شخصية حسن البنا كما يراها الناس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٢:٢٧، ٥ سبتمبر ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات) (←‏الحياة من أجل الفكرة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شخصية حسن البنا كما يراها الناس
المفكرة .......... والرجل

بقلم : محمد لبيب البوهي

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حين نكتب عن حسن البنا ، لن نقع في شباك الرياء ، ولن تقودنا شهوة ملق ، فقد نادي الرجل ربه ، وفتح له أكرم طريق ، الطريق الذي كان يطلبه ، طريق الشهداء ، وأسكنه مولاه في جناته العليا ، في ظل عرشه ، مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا ، فلم يعد الرجل في حاجة إلي كلام البشر ، بعد استشهاده ، وهو الذي كان أزهد الناس في ذلك أثناء حياته ، فلا خوف من الرياء إذن .

وإنما المثل العليا والمبادئ الصادقة ، حين ينتقل أصحابها إلي العالم الخالد ، تظل في جو دنيانا حائرة ، كأنها طيور هائمة علي وجهها تحلق في الفضاء ، تبحث عن مكان تهبط إليه .. وتراجم هؤلاء العظماء ، هي الرياض التي تهبط فيها هذه المثل لتعيش من جديد ، وتذكر الناس بفضائل صاحبها ، وتكشف لهم عن حقائقها الكامنة التي كان الرجل في حياته يخفيها تواضعا ؛ فلا تذكر هذه الفضائل للمباهاة ، وإنما لإيضاح معالم الطريق لمن يريد أن يسير فيه .

والكلمات كالبذور قد تصادف أرضا خصبة فتثمر ، وتؤتي أكلها بعد حين .

في سجل الخلود :

من كلمات كبار الإخوان عن الشهيد:

انقضي وقت طويل دون أن ألتقي به ، ولما أذن الله بذلك التقينا فإذا تواضع جم ، وأدب لا تكلف فيه ، وعلم غزير ، وذكاء فريد ، وعقل واسع ، ملم بالشؤون جليلها وحقيرها ، وآمال عراض ، كل ذلك عفه روح ديني عاقل ، لا تعصب فيه ولا استهتار ... وأقسم أني التقيت به وعاشرته ، فما سمعت منه كلمة واحدة فيها مغمز في عرض أحد أو دين أحد ، حتى من أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح في ذمته ودينه .

من كلمة فضيلة الهضيبي بك المرشد العام

استشهد حسن البنا في سبيل إقامة الإسلام علي وجهه الصحيح في نفوس المسلمين ، والتمكين في عقولهم وقلوبهم ، وإخضاعهم في أقوالهم وأعمالهم ، وتحكيمهم إياه في كل ما يتصل بدنياهم وآخرتهم .

من كلمة لفضيلة الأستاذ عبد القادر عودة بك الوكيل العام

شخصيات في شخصية:

من دلائل عظمة الرجل تعدد جوانب شخصيته ، وتعدد الزوايا التي يراه منها الناس .

وحسن البنا كان لا يتكلم عن نفسه قط ، ولا عن أعماله ، ولا يحب أن يتكلم عنه أحد ، سمعت بعض الناس عقب إحدى خطبه يثنون عليه ، ويذكرون وقع كلماته العذاب في النفوس الظامئة ، كالغيث حين يحيي أرضا مواتا ، فقال متواضعا مبتسما : إنما هي مائدة القرآن .

وسمعت رجلا فاضلا ، يذكر للأستاذ البنا أثره الشخصي في انتشار دعوة الإخوان فقال : إنما هو توفيق الله إذا لم يكن عون من الله للفتي فأول ما تجني عليه مواهبه ثم ابتسم ابتسامته المعروفة ذات المعاني الكثيرة وانتقل بالحديث إلي أمر آخر لينجو بنفسه من الثناء .

ثروة من علم النفس:

وكان من خصائصه الحياء ، والحياء شعبة من الإيمان ، فلم يعرف عنه أنه عاب إنسانا قط ، لا في المحضر ولا في المغيب ، وكان لا يواجه المرء بعيوبه الشخصية ، ولو علي سبيل الوعظ والنصيحة ، وإنما كان يلاحظ أداء ذلك في أحاديث عامة ، يري كل إنسان فيها مرآة نفسه وبطريقته التي تميز بها ، والتي يشير إليها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الغزالي فيقول : ليس الداعية إلي الله أداة ناقلة ، كالآلة التي تحمل سلعة ما من مكان إلي مكان ، وليست وظيفته أن ينقل النصوص من الكتاب والسنة إلي آذن الناس ثم تنتهي مهمته كانت لدي حسن البنا ثروة طائلة من علم النفس ، وفن التربية ، وقواعد الاجتماع ، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير ، وقيم الأفراد وميزان المواهب .

الحياة من أجل الفكرة

كان الرجل يعيش لفكرته ، ولعله نسي في سبيلها نصيبه من الدنيا .

كان يعمل في وزارة المعارف حينما برزت إلي الوجود جريدة الإخوان المسلمون|جريدةالإخوان المسلمين اليومية .

وانتظر العالم كله هذه الجريدة بصبر وشوق ، لأنها الصوت المعبر عن الحق ، وسط ضجيج الأصوات العجيبة التي تنطق عن الهوى ، ولكن دولاب العمل في الجرائد اليومية يدفعه دائما أبداً في كل لحظة من لحظات الليل والنهار عشرات من الرجال الأكفاء .

ثم هم مع ذلك من متاعب هذا العمل يثنون ، ويجرون خلفه مبهورى الأنفاس من الإعياء .

وكاد دولاب العمل في جريدة الإخوان يترنح ، فأسرع إليه الرجل الذي هو وحده بألف أو يزيدون .

وضحي في سبيل واجبه بوظيفته .

وقال الإخوان للمصلح الكبير الفقير إلي ربه : إن رؤساء التحرير في الجرائد اليومية ، يتقاضون مرتبات قد تفوق مرتبات الوزراء ، فأبي أن يعمل بأجر ، إلا ما يقوم بأود أولاده ثم كان مع ذلك متحرجا ، فلم يلبث غير قليل حتى عف عن كل مليم من هذه الجريدة التي كان هو وحده القوة الدافعة المحركة لرسالتها .

الدنيا في ميزانه

ولم يكن غير خاصة الإخوان من يعرف أن هذا الرجل الذي كان ملء الأسماع والأبصار ، والذي ينتظر الأثير كل كلمة من كلماته ليحملها إلي أقطار الأرض .

هذا الرجل كان يستقبل في داره زعماء العالم في حجرة فرشت أرضها بالحصير ، وفي هذه الحجرة كان يكتب ويطالع ويتناول طعامه .

ولم تكن مائدته تخلو من ضيف علي الأقل ، وللأضياف عنده إكرام .

حدثني قاض فاضل جاء من الريف ، أن المرشد العام دعاه إلي طعامه .

وكان الطعام طبقا من البيض وبقية من طعام الأمس .

ولكن الرجل وأضيافه كانوا يجدون سعادة نادرة ، ولعل الذين سعدوا بهذه المناسبات لا ينسونها .

ولكن يكن الرجل يضيق بهذا ولو أراد المال زينة الحياة الدنيا ، لوجد ذلك ميسورا بحق من كل وجه كريم

ولكن كان سعيدا بزهده ، وكان من هذا الزهد يجد غذاء روحه ، ومن روحه يفيض علي الآخرين .

كانت مائدته الروحية تتسع لأمة ، تغذيها وتسعدها ، وأكاد أجزم أنه لو جاءته الدنيا وجاءه المال يطوقان بابه ، لتصدق بهما جميعا علي الناس ولم يبق له من دنياه شيئا بل يغسل منها يديه .

وظل كما هو سعيدا بزهده المختار .

تحضرني في هذه المناسبة قصة عمر بن الخطاب ، حينما كان يفرح حين تكون الغنائم قمحا أو شعيرا ، فيحتفل بذلك ، ويفتح لهذه النعم باب المسجد .

ويقول للناس : لقد جاءتكم نعم الله قلما جاءته كنوز كسرى وأمواله ، تجهم .. وقال للناس :

قد جاءتكم فتنة .

جاءكم من الأموال ما إن شئتم كلنا لكم كيلا ، وإن شئتم وزنا لكم وزنا .

التصوف الاجتماعي

ومع ذلك كان المرشد الزاهد يحب أن يري من يقصده في سعة من الرزق ويسعي لهم في ذلك ما وسعه السعي ، ويدعوهم إلي زيادة الكسب الحلال .

هل كان حسن البنا صوفيا .. ؟

أجل .

بما في التصوف من صفاء وحق ... ، وإذا تصور بعض الناس التصوف اعتزالا للدنيا ؛ وحبا للنفس وفرارا بها ، فلم يكن هكذا حسن البنا .

كان عمر صوفيا ، ولكنه كان إذا مشي أسرع ، وإذا تكلم أسمع وكان حسن البنا اجتماعيا بكل ما في كل حرف من حروف الكلمة من معني .

وإذا كان أفضل الناس أنفعهم للناس ، فإنه من تحصيل الحاصل أن نقول إن الرجل كان طرازا وحده في هذا السبيل حتى في حب الخير لأعدائه يحدثنا فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري عن صوفية الأستاذ البنا فيقول :

إنه كان يجلس في حلق الذكر ، ويكثر من قراءة الأوراد ، وكثيرا ما كان يستشهد بها علي معني قلق ، أو يثير بها شعورا خامدا ، أو يوقظ بها نفسا غافية ، وكان رحمه الله يسير في جمع من الإخوان يذكرون الله في أصوات رقيقة مختلطة ، وهذه كلها من شعائر الصوفية ومن تقاليد المتصوفة .

الذين نطحوا الصخر :

ذهبت الشائعات الضالة تعلن عنه في وقت من الأوقات ، أنه قد أصبح مترفا يقتني السيارات الخاصة .

وإذا كانت القبة قد تكون فوق الحبة ، فقد كانت الحبة في هذه الشائعات ، سيارة أحد الإخوان ، كان يحفظ بهما علي المرشد وقته أن يضيع .

وألح بعض الإخوان علي مرشدهم ، وأن يوضح الأمر للناس ، فكان يقول مبتسما .:

هذا هو الستر .

ستر الله .

وأن تكون في واقع الأمر لا تملك شيئا ، ويظنك الناس ما لكا لكل شيء فلماذا اندفع عنا الستر ؟

في سجل الخلود :

من كلمات كبار الإخوان عن الشهيد :

ثم انقضي الرجل إلي ربه ، واستشهد وهو يجاهد لتأدية رسالته ، وإذا بالذين عرفوا قدره وشهدوا بفضله في حياته ، يزدادون له تقديرا وتعظيما ، والذين سخروا منه ، وحاربوه في حياته ، وجحدوا رسالته يعظمونه بعد مماته ، ويوقنون بدعوته بعد وفاته .. ومازالت الأيام تكشف عن جديد في عظمته ، وفريد في عبقريته .

من كلمة للأستاذ صالح عشماوي الوكيل العام السابق للإخوان المسلمين

وتاريخ دعوة الإخوان واستشارة القوى الكامنة في نفوس الأفراد رجع إلي حد كبير لي جهاد الإمام الشهيد رضي الله عنه ، وجهاده كان نابعا من إحساسه بعظم النبعة ، فجاهد وحيدا .. ينتقل من بئر إلي بئر ، ويجمع أخا إلي أخ ، ويستقي بين ذلك من معين الكتاب والسنة .. وظل علي خلفه السمح الهادئ من يوم أن دعا الناس ، إلي يوم أن فارق هذه الدنيا .


من كلمة للأستاذ عبد العزيز كامل عضو مكتب الإرشادالعام

ومن أبرز صفاته ؛ عفته في عدم الرد علي مفتريات خصومه ، كان يقول في ذلك : إن هؤلاء الناس يلقون بهذه المفتريات ، كما يلقي الصياد شباكه ، يريدون أن يجرونا إلي الرد عليهم ، ليردوا هم علي الرد ، فنشغل عن النافع ، ويتم لهم ما يريدون من أشغالنا بالتافه .

والذي تعود الافتراء مرة ، لن يعجز بعد ذلك عن اختلاق المفتريات مرارا ، فليس للزور حدود ، وعند الكذوب الضال ينابيع شيطانية لا تنفد ، فخير ما نفعل لكي تقضي علي نار فتنة أن لا تعذيبها بالوقود ، دع حطبها المشتعل ينطفئ من تلقاء نفسه ، ولن يرد كيد السفيه إلي نحره غير إهمال شأنه وعدم الرد عليه .

ثم ترسم الابتسامة ظلها علي شفتيه ، وتلمع عيناه ببريق من صفاء وحب وتسامح ، ويقول : ومن يدري !؟ لعل خصمك اليوم أن يكون صاحبك غدا .. أو بعد غد ، فلا تزرع في نفسه الحقد عليك فتعجز عن أن تستل من صدره أحقاد الماضي حين يصفو لد وده ، ويصبح الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .

غبار في الطريق

من أجل هذا ، ولأكثر من هذا .

كان يلقي خصومه بوجه باش ، بل لعله كان أكثر احتفالا بلقاء أعدائه ، عن طبيعة نفس وسلامة طبع ، ولم يكن يشير في هذا اللقاء لا من قريب ولا من بعيد إلي ما يرجفون عنه .

كان يسعي جهده في التودد إلي كل إنسان ، والعفو عن كل فاجر .

يسعي دائما لاكتساب من يخاصمونه إلي صفه ، فإن تم ذلك فإنه لسعيد .

كانت ابتسامته مضيئة ، معبرة ..

ولكن ابتسامته كانت تتسع ، كلما ادلهمت الخطوب واشتدت الأزمات ، حتى لقد كنت أحار في تفسيرها حين أراه هكذا .

وأذهب أتحدث إلي نفسي ، وتري ماذا في الأفق البعيد .؟

كان في ذلك حكيما ، فإن المرء في أوقات الشدة ، أحوج ما يكون إلي كل قواه الكامنة يعتمد بها علي الله في حل مشكلاته .

وإبراز القوى الكامنة يحتاج إلي صفاء النفس .

والابتسام هو باب هذا الصفاء .. ، هو الأسلوب العملي عن الرضا بكل ما تأتي به رياح القدر .

مراقبة القلوب

كان يقول : إنك حين تغضب ، تنكت في قلبك نكتة سوداء ؛ وحين تسخط ، وتضيف إلي قلبك سواداً فوق سواد ، وحين تحقد يزداد هذا السواد .

فلماذا تريد أن تلقي الله بقلب أسود ..؟ اغسل ... اغسل قلبك دائما ؛ واحرص علي بياضه النقي الشفاف ، لتري فيه حقيقة نفسك ، وحقيقة إيمانك .

ولكن هل معني ذلك أنه كان لا يغضب ؟ كان أشد ما يكون غضبا حين يري أخا مظلوما ، ضعيف الحيلة يتلقي في صمت سهام ظالمه .

إذ ذاك كنت تري نارا في عينيه .

وكنت تري أطراف فمه وهي ترتجف كانت صورة الأخ المظلوم تتجسم أمامه ، كإنسان أعزه الله فيظلمه مخلوق ويذله ..، دستور الإيمان هو أن يكون كل إنسان عزيزاً فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولي يصلح حال أمة أفرادها أذلاء يخنعون للذل ويرتضون للظلم .

فلذلك كانت أكثر مشاغله قضاء حوائج الناس .، يأتيه من شتى بلاد القطر كل يوم عشرات .. عشرات من الناس يطلبون إليه حل مشكلاتهم .

أرواح تتعانق

وكان بعض الناس لا يقدرون التبعات التي ينوء بحملها عشرات الرجال ، وينهض بها وحده ، فلا يحسون قيمة وقته .. حتى لقد يجلس إليه أحدهم يطلب إليه تأويل رؤياه .

فلا يضيق به ، وإنما يقبل عليه وينسي كل شيء ، حتى ينصرف صاحبه راضيا ، ولقد أشفق علي وقته بعض القائمين بالأمر في المركز العام ، فرأوا أن يقوموا عنه بهذا العبء .

فكانوا يلقون ذوى الحاجات ، ويبسطون لهم جناحهم ، ويقضونها لهم أحسن قضاء .. ولكن أنظار الناس كانت تتلفت باحثة عنه ، وعنه هو ، المرشد الملهم .

فكم من متعب مضي جاء من دشنا ، أو من رشيد ، أو من فاقوس يريد أن يعانقه ويصافحه ويسأله دعوة خير ، فلما مضي يومان علي هذه التجربة ، صرخ من كل قلبه الكبير :

افتحوا بابي ، ودعوا الناس يأتوني بكل همومهم ومشكلاتهم .

لا تردوا عني أحدا ولو رأيتموني أتصيب إعياء وجهدا ، لا تحولوا بيني وبين أحباب الله .

ومن كلماته الشائعة .. إن التوفيق الذي تناله الدعوة ، ليس بجهودنا ولا بجهود الإخوان المعروفين ، وإنما قد يأتينا هذا التوفيق من دعوة مجهولة من فقير مجهول يسمع بنا ، في أقصى الريف ، وهو يتضح تعبا ، فيدعو لنا بالخير فيستجاب له .

المزيد من مدد الله

وفي الأوقات التي كان يريد فيها المزيد من مدد الله وعونه ، كان يقبل علي الناس ، ويفني في محبتهم ، وفي قضاء نصالح ذوي الحاجات يستفتح برضاهم أبواب السماء .

وقد ينهض من نومه ، بعد كد النهار المفعم بالواجبات ليعد خطابا لصاحب حاجة يخشي أن يطلع عليه النهار وقد نساه ، وبهذا الحب كان يوصي الإخوان في كل مجال أو مقال ، كان يقول إن سر الدعوة في تحابب أفرادها ، وإنه لا يخشي علي الإخوان من النوازل ، وإنما يخشي عليهم أن ينسوا رابطة الحب التي جمعهم الله عليهم ، فينساهم الله .

في سجل الخلود :

من كلمات العظماء عن الإمام الشهيد:

فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون ، قد فقدتم أخاكم الأكبر ، الخالد الذكر ، فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفا ، قد أسلم روحه للوطن عفيفا .

حسبكم أن تذكروه حيا في مجده ، كلما ذكرتموه ميتا في لحده .. فالغلبة للحياة مع الذكري ، وللموت مع النسيان .. ولهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته .. والحي ميت لديك إذا نسيته .

من كلمة لسعادة مكرم عبيد باشا

كنت معه يوما في جمع ببنها ، ولما حانت صلاة المغرب ؛ أبي وهو أفقه القوم دينا ، إلا أن أؤمه والجمع تواضعا ، ولو كان في قلبه ذرة من كبر أو أثر تمسك بالرياسة لما فعل .

وإني لعلي يقين أن تواضع الشيخ وتلطفه في حديثه مع كل مشمع من أكبر الأسباب التي ألقت محبة في قلوب الناس ، ولو كان فظا غليظا لانفضوا من حوله .

من كلمة لسعادة فؤاد شيرين باشا

هل كان الشهيد صوفيا ..؟

الشائع عند أكثر الناس أن التصوف عزلة وانقطاع ، ولكن الأستاذ البنا كان مصلحا اجتماعيا .. وكان صوفيا .. وكان تصوفه تصوفا عمليا ، نابعا من صفاء نفسه ، وجهاده ينحصر في تقل هذا الصفاء إلي قلوب الناس جميعا ، تم ترجمته عمليه إلي استقامة دينيه ودنيويه ، فيقوم كيان الأمة علي الأخلاق ، في الدور ، والمتاجر ، والمصانع ومكاتب الحكومة ، فالقرآن هو دستور الأخلاق وعندما تقول الإخوان القرآن دستورنا ، فكأنما يقولون الأخلاق دستور الأمة .. وهذا هو التصوف العملي .

كيف كان يتحدث إلي الأجانب ..؟

كان الإمام الشهيد لا يتكلم غير العربية ، ولكنه كان يلقي كثيرا من الأجانب ، فكيف كانوا يفهمون عنه .؟ في بعض الأحيان كان يقوم مترجم بترجمة الحديث الخاص ؛ ولكنهم في أكثر الأحيان كانوا يحبون أن يسمعوا الأستاذ وهو يتحدث أو يخطب ، وكانوا يقرأون المعاني متجسمة بارزة علي وجوه السامعين فتنتقل إليهم روح المعاني ، ويحسونها كسامع الموسيقي قد يجهل ألحانها ، ولكنه ينشئ بها وتتأثر بها روحه .

في موازين الناس

رأي من بعيد :

سمعت رجلا ممن تحتفي بهم المجالس ؛ وتمجد جرائدنا اسمه يقول عن نفسه : إنه ليس متدينا ، ويري ذلك عيبا فيه ، ولكنه هكذا نشأ ؛ ومع هذا يحب أن يري سواه من الناس متدينا ، لاسيما العامة فإن الدين عنده نظام وأخلاق .

وقد هاله أن وجد القرية التي فيها إحدى ضياعه الكثيرة ، قد دب إليها النظام ، ورأي شبانا كانت البلهار سيا تأكل أجسادهم ، قد عادوا أقوياء يمارسون الرياضة ، وفي الليل يضيئون الطرقات بفوانيس اشتروها بقروشهم ، وإذا مات غريب علي قارعة الطريق كانوا هم له أهلا ؛ وهم يجمعون الناس من كل سبيل ، ويعكفون في أوقات فراغهم يعلمونهم القراءة والكتابة ، في صبر عجيب وعزم ثابت .

قال المتحدث :

تلاميذ حسن البنا

وعلمت من هؤلاء هم الإخوان ، تلاميذ حسن البنا فازددت إعجابا بالرجل ، ورحمت أتابع في شغف أنباء دعوته عن بعد - إنه صانع أعاجيب ؛ في القرن العشرين - قرن الأنانية الفردية والملاهي والشهوات ، لقد سحر الشبان ، ودفع جموعهم من الحانات والمقاهي إلي المساجد ، حسن البنا صاحب عصا سحرية يشير بها إلي الفوضى فتذهب ، وإلي النظام فيحل ، وإلي الأخلاق فنسوه .

هو رجل مدهش هكذا قال المتحدث العظيم ؛ واستطرد في حماسه يقول علي طريقته وبأسلوبه :

هذا الرجل أعظم مخترع في القرن العشرين ، فإن أعظم اختراع ليس هو القنبلة الذرية ولا المخزن رقم 13 ، ولا أشعة الموت ؛ فإنما هذه اختراعات قائمة علي التجارب في مواد صماء ، ولكن أعظم اختراع هو طريقة الشيخ البنا في شحن البطاريات الآدمية بكهرباء الروح .

إنك حين تنظر إليه ، لا تري فيه شخصا فوق العادة ، ولكنك حين تستمع إليه يسحرك ، وحين تضع يدك في يده تصبح له حبيبا وصديقا إنه أعجوبة هذا الزمن .

وأرسل الرجل نظرات في الأفق ، كأنما هو يري في الخيال صورة حسن البنا ويصفها لسامعيه ثم عاد يقول :

الرجل أعدى أعداء المظاهر ، نحن نري العظماء يحرصون علي تكريم الناس لهم .

ويرون في هذا التكريم فريضة علي الإنسانية التي يخدمونها .

مقاييس العظمة


وإنما أعظم العظماء هو الذي لا يشعر أنه عظيم .

تماما كأعلم العلماء الذي يظن أنه لا يعلم شيئا .

لأنه يري عظمة الله فتتضاغر عظمته حتى يراها أنفه من حصاة في ملكوت الأرض والسماء ، ويري بعض بحار علم الله فيري علمه دون القطرة ؛ لست أظن أن حسن البنا دار في خلده لحظة أنه عظيم ، إنه عبد الله فحسب , لا عبد نفسه ، ولا عبد العظمة ، ولا عبد الحياة .

وأرسل المتحدث إلي الأرض بصره .. وقال مخافتا : لقد كان حسن البنا رجلا ؛ وهذا يكفي - يرحمه الله

رجل في مفترق الطرق

ولماذا نكتفي فقط بآراء المثقفين وكبار القوم ، ألا يجوز أن نجد رأيا عظيما بين جمهرة من الناس ..؟

فلنستمع إلي هذه القصة .

قصة رجل كانوا يسمونه .. فتوة ..

والفتوة هو المخلوق الذي لم يصل إلي درجة إنسان ، كل مؤهلاته جسد كجسد الحصان ، وعضلات يصفها هو فيقول إنها من حديد ، وعصا يفرق بها المجتمعات التي لا تعجبه ، ورأس ينطح بها أحيانا كأنه ثور .. هل تراني سأقص عليك قصة رجل من هذا النوع ..؟ نعم فإن هذا من حقه

النفس .. وهواها

كان الرجل يقيم قريبا من إحدى دور الإخوان ، في بداية أمرهم .. وكان قلما سمع هذا الاسم ، ولكنه رأي البعض يقيمون مكبراً للصوت بالقرب من داره .. وفي المساء راحوا يخطبون ويعظون ، ويقول هو عن ذلك أنهم راحوا يضجون ويصخبون .

وجاء الليل .. متعبا بعد معركة خرج منها منتصرا بالطبع وكان يريد أن ينام .

ولكن الأصوات تنفذ إليه ، لا يتبين لها معني ، ولا يحس منها شيئا فأحس من ذلك ما أغضبه .

وإذا غضب غضب في الحي .. عشرون فتوة ، ولا يسألونه لماذا غضب ، وإنما يحملون العصي ، ويحطمون المقاعد ، ويهدمون السرادق هذه هي شريعة العضلات .

وقرر من توه أن يفعل ذلك.

رجل من فولاذ

قال الرجل الفولاذي ، وهو اللقب الذي حصل عليه بذراعه : وهبطت من داري مسرعا ، وأنا أفور من الغضب كأنني خزان قاطرة تشتعل في باطنها النار وهو يوشك أن ينفجر .

واعترضتني امرأتي ، تسألني إلي أين .؟ فطرحتها أرضا بضربة قاسية .. هذا هو جواب أسئلتها عندي .

وفي هذه الساعة لو اعترض طريق حائط لهدمته ، وكنت من الغضب المجنون مستعدا لارتكاب أي شيء .. أي جريمة ولو كان مصيري محكمة الجنايات هذه هي شريعة القوة واقتربت من السرادق ، ورأيت الزحام شديدا .. فذهبت أدفع الناس بكل غيظي وقوتي .. ولكن الناس لا يتحركون .. كانوا أجسادا بجانب أجساد .. كتل من اللحم البشري قد رصت صفوفا .. صفوفا ورحت أدفع بكل قوة ، أريد أن أفتح لي طريقا .. لأقف أمام الخطيب ، وأنتزع مكبر الصوت ، وأتحدى من أريد ، ولكن القوم كأنهم في حشر ، وكأن علي رؤوسهم الطير ، لا يحسون أثر ضرباتي ، ولا ينظرون إلي ، كأنما هم قد سمروا في الأرض أو سحروا .. أو صاروا أخشابا .. إحساسهم متصل هناك في سلك واحد ، معلقة أبصارهم بالرجل الذي يخطب .

نحو النور :

ووجدت نفسي مستندا إلي جدار منزل ، ولست أدري لماذا وقفت ؟.

وربما لأنني كنت أريد أن أنتظر فرصة مناسبة للمروق إلي الداخل .. لتنفيذ ما جئت من أجله .. ولكن الوقت يمر ، ونسيت نفسي .. ومرت ساعة .. ساعتان .. ثلاث ساعات .. ولم أتحرك من مكاني .

لقد سمرت أنا الآخر إلي الأرض ، وسحرت في مكاني .. الكلام الهادئ الحلو مشحون بمعان عجيبة ، يفهمها كل إنسان ، الفيلسوف يجد فيها فلسفة ، والعالم يجد فيها علما ، وصاحب العضلات الفولاذية يجد فيها أيضا أشياء تسعده وتسره .

ونشط عقلي ، وراح لأول مرة في تاريخ وجوده معي ؛ أعني العقل يخاطبني مخاطبة للند ، ولم يكن من قبل يجرؤ علي ذلك ، بل لم أكن أعلم من قبل أنني أحمل في رأسي شيئا اسمه العقل ، وتخاذلت عضلاتي وانكمش الفولاذ الذي فيها ، ولو أن قطة دفعتني في مكاني حينئذ لاندفعت ، لأنني لم اعد أشعر بنفسي .

وبزغت تباشير الفجر ، وتحركت الجموع إلي الشيخ البنا ، تعانقه وتصافحه ، وتحركت معهم - وفعلت كما فعلوا .

وهنا حدث مالم يكن لي في حسبان ، رأيت الرجل يعلق عينيه بشخصي ، شخصي الضعيف .

ويمسك بيدي ، ويستبقي يدي في يمينه .

عجبا !! عجبا لهذا الرجل كأنه كان يدرك بإلهام الله أنني في حاجة إلي دعوته ، وأجلسني كعادته إلي جانبه ، وأقبل علي بكليته فصرت له من ذلك الوقت أخا ، ووجدت لي عشرات الألوف أو ربما مئات الألوف من الإخوة كأنهم أشقاء .

من الضد إلي الضد

قال الرجل : قضيت حياتي الماضية .. وما أطولها في الضرب والعراك وكنت أشعر بنشوة حين أعود إلي داري منتصرا في عالم العضلات كنت مخلوقا في قوة حصان ، أو ثور ، وكنت أزهو بذلك علي أقراني وأمثالي ، أما الآن فإني أقف أمام أي طالب علم نحيف ضئيل الجسم ، ألتقط من فيه الدور التي علمه إياها حسن البنا ، وأشعر مع قوة جسدي يخزي وضآلة ، لأنني أحمل في رأسي عقلا من درجة حجر أنني أريد أن أتعلم ، أريد أن أصبح إنسانا .

لقد فتح لي حسن البنا الطريق إلي حقيقة النفس ، حقيقة الإيمان .

وهكذا أصبح صاحب العضلات صاحب دعوة ، وأوتي علي بسطة جسمه .. بسطة في النفس .

إنه يريد أن يكفر عن ماضيه بالتسامح والعفو ، حتى لو أهانه طفل تقبل الإهانة راضيا مبتسما ، وهو يقبل يديه ظاهرا وباطنا ويردد : الحمد لله .

هل هي مصادفات ..؟ :

الآن وقد قررت بهذه الموازين .. هل تريد أن أحدثك عن شيء آخر أكثر عجبا .؟

إنني سأفعل .

يخلع بعض الناس علي أولياء الله صفات خاصة لا تكون لسواهم من الناس ، وقد رأيت أناسا يخلعون علي الشهيد حسن البنا بعض هذه الصفات .

حدثني رجل فاضل مثقف ذو مركز ممتاز واسع التجارب فقال : إنه دعا الأستاذ البنا ذات يوم إلي طعامه ، وأعد وليمة في بلدته للأستاذ وللإخوان .

وأشتد سرور القوم بمقدم المرشد الملهم .

ولكن هذا السرور كاد يفسده شيء لم يكن في الحسبان ، ذلك أن محطة الإضاءة توقفت فجأة ، وتركت البلدة في الظلام ، قال الرجل الفاضل : ولكن ما إن وصل الأستاذ البنا محطة بلدتنا ؛ حتى أضاءت مصابيح النور

وتسأل الرجل المثقف : هل هذه مصادفة ..؟ فيصمت وتري من عينيه أنه يريد أن يقول : إن الأمر أكثر من ذلك .

لا تتعجل أيها القارئ الكريم ، فتظن أنني سأتكلم عن الكرامات ، ولكني سألقي إليك بقصة مشابهة ، ثم أنقل إليك رأي الإمام البنا شخصيا في هذا الأمر .

قال صديق : كنا مع الأستاذ المرشد في سفر ، في قطار " الديزل " ونزلنا في المحطة ، ولكن بعد أن سار القطار تذكرنا أننا نسينا حقيبة الأستاذ المرشد في القطار الذي بارح المحطة ؛ وكنا نعرف أنه لن يقف في المحطة التالية لأنها محطة متوسطة ريفية .

غير أننا رأينا الديزل يهدي من سرعته بعد المحطة بقليل ، ويتعطل كأنما أراد أن ينتظرنا لنعود بالحقيبة .

ماذا كان رأي الأستاذ البنا في مثل هذه الأقوال .؟

يأتيك جواب ذلك في القصة التالية :

كانت الساعة الثانية بعد الظهر حين أقسم أحد الناس أن يتناول الأستاذ البنا ومن معه طعام الغداء عنده .

وفي دار الرجل انتظر المدعوون ساعتين لإعداد الطعام للأضياف وكان الداعي يتردد حينا بعد حين بين حجرة الأضياف وبين داخل داره ، فنظر الأستاذ البنا إلي الرجل ، وكنت إلي جواره وشهدت هذه القصة وقال ضاحكا : كفي ما تم من الطعام ، لا لزوم " للأرز " ولا البطيخ ، فبهت الرجل وزاغت عيناه ، وهتف : الله أكبر .

لقد كان الرجل قد أرسل في طلب " أرز " من البلد البعيد عن الضيعة فتأخر وصوله .. كما أن البطيخ وجد فاسدا ، فأرسل في طلب كمية أخري .

فمن أين للأستاذ معرفة هذا ..؟

ولعل الرجل قد ظن أن الشهيد قد أوتي من علم الله ما كشف به ما حدث ، وتهامس الريفيون ، وراحوا يتبادلون نظرات الإعجاب والتقدير ، وبعضهم يهتف :

الله أكبر .

ما شاء الله .

وأشهد لقد رأيت الأستاذ البنا يؤخذ من هذا الظن الذي قرأه علي وجوه الحاضرين .

ولو كان رجلا من طلاب الشهرة لحمد هذه الفرصة ، التي سيتناقل الناس لاسيما في الريف أمرها في سرعة عجيبة ، فيكون له من وراء ذلك طيب الأحدوثة .

ولكن الرجل العظيم كشف في بساطة غير متكلفة عن حقيقة الأمر ، فأشار إلي طفلة صغيرة في الرابعة من عمرها هي بنت صاحب الدار كانت قد جلست إلي جواره ، وراحت تتحدث في براءة الطفولة عما أعد من الطعام وقال : هذه هي مصدر الخير .

في سجل الخلود :

من كلمات كبار رجال الصحافة

رأيته رحمه الله يلقي خطبه في جمع من أعوانه وأعضاء جماعته ، وفي عدد من الصحفيين الأجانب استهوتهم سرعة انتشار حركة الإخوان المسلمين في مصر فذهبوا ليروا هذا الرجل ، ولقد خطب الشيخ البنا باللغة العربية وبطريقة ساحرة ، فكان تأثيره في الناس كافيا للتأثير في هؤلاء الصحفيين الأجانب ، الذين لم يكونوا يعرفون كلمة واحدة مما قال ، ولكنهم كانوا بدون مبلغ أثره فيمن كان فيهم كلامه .

من كلمة للأستاذ محمد عبد القادر حمزه بك

كان لا يكاد ينتهي من شرح آية ، حتى يتناول بالتحليل والتدقيق حديثا من الأحاديث في غير ما تكلف ولا تصنع ، فينفذ إلي أعماق القلب ، وأغوار النفس ، وتحس من فرط إيمانه ، ودقة تحليله ، وسلامة فهمه ، وبساطة شرحه ، أن الإسلام عقيدة كل وقت ودين وعصر .

من كلمة الأستاذ حسين فهمي

لقد كان حسن البنا هو الزعيم الوحيد الذي آمن بالفكرة التي جاهد من أجلها .

ولقد كان حسن البنا هو القائد الوحيد الذي تلمحه في صفوف الجنود .

من كلمة للأستاذ كامل الشناوي بك

السفينة والأمواج:

كان العمل في سبيل دعوته هو غذاء روحه ، وأكبر أمانيه أن يحسن برسول الله الاقتداء ، إنك تستعرض كل تاريخه وأعوامه الطوال في هذه الدعوة ، فلا تجده قد شذ لحظة واحدة عما دعا إليه ، ولم تكن المشكلات لتزيد إلا حزما ، ولكنه حزم هادئ عاقل ، حزم من نوع عجيب ، قوي ولكن كالماء الذي يندفع كالسيل ، وهو ذاته سهل لين فينحت الصخر في أناة .

كان الرجل يستعين بعد توفيق الله في حل مشكلاته بأمرين .. روح الجماعة .. وحق الوقت .

كانت له حاسة مرهفة إن لم تكن إلهاما فهي توشك أن تكون كذلك في إدراك بوادر العواصف ، حين يهب علي البعد البعيد غبارها في الأفق يتطاير ، فيطوى كالملاح الماهر النابه شراعه وينتظر ، وقد يسبق العاصفة بالعمل ، فيعكف علي السفين يوجه دفتها إلي الطريق السليم بين جبال الأمواج ، وقد تأتي العاصفة بعد ذلك ، ولعلها كانت تعينه وتعني سفينته قد سار بها بعيدا ، فيجن جنون العاصفة وتقتلع أشجار الشاطئ ، وتنتحر علي صخوره ، وهو من بعيد في مرساه يشاهد مصرع العاصفة ، ثم يعود وقد أصبح الجو رخاء .

كان حكيما ببعض العنف والشدة ، ويؤثر اللين الجازم الحكيم وقد يسأله بعض الناس في ذلك وهو يردون الأمر إلي ذكائه ، فلا يزيد علي أن يجيب كعادته :

ذلك توفيق الله .

هذا إذا مرت العواصف المجنونة من بعيد ، أما إذا لحقت به أو دهمته علي غرة ، وقلما كان ذلك .

فكان يستعين بمشورة الإخوان .. وكان ذلك ديدنه في كل أمر .. فقد كان يؤمن بروح الجماعة , ويستفيد من كل رأي ، ولو كان رأي عابر السبيل .

وكانت له في اجتماعات الجماعة التي يعرض عليها الأمر طريقة فذة ، لم يكن يصخب أو يهدد ، ولا يقول إن هناك كارثة .. ولا يستعمل الألفاظ الحادة المثيرة ؛ ولا يقول كلاما في السر يخشي أن يظهر في العلانية ، ولم يكن صاحب خطب رنانة ، ولم يعرف عنه كما عرف عن الخطباء أنه ضرب بيده منفعلا ذات يوم منضدة مدفوعا بثورة الحماس كما يفعل الخطباء ليهزوا بتلك الحركات نفوس السامعين .

إنه علي يقين بأن الله ناصر الذين آمنوا والمدافع عنهم ، فالنصر محقق لمن تابع ربه ، والطريق مأمون مهما ادلهمت الخطوب لمن سار في موكب القرآن ، وما تلك العواصف العارضة إلا لتمحيص النفوس وتثبيت الأقدام ، وكشف الغطاء عن كنوز مخبوءة في طيات القدر ترفع عنها غطاءها المحن والشدائد .

كان رجال التصوف إذا حلت بهم شدة فرحوا بها ، لأنها مران رياضي لتقوية صفات الأرواح ، وميزان يعرف منه حامل الأثقال إلي أين وصل جهده في احتمال الشدائد .

ولكن لا يرجوها الإنسان لذاتها ، فإنها تجربة وما تؤمن مغبة التجارب ، فالمؤمن يرجو العافية ، ولكنه لا يجزع من المحن ، فذلك قدر الله المقدور بأن يأتي الخير أحيانا عن هذا الطريق ، الدواء لازم للداء ، والمرء يتمني أن يكون الدواء حلو المذاق ، أما إذا جاء الدواء مرا ، ففيه شفاء علي كل حال ، والإيمان تتزلزل رواسي الأهوال ، لا يخشاها حينئذ ذلك الذي جعل حياته ونسكه ومماته لله رب العالمين .

شجرة الحب

لم يكن إذن حسن البنا يجزع ولا يترجم هذا الجزع لنفوس سامعيه من أعضاء الجماعة الذين يطلب عندهم كعادته المشورة ، وإنما كان يبدأ الاجتماع .. الذي أعد لهذه الغاية الدقيقة .. بالتحدث إليهم أفرادا .

حديثا في أغلب الأحيان خاصا ، فيه سؤال عن الأهل والأصحاب ويستقصي أخبار متاعب من يعرف أنه متعب لأمر يشغله ، ينفق في ذلك ما شاء من وقت ، كأنما لا يطوى الجوانح علي شدة تستعجل وقته الإسلام بناء مرصوص ، ولبنات البناء يجب أن يشد بعضها بعضا بملاط قوي ، وملاط هذا البناء هو الحب ، وطريق الحب التعارف ، تعارف كل أخ إلي أخيه ، ليس تعارفا بالاسم ، وإنما هو التعارف التعاوني الصادق ، فإنك إن تحب إنسانا يسهل عليك أن تعمل معه ، وأن تعاونه في احتمال الأعباء والصعاب .

شجرة الحب وارفة الظلال ، وكلما ازداد عدد الأحباب في ظلها عظمت السعادة ، والله من فوق هذه الشجرة يباركها .

ويمتاز الإخوان بهذه الخاصة حين يتلاقون في اجتماع عام أو خاص ، يتساءلون فيما بينهم أولا عن أحوال من حضر ومن غاب ، ويتبادلون النظر في أمر دعوتهم أفرادا ، ويكون بينهم في ذلك حديث طويل ، قد لا يمت إلي ما اجتمعوا له .

وقد ينظر إلي ذلك من لا يعرف ذلك عنهم ، فيظن أنه ينقصهم النظام ، وأن الأخلق بهم أن يدخلوا توا في الموضوع ، ولكن هذا هو نظامهم الأثير .. نظام يمليه الحب فناء الأخ في أخيه ، حتى يصبح الفرد الواحد يمثل قوة المجتمعين بأسرهم .

وهذا هو سر زيادة قوة المؤمن حتى يقوم بعشرات من سواه كما أشار القرآن .

وكان الأستاذ البنا يقول عن ذلك .. إنه بركة الاجتماع ، فللاجتماع في ظلال الحب بركات .

تبسيط المشكلات في تحليلها :

فإذا ساد جو الاجتماع روح الانسجام ، ونشر الحب الخالص عطره في جو المكان ، بدأ المرشد الحكيم يتكلم عن العاصفة التي تلوح في الأفق .. يبرزها في حرص جزءا جزءا ، محللا قواها إلي عواملها الأولية .. إنه ينزع أولا عنها الطلاء الخداع البراق ، لتبدو علي حقيقة العادية ، ثم يعمد إلي محاورها فيفكك أجزاءها ، وإلي قواعدها فيحللها من مرابطها .. وحينئذ تبدو العاصفة الجبارة جثة محطمة الأوصال .

فإذا أحاطوا بها خبرا ، وألموا بأطرافها في هدوء وعمق إمعان ، عاد الحكيم إلي هذه الأجزاء فيضم بعضها إلي بعض ، ليري إخوانه كيف بدأت العاصفة تتجمع ، ومن أين بدأت ، والأيدي التي عملت فيها .. حتى تستوي أمامهم بعد ذلك قائمة في طلائها .

هنا قد يأخذ الحماس بعض النفوس وقد رأي العاصفة مجسمة مريعة وقد تفور العواطف وتموج .. وهذا بالذات ما كان سيحدث منذ البداية أضعافا مضاعفة .. لو أنه فاجأهم بالعاصفة قوية قائمة .. ولكن هناك فرق كبير بين الآمرين .. إن هذه الفورات جاءت بعد ذلك عن فهم وإدراك .

استلهام الروح :

عند فوران العواطف يهدأ الرجل ، ويدع لروحه أن تستجم لحظات ، وتسبح خلالها روحه في أنوار إيمانه ، ويستلهم من ربه الرشد .

كل ذلك وقد تكون حرارة النقاش من حوله قد اشتدت ، فلا يقف في طريقها ، إنما ينظم اتجاهها دون أن يضغط عليها أو يحبسها ، إنه يستمع ويعرض ما يسمع علي الميزان القائم في قلبه ، ويمحص الآراء ويغربل ، حتى إذا نفث كل ذات نفسه ، وتفاعلت المواهب المجتمعة ، وهدأ الجو وراح يجمع في لياقة خلاصة مما قيل ، يضم رأيا كاملا إلي جزء من رأي ، إلي كلمة ، إلي تجربة سابقة ، ومن هذا المزيج الخالص يبرز للمشكلة حلا عليه من روح حسن البنا وعبقريته لمحات .. وهنا يبدأ العبقري حديثه في تواضع ويبسط العلاج .. يبسطه وهو يرسل ابتسامته في كل ركن ، ومع هذه الابتسامة يسري شعاع من عينيه قوي دفاق ومع هذه الابتسامة نور من روحه .. ثم يذكر أنه رأي الجماعة خلاصة الآراء لم يزد علي أن جمعه ووضحه ثم يستطرد قائلا : ألم أحدثكم عن بركة الاجتماع ..؟ ويقبل عليه إخوانه بعد الإخوان يعانقونه ويصافحونه ، وقد يتحدث بعضهم عن فضل المرشد فيعود إلي ما يردده دائما .. الجملة التي كان يقولها في كل يوم عشرات المرات : إنه توفيق الله .

ذاكرة من فولاذ

يسألونك عن ذاكرة حسن البنا

هذه الذاكرة العجيبة التي لا نجد لها مثيلا إلا في خيال أبرع رواة القصص .

الرجل يلقي كل يوم مئات ، كبارا وصغارا ، في الأرياف والمدن ، من الإخوان ومن غيرهم ، أثناء تنقلاته في عربات الترام أو القطارات أو وهو يعبر النيل في القرى المصرية في قوارب صغيرة ، أو في خضم الاجتماعات والحفلات في مصر والشام وفي مواسم الحج في الحجاز وقد يظن أكثر من قابله أنها مقابلات عابرة .. ولكن قد تمضي أعوام طوال ويلقي الواحد منهم حسن البنا ، فيبدأه بالحديث ويناديه باسمه .. ويذكر له من تفاصيل اللقاء الأول ما يجهل صاحب الشأن نفسه ويبهت الرجل ، ويهز رأسه عجبا .

ويقول علماء النفس : ، إنه يغلب علي الناس في هذا الزمن ضعف الذاكرة ، كل فرد مشغول بالعشرات من مشاغله ، محبوس داخل مصالحه ، لا يلق الناس في أكثر الأحيان إلا بجزء يسير من نفسه فكيف تطلب إلي من هذا شأنه أن يذكر كل من يلقاه .

اعذر الناس إذا جهلوا اسمك الكريم ، ولم تع ذاكرتهم كل شيء عن خصمك المحترم ، ولا تظن أن ذلك منهم إهمال أو تعال ، وإنما هي ظروف الحياة في هذا العصر المادي ، الذي تطحن فيه المادة النفوس ، هكذا يقول علم النفس وقد يكون علم النفس في ذلك محقا .

ولكن كل إنسان يسره أن تذكره ، ويري ذلك مجاملة طيبة ومفتاح من مفاتيح المودة ، ولا يهمه في ذلك قواعد علم النفس .. ، هنا يقول لك علم النفس لا تجزع ؛ فعندي لك العلاج ، سأضع لك الموازين القسط لتقوية الذاكرة ، حين تتعرف إلي إنسان في أول لقاء ؛ ردد اسمه كاملا في نفسك وأنت تنظر إليه جيدا ، وتعيره كل أذنك في الاستماع ، واذكر إلي جانب اسمه صفة خاصة ، فإذا كان اسمه أمينا فاذكر صفة الأمانة وإذا انصرف عنك فلا تهمل أمره .. اشغل نفسك بحديثه وباسمه قليلا هكذا يقول علم النفس .

فهل كان حسن البنا يفعل ذلك ..؟

هل كان لديه متسع من الوقت الذي يلقي فيه عشرات من الناس مجتمعين ليؤدي هذه القواعد ..؟ لا أظن

وإنما هي طبيعة الرجل .. ، موهبة امتاز بها من مواهب العباقرة في امتيازهم بصفات لا تخضع للقواعد العامة أو للتحليل .

وقد سأله في ذلك كثيرون فأجابهم مبتسما كعادته : إنه من توفيق الله .

هل كان دكتاتورا .. ؟ :

هذا الرجل الذي كان ينتظر مئات الألوف كلمته ؛ هل ازدهته في وقت ما سلطته ..؟ فأراد في وقت من الأوقات أن يفرض علي أحد كلمة ..؟ لقد كان الرجل معجزة في إنكار الذات ، عندما نقل إلي قنا عام 1940 ، اتجهت إليه الأبصار والأسماع ، وكان في قنا شعبة يرأسها كما يرأس أي شعبة من شعب الإخوان فرد من عامة الإخوان ، قد يكون من تلاميذ تلاميذ حسن البنا ، فماذا فعل المرشد العام ..؟ .

من البديهي حين يحل في قنا أن يدبر هو أمر الإخوان فيها ويتولي مكان الصدارة ، ولكنه لم يفعل .. قال : إنني المرشد العام في القاهرة ، ولكنني هنا عضو في شعبة قنا ، ورئيس الشعبة هنا هو رئيسي في قنا .. عليه أن يشرف علي تنفيذ تعليمات المركز العام .. وإنني كعضو خاضع لهذه التعليمات ولنائب الشعبة أن يحاسبني .. وفي المركز العام بالقاهرة ، حينما يعود المرشد العام من أسفاره كان فراش المركز العام يعانقه ، ويجلس إليه ويصافحه .. إنه أخوه .

كان بعض الإخوان يدفعهم الحماس إلي أن يطلبوا إليه أن يكلف بعض الإخوان تكليفا بأن يلقي كل منهم عدد كذا من المحاضرات أو يحضر كذا من الدروس .. فيبتسم ويقول : وإذا لم يفعلوا ..؟ هل نوجه إليهم إنذارا علي يد محضر ..؟ لا أريد تكليف أحد ، وإنما أريد المؤمن بالعمل الراغب فيه .

وهذه الخاصة أيضا من أبرز صفات الأستاذ الكبير الهضيبي بك إنه يبتسم نفس الابتسامة ، ويردد نفس الحديث ، في هذا الموضوع ، وكان الأستاذ البنا دائما في المشكلات العامة يعتمد علي عنصر الزمن ، ومن كلماته المأثورة في ذلك : إن الزمن جزء من العلاج .. الأحداث التي تبدو لك لساعتها ضخمة كالجبال في تهاويل المفاجأة ، دعها إلي حين فستنفصل عنها أوهامها ، وتنكسر شوكتها ، فتعبرها بعد ذلك وكأنك تعبر حصاة ، وتبرز إليك من طيات الزمن حلول عجيبة ما كنت تراها ولو تعجلت الأمر .

ومن كلماته المأثورة أيضا .. إن هذه الدعوة تنفي عنها خبثها ، فقد ينضم إلي جماعة عضو يبغي غرضا ، فكان يدعه حتى ينصرف من تلقاء نفسه .. إذا لم تجذبه الرغبة في الإصلاح الصادق .. فما عرف عنه أنه فصل أحد من جماعته ، إلا في حالات نادرة قليلة معدودة اضطر إليها اضطرارا وهو حزين يدافع إيثار مصلحة الدعوة .

لو أنفقت ما في الأرض جميعا

زر أي نقابة أو هيئة حيث تجد مجالس الإدارات ، تتكون من قوم أفاضل ، هم علي درجة واحدة من الثقافة ، وفي مستوي اجتماعي متشابه ، ولهم نفس التجارب المشتركة ، فسيهولك أن تجد الخصومات تنشب أظفارها وتشتد في بعض الأحيان ، حتى يكون التراشق بالتهم والسباب ، وفي شعب الإخوان تري عجبا تجد مجلس إدارة هو خليط من مستويات مختلفة ، في السن ، وفي الثقافة ، والمركز الاجتماعي ، والتجارب المتفاوتة .. تجد عالما فاضلا ومحاميا وطبيبا ومهندسا وعاملا وتاجرا وزارعا ، تجد خليطا عجيب من المشارب والثقافات وقد تحتدم المناقشات ، ولكن لا صخب ولا تراشق بالألفاظ ، إذا تحدث الأكبر سنا - والسن عامل جوهري في تقدير الاحترام - سكت الأصغر .

ذلك لأنهم أصحاب رسالة .. تطوعوا لها ، واحتملوا في سبيلها البذل والعناء مجردة من كل غاية ذاتية أو مصلحة مادية .

إن رسالتهم نشر مكارم الأخلاق ، ذلك هو محور الدعوة .. لأن النبي صلي الله عليه وسلم ركز رسالته في أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق .. فأعضاء مجلس إدارة الشعبة الإخوانية يمكن أن يطلق عليهم أعضاء مجلس إدارة مكارم الأخلاق ، فهم يأخذون أنفسهم بهذا المنطق ، قبل أن يدعو الناس إليه ، وقد يجدون في أول الأمر عناء يهون بعد ذلك بالمران والإخلاص .

إنه تحقيق للآية الكريمة .." لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم " .

وهناك أمر يجب أن لا يغرب عن البال في هذا المجال ، ذلك أن أكثر الإخوان كان يقتدي بالمرشد العام حسن البنا في المناقشات والاجتماعات ، فيهم ينسجون علي منواله ، ويفعلون نفس الشيء الذي يتصورون أنه يفعله لو كان حاضرا ذلك النقاش .

ومن مناهجه المأثورة أنه كان ينهي عن الجدل .. إنما هي آراء تبسط ، وصاحب الرأي المخالف ينزل علي رأي الجماعة في سهولة ويسر .

الأصل والصورة

وهذا الحديث السابق يدفعنا إلي مناقشة بعض ما يقال عن الإخوان في تقليدهم للإمام الشهيد .

سمعت رجلا فاضلا يقول .. إنه يلمس في كثير من الإخوان ميلا واضحا إلي تقليد الإمام الشهيد في كل صفاته الخاصة ، حتى في طريقة حديثه ، وإشارات يديه ، ووقفته ، وتكرار نفس الألفاظ التي كان يرددها بالذات في مناسبات خاصة .

وضرب المتحدث الفاضل لحديثه مثلا ، وراح يوضحه فقال : إن الأستاذ الإمام كان مدرسا ، فمهنته تستدعي حين يراجع دروس تلاميذه أن يقول عند تقدير حسن الإجابة كلمة " صح " ولكثرة تكراره لها بحكم المهنة تعودها ، فأصبح يكررها حتى وهو يتحدث إلي كبار القوم حين يوافق علي الرأي المعروض .

فلماذا ينقلها عنه بعض الإخوان ..؟

ذلك إفناء للشخصية الذاتية ومحاولة عقيمة لإيجاد صور مشوهة مضحكة لأصل رائع كريم .

هكذا قال محدثي ، ولكني أخالفه فيما ذهب إليه .

فقد يكون بعض الإخوان حين تلازمهم هذه الصفات متأثرين بانعكاس طبيعي غير مقصود لحبهم لأستاذهم ؛ فانطبعت معالم هذه الصورة في النفس الباطنة ، ثم طرحت علي الحواس مظاهرها ، ثم إن الإشارات والأقوال وأساليب الحديث هي تعبيرات حسية للمعاني الكامنة وليس أحب إلي الإخوان من أن يكونوا صورا طبق الأصل أو قريبة من صفات وأخلاق حسن البنا ، ويوم يحدث ذلك فهو كسب عظيم .

فلا ضير إذن من التقليد مادام الأصل فيه محاولة لإصلاح النفس عن طريق الأخذ عن شخصية حبيبة ، بلغت شأوا بعيدا في العبقرية ومكارم الصفات .. إنما تعاب حين يكون التقليد في الصور الظاهرية فقط ، دون أن تكون تعبيرا عن قوي كريمة كامنة .

وليس في هذا التقليد إفناء لشخصية الفرد ، إذا كانت المحاولة صادقة ذلك أنك تري بين الجيوش تشابها تاما في الحركات والخطوات وأسلوب العمل ، ولم يقل أحد إن ذلك معيب ، بل هو هدف منشود ، لأن فيه القوة المستمدة من وحدة الانسجام .

وأعتقد أن محدثي الكريم قد أقنعه بعض هذا الرأي .

خصومات الرجل الكريم

الرجل الحليم كالبحر يتلقي في نبل ما يضيق به الناس ، ثم يطويه في القاع في صمت ، ولكنه حين يغضب ، وقلما يغضب ، فهي الغضبة القوية التي تهز القاع ، وترسل جبال الأمواج وقد لا تبقي ولا تذر .

هكذا يقال عن الحليم .

ولكني أشهد أن حسن البنا كان أكثر من حليم ، إنك تعد غضباته في حياته علي أصابع يد واحدة وأنت متردد ، ذلك أن الرجل كان يكبح بفرامل الإيمان جماح غضبه .. كان كالإمام الشعبي رضي الله عنه ، حين قال له أحد الناس : والله يا شعبي لو قلت كلمة واحدة لسمعت عشرة ، فأجابه الشعبي : والله لو قلت أنت عشرة ما سمعت واحدة .

هذا رباط التقوى الذي أشارت إليه عائشة حين أغضبتها جارية لها فكظمت غيظها وقالت : لله در التقوى لم تجعل لذي غيظ شفاء ..، قامت في أيامه الأخيرة بينه وبين أحد أعضاء الجماعة خصومة ، لم تظهر إلا فجأة ، مما يؤكد أن البحر الكبير كان يطويها من زمن ، يفتت بقوته جبال هذه الخصومة إلي نثار صغيرة ، ثن ينثرها متباعدة في القاع .

وهذه كانت طريقته .

كان يعتمد إلي الشر فيقصه من أطرافه ، ويحلله تحليلا فيقتطع من أطرافه هذا الجزء ، ويرده إلي الضعف الإنساني ويهضمه ، ويقتطع جزءا آخر ويرده إلي ظروف البيئة ويغضي عنه ، ثم يقتطع جزءا ثالثا ويبحث له عن عذر .. وهكذا .. وهكذا حتى لا يكاد يبقي من الشر شيء ، ولكنه لا يغفل عن العلاج .

وقد تكون هذه الخصومة التي أشرت إليها هي البارزة في حياته كلها ، ولقد كانت تهزه هزاً وتبكيه وهو يشهد عملية عضو من جسد الدعوة كان عزيزا عنده .. ولكن في الحق .. لابد مما ليس منه بد .

ولما عرض الأمر كعادته في المشورة علي رجاله .. كان إجماعهم الرائع ... لثقتهم أن الرجل كان قلما يغضب ، وإذا غضب فقلما يتكلم فالكيل عنده لابد قد طفح .

ومن عادة الرجل العادي ، أن تهدأ نفسه حين يجد إجماعا يشد أزره ولكني لاحظت أنه ينقلب علي مثل الجمر وخيل إلي أنه يود لو وجد حلا كريما ، ووجد من هذا الأخ رجوعا إلي ما يراه الإجماع فاستصحبت عالما فاضلا من كبار الدعوة وحاولنا أن نبحث الأمر وزرنا مرتين صاحب النزاع ، وتعرضنا بسبب ذلك لمسات كثيرة أن تكون من أتباعه .

وما أردنا إلا الإصلاح ، ما استطعنا وما أريد أن أذكر دقائق الأمر وتفاصيله ، ولكن أريد أن أبرز ناحية من صفات الشهيد العظيم في نبل مخاصماته .. وأضرب مثلا أرجو أن يحتذي .

لقد عدنا بعد منتصف الليل إلي الأستاذ البنا بمقترحات ، وكان يهم بمغادرة دار جريدة الإخوان للراحة قليلا قبل صلاة الفجر وكان الإعياء باديا عليه .. من الإجهاد .. إنه يقوم في اليوم الواحد بحشد ضخم يحتاج إلي كفايات عدة مجتمعة .. وإن واجبات قد تكون أكثر وأعظم في انتظاره مع الغد ، فما أحوجه إلي سويعات من راحة .

ولقد هممنا أن تتراجع .. ولقد كان خليقا به حين علم مهمتنا أن يؤثر الراحة علي حديث معاد .

ولكنه وجد في حديث الصلح راحته الكبرى .

إن كلمة الصلح تقر عينه وتطرب روحه .. فإذا به ينتشي كمن عاد من رحلة سعيدة من داخل نفسه .. وازدادت ابتسامته الشيقة الساحرة اتساعا ، وأخذ كلا منا بيد وراح يصعد بنا من جديد نحو مكتبه ...، يا فضيلة المرشد .

دع الأمر إلي الغد .

الغد ..! ؟ لقد جئتماني في سبيل صلح ، .. فمن الذي يؤجل الخير إلي الغد ؟ ومن يدري فلعلي أموت الليلة فالآجال بيد الله .

والآن انظر إلي الحكيم الكبير حين يتحدث إلي تلميذه ، لقد راح أولا يمطر هذا المسعى شكره وطلب إلي الله أن يكتب لنا أجره .. ثم قال أنتما الآن قاضيان ، فلتكن إذن المسألة بين يدي محكمة .

وسأختار من قبلي اثنين يتحدثان عني ، وعلي هذا الأخ أن يختار اثنين .

أعود وأؤكد أنني لست بصدد تفاصيل الأمر ووجه الخلاف فيه وإنما أنا أنقل إليك صورة من عبقرية الأخلاق .

لقد نفذ قدر الله المقدور في هذا الأمر .. ولكن هذه الصورة الرائعة ، قد أضفت مزيدا إلي كنوز معرفتي عن هذا الرجل .

العقل الباطن

من الناس من يعمل بعقله الظاهر فحسب ، يظن أن عقله كل شيء يمده بأسباب حياته ومقومات وجوده ، لا يمد عينيه إلي ينبوع آخر أكثر مددا وأعظم نفعا ، هذا العقل الظاهر المحدود مثله كمثل حفنة من ماء حبست في كأس لا يكاد ما فيها من ماء يروي ظمأ صاحبها ، مثل هذا الرجل سرعان ما يدركه الكلال وتخور قواه وهو لم يحقق مما يريد إلا أقل القليل ، وقد يصيبه مرض الأعصاب وتطحنه الأحداث ، وهناك صنف آخر من الناس لا يري نفسه وحواسه جميعا أكثر من آلة في يد القدر الحكيم ، فهو لا يعمل بقوته المستمدة من ذات نفسه .. يحسب إنما يؤتي الأمور علي علم منه ، وإنما هو يربط أسبابه بأسباب قوي أخري لا يحد مداها ، مثله كمثل قناة صغيرة يجري فيها الماء ، ويمدها من خلفها بحر ، ويمد البحر ، عدة أبحر .

وشتان بين الاثنين ، وبين المنحصر داخل نفسه ؛ والرباني الذي يستمد في كل شيء أمره من الله .

ويفسر علماء النفس الأمر الأول بما يسمونه العقل الظاهر ويفسرون الأمر الثاني بما يسمونه العقل الباطن ، ذلك أن علماء النفس في أغلب الأمر لا يردون القوى إلي الله ، وإنما إلي تجاربهم ونظام دراستهم ، حين يخضعون كل شيء للحس ، وما يهمنا من ذلك أن نقدهم وإنما نري في قولهم ذاك برهانا علي وجود هذه القوى الغيبية ، علي أي صورة من الصور .

يقولون إن العقل الباطن هو العقل العام , هو العقل الأعظم المدير للكون الذي يمد عقول الناس بفيض منه ، يتفاوت قلة وكثرة ، وإن هذه العقول الظاهرة منها عند حدوده لا يستطيع أن يفتح بين جدرانه ثغرة إلي العقل العام ، ومنها ما يوفق في ذلك توفيقا يسيرا أو كثيرا ، ولهم في ذلك تجارب نفسية وبحوث تدل الراغبين علي الاتصال بالعقل العام للانتفاع بقواه ، ويقولون إن نشاط العقل العام الباطن يبدأ حين تقف قوى العقل الظاهر .

هذا التفسير العملي الذي قد يكون جافا يمكن علي أي حال اعتباره دليلا مادياً غير واضح المعالم لإيمان علماء الدنيا بقوى ما وراء الطبيعة والربانيون الذين يدركون هذه المعاني علي حقيقتها ، وإنما يستمدون من مجراها الأعظم مددهم .

ولقد كان حسن البنا ربانيا .

ولذلك كان ينهض في اليوم الواحد بأمور قد يعجز دونها عشرات من أوساط الناس ، ثم هو يؤدي كل أمر أداء عجيبا ، كأنما لم يشغل هذا العبقري النابه بسواه .

إن حشدا ضخما من الواجبات المتماسكة المتدافعة تلاحقه منذ أن ينهض من نومه مع الفجر إلي أن يعود إلي فراشه بعد منتصف الليل .

وليست واجبات من نوع واحد متشابه ، حتى يمكن أن يقوم المران فيها بما ييسر أمرها ويهونها ، إن بعضها مقابلات ، وبعضها أحاديث وبعضها تبعات إدارية ، وبعضها إشراف علي شئون الجريدة ، وبعضها قيام بواجب تهنئة أو عزاء .

وإن كان الذين يتصلون به في يومه ذاك يكاد يوقن كل منهم أن الرجل قد تفرغ منذ أيام أو أسابيع لهذا الأمر الذي يعالجه ، وأنه قتله بحثا وفحصا حتى جاء كما يري .

ولا تكاد تحس حين تنظر إلي وجهه شيئا من تبرم أو تعب أو ضيف إنه كما أسلفنا لا يعمل بقواه الذاتية ، ولكن المدد متصل بينه وبين بحر الفيض الرباني ، يغترف منه ما يشاء من أسباب المعونة ، فليقل علماء النفس في تفسير هذا الحال ما يقولون ، أما الذين عندهم علم الكتاب فيعلمون أن الرجل كان ربانيا ، أحسن الاتصال بربه .

ولقد كان له رأي في الدنيا سمعته عنه مرارا ، كان يقول ليس من حرج علي الإنسان أن يطلب الدنيا ، ولكن فليحذر المؤمن أن يفتح لها قلبه ، حتى إذا هزتها الحوادث اهتز معها القلب ، فإنما القلب كالزجاج وإنما المؤمن يحرص علي قلبه أن يتحطم حين تصيبه أحجار الشيطان .

اطلب نصيبك من الدنيا فإذا جاءتك فضعها علي يدك فإن قلبك أكبر من أن يشغل بها .. فقلب المؤمن لا يشغل بغير الله .

وبغير الباقيات الصالحات .. فإذا هزتك التجارب وسقطت الدنيا نجوت وذهبت هي إلي حال سبيلها دون أن تشدك معها إلي الهاوية .

حكمة .. !! :

يقولون عن الرجل الحكيم أنه يضع الأشياء في مواضعها ـ فإذا تكلم كان له من الألفاظ ما يؤدي إلي أكمل المعاني ، وإذا فعل شيئا جاء بعيداً عن الخطأ والتورط ، يعامل كل إنسان علي قدر ما يستحق ، ويعرف قيمة نفسه وقيم الآخرين ، يؤدي ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ، ويعلم كيف يختار أعوانه ومساعديه .

يصعب عليك أن تضع للحكمة شروطا تراعي ، وتعاليم تحفظ فهي لا تؤخذ بالدرس ، ولا تنال بالشهادة ، وكثيرا ما تجدها بين عوام الناس ولا تعثر عليها بين الأخصاء والمتعلمين ، فقد يحصل الرجل علي أرقي المؤهلات العلمية ، ثم هو بعد ذلك بعيد عن الحكمة ، فإذا أردت أن تصفه فإنما نقول عنه رجل مهذب أو رجل مثقف ، ولكنك لا تصفه بالحكمة إلا إذا كان رجلا موهوبا بها من عند الله " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " .

إنك تعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتعلم شيئا من هذه العلوم التي تدرس هذه الأيام في مختلف الجامعات ، ولم يتعلم ما يتعلمه أبناء هذه الأيام عن الحروب والسياسة والاقتصاد والتشريع وهندسة الري ، ولكنك ترجع إلي وسائله في الحروب وإلي نظم السياسة وإلي أعمال الهندسة والري التي أقيمت في مصر بعد فتحها وإلي التشريع العادل الحكيم الذي استمده من كتاب الله ، ثم تعجب كيف تم له كل ذلك وهو رجل أمي ، بينما نحن نعلم الشباب كل هذه العلوم ، ثم لا نطمئن بعد ذلك أن نكل إليهم أمراً خطيراً إلا بمقدار يسير وقد لا يحسنون الأداء فيه .

وستحار كثيرا إذا أردت أن تعرف لذلك أسبابا غير الحكمة التي يؤتيها الله من يشاء من عباده ، فيكون منها الخير الكثير ، فالحكيم يدرك ببصيرته وإلهامه ، مالا يدركه الناس بعلومهم وتجاربهم .

فإذا نشأ الرجل الموهوب في بيئة علم وفضل كان كالماسة الكريمة التي تحفظ وتصان بعيدة عن العبث الذي يقلل من نفاستها ونقاء جوهرها ، وإذا تلقي الرجل الموهوب علوم هذه الأيام فقد أحيطت حكمته بإطار جميل يظهر كيانها ويدمجها في زمانها .

ولقد نشأ حسن البنا علي غرار ذلك ، أنه رجل موهوب من شجرة كريمة الأصل ، نشأ في بيئة علم ودين ، وتلقي علومه العالية في دار العلوم ، وأنا أريد أن أتلمس أثر ذلك بنفسك في هذه الصورة التي سأنقلها إليك نقلا سريعا بغير تحسين ، لأعيد إليك صورة أول خطاب سمعته من حسن البنا ، حيث تري حفلا حاشداً يضم آلافا من خليط الناس ، منهم العالم الذي درس في الأزهر ، ومنهم المثقف ثقافة مدنية ، ومنهم العامل الذي يقرأ ولا يحسن ما يكتب ، ومنهم الأمي الذي لا يدري عن القراءة والكتابة شيئا .

وقد جرت العادة أن تكون الخطابة في مستوي السامعين جميعا ، حتى لا يشعر أحد الحاضرين أنه يضيع وقته في أمور بديهية لا غناء فيها ، ولا يجد فيها يسمع علوا عن فهمه وإدراكه يبعده عن الفائدة ، ومن هنا تنشأ متاعب كثيرة للخطيب ، وقلما يفلح خطيب في تذليل هذه الصعاب ، لذلك يندر أن تسمع رضاه وثناء من طبقات مختلفة من الناس علي خطيب واحد ، فلكل طبقة خطيبها ومحدثها الذي يناسبها ، ولكنك ولا ريب قد سمعت حسن البنا مرة أو مرات أو علي الأقل قد سمعت ما يقوله الناس عن هذه الخطب الفياضة التي كانت تصل من القلب إلي القلب بغير إذن , لا فرق بين جاهل وعالم لا بيني كبير وصغير ، ذلك لأن حسن البنا كان يخاطب الأفئدة والمشاعر بلغة السماء التي تنزل بردا وسلاما علي القلوب ، لأنها تنبع من منبع طاهر قوى التيار غزير ، وإذا لم يكن الخطيب مؤمنا برسالته فهيهات

أن يكون لها في القلوب أثر أو توجه ، وقد سمع الحسن البصري رضي الله عنه رجلا يخطب ، فلم يتأثر بقول الخطيب فقال الرجل " يا هذا إما أن يكون بقلبك شيئا أو بقلبي " .

وأنا أحسن أنك لا تجادلني في اعتقادك بإخلاص البنا لرسالته ودعوته ، فأنت تدرك ذلك من كل ما يتصل به ، ومن هذا النجاح المتواصل ومن هذه الشعب التي كانت تتكون يوميا في كل الجهات ، مؤمنة بدعوة الحق والنور ، ومن هذا الطوفان العظيم الذي يغمر قلوب الناس بحبه ، وأنا أريد أن أترك سر هذا التوفيق بغير إسهاب ولا تفصيل ، كي أحدثك عن شيء آخر أرجو أن لا يكون قد فاتك ، فإن هذه الجموع كانت تستمع إليه ساعات طوال بغير ملل أو ضجر دون أن يتكلف الرجل شيئا من التفنن بهذه الآيات البينات التي يلقيها ، ارتجلا علي الناس ، ونظره لا يترك زاوية أو ركنا دون أن يبحث عن وقع هذه الأقوال فيه ؛ فهو يراقب ملامح

الوجه وانفعال العضلات والأعصاب عند كل كلمة ، ويدرك بإحساس غريزي عبقري وقع خطابه في كل نفس ، فلكل حركة خافتة من هذه الحركات معني لا يخفي من الرضا أو الأسف علي عدم انطباق قول الخطيب الكريم علي فعل السامع أو الندم علي ما فات السامع من تحصيل فوائد ما يسمع أو الرغبة في التوبة وعدم العودة إلي ما فعل الذنب ، أو التفكير في العقبات التي تعوق السامع عن تنفيذ ما يوصي به الخطيب ، كأنما لكل سامع في كل درس أو محاضرة ملفا خاصا لدي الخطيب يسجل فيه هذه البوادر والخلجات النفسية التي يستشفها بفراسته وحكمته وهو يتكلم ، دور أن يشعر أحد السامعين أنه موضوع دراسة الخطيب ، وأن الخطيب يمكنه أن يدرس هذه الجموع وهو يتكلم .

والآن وقد انتهت المحاضرة ، وظل القوم كأن علي رؤوسهم الطير تجد الرجل يتحدث إليهم حديثا هادئا لينا ، وقد اتخذ مجلسه بينهم والفرح يغمره لتوفيق الله الذي جمعه بهذا الجمع المبارك ، ولعلك تظن أن مهمة الليلة قد انتهت ، ولكن لازال أمام الشيخ عمل آخر كبير فهو قد

ألقي خطابا عاما لجميع الحاضرين ، ولكنه قد تعرف خلال الخطابة إلي مرضي في حاجة إلي الدواء والعلاج ، وأين يجدون العلاج أن لم يكن هنا الآن ..؟ وما فائدة هذا الكلام الطويل العريض أن لم يؤت الثمرات المرجوة حالا في هذه الفرصة المؤاتية ..؟ فانظر حفظك الله إلي هذا القابع في قاعة الدرس بعيدا منطويا علي نفسه ، لا يكاد يستلفت نظرك ، ولا تكاد تحس لوجوده أثراً ولكن عينا فاحصة متفرسة تراقبه من بعيد ، وتلاحظ في حكمة وهدوء هذه العواطف المخلفة التي تبين علي صفحة وجهه ، كلما جاء معني من معاني الإرشاد والتوجيه لامسا للعرق النابض الحساس ، ثم انتظر قليلا فستجد حسن البنا يدعوه إليه أو يسعي هو إليه ، يزيل ما في نفسه من رهبة الوقار ثم ، يأخذ معه في حديث حلو جميل تطمئن إليه النفس الحائرة ، حتى يصبح هذا الأخ الجديد ملازما للدار لا يبغي عنها حولا كالمريض الذي يلازم المستشفي للعلاج .

وبمثل هذا تختم كل محاضرة أو درس باكتساب أنصار جدد لدعوة الإخوان ، يجدون في ذلك شفاء نفوسهم فيعملون علي أن يشيع هذا العلاج بين الناس ، ومن هنا كان الحب الذي كان يحاط به ذلك المرشد الملهم ، حباً ينبعث من هذه القلوب التي مسح عنها بقوة روحه وشخصيته ما كان يرين عليها حيرة ، وأخذ بيدها إلي الطريق ، وكشف لها عن مصدر النور ، وامتزجت روحه بأرواحهم ، فأصبحوا قوة نورانية متماسكة ، هي كتلة الإخوان المسلمين المنبثين في كل مدينة وكل قرية وكل بيت طاهر كريم ، حيث تجدي صدي لهذه الدعوة المباركة التي عمرت بها قلوب طاهرة ، قد ارتفعت بأصحابها إلي مستوي لم يعهده أولئك الذين دانوا لسلطان الشهوات يرونها كل ما في الحياة من زينة ومتاع ، وإذا خلت حياة أحدهم منها أظلم الوجود في ناظريه ، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي فما ربحت تجارتهم ، وأولئك هم الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .

المواطنون المسيحيون

جاء في الأمثال أن من جهل شيئا عاداه ، ولنا في هذا الوطن العزيز مواطنون مسيحيون أعزاء علينا ، تجمع بيننا وبينهم روابط عزيزة قوية وطنية وتاريخية ، والدين الإسلامي دين الحب والتسامح والبر والرحمة بالناس أجمعين ، وليس من مبادئ الدين الإضرار بأحد أيا كانت مذاهبه الدينية ، ولقد أوصانا النبي بقبط مصر في حديث معروف .

والمواطنون المسيحيون يسمعون عن دعوة الإخوان المسلمين ويرون الدور غاصة بالزائرين ، ويسمعون أن هناك محاضرات متصلة ودروسا تلقي كل يوم ، فمن الكفيل أنهم لا يطمئنون معه ، والإخوان يحرصون بغير ريب علي حسن المودة وزيادة الروابط تمكينا مع هؤلاء المواطنين الكرام ، وما من أحد من الإخوان إلا وله منهم أصحاب يحرص علي مودتهم ، ولذلك فقد وجب تطمينهم عن أمر هذه الدعوة المباركة التي لا ضرر منها لأحد وإنما فيها الخير الكثير لهم أيضا ؛ بالنظر في هذا الشأن من حسن البنا الذي قد هالني أول معرفتي به أن وجدته محبوبا من كبار المسيحيين في قنا من الذين فهموا الدعوة وعرفوا ما فيها من الخير الكثير للناس كافة ؛ ولقد حضرت دعوة وجهها الإمام الشهيد إلي عظماء قنا وأعيان المسيحيين فيها من مواطنين وتجار ، حتى غصت بهم الدار والإخوان يقابلونهم بالتحية والترحاب من كل باب ، لك فرصة طيبة قد انتهزها ذلك الحكيم الذي يقتنص الفرص الصالحة اقتناصا ، وفي هذا الجو الهادئ أخذ يوجه الحديث هادئا

لينا شارحا دقائق الدين الإسلامي وما جاء فيه من تعاليم لسعادة البشر كافة ، حتى هذه الأحكام التي ظاهرها القسوة إنما هي رحمة للجنس البشري ، فإذا قال الله في كتابه الكريم أن علاج الزنا هو الجلد أو الرجم ، وأن علاج السرقة هو قطع اليد فهو قول حكيم خبير يصف الدواء بقدر الداء بخلاف هذا العلاج الذي يلجأ إليه الإنسان ، حتى إذا عرف فشله لجأ إلي تجربة أخري من النظم والقوانين الوضعيه ، ولذلك لا تجد رادعا قويا عن المنكر كهذا الذي تجده في ذلك

الكتاب الذي لا يأتيه الباطل أبداً ، وهذه بلاد الحجاز قد أقامت حدود الله بين الناس فتمر الأعوام الطوال دون أن نسمع عن زان واحد قد جلد أو رجم ، ودون أن نسمع عن سارق قطعت يده ، فكأنما شدة الردع قد منعت حدوث الإثم ، وذلك أقصي ما يتمناه العاقل وإنك لتسمع الكثير عن أمانة هؤلاء العرب الذين لا يجدون كثيراً من خيرات الدنيا ، فقد يقع منك وأنت تحج كيس أو شيء ثمين فلا يأخذنك القلق ، والجزع لأنك تعلم علم اليقين أنك ستذهب إلي دار الأمانات فتجد متاعك قد سبقك إليها .

وأما هؤلاء الذين يقولون بقسوة هذه الأحكام ، فما عليهم إلا أن ينظروا إلي هذه النتائج التي لا ترقي إليها الأحلام ، وليعلموا أنهم ليسوا أرحم من الله تعالي بعباده ، ثم لماذا تأخذنا هذا الرحمة الزائفة المصطنعة بذلك المجرم الذي يزني بامرأة غيره فيعرض الشرف للانهيار ن ويدفع الناس إلي الفتنة ، حتى تشيع الفاحشة والفوضى في الأنساب ، بل إنه من الظلم لطبقة الحيوان أن تعد هذا المخلوق منها أو تصفه بصفاتها ؛ وهل تري جرما أشد من هذا علي الشرف والأخلاق ..؟ فلماذا تريد أن تحمي مثل هذا الميكروب الخبيث بشفقة لا موضع لها ، ولا مبرر ..؟ ويشير المرشد في إسهاب حلو متصل إلي وصية الله تعالي للمسلمين بالذين لم يحاربوهم ، في ديارهم أن يبروهم ، وأن يسارعوا ، بالقسط والعدل إلي الناس كافة ..، فيتقبل الأضياف ذلك قبولا جميلا ويشيع البشر علي وجوههم .

ويستمع المواطنون المسيحيون إلي هذا القول من الشهيد العظيم فيأخذهم العجب لهذه القدرة البيانية التي لم أنقل إليك منها إلا بعض نقط الموضوع ، ثم يعترفون أنه ليس أحب إلي المواطن المسيحي من أن يعيش في مثل هذا الجو الذي تحدده تعاليم الإسلام ، فيأمن كل إنسان علي نفسه وعرضه وماله ، ويرون أن هذه المبادئ هي صلب الدين المسيحي أيضا وأنهم يعملون جاهدين علي نشرها بين الناس فهو إذن تعاون علي إقامة منارة للأخلاق .

ثم ينصرف هؤلاء الأضياف مشيعين بالتحية ، وإذا هي مودة قوية بين العنصرين ، وكثيرين هم أولئك الموظفون والأعيان من المواطنين المسيحيين الذين كانوا يسألونني دائما عن الإمام المرشد ويستفسرون عن أخباره .

فانظر كيف جمعت كلمة هذا الرجل قلوبا كان يخشي أن تتفرق ، ويصيد في مائها المستعمر .. ألا تري أن ذلك من علامات الإخلاص الذي يمهد لصاحبه النجاح والتوفيق ..؟ فقد دلت التجارب أنه لابد لكل نجاح دائم في أمر من الأمور أن يؤدي بإخلاص خالص لا تنفذ عناصره ، بل يتجدد ويزداد مع الأيام ، لا توهنه الشدائد والعقبات بل يكتسب منها حيوية جديدة يقاوم بها الصعاب .

الشخصية:

درجت منذ الصغر علي أن أتخيل كل رئيس عمل أو كبير قوم ، وقوراً لا يبتسم إلا بمقدار ولا يسير إلا مستأنيا ، يكاد ينتزع قدميه انتزاعا ؛ يتأنق في مشيته تكاد تعد عليه حركاته ولفتاته ، وكنت أكره أن أمكث طويلا في حضرة أحد هؤلاء الكبار ، لأني أكره هذا الجو الذي يفرض علي الحاضرين فرضا ، فهو جو كله تكلف لا تشعر فيه بحريتك التامة في القول والحركة ؛ لأن ذلك الرجل يري من دلائل عظمته أن يجعلك أسير حالة عصبية تشل الإرادة ، وكثيرون من الناس يعجبهم هذا التزمت والجمود فتراهم يقلدون ذلك مع من هم دونهم ، ومع

أولادهم وزوجاتهم ، فيشيعون الرهبة حيث يكونون ، إذا دخل الرجل منهم بيته هدأت الأصوات ، وسكنت واضطر الطفل أن يقلع عما كان آخذاً فيه من اللعب حتى ينصرف ذلك الرجل الكريه ، فينفجر الضغط الذي كان قائما بالمنزل كالكابوس ، وقد يكون الرجل عارفا بذلك ، مدركا لهذا الأمر ، لكنه لا يعمل علي تغييره ورده إلي البساطة والحرية ، فهو يريد أن يحتفظ بهذه الأمور التي يراها داعية إلي الوقار والاحترام .

إن ذلك التكلف من عوامل فراغ النفس ، وضعف الشخصية وإن الرجل القوى ليس في حاجة إلي هذه المظاهر ، علمتني التجارب هذا المعني ، وتأكدت منه في حياتي العملية .

فكل كبير قد علمت معه ووجدته محبا لهذا الجمود ، وتكشف لي أمره عن طبل أجوف مستور بقشرة رقيقة من هذا الغرور ، فهو يريد أن يقيم من هذا الادعاء بينه وبين الناس حائلا فلا ينفذون إليه ليعرفوه علي حقيقته .

كنت أعاتب صديقا تاركا للصلاة .

فأجابني أن والده كان رجلا متديناً حقا ، وكان يريد أن يحمل أولاده علي الصلاة وحفظ القرآن فكان يضربهم ضربا موجعا ، دون أن يشرح لهم ما هي الصلاة ، وما فائدتها وما العقاب الذي يحل بتاركها ، ودون أن يأخذهم بالحكمة واللين ، فكان يجمعهم لصلاة الجماعة فينصرفون إلي الضحك واللهو حتى إذا سلم الوالد تسليم الصلاة والتفت إليهم تصنعوا الهدوء والثبات ، ولذلك شبوا بعد ذلك كارهين للصلاة ، لا يذكرونها إلا ويذكرون معها ما لحقهم من العذاب بسببها .. فالضغط دائما سبب للانفجار .

ومع علي بهذه الصفات التي ذكرتها لك ، لازلت للآن كلما سمعت عن عظيم أو كبير تبادرت إلي خاطري تلك الصورة التي لازمتني منذ الصغر ، عن العظماء والكبراء ، فجعلتني كارها لمقابلة أحد منهم ، إلا أن تدعو إلي ذلك ضرورة ملحة ، ولكني رأيت حسن البنا بخلاف ذلك كله ، إنه مع العامة متواضع بسيط كأنه منهم ، وهو حين مشي في الطريق يكاد يذوب تواضعا ، وفي مجالس العظماء تبرز مزاياه تعلن عن عظمة روحه في حياء حكيم وعلم غزير .

قمت مرة بإلقاء محاضرة عن العلم في العصر الحديث بعد أن اشتغلت بإعداد هذه المحاضرة زهاء العشرين يوما .

واطلعت علي عشرات الكتب ، فتكلمت عن ستيفنسن واكتشافه للبخار ، وكيف كان ذلك أساسا لتشغيل القاطرات علي السكك الحديدية ، وتكلمت عن فاراداي ، ذلك العالم الكهربائي العظيم الذي اكتشف أحداث التيار الكهربائي في لفة من السلك حين إمرارها في حقل مشحون بالمغناطيس ، وكيف أصبحت هذه الفكرة الساذجة أساساً لكل الصناعات الكهربائية التي ينعم بها البشر الآن ، وعرجت في محاضرتي علي علوم السحر عند قدماء المصريين ، والشعوذة التي كانوا يدخلون بها إلي عقول الناس لإيهامهم أنها معجزات الآلهة ، ثم اتصل المجال في المحاضرة بعلم الفلك ، وكيف أن الأرض والشمس والكواكب كانت كتلة واحدة ، ثم انفجرت وتناثرت أجزاؤها .

وكيف يرنو علماء الفلك إلي غزو طبقات الجو العليا ، والوصول إلي المريخ وغير المريخ وكيف يفكرون في اكتشاف جهاز يشبه الصاروخ يندفع طاردة متجددة من جوفه إلي طبقات الجو ، كلما هبطت قوته انفجرت بداخله قوى جديدة من آثار تفاعل كيماوي ، فيحدث اندفاعا وصعودا جديدا ، وكيف قام العالم الفرنسي بيكار بأول تجربة من هذا النوع فارتفع إلي عشرات الأميال في جهازه الذي سقط به بعد الارتفاع الشاهق البعيد ، ثم عاد القوم يعيدون المحاولة مرة بعد المرة لغزو الكواكب بعد أن أتموا غزو الأرض .

وما أعظم العظمات والعبر التي نخرج بها من قول الله تعالي " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداً وعلي جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السموات والأرض ، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ، فقنا عذاب النار " .

وما أجدر الإنسان بتأمل هذه الآية الكريمة فيدير نظره فاحصاً متعظا ، في هذه المجموعة الشمسية التي تعتبر كرتنا الأرضية ذرة منها والتي يبلغ مجموع نجومها مائة ألف مليون نجم ، ويبلغ قطر المجرة فيها مائتين وعشرين ألف سنة ضوئية ، فكل هذه الآيات تدعو أشد الناس كفراً إلي الإيمان السليم ، إذا أمعن التفكير في خلق هذا الكون ، ويزداد الإنسان عجبا إلي عجب حين يعلم أن هذه المجموعة الشمسية بما حوت من ألوف الملايين من النجوم تعتبر بأكملها واحدة من كثير من مجموعات أخري تظهر لعلماء الفلك علي أشكال سدم وسحب لولبية أقربها إلينا يبعد 850.000 سنة ضوئية ، وأنت تعرف أن السنة الضوئية ، تقاس بالمسافة التي يقطعها الضوء في الثانية وهي 186.000 في الثانية فانظر إلي المدى الذي لا يتصوره العقل لبعض هذا الكون البديع الذي خلقه الله فأبدع في خلقه ما شاء ؛ وانظر كم تكون نسبة الأرض التي تعيش عليها بما تحوى من دول وقارات وبحار ، إلي هذا الكون العظيم ؛ إنها نسبة لا تتجاوز نسبة الذرة الصغيرة إلي رمال صحراء الدنيا ، فكم يكون ضآلة أمر الإنسان علي هذه الأرض بالقياس إلي هذا المحيط الهائل .؟

ولكن أمره مهما دق لا يخفي علي الله ، وما من خاطرة أو هاجسة تمر بذهنه ، إلا يعلمها كما يعلم ما في البر والبحر من أسماك وحيوان ، وكما يعلم ما في الأرحام ، وكما لا تحمل من أنثي ولا تضع إلا بإرادته .

وما تسقط من شجرة ورقة يعلم مستقرها .

وقد انتهت المحاضرة وراح الشهيد العظيم يتكلم معقبا فتناول كل نقطة من نقاطها ، واحدة فواحدة ونفذ منها إلي لباب الفلك وسر خلق الكون ، وما من ناحية من نواحي الطب أو الفن مما أجهدت نفسي في تحضيره إلا رأيت الرجل يفيض به فيضان البحر العظيم ، حتى بدت محاضرتي التي أعددتها خير إعداد كقطرة من هذا البحر ، وراح في تبسط معجز عجيب يقرب إلي عقول العامة بطريقة دينية رائعة سهلة دقائق هذه العلوم ، ويبرز منها العظة الدينية ، وقد نظرت إلي أقل الأشياء ، فإذا بهم قد استوعبوا دقائق فلسفة المرشد الملهم

بقوة تبسيطه لهذه الرياضيات العليا وهو أمراً أدهشني كثيرا ، وما كان أحد يظن أن يكون لعالم ديني مثل هذا الإلمام والتبحر ، في أحدث علوم الدنيا ، ولم يكن الأستاذ بطبيعة الحال يعلم النقط التي سأطرقها حتى يمكن أن يقال أنه قد ألم بها قبيل المحاضرة إلماما وتفصيلا ، أما جوابي لهذا الذي يسألني كيف يتسع الوقت لذلك الرجل الذي كرس كل دقيقة من دقائق وقته للواجبات التي أخذ نفسه بها ما يسمح له بهذا البحث والعلم والإحاطة بهذه الأمور ، فجوابي أن ذلك هو فضل الله يؤتيه من يشاء .

وأن المؤمن يري بنور الله ، وأن الحكيم الموهوب إذا مد له طرف من أمر وألم ببدايته إلماما يسيراً تولي الذكاء والعبقرية أمر البقية الباقية من كشف الآفاق المحيطة بتلك البداية ، والمتصلة بها مما قد لا يتيسر مع الوقت الطويل للباحثين المتبحرين من ذوى الأحلام العادية والأفهام البسيطة .

ثم هو بعد ذلك إلهام من الله لمن يشاء من عباده ..

في سجل الخلود :

من كلمات كبار رجال الصحافة :

ما من شك أن المرحوم الأستاذ حسن البنا قد ترك أثرا عميقا في تاريخ مصر الحديث ، وأنه سيأخذ مكانه إلي جانب قادة الجماهير من أمثال مصطفي كامل وسعد زغلول .

من كلمة للأستاذ محمد التابعي

لم أقابل في حياتي الصحفية زعيما أو سياسيا متمكنا من دعوته ، تمكن المغفور له الأستاذ حسن البنا ، كنت أقابله متحديا متعمدا أن أحطم منطقه بمنطقي ، وكنت أفترق عنه دائما مقتنعا بإيمانه وبصدق دعوته وبقوة عزمه علي الوصول إلي هدفه .

من كلمة للأستاذ إحسان عبد القدوس

بل لماذا لا نقولها في غير مواربة ..؟ لقد كان حسن البنا نجدة إلهية ، ونفحة سماوية وقبسا ربانيا يشع منه النور ليهدي أبناء هذا الجيل الضال إلي طريق الحق .

من كلمة للأستاذ عبد الوارث كبير

المكان .. والزمان .. :

لست أدري لماذا يلازمني شعور عميق بأثر مدينة الإسماعيلية في بعث دعوة الإخوان المسلمين من جديد ، من خلف هذه الأجيال التي مرت علي الناس وهم عنها غافلون ..؟ إني أو من أشد الإيمان بإيحاء الزمان والمكان ، وأعلم أن مكانا ما قد يبعث في نفسي شعوراً خاصا يختلف عن ذلك الشعور الذي يبعثه في نفسي مكان آخر ، ولعلك قد جربت ولا شك شيئا من ذلك فانشرح خاطرك لمكان ما ، وشعرت كأنما هذا المكان يوحي إليك بالهدوء والطمأنينة ، بينما قد انقبضت نفسك من مكان آخر ، وشعرت فيه بالضيق والعجز عن التفكير السليم ذلك هو اعتقادي عن إيحاء المكان الذي دفعني إلي الحديث عن فضل الإسماعيلية في بعث دعوة الإخوان المسلمين .

فالشهيد حسن البنا قد بدأ حياته العملية في هذه البلدة التي تختلف عن باقي بلادنا بروحها الأوروبية المسرفة ، تكاد تكون أقرب شبها بالمواني الفرنسية التي نسمع عنها ونعجب بها لما تحويه من مفاتن ، وقد تختلف الإسماعيلية عن هذه المواني بإسرافها أيضا في مظاهرها الشعرية ، وصفاء شمسها الإفريقية .

وهذا الهدوء الشامل الذي تحسه بين الحدائق والمتنزهات التي لا يخلو منها طريق أو ميدان ، فحينما سرت فأنت مأخوذ بفتنة الطبيعة التي قد يعجز عن تصويرها الخيال ، وهذه هي شركة القنال قد أقامت مساكن موظفيها وعمالها علي تنسق في رائع بديع ، وهذه مياه بحيرة التمساح تحتضن تلك المدينة الجميلة التي أسفرت في غير حياء عن فتنتها وحسنها ، فأخذت بمجامع القلوب إلا ذلك الشيخ الصغير خريج دار العلوم الذي يجيل البصر فيجد كل شيء جديداً عليه ، حتى الناس الذين هم من جنسه ودينه يراهم أغرابا عنه ، إذ يري نفسه وحيداً بينهم ، فقد اندفع المثقفون منهم إلي تقليد هؤلاء المواطنين الفرنسيين أصحاب شركة القنال في كل شيء

ولكنه لن يفعل هذا ولن يندفع إلي ذلك التقليد حتى يظل جديراً بوالده العالم الجليل القائم من سنوات طوال علي إعداد مسند الإمام أحمد ابن حنبل لينشره علي الناس ، فهذا العالم الكبير الذي يدب في قوة وجلد وإيمان إلي السبعين قد أنجب ذلك الفتي فأحسن تنشئته ، وأصبح يترسم الابن خطوات الأب في معرفة الله وتقواه فليس له من الإسماعيلية العظيمة إلا أماكن محدودة يأوي إليها هي هذا المنزل الذي يقيم فيه ، وذلك المسجد القريب منه ثم ذلك الفضاء الواسع العريض تحفه زرقة مياه البحيرة يسرح فيه البصر ، ثم يسبح الله خالق هذا الكون ومبدع كل هذا الجمال .

هذا الفضاء العريض وتلك الزرقة الضاربة وهذا البحر المتماوج الذي لا تحده الأبصار ، وتلك الأسرار الغامضة المحيطة بهذه الجنة الأرضية هي سر مضاء عزيمة الشاب ، وشحذ همته وتوجيه تفكيره خالصاً إلي الله ، يأنس بذلك في وجدته بينما كثير من أقرانه قد انصرفوا إلي اللهو في مرانع الشباب .

أما هذا الاتجاه الخالص نحو استيعاب الكون ، ومحاولة النفاذ إلي دقائقه وأسراره ، فهذا أثر من تلك البلدة التي أقام فيها غريبا فأسلمته الغربة إلي التفكير في نفسه ، وفيما يحيط به من الناس والأشياء وإلي التفكير في هذه المدينة الحديثة التي يخلب بريقها الأبصار .

لم كن الإسماعيلية تخلو من الشيوخ والعلماء ولكن منهم من انصرف إلي الكيد لصاحبه والإيقاع به ، كل يريد أن ينال من الآخر حتى أنه ليرمي صاحبه بالكفر ، وهذا الآخر يحقد علي زميله الذي بدأه بالشر فيغري به صغار النفوس يحطون من قدره وينالون من كرامته .

ويشهد الفتي المدرس ذلك ، فيألم أشد الألم لهذه الأخوة الإسلامية الضائعة ، في هذه المدينة المصرية لحما ودما ، الغريبة مظهرا ومخبرا ، والتي كانت جديرة أن تسلمهم إلي المودة والتضامن بدلا من هذه الفرقة والأذى .

ولقد حاول الفتي إصلاح ذات البين مستعينا بكرام أهل الإسماعيلية ، فرجع بحر أذيال الفشل مراراً ، بل لعله لم يسلم من ألسنتهم ولعلهم قد دعوه متطفلا عليهم ، فانصرف إلي نفسه وإلي المسلمين الحيارى المتعطشين إلي فهم دينهم فهما سليما .

فكان لهم الفتي المدرس نعم المثل الصالح الذي به يقتدون ، ولم يقصر دعوته علي أهل المسجد .

وإنما هو السعي إلي الناس في النوادي والمقاهي يكشف لهم أنوار الله التي حجبتهم عنها أنفسهم .

وهذه ميادين الإسماعيلية أصبحت تعج بالناس يسعون إلي هذا الداعي إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، الذي يضرب لهم أحسن الأمثال ، ويسوق إليهم الآيات البينات والأحاديث في ثوب رائع من البلاغة والإيمان القوى الفياض الذي يأخذ بمجامع القلوب .

ويدهش بعض علماء الدين في المدينة من إقبال الناس أفواجا علي الفتي الجديد ، وتبهر أبصارهم قوته فتراهم يلقون سلاح الخصومة ويندمون علي هذه الأوقات الثمينة التي أضاعوها هباء ويندمجون مع الجماعة .

ويبدأ بعد ذلك في إقامة الدار الأولي للدعوة في مهدها الأول ، ويسمع بذلك رجال شركة للقنال ، فتراهم يسرعون للتبرع للمشروع مساهمة منهم فيما يعود علي الشركة من الخير ، حين ينصرف عمالها بسبب ذلك إلي ما يفيد ولم يكن الشهيد قد أقام صلة بينه وبين أحد رجال الشركة ، ولم يطلب منهم المساهمة فيما تبرعوا من أجله ، ولم يكن ذلك إعراضا منه واستصغار لشأنهم ، وإنما تعظيما لدعوته وإجلالا لها ، وبعداً بها عن شوائب المادة ولكن الشركة تساهم لتكسب بذلك رضاء عمالها ، إذ تشاركهم غيما يحبون ، وتلك ناحية مشكورة ، كم نود أن يقتدي بها أصحاب الأعمال جميعا .

وهذه دار الإخوان بالإسماعيلية ومدرسة الإخوان بها وهذا المسجد الذي أقامته الجماعة .

كل ذلك يشهد لتلك البداية الطيبة التي سارت فيها الدعوة بعد ذلك من نجاح إلي نجاح .

دروس صامتة

كان الإمام الشهيد رضي الله عنه يزور شعب القطر المصري مرة في العام علي الأقل ، وكانت كل شعبة تنتظر هذه الزيارة المباركة لتختزن لنفسها من إشاداته وتوجيهاته زادا قويا للجهاد ، علي أن الذين كانوا يحبون أن يتعلموا من المرشد كانوا يأخذون عنه أيضا دروسا صامتة من خير ما انتفعوا به .

في إحدى زياراته خرج ألوف من الإخوان يحمدون الله من دورهم ذرافات ويكبرونه ، وخرجت جموع أخري بموسيقاها واصطفت بميدان محطة الإسكندرية في نظامها التقليدي ، ثم وصل قطار القاهرة وتسارع الإخوان كل يريد أن يحظي بأول لقاء مع فضيلة المرشد ، ولكن المرشد لم يكن في القطار .

لقد علم بما أعد الإخوان من مظاهر لا يرضاها للدعوة ، ولا لنفسه ولا للإخوان ، فتخلف قبل وصول القطار للإسكندرية ، واتخذ طريقه مع بعض الزوار إلي الشعبة ثم أرسل من يقول للمنتظرين بالمحطة أن المرشد قد سبقهم إلي دار شعبة محرم بك ، وجمع الإخوان شملهم ثم أسرعوا إلي الدار في هدوء وكل منهم ممتلئ النفس بقوة الدعوة وعظمة الداعي ، وقد علم أن دعوة هذه مزاياها وتلك دروسها لن تزعزع جذورها الأيام .

كان جماعة من الإخوان يصلون في أحد مساجد القاهرة وأعلن الإمام وكان شيخا طاعنا وفي أخلاقه حدة أنه سيلقي درسا بعد الصلاة وطلب من القوم الانتظار ، ولكن كان فريق من الإخوان كان علي ميعاد ، ولذلك هموا بالانصراف إلي عملهم بعد الصلاة فانهال عليهم الرجل ذما وتجريحا ، وثارت في نفوسهم العزة ، ولكن الآداب الإخوانية تمنعهم عن مجابهة العنف حين يكون الأمر بين الند والند ، فكيف لهذا الشيخ عندهم وقاره واعتباره ، فلم يجدوا منفذاً للخلاص من شعورهم بالإهانة ، إلا يبثوا الشكوى إلي فضيلة المرشد ولعل منهم من ظن أن المرشد سيكيل للشيخ الصاع صاعين ، أو أنه سيرده إلي حدود التسامح وتقدير أعذار الناس وأن لم يبدوها .

ولكن المرشد لم يفعل شيئا من هذا ، وإنما طلبهم جميعا ثم قال لهم خذوا فريقاً آخر من إخوانكم ، ثم اذهبوا إلي الشيخ الآن قبل أن ينفض درسه ، وبلغوه تحيتي وسلامي وبلغوه أنكم أعفيتم من عذركم وأنكم قد أمرتم بالتردد علي الشيخ ، والاستماع إلي دروسه والأخذ عنه وأني أشكر له ذلك الفضل وأسأله المزيد .

فتقبلهم الشيخ بقبول حسن ودعا لهم بالخير ، وجعل كمالة الدرس دراسة شخصية الأستاذ البنا ، ودعا المستمعين إليه إلي الاقتداء بلك الشخصية التي غمرت بحبها القلوب .

علي هامش الدعوة

" قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين "

هذا هو دستور الإسلام .

والتوجيه الإلهي للناس ، في دعوة واضحة قد تسامت علي الأغراض والأهواء ، وتجاوزت المنافع الشخصية والمادية ، فالإخوان المسلمون لا يسألون الناس مالا ، ولا يطلبون أجرا ولا يبتغون جاها ، إن أجرهم فيما يعملون إلا علي الله ، وهي روح من التضحية إلي إيثار الناس بالمنفعة ، بإرشادهم بهذه الدعوة إلي ما فيه الخير لهم ، بعز عليهم أن يروا ما أصبح عليه قومهم من الذلة والهوان ، ففيض مدامعهم إشفاقا ، ولا يستكينون لليأس ، بل يستمدون من الضعف قوة ، ولا يرون في ذلك علي الناس منة ، ولا فضلا ، وإنما يذكرون قول الله تعالي " بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " وأنت تعلم مقدار استمساك الناس بهذه العادات التي شبوا عليها ، والتي نشأ عليها آباؤهم وأجدادهم منذ أن انحرف المسلمون من زمن بعيد عن طريق دينهم ، فأصبحوا عبيداً للغرب ، فهذه العادات التي ألفوها تجري في عروقهم مجري الدم .

فتغيير هذه العادات مهما كان بها من فساد يحتاج إلي حكمة وصبر .

ولذلك فلن يصلح لهذه الدعوة إلا من حاطها من كل جوانبها ، ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله وصحته " قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها .

وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتوا الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " .

فهي دعوة كان يقول عنها الإمام الشهيد أن من استعد لها فقد عاش بها وعاشت به ، ومن ضعف عن هذا العبء فسيحرم ثواب المجاهدين ، ويستبدل الله به لدعوته قوما آخرين ، أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين ، مجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

فهذا مبدأ واضح مسلم به من القائمين بهذه الدعوة جميعا ، يؤمنون به ويدينون به ، ويعلمون أن فيه خير الناس جميعا وسعادتهم وراحتهم ، وقد جاء حكم التجارب والتاريخ مؤيداً لذلك ومثبتا لصلاحيتها للخلود .

ولا جدال في أن كل مسلم يتمني النصر لدينه ، وأنه يتمني لنفسه إيمانا يهيب به إلي العمل ، ولكنا معشر الشرقيين قد خضعنا طويلا للاستعمار ، فتعودنا الرضا بالدون ، والاستهانة بهذه البوارق النفسية الحكيمة التي تنبثق من أعماق الصدور ، فندع هذه اللمحات السماوية تمر وتنطفئ دون أن نعمل بما توحيه إلينا ، تلك جناية الاستعمار علي نفوسنا ؛ وعزيمتنا ، وتلك ظاهرة نفسية عجيبة تلازمنا فنحن نتكلم كثيراً ، ونتحمس سريعا ، ثم لا نفعل إلا قليلا ، نستمع إلي الوعظ من كرام الوعاظ ، ثم تنصرف ونحن نفيض حماسة وقوة ، ثم لا يلبث هذا الضوء أن ينطفئ سريعا .

وهذا هو ما يهيب بجماعة الإخوان المسلمين لإرشاد الناس إلي الانتفاع بهذه البوارق النفسية القوية المباركة ، وإلي إيقاظ الضمائر التي استنامت إلي الغفلة ، وإلي العودة إلي هذا الكتاب الكريم الذي أنزل علي محمد صلي الله عليه وسلم .

فالفرق بين الإخوان المسلمين وبين غيرهم من الناس ، أن الناس لا يوقظون هذه القوة الكامنة في قلوبهم ، بل يتركون زمامهم للمقادير أن شاءت أيسرت وأن شاءت ذهبت بكل شيء ، ولكن الإخوان المسلمين يسعون جاهدين إلي انتهاز كل فرصة ، وكل وقت لدعوة الناس ، والأخذ بأيديهم إلي الطريق الذي سار فيه الرعيل الأول من المسلمين .

فأنت تري أن الإخوان المسلمين يدعون الناس إلي مبدأ واضح مستبين ، مسلم به من الناس جميعا يعرفونه ويؤمنون به ويعملون أن فيه خير الدنيا والآخرة .

وهم يرون الناس فريقين ، فريق اعتقد ما اعتقدوه وآمن بما يؤمنون به وهؤلاء تربطهم بهم أقوى الروابط ، ألا وهي رابطة العقيدة التي تفوق رابطة الدم ، ورابطة الأرض والجوار ، وهؤلاء يقولون عنهم أنهم قومنا الأقربون الذين نفتديهم بالنفس والمال في أي أرض كانوا ، ومن أي سلالة انحدروا .

وفريق ليسوا كذلك ، وهؤلاء يكونون معهم كما أمر الله في محكم كتابه : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ، وإنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ، وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم "

صدق الله العظيم

اختلاف المذاهب

لقد ذكرت لك أمر المسلمين في هذه الأيام ، وكيف استناموا إلي تلك الحال طوعا أو كراهية ، وإن كانت هناك لمحات تبرق في سماء العزيمة تدعوهم إلي الله ، ولكنها رغبة فارة قام الإخوان المسلمون بتقويمها ، وانبعاث نورها ، بما يلجأون إليه من وعظ وتوجيه بالحكمة ، والآن أحدثك عن موقف الإخوان المسلمين من المذاهب الدينية الأخرى ، وأنت تعلم قبل كل شيء أن هذه الدعوة لا تنتسب إلي طائفة خاصة ، ولا تنحاز إلي رأي عرف بين الناس بلون خاص ، وإنما تتوجه إلي صميم الدين وجوهره ، ويود الإخوان أن تتوحد وجهات الأنظار ؛ حتى يكون الإجماع وتكره الشذوذ ، فإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف ، وكان أساس ما انتصروا به الحب والوحدة ، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، فهذه عقيدة راسخة في نفوس الإخوان يدعون الناس إليها .

وقد أراد الله تعالي لهذا الدين أن يبقي ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان ، ولذلك كان دينا سهلا مرنا لا جمود فيه ولا تشديد .

ولما كان القوم الذين يأخذون عن هذا الدين في زمن من الأزمان يختلفون عنهم في زمان آخر من حيث التفكير والبيئة والظروف المحيطة بهم ، وكذلك يختلفون في مكان عنهم في مكان آخر ، كان الدين رائدهم جميعا ، علي اختلاف أزمانهم وأمكنتهم ؛ واختلاف بيئاتهم وعقولهم كان لابد من الاختلاف اليسير الذي مبعثه الاختلاف في الظروف ، مما لا يمس أصول الدين ، لذلك فالإخوان يرون أن الإجماع علي أمر فرعي متعذر ، وربما كان في هذا الجمود ضرر بليغ ، فهم يرون أن الإمام الشافعي رضي الله عنه كان يفتي بالقديم في العراق ، وكان يفتي بالجديد في مصر .

وكان في كليهما يأخذ بما استبان له بعد أن يتحري الحق في كليهما .

ولعلك تذمر أن الإمام مالك قال لأبي جعفر أن أصحاب رسول الله عليه السلام تفرقوا في الأمصار ، وعند كل قوم علم ، فإذا حملتهم علي رأي واحد تكون فتنة ، أساسها اختلاف وجهات النظر والعقول

والبيئات المختلفة .

لذلك فالإخوان يلتمسون العذر لمن يخالفهم في بعض الفرعيات ، ويرون أن هذا الخلاف لا يكون حائلا دون اجتماع القلوب ، ولا مانعا من التعاون علي الخير ، لهم في ذلك قدوة بأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ؛ إذ كان يخالف بعضهم بعضاً في الإفتاء ، فلم يؤثر ذلك في قلوبهم ولم يفرق وحدتهم .

وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا وهم أقرب الناس عهدا بالنبوة وأعرفهم بقرائن الأحكام ، فليس من الحكمة التناحر بسبب خلاف تافه لا خطر له ، ولا ريب أنك تذكر هذا الخلاف الذي كان بين الأئمة الأربعة في بعض فروع الأمور وكيف ناظر بعضهم بعضاً فيها .

لذلك يري الإخوان أن الخلاف في فروع الدين أمر قد يدعو إلي الاجتهاد .

ولا يرون فيه سببا لأي خصومة أو بذل جهود ضائعة فالأولي بجهود الدعاة من المسلمين أن تنصرف إلي محاربة هذا المنكر الذي أصبح يهدد الدين من أساسه ، والذي أجمع الكل علي استنكاره ووجوب العمل علي إصلاحه

خلاصة القول في هذا الباب أن جماعة الإخوان يجيزون الخلاف ويكرهون التعصب للرأي ، ويحاولون الوصول إلي الحق ويحملون الناس علي ذلك بألطف وسائل اللين والحب .

الدعوات الأخرى

إن دين الله الحنيف لا يناهض أي دعوة تقوم علي أساس الحق والعدل ، ولذلك فإن موقف الأمة من الدعوات الأخرى التي كثرت في هذا العصر ، أن توزن بمقاييس الإسلام ، فما وافقها وانطبق عليها تقبلته ، وما خالفها فهي براء منه ، وقد يظن بعض الناس أن الدعوة الوطنية ليست جزءاً من الدعوة الدينية وهم في هذا الظن مخطئون ؛ وقد كان هذا الظن خطراً علي الشعوب الشرقية عندما وقر في الأذهان أن شئون الدنيا ليست مرتبطة بشئون الدين ، فإن الإسلام يأمر بالجهد المتواصل في تحرير البلد من الغاصبين ، وتوفير استقلاله وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " ، " ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا " , وكما أن الواجب الوطني يدعو إلي تقوية الروابط بين أفراد البلد الواحد وإرشادهم إلي طريق الانتفاع بالقوى الكامنة ، فكذلك يفعل الإخوان المسلمون فهم يعملون دائما بالقول الكريم " وكونوا عباد الله إخوانا " .

أما بعد

فهذه بعض صفات الدعوة والرجل عرضناها عليك عرضا سريعا ، نبغي من وراء ذلك أن تجد هذه الصفات قلوبا تنشرها وترعاها ، فهي تطبيق عملي لمبادئ القرآن ، أخذ الإمام الشهيد نفسه بها ، حتى استوت شخصيته قرآنية ، فهي مثل نرجو أن نحتذي ، ورب نسخة من هذا الكتاب أهديناها إلي صديق بعيد عن الدعوة تكشف له عن بعض ما كان يجهل من حقيقتها ، وهذا حسبنا ، ولهذا أردنا أن يأتي هذا الكتاب سهل العبارة بسيط الأسلوب إن لم نستطع أن نلم بكل أطراف هذه العبقرية ، فقدمنا القسم الأول في هذا الكتاب ، ونرجو أن نقدم القسم الثاني قريبا ، إنه بعض الوفاء للرجل العظيم وفكرته ، التي هيأ الله لها الآن حكيما مرشدا حمل أمانتها ..

إنه فضيلة المرشد العام الذي قال عنه من سنوات خلت إمامنا الشهيد ما يلي :

جميل جدا أن نري في كبار رجال التقنين المصريين من يحمل مثل هذا القلب المؤمن ، والذهن الصافي المستنير ، مع دأب علي الدرس ، والإلمام بكل أطراف الموضوع فجزي الله الأستاذ حسن الهضيبي عن الدين والحق والعدالة خير الجزاء وأكثر فينا أمثاله ... هكذا قال عنه الإمام الشهيد .....

رضي الله عنه وجعل السداد رائد خلقه الحكيم السلام