شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية فى مصر ( 1 )

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٥:٣٨، ٢٤ ديسمبر ٢٠١٠ بواسطة Sasky (نقاش | مساهمات) (←‏موضوعات ذات صلة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


عبد المنعم أبو الفتوح : شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية فى مصر ( 1 )

تنشر " نافذة الفيوم " نقلاً عن صحيفة الشروق المصرية مذكرات د. عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين ، حيث يبدأ أبو الفتوح نشر شهادته عن تاريخ الحركة الإسلامية المصرية خلال حقبة السبعينيات، والتي شهدت تأسيس الجماعات الإسلامية في الجامعات ، وكانت بمثابة التأسيس الثاني للحركة الإسلامية في مصر .

الشهادة التي قدم لها المستشار طارق البشري المؤرخ والمفكر الإسلامي تتناول حياة أبو الفتوح ونشأته الدينية والفكرية والسياسية، بدءا من ارتباطه بثورة يوليو 1952 وقائدها جمال عبد الناصر مروراً بمشاركته في مظاهرات خطاب التحني الشهير عقب نكسة 1967 حيث طالبت المتظاهرين ببقاء ناصر، وصولاً إلى حالة الانكسار التي أصيب بها معظم شباب جيله بعد النكسة.وحملت المذكرات عنوان "عبد المنعم أبو الفتوح شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر : من الجماعة الإسلامية إلى الإخوان المسلمين".

ويصف المستشار البشري المذكرات بأنها مزج بين أحداث التاريخ الموضوعية وبين السيرة الذاتية للشاهد، مؤكداًً أن صاحبها على قدر كبير من إنكار الذات، وقال : "يضع نفسه ونشاطه وأحزانه الذاتية في سياق حركة التاريخ العام ويضع نفسه جزء منها وعنصراً فيها".

وترجع أهمية هذه الشهادة، والحديث مازال للبشري، في أنها تضع أيدينا على الحركة الإسلامية الحالية ورافدها الفكرية والعناصر الحركية التي شكلتها. وقال في مقدمته أيضاً: إن الشهادة كشفت عن نماذج اللقاء التاريخي، بين حركة شباب إسلامى تلقائية وبين كوادر تنظيم قديم مخضرم، بين جيل ثابت لا يزال يتفتح وجيل أدرك عهدين وخاض تجربتين.

والآن إلى الجزء الأول من شهادة أبوالفتوح كما جاءت على لسانه:

على سبيل البدء

ولدت فى الخامس عشر من أكتوبر عام 1951 لأسرة متوسطة الحال فى حى المنيل بمنطقة مصر القديمة، كان ترتيبى الثالث بين خمسة إخوة كلهم ذكور. تفتح وعيى والمشروع الناصرى فى أوجه. كان جمال عبدالناصر بالنسبة لنا المثل الأعلى والزعيم المخلص، كان حضوره يملأ حياة الناس ويحجب غيره، وكانت صورته دائما أمام عينى وعين الأطفال والناشئة من أبناء جيلى، فقد كان رمزا لكل شىء جميل وكان رمزا للفخر والاعتزاز حتى كنّا - ونحن أطفال - إذا تفاخر علىّ أحد زملائى أرد عليه مستنكفا فأقول له : هو أنت أبوك جمال عبدالناصر؟!.

كان الناس يعشقون «ناصر» حتى كانوا يحفظون خطبه، فقد كان الرجل ــ بالفعل ــ صاحب فضل على كثير من الناس، حتى إن أبى كان يعتبر تعليمى المجانى من فضائل جمال عبدالناصر ومكارمه، وكان قد استفاد قبلها من قانون الإصلاح الزراعى، فقد كان من أسرة فقيرة من مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية وسط الدلتا ثم تحسنت أحوالها وأصبح كل واحد من أعمامى يملك خمسة أفدنة بعدما كانوا لا يملكون شيئا.

كانت لجمال عبدالناصر مكانة كبيرة لدى أسرة والدى، بل أستطيع القول إنه كان سببا فى التقريب بين عائلة أبى وأمى، فقد كانت أمى من عائلة إقطاعية كبيرة قبل الإصلاح الزراعى، ولم يكن ممكنا أن تتوطد العلاقة بين العائلتين لولا قانون الإصلاح الزراعى... وإن كانت عائلة أمى تضررت كثيرا من إصلاحات جمال عبدالناصر فأصبحت متوسطة الحال... لكن أحدا من الذين تضرروا لم يكن قط يجرؤ على الكلام فى هذا الأمر أو انتقاده.

زلزال النكسة وانهيار حلم الثورة

فى الخامس من يونيو عام 1967 ، كانت الحرب وكنت وقتها لا أفارق جهاز الراديو فلم يكن لدينا جهاز تلفزيون مثلنا مثل كثير من الناس رقيقى الحال، كنت لا أرفع الراديو عن أذنى، أستمع إلى صوت المذيع الشهير الثائر أحمد سعيد الذى لا يتوقف عن نقل وقائع الانتصارات الباهرة!! أو إحصاء عدد طائرات العدو التى تتساقط كل يوم بل كل ساعة وربما كل دقيقة!! وانتصار قواتنا الباسلة، بقينا أياما نعيش انتصارات وهمية، ثم إذا بنا أمام الهزيمة لنكتشف أن كل ما عشناه من انتصارات كان كاذبا وملفقا، وأننا بدل أن نحتفل بالنصر الكاسح فإننا تجرعنا علقم الهزيمة المنكرة.

ومن الإنصاف أن نقول إن جيشنا لم يهزم، فهو لم يحارب أصلا بسبب حالة الفساد والانهيار التى كان يعيش فيها بفعل القيادات السياسية والعسكرية الفاسدة حتى انتهى الأمر بهذا الوضع المؤلم.

ذقنا مع الهزيمة - ربما لأول مرة - مشاعر الذل والانكسار؛ انكسار الحلم والثورة. وأصاب الناس زلزال شديد ليس بسبب الهزيمة وإنما بسبب مشاعر العزة والقوة التى كانوا يعيشونها وبسبب حالة النشوة والطموح الكبير التى أوجدها جمال عبدالناصر ومشروعه الثورى الذى كان يسعى لتغيير وجه مصر والمنطقة بل والعالم كله، ولا ننسى سطوة الإعلام المصرى وقتها والذى نجح فى أن يجعل من «ناصر» الزعيم الملهم لكل مصر بل ولكل الأمة العربية، وكذلك إبرازه لعدد من المشروعات الكبرى التى جعلت الناس يحبونه بصدق.

وبقدر ما كان الحلم كبيرا بقدر ما كان إنكساره مؤلما وكانت «النكسة» صدمة عنيفة للناس. ولدت حالة من الرجوع إلى الله وجعلت الناس تتجه إلى ارتياد المساجد واللجوء إلى التمسك بالدين والعودة العميقة إلى الله، وفى هذه الفترة كنت أواظب على الصلاة بحكم نشأتى فى أسرة متدينة تدينا فطريا، وكنت وقتها طالبا فى المرحلة الثانوية وكنت أواظب على أدائها فى المسجد المجاور لمنزلى، وكان يتبع للجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة. أتذكر وقتها أن عدد المصلين كان قليلا، ولكنه بدأ يتزايد بعد النكسة، ربما تعبيرا عن حالة الحزن والانكسار.

عودة الدروس للمساجد

لم يكن فى هذه الفترة أثر أو إشارة إلى أى مظاهر لنشاط إسلامى سياسى، فقط كانت هناك بعض الأنشطة التقليدية مثل دروس الفقه والتفسير أو التعريف بالتراث، وكانت تخضع لرقابة صارمة. وكانت هذه النشاطات لجمعيات وأفراد ممن يهتمون بتعليم الناس العبادات ويحثونهم على التزام الأخلاق وتزكية النفس، وكان من أهمها الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، وجماعة أنصار السنة، وعدد قليل من الجمعيات الدينية لم تطلها حملة النظام الناصرى على الإسلاميين.

لم يكن أحد - وقتها - يستطيع أن يتعرض للنظام بنقد، حتى إنه لما وقعت الكارثة وهزمنا فى 5 يونيو لم يستطع أحد أن ينتقد ما حصل من هزيمة وما سبقها من خداع وتضليل، ظل ذلك حتى قام طلاب الجامعات بمظاهرات 1968 الشهيرة التى طالبوا فيها علانية بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة.

وكان من آثار الهزيمة أن بدأ النظام الناصرى فى تخفيف قبضته الأمنية الشديدة عن الناس، فبدأت الدروس الدينية فى الانتشار، وبزغ عدد من العلماء الذين نشطوا فى هذه الفترة من أواخر الستينيات واستقطبت دروسهم الجماهير. وفى مقدمة هؤلاء العلماء كان فضيلة الشيخ محمد الغزالى الذى كان خطيبا بمسجد عمرو بن العاص أقدم مسجد فى إفريقيا، ثم الشيخ سيد سابق الذى بدأ يعود للحياة العامة بقوة فى أوائل السبعينيات، وانتعشت المساجد بعد أن ارتفعت عنها القبضة الأمنية أكثر حين مات الرئيس جمال عبدالناصر فى سبتمبر عام 1970 .

بداية التعرف على الإخوان

بعد انهيار الحلم الناصرى فى نفوس الجماهير حلت حالة من عدم اليقين أو الثقة فى كل ما له صلة بالنظام، وبدأنا نفكر فى أن كل من كان ضد جمال عبدالناصر كان على صواب وعلى حق. وأعتقد أن هذه كانت البداية فى التعرف على الإخوان المسلمين.

على المستوى الشخصى، كنت فى أوائل المرحلة الثانوية أثناء نكسة 1967 وكنت مثل غيرى أقرأ فى الصحف وأسمع فى الإذاعة كل ما هو سيئ عن الإخوان المسلمين، وكنا نصدق هذه الدعايات؛ فالإخوان كانوا ضد الزعيم البطل الذى نعتز به ونحبه، كما لم تكن حولى دائرة إخوانية ولم يكن أبى من الإخوان.

ولكن نكسة 1967 أحدثت تغييرا جذريا جعلتنا نقول إن هذا البطل الذى ثبت أن أحلامه ومشروعاته كانت وهما يمكن أن يكون قد خدعنا فيما قاله عن الإخوان، وكانت دعايات الإعلام الناصرى وقتها تروج أن الإخوان كانوا يدبرون لهدم القناطر الخيرية وقتل أم كلثوم... وتنسب لهم تهم بدت لنا فيما بعد مضحكة وشديدة البهتان... فلماذا يهدم الإخوان القناطر الخيرية؟ وما الفائدة التى يمكن أن يحصلوها من قتل أم كلثوم التى كانت تحظى بشعبية هائلة ومحبة بين الشعب المصرى؟!

لقد تراجعت قدرة الدعاية الناصرية بعد نكسة 1967 بشكل كبير فبدأ الناس يعيدون التفكير ويراجعون الكثير مما كان شائعا، وقد ساعد على تلك المراجعات حالة العودة إلى الدين ورفع الدولة يدها عن المساجد، وبدأت تتغير الصورة عن الإخوان وصارت قناعة تترسخ يوما بعد يوم أن ما كان يقال فى حق الإخوان هو محض كذب وافتراء وأنهم أناس شرفاء لهم أغراض نبيلة دفعوا ثمنا باهظا بسبب خلافهم مع جمال عبدالناصر... وبدأت صورة جديدة تنتشر عن الإخوان لم يكن يمكن التفكير فيها قبل نكسة 1967 .

أتذكر أن شيئا من هذا حدث على مستوى المسجد الذى كنت أصلى فيه فى جمعية أنصار السنة بعابدين، فقد تغيرت نظرتنا للإخوان إلى الأفضل. كان البعض ممن يعرفون الإخوان أو سبق لهم التأثر بهم أو حتى كانوا إخوانا أفلتوا من قبضة النظام ولم يعتقلوا ــ كانوا قد بدأوا يتحدثون ويعلون صوتهم يوما فيوم فتراجعت الصورة السلبية التى حاول النظام الناصرى غرسها فى نفوس الشباب نحوهم.

دور الجمعية الشرعية

كان الشيخ البحيرى شيخ مشايخ الجمعية الشرعية أبرز من أسهموا فى تغيير صورة الإخوان إلى الأفضل فى هذه الفترة على الأقل فيما يتصل بالمحيط الذى كنت أنتمى إليه وأتحرك فيه... لقد بدأ الرجل يدافع عن الإخوان ويقول عنهم إنهم أناس طيبون أرادوا بناء مصر وأرادوا الخير لشعبها لكنهم اصطدموا بجمال عبدالناصر.

تغيرت صورة الإخوان فى خيالى على نحو انقلابى، وصاروا نموذجا للتضحية والفداء من أجل الوطن، ولكن صورة الإخوان كأصحاب مشروع للنهضة تأخرت إلى ما بعد دخولى الجامعة فى بداية 1971 حين أصبحت مهموما بالوطن، والطريف أننى دخلت إلى الإخوان المسلمين عبر البوابة الوطنية، وقد كان أول من تعرفت عليه من الإخوان رجل صوفى (أستاذى الدكتور عبدالمنعم أبو الفضل)، ورغم تلمذتى عليه فلم يكن تكوينه الصوفى متفقا مع تكوينى، كان ــ رحمه الله ــ إخوانيا متصوفا ولكننى قبلت إخوانيته ورفضت صوفيته.

نشأت نشأة بسيطة فى عائلة متواضعة كان لها دور فى مواجهة الإقطاع بقرية قصر بغداد فى مدينة كفر الزيات بمحافظة الغربية، كان الإقطاع فى قريتنا ممثلا فى شخص اسمه أبو الفتوح فودة وكان أحد كبار الإقطاعيين الذين يثيرون الرعب فى قلوب الفلاحين، وكان يركب «الحنطور» ويسير فى القرية فلا يجرؤ أحد على الظهور حتى يمر موكبه، ولكن كان لى عم جرىء وشجاع ــ أصغر إخوته ــ يرفض أن يجرى كما يجرى الآخرون ولا يختبئ كما يختبئون، وكان دائم التعبير عن سخطه على هذا الإقطاعى ورفضه لظلمه، وكثيرا ما كانت تحدث احتكاكات بينه وبين هذا الرجل صاحب الجاه والسلطان على الرغم من كون عمى رجلا بسيطا ليس لديه الجاه... من هذا ربما ورثت كراهية الظلم والجبروت والاستعلاء على الناس.

وأذكر أننى تأثرت بعمى هذا كثيرا فى طفولتى، وقد تعلمت منه ألا أخاف من سطوة الكبار ولا أتردد فى مواجهتهم، ورغم أننى كنت ممن خرجوا فى المظاهرات بعد النكسة وخطاب التنحى يطالبون الزعيم جمال عبدالناصر بالبقاء إلى حد أننى بكيت خوفا من ذهابه، إلا أننى سرعان ما صرت غاضبا منه حانقا عليه بمجرد أن اكتشفت الوهم الكبير الذى كنا نعيش فيه، وفى أول زيارة لى إلى قريتنا كنت أصلى الجمعة فما إن وقع بصرى على صورة للزعيم ناصر معلقة بالمسجد حتى انتفضت غاضبا ورفعتها رغما عن معارضة أهالى القرية وكبارها الذين هالهم أن أتجرأ على جمال عبدالناصر.

صراع ناصر والإخوان سياسيًا

ورغم أن نظرتى تغيرت تماما عن جمال عبدالناصر فلم تصل يوما إلى تكفيره، فقد كنت أرى أنه من الصعب أن نقول إن جمال عبدالناصر كان ضد الإسلام أو عدوا له كما كتب البعض، ومازلت أرى أن الصراع بينه وبين الإخوان كان صراعا سياسيا فى الأساس بدليل أنه استعان بالعديد من رجالهم فى بداية الثورة كوزراء مثل الشيخ الباقورى والدكتور عبدالعزيز كامل... أما ما قيل عن عدم التزامه الدينى فيبقى كلاما غير موثق.

وحتى بعد وفاة جمال عبدالناصر وفى النصف الثانى من السبعينيات لم أكن أتابع ما تنشره المجلات والصحف التى فتحت ملف كراهية عبدالناصر للإسلام وما كان يحدث فى المعتقلات من تعذيب، كنت لا أحب ذلك رغم قناعتى بأنه ظلم الإخوان ورغم تقديرى لمعاناة الإخوان وما لاقوه من عنت واضطهاد وتفهمى لمشاعرهم تجاه الرجل... وكنت أرى أنه من الطبيعى أن أسمع قول أحد أساتذة الجامعة الإخوان بعد خروجه من المعتقل: لو تمكنت من عبدالناصر لمزقته بأسنانى!... بل وأعذر هذا الفصيل الذى خرج على الأستاذ حسن الهضيبي فى عام 1965 وكفّر جمال عبدالناصر وجعله خارجا على الإسلام .

لم يكن لأسرتى نشاط سياسى ومن ثم لم يقع عليها ظلم سياسى كالذى عاناه الإخوان ، لكنهاــ أسرتى ــ عانت نوعا من الظلم الاجتماعى والطبقى وتصدت له، وكان أبى ــ رحمه الله ــ يعمل فى وظيفة فنى أسنان بالقاهرة، وكان يحمل لى محبة خاصة ويحمل أيضا خوفا دائما علىّ، وإن لم يصل إلى حد منعى من العمل السياسى، كان خوف أبى علىّ خوفا طبيعيا فى جزء منه مثل خوف كل أب على ابنه، ولكن جزءا منه كان خاصا بى وأكثر من خوفه على بقية إخوتى، ويرجع هذا إلى ما حدث لى وأنا صغير فى سن الثالثة أو الرابعة من إغماء ظن معه والدى ووالدتى أننى قد مت فبدآ فى تجهيزى للدفن ولكننى أفقت فجأة من حالة الإغماء... فظل أبى يخاف علىّ وكان من فرط خوفه أنه لا يعاقبنى مثلما قد يفعل مع بقية إخوتى حتى ولو كنا شركاء فى الخطأ.

وكانت علاقتى مع أبى نموذجية فهو يهتم بى ويحيطنى بعنايته ولكن دون أن يتدخل فى تفصيلات حياتى بما يلغى شخصيتى أو يضيق على. لذا نشأت بيننا علاقة متميزة؛ فكان ــ مثلا ــ شديد الاهتمام بقضية المذاكرة والتفوق فى الدراسة وأنا من ناحيتى لم أشعره يوما بتقصيرى فى ذلك، فظللت محافظا على تفوقى فى كل سنوات الدراسة (كنت أحصل على تقدير جيد جدا) مهما كان انشغالى بالعمل العام، وقد ساعد على ذلك عدم وجود اعتقالات فى السبعينيات ولا مضايقات أمنية مقارنة بما كان يحدث فى الستينيات.

النشاط الإسلامى فى الجامعة

فى العام نفسه الذى مات فيه ناصر - عام 1970 - كان التحاقى بالجامعة، كنت قد حصلت على مجموع كبير فى الشهادة الثانوية، وكانت رغبة والدى أن أصبح طبيبا فالتحقت بكلية طب قصر العينى بجامعة القاهرة، وأتذكر وقتها أنها كانت تخلو من أى نشاط إسلامى.

كنا نتلقى محاضراتنا فى السنة الإعدادية فى كلية العلوم، وكان الطلاب لا يرتادون مسجد الكلية، وأذكر أننى كنت أصلى مع زميل لى من المنيا اسمه عبدالشافى صاوى على حصيرة متهالكة، فكنت أؤذن للصلاة وكان هو الذى يؤمنى فيها لأنه كان أحفظ منى للقرآن الكريم، وكان دائما يتساءل: لماذا لا يأتى أحد للصلاة معنا؟!. ولكننا حين انتقلنا إلى كلية الطب فى السنة الأولى صار مسجد الكلية (مسجد الشافعى) يمتلئ بالطلاب، وتلقى فيه كلمة بعد صلاة الظهر، ولكن رغم ذلك لم يكن هناك أى نشاط إسلامى إلا اجتماع بعض الطلاب على قراءة القرآن الكريم بعد الصلاة.

فى هذه الفترة كانت التيارات القومية والناصرية واليسارية هى التى تسيطر على الجامعة واتحادات الطلاب فيها، وكانت أفكار هذه التيارات خاصة اليسارية بمثابة الصدمة لى ولأمثالى من الشباب البسيط المتدين.

كانت مفاجأة لنا أن مجلات الحائط التى يعلقها اتحاد الطلاب كانت تنتقد الإسلام وتخوض فيه بجرأة ولم يكن يسلم من نقد بعضها بل وسخريته من أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم، وأذكر أننى حين كنت أقرأ هذه المجلات وما فيها من سب للإسلام كنت أشعر بالحزن وكنت أبكى، وكنت أتساءل هل هذه هى الجامعة المصرية؟!

كان هذا مما حفزنى وأمثالى من البسطاء والمتدينين على أن نرد على هذا السب بتعليق مجلات نبين فيها الحرام والحلال، وكان أن تصادمنا مع اليساريين والشيوعيين فى حوارات كنا الذين ننال الهزيمة فيها غالبا، نظرا لثقافتنا القليلة السطحية وعدم خبرتنا بالحوار والجدل النظرى، فلم تكن لدينا القدرة على الرد أمام القضايا التى كان يثيرها هؤلاء الطلاب المثقفون المدربون جيدا على مثل هذه المناقشات، كما كان طلاب الاتحاد يمزقون لنا المجلات التى كنا نعلقها وكانت حجتهم أننا لم نستأذن منهم فى تعليقها وهم الطلاب المنتخبون لإدارة النشاط.

نصيحة الشيخ الغزالى

وقد حفزنا ذلك على أن نقرأ فى القضايا التى كانوا يثيرونها مثل ادعائهم أن الإسلام غير صالح للحكم، فبدأنا نبحث عن الكتب التى تناقش هذه القضية، وكنا إذا أعيانا البحث توجهنا إلى العلماء والشيوخ نطلب منهم النصيحة وكان أقربهم إلينا الشيخ محمد الغزالى الذى كان يوجهنا وينصحنا بقراءة كتب إسلامية معينة يرى أنها تساعدنا على الرد على الشبهات التى تنال من الإسلام ، وفى هذه الفترة عرفنا الطريق إلى المكتبات الإسلامية، فكنا نذهب للبحث عن الكتاب الإسلامى فى مكتبات شارع الجمهورية مثل مكتبة المتنبى ومكتبة وهبة ومكتبة التراث الإسلامى، لكن كانت دائما تصادفنا فى اقتناء هذه الكتب عقبة أوضاعنا المادية الصعبة، فغالبيتنا من أصول فقيرة أو متوسطة ليس لديها «ترف» اقتناء الكتب، فكنا نلجأ إلى التعاون والتنسيق حيث كان الثلاثة منا يشتركون معا ويشترون كتابا واحدا.

ومع الوقت بدأنا نتجه إلى تنظيم حلقات قراءة القرآن الكريم وحفظه فى مسجد الكلية، تعرفت وقتها على مجموعة من الطلبة المتدينين صاروا فيما بعد رموزا وقيادات للعمل الإسلامى فى الجامعة أذكر منهم: محمد يوسف وحسن عبدالفتاح وسناء أبو زيد وعبدالرحمن حسن... وفى هذه الفترة بدأ ينمو لدينا الاتجاه إلى تنظيم العمل بيننا.

وفى أول إجازة صيف بعد السنة الإعدادية بكلية الطب اجتمعنا معا لنتناقش فيما ينبغى أن نعمله فى العام الدراسى المقبل… وكانت أهم العقبات أننا من مدن ومحافظات مختلفة ومتباعدة، بعضنا من أقصى الصعيد وبعضنا من شمال البلاد… فتراسلنا بيننا للقاء فى القاهرة لبحث قضية العمل الإسلامى... وأذكر أننى اضطررت وقتها لأن أرسل بخطاب للأخ سناء أبو زيد وكان من مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية فى دلتا مصر لكى يلحق بنا فى ذلك الاجتماع.

وكان أول اجتماع لنا فى جمعية رعاية مرضى القلب والروماتيزم التى كان يرعاها أستاذنا الدكتور عبدالمنعم أبوالفضل الذى يمكن أن نعده - من دون أى مبالغة - من أهم من تولوا رعاية الحركة الإسلامية الوليدة، فقد كان بمثابة الأب الروحى لنا، وكانت اجتماعاتنا كلها بعلمه وبإذنه.

المصدر : نافذة مصر