يتولى رفاقنا ترتيب صعودك إلى الطائرة من موسكو , ستجلس في الدرجة الأولى ولن يكون هناك أحد سوى أحد مستشارينا العسكريين وهو لا يعرف شيئا عن هويتك , وفي القاهرة ستجد رجالنا في انتظارك يأخذونك من باب خاص في الطائرة إلى مكان أمين بالاتفاق مع المصريين وعندما تخرج إلى القاهرة احرص على ارتداء نظارة سوداء وقبعة حتى لا يتمكن أحد من التعرف عليك أو تصويرك من شرفة المطار , وتم كل هذا بالفعل وعندما نزلت من سلم الطائرة أحاط بي مجموعة من الرجال في دائرة محكمة وفي ثوان كنت أجلس في سيارة انطلقت بي في شوارع القاهرة حتى فندق شبرد على النيل وصعدت إلى الطابق الأخير الذي أغلق عدد من الحراس جزءا منه خصصوه لإقامتي وقادني رجل أمن إلى جناح واسع وطلبوا مني ألا أغادره إلا برفقة سكرتير عبد الناصر , وبعد عشرين دقيقة فقط حضر السكرتير وذهبنا معا إلى بيت الرئيس عبد الناصر في ضاحية مصر الجديدة , وفي منزل متواضع مكون من طابقين قابلتني زوجة عبد الناصر وجمع من الأطباء ولم يترك حديثهم عن شكوى الرئيس الأخيرة ونتائج رسم القلب لدى أي شك من أن مرض تصلب الشرايين قد وصل إلى شرايين القلب وأدى ظهوره إلى ذبحة صدرية ولحسن الحظ فإن التطور الخطير في حالته لم يكن قد مر عليه سوى يوم أو يومين وكان من السهل اكتشاف إصابته وهي متوسطة الخطورة دون أية أعراض مضاعفة , وصعدنا للطابق الثاني حيث كان يرقد عبد الناصر وفور أن رآني بادرني باعتذار رقيق عن الرحلة العاجلة وصارحته أن أول ما يلزمنا هو الراحة لمدة عشرة أيام قبل أن يصبح كل شيء أمامنا واضحا , ونظر إلى عبد الناصر ثم قال : لا تفكر أنني لا أثق بأحد أو أنني أشك في نصائحك ولكن الوضع شديد الخطورة عندنا نحاول الوقوف على قدمينا والآن فقط بدأنا لتونا في دعم قدراتنا الدفاعية لإنشاء جيش حديث وعصري وفي هذه الظروف الصعبة فإن اختفائي عن الأضواء أو المشاركة قد يضعف من جهودنا , هذا هو قدري ولما كانت عيون الإسرائيليين تراقب شئوني بل أحوالي الصحية كذلك فقد أخفينا بحرص نبأ زيارتك للقاهرة ولقد أبلغني أمين هويدي رئيس المخابرات المصرية أن الموساد قد كشف نشاطه في الفترة الأخيرة لمعرفة هل حدث شيء لي أم لا , وما الذي تقترحه لتغطية سر اختفائي عن الأضواء من أجل تضليل الجواسيس وطمأنة الشعب ؟ واقترحت الإعلان عن إصابة الرئيس بأنفلونزا وزكام وبرد حاد ولذا فهو يحتاج لملازمة الفراش لمدة أسبوعين ويمكن من خلال ذلك أن يظهر عبد الناصر للحظات بصحبة الشخصيات العامة أمام وسائل الإعلام بأي مبرر , وانتهى اللقاء الأول مع عبد الناصر في القاهرة بالاتفاق على أن أبقى في مصر لمدة عشرة أيام وهي أخطر فترة يمر بها مريض القلب عقب إصابته بالذبحة الصدرية على أن أزوره مساء اليوم نفسه حين يخيم الظلام وتكرر هذا كل مساء ومنذ الزيارة الثانية له بدأ عبد الناصر يشعر بتحسن في صحته وبالتدريج بدأت أحاديثنا تتحول بعيدا عن المرض , وتسلمت منه رسالة إلى بريجينيف , وكان قد أبدى تذمره أمامي من شحنات الأسلحة القديمة التي ترسلها موسكو وأخذ يؤكد حاجته إلى صواريخ سام 2 , 3 المضادة للطائرات وأيضا حاجته لطائرات ميج 25 لحماية سماء مصر وأخبرني بحاجته إلى تدريب عدد كبير من العسكريين في موسكو , كما تحدث ناصر عن استعدادات إسرائيل العسكرية المتصلة وقدرتها على الهجوم على بلاده وعجزه عن الدفاع عن مدينة الإسكندرية ثاني مدن البلاد .

كان علي صبري والسادات يريدان معرفة التفاصيل مرض عبد الناصر واحتمالات تطوره ولكن لم أفهم أن هذه التفاصيل يتعين أن تظل سرا حتى بالنسبة لأقرب الأقربين للرئيس المصري ولم يكن ذلك سري الخاص و إنما هو سر يخص عبد الناصر ائتمنني عليه وإذا أراد هو أن يبلغه لأصدقائه ومساعديه فإن الأمر متروك لقراره شخصيا و لا سيما أن أصدقائي المصريين كانوا قد أشاروا لي من قبل بوجود خلاف بين السادات وصبري , وقد حدث أن وجدت الرجلين مرة معا عند عبد الناصر في إحدى زياراتي لمنزله و ربما لاحظ عبد الناصر علامات اندهاش على وجهي فقال لي : تردد شائعات عن وجود خلافات بيننا في القيادة وها أنت ترى بنفسك كيف يجلس الإخوان معا , لقد عاشا فترة طويلة وهم على حب ووفاء , قل لزعمائكم في موسكو إن القيادة المصرية متماسكة ؟ وتجمع بيننا في قمة السلطة وحدة في وجهات النظر وإننا غير مترددين بغض النظر عن حركة الأحداث السياسية , ويعلق د . شازوف قائلا بسخرية : ولكن الأحداث أظهرت في ما بعد وفاة عبد الناصر أي حب أخوي كان يجمع بين السادات وعلي صبري .. . ! ! !

وبعد الأيام العشرة المقررة بدأ عبد الناصر في مقابلة رؤسائه وعدت بالطائرة إلى موسكو بقلب موجع لأنني أدركت أن عبد الناصر لن يلتزم بتعليماتنا الطبية , لقد كان أمامه عمل كبير لإعادة بناء قوة بلاده لذا لم يمض أسبوع على مغادرته الفراش إلا وكان قد انخرط في عمل مضن متواصل , ثم التقيت بعبد الناصر في مطلع عام 1970 بموسكو أثناء زيارة تهدف لإعادة تسليح الجيش ومناقشة مبادرة روجرز ولم أكن أتصور أن صحته قد تدهورت إلى هذا الحد , صحيح أنه كانت تصلني قبل أن ألقاه في موسكو أنباء متفرقة عن عمله المكثف ومجهوداته الكبيرة وحالته الصحية التي تسوء في بعض الأحيان خاصة بعد زيارته لليبيا للقاء أخيه الشقيق القذافي كما كان يطلق عليه عبد الناصر في حديثه معي , و في زيارته لليبيا تلك ركب السيارة لمدة خمس ساعات متواصلة ثم دون أن يلتقط أنفاسه يلقي خطابا في الجماهير المحتشدة دون أية " راحة " , كانت علامات الهبوط بادية عليه في موسكو 1970 علاوة على مضاعفة قصور الأوعية الدموية في أوعية القلب , وتعجبت للسرعة التي تتدهور بها صحته ففي مثل هذه حالته لا يؤدي المرض إلى هذا التطور السريع , وقد كان متعكر المزاج من حالته الصحية وأتذكر في إحدى الأمسيات طلب أن نعرض له ولمستشاريه العسكريين فيلم " التحرير " السوفييتي الذي كان يصور معارك الدبابات في ( كورسك ) أثناء الحرب العالمية الثانية ولن أنسى كيف التفت عبد الناصر إلى مستشاريه بعد أن انتهى الفيلم قائلا : " هكذا يكون القتال وهكذا تحارب المدرعات " .

وعاد الرئيس عبد الناصر إلى القاهرة بعدما تحسنت صحته شيئا ما , ولكن هيهات أن يغادره القلق والمشكلات , فما بين رغبة ملحة في إعادة تسليح الجيش المصري يبددها الغموض السوفييتي ومراوغاته فعندما يطلب صواريخ وطائرات حديثة يعطونه طرازا متخلفا , وبين كهنة معبد الناصريةسامي شرف وشعراوي جمعة ورفاقهم – أصحاب النفوذ ومراكز القوى , وبين احتلال يضجر مضجعه وهو على بعد عشرات الكيلو مترات من قلب العاصمة , وبين شعب صامت ولكنه صمت المتحفز المرتقب .. وليس صمت المقبور , صمت الواثق في بزوغ الفجر بعد الظلام , فلم تكن هذه المحنة – النكسة – أول ما صادف هذا الشعب من صعاب , سبق أن اختير بالحيثيين , والبطالمة , والرومان , والتتار , والصليبيين , والفرنسيين , والإنجليز كل هؤلاء صمت الشعب عليهم حتى أزاحهم , أيعجز عن دحر العدوان اليهودي , واليهود هم الجبن بعينه , ولا تجد في الكون كله من يخاف علي حياته مثلهم , لقد قال الله في حقهم : " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر " .

إن المصريين وهم شعب يمتاز بالإيمان والعقيدة يعرف هذا ويعرف أيضا أن هزيمته في يونيو لم تكن حربا بالمعنى الدقيق , بل كانت من طرف واحد يضرب والآخر مكتوف الأيدي , الشعب كان يعرف أن " بعض قادته تراخوا أو استسلموا لجنون العظمة والغرور القاتل إلى أن قدموا جزءا غاليا من الوطن " هدية " لأحقر أصناف البشر , و ليت هديتهم كانت عن بينة إذن لاسترحنا وعلقنا هزيمتنا على شماعة الخيانة والتواطؤ , إنما كانت هدية خرجت من رحم الإهمال وسوء التقدير والتخبط الشامل الذي كان سمة ما قبل يونيو 1967 , لقد كان الشعب هو " هاجس " عبد الناصر الحقيقي فلقد وعده بالحرية وأبر , غير أنه لم يكد يلتقط أنفاسه بعد رحيل الاحتلال البريطاني عام 1954 , حتى تعرضت الحرية لانتكاسة عام 1956 , و عاد ناصر و استبسل بالله ثم بالشعب وانكسرت موجة العدوان الثلاثي , ثم جاءت الموجة العاتية في يونيو لتلهب الجراح ..جراح ناصر , والشعب يوم أن خرج أفواجا بعد النكسة هاتفا " حنحارب .. .

حنحارب " كان يشد من عزم قيادته ويذكر عبد الناصر بوعده لهم في الحرية والحفاظ على التراب الوطني مصونا , كان ثقة الشعب في عبد الناصر لا حدود لها , ولا تريد الجماهير خسارة ثقتها فيه وحلمها الذي دام سبعين عاما هي عمر احتلال الإنجليز لمصر وجاء ناصر وحقق ما توارثته الجماهير من أجدادها في الحرية التي ناضل من أجلها عرابي ورفاقه ثم كل صادق مصري بعده , واليوم يعود الحلم ليراودها من جديد إصر " كبوة " يونيو 1967 , و ناصر يعرف كل هذا ويدركه تماما , لذا كان " حلم الجماهير " أشد ما قاساه عبد الناصر ليبرهن لهم أنه أهلا لما وضعوه في عنقه من آمال وأماني , وعلى ما يبدو أن الحياة عندما تبتسم وتكون تلك الابتسامة عريضة فإنها تخفي من ورائها مصائب وابتلاءات أيضا عريضة , فقد تكون الهموم السابقة مجتمعة وصاحبها الهموم الشخصية للأمراض الملاحقة والفاتكة عند عبد الناصر , ليأتي هم من الأوزان الثقيلة لديه , و ولد هذا الهم في سبتمبر 1970 شهر وفاة ناصر بعد عودته من موسكو أراد عبد الناصر أن ينال قسطا من الراحة خاصة أنه خلال المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي أعلن قبول مبادرة روجرز ووقف إطلاق النار , لقد كان يريد بناء حائط الصواريخ ليدافع بها عن سماء مصر , يومها هاجمه الليبراليون العرب وتركز الهجوم على الفلسطينيين ووصفوا قبول المبادرة بالخيانة للقضايا العربية والمصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين , وذهب عبد الناصر كما سبق للراحة في مرسى مطروح , على الجانب الآخر ماجت الأردن بقتال شرس بين الخلايا والمقاومة الفلسطينية المتمركزة في المخيمات من جانب والقوات الأردنية المضيفة لهم من جانب آخر ووقعت معارك طاحنة ومجازر مروعة في حق اللاجئين الفلسطينيين لدرجة اشتهار تلك المذابح " بمذابح أيلول الأسود " , تلك المجازر كانت أحق أن تقع من الجانبين ضد الكيان الصهيوني لا بينهما , وعلم عبد الناصر بحقيقة الوضع المتردي في الأردن فقطع أجازته و عاد ليجري مباحثاته لاحتواء الموقف , ونظرا لتعدد الأحداث دعا ناصر إلى عقد قمة عربية تقطع الطريق على القتال الدامي وتمد جسور التفاهم بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية , و غير خفي أن عقد المؤتمر يتطلب محاورات ومناورات ومناقشات ومداولات واجتماعات , إلى آخر دهاليز اللعبة السياسية المرهقة , هذا في الأحوال العادية , فما بالنا و الظرف عصيب والدماء تراق كالأنهار بين الأشقاء والمستفيد الوحيد هو الكيان المزروع في قلب الأمة العربية – إسرائيل – فكان الجهد المبذول من عبد الناصر جبارا لدرجة أن وصف هيكل له كان : أجزم أن الجهد الذي بذله جمال عبد الناصر في ذلك المؤتمر لم يبذله في أي مؤتمر آخر , حتى في مؤتمر القمة في الخرطوم الذي عقد في أعقاب هزيمة 1967 , لم يبذل جهدا بالنسبة للجهد الذي بذله في قمة القاهرة لوقف إراقة الدم العربي .

و عقد المؤتمر في فندق هيلتون , و الذي تحول إلى إقامة الوفود العربية وإقامة للرئيس عبد الناصر , وبمرور الوقت بدا الإرهاق والألم يعاود عبد الناصر ولكنه تحامل على نفسه وتماسك لدقة الموقف وخطورته , و انتهى المؤتمر يوم 27 سبتمبر 1970 بالاتفاق على وقفت القتال وبدء عمليات تنظيمية ترتب الوجود الفلسطيني من جديد بالأردن وتم تكليف مجموعة متابعة لمراقبة ما تم الاتفاق عليه , و بدأت الوفود في مغادرة القاهرة بعد أيام من الاجتماعات والمناقشات العصيبة عاد ناصر إلى منزل منشية البكري بعد أن غادر أغلب الزعماء العرب المشاركين في القمة , على أن يستكمل توديع الوفود في اليوم التالي .

وفي صباح 18 سبتمبر 1970 أجرى اتصالا بهيكل لمعرفة ردود الأفعال الدولية من نتائج قمة القاهرة وخاصة رد فعل إسرائيل , كما أجرى اتصالا آخر مع الفريق صادق عضو لجنة المتابعة العربية للتعرف على الموقف في الأردن , ثم توجه ناصر إلى المطار لوداع الملك فيصل عاهل السعودية وعاد إلى منزله مرهقا , ولم يكن من الضيوف باق غير أمير دولة الكويت الذي حرص عبد الناصر على وداعه شخصيا رغم الإرهاق والإعياء الباديين عليه , و توجه بالفعل لوداع أمير الكويت وعند سلم الطائرة شعر بكثافة الإرهاق وركب سيارته عائدا إلى منزله بينما طلب من مرافقيه أن تلحق به سيارة الأطباء , و في منزله استدعى طبيبه " كونصلتو " لاكتشافه دخول عبد الناصر في بداية ذبحة صدرية جديدة وكانت دلالاتها تؤكد على أنها أشد من سابقتها , في هذه الأثناء طلب عبد الناصر من زوجته كوبا من عصير البرتقال , و قبل أن يفرغه في جوفه حضر الأطباء وأجمعوا على دقة و حرج الموقف الصحي للرئيس عبد الناصر غير أنه استدار فجأة وقام بفتح جهاز الراديو المجاور له ليسمع أخبار الساعة الخامسة مساء وبعد سماعه لموجز الأنباء قال بصوت خافت يخنقه الإعياء : " مفيش حاجة " فدعاه الطبيب لالتزام الراحة وتجنب القلق فألقى رأسه على الوسادة و بعد ثوان معدودة أسلم الروح في حوالي الساعة الخامسة والربع من مساء 28 سبتمبر 1970 .

لتنتهي حياة رجل لم تعرف الأمة العربية مثله في العصر الحديث .. آثار الجدل .. . وبنى قصورا .. وهدم قلاعا .تحير فيه أصدقاؤه قبل أعدائه .. أقيمت له احتفالات الانتصارات .. ونصبت له مشانق ومقاصل , بدد كثيرا من العتمة .. . و أعتم من النور أيضا , أهاج المشاعر له و عليه , فتح قلبه للبعض .. و أغلق عينيه عن آخرين .. غير أن الجميع أجمع على اعتباره رمزا .. فالمؤيدون ارتدوا في عهده – قبل رحيله – ثياب الكهنة و جعلوا منه تمثالا لا بد من الالتفاف حوله للحصول على البركة وصكوك الغفران , أما معارضوه فجعلوه رمزا للموبقات والشرور وجعلوا من ذكرياتهم وكلماتهم أحجارا رجموه بها , و بين الفريقين من رأي أنه رجل مرحلة و انقضت بحلوها و مرها , بمكاسبها و خسائرها , و الاستفادة الحقيقية من فترة حكمه تكمن في ما يمكن استيعابه من " أرباحه " وتجنبه من " نكساته " كي يعود النفع على وطن , الذي قدر له رؤية الفجر بعد الظلام و لكن حالت مراكز القوى والأطماع بين الوطن و بينه و أقاموا الحواجز الزجاجية التي تشبه الفتارين في المحلات و تسمح برؤية كل ما تشتهيه النفس فإذا أراد أحدنا الإمساك بها اصطدمت أمنيته بالحواجز الزجاجية .

الفصل العشرون: من الذي سرق خزانة عبد الناصر ؟

تحدث الكثيرون عن تعرض خزانة الرئيس الراحل للعبث في محتوياتها وانتزاع بعض " الأسرار العليا " في أعقاب وفاته .. . و ألصق البعض تهمة الاستيلاء لسامي شرف وشعراوي جمعة باعتبارهما قاضيي مراكز القوى في سنوات ناصر الأخيرة , بينما يرى آخرون أن غيرهما هو ما قام بسرقة محتويات الخزانة .. .

و قبل الدخول في تفاصيل اكتشاف تلك السرقة والتي أعلن عنها بعد وفاة عبد الناصر بأربعين يوما يجدر بنا الرجوع بضعة أشهر بهذا التاريخ .. . وبالتحديد ثلاثة تواريخ مهمة .. الأولى فبراير عام 1968 م , والثاني 30 مارس من العام نفسه , و الأخير 30 أغسطس عام 1969 م .

أولا : فبراير 1968

بينما كانت البلاد تمر بحالة تختلط فيها مشاعر الإحباط و الترقب .. إحباط من الهزيمة الثقيلة قبل ثمانية أشهر , و ترقب لما ستسفر عنه الأحداث المقبلة .

أفاق الرئيس عبد الناصر على أنباء اجتياح مظاهرات عارمة تكتسح شوارع القاهرة .. وأفادته التقارير المتتابعة العجز على كسر أمواجها وكبح جماحها , فمن الذي حرك هذه الجماهير الغاضبة ؟ و أي يد قد ضغطت على الجراح بقسوة لتخرج من الشعب هذه الأصوات المتألمة ؟ وما هي الملابسـات ؟ و بأي هدف تنادي ؟ أسئلة كثيرة احتار المحللون وقتها في كشف لوغريتمها , ولكن بالتدقيق و بعدها بسنوات جاءت الحقائق و عرفها الشعب

أما الرئيس عبد الناصر فقد اكتشف فور حدوثها وعلم أبعادها و مراميها , و ترتبت عليه أمور عديدة غيرت من عزمه و تفكيره في المقربين إليه .. كانت الشرارة الأولى التي أطلقت على الجماهير المكبوتة و التي تحمل داخل صدورها " براميل الوقود الغاضب " كانت برقية مفتوحة موجهة من منظمة الشباب إلى عبد الناصر تحتج على أحكام قضية الطيران وموقعة باسم أمين المنظمة , و منظمة الشباب هذه عبارة عن تنظيم يمكن القول بأنه منبثق عن التنظيم الطليعي الناصري هدفه احتواء الشباب في تيار فكري موال للناصرية , وكانت قضية الطيران محاكمة لقادة الطيران بسبب الإهمال الجسيم الذي أدى لخروج سلاح الطيران من المعركة بعد 6 ساعات من نشوبها نتيجة لتدمير الطائرات وهي قابعة في ممرات الصعود والهبوط بالمظلات العسكرية .. . وبديهيا فإن خروج الطيران من المعركة كان من أدق أسباب النكسة , و الشعب المكلوم في أرضه وأبنائه يعلم ذلك .. وينتظر أحكاما لا تقل عن الإعدام للمتقاعسين , علاوة على ما تسرب للجماهير أن هؤلاء القادة كانوا يعلمون ميعاد الهجوم الصهيوني , فلا بديل عن الإعدام قصاصا للخيانة المتعمدة في نظر الشعب , و لكن الأحكام صدرت بما لا يشفي غليل الناس وجاءت غير متوازية وحجم ما حل من كارثة , فسرت الوشايات هنا وهناك وكثر الهمس واللمز وتواترت التقارير تعكس خيبة الآمال الشعبية بسبب الأحكام الهزلية , إلى هنا والرواية تكاد تكون روتينية , فمنذ سنوات عديدة امتنع الشعب عن المشاركة بالحياة السياسية الفعالة اللهم إلا إذا صدرت لهم الأوامر بالخروج لتحية زعيم ثائر , أو لمباركة خطوة ثورية من " الخطوات الكثيرة " في عمر الثورة , و ربما لتطالب الزعيم بعدم التخلي عن مسئولية البلاد و العباد , أما غير ذلك فلم يتحرك الناس , لم يتحركوا عندما امتلأت السجون بالآلاف من المعتقلين : تارة الإخوان وأخرى الشيوعيون .. وثالثة الإقطاعيين .. ورابعة للإخوان مرة أخرى , لم يتحرك الشعب أيامها , كما أنه لم يتحرك يوم النكسة , ولم يتحرك أبدا منذ قيام الثورة ضد السلطة , فما الذي يدعوه للتحرك , وهل حقا ما أشيع من أجل أحكام قادة الطيران ؟ فمسألة كهذه تؤرق الشعب حقا وتحرق آماله في الإصلاح , ولكنها أبدا لا بد من وجود من ألقى الشرر على الوقود , وكم كانت المفاجأة كبيرة , إنها صادرة من الطلبة بالذات , و الذي حركها هو أحمد كامل أمين منظمة الشباب , وهو مسئول حكومي وحزبي , ولكن كانوا كل هؤلاء " الطلبة و أحمد كامل " مجرد عرائس يحركها سامي شرف وشعراوي جمعة , وقد نمى إلى علم محمود الجيار سكرتير عبد الناصر كل هذا فأسرع بإبلاغ عبد الناصر أن المظاهرات التي تجتاح القاهرة ضد الحكومة خرجت بعلم الحكومة نفسها ! ! ! وممن ؟ من سامي شرف وشعراوي جمعة ! ! !

و استفسر " ناصر " عن الأمر منهما فأخبراه أن الاتحاد الاشتراكي فعلا هو الذي نظم هذه المظاهرة وبتوجيه منه ولكن كانت المفاجأة أن أعدادا غفيرة من الشعب ومن مختلف الاتجاهات وخاصة طلبة الجامعات خرجت للمشاركة " دون دعوتها لذلك " وقد عجزت قيادة المظاهرة " الرسمية " من السيطرة على " المظاهرة الشعبية " لذلك اضطر شعراوي جمعة التصريح لقوات الأمن بتفريق المظاهرة والتي ربما للمرة الأولى " وربما الأخيرة أيضا " تسفر عن خسائر كبيرة في قوات الأمن , إذ أن الجماهير " الشعبية " وجدت متنفسا لها في التعبير عن الغضب الذي يخنق الصدور و يكمم الأفواه و يعمي العيون وجاءت قوات الأمن لتفرقهم بالهراوات فما كان من الشعب إلا أن استرجع اليهود يحتلون ثلث مساحة مصر وهم على بعد 100 كم من القاهرة والأمن المصري يضرب المتظاهرين فانهالوا فتكا بقوات الأمن التي لم تفلح هراواتها ولا قنابل الغاز في إخماد بركان الغضب الشعبي " هذا الغضب " الذي لم يفطن إليه سامي شرف و شعراوي جمعة , أنه يعتري الناس وظنا أنهما بتدبير مظاهرة وهمية سيمتصا أحكام قضية الطيران من الغليان الشعبي , فساء تقديرهما لدرجة انفلات زمام المظاهرة من سيطرتهما , هذا ما نقله شرف و شعراوي للرئيس عبد الناصر , و كان هذا أيضا جزءا من الحقيقة التي فطن إليها عبد الناصر وهي تتلخص في أن مراكز القوى بزعامة سامي شرف وشعراوي جمعة أخرجوا المظاهرة لتجربة نفوذهم ومدى سيطرتهم على الشارع وكفاءة أدواتهم , ولكن سوء تقديرهم أفشل أولى محاولاتهم فبرروا فعلتهم بادعاء " امتصاص السخط الشعبي " وكانت تلك المرة الأولى التي يدرك فيها عبد الناصر أن مراكز القوى قد عادت من جديد وأنه يجب عليه التحرك الهاديء والمباغت في نفس الوقت للحد من تنامي قدراتهم السلطوية .

ثانيا : في الثلاثين من مارس عام 1968

بدأ عبد الناصر في اتخاذ أول إجراء للحد من قبضة مراكز القوى , وحدث هذا عندما ألقى بيان 30 مارس الشهير ونوه فيه إلى ضرورة إعادة البناء الداخلي وخاصة الاتحاد الاشتراكي من القاعدة إلى القمة , و كان يرغب في التخلص منهم عن طريق انتخابات شعبية نزيهة وهو يعلم مدى كراهية الشعب لرموز و أفراد مراكز القوى , لذا عهد في باديء الأمر لعبد اللطيف البغدادي بمسئولية الإشراف على هذه الانتخابات وكان البغدادي خصما كريها لشرف وشعراوي – ولكن رفض البغدادي طلب الرئيس واعتذر بلباقة فما كان من ناصر إلا أن عهد إلى الدكتور محمود فوزي بأمانة الإشراف على الانتخابات , و جرت أيامها مناورات من جانب مراكز القوى لاختبار نوايا عبد الناصر : اتصل بي سامي شرف و قال لي : إن الرئيس يطلب مني أن أرشح نفسي في بلدتي , فقلت له – والكلام للجيار – إن الرئيس سبق ووافقني على أن أخرج من لعبة السياسة وأن أختصر مهمتي في البقاء بجانبه , وبعد قليل عاد سامي شرف يتصل بي ويقول : الرئيس يقول لك : إنه يريدنا بجواره ولا يتصور أن نتخاذل في هذا الموقف وأن يفاجأ بلجنة مركزية ليس فيها أحد منا , فقلت : لكنني متفق مع الرئيس على ألا أدخل في صراعات سياسية وأنه معه وإذا كان قد غير رأيه فلم لم يقل لي ؟ فعاد سامي شرف ليطلبني ويقول : تعال قابل الرئيس , وفي المقابلة قال لي عبد الناصر : إيه اللي أنا سمعته ده ؟ أنت صحيح مش عاوز ترشح نفسك ؟ قلت : أنا لا أملك أن أرفض قرارا لك ولكن لي شرطا أتمسك بها .. فقال ناصر : ما هو الشرط ؟ .. قال الجيار : إن تكلفنا جميعا نحن الذي نعمل معك بترشيح أنفسنا وتكف عنا أي تأييد رسمي فإذا صعدتنا الجماهير إليك عدنا إلى مواقعنا وإذا لم تفعل ذبحتنا .. فهز عبد الناصر رأسه وقال : هو كده , يقول الجيار : أحسست أن هذا كان قراره من البداية وأنه ينوي أن يجعل من الانتخابات القادمة غربالا حقيقيا للذين يحكمون معه .

كان هذا ما أراده عبد الناصر فعلا ولكن " أقدمية " مراكز القوى في التزوير والتلاعب في الانتخابات واكتسابهم الخبرة الطويلة على مرور ستة عشر عاما سبقت تلك الانتخابات , علاوة على أن د . محمد فوزي وما هو عليه من أصالة دبلوماسية وثقافة راقية , جعلت مراكز القوى تقدم على التهامه في وجبة الغذاء قبل أن يحل ميعاد وجبة العشاء المعدة لالتهامهم وتم تزييف الانتخابات لصالح مراكز القوى وأعادوا تنظيم الاتحاد الاشتراكي من خواصهم وأتباعهم من القاعدة إلى القمة .

وكان هذا النجاح سببا إضافيا لدى عبد الناصر يجعله مقتنعا أكثر في أنه لا بد من الوقوف بصلابة في وجه الطوفان الجديد لمراكز القوى .

ثالثا : 30 أغسطس عام 1969م

هذا التاريخ هو تاريخ إعلان تنصيب السادات كنائب لعبد الناصر في الرئاسة وكان هذا آخر ورقة يلقيها ناصر للحد والسيطرة وتقليل نفوذ مراكز القوى المتنامية في عهده .

وتبقى لنا كلمة تعليقا على الأحداث الثلاثة , صحيح أن مرارة الهزيمة في 1967 قد أخذت من معنويات عبد الناصر الكثير وما تبعها من تآمر مراكز القوى الأولى من عامر – بدران – نصر قد نغز في عضده أكثر , كما لعبت حرب اليمن والانفصال السوري عن الوحدة قبل ذلك دورا في إخماد طاقات عبد الناصر , لكن وقد ثبت من التجارب أن وضع السلطات في أيدي اثنين أو ثلاثة قد أدت إلى كوارث متلاحقة انتهت بكارثة يونيو , فإن الأمانة التاريخية تستوجب استقراء أن وضع نفس السلطان – عدا العسكرية – في أيدي غيرهم كانت ستؤدي حتما لكوارث من أنواع متشابهة لو لا فضل الله وحفظه للكنانة الذي جعل من ناصر يسترد بعضا من نفوذهم المتنامي وألحق بإدخال السادات إلى بؤرة الأحداث ليجعل هناك توازنا ما في الصراع القديم المحموم على السلطة , والأمانة نفسها تقول : إن عبد الناصر فعل – بإدخال شعراوي وشرف – مضطرا لما قد اعتراه من تفاحل المرض عليه وسقوطه في دائرة الآلام الرهيبة وأيضا رغبة منه أن يتفرغ لإعادة بناء القوات المسلحة تمهيدا لخوض المعركة التي تعيد للشعب المهان العزة و الكرامة و تعيد للأمة الجريحة إشراقها وسابق عنفوانها .

ورغم كل هذا و لأننا نحلل " التاريخ " ليس من باب النقد وإنما من باب زاوية الاستفادة نود إيضاح أن تفرد فئة بذاتها أو مجموعة أشخاص بالسيطرة المطلقة خطأ لا يغتفر لأي حاكم لأنه إذا ظن أن أمرهم هين عليه وأنه بيده أعطاهم هذه السلطة وهو قادر على سلبها وقت ما شاء – هذا يكون من دروب الأوهام لأن الفئة الجديدة تلك التي ستحيط نفسها بعشرات بل مئات المنتفعين والمنافقين ويكونون في ما بينهم قوة غاشمة على الاستعداد للخوض في صراعات مريرة من أجل الحفاظ على السلطة التي لم يحلموا بالوصول لمعشارها , و النتيجة قد لا تكون مأمونة العواقب و المثال مثل الرعب السابق عامر – بدران – نصر قريب العهد ونيرانه كانت لا تزال تلفح الوجوه فضلا عن القلوب .

فما كان من مراكز القوى تلك إلا الدخول في صراع نفسي عن مغزى تعيين السادات نائبا لعبد الناصر , ولكنهم طمأنوا أنفسهم أن السادات كما بدا لهم منذ أن عاهدوه لا يميل للدخول في صراعات مع أحد , لذا يمكنهم إزاحته بسهولة بعد وفاة عبد الناصر , أي على أقل تقدير إن أظهر جلدا وتشبثا بالمنصب المرموق فعليه أن يرتضي أن يملك ولا يحكم , أي يكون واجهة فقط وهم أصحاب القرار وأهل الحل والعقد , لذا نظموا صفوفهم من جديد وأعادوا الاتصال بحليفهم السابق علي صبري على أمل أن يلقوا بكامل ثقلهم في حالة وجود ما يفشل أطماعهم ويخيب طموحهم في التفرد بحكم مصر .

وكان كل هذا والشعب المطحون يعاني ويلات الهزيمة ويتمسك بالأمل في عودة الأرض وإنقاذ الشرف والعرض , بينما هناك قلة فاسدة نسيت الواجب وأباحوا لأنفسهم الكيد للوصول إلى أهداف شخصية ومصالح نفعية وحدثت المفاجأة المرتقبة , ومات عبد الناصر بعد أن بذل مجهودا مضنيا أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي بالقاهرة في سبتمبر 1970 لبحث موضوع الاعتداءات الأردنية على الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين , كان يوم 28 سبتمبر 1970 ميعاد انتقال عبد الناصر إلى الرفيق الأعلى حاملا معه أفراح وأحزان ثمانية عشر عاما من المسئولية الكبرى والمطلقة بالنسبة لحكم مصر وليبدأ الصراع الجبار على ورثته من جانب الحاكم الشرعي ومراكز القوى .. .

وبعد الأربعين بأيام فوجيء السادات باتصال تليفوني من كريمة عبد الناصر طلبت منه الحضور لمنزل منشية البكري لأمر بالغ الأهمية , ولم يتردد السادات وأسرع في الحال , وبعد وصوله أبدت السيدة هدى عبد الناصر وشقيقها خالد رغبة في فتح الخزانة الخاصة التي في حجرة مكتب والدهما الراحل , وقالا له : " يا عمي تعالا معنا نفتح الخزانة " , وتمت عملية فتح الخزانة بحضور السادات وأفراد أسرة ناصر وسامي شرف ومحمد أحمد الذين استدعاهما السادات , وقد تم فتح الخزانة باستخدام مفتاحين كان أحدهما عند السيدة تحية حرم عبد الناصر والثاني عند محمد أحمد , ولم يكن في إمكان أحد فتح الخزانة إلا باستخدام المفتاحين معا , كما كان من المحال فتحها أيضا بغير أرقام سرية خاصة , وتمت إجراءات فتح الخزانة ليلا ولم تكن الإضاءة كافية نظرا لأعمال البياض والتجديد التي كانت تجري في المنزل وقتئذ , وقد وجدت " اللجنة " مسدس عبد الناصر وأهداه السادات لخالد النجل الأكبر للرئيس الراحل كما استرعى نظر الجميع الترتيب والنظام والتنسيق للخزانة وهو ما اشتهر عن عبد الناصر .

وقد فضل السادات تأجيل فرز الأوراق ليوم آخر نظرا لتأخير الوقت و أوكل لكريمة الرئيس الراحل ونجله خالد مهمة فرز الأوراق وفصل ما يخص الدولة عن الأوراق الشخصية للأسرة التي كان ناصر يحتفظ بها في خزانته أيضا وبعد أسبوع عاودت السيدة هدى عبد الناصر الاتصال بالسادات وطلبت منه أن تأتي إليه هي وشقيقها خالد لمقابلته لأمر خطير , فرحب بهما السادات وفي المقابلة أعلنت هدى عن مفاجأة من العيار الثقيل إذ قالت إنها فوجئت أن الخزانة قد وضعت في غير وضعها السابق مما يؤكد أنها قد فتحت وأن الأوراق التي كانت بداخلها تم العبث بها , فما كان من السادات إلا أن قال لهما : وماذا فعلتما ؟ قالا : لا شيء إلا القدوم إليك على الفور , فاتصل السادات بالنائب العام وتم تقديم بلاغ منه شخصيا وبلاغ آخر من أسرة ناصر وتولت النيابة التحقيق وفي الصباح حضر السادات لمنزل الأسرة بمنشية البكري بعد أن أمر بإحضار سامي شرف ومحمد أحمد وتم فتح الخزانة وبدا للجميع من النظرة الأولى أن الخزانة قد فتحت وأن هناك من عبث بمحتوياتها وأن بعض الوثائق والأوراق المهمة قد اختفت ولم تكن السرقة هي الدافع لوجود مبلغ كبير من النقد وجدوه كما هو دون نقصان .. وقد بدأ النائب العام وقتئذ الأستاذ علي نور الدين التحقيق في الواقعة ومن خلال المعاينة ثبت له أن بعض محتوياتها قد سرق فقد عثر في الرف الثاني من الخزانة على علبة فارغة مكتوب عليها أن بها 9 سجلات لمحاضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة وبعض تسجيلات للقاءات مهمة تمت بين عبد الناصر وبعض كبار الشخصيات , كذلك عثر في رفين بأعلى الخزانة على " أكلاسيرات " مكتوب عليها أنها تحوي ملاحظات مهمة للرئيس على بعض الأحداث والشخصيات ولكنها وجدت فارغة وغير منظمة في حين أنه لما فتحت الخزانة بحضور السادات وشرف ومحمد أحمد وأفراد عائلة عبد الناصر كانت مرتبة وغير مفتوحة , وقد أثبتت المعاينة أيضا أنه قد عبث بحقيبة جلدية في الرف الأخير من الخزانة وقد تركها العابث مفتوحة بعد ما جردها من محتوياتها .

وبعد ذلك تولى خبير الخزائن بوزارة العدل فحص الخزانة وقرر ما يلي

1 – إن هذا النوع من الخزائن لا يباع إلا ومعه مجموعتان من المفاتيح , ونظرا لأن مفتاحي المجموعة الأولى كان أحدهما مع حرم الرئيس الراحل والثاني مع سكرتيره الخاص محمد أحمد , فقد جرى البحث عن مفتاحي المجموعة الثانية دون العثور عليهما , وقد أنكر سامي شرف أنهما لديه رغم أنه سبق له إخبار السادات ومعه النائب العام أنه قام بناء على تكليف عبد الناصر بفتح الخزانة وترتيبها قبل وفاته بأيام قليلة .

2 – قرر خبير الخزائن أنه بفرض حصول شخص ما على المفتاحين فإنه من المحال له فتح الخزانة إذا لم يكن يعرف أرقامهما السرية اللازمة لفتحها وقال الخبير للنائب العام بالحرف الواحد : " إذا أعطيتموني المفتاحين الآن وطلبتم مني أن أفتح الخزانة بغير أن أعرف أرقامها السرية فإن ذلك سيستغرق مني ستة أشهر لأنه سيكون على أن أجد العملية الحسابية الصحيحة من بين سبعة ملايين معادلة محتملة , وأنا خبير الخزائن .

هذا وقد وجه النائب العام سؤالا لهدى وخالد عبد الناصر كل على انفراد وهو من تعتقدون أنه يعرف الأرقام السرية لفتح الخزانة ؟ وجاءت إجابتهما متطابقة : " محمد أحمد أقر بذلك بنفسه أمام سامي شرف فعلى رغم اعترافه بفتح الخزانة لترتيبها غير أنه أنكر معرفته بأرقامها السرية ولكنه يوم فتحها بحضور السادات كان في إمكانه رؤية الأرقام اللازمة للمعادلة الحسابية اللازمة لفتح الخزانة , وعاد النائب العام كي يستفسر فقال : " ولكن غرفة المكتب كانت بها إصلاحات يومها ولم تكن الإضاءة كافية فكيف تمت رؤية المعادلة ؟ فأجابت كريمة عبد العزيز : في هذا اليوم ولعدم قوة الإضاءة أمسك سامي شرف بالولاعة من على مكتب المرحوم والدي واقترب بها من الخزانة ليساعد محمد أحمد على رؤية الأرقام وهو يفتحها وقبل إغلاقها أمسك بمسدس المرحوم والدي الذي كان بداخلها وحينما اختلفت الآراء حول طراز المسدس وذلك دليل على كفاية الأضواء المدعمة بولاعة سامي شرف المذكورة , وعلى جانب آخر أثناء قيام خبراء المعمل الجنائي برفع البصمات من على باب الخزانة وجدرانها من الداخل وعلى الأوراق التي تضمها وكان ذلك في حضور هدى وخالد عبد الناصر ومحمد أحمد وسامي شرف والنائب العام , توقف الخبير وصاح : " غريبة أنني أجد بصمة متكررة في كل مكان وهي واضحة على جدران الخزانة من الداخل , إنها لشخص يعرق بسرعة وبكثرة , فاحمر وجه سامي شرف بشدة وتساقط عرقه ؟ .

وعلى جانب آخر تذكر أنور السادات قصته مع الخزانة .. . ! ففي أحد الجلسات التي ضمته والرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبحضور قرينة عبد الناصر , يومها كاشفه ناصر بسر الخزانة الموجود بمكتبه , وهي خزانة ضخمة جدا , تولى شرائها حسن التهامي , وكان ناصر يحتفظ فيها بما يرى وجوب استمراره سرا على الجميع , وقال عبد الناصر للسادات : إن الخزانة بها مبلغ من أموال الدولة وحدد رقمه كما أن في عهدة سامي شرف مبلغا آخر من أموال الدولة والخزانة لها مفتاحان مع قرينته والآخر مع محمد أحمد ثم إن لها أرقاما سرية لا يعرفها إلا جمال عبد الناصر وهي موضوعة في ظرف مغلق لدى محمد أحمد ولا يفتح هذا الظرف إلا بأمر عبد الناصر شخصيا , و " قد كان ناصر حريص على سرية أرقام خزانته وإذا اضطرته الظروف وفتحها في حضور أحد فإنه كان يعطي ظهره له ويخفي الأرقام .

وتبقى لدينا عدة علامات استفهام ؟ لماذا لم تضاه بصمات من تواجدوا أثناء عملية فتح الخزانة بعد وفاة عبد الناصر وخاصة سامي شرف , وأيضا كيف حصل سامي شرف على مفاتيح الخزانة من قرينة عبد الناصر ومحمد أحمد بفرض علمه بأرقامها ومعادلتها يوم فتح الخزانة بحضور السادات كما سلف ؟

والسؤال الأهم : ما هي الوثائق والأوراق التي سرقت من الخزانة ؟

والسؤال الأخير : بعد تصفية مراكز القوى في 15 مايو هل حصل السادات على مستندات الخزانة أم ماذا ؟

إنها علامات استفهام كثيرة ومحيرة .. تضاف إلى كثير من علامات الاستفهام في السياسة المصرية وقتها ؟ .. ضاعت فيها الحقائق للأسف حتى يومنا هذا وقد لا يأتي يوم وتنكشف .

أما الحقيقة الواضحة والتي لا تحتاج لأحد أن يجتهد لفك شفرتها هي أن الأفراد المحيطين بشخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر – باستثناء واحد أو اثنين – قد استغلوا قربهم منه وثقته فيهم في أن يتلاعبوا بالبلاد – وبه – كيف شاءوا على الرغم من ذكائه المتقد المعروف عنه وحيطته الشديدة وحذره الفطري وشكه الدائم , غير أنهم بأساليبهم الشيطانية استطاعوا عزله عن نبض الشارع الحقيقي وقلبوا له بعض الأمور وأوعزوا إليه إخلاصهم المتفاني لخدمته والعمل على راحته , كما أنهم قد استغلوا الملازم له في الوقيعة بينه وبين خصومهم – وليس خصوم ناصر – أما ما فيه مصلحة الوطن الذي باسمه يحكمون والشعب الذي عنه مسئولون والأرض التي بصراعاتهم قد ضيعت .. فلا قيمة عندهم لوطن أو شعب أو أرض , القيمة الحقيقية والمعتبرة لديهم هي " الأنانية " والأطماع الشخصية , والعجب أن يحدث هذا كله , وأصحابنا " يرفعون شعارات التقدمية والقضاء على الرجعية وحاملي لواء الاشتراكية والمتاجرين بالحفاظ على أقوات الشعب , فإن كانت أفعالهم تلك تقدمية فمرحبا بالرجعية وأهلا وسهلا بالتخلف , لأنهم إن كانوا قد فعلوا بنا نحن عامة الشعب المغلوب على أمره دوما ؟ وإن كانوا قد سرقوا خزانة " ولي نعمتهم " بعد موته وانكشف ذلك لغياب عبد الناصر , فماذا تراهم قد سرقوا من كنوز سليمان .التي كانوا يحرسونها ؟ .

ونحن نعرف أنه لا بكاء على اللبن المسكوب .بمعنى أن هذا ماض وانتهى – نعم – ولكن هل الماضي ننساه وكأنه لم يكن أم لا بد من فتح ملفاته وكشفه عسى ألا يعود هذا الماضي الكريه ويأكل أخضرنا ويابسنا مرة أخرى . أيها السادة كفي هذا الشعب ما عاناه طوال السنوات السابقة وكفاه أيضا ما تندر به إخواننا العرب أيامها في أن مصر على شدة معاناتها الاقتصادية تعتبر بلدا من أغنى بلاد العالم ؟ .. فلماذا يسأل أحدنا وكيف نعاني اقتصاديا ونكون من أغنى البلاد ؟ .. . كانت الإجابة تأتي لأن بها من اللصوص وذاهبي خيراتها ما إذا كانوا في أي بلد آخر لأشهرت إفلاسها ! ! ! .