ستون عاما ذكريات في العمل الإسلامي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٥:٢٦، ٢٥ مارس ٢٠١٣ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ستون عاما ذكريات في العمل السياسي

عزت العزيزي

إهداء

إلى جميع العاملين المخلصين للإسلام

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى جميع أنبيائه ورسله وصحابتهم وآلهم والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد.

فإنه في غياب الوثائق والتاريخ المكتوب الموثق للعمل الإسلامي في الأردن بل وفي كثير من البلاد العربية فإن معظم ما كتب عن هذا النشاط البالغ الأهمية كان من ذكريات الأشخاص ذوي الصلة بهذا العمل , ومعظم ما نشر لم يكن من كتابة الأشخاص الذاكرين أنفسهم وإنما كان نقلا عنهم أو عن أبنائهم وأصدقائهم ومعارفهم مما جعل أكثر ما كتب تنقصه الدقة والتوثيق .

وفي ظل علاقتي الشخصية بكثير من نشاطات العمل وعدد من رموزه في الأردن وبعض البلدان العربية أجد أنه من حق العمل الإسلامي على أن أسجل للتاريخ ما اطلعت عليه وما مارسته في هذا المجال .

وعلى الرغم من ترددي لسنوات في نشر هذه الذكريات خوفا من أن أقع في خطأ لا أقصده فإنني أجد لزاما على أن أبادر إلى تسجيل ما علمت وما وعيت ما دام في العمر فسحة سائلا المولي عزوجل أن يلهمني الصواب ويجنبني الخطأ وأن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم مبرءا عن كل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالي .

لذا فإن أدركت الحق والصواب فمن الله وبتوفيقه وإن أخطأت فأرجوا أن يكون خطأ المجتهد المخلص والحمد لله رب العالمين أولا وأخرا .

بدايات العمل الإسلامي في عهد الإمارة

لقد كانت تركيبة السكان في إمارة شرق الأردن في بداية تكوين الإمارة العامل الأهم في النشاطات الاجتماعية والثقافية فقد استقبلت منطقة شرق الأردن منذ العهد العثماني أعدادا من الوافدين من المناطق العربية المجاورة بل ومن العالم الإسلامي الأكبر .

فقد التقي فيها مزيج السكان الوافدين من نجد والحجاز , ومصر , وسوريا , والمغرب العربي والعراق أما فلسطين فقد كانت مرتبطة بمنطقة شرق الأردن ارتباطا عضويا كاملا وكانت زمن الدولة العثمانية منطقة إدارية واحدة ومتداخلة إذ كانت المناطق الإدارية على ضفتي النهر واحدة .

ولا ننسي أن الدولة المعروفة الآن بسوريا ولبنان وفلسطين والأردن كانت ولاية واحدة وهي ولاية الشاك وعندما تأسست الإمارة في بداية العشرينيات من القرن الماضي كان سكانها من هذا المزيج العربي والإسلامي بالإضافة إلى القبائل البدوية المنتشرة من شمال الإمارة إلى جنوبها ولم تكن هذه القبائل بمعزل عن التمازج أيضا بالقبائل العربية في العراق وسوريا والجزيرة العربية ومصر ولا تزال حتى الآن الصلات فاعلة وقوية وبين القبائل العربية في كل المناطق التي ذكرت .

وقد انضم إلى هذا المزيج السكاني أعداد من أبناء مناطق وسط آسيا من الشيشان والشراكسة الذين وفدوا إلى المنطقة إبان الدولة العثمانية, التي كانت تشجع أبناء تلك المناطق إلى القدوم إلى فلسطين والمناطق المحيطة بها لمقاومة محاولات اليهود والتوطن فيها وكان لمقاومة الشيشان والشركس المسلمين للشيوعية تأثير على تشجيع الهجرة من المناطق التي أصبحت تعرف بالاتحاد السوفيتي إلى منطقة بلاد الشام .

إن هذا التداخل والتمازح السكاني الذي كان راسخا كان نتيجة أن المنطقة بأسرها كانت ضمن دولة واحدة هي الدولة العثمانية وذلك قبل تدخل القوي الاستعمارية الأوربية وتقسيمها المنطقة إلى دويلات صغيرة تتبع كل منها إحدي الدول الاستعمارية التي تقاسمت المنطقة وكرست فيها التشرذم والانقسام ..

إن هذا التقديم ( الديمغرافي ) للمنطقة مهم وضروري لفهم مختلف النشاطات الاجتماعية والثقافية التي تكونت في إمارة شرق الأردن التي عرفت فيما بعد باسم المملكة الأردنية الهاشمية .

بدايات العمل عن طريق التعليم

كان التجار هم النواة للمجتمع الحضري في الإمارة إذ كانوا من المقيمين في مدن الإمارة من شمالها إلى جنوبها مثل " أربد والسلط والكرك ومعان وكانت لهم صلات قوية بمعظم الحواضر في المنطقة مثل مدن فلسطين وسوريا ومصر وحتى مدن الجزيرة العربية وكانت ثقافة التجار على الغالب دينية ومرتبطة – أحيانا كثيرة – بالطرق الصوفية التي ما أنفك تأثيرها على مجمل البلاد الإسلامية منذ العصر العباسي ولا تزال حتى الوقت الحاضر .

التعليم في الإمارة

لقد بدأ يتشكل في الإمارة نوعان من التعليم :

الأول : التعليم في المدارس الحكومية الذي بدأ متأثرا بالتعليم الغربي المعاصر , والذي وضعت أسسه في مصر على يد ( كرومر ) المسئول عن التعليم في مصر من قبل السلطات البريطانية المحتلة , وبحكم الريادة التقليدية لمصر فقد تأثرت المنطقة كلها بهذا التوجه وبخاصة في فلسطين وإمارة شرق الأردن لا سيما بعد أن عملت السلطة البريطانية على تهميش دور الأزهر , من خلال حجب متعلميه عن الوظائف الرسمية غالبا مع التركيز على خريجي المدارس الحديثة التي وضعت مناهجها وكتبها على أساس استبعاد التعليم التقليدي بحجة عدم تلبيته للاحتياجات المعاصرة .

والنوع الثاني من التعليم الذي بدأ مع الاحتلال البريطاني لفلسطين وشرق الأردن وهو التعليم الذي تتولاه المؤسسات التعليمية الدينية التبشيرية .

وعلى الرغم من أن تلك المؤسسات التعليمية التبشيرية كانت تدعي أنها تهتم أولا بتعليم أبناء المسيحيين في المنطقة إلا أنها كانت تستقبل من أبناء المسلمين أكثر مما تستقبل من أبناء المسيحيين وذلك أن كثيرا من الناس كانوا يتوجهون لهذه المدارس لأنهم كانوا يعتقدون أن فرص أبنائهم في الوظائف وفي إتمام تعليمهم العالي ستكون أكبر وبخاصة أن هذه المدارس كانت تعني بتعليم اللغة الإنجليزية أكثر من المدارس الحكومية وإن هذه اللغة هي التي تفتح آفاق المستقبل الأكثر إشراقا لأبنائهم ..

لقد أحس كثير من أهل المدن في الإمارة أن أبناءهم بحاجة إلى مزيد من التعليم الديني بالإضافة إلى ما يتلقونه بمدارس الحكومة لعدم كفايته وقد كان بعضهم يتولي بنفسه سد هذه الثغرة أو كان يكلف من يثق بهم من أئمة المساجد بتعليم أبنائهم في العطل الصيفية أو أثناء السنة الدراسية إلا أن أكثرهم رأي أن هذا الأسلوب غير كاف وغير منتظم .

لقد كان في الأردن عدد من مدارس الكتاب في مختلف المدن مثل عمان وإربدو الكرك والسلط وغيرها من المواقع وتتولي هذه المدارس تعليم الأولاد مبادئ الدين والقراءة والكتابة والحساب وكانت في العهد العثماني بديلا عن المدارس الرسمية التي كانت محدودة جدا .

وعندما أنشئت المدارس الحكومية في عهد الإمارة تقلص عدد المنتسبين لمدارس الكتاب وأصبحت مهمتها علي الأغلب أشبه بتعليم ما قبل المدرسة مثل رياض الأطفال أو مدارس مسائية يتردد عليها الراغبون في الازدياد من التعليم الديني بعد دوامهم في المدارس الحكومية.

نشأة أول تنظيم إسلامي

شعر عدد من تجار عمان بالحاجة إلى إيجاد تنظيم ثقافي ديني يجمع بين تثقيف الكبار وتعليم الصغار فأسسوا ناد باسم : ( نادي الفضائل الإسلامية ) يهدف إلى أن تكون تجمعا ينتظم الراغبين بالمساهمة في عمل إسلامي يشتمل على النشاطات الاجتماعية والثقافية الإسلامية وافتتح أول مقر لهذا النادي في شارع السعادة وسط مدينة عمان عام 1943

وأتذكر من مؤسسي النادي السادة :

تيسير ظبيان وتولي مهمة التأسيس والتنظيم ولا أعلم إن كان قد سمي رئيسا أم كان الرئيس غيره .

حسن الشوربجي
خليل العزيزي
عبد اللطيف أبو قورة
عربي جميل
عبده صبحا

لقد حاولت أن أبحث عن قيود لهذا النادي في وزارة الداخلية ولكني لم أجد فيها شيئا غير أني أعلم أن النادي بدأ سنة 1943 وأنه افتتح رسميا في مقره الثاني في جبل اللويبدة من قبل المغفور له الملك عبد الله عام 1946,واستمر ناشطا في أكثر من جانب , وبخاصة عام 1947 إذ عمل علي تقديم المساعدات المالية والعينية للاجئين الفلسطينيين الذين وفدوا على الأردن نتيجة لاغتصاب اليهود لفلسطين وقيام الدولة الصهيونية عام 1948 .

وكان أهم إنجاز تعليمي للنادي إقامة مدرسة دينية في مقره في شارع السعادة في نفس السنة التي أسس فيها النادي 1943 وقد تولي إدارة هذه المدرسة المشرف على إدارة النادي الأستاذ تيسير ظبيان الذي كان يصدر جريدة باسم الجزيرة وكانت هذه المدرسة أشبه بما يسمي – الآن - المدارس أو نوادي الأطفال الصيفية التابعة لجمعيات تحفيظ القرآن.

وقد انضم إلى هذه المدرسة عدد من أبناء مدينة عمان وكانت الدروس قاصرة علي تعليم الفقه والقرآن الكريم حفظا وتلاوة على حفظ وتفسير بعض الأحاديث النبوية الشريفة ولم يتجاوز عدد المتعلمين صفا واحدا أو صفين – أحيانا – وكان الطلبة على مستويات متفاوتة سواء من حيث التحصيل الدراسي أو السن إذ كان الاهتمام منصبا على ما يمكن أن تدعوه ثقافة دينية أكثر مما يمكن أن يعد تعليما منهجيا مبرمجا .

ومع أنني كنت من التلاميذ الملتحقين في تلك المدرسة أثناء العطلة الصيفية إلا أنني لا أعرف كيف كانت تغطي نفقاتها إلا أنني اعرف أنها كانت ملحقة بالنادي وأن أعضاءه كانوا يتكلفون بالإنفاق على المدرسة .

وعلى الرغم من أن مؤسسي تلك المدرسة كانوا من الجيل الذي نشأ وتعلم في ظل الدولة العثمانية وأن مستوى تحصيلهم التعليمي لا يعدو مبادئ الدين والقراءة والكتابة والحساب إلا أنهم كانوا على وعي عال لحاجة أبنائهم إلى تعليم يجمع بين مطالب الحياة المعاصرة وأصالة الدين الإسلامي .

من منطلق هذا الوعي وجدوا أن المدرسة التي أنشأوها التي تعني بأبنائهم خلال العطل الصيفية لا تفي بما يتطلعون إليه ولا تستطيع أن تسد النقص الذي كانوا يرونه في المدارس الحكومية وكذلك لا تستطيع أن تقوم مقام المدارس الأجنبية التبشيرية لذا قرروا أنه لابد من إقامة مؤسسة تعليمية كاملة تنتظم فيها الدراسة طلية العام الدراسي وتجمع بين أصالة التعليم الديني ومطالب الحياة المعاصرة .

ولتحقيق هذه الغاية دعت مجموعة التجار إلى اجتماع في أكبر قاعة في عمان وهي سينما البتراء وذلك عام 1943 وعلى الرغم أنني لم أتجاوز الحادية عشر من عمري – آنذاك – إلا أنني حضرت الاجتماع وأذكر أنه كان حاشدا , وقد امتلأت تلك القاعة وكان اجتماعا رائعا ومنظما وقد شكل القائمون على الاجتماع فرقة كشافة سموها كشافة فتيان الرسول " وكان عريف الحفل الأستاذ تيسير ظبيان .

وأذكر أنه ألقيت كلمات تعبر عن حاجة البلاد إلى المدرسة التي تجمع بين المناهج الحديثة والالتزام بالثقافة الإسلامية والتعليم الديني .

وبعد تقديم فقرات الحفل وإلقاء الكلمات دعي الجمهور إلى التبرع بالمال لإنشاء المدرسة .

وقد افتتح باب التبرع المرحوم الحاج عبد اللطيف أبو قورة وأعلن عن تبرعه بألف دينار وثلاثين دونم أرض , وعندها دوت القاعة بالتصفيق والهتاف , وتتابع الناس بالتبرع, وأحسب أنه لم يتخلف أحد ولو بأدنى مبلغ وأذكر أن والدي – رحمه الله – سجل بإسمي آنذاك تبرعا بخمسة دنانير .


وأعلن عريف الحفل أنه جمع اثني عشر ألفا دينار في ذلك الاجتماع.


لقد كان المشرفون على هذا المشروع من متوسطي الحال ومن صغار التجار ولم يكن بينهم آنذاك أى من كبار التجار المعروفين حتى أكبر المتبرعين الحاج عبد اللطيف أبو قورة لم يكن من الأغنياء المعروفين وعلمت فيما بعد أن الألف دينار التي تبرع بها كانت هي كل ما يملك وكان قد ادخرها ليقيم بناء على أرض يملكها خلف الجامع الحسيني .

تدخل سمو الأمير عبد الله

لقد علم سمو الأمير عبد الله – ولم يكن ملكا – بهذا الحدث , وقام باستدعاء اللجنة المشرفة على هذا المشروع الهام وشكرهم على جهودهم وأوضح لهم أن المشروع بحاجة إلى مزيد من التبرعات وأنه لابد من إشراك كبار التجار والأغنياء فيتحمل تبعاته ووافقت اللجنة على أن تشكل لجنة أوسع تضم كبار التجار على أن يتبرع كل منهم بمالا يقل عن ألف دينار .
ولم تكن اللجنة الأولي تهتم إلا بإنجاح المشروع فوافقوا جميعا على تسليم المبلغ الذي جمعوه إلى اللجنة الجديدة التي اقترحها سمو الأمير عبد الله وباشرت اللجنة بالعمل السريع وأنشئت من خلالها الكلية العلمية الإسلامية التي افتتحت أبوابها للدراسة بأول مبني أنشئ فيها عام 1946.
وعندما أعلنت الإدارة المسئولة عن الكلية عن برامجها الدراسية وعن ارتباطها بالمنهاج المقرر للمدارس الحكومية وجد المؤسسون الأوائل لمشروع التعليم الديني أن مشروعهم لم يتحقق وأن الكلية العلمية الإسلامية لا تلبي تطلعهم وأنها لا تعدو أن تكون مثل المدارس الحكومية مع عناية محدودة بدرس إضافي تحت اسم الثقافة الإسلامية .
وهكذا عادت مجموعة نادي الفضائل الإسلامية الذي لم يكتب له البقاء وانشئوا تجمعا جديدا باسم رابطة العلوم الإسلامية .

ويذكر الأستاذ قيس ظبيان ابن المرحوم تيسير ظبيان من أعضاء الرابطة :

والده الأستاذ تيسير ظبيان
خليل العزيزي
محمد مختار الشنقيطي
عبد اللطيف شاكر
جميل شاكر
عبده صبحا

وقد شرعت مجموعة الرابطة العودة إلى مشروع المدرسة الدينية التي حاولوها عام 1943 , وتعاونوا في ذلك مع مديرية الأوقاف التي لم تكن وزارة آنذاك وأقاموا مدرسة شرعية باسم معهد العلوم الإسلامية واستأجروا لها منزلا في جبل الويبدة واستطاعوا أن يبدأوا التدريس في المعهد سنة 1949 ثم انتقل المعهد إلى المبني الجديد الذي بني في نفس الجبل إلى جانب مسجد اللويبدة بالتعاون بين مجموعة التجار ومديرية الأوقاف .

وتم الاتفاق بين مجلس رابطة العلوم الإسلامية ومجلس إدارة جمعية الثقافة الإسلامية المشرفة على الكلية العلمية الإسلامية على تحويل مبلغ خمسة آلاف دينار لمشروع معهد العلوم الإسلامية .

وقد اختير للمعهد عدد من الأساتذة الكرام من أهل الأردن كان منهم عدد من رواد التعليم فيه منهم : عبد اللطيف شاكر , والشيخ واصف فخر الدين والشيخ مختار الشنقيطي والشيخ عبد الكريم البابا وغيرهم وتولي إدارة المعهد الأستاذ تيسير ظبيان وقد استمر المعهد في أداء رسالته وخرج عدة أفواج بدأت سنة 1952 إلى أن تحول إلى كلية جامعية مستقلة باسم كلية الشريعة ثم انضمت إلى الجامعة الأردنية وأصبحت إحدي كلياتها الرئيسة الهامة وما زالت .

في عام 1947 أتممت دراستي الابتدائية في ثانوية عمان ونجحت في امتحان الشهادة الابتدائية التي كانت تعقد بعد الصف السابع وفي تلك السنة توفي شقيقي الأكبر هاشم – رحمه الله – وكان يعمل مع أبي في التجارة وأصبح والدي وحيدا فطلب مني في منتصف السنة الدراسية وكنت في الصف الأول الثانوي أن أترك المدرسة لأساعده في عمله التجاري .

وهكذا تركت الدراسة وعملت مع والدي مدة سنتين حتى عام 1949 وبقيت صلتي بعدد من رفاق الدراسة في ثانوية عمان فطلبت من والدي أن أعود للمدرسة وفي تلك السنة 1949 تقرر بدء الدراسة في معهد العلوم الإسلامية وكان والدي – رحمه الله – عضوا في مجلس إدارته ومن المتحمسين له فقال لى : إذا أردت العودة للدراسة فأدخل المعهد فرفضت وقلت له : إنني أريد أن أرجع إلى مدرستي وأن أذهب بعد ذلك للجامعة .

فقال لى : لعلك تخشي أن لا تعمل عملا يدر عليك المال ؟ وأنك تريد المدرسة والجامعة لأنك تأمل فيها كسبا ماليا أفضل من المعهد ؟ لذلك فإني أعدك إذا أتمت الدراسة في المعهد أن أعطيك ألف دينار أو ( دونم أرض ) فقلت له : لا أريد الألف دينار ولا الأرض إنما أريد العودة لمدرستي لكنه أصر على دخولي المعهد أو أبقي معه في العمل التجاري .

وهكذا دخلت المعهد وكنت أشعر أنني متميز عن بقية الطلبة لأنني خضت العمل الحر وتعرفت على الرجال الكبار ,وعلى الرغم من أنني درست في المعهد على غري رغبة مني في بداية الأمر إلا أنني عزمت على أن أكون متميزا في دراستي فيه , وبذلت جهدا حثيثا في متابعة الدراسة خلال السنوات الثلاث وكنت في كل سنة الأول على صفي .

وقد قررت إدارة الأوقاف المشرفة على إدارة المعهد إرسال الأوائل الثلاثة في بعثة للأزهر ثم فوجئت باستثنائي من البعثة وعندما راجعت مدير الأوقاف – آنذاك المرحوم كمال الجيوسي – قال لى : إنك صاحب الحق الأول في البعثة, إلا أن والدك – وهو عضو في مجلس الأوقاف – أصر على عدم اختيارك للبعثة وأنه سيرسلك على نفقته الخاصة فقلت له : إنني متمسك بحقي في البعثة ولن أذهب إذا لم أحصل عليها فوعدني خيرا .

وفي اجتماع مجلس الأوقاف عرض الأمر على المجلس وطلب المجلس من والدي عدم التدخل وهكذا تقرر إيفادي في بعثة إلى الأزهر عام 1952 وانتسبت إلى كلية الشريعة في جامعة الأزهر .

تأسيس جماعة الإخوان المسلمين

على الرغم من أن الحاج عبد اللطيف أبو قورة كان يشارك في النشاطات الإسلامية التي ذكرتها آنفا إلا أنه كان يتطلع إلى عمل إسلامي أبعد تأثيرا في المجتمع وفي عام 1943 اطلع على جريدة الإخوان المسلمين التي كانت تصدرها الجماعة في مصر فرأى في مبادئ تلك الجماعة وأساليب عملها التي كانت تعبر عنها جريدتهم ضالته في العمل الإسلامي الذي يتطلع إليه وبخاصة دعوة الجماعة للجهاد وتحرير فلسطين من الاحتلال البريطاني والمؤامرات اليهودية , وذلك أنه – رحمه الله – كان منذ الثلاثينات وهو شاب يافع يتحرق للجهاد في فلسطين وقد ذهب إلى فلسطين وشارك مع المجاهدين في ثورة 1939 ومعه ابن اخته جمال الجقة الذي استشهد في تلك الثورة التي أجهضها الاستعمار البريطاني آنذاك .

وقد أرسل الحاج عبد اللطيف جريدة الإخوان المسلمين واشترك فيها , ومن خلال متابعته لما ينشر في الجريدة اختمرت لديه فكرة تأسيس فرع للجماعة في الأردن فسافر إلى مصر عام 1945 والتقي بمرشد الجماعة المرحوم الشهيد حسن البنا و وانضم إلى الجماعة في مصر في تلك السنة وانتخب عضوا في الهيئة التأسيسية للإخوان في مصر , وأخذ موافقة المرشد البنا على تأسيس فرع للإخوان المسلمين في الأردن وطلب من المرشد أن يبعث بعض الدعاة من مصر ليعرفوا الناس بدعوة الإخوان حتى يتمكن من تأسيس فرع للجماعة .

وانتدبت قيادة الجماعة في مصر المرحوم عبد الحكيم عابدين لهدف المساعدة على تأسيس فرع الأردن.

لقد كان عبد الحكيم عابدين خطيبا وداعية مؤثرا استطاع أن يكسب قلوب كثير من الناس في أول خطبة ألقاها في الجامع الحسيني في عمان .,

وقابل المغفور له الملك عبد الله الذي منح الموافقة المبدئية على تأسيس فرع للجماعة في الأردن.

وقد قدم بعد عبد الحكيم عابدين عدد آخر من الدعاة من أبرزهم وأكثرهم تأثيرا على شباب الإخوان في الأردن سعيد رمضان .

وقد تم فعلا افتتاح الفرع عام 1956 واستأجر الحاج عبد اللطيف منزلا لأبناء عمته محمود صالح أبو قورة وإخوانه في جبل عمان ليكون مقرا للجماعة وتم اختيار أول هيئة تأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين من عدد من رجال الأردن ومعظمهم من التجار والعلماء وبعض كبار الموظفين وهم :

1- الحاج عبد اللطيف أبو قورة رئيسا .
2- فضيلة الشيخ يوسف البرقاوي
3- الأستاذ صبحي زيد الكيلاني
4- إسماعيل البلبيسي
5- إبراهيم منكو
6- الحاج عبدو صبحا
7- الحاج محمد على بدير
8- مصطفي شكري
9- راشد دروزة
10- الحاج بديع دروزة
11- الحاج إبراهيم جاموس

وخلال السنة الأولي من تأسيس الجماعة توسعت قاعدتها وانضم إلى الهيئة التأسيسية عدد آخر من أبناء الأردن أذكر منهم :

الأستاذ أحمد الطراونة
الأستاذ ممدوح الصرايرة
ممدوح كركر
مسلم النابلسي
رياض الجقة
الشيخ عبد العزيز الخياط
الشيخ مشهور الضامن
الشيخ عبده هاشم
سعد الدين خليفة
محمد نمر وهبة
منصور الحياري

أول هيئة إدارية للجماعة

في بداية تأسيس جماعة الإخوان كان المؤسس الحاج عبد اللطيف أبو قورة يدير شؤونها بطريقة مباشرة ويختار من بين أعضائها من يتوسم فيه المقدرة لتحمل المسؤوليات من غير تحديد واضح لمسؤولية كل من يختاره .

وعندما زاد عدد المنتسبين تم تشكيل أول هيئة إدارية باسم المكتب العام للجماعة بطريقة الانتخاب ووزعت بينهم المسؤوليات الإدارية على النحو التالي :

1- الحاج عبد اللطيف أبو قورة رئيسا للمكتب
2- مسلم النابلسي أمينا للصندوق
3- ممدوح سبتي كركر عضو
4- ممدوح الصرايرة عضو
5- محمد وهبه عضو
6- جمال عصفور عضو
7- مشهور الضامن عضو
8- منصور الحيارى عضو
9- زكي محمد سعيد عضو
10-توفيق جرار عضو
11- يوسف البرقاوي عضو
12- عبد الباقي جمو عضو

وقد تشكلت فرقة أشبه بالكشافة باسم جوالة الإخوان المسلمين , واختير لقيادتها هاني الحاج حسن ويساعده رياض الجقه لما كانا يتمتعان به من حيوية ونشاط .

وبناء على طلب الحاج عبد اللطيف أبو قورة كان مرشد الجماعة في مصر الشهيد حسن البنا رسل الدعاة إلى الأردن مثل عبد الحكيم عابدين وسعيد رمضان وعبد المعز عبد الستار وكانوا يقومون مع الحاج عبد اللطيف بجولات على مدن المملكة ويلقون الخطب في المساجد يدعون الناس إلى الانضمام للجماعة .

وقد كان أولئك الشباب الدعاة خطباء مفوهون لهم مقدرة فائقة على التأثير على عقول الناس وقلوبهم ولم يكن في الأردن أى تنظيمات جماهيرية مؤثرة لا سيما وأن القضية الفلسطينية كانت تمر بأخطر مراحلها آنذاك , وكانت حركة الإخوان المسلمين تعمل بقوة ووضوح على التنبيه على خطر اليهود الذين تدعمهم السلطات الاستعمارية البريطانية في فلسطين ويدعون إلى تحرير فلسطين من الاستعمار البريطاني ومن التغلغل اليهودي .

لقد وجدت الدعوة من خطباء الإخوان استجابة قوية من جميع فئات المواطنين الأردنيين لهذه الدعوة الجديدة ووجدوا فيها الأمل المرجو لتخليص فلسطين من براثن الاحتلال البريطاني والتهويد الصهيوني .

وكذلك فقد تجاوب الناس مع الدعوة إلى تجديد فهمهم للإسلام حيث كان الفهم السائد للدين لا يتعدي أمور العبادة والتمسك بالأخلاق الإسلامية فوجدوا في دعوة الجماعة إلى شمولية الدين الإسلامي لمختلف نواحي الحياة الإنسانية الجامعة بين النواحي الروحية التعبدية ونقاء العقيدة من الخرافات إلى جانب الدعوة إلى إقامة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية على مبادئ الإسلام وتتويج ذلك بالدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ضد قوى الاستعمار والاستبداد مع الدعوة إلى الوحدة السياسية للأمة الإسلامية وتبيان أن ما أصاب الأمة من ضعف وهوان على يد القوي الاستعمارية كان مرده إلى تمزق وحدة الأمة التي كانت نتيجة لانهيار دولة لخلافة الإسلامية.

وكان انبعاث هذه الحركة من مصر التي كانت الدولة الأكبر في المنطقة , والتي كانت الدولة الحاضنة للأزهر الشريف , والتي وجدت فيها أول الجامعات الحديثة في المنطقة العربية كان ذلك كله باعثا لآمال الناس في هذه الحركة الناهضة الفتية .

في ضوء هذه الآمال والمشاعر كانت رحلات الدعاة إلى مدن المملكة تقابل بالترحيب والحماس للانضمام إلى الجماعة وافتتاح الفروع لها , ولقد تم خلال سنتي 46,47 افتتاح وتأسيس فروع للجماعة في كل من الكرك والسلط وإربد وهي المدن الرئيسية في المملكة آنذاك إلى جانب العاصمة عمان .

تأسست أول شعبة خارج مدينة عمان في مدينة الكرك في أوائل عام 1947 وتشكلت فيها هيئة إدارية على النحو التالي :

1- هزاع المجالي – سكرتير للهيئة الإدارية
2- عبد اللطيف الصبيحي – عضو
3- محمد زين أبو الفيلات – عضو
4- محمد عاطف أبو الفيلات -عضو

وقدتم – أيضا – تأسيس شعبة للحركة في كل من السلط وإربد نتيجة لزيارات الدعاة القادمين من مصر .

وعمل الداعية سعيد رمضان على تشكيل أول شعبة في السلط أوائل عام 47 وقد شكلت أول هيئة إدارية لهذه الشعبة برئاسة أحد علماء المدينة وإمام المسجد فيها الشيخ عبد الحكيم زيد الكيلاني .

وضمت في عضويتها عددا من شباب المدينة ومثقفيها كان من أبرزهم الصيدلي عبد الحليم بدران الذي وضع منزله ليكون أول مقر للشعبة في السلط وتشكلت الهيئة الإدارية على النحو التالي :

1- الصيدلي عبد الحليم بدران رئيسا
2- حمدي فريز أمينا للسر
3- عبد الكريم الخطيب أمينا للصندوق
4- سري العالم البسطامي عضو
5- عاطي باكير عضو
6- عواد عنيزان الخريسات عضو
7- عبد القادر الشريف عضو
8- محمد على السعيد القطيشات عضو
9- حسن عبد الله الحياري عضو
10- منصور الحياري عضو
11- جلال المفلح عضو
12- عبد الرؤوف البلبيسي عضو
13- حاكم الخطيب عضو
14- عبد الله الكايد عضو

وتمكنت الهيئة الإدارية المنتخبة من استئجار مقر خاص للشعبة بدلا من منزل الصيدلي عبد الحليم بدران وقرروا اختيار هيئة إدارية عن طريق الانتخاب في 10 /7/ 1947, وتشكلت على النحو التالي :

الشيخ عبد الحليم زيد رئيسا للشعبة
القاضي نايف الخطيب نائبا للرئيس
عبد المجيد السالم الحياري سكرتيرا
عبد الكريم الخطيب أمينا للصندوق
زهدي النابلسي مساعدا للسكرتير
عبد الكريم الحياري مراقب للنشاط الرياضي
عبد الرؤوف البلبيسي عضو
رفعت شموط عضو
سري العالم البسطامي عضو

'ثم انضم إليهم بعد شهرين كل من :

حسين الحياري عضو
محمد عبد الرحمن خليفة عضو

محمد على السعيد القطيشات عضو ونتيجة لانتقال نائب الرئيس نايف الخطيب إلى عجلون في 1/6/ 1948 استقال الشيخ عبد الحليم زيد من رئاسة الشعبة .

ومن ثم أعيد تشكيل الهيئة الإدارية لشعبة السلط في 22/2/ 1949 على النحو التالي :

محمد عبد الرحمن خليفة رئيسا
عبد المجيد السالم الحياري أمينا للسر
عبد الكريم الخطيب أمينا للصندوق
المحامي رفعت شموط عضو
عبد الرؤوف البلبيسي عضو
عبد الكريم الحياري عضو
زهدي النابلسي عضو
سري العالم البسطامي عضو

وفي 1/1/ 1950 تشكلت هيئة إدارية جديدة على النحو التالي :

الشاعر محمود الأفغاني رئيسا
عبد الرزاق عبد الرحمن خليفة نائبا للرئيس
شوكت تفاحة أمينا للسر
عبد الكريم الخطيب أمينا للصندوق
عبد الحليم بدران عضو
عزمي تيم عضو
حسين حياصات عضو
منصور الحياري عضو
عبد الرؤوف البلبيسي عضو

ثم أعيد تشكيل الهيئة في 1/9/1950 على النحو التالي :

عبد الحليم بدران رئيسا
شوكت تفاحة نائبا للرئيس
مشهور حسن حيمور أمينا للسر
عبد الكريم الخطيب أمينا للصندوق
محمود الأفغاني عضو
حسن برقاوي عضو
جميل شاكر عضو
سليمان العبد العواد العربيات عضو
إبراهيم المبيضين عضو

لقد أخذت هذه الأسماء والمعلومات من قيود شعبة الإخوان التي كانت في حوزة عدد من أعضاء شعبة السلط , وقد تعمدت ذكر أسماء الذين تعاقبوا على إدارة شعبة السلط لما سيأتي من تأثير منهم على تشكيلات الجماعة وتطور الأحداث فيها ..

الإخوان المسلمين في فلسطين عام 1948

كتيبة أبي عبيدة

على الرغم أن شرق الأردن كانت الوصاية البريطانية منذ نهاية الحرب العالمية الأولي إثر تفكك الخلافة العثمانية إلا أن أهلها كانوا على وعي عميق للمؤامرة البريطانية اليهودية على فلسطين وكانوا يمدون أهل فلسطين بأنواع التأييد والمساعدة لمقاومة التهويد والاحتلال البريطاني وقد ذكر إحسان النمر عددا من رجالات الأردن كانوا نشيطين في دعم جهاد أهل فلسطين منهم : عادل العظمة ومنصور قداره وطاهر الجقة ومحمد على دروزه وعبد الله أبو قوره وسعد الدين المهايني والشيخ قاسم الأمعري والحاج خليل العزيزي ( إحسان النمر تاريخ جيل نابلس والبلقاء – مطبعة جمعية عمال المطابع التعاونية بنابلس جـ 3 س 257).

أما الحاج عبد اللطيف أبو قورة فلم يكتف بمد يد العون بالمال والسلاح وإنما انتقل بنفسه إلى الاشتراك الفعلي في ثورة عام 1936, واصطحب معه إلى معاقل الثوار في فلسطين ابن أخته جمال الجقة ابن طاهر الجقه.

وقد أكرم الله عزوجل جمال الجقة بالاستشهاد على أرض فلسطين في ثورة 1936 (المصدر السابق ص 258).

وتفرق المتطوعون العرب عندما أجهضت ثورة 1939 نتيجة تدخل الزعماء العرب عندما أصدر أربعة منهم نداء إلى أهل فلسطين في 9 تشرين أول عام 1936 هذا نصه :

إلى أبناء عرب فلسطين :

لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في فلسطين فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله ندعوكم للإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء ومعتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدالة وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم التواقيع
الإمام يحي ( اليمن)
الملك عبد العزيز آل سعود (السعودية)
الملك غازي ( ملك العراق )
الأمير عبد الله ( أمير شرق الأردن ).

وقد خدع الملوك كما خدع أهل فلسطين بالوعود البريطانية الكاذبة وبناء على نداء الملوك أصدرت الهيئة العربية العليا في فلسطين نداءها في اليوم الثاني عشر من تشرين الثاني 1936 داعية إلى وقف الإضراب والثورة ( تاريخ جيل نابلس والبلقاء جـ 3 ص 269) .

وعاد الحاج عبد اللطيف أبو قورة إلى شرق الأردن مثل غيره من المتطوعين العرب وفي أنفسهم حسرة وألم لما آل إليه أمر الثورة في فلسطين .

واستمرت المؤامرة البريطانية اليهودية الصليبية وتدفق اليهود من أوربا وسائر أنحاء العالم إلى فلسطين وتدخلت جميع الدول الكبرى آنذاك لإتمام المؤامرة وقررت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وتداعي المخلصون في جميع الأقطار العربية إلى مد يد المساعدة إلى الشعب الفلسطيني الأعزل وعقدت اجتماعات في عمان لتنظيم التطوع في فلسطين وكان تجار عمان على الأغلب هم المتصدون لذلك.

وأذكر أنني حضرت عام 1947 اجتماعا لهذه الغاية رفقة والدي الحاج خليل العزيزي في منزل العالم الشيخ يوسف البرقاوي كانت الغرفة الصغيرة في منزل الشيخ يوسف مزدحمة وأذكر ممن حضروا ذلك الاجتماع إلى جانب الشيخ يوسف ووالدي : الحاج عبد اللطيف أبو قوره , وإبراهيم منكو , وعربي جميل , وعبده صبحا , وأمين بروسك الكردي .

وحصل نقاش حاد فقد كان أمين بروسك يري أن أعداد المتطوعين العرب وقوتهم غير كافية وأن النتيجة ستكون كارثية إلا أن معظم الحاضرين كانوا ضد رأيه وكانوا يرون أن الجيوش العربية ستكون قادرة على حسم المعركة وأن عمل المتطوعين لا يعدو أن يكون مساندة الجيوش العربية .

إلا أن أمين بروسك الذي كان لاجئا سياسيا في الأردن صرح بأمر خطير في حينه لم يقبله الحاضرون إذ قال : إن الجيوش العربية لن تدخل لقتال اليهود , وإنما ستدخل لحماية اليهود من أمثالكم من المتطوعين المجانين إلا أن المجتمعين أصروا على المضي في تشكيل حملة التطوع وتعهد التجار المجتمعون بتمويل الحملة وتأمين ما يلزمها من السلاح والإمداد, وكان معروفا أن أسخاهم وأكثرهم تبرعا بتكاليف الحملة هو التاجر الثري المرحوم إبراهيم منكو. وأخوه المرحوم حمدي منكو.

كان الحاج عبد اللطيف أبو قوره الأكثر حماسا واندفاعا ونظرا لكونه رئيسا لجماعة الإخوان المسلمين , وهو التنظيم الإسلامي الوحيد على الساحة آنذاك الذي رفع شعار الجهاد في سبيل الله , وأن قيادة الجماعة الرئيسة في مصر قررت تشكيل حملة تطوع أيضا للجهاد في فلسطين ونظرا لخبرته السابقة واشتراكه في ثورة 1936 فقد تقرر أن يتولي نفسه قيادة الحملة التي أعطيت اسم كتيبة ( أبو عبيدة عامر بن الجراح ) الصحابي المجاهد الذي قادة الجيوش الإسلامية في فتح بلاد الشام وقاد جيش بيت المقدس في خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – ومات في الأردن وضريحة في القرية التي تحمل اسمه في غور الأردن.

وتشكلت كتيبة أبي عبيدة من مجموعة من الشباب الأردنيين من كل أرجاء الأردن وبلغ عددهم ما يزيد عن مائة وعشرين متطوعا ومع شديد الأسف أنني لم أتمكن من أن أحصل على جميع أسماء هؤلاء المجاهدين ولكني استطعت أن أحصل على بعض الأسماء ممن بقي منهم حيا بين أظهرنا وبخاصة الصديق نظمي عطية وهذه الأسماء هي :

1- الحاج عبد اللطيف أبو قورة قائد الكتيبة
2- ممدوح الصرايرة نائب قائد الكتيبة
3- أحمد دوجان بزبز من السلط
4- عصام دروزة من عمان
5- عبد الرحمن الخليلي من عمان
6- صلاح الدين عميره من عمان
7- نظمي عطية من عمان
8- بشير سلطان من عمان وقد استشهد رحمه الله
9- الشيخ محمد الحديد من عمان
10- محمد النوايسه من الكرك
11- محمد الجيلاني من عمان
12- الحاج موسي من وادي السير
13- محمد الروسان من إربد
14- بسام المسلط من بني صخر
15- حسين حامد الصرايرة من مؤتة - الكرك
16- الحاج عبد اللطيف الجغل من السلط
17- سالم الفايز من عشيرة الفايز من عمان
18- محمد الفايز من عشيرة الفايز من عمان

لقد ترك هؤلاء المتطوعون أسرهم غير مبالين سواء من كان منهم شابا أعزب أو متزوجا يتحمل مسؤولية أسرته مثل الحاج عبد اللطيف أبو قورة آنذاك , حتى إن أخاه الذي كان يكبره سنا المرحوم عبد الله أبو قورة لامه لوما شديدا , وقال له كيف تترك أسرتك ومن أين سيتدبرون أمرهم ؟ وكان له آنذاك خمسة من الأبناء فقال لأخيه إذا جاءك أى من أبنائي يطالب المساعدة فاطرده ولا تعطه مليما واحدا .

وحصلت الكتيبة على أسلحتها التي لم تعد البنادق وبعض المسدسات ومول عدد من تجار عمان – كما أسلفت – الكتيبة وشراء ما يلزمها من أسلحة ومعدات .

وانتقلت الكتيبة إلى فلسطين وشاركت في الدفاع عن عدد من المناطق في محيط القدس وعين كارم والمالحة والقطمون وبيت صفافا وراما تراحيل وصور باهر .

لقد أبلي المتطوعون من المجاهدين التي شاركوا في قتال اليهود عام 1948 والقادمون من عدد من البلاد العربية مثل الأردن وسوريا ومصر والعراق بلاء حسنا بل لقد بدأت أعداد قليلة من المجاهدين تصل من المغرب العربي واليمن وجاء بعض المتطوعين من ألبانيا وبدأ تحرك بعض البلاد الإسلامية مثل الهند وشرق آسيا كإندونيسيا على الرغم من وقوعهم آنذاك تحت الاحتلال الهولندي والبريطاني .

ولو بقيت المقاومة المسلحة والحرب بين العرب واليهود والتوافد المتطوعون وتكاثروا ولما وقعت الكارثة التي أدت إلى ضياع معظم فلسطين آنذاك.

إلا أنه كما أجهض نداء حكام العرب عام 1936 ثورة الشعب الفلسطيني فقد أجهضت جهود التحرير والدفاع عن فلسطين عام 48 بإعلان الهدنة بين الجيوش العربية التي اشتركت في المعارك آنذاك وهي الجيش المصري والأردني والسورى وكان معهم الجيش العراقي كذلك.

وهكذا ضاعت فلسطين نتيجة تحالف لقوى المتمثلة بدول أوربا كلها حتى روسيا والولايات المتحدة مع الصهيونية العالمية ونتيجة لقصر النظر السياسي أو الخيانة في بعض الأحيان من المسئولين عن الدول العربية آنذاك .

وقد استشهد من هذه السرية عدد عرفنا منهم حسين الصرايرة وسالم الفايز وبشير سلطان وعاد من بقي من المتطوعين للجهاد في فلسطين من العرب إلى أقطارهم تنهش قلوبهم الحسرة والألم على ضياع البلاد التي بذل فيها الأجداد منذ الفتح الإسلامي وعبر الغزو المغولي والصليبي مئات الألوف من الأرواح حتى أوصلوها إلينا خالصة من رجس الاحتلال بل إن بعض المجاهدين عادوا إلى سجون دولهم وكان البطش بهم ثمنا لمحافظة المسئولين على كراسي الحكم وخوفا من الدول التي أقرت تقسيم البلاد الإسلامية إلى دويلات ضعيفة لا تملك نفسها بعد أن كانت خلافة عظمي تمتد في القارات الثلاث .

النهوض إلى العمل الدعوي

عندما عاد مجاهدوا الإخوان من فلسطين لم يتملكهم اليأس ولم يركنوا إلى الإنطواء بل اندفعوا في مسارين متوازيين للعمل أحدهما :مد يد المساعدة لجموع اللاجئين الذين وفدوا من فلسطين وكانت أعداد اللاجئين إلى شرق الأردن أكثر من أى عدد توجه إلى البلاد العربية الأخرى مثل سوريا ولبنان أما مصر فقد أغلقت أبوابها في وجه اللاجئين وأبقتهم في قطاع غزة الذي بقي تحت إدارة الدولة المصرية.

ومع أن جزءا من فلسطين بقي تحت إدارة حكومة المملكة الأردنية إلا أن المملكة فتحت أبوابها للإجئين في كل أرجائها ولم يقتصر إيواؤهم غلى الضفة الغربية لقد بذل الإخوان جهودا كبيرة في التخفيف عن اللاجئين وتأمين ما استطاعوا من احتياجاتهم أما المسار الآخر من العمل فكان في بث روح الصمود بين الناس , والحث على بقاء روح الجهاد وإحياء الأمل باسترجاع فلسطين وعدم الاستسلام للهزيمة التي لا يتحمل وزرها أهل فلسطين ولا الشعوب العربية بقدر ما يتحملها تآمر القوي الدولية وتخاذل الدول العربية .

في ظلال هذه الروح بدأت جماهير الأمة تتوجه إلى دعوة الإخوان وانضم إليها أعداد من الشباب من الموظفين والمثقفين وطلبة المدارس يدفع الجميع الرغبة في إنقاذ الأمة وتحسين أحوالها السياسية والاجتماعية .

وأصبحت دور الإخوان المسلمين في عمان والسلط والكرك وإربد ملتقي للمثقفين والمندفعين للعمل للإسلام وصارت الندوات والمحاضرات والدروس تستقطب الشباب من مختلف الأعمار وكان كثير من المنضمين للحركة من المعتقلين من خريجي الجامعات في مصر وسوريا ومن معلمي المدارس على مختلف درجات تعليمهم .

التطلع إلى قيادة جديدة للجماعة

بقيت قيادة الجماعة في يد الرعيل الأول الذي يرأسه الحاج عبد اللطيف أبو قورة وشعر الحاج عبد اللطيف وهو يري أعداد من المتعلمين من المعلمين والقضاة ينضمون لصفوف الجماعة بينما قيادتها من طبقة التجار وبعض المتعلمين وبدأ يتحدث في مجالس الجماعة أن على قيادة الجماعة إدراك التغير الحاصل في جماهيرها وأنه يجب اختيار مسئول لرئاسة الجماعة من الذين نالوا حظا أوفر من التعليم وكان يقول : لقد أديت واجبي على قدر ما أستطيع, ولابد من تسليم الدفة إلى شباب أكثر علما وأقدر على التعامل مع الجيل الجديد.

وقد أصر على تشكيل لجنة من إدارة الإخوان تعمل على إجراء بحث جاد من بين صفوف المنتسبين للجماعة لاختيار مسئول جديد تتوفر فيه المعرفة والعلم والإخلاص لتولي قيادتها .

وأصر الإخوان أن يكون الحاج عبد اللطيف رئيسا لهذه اللجنة التي ستبحث عن رئيس جديد للجماعة

وقد استقر رأي اللجنة على اختيار المرحوم نايف الخطيب لهذه المهمة كان نايف الخطيب قاضيا معروفا بالنزاهة وحصافة الرأي وكان من أوائل من انضم للجماعة في شعبة السلط واختير فيها نائبا لرئيس الشعبة آنذاك,

وقد قبل نايف الخطيب التكليف مبدئيا واشترط أن يكون تعيينه لمدة سنة واحدة للتجربة وأن لا يتفرغ من عمله , وأن لا يتقاضي أجرا على ذلك, وأنه بعد سنة التجربة سيكون الإخوان أحرارا في الاستمرار معه أو اختيار بديل له ويكون هو حرا كذلك في الاستمرار أو عدمه .

لقد كان رأي الحاج عبد اللطيف وبعض أعضاء اللجنة الموافقة على اقتراح الأخ نايف الخطيب وأنهم بعد سنة سيعيدون تقييم الوضع في ضوء التجربة إلا أن أكثرية أعضاء اللجنة والإخوان أصروا على اختيار مسئول دائم ومتفرغ من بداية اختياره وهكذا أخذوا يبحثون عن البديل .

الحركة النبهانية

لقد كان من عوامل اندفاع الإخوان وإصرارهم على اختيار مسئول جديد ظهور حركة انفصال عن الإخوان يقودها الشيخ تقي الدين النبهاني .

وكان لهذه الحركة نشاط واسع في الاتصال بشباب الإخوان وبخاصة فئة المتعلمين والطلبة وكان أبرز نشطائهم من الكبار والمتعلمين الشيخ عبد العزيز الخياط ومن الشباب الأصغر سنا هاشم أبو عمارة الذي كان يعمل معلما .

وكان الحاج عبد اللطيف أبو قورة الأشد تخوفا من هذه الحركة الانفصالية لذلك كان أكثر المتحمسين لاختيار مسئول أعلي تعليما يستطيع أن يقف في وجه النبهانيين الذين يبدون أكثر علما وأقدر على الحجاج والمناقشة .

كانت جماعة الشيخ تقي الدين في بداية الأمر يعملون كحركة إصلاحية تهدف إلى إعادة تنظيم الجماعة في الأردن ,وإبراز الجوانب الثقافية والعليمة والسياسية في نشاط الجماعة التي كانت أكثر ميلا للجوانب العقائدية والتعبدية والأخلاقية .

وكان من أبرز انتقاداتهم لقيادة الجماعة أنها ضعيفة من ناحيتين هما : الضعف في فهم علوم الإسلام وفقه ومبادئه , وضعف المساهمة في العمل السياسي مما يجعل الجماعة عاجزة عن تحقيق أهم الأهداف في نظرهم وهو إقامة الدولة الإسلامية على الرغم من مضي عشرين سنة منذ بدء حركة الإخوان في مصر سنة 1928 حتى 1948.

وفي إحدي مناقشاتنا مع هاشم أوب عمارة سألته : وكم تحتاج حركتكم لإقامة الدولة الإسلامية فكان جوابه : من ثلاث إلى خمس سنوات على أبعد تقرير وها قد مضي على هذا الوعد ما يزيد على الستين عاما ولم يتمكن حزب التحرير – الذي أسسه تقي الدين النبهاني – من إقامة الدولة الموعودة !!

لقد انبهر كثير من شباب الإخوان بالتوجه السياسي الحاد للحركة النبهانية وتجاوبوا معها وهى تنشط في مراكز الإخوان نفسها وبخاصة عمان وعندما شعرت قيادة الإخوان بان هذه الحركة قد تمثل خطر على وحدة الصف لم يسمحوا لعناصر هم بمزاولة نشاطهم داخل دار الجماعة .

وكان ممن انضم إلى حركة الشيخ تقي الدين النبهاني المحامي عبد الرزاق خليفة وكان مكتبه في نفس المبني ونفي الطابق الذي تشغله دار جماعة الإخوان في عمان وكثيرا ما كانت تعقد الاجتماعات في ذلك المكتب , ويحضره المنضمون للحركة والمعجبون بالشيخ مع أنهم كانوا من عناصر الإخوان .

اختيار محمد خليفة لرئاسة الإخوان

لقد عرجت على موضوع حركة تقي الدين النبهاني لأن ازدياد نشاطها كان أهم العوامل التي دفعت الإخوان للتعجيل في اختيار المسئول الجديد الذي سيخلف الحاج عبد اللطيف أبو قورة وبعد اعتذار نايف الخطيب .

وقع اختيار الإخوان على قاض آخر من السلط أيضا وافق على تولي المسؤولية بشكل دائم وأن يستقيل من منصبه في القضاء ويتفرغ لقيادة حركة الإخوان , وكان هذا الشخص هو محمد عبد الرحمن خليفة .

ولقد اعترض بعض الإخوان على اختياره لأنه كان من المترددين على حلقات الشيخ تقي الدين النبهاني وبخاصة في مكتب أخيه عبد الرزاق إلا أن اللجنة المكلفة أخذت على محمد خليفة العهد الموثق بالإيمان أنه قد تخلي نهائيا عن الشيخ تقي الدين النبهاني وعن حركته وهكذا تم اختيار محمد عبد الرحمن خليفة مسئولا ورئيسا لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن .

وضع النظام الداخلي للجماعة ودور محمد نجيب جويفل وفد على الأردن قبيل قيام انقلاب 23 يوليو في مصر شاب قادم من مصر قدم لشباب الإخوان باسم [[عبد العزيز سالم, وأنه هارب من الحكومة المصرية التي اغتالت مرشد الجماعة المرحوم الشهيد حسن البنا .

كانت لمجموعة الشباب من الطلبة وبعض الموظفين في حركة الإخوان ثقة كبيرة في الأخ ممدوح كركر وكان تاجرا في عمان ويعرف على أنه من أصل عراقي من مدينة الفلوجة وهو الذي عرفنا على عبد العزيز سالم .

لقد كان جميع المنتسبين للإخوان – وبخاصة الشباب – يرون في كل قادم من الإخوان في مصر الأنموذج والقدوة لا سيما عندما يقدم لهم أنه كان من الذين تصدوا للحكم الملكي الظالم في مصر وأنه سيعمل على تنظيم الإخوان في الأردن على نفس الأسس التي قام عليها تنظيم الجماعة في مصر

لقد كنا نتطلع إلي وضع نظام للجماعة يحدد المسؤوليات القيادية والإدارية فيها ويضع حدا للقيادة التي تعتمد على الشخصانية والقرارات الفردية دون أن تأخذ برأي العناصر المنتسبة للجماعة وخاصة الشباب الذين كانوا يرون أن القيادة التقليدية القائمة وهي قيادة الحاج عبد اللطيف أبو قوره والمجموعة التي معه لا تلبي تطلعهم إلى قيادة جماعية تتخذ فيها القرارات بالتشاور بدلا من الفردية.

ولقد استبشر معظم الشباب خيرا عندما تولي عبد العزيز سالم مهمة الإشراف على وضع النظام الداخلي للجماعة بالتعاون مع المسئولين آنذاك .

وقد استمر العمل على إنجاز النظام قرابة عام من 1952 إلى 1953 حيث عقد اجتماع موسع لإقرار النظام في مدينة الخليل .

وبرزت معارضة قوية من قبل الشباب للمدة للمسئول إذ لم يتضمن النظام أى مدة محددة مما يعني أنه مدى الحياة ووقع خلاف حاد بين فريق المؤيدين لعدم تحديد المدة وفريق الشباب الذي كان يصر على تحديد مدة ليتم بعدها تداول المسؤولية وإمداد قيادة الجماعة باستمرار بدماء جديدة وعناصر جديدة .

واتخذ الخلاف أحيانا طابعا فقهيا إلى الجانب الإداري التنظيمي وكان المؤيدون لعدم ذكر المدة يستشهدون باختيار الخلفاء الراشدين وأنه لم يحدد لأى منهم مدة لتولي المسؤولية وإن جماعة الإخوان تمثل الجماعة الإسلامية التي وجدت في أفضل عهود الإسلام وإن فقه الإسلام الصحيح يدعو إلى الاقتداء بتلك الفترة .

وكان نقاش مجموعة الشباب الرافضين للنظام يتخذ طابع الرد من ناحيتين : أما الناحية الفقهية الشرعية فقد كنا نصر أن جماعة الإخوان لا يمكن أن تعد هي الجماعة الإسلامية بالمفهوم الشرعي الفقهي للجماعة وإنما هي جماعة من المسلمين لها أن تضع لنفسها النظام الذي يناسبها بشرط أن لا يخالف قاعدة شرعية أو نصا من القرآن الكريم مخالفة صريحة وإنها ليست ملزمة بما كان يؤخذ به للجماعة الإسلامية التي تمثلها الخلافة الإسلامية والدول الإسلامية .

ومن الناحية الإدارية والتنظيمية فقد كنا نري أن جميع الحركات السياسية المؤثرة في العالم كانت تأخذ بمبدأ تداول المسؤولية عن طريق تحديد مدة المسئول بدورة من أربع سنوات أو أكثر أو أقل .

لقد كان لتأييد عبد العزيز سالم الذي عرفنا فيما بعد أن اسمه محمد نجيب جويفل كان لتأييده للنظام المقترح تأثير على إقرار النظام سيما وأن ذلك كان شرطا مسبقا لمحمد خليفة الذي تم اختياره مسئولا عن الجماعة .

بدأ حركة الانفصال

لم يكن أمام مجموعة الشباب الذين كانوا يرفضون مبدأ الاختيار الدائم للمسئول لم يكن أمامهم سوى السكوت على مضض مع عدم الرضا في داخلهم والاستمرار مع الجماعة حفاظا على وحدة الصف أو الانفصال نهائيا عن التنظيم وإعلان ذلك وكان من أبرز من استقال من الجماعة مؤسسها الحاج عبد اللطيف أبو قورة الذي رفع استقالته من تنظيم الإخوان في الأردن إلى المرشد العام في القاهرة لأنه كان عضوا في الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين في مصر وفي ما يلي صورة عن هذه الاستقالة :

وكان ثمة فريق ثالث لم يعلن انفصاله عن الجماعة إلا أنه جمد نشاطه فيها داعيا في نفس الوقت إلى إعادة النظر في النظام الداخلي للجماعة وبخاصة ما يتعلق ببند التأييد للمسئول الأول عن الجماعة .

وقد كنت من هذا الفريق لا سيما وأنني انتقلت إلى مصر للدراسة في جامعة الأزهر – آنذاك – وفي الحقيقة لم أكن متحمسا للذهاب إلى مصر بقصد الدراسة بقدر ما كنت متطلعا إلى الاتصال بالتنظيم الإخواني في مصر الذي كنا نتطلع إليه بكثير من الإعجاب والتقدير قد يصل إلى حد غير معقول قريب من القداسة وقد كنت أقول لأصدقائي وزملائي من الطلبة الذين كنت مسئولا عنهم في تنظيم الإخوان في الأردن إنني ذاهب إلى مصر لأتعلم من الإخوان فيها أكثر مما كنت آملا أن أتعلم في الجامعة وكان مما زاد تطلعي إلى التعلم من الإخوان في مصر إعجابنا معشر شباب الإخوان بشخصيات الإخوان الذين كانوا يفدون إلينا من مصر أمثال عبد الحكيم عابدين وسعيد رمضان وعبد العزيز سالم الذي كان له تأثير كبير في نفوسنا لما أحاطه الإخوان به من هالة عميقة التأثير علينا لبطولاته في مقاومة النظام الاستبدادي في مصر الذي كان مسئولا عن اغتيال مرشد الإخوان الشهيد حسن البنا .

وكان من الشخصيات المؤثرة كذلك كامل الشريف الذي قدم إلينا قائدا من قادة متطوعي الإخوان المسلمين في مصر في فلسطين في حرب عام 1948.

وقد كان من أسباب تأثرنا بالدعاة القادمين من مصر أيضا ما كان يظهر لنا من التزامهم بالسلوك الإسلامي مثل قوة إقناعهم وقدراتهم الخطابية وما يبدو من تمسكهم بالنواحي التعبدية والسلوكية بعبارة أخرى كانوا بالنسبة لنا الأنموذج الكامل للشخصية الإسلامية التي كنا نراها قريبة من الشخصيات التي قرأنا عنها من جيل الصحابة ومن بعدهم من قادة الفكر والجهاد والدعوة.

الاتصال بالإخوان في مصر

وصلت مصر بعد قيام الانقلاب العسكرى عام 1952 بقليل ومن المعلوم أن تنظيم الإخوان كان محظورا في المعهد الملكي ولم يكن قد سمح له بالعودة بشكل رسمي بعد, إلا أن شخصيات الإخوان كانت تحتل موقعا مرموقا في الساحة السياسية في مصر كنت وخمسة من الأردنيين – أول خمسة للدراسة في الأزهر على حساب الحكومة الأردنية وكان هؤلاء الزملاء – مع حفظ ألقابهم – مشهور حيمور , وأحمد السالك الشنقيطي, وهشام الجيوسي ومحمد رامز العزيزي, وكنت خامسهم وقد استأجرنا معا شقة في حدائق شبرا بالقاهرة وبعد مضي ما يقرب من أربعة أشهر من سكناى في ذلك الحي , سمح خلالها بعودة تنظيم الإخوان , وأعيد فتح المقر للجماعة في حي الحلمية الجديدة, وصرت أتردد على دار الجماعة , ولا سيما كل يوم ثلاثاء موعد حديث الثلاثاء الذي كانت تتوافد عليه أعداد كبيرة من الإخوان من مختلف أنحاء القاهرة بل وحتى من خارجها .

وقد وجدت أن سكناي في حي حدائق شبرا لا يتيح لى فرصة اللقاء بمن كنت أتوق إلى لقائهم من قادة الإخوان الذين كنت أتطلع إلى التعلم منهم والاقتداء بهم في أساليب الدعوة وأصول التنظيم وعلمت – آنذاك – أن أبرز قادة الإخوان يقيمون في حي الروضة في القاهرة , وبخاصة سعيد رمضان الذي كان من أكثر دعاة الإخوان تأثيرا في الأردن وكذلك كان الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين مقيما في ذلك الحي .

وكان واحدا من إخوان الأردن وهو سالم على سالم الجعفري ممن سبقنا إلى مصر , وأعلمني أنه حصل على شقة صغيرة من غرفتين وتوابعها في شارع منيل الروضة واتفقت معه أن نسكن معا في تلك الشقة ,ولم ألتفت إلى رغبة زملائي الأربعة في البقاء معهم ومما زادني رغبة في ذلك أن الجزء الأمامي من المبني كان يسكنه سعيد رمضان الداعية المعروف وهو في نفس الوقت متزوج من ابنة الشهيد المرحوم حسن البنا .

وانتقلت إلى السكن مع سالم لأكتشف ميزة أخرى لذلك السكن وهو أنه ملك للواء على نجيب شقيق رئيس الجمهورية محمد نجيب , ويقطن في الطابق الأول فوق شقتنا وشقة سعيد رمضان .

وكثيرا ما كنانرى اللواء محمد نجيب يأتي لزيارة أخيه فوق منزلنا .

كنت أتوقع أن تزداد صلتي برموز قادة الإخوان في ذلك الحي من خلال نشاطهم في تلك المنطقة , وقد أسس الإخوان في ميدان الروضة آنذاك مسجدا واسعا فيها , وكان عبارة عن عريشة ضخمة من الحصر وجريد النخل إذ يبدو أن إمكاناتهم لم تسمح ببناء المسجد وكان آلاف الإخوان يؤمون المسجد في صلاة الجمعة , حيث كان يتعاقب على الخطبة فيه كبار المسئولين والدعاة من الإخوان وكان زملائي وغيرهم من طلبة الجامعات يؤمونه لصلاة الجمعة من مختلف مناطق القاهرة .

كنت آمل أن التقي برموز الدعوة في الصلوات الأخري في المسجد وبخاصة في صلاة الصبح التي كانت تعد في أدبيات الدعوة من أهم دلائل الالتزام للأخ المسلم .

إلا أنني فوجئت أنه لا يأتي لصلاة الفجر سوي عابري الطريق والباعة الذين يبدأون يومهم مبكرا مع أذان الفجر وبخاصة بائعي الحليب المسمون – آنذاك – بائعي اللبن, والذي يضرب المصريون بهم المثل في التبكير, ووجدت نفسي الوحيد من الإخوان الذي يأتي لصلاة الفجر , وقدمني المصلون من الباعة للإمامة , وأصبحت الإمام الدائم – تقريبا – لتلك الصلاة في ذلك المسجد.

وكان ذلك أول خيبة أمل في قيادة الإخوان إذ كنت شابا شديد التمسك بالمبادئ التي تربينا عليها ومنها أهمية صلاة الفجر في جماعة في المسجد .

لذلك عندما التقيت لأول مرة في مصر بكل من كامل الشريف ونجيب جويفل في دار الإخوان في الحلمية سألاني كيف وجدت مصر ؟ فأجبتهم بلا مواربة أو مجاملة : لقد كنا نظن ونحن في الأردن أن الإخوان في مصر أشبه بالملائكة بالتزامهم وتدينهم وحسن صلتهم بالله, فخاب ظني بهم , وبخاصة في قياداتهم ورؤوسهم !!

تفاجأ الإخوان بإجابتي وظنا أنني اطلعت على أمور خطيرة في سلوك قادة الإخوان فقالا لى : ما الذي خيب فيهم ظنك؟ فقلت إن قادتهم يقطنون بجوار المسجد ومنذ سكنت في ذلك الجوار لم أر واحدا منهم في صلاة الفجر في المسجد الذي لا يبعد سوى خطوات عن بيته ! فتبسم الإخوان وجاملاني بعبارات اعتذار عن ظروفهم التي لم تقنعني قط .

روابط الطلبة الأردنيين والفلسطينيين في مصر

كان الطلبة الأردنيون والفلسطينيون في مصر يمثلون كل ألوان الطيوف السياسية آنذاك فكان فيهم الإخوان والشيوعيون بالدرجة الأولي ثم القوميون الذين بدأوا يظهرون بشكل واضح بعد أن ظهر ميل الثورة المصرية إلى الفكرة القومية وعندما عمل الطلبة الأردنيون والفلسطينيون لإقامة رابطة لكل منهم كان الصراع بين العناصر الإسلامية والعناصر اليسارية والقومية عنيفا وغالبا ما كانت العناصر الشيوعية والقومية تشكل تحالفا في وجه العناصر الإسلامية أو الإخوان المسلمين .

وعلى الرغم أنه في بدايات العمل بعد قيام الثورة المصرية كان يظن أن الإخوان أقرب إليها من سواهم إلا أنه في الحقيقة كانت الدولة تميل مع العناصر اليسارية والقومية وبخاصة مع رابطة الطلبة الأردنيين حتى لقد وقع في أكثر من مرة تشابك في الأيدي وتضارب وتبادل لاحتلال موقع الرابطة من كلا الفريقيين.

ومع أنني كنت أبتعد عن النشاط في محيط الرابطة وأقصر نشاطي على محيط الإخوان الأردنيين أو أحيانا المصريين والفلسطينيين .

كان المسئول عن الطلبة الأجانب من الإخوان وهو الأخ محمود الفوال يحرص على أن أحضر لقاءات الطرفين الأردنيين والفلسطينيين وفي أحد اللقاءات للطلبة الفلسطينيين في دار الإخوان بالحلمية أثرت موضوع التنسيق والعمل المشترك بين الأردنيين والفلسطينيين وكانت حجتي في ذلك أننا سنعود للعمل في الإخوان في بلادنا وحيث أن الجزء الأكبر المتبقي من فلسطين وهو الضفة الشرقية بل إن الفلسطينيين في الضفة الشرقية وبخاصة في مخيمات اللاجئين لا يقلون عن سكان الضفة الغربية وأن المنطق يقضي أن يعمل الطلبة في مصر في داخل الإخوان بتنظيم واحد يضم الأردنيين والفلسطينيين كان معظم المجتمعين من قطاع غزة وكانوا يشعرون باستقلالهم التام وبعدهم عن طلبة الضفة الغربية الذين يحملون الجنسية الأردنية .

وعلى الرغم من أن الأخ المصري المسئول عن الطلبة الفلسطينيين وهو رئيس الاجتماع أيد اقتراحي لأول وهلة أن رفضا قاطعا لاقتراحي بدأه صلاح خلف ثم ياسر عرفات وغيرهما من الطلبة الفلسطينيين في ذلك اللقاء .

وكان من حجج رفضهم أن ذلك سيمحو اسم فلسطين فقلت لهم : نسمي تنظيمنا تنظيم الطلبة الفلسطينيين ونضم إليه الأردنيين وليس العكس إلا أنهم رفضوا ذلك بإصرار وعناد .

لقد كنت مقتنعا بضرورة توحيد التنظيميين فلم أيأس من إقناعهم , ومضيت باللقاء معهم واشتركت في رحلة نظمها الأخ المصري المسئول لمجموعة الطلبة الفلسطينيين للوجه البحري وشملت زيارة بنها وطنطا ثم الإسكندرية .

وكان من عادة الإخوان أنه في كل جلسة يتعارفون فيها فيذكر كل شخص اسمه وكليته وبلدته الأصلية وعندما يصل الدور إلى أذكر اسمي وإنني من الأردن, فيقاطعني صلاح خلف أو خليل الوزير أو غيرهما : لم لا تقول إنك من فلسطين؟ فأقول : لأنني من الأردن فإن أبي وجدي ووالد جدي ولدوا كلهم في السلط ومن مات منهم دفن فيها وهكذا عجزت أن أتغلب على هذه المشكلة , وبقي التنظيمان كل منهما منفصل عن الآخر داخل تنظيم الإخوان المسلمين في مصر .

بداية الاختلاف بين الدولة والإخوان في مصر

لم يكن جميع الإخوان في مصر على رأي واحد بالنسبة للدولة بقيادتها الجديدة من ضباط الجيش فقد كان ثمة ضباط الإخوان في الجيش الذين شارك عدد منهم في أحداث الانقلاب الذي أطاح بالحكم الملكي , وكان هؤلاء الضباط على علم بكثير من تفاصيل الأحداث داخل المؤسسة العسكرية وكانوا يشاهدون بداية تباعد قيادة العسكر عن الإخوان سواء من حيث السياسات أو من حيث العناصر التي توضع في مراكز القوة والنفوذ بالدولة , وكان ضباط الإخوان يرون في هذه السياسية خروجا على ما كان متفقا عليه قبل قيام الانقلاب من حيث التزام قيادات الحركة الانقلابية بالخط الإسلامي الذي تمثله حركة الإخوان المسلمين .

وكان الفريق الآخر من الإخوان هم قيادة الجماعة التي تعرفها جماهير الحركة ابتداء من المرشد العام للجماعة إلى أعضاء لمجالس الرئيسية في مختلف المناطق والمسئولين عن مختلف أنواع النشاط ويمكن أن نطلق عليها القيادة المدنية للجماعة ولم تكن العلاقة بين الفريقين موثقة من حيث تبادل المعلومات ورسم السياسات العليا للجماعة ويمكن القول إن القيادات المدنية للجماعة هي الظاهرة للناس ولجماهير الإخوان وهي المستأثرة بالتصرف بأحوال الجماعة وتسيير أمورها .

وكان كثير من هذا الصف من المسئولين لا تتجاوز خبراتهم في العمل الحزبي النشاط الدعوى وإلقاء الخطب والمحاضرات التي تبرزهم كدعاة وقادة وكان ينقص الكثير منهم العلم ببواطن أمور ما يجري في الدولة الجديدة ولم يكن الإخوان قد أرسوا قواعد للتعامل مع الدولة تكفل تكامل العمل بين الطرفين الذين كانوا في بداية الأمر معسكرا واحدا في مواجهة النظام الملكي الزائل , وكان موقف الإخوان من القوي السياسية الأخري في الساحة المصرية قائما على التباعد والتخوف من جميع الأحزاب السياسية التي كانت قائمة في العهد الملكي والتي بقيت قائمة في بداية عهد الانقلاب العسكري وذلك أن بعض هذه الأحزاب كانت تتحمل – في نظر الإخوان – المسؤولية عن حل الجماعة في العهد الملكي , وعن اغتيال مرشدها المرحوم حسن البنا لذلك كانت كثير من قيادات الإخوان تتمنى زوال جميع تلك الأحزاب لا سيما وأن مسئولية هزيمة لجيش المصري وفشله في حرب عام 48 تتحملها جميع القوي السياسية التي كانت على الساحة – آنذاك – وتتداول السلطة واحدة بعد الأخري , أما الجماعات الإسلامية الأخري في مصر فلم يكن بينها أى حزب أو جماعة لها برنامج سياسي يمكن أن ينافس الإخوان وإنما كانت إما جماعات صوفية أو ثقافية مثل جمعية الشبان المسلمين أو أفرادا متدينين لا يجمعهم أى تنظيم سياسي أو حزبي .

بعد نجاح الانقلاب العسكرى لم تعلن الجمهورية ولم يتم انتخاب رئيس للجمهورية وإنما اختار الانقلابيون هيئة للإدارة العليا للدولة من ثلاث رجال .

كان أحد هؤلاء الثلاثة رشاد مهنا, وهو أحد كبار الضباط ولكنه كان معروفا في الأوساط الإسلامية الشعبية , ومحبوبا من ضباط الجيش عموما لنظافة سلوكه وتدينه وحياده في التعامل مع مختلف الاتجاهات .

وفي إحدي الأمسيات , وكنت في مكتب سعيد رمضان , وكان معه عدد من الإخوان – لا أذكرهم الآن – دخل رجل مربوع القامة وكانت الليلة ماطرة ودخل الرجل مسرعا وخلع معطفه بعصبية وخاطب سعيد رمضان بحدة قائلا لقد حدث الليلة حادث سيكون بداية القضاء على العناصر الإسلامية في الدولة لقد عزل عبد الناصر قبل قليل رشاد مهناإنني واثق أنه إذا لم يفعل الإخوان شيئا لإعادة رشاد مهنافسيتبعه الاستغناء عن جميع العناصر الإسلامية في الدولة وناشد سعيد رمضان أن يذهب فورا إلى المرشد العام للتعامل مع هذا الأمر بجدية قبل أن يمتد الاستغناء إلينا جميعا وكان هذا الشخص هو الصاغ ( الرائد ) معروف الحضري .

تبسم سعيد رمضان وهون عليه الأمر وأوضح أن رشاد مهناليس من الإخوان فأجاب معروف الحضري : صحيح إنه ليس من الإخوان ولكنه من أفضل الضباط الإسلاميين وأن علينا أن ندافع عنه ونحميه وإلا فسوف يصيبنا ما أصابه لقد انتهي أمر رشاد مهناولم يلتفت أحد إلى تحذير معروف الحضري , وقد كان ذلك بداية تصفية ضباط الإخوان وعزلهم ومن ثم سجنهم وكان من الضباط المشاركين في الثورة الذين تعرفت عليهم في تلك الفترة عبد المنعم عبد الرؤوف الذي عزله عبد الناصر مع أنه كان من ألمع ضباط الانقلاب وهو الذي اقتحم قصر الملك ليلة الانقلاب واضطر إلى الخروج من مصر وقاسي كثيرا من شظف العيش في الأردن وتركيا وتوفي رحمه الله بعيدا عن أهله ووطنه .

في بداية عام 53 عرفني نجيب جويفل إلى بعض ضباط الأمن العام في مصر ومنهم صلاح شادي وكنا نجتمع وفق نظام الأسر في الإخوان وخلال فترة قصيرة اختارتني المجموعة لأكون نقيبا للأسرة كنت في سن العشرين وطالبا مبتدئا في كلية الشريعة في الأزهر .

فاعترضت على اختياري لنجيب جويفل الذي كان فيما بدا لى مسئولا عن تنظيم ضباط الأمن من الإخوان ,

وقلت له : إن سن الضباط ورتبهم تقضي بأن يختار لقيادتهم من هو أكثر علما وأكبر سنا , فكان يقول لى : لا تهتم بذلك, ويمكن بما لديك من معلومات وخبرة أن تكون نقيبا جيدا لهم .

لقد شعرت آنذاك ضعف التنظيم في موقع مهم جدا يشمل عددا من ضباط الشرطة الذين يمكن أن يكون لهم دور في منتهي الأهمية في الأحداث في مصر .

حل الأحزاب السياسية

إن المتتبع الواعي لتطور حكم الضباط الإنقلابيين في مصر يدرك أنهم كانوا يخططون للاستئثار بالسلطة وليس الأمر كما يدعون أنهم يهدفون إلى إصلاح أحوال الأمة .

وقد انخدعت قيادة الإخوان بما تعاهدوا عليه مع الضباط – من قبل – من حيث التزامهم بالخط الإسلامي لقد بدأ الضباط المسيطرون على مقاليد الأمور استبعاد أى قوي سياسية تحول دون فرض سيطرتهم وقد تصرفوا بمنتهي الذكاء عندما بدأوا بإزالة نفوذ الأحزاب السياسية التي مضي على وجودها قرابة نصف قرن في مصر وقد دغدغ حل الأحزاب مشاعر الإخوان ولم يعترضوا عليه ظنا منهم أن ذلك سيبقي الساحة السياسية في مصر خالصة لهم غير مدركين أن هذه الخطوة إنما هي مقدمة لإزالة أى قوة سياسية غير الضباط وأن الضحية التالية سيكون الإخوان لأنهم القوة الوحيدة الباقية القادرة على منافسة الضباط وهكذا أكلوا على مبدأ أكلت يوم أكل الثور الأسود .

حل جماعة الإخوان

صدقت توقعات معروف الحضري وغيره ممن لم يكن يطمئن إلى نوايا الضباط الأحرار الذين شرعوا في فرض نفوذهم وسيطرتهم على مرافق الدولة وبدأ التضييق على جماعة الإخوان في مصر وبدأ التصادم بين النظام الجديد وشباب الإخوان بمظاهرات الطلبة وبخاصة في الجامعة وظهر شباب من صفوف الإخوان كان لهم تأثير على جماهير الطلبة في الجامعات واشتهر منهم حسن دوح في الجامعة ويوسف القرضاوي في الأزهر .

نواب صفوىفي القاهرة

عقد لقاء المؤتمر الإسلامي في القدس أواخر عام 1953 من أجل القضية الفلسطينية وكان ممن شارك في المؤتمر الشاب الإيراني نواب صفوي الذي كان معروفا بعنفه في مقاومة نظام شاه إيران حيث كون مجموعة من الشباب الإيراني أسماها فدائيان إسلام وبعد انتهاء مؤتمر القدس توجه نواب صفوي إلى مصر وعندما وصل القاهرة كلفني الإخوان بمرافقته واستضافته في منزلي في الروضة وقد رافقته لزيارة مسجد الحسين والأزهر ومسجد السيدة زينب وكاد يصطدم بكثير من الناس أثناء زيارتنا لهذه المساجد إذ كان ينتهر النساء اللاتي يدخلن المسجد دون حجاب ويصيح بهن : كيف تدخلن على مسجد رأس الحسين كاشفات رؤوسكن ؟! فكنت أهدئه وأدفع به بعيدا عن الاصطدام بهن إذ كان معظم النساء آنذاك سافرات ولم يكن الحجاب منتشرا بين النساء وبخاصة نساء المدن المصرية .

نواب صفوي في الجامعة

وفي اليوم الثالث من زيارته للقاهرة جاء بعض طلبة الإخوان واصطحبوه من منزلي ليشارك في احتفال طلبة جامعة القاهرة في الجيزة وخطب في الاحتفال الطالب القيادي حسن دوح , وكان خطيبا مفوها ومؤثرا فألهب المشاعر الطلبة,وتبعه بالخطابة نواب صفوي , فاستثار مشاعر الطلبة , والتهب حماسهم ضد الشرطة فحصل الاصطدام وأحرق الطلبة إحدي سيارات الشرطة ولعله أصيب بعض الطلبة وعناصر الشرطة بجروح , ولم أعلم أنه قتل أحد في تلك المظاهرة , ولكن كان لها أثر كبير في اتساع الهوة بين عبد الناصر والإخوان وعندما عاد نواب صفوي إلى منزلي حدثني بما حصل في المظاهرة وكان شديد السخط على الشرطة والحكومة , وفي نفس الليلة اصدر عبد الناصر قرارا بحل الإخوان المسلمين.

نواب صفوي وعبد الناصر

في الصباح أعلمت نواب صفوي أن عبد الناصر أصدر أمرا بحل جماعة الإخوان المسلمين فانفعل انفعالا شديدا وقال : أريد أن أذهب لرؤية جمال عبد الناصر ! فقلت له : إن ذلك ليس سهلا , ولا نستطيع أن نصل إليه حيث لا أعلم مكان إقامته , ولكن نحاول أن نتحدث إليه بالهاتف .

وهكذا وفي حوالي الساعة العاشرة صباحا طلبت رئاسة الجمهورية أو مجلس قيادة الثورة – لست متأكدا الآن – وطلبت الرئيس عبد الناصر لضيف مصر نواب صفوي فحولني الذي رد على التلفون لأول شخص , وثم إلى آخر قال : إنه سكرتير جمال عبد الناصر فشرحت له أن نواب يريد أن يتحدث إلى جمال عبد الناصر , فانتظر قليلا ثم قال : الرئيس جمال على لخط فناولت التليفون إلى نواب صفوي وقلت له : تكلم مع عبد الناصر .

فشرع نواب صفوي بالاحتجاج على حل الإخوان وكان مما قاله : يا عبد الناصر لماذا تحل الإخوان المسلمين ! أنا ضيف على الإخوان فكيف تحلهم ؟ الذي يحل الإخوان المسلمين يحله الله يا عبد الناصر ألا تخاف الله , الله يدافع عن الإسلام وأنت تحل أهل الإسلام , اتق الله يا عبد الناصر , وكرر مرة أخرى الذي يحل الإخوان يحله الله تعالي .

ويبدوا أن الذي كان على الطرف الآخر من خط التليفون أنكر أنه عبد الناصر , وقال لنواب صفوي : سوف أنقل رغبتك لسيادة الرئيس , فاطمئن على ذلك , وأنهي المكالمة.

فالتفت إلىّ نواب صفوي وقال : يقول إنه ليس عبد الناصر ! فقلت له لا أدري إن الذي رد على الهاتف قبل أن أسلمه لك قال لى : تحدث إلى الرئيس جمال عبد الناصر .

ولم تمض ساعتان على هذه المخابرة حتى وصل إلى منزلي مجموعة من الشرطة أو الحرس الجمهوري – لا أدري – وأخذوا نواب صفوي , وهو يحتج على ذلك ظنا منه أنهم يعتقلونه , وبعد نصف ساعة جاء ضابط شرطة وبعض الجنود وأمروني بمغادرة البيت وأن آخذ ملابسي الخاصة وأغلقوا البيت وختموه بالشمع الأحمر , وطلبوا مني أن لا أعود إلى المنزل إلا بعد مراجعة الشرطة بعد ثلاثة أيام على الأقل .

وهكذا انتقلت إلى منزل بعض الإخوة القاطنين قريبا من منزلي وكانوا يسكنون في شارع فرعي متفرع من شارع المنيل قرب دوار الروضة وكان يقطن مقابلهم – آنذاك – عضوا مجلس الثورة أنور السادات.

وعلمت أن الحكومة المصرية استضافت نواب صفوي لمدة يومين ثم عملوا على تسفيره وإعادته إلى إيران .

وقد تعرفت خلال فترة سكني في منيل الروضة وعلاقتي مع سعيد رمضان بعدد من الإخوة أذكر منهم الإعلامي أحمد فراج وسيف الإسلام حسن البنا وغيرهما .

المرحلة الأولي من الصدام مع عبد الناصر

لم يتعد الصدام في هذه المرحلة حل الجماعة بشكل رسمي واعتقال بعض القيادات وعلى رأسهم المرشد العام حسن الهضيبي – رحمه الله – وبقيت بعض قيادات الصف الأول , ومعظم القيادات الأدنى للجماعة طليقة تمارس معظم نشاطاتها , وبخاصة في محيط طلبة الجامعات مما أبقي على كثير من تأثير الجماعة على الشارع المصري وكانت ذاكرة الإخوان لما حدث في العهد الملكي ما زالت ماثلة وبخاصة اغتيال المرشد المؤسس حسن البنا وكانوا يخشون أن يتكرر ذلك في ظل الحكم الجديد لذلك كانوا يحاولون تهدئة الأمور , والحيلولة دون انفلات العناصر إلى أى نوع من العنف وبخاصة السري ضد أى من رموز السلطة.

ومن هنا جاء دور الطلبة الأجانب في تغطية بعض النشاطات التي لا تحمل طابع العنف أو الصدام وقد كلفت آنذاك ببعض المسؤوليات من هذا النوع مثل تأمين الاتصال بين العناصر التي لا تستطيع الحركة بسهولة ويسر لأنها تحت المراقبة ومثل تأمين المساعدات لأسر المعتقلين الذين يحتاجون لمثل هذه المساعدات لاعتقال عائلها الوحيد وفي إحدي زياراتي إلى الأهل في الأردن اتصل بي كامل الشريف ونجيب جويفل وكانا في دمشق وحملاني أمانة إيصال مبالغ مالية لمساعدة أسر المعتقلين في مصر , كما كلفت كذلك لفترة من الوقت بمهمة مرافقة المرحوم عبد القادر عودة في تنقله بين منزله ومكتبه قرب دار الأوبرا وكانت مرافقتي له دون علمه إذ كان يتنقل في المواصلات العامة وكنت أركب في نفس الحافلة التي يستقلها دون أن يشعر بي وكان يتابعه كذلك أحد رجال المخابرات الذين لم يكونوا يخفون على أو عليه في ذهابه وإيابه في استمرار .

لقد ذكرت هاتين المهمتين لما سوف يترتب على وجودي ونشاطي في تلك الفترة مما سيؤثر على مسير دراستي ووجودي في مصر .

أول انتفاضة على الانقلابيين

من المعلوم أن ضباط الانقلاب الذين أطلق عليهم ( الضباط الأحرار ) كانوا من صغار الرتب في الجيش وعندما قرروا إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية احتاجوا إلى وجه أكثر قبولا من قبل بقية ضباط الجيش فاختاروا اللواء محمد نجيب .

وعندما أعلن عبد الناصر حل الإخوان وجدها فرصة مواتية ليتخلص من خصومه جميعا دفعة واحدة فاعتقل معظم رفاقه في الانقلاب الذين كان يشك في ولائهم له شخصيا لأنهم مرتبطون بجماعة الإخوان , وكان عبد الناصر يعلم أن ارتباطهم بالجماعة سابق على ارتباطهم بتنظيم الضباط الأحرار .

وعلى الرغم من أن محمد نجيب لم يكن من الإخوان المسلمين كما لم يكن كذلك من الضباط الأحرار , إلا أنه كان يشكل عقبة في صعود عبد الناصر إلى واجهة العمل السياسي فقرر عزله , وهكذا جمع عبد الناصر في المسطر المواجه له محمد نجيب والإخوان .

وكان محمد نجيب قد اكتسب شعبية واسعة بين جماهير المصريين لما كان يتمتع به من طيبة وبساطة لا سيما وأنهم عرفوه بعد الملك الذي كانت تحيط به هالات الفخامة والكبرياء والتعالي عن جماهير المصريين سواء من الفلاحين في الأرياف أو من أبناء المدن.

إن هذا الوضع ساعد الإخوان على تعبئة الشارع المصري ضد عبد الناصر ومما زاد من عزلة عبد الناصر أيضا حله للأحزاب السياسية من قبل , وبما أن الإخوان كانوا قد فرحوا بحل الأحزاب قبلهم , فقد تشفت العناصر الحزبية بحل الإخوان ولم تذرف عليهم دمعة كما لم يذرف الإخوان عليهم من قبل .

لقد اجتمع على معارضة الضباط الانقلابيين كذلك كثير من مؤسسات المجتمع المدني آنذاك ومن أكثرهم تأثيرا نقابة المحامين , وكان من أبرز قادتهم آنذاك عبد الرزاق السنهورى واضع الدستور المصري وأهم القوانين وأظنه كان نقيب المحامين وانضم كذلك إلى صفوف المعارضة المعلنة أكثر المثقفين والإعلاميين .

وقد حاول الانقلابيون تحريك الشارع المصري على طريقتهم فألبسوا المئات من عناصر الجيش والشرطة الملابس المدنية وحركوا بعض عناصر العمال الذين أقنعوهم أن المعارضين كلهم ضد العمال , ودفعوهم للقيام بمظاهرات لتأييد النظام الجديد, وكانوا ينقلونهم بسيارات الشرطة والجيش من ميدان إلى آخر يهتفون لعبد الناصر ولسقوط خصومه ولقد شهدت إحدي هذه المظاهرات التي كان الهتاف فيها : ( يسقط المحامون يسقط المثقفون , يسقط الطلبة , تسقط الديمقراطية ).

وتوجهت إحدي تلك المظاهرات المصنوعة من غير إتقان إلى نقابة المحامين وحاولت بعض عناصرها الاعتداء على الأستاذ عبد الرزاق السنهوري نقيب المحامين وأشهر رجال القانون في مصر لأنه دافع عن الدستور والديمقراطية وانتقد العسكر الذين تجاوزوا كل الحدود في دكتاتوريتهم وعزلهم لكل مؤسسات المجتمع المدني ووضعوا ضباطا غير أكفاء ليديروا كل شئ في مصر على هواهم بلا رقيب ولا محاسب أو رادع وتجرأ بعض الكتاب في بعض الصحف المستقلة وانتقدوا هذا التمرد على المنطق والعقل .

ومما أذكره في هذا الصدد مقال كتبه إحسان عبد القدوس بعنوان ( العصابة التي تحكم مصر).

مظاهرة عابدين

هذه الأوضاع غير المتزنة للنظام الجديد شجعت القوى المعارضة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين على الخروج إلى الشاعر بمظاهرة سلمية في القاهرة قوامها بشكل رئيسي طلبة الجامعات , بدأ تحرك الطلبة من جامعة القاهرة في الجيزة , وتحرك في نفس الوقت طلبة جامعة عين شمس من مصر الجديدة وطلبة الأزهر من حي الأزهر وتوجهت الجموع إلى قصر عابدين وسط القاهرة الذي أصبح المقر الرسمي لرئيس الدولة والحكومة المصرية حاولت قوات الأمن التصدي للمتظاهرين بعد أن خرجوا من الجامعة متجهين عبر جسر قصر النيل إلى ميدان قصر عابدين , غير أن كثافة جموع الطلبة اجتاحت رجال الشرطة على الرغم من سقوط بعض الطلبة وإصابتهم بجراح إلا أنها لم تكن خطيرة وأعتقد أنه لم يتخلف أحد من طلبة جامعة القاهرة ومعظم طلبة الأزهر , وكثير من طلبة عين شمس عن المشاركة وبدأت الجموع تحتشد في ميدان عابدين وكنت مع المشرف الرئيس على المظاهرة محمود الفوال ومعه عدد من الإخوة – لا أذكر أسماءهم - ومعنا سيارة جيب ومكرفون وقد قدر عدد المتظاهرين في تلك المظاهرة بما يقارب أو يزيد على المليون شخص .

عندما رأي رجال الشرطة والجيش كثافة المشاركين وإصرارهم واجتياحهم للسواتر التي حاولوا إقامتها انسحب الجيش والشرطة ولم يبق في شوارع القاهرة المحيطة بالقصر سوى جموع الشباب الملتهبين حماسة وقوة .

لا شك أن عبد الناصر شعر أن الوضع محرج وقد يتطور إلى ما لا يستطيع السيطرة عليه فأحضر اللواء محمد نجيب بعد أن كان معتقلا وصعدا معا إلى شرفة القصر المطلة على الجموع الهادرة وتكلم محمد نجيب مخاطبا الجماهير التي كانت تهتف بعودته إلى الرئاسة وطمأنهم أن الخلاف بينه وبين عبد الناصر قد انتهى , وأن الصف عاد موحدا بين جميع رجال الثورة , وشكر الجموع على محبتهم وتأييدهم له ودعاهم إلى إنهاء المظاهرة والعودة إلى دراستهم وأعمالهم لكن أحد لم يتحرك واستمر الهتاف ضد العسكر والحياة لمحمد نجيب . كان الأستاذ عبد القادر عودة الرجل الثاني بعد المرشد وهو الذي يتولي قيادة الجماعة بعد أن سجن عبد الناصر المرشد حسن الهضيبي واستدعاني محمود الفوال قائد المظاهرة وطلب مني أن أسرع إلى مكتب الأستاذ عبد القادر عودة وأطلب منه الحضور فورا إلى ميدان عابدين , وأن أخبره أن المتظاهرين يرفضون التفرق , ولم يستجيبوا لنداء محمد نجيب ولا لعبد الناصر بإنهاء المظاهرة والعودة إلى جامعاتهم وأعمالهم .

لم يكن مكتب الأستاذ عبد القادر عودة بعيدا عن ميدان عابدين فقد كان قرب ميدان الأوبرا فأسرعت إليه وطلبت منه المجئ فورا لخطورة الوضع فرفض في بداية الأمر وقال : تصرفوا أنتم مش محمود موجود ؟ فأصررت عليه وأفهمته أن محمود وسائر الإخوان هناك غير قادرين على إقناع جماهير المتظاهرين وصرفهم ولابد من حضورك.

وتوجهت مع المرحوم الشهيد عبد القادر عودة إلى ميدان قصر عابدين وقبل أن يصعد إلى الشرفة التي يقف عليها محمد نجيب وعبد الناصر وعدد من كبار المسئولين اقترح على عبد القادر عودة أن يدخل عدد من شباب المظاهرة إلى القصر ويعتقلوا عبد الناصر وتتوجه المظاهرة فورا إلى السجن الحربي في القاهرة لإطلاق سراح المرشد حسن الهضيبي أن يوضع مكانه عبد الناصر وان يتم الاستيلاء على المرافق الهامة في القاهرة مثل مقر مجلس قيادة الثورة والإذاعة والإعلان عن قيام الدولة الإسلامية في مصر .

ولكن عبد القادر عودة رفض كل مظهر من مظاهر العنف أو المواجهة المسلحة مع أى من قوات الشرطة أو الجيش وأفهم الشباب المندفعين المتحمسين للمواجهة أن الإخوان أصحاب دعوة وليسوا طلاب سلطة وأنهم يؤمنون بأحداث التغيير المنشود, للحياة السياسية والاجتماعية عن طريق الدعوة بالحسني وإقناع الناس بالاختيار الحر للحياة الإسلامية التي تحقق لهم السعادة في الدنيا ورضي الله سبحانه وتعالي .

وصعد المرحوم الشهيد عبد القادر عودة إلى الشرفة وأصعدنا معه واحدا منا ويحمل في يده قميص أحد الطلبة الذين أصيبوا بجراح من إطلاق الشرطة على الطلبة النار وكان الأخ يلوح بالقيمص المضرج بالدم الأحمر مما زاد في حماس المتظاهرين واندفاعهم كان هذا الطالب الأردني المرحوم وليد الحاج حسن الذي كان يدرس التوجيهية في مصر تمهيدا لدراسته الحقوق في جامعة القاهرة .

كان الأخ وليد الحاج حسن شابا ممتلئا حماسة وإخلاصا وكان قوي البنية يبلغ طوله مائة وتسعين سنتمترا, وكان يقف مباشرة خلف عبد الناصر ولو طلبنا منه أن يرمي إلينا من تلك الشرفة أى من الواقفين فيها لما تردد أن يفعل ذلك بكل سهولة ويسر سيما وأنه لم يكن على الشرفة سوى القادة والمسئولين الذين انضم إليهم عبد القادر عودة ووليد الحاج حسن , وبدأ الشهيد عبد القادر عودة يتكلم وسط هدير مئات الألوف من المتظاهرين وسرعان ما سكن الهدير وأنصت كل من كان في الميدان والطرق الجانبية المتصلة به .

ولم يطل الشهيد الكلام وإنما وجه الحديث إلى المسئولين موصيا إياهم بتقوى الله في رعاية الأمة والحرص على مصلحتها والعمل على الوحدة ونبذ الفرقة والتخاصم والتكالب على السلطة , وأن يقدموا مصلحة الأمة على المصالح الخاصة والشخصية وأن الطريق الوحيد الذي يضمن تحقيق السعادة والأمان للأمة هو طريق الإيمان وأن الإسلام هو المنهج الذي يضل من اتبعه وأن الشريعة الإسلامية هي التي ينبغي أن تكون مرجعنا في جميع شؤون حياتنا ثم وجه الشكر لجميع المتظاهرين الذين مثلوا في مظاهرتهم ضمير الأمة وعبروا عن تطلعها لحياة الأمن والأمان في ظل دولة العدالة والمنهاج الإسلامي الذي دعا أن يكون هو التوجه للمرحلة الجديدة للدولة بعد مصالحة أطراف الحكم فيها , ودعا جماهير الطلبة إلى عدم العنف وعدم الاصطدام بالجيش أو الشرطة والانصراف إلى دراستهم وأعمالهم وعدم إضاعة الوقت فيما لا نفع فيه لأنفسهم أو لأمتهم .

لقد كان تجاوب مئات الألوف من المتظاهرين أشبه بالمعجزة فسرعان ما بدأ الحشد الهائل بالانسحاب في كل اتجاه ولم تمض ساعتان أو أقل حتى كأن لم يكن مليون متظاهر يمتلئون غضبا واحتجاجا.

ولم يصب أى موقع من الميدان أو مما حوله بأى شئ من التخريب أو الأذى , مع أنهم كانوا قادرين أن يفعلوا أى شئ من بداية تحركهم من الاتجاهات الثلاثة التي قدموا منها وهي الجيزة , والأزهر , مصر الجديدة إلى ميدان قصر عابدين.

إن هذا السلوك الحضاري لمظاهرة بهذا الحجم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك على درجة الانضباط والحس بالمسئولية إلى أعلي مستوى , ليس بين قادة الحركة الإسلامية فحسب بل بين جماهيرها من الطلبة والعمال وغيرهم من المواطنين الذين اشتركوا في تلك المظاهرة .

ويبدو الفرق الهائل بين هذا السلوك الحضاري المنضبط وبين ما حدث قبل سنتين في أحداث الشغب التي وقعت في القاهرة قبل قيام الانقلاب العسكرى , تلك الأحداث التي عرفت باسم حريق القاهرة حيث أحرق المتظاهرون عددا من المحال التجارية الضخمة والمؤسسات في وسط القاهرة غير بعيدة عن ميدان عابدين إلا أنه مع كل الإيجابيات الرائعة لهذا الحدث الوطني الذي تسجل إيجابياته لقيادة الإخوان المسلمين آنذاك إلا أن النتائج التي ترتبت على هذه المظاهرة كانت كارثية على جماعة الإخوان وقياداتهم التي عوقبت على انضباطها ووعيها وحرصها على المحافظة على مصالح الأمة عقابا لم تشهد له مصر مثيلا في تاريخها المعاصر .

في البداية وبعد المظاهرة مباشرة كان تصرف عبد الناصر منسجما مع إدراكه لقوة الإخوان لذا فقد أسرع بالإفراج عن حسن الهضيبي ومعظم الذين كان قد اعتقلهم معه.

وكنت قد كلفت مع أخي وصديق وليد الحاج حسن بمرافقة المرشد الهضيبي في جميع تحركاته وزود كل منا بمسدس للحماية تحسبا لأى اعتداء يمكن أن يقع على المرشد.

وفي اليوم التالي أو الذي بعده لخروج المرشد من معتقله كنت معه في منزله في الروضة وفي مساء ذلك اليوم فوجئنا بجمال عبد الناصر يأتي لزيارة المرشد ومكث فترة من الوقت مع المرشد مطمئنا بجمال عبد الناصر يأتي لزيارة المرشد ومكث فترة بمثابة اعتذار عن اعتقال المرشد ومحاولة لفتح صفحة جديدة في علاقة الدولة وقادة الانقلاب بجماعة الإخوان .

لقد كان واضحا وأنا أراقب تلك المقابلة أن المرشد كان واضح التحفظ والحذر في رده مجاملات عبد الناصر .. ولعل تلك الزيارة لم تستطع أن تنسه آلام الاعتقال الذي لم يكن له ما يبرره وأن اعتقاله كان عدوانا صارخا على شخص لم يرتكب في حياته أى مخالفة أو تصرف يمكن أن يفسر أنه ميل إلى العنف أو السماح بأى نوع من أنواع الصدام مع الدولة أو أى من أجهزتها على الرغم من مظاهر القسوة والقمع التي طبعت تعامل الدولة مع عناصر الإخوان وشبابهم في مختلف أقاليم مصر.

الهدوء الذي يسبق العاصفة

أمضى الإخوان بعد أحداث عابدين فترة هادئة مع النظام واحسب أنهم اطمأنوا أو ظنوا أن النظام عرف تأثيرهم على الشارع المصري وأنه سوف يتجنب التصادم معهم ولعلهم قصروا في قراءة مقاصد النظام وأعتقد أنه لم يستطع الطرفان أن يعيدوا بناء الثقة فيما بينهما , وقد تمتع الإخوان بقدر من الطمأنينة ونشطوا في التحرك واكتساب المزيد من الأنصار والانتشار في المجتمع المصري ولا شك أن حل الأحزاب السياسية التي كانت في عهد الملكية ترك الإخوان وحدهم على الساحة السياسية .

وقد شرع النظام العسكرى الجديد في ترسيخ جذوره في المجتمع واستحدث أساليب جديدة في تكوين البديل عن الأحزاب السياسية التقليدية وبرزت تشكيلات تحت شعارات الجماهيرية والشعبية , والاشتراكية , والعمالية , والفلاحية , وسخرت جميع إمكانات الدول وإعلامها وترغيبها وترهيبها لتكوين قاعدة شعبية واسعة تقف خلف النظام الجديد غير أن ذلك كله لم يستطع أن ينافس المد الإسلامي الذي تمثله حركة الإخوان المسلمين , ولا شك أن طبيعة الشعب المصري كانت أقرب إلى الشعارات التي يرفعها الإخوان من الشعارات التي يرفعها النظام والمستمدة على الأغلب من الشعارات الاشتراكية المنبثقة أصلا من النظام الاشتراكي الذي تتزعمه روسيا مهد الشيوعية وأم الاشتراكية الحديثة .

لقد رافقت المرشد حسن الهضيبي أنا والمرحوم وليد الحاج حسن في رحلات دعوية متعددة وكان التفاف الناس حول قيادة الحركة قويا على الرغم من أنه لم يكن بمقدورالإخوان منافسة التكتلات الشعبية التي بدأت تتشكل بدعم من الدولة والتي كانت تغدق على منتسبي تلك التكتلات الكثير من الإغراءات المادية والمعنوية وتعد كوادرها بالمناصب والمراكز في الدولة وفي المؤسسات المستحدثة الجديدة .

إن هذا الصراع الخفي على اكتساب القواعد الجماهيرية كان يدفع بالنظام إلى أن يتخذ موقفا أكثر خشونة من هذا المنافس العنيد الذي لم يستطع النظام الملكي السابق أن يقتلعه من جذوره على الرغم من اغتياله المرشد المرحوم حسن البنا كما لم يستطع النظام الجديد على التنافس معه على من سجنه لمرشده ولكثير من كوادره وقياداته .

تهمة حيازة السلاح

من المعلوم أن حركة الإخوان قادت المقاومة السرية للاحتلال الإنجليزي لمنطقة قناة السويس منذ عهد المكية وقد كانت الإخوان التنظيم الوحيد الذي شارك في حرب فلسطين عام 48 أن هذين النشاطين تركا في يد الإخوان كميات من الأسلحة التي كان لابد إن تكون تحت أيديهم في حرب فلستين .

أوفى مقاومة الاحتلال في منطقة قناة السويس.

وكانت قيادة الضباط الأحرار على علم بذلك وكان أكثرهم – بما فيهم عبد الناصر – يمدون الإخوان بالأسلحة وبالتأييد ويشاركونهم في إخفاء الأسلحة عن أعين الإنجليز وعن أعين النظام الملكي قبل الانقلاب .

النشاطات الشبابية

لقد كنت مشتركا في جميع نشاطات الإخوان منذ ذهابي للدراسة في مصر عام 1952 بعد قيام النظام الجديد وكنت مع كثير من الطلبة الوافدين من الأردن وغيره من الأقطار العربية أواظب على حضور درس الثلاثاء في مقر الإخوان في الحلمية الجديدة في القاهرة وعلى حضور كثير من الدروس واللقاءات الأكثر خصوصية وكان من المحاضرين من نحرص على أن لا نفوت اللقاء معهم مثل البهي الخولي وسيد قطب .

وشاركت كذلك في عضوية الأسرة التي كانت تمثل أدني مستوي من التنظيم , ولم يكن عدد أفراد الأسرة يتجاوز العشرة ويسمي المستوى الأعلى بعد الأسرة الكتيبة ,وتمثل مجموعة من الأسر في منطقة معينة ويلتقي أعضاءها ليوم وليلة أو لأكثر من ذلك وتعقد غالبا في دور الإخوان المنتشرة في القطر .

وكان المستوي الأعلى بعد الكتيبة المعسكر ويضم مجموعات أكبر حسب المنطقة ويقام المعسكر في المناطق الخلوية قد يكون قرب غابة أو على الساحل, وتمارس في جميع هذه التجمعات أساليب التربية المتعددة ويكون التركيز في الأسرة على التثقيف الفكرى والدعوي, ويدرس القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وبعض الكتب الفقهية والدعوية مثل فقه السنة للسيد سابق وتذكرة الدعاة للبهي الخولي وكتب الشيخ محمد الغزالي وسيد قطب في السيرة والعدالة الاجتماعية أو أى كتب تتصل بالثقافة الإسلامية وفوق ذلك رسائل المرحوم حسن البنا .

أما في الكتيبة فقد كان التركيز على الجانب الثقافي والفكري ,وعلى الجانب الروحي المتمثل بقيام الليل وحضور الصلوات مع الجماعة أثناء الكتيبة أما المعسكر فكان يشتمل إلى جانب النشاطين السابقين على التربية الجسدية المتمثلة بالرياضة البدنية كالركض وبعض الرياضات الأشد كتسلق المناطق العالية أو الأشجار , أو السباحة في حال كون المعسكر على أحد الشواطئ .

وقد اشتركت في أكثر من معسكر من هذه المعسكرات في مصر وكان من أمتعها وأقواها معسكر في مرسي مطروح أشرف عليه آنذاك نجيب جويفل , وأذكر من المشاركين فيه الصديق عصام الشربيني أحد مشاهير الأطباء في مصر بعد ذلك.

ما أريد أن أؤكد عليه الآن أنه لم يكن في أى من هذه النشاطات سواء الأسرة , أم الكتيبة أم المعسكر أى توجه للتدرب على السلاح أو ذكر لممارسة العنف أو القتال ضد النظام السياسي آنذاك لقد كنا نسمع أنه كان في الإخوان تنظيم سري مسلح أنشئ أصلا لمقاومة الاحتلال البريطاني وقد يكون قد انحرف في بعض الأحيان ضد النظام الملكي عندما زج النظام بمئات من شباب الإخوان وقياداتهم في السجون , وارتكب جريمة اغتيال مرشدهم الشهيد حسن البنا .

أما في ظل النظام الانقلابي الجديد وعلى الرغم من أن النظام زج بالمرشد حسن الهضيبي وقيادات أخرى وكوادر عدة في السجن فلم تتلق عناصر الإخوان أى توجيه لممارسة العنف أو الاغتيال ضد أى من رجال الدولة أو الضباط أو غيرهم .

حادثة المنشية وبدء المحنة

لم يطل شهر العسل بين الإخوان وعبد الناصر فقد دمر حادث المنشية بالإسكندرية كل أمل بحسن العلاقة أو عدم التصادم المريع, ومهما قيل عن حادث المنشية من أنه حقيقي أو مصنوع فإن المحاكمات التي أعقبته لرموز وقادة الإخوان كانت تفوق كل ما يمكن أن يتخيله المرء من قسوة الانتقام ووحشية التعذيب الذي وقع على كل من طالته يد النظام من الشيوخ والشباب والنساء الذين تجاوزت أعدادهم الآلاف حتى لقد أصبح الناس يخشون التردد على المساجد حتى لا يتهموا بالانتماء للجماعة ولو لم يكونوا في يوم منهم .

ولم أكن علي معرفة بالرجال الستة الذين أعدمهم النظام سوي المرحوم الشهيد عبد القادر عودة والتقيت في لقاء عابر وسريع قبيل حادث المنشية مع هندواي دوير .

محكمة الثورة

علي أثر حادثة المنشية في الإسكندرية وبدء موجه الاعتقالات المكثفة للعناصر الإسلامية في مصر بعامة وللإخوان المسلمين بخاصة قرر مجلس الضباط الذي أصبح يسمى مجلس قيادة تشكيل محكمة خاصة لمحاكمة المعتقلين الذي ضاقت بهم سجون مصر والذين أصبح عددهم بالآلاف وسميت تلك المحكمة محكمة الثورة .

ولم يكن لأى من القضاة المعينين لتلك المحكمة أى صلة بالقضاء أو القانون , وإنما كانوا من كبار الضباط من أعضاء ما يسمى أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي يرأسه جمال عبد الناصر وهؤلاء القضاة لهم صلاحية إصدار أحكام الإعدام والسجن تبعا لأهوائهم وقناعاتهم وهم : عبد اللطيف البغدادي وجمال سالم وحسين الشافعي .

لقد سبق أن قلت : إن المرحوم عبد القادر عودة رفض يوم مظاهرة عابدين أى نوع من العنف ضد الدولة أو شخص عبد الناصر إلا أن قدرته الفائقة على السيطرة على مئات الألوف من المتظاهرين وطاعتهم له بالانصراف دون أن يحدثوا أى ضرر لما يحيط بهم كان – ولا شك – السبب الأقوى لدي عبد الناصر للتخلص منه مهما كان الثمن لقد كانت محاكمات محكمة الثورة التي نصبها النظام لمحاكمة عناصر الإخوان مهزلة في كل المقاييس وكانت أحكامها أسوأ من أى أحكام ظالمة في أى عصر من العصور .

و لا زلت أذكر مناقشة دارت بين المرحوم عبد القادر عودة وبين جمال سالم أحد الضباط الذي نصب قاضيا في تلك المحكمة إذ سأل ذلك الضابط المرحوم : هل تحفظ شيئا من القرآن ؟ فأجابه ماذا تريدني أن أقرأ ؟ فقال : أقرأ أى شئ تريده فشرع المرحوم يتلو بكل هدوء قوله تعالي :( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون , فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ).

فقاطعه ذلك الضابط بأعلي صوته : اخرس اخرس وأتبع ذلك بألفاظ السباب والشتم .

وختمت تلك المهزلة بالحكم بالإعدام على عبد القادر عودة ورفاقه الخمسة ولم تجد مظاهرات الاحتجاج في كثير من الأقطار الإسلامية وتدخل بعض ملوك ورؤساء الدول لدي عبد الناصر لعدم تنفيذ ذلك الحكم الجائر, ونفذ الحكم في الرجال الستة – رحمهم الله .

كنت في كلية الشريعة صباح ذلك اليوم الذي أعلن فيه عن إعدامهم وجلست في فصل الدراسة في الكلية غير واع عما يقوله الأستاذ المحاضر وتذكرت المرحوم عبد القادر عودة وآخر لقاء لى معه قبل اعتقاله فذرفت عيناي بالدمع , وكان في المقعد الذي أمامي أحد الطلبة من المنتسبين إلى التشكيلات التي استحدثتها الدولة, ولاحظ ما أنا فيه فتحرش بي بكلمات تعرض فيها للمرحوم متهما إياه بأقبح التهم الأخلاقية فلم أتمالك نفسي ووجهت له لكمة عنيفة على وجهه , واضطرب الفصل كله وجاء الأستاذ – الذي لا أذكر اسمه – يلومني على ضربه فقلت : ألم تسمعه يتهجم على من لا يصل أمثاله إلى غبار أنعالهم , واجتمع الطلبة مع الأستاذ على لوم ذلك الطالب وأسكتونا معا.

محنة الإسلاميين

لم ينج أى شخص له أدني علاقة أو معرفة بالإخوان المسلمين في مصر من المحنة التي نزلت بهم.

ولم يكن الطلبة الوافدين من خارج مصر للدراسة بمعزل عن تلك الفتنة فكان التضييق عليهم بالبداية , ثم اعتقال عدد منهم وبخاصة الوافدين من الأردن وقطاع غزة وكان التصرف الأهون من قبل السلطات يتمثل بإبعاد الطلبة الذين تشك السلطات بعلاقتهم بالإخوان ولو بمعرفة بعضهم ولو لم يكن لهم أى نشاط ذو أهمية.

أما بالنسبة لى فقد كنت أشعر بأنني استطيع أن أقدم بعض المساعدة للأسر التي سجن عائلها , ولقد ازداد عدد تلك الأسر نتيجة للأعداد الضخمة من المعتقلين من مختلف فئات المجتمع المصري , وبخاصة سكان المدن كالقاهرة والإسكندرية وغيرهما .

وكنا نشعر أن الناس بشكل عام كانوا يتعاطفون مع آلاف الأسر التي غاب عائلوها في غياهب السجون إلا أن معظم أولئك المتعاطفين لم يكونوا من الأغنياء وكانت مساهماتهم محدودة ولا تفي بالاحتياجات المتزايدة كل يوم فكان لابد من طلب المساعدات من الخارج ما أمكن ذلك , وكنت من القلائل الذين تمكنوا من القيام بدور الوساطة بين الإخوان في الخارج والإخوان في دخل مصر لإيصال المساعدات للأسر وتوزيعها .

كنت أشعر أن قيامي وأمثالي بمثل هذا العمل يمكن أن يعد بأنه عل إنساني فضلا عن أنه واجب ديني تفرضه الإخوة الإنسانية والإسلامية لتلك الأسر التي أصبحت أكثر من فقيرة بل هي معدمة.

لقد كنا نمارس هذا العمل الإنساني الأخوي بمنتهي السرية والتكتم .

فقد كان عقابه لدي السلطات قاسيا وكأنه عمل مسلح ضدها , ولم تكن علاقتي تتجاوز المسئول المباشر عني في مصر واسمه على منوفي , وكان همزة الصلة من الخارج نجيب جويفل الذي غادر مصر وأقام في سوريا وكذلك الأخ كامل الشريف الذي كان مقيما في القدس آنذاك .

كنت مضطرا لتغيير مكان سكناي في منيل الروضة بعد أن شمعته السلطة وغادر رفيق سكناي سالم على سالم الجعفري أيضا مصر .

ولقد سجلت مكان سكناى الرسمي في نزل تابع للأزهر في شارع الموسكي, وكان في ذلك السكن عدد من طلبة الأزهر أذكر منهم المرحوم فايز الحزينة وراتب الأنصاري من القدس ومحمد نشنوش من ليبيا, ولكني لم أكن أبيت في ذلك المنزل وإنما كنت أبيت مع أخي وليد الحاج حسن في مصر الجديدة أو في شقة أستأ جرناها في حي حدائق شبرا باسم الأخ الصديق عبد الله شبيب اللاجئ إلى أريحا من عين كارم في فلسطين وكنا نخفي في تلك الشقة الأخ عصام الشربيني الطالب في السنة النهائية في كلية الطب.

كان في نظام الدراسة في جامعة الأزهر عطلة في نصف السنة الدراسية, كنت أستفيد من هذه العطلة للذهاب إلى الأردن لأكثر من سبب رغم أن العطلة لا تتجاوز الأسبوعين , وكان على من يرغب من الطلبة مغادرة مصر أن يحصل على إذن للخروج وللعودة من وزارة الداخلية في مجمع التحرير وللحصول على هذا الإذن على الطالب أن يقدم للداخلية شهادة من الجامعة تثبت أنه ما زال طالبا منتظما في الدراسة, وهكذا ذهبت في آخر يوم دراسي قبل العطلة إلى مسجل الكلية لأحصل على الشهادة المطلوبة للداخلية للحصول إلى إذن الخروج والعودة وفي العادة يتقدم الطالب إلى مسجل الكلية بطلب منحه الشهادة ويصدرها المسجل بشكل روتيني . عندما تقدمت بالطلب أخذه المسجل ودخل إلى غرفة عميد الكلية , وعاد ليقول لي :انتظر فالعميد مشغول.

وطال انتظاري فراجعت المسجل فنهرني وأمرني بالانتظار فذهبت إلى عميد الكلية, وانتظرت حتى خرج ضيوفه ودخلت عليه محتجا على تصرف مسجل الكلية بعدم منحي الشهادة .

كنت على علاقة جيدة مع جميع الأساتذة ومنهم عميد الكلية فنظر إلى وقال لى : اجلس يا ابني وأغلق الباب ولم يكن سواى في الغرفة فقال لى هامسا : هل تعلم من الذي كان عندي الآن ؟ فقلت : لا أدري فقال لى : لقد كانوا من المباحث وجاءوا يسألوني عنك وعن عنوان سكنك .

وقد أخبرتهم أن العطلة قد بدأت وإننا لا نعلم عنك إلا أن مكان السكن هو نزل الأزهر في الموسكي وأنصحك أن تعود إلى بلدك وسوف أساعدك واستدعي مسجل الكلية وطلب منه أن يصدر الشهادة المطلوبة بتاريخ سابق حتى لا يكون عليهم أى مسئولية وأخذت الشهادة مسرعا إلى وزارة الداخلية وحصلت على إذن الخروج والعودة وذهبت من هناك إلى مكتب الطيران القريب من ميدان التحرير واشتريت تذكرة السفر لليوم التالي مباشرة .

لقد كان من حسن حظي أن المخابرات طلبت اعتقالي على أني طالب في كلية الشريعة ولم يكونوا يعلمون أنني أحمل الجنسية الأردنية لذلك لأم يذهبوا فورا إلى وزارة الداخلية لمنعي من السفر, وكنت قد أخبرت زملائي في نزل الموسكي أنني سأقضي عطلة نصغ السنة في منزل خالتي في مصر الجديدة ولكن بلا عنوان محدد , وفعلا عندما سأل عني رجال المخابرات في الموسكي أعلمهم الزملاء أنني في بيت خالتي في مصر الجديدة وأنني لم أخبرهم عن عنواني .

لذلك عندما توجهت إلى مطار القاهرة كنت أخشي أن أعتقل قبل صعودي إلى الطائرة ولكن لم يكونوا يعلمون حتى ذلك اليوم أنني غير مصري ولذا لم يوضع اسمي في المطار , وهكذا غادرت مصر في شهر نيسان عام 1954 .

كنت أظن أن طلبي إنما هو عارض وإنني سأتمكن من العودة إلى مصر لأستأنف دراستي لذلك فقد أسرعت بإرسال إجازة طبية لجامعة الأزهر وأن حالتي الصحية لا تمكنني من العودة في بداية الدوام .

وجاء أحد ضباط المخابرات مرة أخرى للكلية وكانت إجازتي المرضية الصادرة من مستشفي ملحس في عمان قد وصلت إلى الكلية فأعلمت إدارة الكلية الضابط بأنني أردني وأنني سافرت إلى الأردن وتقدمت بإجازة مرضية وقدم الضابط تقريره بأن المطلوب واسمه عزت العزيزي ليس مصريا وأنه غادر إلى الأردن بينما قدم الذي سأل عني في نزل الموسكى أنني في مصر الجديدة وظنت الإدارة العليا للمخابرات أن الضابط الذي قال إنني غادرت إلى الأردن إنما كان يغطي على وجودي في مصر الجديدة فصدر أمر باعتقاله وأعلمني بهذه القصة أحد الطلبة الأردنيين المعتقلين الذين أبعدوا فيما بعد من مصر .. ولم يفرج عن الضابط إلا بعد تأكدهم من وجودي في الأردن.

الحكم على من محكمة الثورة

علمت فيما بعد أن كثيرا من المعتقلين المصريين بعد أن علموا أنني خرجت من مصر كانوا ينسبون كثيرا مما يسألون عنه في التحقيق لي سواء كان ذلك موافقا للواقع أو ليس كذلك حتى يخففوا عن أنفسهم و عن إخوانهم بعض المسؤوليات التي تعاقب عليها تلك المحكمة .

وهكذا قدمت لتلك المحكمة بتهم لا أعرف مقدارها , وحوكمت مثل غيري من مئات المتهمين آنذاك وصدر على الحكم بالسجن خمسة وعشرين عاما حكما غيابيا وحيث أن هذه الأحكام صدرت من غير محام يتصدي للتهم الموجهة إلى بالجملة فقد اكتسب الحكم الدرجة القطيعة .

بصدور الحكم الذي أعلمني عنه بعض العائدين من مصر الذين قرأوا أو اطلعوا في حينه على الأحكام الصادرة عن محكمة الثورة انقطع أملي بالعودة إلى مصر لإتمام دراستي وحيث إنني تركت الدراسة في منتصف العام الدراسي فلم يكن ثمة أمل في الاستفادة مما تبقي من ذلك العام الدراسي .

الحج إلى بيت الله الحرام

لقد قررت أن أستفيد مما تبقي من تلك السنة الدراسية وكان موسم الحج قريبا , فعملت على الاستعداد للحج برا مع السيارات الشاحنة التي كانت تنقل بالحجاج آنذاك و سافرت بصحبة أخي وصديقي آنذاك المرحوم هاني منصور الذي تزوج فيما بعد من شقيقتي وأصبح زوج أختي .

كانت رحلة الحج في تلك السيارات مرهقة وشاقة ووقع للسيارة التي كنت فيها مع هاني حادثا قبل مغادرة الحدود الأردنية وانقلبت السيارة بمن فيها من الحجاج الذين كانوا على ظهرها ويجلسون فوق متاعهم ومؤونتهم وكنت أنا ورفيقي نجلس إلى جانب السائق واستطعنا بالتعاون مع بقية ركاب القافلة التي كانت مؤلفة من أربع سيارات أن نعيد سيارتنا المنقلبة ووجدوا أنها مازالت قادرة على المضي في الرحلة واستأنفنا السفر متوجهين إلى المدينة المنورة عن طريق عرعر.

كانت طريق الحج منذ غادرنا مدينة الزرقاء في الأردن عبارة عن صحراء أحيانا حجرية وغالبا رملية وكثيرا ما كنا نضطر إلى النزول من السيارة لنضع الأعمدة الخشبية بين الإطارات الخلفية للشاحنة لتتمكن من تجاوز مناطق الرحال التي تغوص فيها إطارات السيارات الشاحنة .

إن الرحلة من عمان إلى المدينة المنور اليوم لا تستغرف أكثر من اثنتي إلى أربع عشرة ساعة لكن تلك الرحلة على تلك الشاحنات على تلك الصحراء التي ليس فيها متر واحد من طريق معبدة أو حتى ممهدة استغرقت سبعة عشر يوما .

وبعد أن قمنا بزيارة المدينة بضعة أيام توجهنا إلى جدة ثم إلى مكة واستغرقنا الرحلة من المدينة إلى جدة ثلاثة أيام وتستغرق الآن أقل من أربع ساعات .

التقيت في جدة ومكة أثناء فترة الحج بخال والدي المرحوم أحمد السجان الذي قد هاجر إلى الحجاز قبل بضع سنين وكان رحمه الله ميكانيكيا ماهرا , وكان يعمل مع ابن لادن مسئولا عن آلياته وسياراته وعرض علي – رحمه الله – أن أبقي في جدة وأعمل مع شركة ابن لادن , وسيحصل لى على الجنسية السعودية كما حصل هو وأبناءه عليها فشكرته وأعلمته أنني أنوى إتمام دراستي إما في سوريا أو في العراق حيثما تيسر ذلك.

وقررت مع رفيقي في الحج أن لا نعود مع تلك السيارات فقد ذقنا الأمرين فقدمنا طلبا للسلطات السعودية للعودة عن طريق البحر وساعدنا على الحصول على الإذن السفير الأردني في جدة آنذاك الشريف حامد سعد الدين الذي كان صديقا لوالدي – رحمهما الله -

بدايات تباعدي عن التنظيم

كان نجيب جويفل قد اختار مجموعة من شباب الإخوان تميزوا بقدر كبير من الالتزام والفهم والقوة والحماس للدعوة والاستعداد للتضحية وكنت نقيبا لتلك الأسرة وعندما أصرت قيادة الإخوان على موضوع تأبيد القيادة العليا أو المراقب العام وعدم تقييد مدته , لم أستطع أن أتحمل بقاء ولائي لتلك القيادة , ومما زاد دواعي تباعدي ما استحدثه نجيب جويفل من ترتيبات إدارية في مناطق الأردن الرئيسية وبخاصة إربد والكرك والسلط إلى جانب عمان .

كان معظم الشباب الملتزمين بالدعوة يرون أن جمهور المنتسبين للحركة صنفان :

الأول الشباب الذين هم على درجة من فقه الدعوة والالتزام بمتطلباتها سواء في العبادة أم في السلوك اليومي , أم في الاستعداد للبذل والتضحية والصنف الثاني وهم الذين انتسبوا للحركة لأسباب اجتماعية ويرون دار الإخوان مثل ناد يمضون فيه أوقات فراغهم ويتسلون فيه , وكثيرا ما يقضون ساعات في لعب الشطرنج ولا يبدو على سلوكهم الالتزام لا بالعبادة ولا بالسلوك الفردي , وكنا نشعر أن بعضهم كان يتطلع إلى أن يتخذ من حركة الإخوان سلما للمكانة في الدولة والمجتمع وكان قد بدأ بعضهم فعلا في تحقيق مواقع لهم في الدولة من خلال تعريف الحركة بهم سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي .
لقد عمد نجيب وقيادة الإخوان الجديدة إلى توسيع التنظيم الإداري للحركة في المناطق وأقاموا الشعب لمتعددة ووضعوا في كل شعبة عددا من المسئولين مثل نائب الشعب والمجالس الإدارية بألقابها الفضفاضة الكبيرة ومعظمهم من الصنف الثاني الأقل التزاما والأقل استعدادا للعمل الجاد في الدعوة .
وبعد عودتي من مصر أطلعني نجيب جويفل على تلك الترتيبات الإدارية الجديدة التي جعلت التنظيم الإداري للجماعة في الأردن مماثلا إلى حد كبير للتنظيم الإداري للإخوان في مصر .
كنت أشعر أن هذا الأسلوب في العمل يجعل السيطرة في قيادة لمجموعة من الناس قد يكونون حسني النية ولكنهم غير مؤهلين من حيث التزامهم – لقيادة حركة مثل حركة الإخوان تتطلع لتحقيق تغيير جوهري في الحياة الاجتماعية ومن ثم في الحياة السياسية لتصبح إسلامية بمعني الكلمة.

وأبديت رأيي لنجيب جويفل بلا مجاملة آنذاك في هذا الترتب وقلت له : إن ما عملته أشبه بمن اشترى ثوبا طويلا عريضا وأراد أن يلبسه لإنسان قصير نحيل , والأصح أن نفصل الثوب على قدر الإنسان ولكن بفعلك هذا تحاول تكبير الإنسان فركبت له وصلة لساقيه حتى أصبح طوله مناسبا للثوب فإذا لبس ذلك الثوب فسوف يتعثر إما بأطراف الثوب الطويل وإمام بالساق الخشبية الواصلة لطوله , وكل ذلك سيؤدي إلى عدم تمكنه للمضي قدما كإنسان سوي قادر على تثبيت نفسه على أرض وعرة لا يكاد الإنسان السوي يقوي على السير فيها بقوة وثبات .

تبسم نجيب جويفل وشعرت أنه لا وزن بنظره لرأي طالب جامعي لم يتم دراسته وأن خبرته ومن أقنعهم معه من قيادات الجماعة هم الأكثر حكمة والأصوب رأيا .

كان هذا النقاش بداية تباعدي عن صف الإخوان إلا أنني بقيت على علاقة وثيقة مع شبابهم وبخاصة الأسر الخاصة وكنا نلتقي لقاءات غير منتظمة نتدارس فيها بعض كتب الفقه والدراسات الإسلامية .

الاصطدام غير المباشر مع القيادة

لظروف سياسية لم أعلم تفاصيلها آنذاك غادر نجيب جويفل الأردن وأقام في سوريا وحصل صدام كذلك بين قيادة الإخوان وبين الحكومة الأردنية أو بعض المسئولين في الحكومة وخرج المراقب العام محمد خليفة إلى سوريا .

فوجئت بالإخوة الذين كنت نقيب أسرتهم يأتون إلى يريدون رأيي في أمر طلبه منهم نجيب جويفل وهو في سوريا وأحس الإخوة أن تنفيذ ذلك الطلب قد يؤدي إلى إلحاق الأذى ببعض المسئولين في الحكومة وكانوا على استعداد لتنفيذ ما طلب منهم إذا لم يشكل ذلك مخالفة شرعية وعندما أعلمتهم أن ذلك لا يجوز شرعا طلبوا مني أن أكتب ذلك ليرسلوه إلى دمشق وكتبت ما اعتقدت أنه الصواب شرعا وفقها وأرسلوا ذلك بأسمائهم إلى نجيب وعرف نجيب أن فحوي الرسالة ليست إلا مني وهاتفني وأشعرني أنه أدرك أنني وراء الرسالة حتى قال لى هازئا يا فضيلة المفتي .

وكان يظن أنني ما زلت على استعدادي لتنفيذ أمره فطلب مني أن آتي إلى سوريا وأن محمد خليفة الموجود هناك يريدني أن آتي لمقابلته كذلك ولكنني اعتذرت منهما وقلت له أنني غير مستعد لهذه الرحلة , وبعد أن انتهت أزمة العلاقة بين مراقب الإخوان والحكومة عاد محمد خليفة من سوريا وأعد له الإخوان استقبالا حافلا على الحدود في الرمثا وثم في الزرقاء وعندما سلمت عليه في الرزقاء لم ينتظر الوصول إلى عمان لمعاتبتي على موقفي من أوامره وأوامر نجيب , والتي أثبتت الأحداث سلامة موقفي وصحة فقهي للعلاقة بين الحركة والسلطة وعلى الرغم من خلافنا – مجموعة الشباب –مع قيادة الإخوان إلا أننا بقينا ملتزمين مع الجماعة ونمارس الكثير من النشاط في إطارها وندافع عن سياستها ومبادئها ولو كان بعضها مخالفا لقناعتنا واختيارنا .

مظاهرة الاحتجاج على زيارة صلاح سالم

بعد إعدام الشهداء الستة جاء عضو مجلس قيادة الثورة المصرية الصاغ ( الرائد ) صلاح سالملزيارة الأردن في محاولة لإزالة الجفوة بين مصر والأردن .

وقرر الإخوان القيام بمظاهرة احتجاج على زيارة صلاح سالموكنت في حينها الوحيد ممن خرجوا من مصر فقررت قيادة الإخوان أن أتولي قيادة المظاهرة التي تقرر أن تبدأ من أمام دار الإخوان نزولا إلى المسجد الحسيني ثم العودة إلى رئاسة الوزراء في طريق السلط وقبل أن أخرج لقيادة المظاهرة سألت الأستاذ محمد خليفة المراقب العام : ماذا لو تعرض لنا رجال الشرطة وطلبوا منا التفرق ؟ هل نصر على المضي في المظاهرة ونتحدى الشرطة ؟فقال : نعم فسألته وهل اعتمد على من معنا من الإخوان ؟ فقال : نعم لقد أصدرت الأمر بالثبات والاستمرار في المظاهرة حتى رئاسة الوزراء جمع الإخوان ما يزيد على المائة من الشباب وبدأت المظاهرة من أمام دار الإخوان وزاد العدد مع مضينا في شارع الملك فيصل وكان هتافنا مركزا ضد ظلم محكمة الثورة وسقوط النظام الظالم في مصر .. وكنت في مقدمة المظاهرة وإلى جانبي الأخ أحمد ديرانيه وإخوة آخرون لا أذكرهم .

وجاء قائد شرطة لعاصمة , وكنت أعرفه فقد كان صديقا لوالدي رحمهما الله وسأل من كان في أطراف المظاهرة من المسئول ؟ فأشاروا إلى فجأة إلى وكنا قد بلغنا قرب نهاية شارع الملك فيصل وقال لى : أري أن تكتفوا بهذا القدر وسوف أبلغ المسئولين رغبتكم ومشاعركم, فقلت له بنبرة قوية لن نرجع حتى نكمل خطة المظاهرة ونقف أمام رئاسة الوزراء فقال لى بهدوء هل تسمح لى أن أسير معكم ؟ فقلت : لا أمانع من ذلك.

وما إن دخلنا إلى شارع السعادة – وهو شارع قصير جدا يؤدي إلى المسجد الحسيني - حتى خرج علينا عشرات الجنود بالهراوات والعصي, وأردت أنا والأخ أحمد ديرانيه أن نقاوم والتفت إلى الذين كانوا ورائي فإذا الجميع يركض في كل اتجاه وأمسك قائد الشرطة العقيد محمود الرفاعي – وكنا نسميه الشيخ محمود لأنه يحضر جلسات الذكر وحلقات دروس الدين مع والدي المرحوم خليل العزيزي .

أمسك بيدي وقال لى ولأحمد ديرانيه : أمضينا معي ومضينا معه إلى قيادة شرطة العاصمة وكان محل والدي مقابلها خلف الجامع الحسيني ووضعونا في غرفة التوقيف ويسمونها النظارة بانتظار من يأتي ويتكلفنا وفوجئت بأن معنا بالنظارة شاب أصغر مني فقلت له : وأنت ما الذي جاء بك ؟ فقال : لقد كنت مع المظاهرة ولم أكن أعرفه من الإخوان آنذاك فقلت له : ما اسمك ؟ قال هاني الخصاونة وعلمت بعد ذلك أن قائد الشرطة قال لوالدي : عندما رأيت عزت متصدرا للمظاهرة مشيت مع يدي حتى أحميه من عصي الشرطة وقد كان ذلك فعلا .

محاولة لتعميق التفقه بالدين

كان لهذا الحدث تأثير على كثير من العناصر القيادية في الإخوان وأدركوا الحاجة إلى المزيد من التعمق في فقه الدعوة والعلم في الدين , وقرر إخواني في الأسرة الذين لم يتجاوز عددهم الخمسة – انتقلوا الآن إلى رحمة الله تعالي وهم :أحمد ديرانية وعبد الله حسن جبر وهاني منصور ومحمود عثمان عليوات وعبد الفتاح كتوعة قرروا بعد تشاورهم مع عدد من الإخوة توسيع الأسرة لتشمل عددا من قيادات الجماعة في عمان .

وانضم إلينا فعلا المرحومين : منصور الحياري ومحمد نمر وهبه وممدوح الصرايرة وكذلك عبد خلف وممدوح كركر أطال الله في عمرها كانوا جميعا يشغلون أهم المواقع في قيادة الإخوان وأحدهم كان رئيسا لشعبة الإخوان في عمان .

وكلفوني جميعا بالإعداد العلمي لاجتماعاتنا واخترت في حينها مجموعة من المراجع والكتب القديمة والحديثة لدراستها وتحليلها وكانت تلك المراجع والكتب تغطي جوانب متعددة من الفكر الإسلامي وفقه الدعوة فقد اشتملت على ما يلي :

- التجريد الصريح لصحيح الإمام البخاري
- إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية
- فقه السنة لسيد سابق
- تذكرة الدعاة للبهي الخولي
- العدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب

وكنت أختار أحيانا أبوابا من مراجع أخري تتناول موضوعات قد لا تغطي تغطية كاملة بأي من المراجع السابقة وكنا نقتسم الإعداد بين القادرين منا من تلك المراجع وبخاصة أنه كان بعضنا مثقفا ثقافة إسلامية جيدة وبعضهم كان قد انهي دراسته الجامعية وبعضهم كان لا يزال يدرس في الجامعة انتسابا بالإضافة لعمله وبعد أن مضي على نشاطنا هذا بضعة اجتماعات استدعاني بعدها الأخ المراقب محمد خليفة وعاتبني على تكوين أسرة سرية دون علمه , فقلت له : كيف تكون سرية وفيها وكيل الإخوان منصور الحيارى ونائب الشعبة عبد خلف وأعضاء المجلس التنفيذي ممدوح كركر وممدوح الصرايرة ومحمد وهبة ؟ وأن لقاءاتنا لا تعدو الدراسة والتفقه في الدين وإنني لست المسئول عن هذه الأسرة , وإنما كنا نختار في كل اجتماع أحدنا ليقدم ما أعده لذلك الاجتماع وقلت له : لماذا لا تنضم إلينا لنعمل جميعا على تكوين فهم صحيح مشترك لمبادئ الإسلام الذي نؤمن جميعا أنه منهجنا الوحيد ومرجعنا في كل أمرنا .

ووافق – رحمه الله – وانضم إلى ذلك اللقاء الأسبوعي العلمي الثقافي .

لقد ساهم هذا اللقاء الأسبوعي في تكوين قدر مؤثر إلى حد ما من الفهم المشترك والتعمق في فهم الإسلام وفي ردم الفجوة التي كان يحس بها كثيرا من أعضاء التنظيم الشباب بينهم وبين قياداتهم , وتقبلت تلك القيادات لأول مرة أن لا تكتفي بلعب دور الموجه والمعلم فقط بل وتجلس مع شبابها في موقع المتعلم والمتلقي والتساوي مع العناصر التي كانت على الأغلب في موقع التابع الذي يسمع ويطيع , وبدا يتكون مفهوم جديد للعمل لا يقوم على السمع والطاعة وتنفيذ الأمر دون مناقشة المسئول بل على دراسة ما يعرض للحركة من القضايا والمشكلات ومناقشة المسئول وإلزامية الشورى في العمل الحزبي والدعوي .

تأثر حركة الإخوان بصعود الناصرية

لقد كان لظهور حزب التحرير وسرعة انتشاره بين شباب الإخوان خاصة ثم بين غيرهم وانبهارهم بميزتين لذلك الحزب هما استعمال رجاله المنطق الجدلي في مناقشة الرأي المخالف وتركيزهم على الجانب السياسي ووعدهم القوى بأنهم سيكونون قادرين على إقامة الدولة الإسلامية بما لا يزيد على خمس سنوات على أكثر تقدير ومقارنتهم هذا الوعد القريب بالمدة الذي مرت على حركة الإخوان في مصر منذ عام 1928 التي بلغت ربع قرن دون أن يحققوا الأمل في إقامة الدولة الإسلامية كان لذلك كله أثر على تفكير الإخوان وقياداتهم وكوادرهم وظهر فيهم بل تنازعهم اتجاهان اتجاه يدعو إلى العودة إلى التربية الثقافية والروحية وعدم الاستعجال على الانتصار السياسي بإقامة الدولة التي ستكون نتيجة حتمية لنضج الحركة وقوتها في المجتمع والاتجاه الثاني يدعوا إلى دخول المعترك السياسي بالتوجه بالتنظيم كله نحو السياسي والسعي إلى السلطة وفي خضم هذه الحيرة ومع تعرض أكبر وجود لهم في مصر للمحنة الثانية على يد النظام الناصري أخذت بعض قياداتهم تتطلع للبحث عن حلفاء من المعسكر المناوئ لعبد الناصر لعلهم يمدونهم ببعض القوة التي تعوض ما أصابهم ويصيبهم من المعسكر الناصري وحلفاؤه من القوميين والاشتراكيين والشيوعيين الذين امتد نفوذهم وطغت شعاراتهم على كل أرجاء الأقطار العربية بل وغير العربية أحيانا لا سيما بعد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر.

وشرع المعسكر المناوئ للناصرية وحلفائها بمغازلة حركة الإخوان , وفتحت أبواب دول الجزيرة العربية والعراق للإخوان المطاردين بل ومن سوريا حليفة مصر الناصرية آنذاك.

كان الحلف الناصري قد استأثر بصفة اليسارية والتقدمية وألصقت صفة الرجعية بالمعسكر المناوئ ومنه الإخوان المسلمون و تورطت بعض قيادات الإخوان نتيجة هذه الحيرة والتخبط مع حركات مشبوهة لا يشرف العمل الإسلامي أن يكون حليفها مثل حركة محمد صفا في سوريا والنظم السياسية المختلفة في المنطقة التي لا يجمعها مع الحركة الإسلامية سوى الخلاف مع عبد الناصر .

الانتقال إلى العراق

بعدما يئست من إمكانية عودتي إلى الدراسة في مصر لم أستطع الانقطاع عن الدراسة والتفرغ للعمل التجاري مع والدي فتقدمت للدراسة في جامعة دمشق , ولكن كانت العلاقة بين النظامين السوري والمصري بدأت بالتوثق, بل بتبعية النظام السورى للنظام المصري وبدأ التضييق على الطلبة الإسلاميين في جامعة دمشق فقررت التوجه إلى العراق , وفعلا جاءني القبول في كلية الشريعة في بغداد واحتسبت لى سنتا الدراسة في الأزهر , وقبلت في السنة الثالثة في كلية الشريعة في بغداد .

لقد حاولت قبل سفري إلي العراق سنة 1955 أن أقنع الإخوان على الاستمرار في اللقاء الأسبوعي وتعميق التجربة وتعميمها ما أمكنهم ذلك لكن لم يكتب البقاء لتلك التجربة ولم يتمكن الإخوة حتى نواتهم الأولي من الاستمرار في ذلك البرنامج التثقيفي العلمي وتوقفوا بعد سفري عن الالتقاء الأسبوعي .

كانت كلية الشريعة في بغداد عبارة عن مبني ملحق بمسجد الإمام أبي حنيفة بحي الأعظمية ولم أجد صعوبة في الانخراط في الدراسة في السنة الثالثة ,وتعرفت بسرعة على معظم الزملاء في الدراسة وكنت القادم الوحيد من الأردن وكان معنا كذلك طالبان من اندونيسيا أحدهما اسمه عبد الرحمن و الآخر أبو بكر وكالب عماني وبقية الطلبة كانوا من العراقيين .

وتصادقت في تلك السنة 1955 مع عدد من الزملاء العراقيين عرفت فيما بعد أنهم من الإخوان أذكر منهم : عبد القهار العاني ويوسف بكرى هديبوعدنان صالح,كان في العراق في جامعاتها المختلفة عدد من طلبة الإخوان الذين خرجوا أو أخرجوا من مصر أذكر منهم عدنان الجلجولي وقنديل شاكر من فلسطين وعصام الشربيني من مصر وسالم – لا أذكر بقية اسمه – أيضا من مصر وأربعتهم في كلية الطب وفاروق بدران من الأردن في كلية الزراعة .

وتعرفت كذلك على عدد من الطلبة الأردنيين من الإخوان أذكر منهم : عبد اللطيف عربيات وغالب أبو عبودوعبد الفتاح الظاهر, وكنت على علاقة طيبة مع جميع من ذكرت ومع غيرهم من الطلبة وغير الطلبة من الأردنيين والعراقيين وتعرفت كذلك على الأستاذ عبد الكريم زيدان , وكان وكيلا لوزارة الأوقاف , وساعد في إنجاز معاملة قبولي في كلية الشريعة إذ كانت في حينها تابعة لوزارة الأوقاف ولم تنضم بعد لجامعة بغداد وعرفت كذلك قريبه المحامي محمد سالم زيدان .

كان المسئول عن الإخوان في العراق الأستاذ محمد الصواف – رحمه الله – الذي زرته في مقر الإخوان بباب المعظم بعد استقراري في بغداد .

وعلى الرغم من أني لم أتحدث لأى من الإخوان الذين تعرفت إليهم عن أى خلاف سابق مع قيادة الإخوان في الأردن.

إلا أنني فوجئت بما أخبرني به زملائي في الكلية من الإخوان أن الأوامر صدرت إليهم من قيادتهم بعدم الاتصال بي .

وتقبلت ذلك وقلت لهم : إنني أتفهم هذا الأمر ولن أجد على أى منكم إذا نفذ هذا الأمر فطاعتكم لأمر المسئول واجبة , ولكنهم كانوا صرحاء فقد أعلموني أنهم رفضوا هذا الأمر وأخبروا المسئول أنهم لم يسمعوا مني أو يجدوا في أى من تصرفاتي ما يدعو إلى تجنب التعامل معي .

ومما وثق علاقتي بهم وبغيرهم من زملاء الدراسة أنني كنت مقبلا على الدراسة بجد وكانت نتائجي منذ بدء دراستي ممتازة واستمررت على هذا المستوى إلى أن تخرجت من كلية الشريعة عام 1957 حتى إن عميد الكلية الدكتور ناجي معروف العبيدي عرض على أن أبقي في الكلية وأن يعينوني معيدا فيها تمهيدا لإرسالي في بعثة لدرجة الدكتوراه على الرغم من أني لست عراقيا ولكني شكرته وإدارة الكلية واعتذرت عن قبول العرض لأنني لم أكن أخطط لنفسي أن أستمر في الدراسة لما بعد درجة الليسانس ( البكالوريوس ) لأنني كنت أزمع على الانخراط في العمل الحر والتجارة مع والدي في الأردن.

أعود لأمر قيادة الجماعة في العراق لكوادرهم بعدم الاتصال بي , وأن ذلك يدل على ملاحقة قيادة الجماعة في الأردن لمن يخالفهم في الرأي , وأظن أن هذا السلوك كان من قبل المراقب العام فقط وليس بقرار من المسئولين بشكل شوري وذلك أن علاقتي مع جميع عناصر الإخوان الأردنيين في العراق وهم من الطلبة في مختلف الكليات كانت جيدة , وكنا نتزاور معا ونلتقي أسبوعيا في أماكن إقامتنا , وقد انقطعت مرة عن زيارة مجموعة من الإخوة الأردنيين الذين يدرسون الطب لوعكة صحية ألمت بي , فجاءني أحدهم وأصر على اصطحابي إلى منزلهم حيث فحصني بعضهم وكان في السنة الأخيرة في كلية الطب بل أصر على أخذ موعد لي مع أحد أساتذة كلية الطب زيادة في الطمأنينة على صحتي .

وكانت حركة حزب التحرير قد وصلت إلى العراق ومثل ما حدث في الأردن فقد كان أبرز أعضاء الحزب من عناصر الإخوان أصلا وتعرفت كذلك على بعض التحريريين هناك ولم يؤثر تعرفي عليهم علي علاقتي بالإخوان وقد استمرت علاقتي معهم لفترة طويلة بعد ذلك وزارني بعضهم في الأردن وكان منهم المرحوم الشيخ عبد العزيز البدري ومحمد الألوسيوعلى الرغم أنهما كان من المعارضين للحكم الملكي في العراق آنذاك إلا أنهما تعرضا – فيما بعد – للملاحقة من الحكم البعثي المتعاون مع عبد الناصر , وتمت تصفية المرحوم الشيخ عبد العزيز البدري على يد صدام حسين وهاجر الألوسي من العراق .

حلف بغداد والناصرية

لقد أمضيت سنتين في الدراسة في العراق من 19551957 كانت قاصرة على الدراسة فقط دون أن أنخرط في أى نشاط حركى سواء مع الإخوان أو مع غيرهم في تلك الفترة وقد مرت البلاد العربية خلال تلك الفترة بأحداث هامة كان لها تأثير على الحياة السياسية والحزبية في المنطقة , وأهم هذه الأحداث كان تأميم عبد الناصر لقناة السويس وما تبعه من الغزو الثلاثي لمصر من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وما نتج عنه من تدخل الولايات المتحدة بقوة لسحب القوات الثلاثية .

انقسام العالم العربي

بدأ تشكل محورين يتنازعان الزعامة على العالم العربي المحور الناصري الذي كان يلقب بالتقدمي وبالقومي وبالاشتراكي وبالتحرري, ويقابل هذا المحور القيادات التقليدية الذي يصفها المحور الأول بالرجعية والتخلف وأحيانا بالعمالة للقوى الاستعمارية , ولم يكن هذا التمحور عربيا فحسب بل التمس كل محور منهما أحد المعسكرين الذين سادا العالم ليكون في ظله وتابعا له وانضم المحور الناصري إلى المعسكر الاشتراكي الذي يتزعمه الاتحاد السوفيتي ويضم بشكل ما الصين الشيوعية والتجأ المحور الثاني التقليدي إلى المعسكر الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ويضم دول أوربا الغربية مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا .

وكاد العالم كله أن يكون موزعا بين هذين المعسكرين في تلك الفترة على الرغم من أن عددا من الزعماء الدوليين حاولوا تشكيل كتلة ثالثة تحت اسم كتلة عدم الانحياز و كان أبطالها عبد الناصر من مصر وتيتو من يوغسلافيا وسوكارنوا من اندونيسيا , لقد أعطي بروز هذه الكتلة التي ضمت عددا كبيرا من دول العالم الثالث سمعة دولية لقادتها وبخاصة لعبد الناصر في العالم العربي على الرغم أنها منذ تأسست في أواسط الخمسينات في القرن الماضي حتى الآن لم تستطع أن تؤثر أى تأثير فعال في أى قضية من قضايا العالم وبخاصة القضية الفلسطينية إلا أنها زادت من شعبية عبد الناصر وتطلع الجماهير العربية إليه كمنقذ للعرب ومحرر لفلسطين.

لقد تطورت علاقة المحور التقليدي العربي إلى بروز حلف حاولت بريطانيا صياغته تحت أكثر من اسم ثم استقر على تسميته حلف بغداد وتشكل هذا الحلف من كل من العراق وتركيا وباكستان تحت دثار بريطاني ومباركة غربية بشكل عام وشرعت بريطانيا بالضغط على دول المنطقة للانضمام لهذا الحلف , وهكذا انقسمت الدول العربية إلى فرق متنازعة ففرقة حلف بغداد يتزعمها العراق وتحاول استمالة الدول التي تختلف مع المعسكر الاشتراكي ووقعت الأردن تحت ضغط معسكر حلف بغداد للانضمام إلى ذلك الحلف وقامت في الأردن كذلك العناصر التي استمالها المعسكر الناصري لمقاومة ضغوط الانضمام لحلف بغداد ويمثل هذه الفرقة الأحزاب القومية والاشتراكية واليسارية عموما واستطاع هذا التكتل تجنيد عدد من ضباط الجيش والأمن العام ومعظمهم من الشباب الذين رأوا في جمال عبد الناصر مثالا مبهرا في سيطرته على الحكم في مصر وقضائه على النظام الملكي وما يمثله – في نظرهم من الفساد وحكم الإقطاع والطبقة الغنية – وأخذوا بالشعارات التي يتبناها المعسكر الناصري مثل القومية الاشتراكية والتقدمية .

سيطرة المد الناصري

لقد كانت قوة الإعلام المصري وحلفاء مصر في المنطقة طاغية اكتسحت دعاية حلف بغداد وما التصق به من تبعية للدول الغربية وبخاصة بريطانيا وفرنسا اللتان تمثلان الحلف العدواني مع الدولة اليهودية المغتصبة لفلسطين وكان من شعارات المعسكر الناصري المبهرة للجماهير العربية شعار تحرير فلسطين من الاغتصاب اليهودي ورفض وجود هذا الكيان من حيث المبدأ وكذلك شعار الوحدة العربية التي تمثل أقصي أماني الشعوب العربية وترى فيها الحل الأوحد لأمراض الأمة العربية التي تحول دون تحقيق أهدافها في الحرية والتحرير والحياة المثلي ومقاومة الأعداء .

حيرة التنظيمات الإسلامية

وسط هذا الصراع العنيف كان وضع جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات الإسلامية مثل حزب التحرير في منتهي الحيرة والحرج فهم من حيث المبدأ دعاة وحدة وتحرر من الاستعمار والتبعية ودعاة تحسين لحياة الشعوب , ولكنهم وجدوا أن كل هذه المبادئ وشعاراتها أصبحت في يد المعسكر المعادي لهم بقيادة جمال عبد الناصر والتصق بالاتجاه الإسلامي – عموما – تهم الرجعية وبالتالي العمالة للمعسكر التقليدي المتحالف مع الدول الغربي حليفة الدولة اليهودية لذلك كان من السهل على هذا المعسكر الصاعد إلصاق كل الصفات المناهضة لشعاراته بالجماعة على الرغم من أن الخلاف بين جماعة الإخوان وعبد الناصر لم يكن على مبادئ الحرية أو التحرر من التبعية أو العدالة الاجتماعية وإنما كان خلاف على السيطرة على الحكم وكان الطرف الأضعف في هذه المعركة هم الإخوان المسلمون فالصقت بهم تهمة الرجعية والتبعية بل وصفوا أحيانا بالخيانة الوطنية وحيكت قصص وحكايات كاذبة عن علاقات قيادتهم بالدول الاستعمارية .

وكان شباب الإخوان أشد حيرة واضطرابا تتنازعهم مواقف أشد تناقضا فهم يرون ميل قياداتهم لمقاومة المد الناصري, وفي نفس الوقت يتطلعون إلى أن يقودوا الأمة في معركة التحرير والتحرر والعدالة الاجتماعية وذهبت بعض قياداتهم إلى تبني مواقف بعض شعارات المعسكر الناصري ومحاولة صبغها بالصبغة الإسلامية ومثل هذا الاتجاه الدكتور مصطفي السباعي رئيس الإخوان في سوريا أو المراقب العام فيها , وألف كتابه في الاشتراكية لدعم هذا التوجه الجديد .

وذهب كثير من قيادات الصف الثاني في الحركة ومن شباب الإخوان إلى الدعوة إلى المصالحة مع الاتجاه الناصري لأن الاستمرار في معاداته سيؤدي إلى عزل الاتجاه الإسلامي بصورة عامة عن موقع القيادة للأمة وسيترك قيادة الجماهير تحت سيطرة الاتجاه القومي الاشتراكي الناصري .

وفي خضم هذا الصراع كادت الأردن أن تقع تحت سيطرة المعسكر الناصري الذي اتخذ مقاومة حلف بغداد ستارا للسيطرة على الحكم بعد أن أصبحت له سيطرة كبرى على الشارع الأردني من ناحية وسيطرة جزئية على الجيش وقوى الشرطة من ناحية أخرى بانضمام عدد من الضباط الشباب لمعسكرهم .

لقد وجدت قيادة الجماعة نفسها فجأة بين خيارين إما أن تعتزل الساحة السياسية وعندئذ قد تكون نهايتها على يد القوي السياسية الصاعدة ويصيبهم مثل ما أصاب الإخوان في مصر وإما أن يقاوموا هذا المد الطاغي ويدعموا النظام القائم ولو لم يكن ممثلا لمبادئهم وتطلعاتهم .

وهكذا اختاروا التحالف مع النظام ضد المعسكر القومي اليساري الناصري واستطاع النظام الأردني أن يقضي على العناصر الممثلة للمعسكر الناصري ويثبت أقدامه متحالفا مع الإخوان المسلمين .

لقد بقي خوف قيادة الإخوان من الشارع مسيطرا عليهم فلم يستطيعوا أن يقطفوا أى ثمرة من ثمار انتصار المعسكر الذي انضموا إليه .

عدت من العراق بعد أن أتممت دراستي ووصلت إلى الحدود الأردنية في نفس اليوم الذي قامت فيه المظاهرات ضد النظام والمظاهرات المضادة حيث انتهي الأمر بسيطرة النظام والقضاء على القوة المناوئة له في الشارع الأردني وعندما التقيت بالأستاذ محمد خليفة المراقب العام للإخوان المسلمين بعد الأحداث ببضعة أيام , أخبرني بصراحة أن الملك عرض عليه رئاسة الوزراء , لكنه رفض ذلك ولكن يستطيع الإخوان أن يحصلوا على ما يريدون وسيعملون على الاستفادة إلى أبعد حد وهكذا انتهت هذه المرحلة من الصراع بين المعسكر الناصري والإخوان في الأردن .

انهيار حلف بغداد

على الرغم من عدم انضمام الأردن لحلف بغداد إلا أن أحداث عام 1957 تركت الأردن بمواجهة المعسكر الناصري الذي شرع يكتسب أنصار في دول المنطقة وكانت سوريا الجارة الأقرب للأردن أول المنضمين للمعسكر الناصري وأصبحت ملجأ للضباط الذين اتهموا بمحاولة الانقلاب على النظام الأردني .

ومع أن الأردن يجاور إلى جانب سوريا العراق والمملكة العربية السعودية فإنه وجد نفسه يتجه إلى العراق ويقيم معه أول محاولة لمشروع الوحدة بين دولتين عربيتين, ومما دعا بقوة إلى قيام مثل هذه الوحدة أن الأسرتين الحاكمتين في كل منهما من سلالة الشريف الحسين بن على الذي ثار على الحكم العثماني في أوائل القرن موعودا من الإنجليز بمنح الوطن العربي الاستقلال تحت ملكه .

وعلى الرغم من خيانة الإنجليز لحليفهم الشريف حسين في الحرب العالمية الأولي وتنكرهم لكل وعودهم للعرب من خلال وعدهم له فقد استطاعوا احتضان ولديه فيصل وعبد الله ونصب فيصل ملكا على العراق , والأمير عبد الله أميرا على شرق الأردن , ثم تطورت الإمارة إلى مملكة عام 1946 , وأعلن استقلالها عن بريطانيا مع بقاء سيطرة الإنجليز على قيادة الجيش وعدد من المواقع الهامة في الدولة مقابل تغطية احتياجات الدولة المالية المتواضعة .

الوحدة بين العراق والأردن

بعد مقتل المغفور له الملك عبد الله في القدس وعزل الملك طلال الذي تولي العرش بعده لمدة قصيرة آل ملك الأردن إلى المرحوم الملك حسين أما في العراق فبعد وفاة الملك فيصل وبعده ابنه الملك غازي تولي الملك فيصل .

وهكذا كان الملكان في العراق والأردن أبناء عمومة وسنهما متقارب جدا كلاهما شاب ناشئ يتطلع إلى تحقيق ما عجز الآباء والأجداد عن تحقيقه من قبل وهكذا ولدت الوحدة بين العراق والأردن .

وشرع المسئولون في البلدين بسرعة إلى تشكيل وتكوين الدولة الجديدة وتتابعت الاجتماعات في كلتا العاصمتين بغداد وعمان لتأسيس الإدارة الوحدوية الجديدة.

إن سلسلة محاولات الانقلاب في الأردن والانقلابات في سوريا , وانقلاب عبد الناصر في مصر , فتح أعين الضباط في الجيش العراقي الذين كانوا يعارضون انضمام العراق لحلف بغداد, ويتطلعون إلى المثال الذي أصبح أنموذجا للدولة العربية التقدمية وهو النظام المصري وهكذا أنهار الاتحاد العراقي الأردني قبل أن تخرج تفاصيله إلى النور حيث كان وزراء الأردن المرحوم إبراهيم هاشم وعدد من الوزراء يعقدون الاجتماعات مع رئيس الوزراء العراقي آنذاك نورى السعيد .

وكان الانقلاب دمويا عنيفا ذهب ضحيته ملك العراق فيصل الثاني وولي عهده الأمير عبد الإله ورئيسا وزراء العراق والأردن وعدد آخر من مسئولي الدولتين .

وقام في العراق نظام ثوري جمهوري تحالف بسرعة مع سوريا ومصر وهكذا انهار حلف بغداد وانتهي إلى غير رجعة .

لقد كانت فاجعة العراق بمنتهي القسوة على النظام الأردني وتركه ذلك الوضع الجديد وحيدا محاطا من جانبين من حدوده بنظامين مختلفين معه أشد الاختلاف وعلى الجانب الغربي كانت دولة اليهود التي لا يمكن إلا أن تصنف بأنها دولة معادية لكل ما هو عربي مهما كانت طبيعة النظام السائد فيه.

ولم يبق للأردن متنفسا سوي حدوده الجنوبية مع المملكة العربية السعودية التي كانت وما زالت لها تحفظها التاريخي على ورثة الشريف حسين الذي كان شريفا لمكة وحاكما على الحجاز وأجزاء من الجزيرة العربية التي أصبحت كلها ضمن المملكة العربية السعودية .

لقد استطاع الملك الشاب الحسين بن ظلال أن يحافظ على استمرار النظام الأردني رغم كل تلك العوائق والصعاب والمؤامرات .

الضباط الانقلابيون

سبق أن أشرت أن سوريا أصبحت ملجأ للضباط الأردنيين الذين فشلوا في قلب نظام الحكم .

وبعضهم انتقل إلى الإقامة في مصر وكان النظام المصري يدفع لهم رواتبهم سواء أكانوا في مصر أم في سوريا وسبق أن أوضحت سابقا أن نجيب جويفل استقر به المقام في سوريا وأنشأ مدرسة خاصة في يبرود شمال دمشق , وفي إحدى زياراتي لسوريا زرته في تلك المدرسة والتقيت فيها بعدد من الطلبة الأردنيين الذين كانوا يدرسون في الجامعة السورية بدمشق .

كانت معلوماتنا جميعا لا تتعدي ما نعرفه أن نجيب جويفل من سابقي الإخوان في مصر وان محنة الإخوان في مصر قد طالته مما اضطره إلى الإقامة في سوريا ولمست في زيارتي له عام 1957 أنه يميل إلى مبدأ مهادنة النظام الناصري في مصر وأن استمرار معاداة الإخوان للنظام المصري ستؤدي إلى عزلهم شعبيا بعد أن اكتسح المد الناصري جميع أرجاء الوطن العربي .

لم يخطر ببالي ولا ببال معظم الإخوان الذين تعرفوا إلى نجيب في مطلع الخمسينات في الأردن أن رأي نجيب في مهادنة الإخوان لعبد الناصر لا يعدو أن يكون اجتهادا منه لإنقاذ الإخوان من عزلتهم عن الجماهير التي كاد عبد الناصر أن يصبح زعيمها الأوحد وأن كل من يخالف منهجه إما رجعي أو غبي أو حتى قد تصل تهمته إلى خيانة الأمة والعمال لأعدائها .

كان الحاج عبد اللطيف أبو قورة ن رجال الحركة الإسلامية الذين لا يحتلون أى موقع قيادي في الجماعة إلا أنه كان من أشد الرافضين للزعامة الناصرية وينقم عليهم أشد النقمة لا سيما بعد إعدامه ستة من الإخوان عام 1954, وكان الحاج عبد اللطيف علي صلة معرفة وصداقة مع بعضهم مما جعله أشد نقمة على قاتلهم , كنت أكبر موقف الحاج عبد اللطيف مع أن كثيرا من شباب الإخوان وبعض قياداتهم تميل إلى اجتهاد نجيب جويفل في إمكانية التفاهم مع النظام الناصري .

محاولة الناصريين تجنيد الأتباع في الأردن

في أواخر عام 1958 تزوجت من ابنة الحاج عبد اللطيف أبو قورة وذهبت لتمضية شهر العسل في سوريا وكان شقيق زوجتي المرحوم كايد يدرس في كلية الحقوق بدمشق وكان يدرس فيها أيضا الأخ والصديق الحميم المرحوم وليد الحاج حسن وفي أحد الأيام زارني في الفندق الذي أنزل فيه بدمشق نجيب جويفل ومعه وليد الحاج حسن, وكان نجيب يعرف أن علاقتي بالإخوان منقطعة , ولكنه كان يعرف كذلك أنني ما زلت على علاقة – وإن لم تكن تنظيمية – مع عدد من شباب الإخوان الذين ينتقدون أسلوب قيادة الإخوان آنذاك.

وبعد حديث عن الأوضاع العامة في الأردن أخبرني نجيب أن أحد الضباط الأردنيين اللاجئين في سوريا يرغب بالتحدث إلى واعتذرت في البداية لأنني أعرف أن كل أولئك الضباط من الناصريين وكنت على قرابة ببعضهم وكثيرا ما كنا في نقاشي معهم أقف منهم موقف الخصومة والرفض لأسباب عدة أهمها أنهم علمانيون بعيدون عن فهم الإسلام ومنهجه وأنهم ناصريون ولا يمكن أن يضع مسلم يده بيد ملوثة بدماء الأبرياء .

ولكن نجيب أصر في رجائه لمقابلة ذلك الشخص ووافقت على مضض التقيت بهذا الشخص في بيت شقيق زوجتي المرحوم كايد أبو قورة الذي كان يدرس الحقوق في دمشق بدأ الزائر حديثه عن الأوضاع السياسية في الأردن وعن ضرورة الإصلاح السياسي في البلاد العربية عموما وعن أهمية الوحدة العربية في مقاومة الخطط الاستعمارية والأطماع الصهيونية في فلسطين وخلص إلى أن النظام السياسي الوحيد في البلاد العربية الذي يتصدي لتحقيق أهداف الأمة في التحرر والوحدة وتحسين الأوضاع المعاشية هو النظام الناصري وأن واجب الشباب المخلص لوطنه وأمته أن يؤيد هذا النظام ويعمل معه وتحت قيادته القومية المخلصة ثم خلص إلى أن النظام الناصري لا يبخل على الشباب المتحمس لنصرة القضية الفلسطينية والوحدة العربية وقال : إنه يعلم أن معظم عناصر الشباب في الأردن يتطلعون إلى قيادة الرئيس عبد الناصر قائد للأمة العربية كلها .

ولما يعلمه من صلتي بمثل هذه العناصر وإخلاصها فإنه يتطلع إلى التعاون معها لزعزعة النظام القائم في الأردن تمهيدا لتحقيق الوحدة العربية الشاملة تحت قيادة عبد الناصر وأكد أن المجموعة الأردنية من الضباط والسياسيين اللاجئين في سوريا ومصر كلفوه بأن يجند أمثالنا من الشباب المخلص للقضية العربية بزعامة عبد الناصر , وحيث إن أمثالنا من الشباب لا تنقصهم الحماسة والإخلاص ولكنهم يحتاجون إلى الدعم المالي للقيام بما يؤدي إلى زعزعة النظام القائم تمهيدا لقيام نظام تقدمي قومي إصلاحي وإدراكا من القيادة الناصرية لأهمية أمثالنا من الشباب في هذا المجال فقد قررت تخصيص الأموال اللازمة لتجنيد المزيد من الشباب ومن ثم القيام بما سيكلفون به من الأعمال ضمن خطط محددة ومرسومة من القيادة القومية الأردنية في المنفي ( أى مصر وسوريا ) وقد رصد مبدئيا مبلغ عشرة آلاف دينار لهذه الغاية وسوف يسلمني الآن مبلغ ثلاثة آلاف دينار وسيتم إرسال بقية العشرة آلاف دينار خلال سنة من هذا التاريخ .

لقد كان هذا العرض مفاجأة مذهلة اجتثت من تفكيري أية بقية لحسن الظن بأولئك الضباط ومن كان على نهجهم في التبعية الناصري حيث كنا نحسن الظن ببعضهم ونرى أن ما قاموا به من الخروج على النظام إنما كان بدافع الإخلاص للوطن وللتحرر من النفوذ البريطاني و التبعية للغرب .

لذلك كان ردي عليه حازما وواضحا فقلت له : صحيح أن كثير من الشباب الإسلامي لهم مآخذ على النظام , وأنهم دعاة للوحدة العربية والحرية ولكنهم لا يقبلون أن يكونوا بأى حال عملاء لمجموعتكم من الضباط والسياسيين ولا للقيادة الناصري التي لهم عليها من المآخذ ما لا يقل إن لم يكن أكثر من مآخذهم على النظم المناوئة للنظام الناصري .

وقلت له بوضوح إن ولاءنا أولا لله عزوجل وللأمة الإسلامية والعرب والأردن جزء منها وإننا لا نعمل إلا ضمن قناعاتنا وسنبذل من أنفسنا وأموالنا في سبيل رفعة الأمة ضمن هذه القناعات ولن نقبل أن نضع أنفسنا سلعة للبيع في سوق السياسة ولن نكون أداة للتخريب في بلدنا لحساب مخططات نري أنها مشبوهة وقبل كل شئ لا يسمح لنا ديننا بأن نكون جزءا منها وعد بهذا المال لمصدره فلن نلوث أنفسنا بمثل هذا المال الحرام ولم أر هذا الشخص إلا بعد عشر سنوات من ذلك الاجتماع إذ التقيته صدفة عن أحد الأصدقاء وكان يحتل مركزا بمنتهي الأهمية السياسية والأمنية في الأردن !!

التفرغ للعمل

بعد تخرجي من جامعة بغداد اتجهت في بداية الأمر للعمل التجاري مع والدي في تجارة مواد البناء , ولكني لم أستطع أن أنسجم معه إذ كان رحمه الله متساهلا جدا فيشتري السلع نقدا ويبيعها دينا مما كان باستمرار إلى تأكل رأسماله , وعرض علىّ في القضاء الشرعي , ولكني اخترت أخيرا العمل في التعليم , وكانت وزارة التربية تنظر إلى خريجي كليات الشريعة نظرة أقل من خريجي الجامعات الأخري وتعينهم بدرجة أدني من سائر الخريجين لذلك رفضت العمل بوزارة التربية بعد أن عينت فيها مثل سائر خريجي كليات الأزهر , وعملت معلما بمدارس وكالة غوث اللاجئين في عقبة جبر في أريحا ولعلني كنت الوحيد ممن يعمل في وكالة الغوث معلما من غير أن يكون لاجئا فلسطينيا .

تهم عجيبة مزورة تؤدي إلى السجن !!

كانت فترة عملي في منطقة أريحا أشبه بفترة سكون وهدوء لم يكن لى فيها نشاط ذو بال في المجال الحركي أو حتى الاجتماعي , وانصرفت إلى أداء عملي الذي كان يستغرق معظم وقتي إذ كنت أعمل في الغالب في عقبة جبر وأريحا والقدس وكنت حريصا على المحافظة على العلاقات الشخصية مع عدد من الإخوة بتبادل الزيارات المتقطعة معهم عندما أكون في عمان كان أخي منصور الحيارى من أكثر من كنت ألتقيه من الإخوة عندما أكون في عمان وبخاصة أيام العطل الرسمية .

وكان منزل والدي وسط مدينة عمان هو مكان لقائي بالإخوة وكان حديثنا على الأغلب لا يخلو من مدارسة للأوضاع العامة للأمة في مختلف أقطارها والأردن جزء منها , وكانت القضية الفلسطينية تحتل الجانب الأهم في تفكيرنا وكنا نرى أن أى إصلاح للأوضاع العربية لن يكون مجديا ولا مؤثرا ما لم يضع معالجة الوجود الصهيوني في فلسطين في مركز اهتمامه وخططه للإصلاح .

وفي إحدي زياراتي لعمان في أواخر عام 1960 حضر إلى منزل والدي اثنان من الإخوة الذين كنت حريصا على استمرار علاقتي بهم ,

هما منصور الحيارى وسليمان عبد العواد العربيات, ومعهما اثنان أعرف أحدهما أما الآخر فلم أعرفه ولم أره من قبل وامتدت زيارتهم في منزل الوالد قرابة الساعتين تناولنا خلالها إلى جانب الشاي والقهوة أحاديث شتى عن أوضاع البلاد العربية , وعن الحاجة الحتمية لإصلاح الأوضاع السياسية وإلى الخروج بالوطن العربي من واقع الانقسام والشرذمة إلى طريق الوحدة وأنه لا مجال للوصول إلى حال القوة والقدرة على مقاومة النفوذ الصهيوني في المنطقة دون تحقيق حد أدني من الوحدة السياسية والعسكرية وما يتبعها من استكمال دواعي القوة والتحرر من النفوذ الأجنبي في القرارات المصيرية التي تؤثر على واقع الأمة ومستقبلها ,ولم يتكرر لقاؤنا نحن الأربعة بعد ذلك.

وفي بداية السنة الدراسية 60/61 كنت عائدا من المدرسة التي أعمل بها في عقبة جبر متجها إلى منزلي في أريحا حيث أسكن مع زوجتي وطفلي الذي لم يكمل السنة الأولي من عمره وفي منتصف الطريق أوقف الباص الذي كنت فيه مع عدد من معلمي المدرسة وصعد إليه عدد من رجال الشرطة وقال كبيرهم : هل فيكم العزيزي ؟ فقلت : أنا هو , وقال لى : تفضل معنا , وحاولت وزملائي من المعلمين الاستفسار عن سبب هذا الطلب فقال : ستذهب إلى مركز المقاطعة وهناك تعرف السبب.

وهكذا نزلت من الباص إلى سيارة الجيب العسكرية ثم إلى مركز المقاطعة حيث تسلمتني هناك مجموعة أخرى عصبوا عيني وقيدوا يدي وأخذوني في سيارة جيب أخري وبعد حوالي الساعة أو أكثر قليلا توقفت السيارة وأنزلت منها معصوب العينين وأقتادوني وسط بناية لا أعرف أين هي وبعد استقبالي ببعض الركلات والضربات بكعوب البنادق فتح باب ولجت منه وأزيلت العصابة عن عيني ووجدت نفسي في غرفة مستطيلة ثلاثة أمتار أو تزيد بعرض مترين تقريبا ولها باب حديدي وفي أعلي أحد جدرانها نافذة لا أستطيع الوصول إليها لعلوها وعليها قضبان حديدية للحماية .

وخلف باب الغرفة سطلين أحدهما فيه ماء وعليه كوب معدني والآخر فيه آثار بول وفي الطرف الآخر من الغرفة وجدت ما يبدو أنه فراش وهو بطانية رمادية اللون وإلى جانبها حذاء بني وقميص عليه آثار دماء لفقتهما معا ووضعتهما على الجانب الآخر بعيد عن المكان الذي اخترته لأمد عليه البطانية .

في صباح اليوم التالي جاء حارس فتح على كوة في الباب ناولني صحنا فيه طعام لا أذكره الآن مع كوب شاي , وبعد ساعة جاء الحارس وفتح باب الزنزانة وطلب مني أن أحضر السطل المخصص للبول لأفرغه ولأدخل المرحاض , وأفهمني أن هاذ الخروج لا يتكرر إلا في اليوم التالي في نفس الموعد , وبين هذين الوقتين علىّ تدبير نفسي عن طريق السطل المخصص لذلك, وأن حاجتي للماء في السطل الآخر.

وفي اليوم الثاني أو الثالث فتح باب الزنزانة ودخل على محمد رسول الكيلاني وكال لى بعض الشتائم , وأنني عميل لعبد الناصر , ورددت عليه بعض الشتائم فخرج ولم يأمر بضربي أيا من الحراس المرافقين له.

وفي أحد الأيام فتح الحارس الشباك الصغير بباب الزنزانة وأطل على شخصان فسألاني من أنت ؟ فقلت لهما : إنني معلم في مدرسة عقبة جبر واسمي عزت العزيزي فمن أنتما ؟ فقال أولهما : أنا بهجت أبو غريبة وقال الآخر : أنا ذوقان الهنداوي , ثم انصرفا , وعلمت أنهما سجينان مثلي ولكن يبدو أنه كانت لهما بعض الامتيازات بحيث يمكنهما التحرك خارج غرفهما .

في اليوم السادس أو السابع فتح باب الزنزانة واندفع داخلا رجل طويل عليه بدله يبدو أنها كانت فخمة ولكنها مهلهلة وعليه بقع مختلفة وأغلق الباب علينا ووقف وكنت جالسا على البرش الذي لا يوجد سواه في الغرفة فابتسمت في وجهه وقلت : أهلا وسهلا , فزاد تجهمه وقال لى : من أنت ؟ قلت : أنا عزت العزيزي , معلم مدرسة , قال أتعلم من أنا ؟ فقلت : لم أتشرف بمعرفتك فقال أنا منيب الماضي , فوقفت حالا ومددت يدي وصافحته وقلت له أهلا منيب بك , تفضل اجلس ومددت له طرف البرش وقلت له : آسف فأنا لا أملك ما أكرمك به .

فجلس وهو يتلفت بقلق , ونظر إلى زاوية الزنزانة وسأل بلهجة يبدو عليها القلق والخوف معا : لمن هذا الحذاء ؟ فقلت : لا أدري , قال أظنه لفلان , هل تعلم عنه شيئا ؟ قلت : لا أدري أى شئ عن أى إنسان منذ دخلت قبل أسبوع , ثم سأل عن القميص الملوث بالدم , فقلت أيضا : لا أعلم لمن هو , فقال , إنه لفلان شخص آخر – لا أذكر أسماءهما الآن .

بقي منيب الماضي معي يومين وهو متحفظ لا يكاد ينبس ببنت شفة , وعندما رآني أتصرف بشكل عفوي وطبيعي وأؤدي الصلاة في أوقاتها , وقد سمح لى بنسخة من المصحف كنت أقرأ فيها كلما سنحت لى الفرصة فاطمأن لى وأقنعته أن يصلي معي , فاعتذر أولا بأنه لا يطمئن إلى نظافة جسده فقلت له : لا بأس فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فشرع يصلي معي بشكل متقطع .

وفي أحد الأيام قال لى لقد رأيت مناما الليلة , فقد رأيت السيدة مريم أم المسيح عليه السلام – وكان قد أعلمني أنه اعتقل وزوجته حامل – فألهمت أن أقول له : الله أعلم أنك سترزق ببنت فسمها مريم , وعلمت بعد أنه فعلا رزق ببنت وسماها مريم, وقد بقيت علاقتي به بعد أن خرج كلانا من السجن – رحمه الله -.

بقيت أسبوعين في ذلك السجن دون أن أعلم أين هو ولماذا سجنت ولم يتكلم معي أحد سوى من ذكرت , وفي إحدى الليالي أخرجت من ذلك المبني الذي علمت فيما بعد أنه مبني خاص بسجناء محكمة أمن الدولة والذي أصبح فيما بعد دائرة المخابرات العامة أخرجت إلى سيارة جيب مغلقة وأخذت إلى السجن المركزي في المحطة حيث التقطوا لى صورة وأنا أحمل رقما على صدري , وأخذوا بصمات أصابعي وأعطوني برشا مهلهلا, وسمعتهم يقولون : لا يوجد مكان في السجن فأرسلوه إلى دار الاعتقال , فأخذوني بالسيارة إلى مكان قريب فإذا هو منزل من طابقين فأنزلوني واقتادوني إلى الطابق الثاني ودفعوا بي إلى غرفة ممتلئة بأناس ينامون فيها على صفين متقابلين ستة في كل ناحية .

فوقفت وقلت : السلام عليكم ورأيت بعضهم ينظر إلى من تحت البطانية ثم يعود ليخفض رأسه ولم يرد أحد على السلام فحشرت نفسي في آخر أحد الصفين ومددت بطانيتي التي أعطوني إياها بالإضافة إلى البرش فوضعت نصفها تحتي ونصفها فوقي وجعلت من حذائي مخدة لى وحاولت النوم .

وفي صبيحة اليوم التالي استيقظ الجميع فلم أعرف منهم أحدا ولم يعرفني منهم أحد وتجنبوا أن يحدثني أى منهم حتى لم يسألني أحد منهم عن اسمي وكانوا يمضون جل وقتهم بالتحدث إلى بعضهم ولا يشركوني بأى حديث معهم وفي المساء قلت لهم : لماذا تبقون ضوء الكهرباء فشدة النور لا تساعدني على النوم , فقال لى أحدهم : لأن مفتاح الكهرباء في الخارج ولا يسمحون لنا بإطفائه , فقلت إذن نفك اللمبة قليلا عند النوم وفي الصباح نشدها , فوافقوا على ذلك , ولأن اللمبة كانت عالية تطوع أحدهم أن يرفعني لأصل إلى اللمبة وأفكها وأمسكت بها وثار الجميع بالضحك فأفلتني فهبطت إلى الأرض وانقطع سك الكهرباء وأظلمت الغرفة .

ورأس الحارس ذلك فنادي مدير ذلك السجن فجاء مسرعا ودخل الغرفة بعصاه وقال بصوت غاضب شديد من الذي قطع السلك ؟ فسكت الجميع فصاح غاصبا قولوا :من قطع السلك ؟ وإلا فقلت أنا من فعل ذلك , فأمسك بي وقال أخرج معي وأخذني إلى مكتبه وهو يصيح وسألني أنت جئت أمس فقط وتريد أن تخالف القوانين بدك تهرب ؟ فقلت له : وكيف أهرب أردت فقط أن أطفئ النور لنستطيع النوم فقال : ما اسمك؟

فقلت : عزت خليل العزيزي , فهدأ غضبه وقال لى : لو غيرك عملها لوضعته في زنزانة إنفرادية فقلت له أرجوك أن تفعل فإن الزنزانة أحسن لى من هذه الغرفة المزدحمة وأردف قائلا : أنت ابن ناس فلا تعد لمثل هذه التصرفات وأعادني إلى الغرفة .

وعندما عدت أخذ الجميع يسألوني : هل ضربك ؟ ماذا فعل؟ فقلت لهم لا شئ سوي أنه حذرني من العودة لمثل ما فعلت, فزاد نفور المجموعة مني وإعراضهم عني .

وفي اليوم الثالث سمح مدير السجن لجميع السجناء في الغرف الأخرى بالاختلاط مع بعضهم فوجدت في الغرف الأخرى عددا ممن أعرفهم منهم المرحوم إبراهيم الطاهر , وعددا من آل الدباس فعرفوني وقالوا لزملاء الغرفة هذا ابن فلان ,فحدثوني بعدها تجنبوني وقال لي حسبنا أنك ضابط مخابرات وأنك افتعلت قصة اللمبة لتقدم تقريرا عنا .

وبعد ستة أيام في ذلك المعتقل سمح لوالدي ووالد زوجتي الحاج عبد اللطيف أبو قورة – رحمهما الله – بزيارتي لمدة ربع ساعة فقط أحضرا لى بعض الملابس , وعلمت عندئذ أنه اعتقل معي في نفس اليوم منصور الحياري وسليمان عبد العواد العربياتوهكذا غلب على ظني أن سبب اعتقالنا هو تلك الزيارة التي التقينا خلالها بالضابط وصديقنا ابن أخته , وأنه قد يكون اتهمنا بتهم تستوجب الاعتقال لغاية في نفسه .

كان اعتقالنا بعد حادث نسف رئاسة الوزراء الذي ذهب ضحيته المرحوم هزاع المجالي وشغلت أجهزة أمن الدولة بذلك الحدث ولم يجد المسئولون وقتا لبحث موضوعنا نحن الثلاثة وهكذا أمضينا شهرين في الاعتقال .

استدعيت بعدها للتحقيق وحقق معي محمد رسول زيد الكيلاني ولم تزد مدة التحقيق على ربع ساعة فقد سألني عن ذلك الضابط وقلت له : لقد زارني مع ابن أخته صديقي وكان معنا أيضا كل من منصور الحياري وسليمان عربيات , ولم يتعد حديثنا استعرض أوضاع البلاد العربية والخطر .

الصهيوني الذي يهدد الأمة ولم نتحدث عن أى عمل يشكل مسا بأى مجال من مجالات أمن البلد أو أى من المسئولين فيها .

وهكذا وفي حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرا غادرت مكتب محمد رسول في جبل عمان قرب الدوار الثالث , ونزلت مشيا إلى منزل عمي الحاج عبد اللطيف أبو قورة وسلمت عليهم ثم إلى منزل والدي وكلاهما في جبل عمان .

أمضيت السنوات الثلاث من 1957 إلى 1961 منصرفا إلى عملي المهني معلما للغة العربية في مدرسة عقبة جبر ثم عام 1962 في الكلية العلمية الإسلامية ثم إلى عام 1964 في كلية الحسين ووزارة التربية .

حاولت عام 1964 العودة إلى مصر لاستئناف دراستي العليا ووسطت المرحوم سليمان النابلسي رئيس الوزراء الأسبق الذي كان على صلة جيدة بجمال عبد الناصر أن يحصل لى على عفو من عبد الناصر وتقدمت عن طريقة بطلب موجة إلى الرئيس جمال عبد الناصر بالسماح لى باستئناف دراستي في مصر وذكرت في طلبي أنني أحب مصر والدراسة فيها , وإنني لم أرتكب ما يمس مصر أو منها أو أحدا من رجالها ولكن المرحوم سليمان النابلسي أعلمني أن هذا الأسلوب لا يليق بمخاطبة سيادة الرئيس وأن على أن أعلن ولائي المطلق لقيادة الرئيس عبد الناصر قائدا للأمة العربية ورائد تحررها وعنوان عزها وشرفها وهكذا أيقنت أن باب العودة إلى مصر ما زال موصدا في وجهي فصرفت النظر عن التفكير فيه .

هاجس القضية الفلسطينية

بقي هاجس العمل لأجل فلسطين والمساهمة بما يستطيع الإنسان المسلم عمله لمقاومة الاغتصاب اليهودي لفلسطين مسيطرا على تفكيرى وتفكير عدد من الشباب المسلم لقد استقر في نفوسنا أن الدول العربية ليست في وضع سياسي ولا عسكرى يمكنها من العمل على تحرير فلسطين, وأن معظم جهود القادة العرب إنما هي مركزة على المحافظة على مواقعهم في السلطة وزيادة قبضتهم على الشعوب وأن أى تفكير في الوحدة العربية غير وارد في برامجهم هذه الوحدة التي لن يستطيع العرب عمل شئ لفلسطين دون تحققها .

لذلك اتجه تفكيرنا إلى البحث عن طريق آخر ضمن قدراتنا لمتواضعة لإيذاء الكيان اليهودي وتهديد حياة سكانه حتى لا ينعموا بالاستقرار والاستمتاع بأرض فلسطين وخيراتها التي شردوا عنها أهلها .

ونظرنا كذلك في واقع الحركات الإسلامية القائمة وكان أبرزها تنظيم الإخوان وبعده حزب التحرير فلم نر في برامج أى منهما خطة محددة للعمل للقضية الفلسطينية سوي الشعارات العامة الداعية للوحدة الإسلامية وانتظار قيام الدولة الإسلامية التي يفترض فيها معالجة جميع قضايا العالم الإسلامي وأن هذه التطلعات إنما هي أقرب للأحلام والأماني البعيدة إن لم تكن مستحيلة في الواقع الذي تعيشه الشعوب الإسلامية في كل أرجاء الأرض .

في ظلال هذا الواقع وجدنا – وأعني مجموعة الشباب التي أشرت إليها سابقا – أن علينا أن نعمل بمعزل عن الحركات الإسلامية القائمة .

وأن علينا التفكير بعمل غير الوعظ والعبادة من أجل فلسطين فقررنا أن نشكل مجموعة خاصة لا تعني إلا بشئ واحد وهو القيام بأعمال تقود إلى إيذاء الكيان الصهيوني في فلسطين عن طريق أعمال فدائية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة .

ومن هذا المنطلق أ‘دنا الاتصال بنجيب جويفل الذي أبدي استعداده لدعم مثل هذا العمل وكنا قد عرفنا آنئذ صلته بالنظام المصري , وأوضح لنا أن صلته بالنظام لن تؤدي بأى حال إلى إيذاء أى مسلم سواء في مجموعتنا أو في الحركات الإسلامية وأنه لم يتجه إلى التعاون مع النظام المصري آنذاك إلا لأنه يأمل أن يستطيع الحصول على دعمه في هذا المجال بالذات , وأبدي استعداده لتزويد مجموعتنا بالمعلومات التي تساعد على ممارسة النشاط الذي كنا بصدده داخل فلسطين المحتلة .

كان أول هدف اتجهنا إلى دراسته يقع في منطقة طبرية وبيسان لأهمية تلك المنطقة الحيوية وبخاصة أنها المصدر الرئيس لتزويد الكيان اليهودي بالمياه وعندما بدأنا دراسة واقع المنطقة وما يمكننا القيام به فيها , وجدنا أننا بحاجة إلى مزيد من المعلومات وإلى زرع بعض العناصر في المنطقة , كما أننا بحاجة إلى دعم مادي قد نعجز عن تأمينه بالسرعة اللازمة سيما وأننا كلنا كنا موظفين في الحكومة أو في بعض الشركات ولم نكن قادرين على مفاتحة أحد من المواطنين الذين يمكن أن يمدوا لنا يد العون لئلا نتعرض لكشف أنفسنا ونحن لم يقو عودنا بعد .

وشعرنا بتباعد نجيب جويفل عنا بعد أن تأزم الوضع من جديد بين النظام المصري والإخوان في مصر وخصوصا إثر موجة المحاكمات التي أدت إلى إعدام عدد آخر من قادة العمل الإسلامي في مصر وعلى رأسهم المفكر والأديب المرحوم الشهيد سيد قطب .

في ظل هذا الوضع علمنا أن مجموعة من الشباب المسلم الذين عرفنا بعضهم في مصر أثناء الدراسة في الخمسينات يقيمون في الكويت وأنهم شكلوا مجموعة تعمل للقضية الفلسطينية وأنه بحكم وجودهم في الكويت البلد النفطي الغني فهم أقدر على تأمين الدعم المالي للازم لمثل ما ننوي القيام به , وعلمنا أن تنظيمهم سابق لنا وأنهم استطاعوا أن يضموا إليهم عددا أكبر من الشباب الفلسطينيين ممن يعملون في السعودية ودول الخليج الأخري .

وعرفنا أن هذا التنظيم أخذ اسم حركة تحرير فلسطين ويرمز إليه بكلمة ( حتف ) الذي قلبوا تنظيم حروفه ليصبح ( فتح) وعلم القائمون على التنظيم في الكويت بنا , وعن طريق أحدنا طلبوا أن نجتمع بهم فاتفقنا على إرسال اثنين منا إلى الكويت للتفاهم معهم وفعلا ذهب اثنان من مجموعتنا إلى الكويت وعندما عادا أوضحا لنا أن التنظيم في الكويت يرحب بانضمامنا إليه وأن الأهداف تكاد تكون واحدة وهي العمل على تحرير فلسطين وإزالة الكيان الصهيوني منها .

غير أن لهم تحفظا رئيسيا واحدا وهو أنهم يرون أن هذه المرحلة من العمل في ظل الظروف الراهنة وسيطرة فكرة القومية العربية على الشارع العربي بقيادة عبد الناصر لا تسمح بأن تصطبغ الحركة بالصبغة الإسلامية ووجدوا أن التجربة الجزائرية هي الأنموذج الأفضل في هذه المرحلة لذلك فإن الحركة يجب أن تقوم على الأساس الفلسطيني البحت , وحيث أننا كنا قد اتفقنا في مجموعتنا على أن يكون عملنا ضمن إطار الفكر الإسلامي وأن القضية الفلسطينية ليست للفلسطينيين ولا حتى للعرب وحدهم وإنما هي قضية تهم العالم الإسلامي , وأن واجب تحريرها واجب ديني أولا ثم إنه واجب قومي وفلسطيني .

وعندما ناقشنا هذا الأمر فيما بيننا تبين لى أن الأكثرية – وكنا ستة أشخاص – تميل إلى قبول الانضمام لتنظيم الكويت وقبول اشتراطهم لأننا لا نملك هنا في الأردن الإمكانات التي تتوفر في الكويت ولقد وجدت نفسي أخيرا منفردا عنهم فقلت لهم : إنني أقدر ظروف العمل وضعف إمكاناتنا وحدنا , ولا ألومكم على التوجه إلى العمل مع الإخوة في الكويت ولكني عن نفسي لا أستطيع أن أشترك في عمل على أساس قومي أو إقليمي لا سيما وأنا من حيث النشأة والانتماء لست فلسطينيا فأبي وجدي ووالد جدي ولدوا في السلط وانتمائي لفلسطين فقط لأنها أرض الإسلام وفيها المسجد الأقصى مسري رسول الله صلي الله عليه وسلم لذلك فإني أري أنه في المدى البعيد لابد من النظر إلى القضية الفلسطينية على هذا الأساس وحتى لا أكون حجر عثرة في العمل لأجل فلسطين فإنني أنسحب من العمل وأسأل الله لكم وللإخوة في الكويت التوفيق والنجاح في العمل لأجل فلسطين حتى تحرر من الاحتلال اليهودي الغاصب .

وهكذا انضم الإخوة إلى حركة فتح ومع الوقت أصبح لكل منهم موقع متقدم في الحركة وما زلت أكن لهم جميعا المحبة والتقدير وأسأل الله لمن مضي منهم الرحمة والمغفرة .

جمعية العروة الو ثقي

كثير من الذين كانوا أعضاء نشيطين في العمل الإسلامي في جماعة الإخوان وغيرها من واجهات العمل الإسلامي لم يستطيعوا الاستمرار مع الإخوان أو غيرهم لأسباب قد يصعب إحصاؤها وقد اعتادوا أن يكونوا فاعلين في الحركات التي كانوا فيها لقد أخذوا يشعرون أنهم بحاجة إلى مجموعة ينتمون إليها وينظمون أنفسهم للعمل للإسلام من خلالها وكنت أشعر أن أكثر هؤلاء تحرقا لعمل تنظيم هو الحاج عبد اللطيف أبو قورة .

وعندما عرضت عليه فكرة تنظيم عمل إسلامي مستقل عن جماعة الإخوان وغيرهم من التنظيمات الإسلامية استحسن الفكرة وشرع كل منا يتصل بمن يري أن يمكن أن يتجاوب مع مثل هذه الفكرة .

وهكذا دعونا إلى اجتماع تمهيدي هذه الغاية في منزل الحاج عبد اللطيف أبو قورة وحضر الاجتماع – على ما أذكر – كل من الحاج إبراهيم منكو , والمحامي يوسف المبيضيين وعبد الباقي جمو ومنصور الحياري وحسن البرقاوي وحسن التل, ود . عبد السلام العبادي وغيرهم .

وتداول الحضور فكرة إنشاء حركة إسلامية جديدة وطرحت أسماء عدة لمثل هذه الحركة واستقر الرأي على تسميتها ( العروة الوثقي ) وهو اسم مستمد من القرآن الكريم منقوله تعالي : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم ) .

وقد تواصل عقد اجتماعات عدة لإنضاج الفكرة وكانت تعقد الاجتماعات في منازل المحرمومين الحاج عبد اللطيف أبو قورة والحاج إبراهيم منكو وعزت العزيزي, وكانت أولي الخطوات أن يخرج التنظيم على أساس جمعية ترخص من قبل الجهات المعنية في الحكومة وقد كلفت لجنة مصغرة لوضع النظام الداخلي للجمعية من كل من المرحوم حسن التلوعبد السلام العبادي وعزت العزيزي وتم وضع النظام الداخلي الشامل لأهداف الجمعية ووسائل وأساليب عملها وبعد إقرار النظام المقترح من قبل المجموعة الأكبر من الأشخاص , تم التقدم لوزارة الشؤون الاجتماعية !

لترخيص الجمعية وسجلت لهذه لغاية الأسماء التالية أعضاء مؤسسون للجمعية وهم

الحاج إبراهيم منكو
الحاج محمد على بدير
الحاج أمين مرعي
الأستاذ حسن البرقاوي
الأستاذ ضيف الله الحمود
السيد جميل بركات
الأستاذ أحمد العناني
الحاج عبد اللطيف أبو قورة
الحاج جمال عصفور

وقد صدر الترخيص للجمعية من وزارة الشئون الاجتماعية بتاريخ 10 / 3/ 1965 وبعد صدور الترخيص تم ضم عدد آخر من الأعضاء وبخاصة الشباب للهيئة العامة للجمعية وتم استئجار بناية في جبل عمان مقرا للجمعية ودعيت الهيئة العامة لأول اجتماع لها في مقر الجمعية وتم انتخاب أول هيئة إدارية للجمعية على النحو التالي :

الحاج إبراهيم منكو رئيسا للجمعية
الحاج عبد اللطيف أبو قورة نائبا للرئيس
عزت العزيزي أمينا للسر
عبد الكريم الخطيب أمينا للصندوق
منصور الحياري عضو
وليد الحاج حسن عضو
أمين العسعس عضو
عبد السلام العبادي عضو
أحمد العناني عضو

وقد نشطت الجمعية في المجالات الثقافية المتعددة ونظمت عددا من المحاضرات والندوات والمؤتمرات في جوانب الفكر الإسلامي وقضية فلسطين , وأقامت بعض الاحتفالات في المناسبات الإسلامية مثل مناسبة الإسراء والمعراج والمولد النبوي الشريف , وكان يتردد على مقرها في جبل عمان أعداد كبيرة من رجال الفكر الإسلامية والمهتمين في القضية الفلسطينية وأعداد من الشباب والمثقفين .

إلا أنه حدث في نهاية عام 1966 ما اثر تأثيرا بالغا على نشاط الجمعية فقد انتقل إلى جوار ربه كل من رئيسها الحاج إبراهيم منكو , ونائبه الحاج عبد اللطيف أبو قورة وحصل أمين سر الجمعية عزت العزيزي على بعثة لإتمام دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية لقد كان هؤلاء الثلاثة الأكثر فعالية في متابعة أنشطة الجمعية وتوثيق صلتها بجمهورها والأقدر على تأمين الموارد التي تكفل استمرارها مثل أجرة المقر والمصاريف اللازمة لأنشطة الجمعية .

في ظل هذه الظروف وحرصا على استمرارها وعدم إغلاقها فقد تم الاتصال بعدد من أعضاء الهيئة العامة للجمعية ممن أبدوا استعداد لبذل الجهد لمتابعة أنشطة الجمعية وإبقائها فاعلة ومستمرة واختير عدد منهم ليكونوا مجلسا لإدارة الجمعية خلفا للمجلس السابق الذي أبدي بقية أعضائه عدم الرغبة في استمرارهم بعد غياب الرئيس ونائبه وأمين سر الجمعية وقد استمرت هذه الجمعية وتناوب عليها عدد من الإسلاميين في الأردن, وما زالت حتى الآن من الجمعيات الفاعلة التي تسد ثغرة في العمل الإسلامي , وإن لم تكن على المستوى الذي أراده مؤسسوها رحم الله من توفاه الله منهم وجزاهم جميعا خير الجزاء وجعل عملهم خالصا لوجهه .

كارثة عام 1967

بعد أن أيقنت أنني لا أستطيع أن أتم دراستي العليا في مصر , توجهت وجهة أخري فتقدمت للحصول على بعثة من وزارة التربية والتعليم للدراسات العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في مجال التربية وحصلت على القبول لدرجة الماجستير في الإدارة التربوية بجامعة ولاية ( الينوي) وغادرت إليها في نهاية عام 1966م.

لقد كنت مضطرا للانقطاع التام للدراسة وبذل أقصي الجهد لأعوض ما استطعت عن ضعفي في اللغة الإنجليزية بعد انقطاع عنها يقرب من خمسة عشر عاما ولم يكن في الجامعة في حينها أى عربي لا من الطلبة ولا من الهيئة التدريسية وهكذا أمضيت الأشهر الستة الأولي منقطع الصلة عن الأحداث التي تجرها في الوطن سوي ما يصلني من رسائل الأهل التي كانت في الغالب لا تعدو أمور الأسرة والأهل .

وبدأت أخبار المنطقة العربية تظهر في وسائل الأعلام الأمريكية بقوة عندما قامت أزمة قناة السويس بين مصر وإسرائيل وطفق من أعرفهم من الأمريكان يسألونني عن أحوال البلاد العربية وبخاصة مصر والأردن وعن الفلسطينيين ولقد فوجئت بجهل معظم الأمريكان حتى أساتذة الجامعة بأحوال الشعوب الأخري .

وعندما تفاقمت الأمور بين مصر بقيادة عبد الناصر وبين الدولة العبرية كان السؤال الذي يطرح دائما : هل تعتقد أن الحرب ستنشب في المنطقة ؟ وهل تهديد مصر والعرب بالقضاء على إسرائيل حقيقي ؟ فكنت أجيبهم بأنني لا أتوقع أن تتورط مصر بأي تصرف يؤدي إلى الحرب وكنت أعلل ذلك بأن ثمة سببين رئيسين يجعلان مصر في حالة عجز عن شن الحرب آنذاك , وهما أولا : أن الجيش المصري متورط في اليمن ويعاني من تورطه معاناة شديدة وحتى لو قرر الانسحاب من اليمن فإنه يحتاج إلى وقت وجهد ولن يكون ذلك قريبا وثانيا : أن الجبهة الداخلية في مصر غير متماسكة وأن الشعب المصري يعاني الكثير من القهر والاستبداد .

وعندما توترت الأوضاع السياسية وقررت مصر إغلاق خليج العقبة طغت أخبار احتمال وقوع الحرب على جميع وسائل الإعلام في أمريكيا .

وبدأت كثير من المؤسسات المدنية تتصل بكل من يمكنه إلقاء أى ضوء على الأوضاع في المنطقة العربية وبخاصة القضية الفلسطينية وحيث أنني كنت العربي الوحيد في تلك الجامعة فقد كنت أدعي لشرح الإسلام أحيانا وأحيانا للتحدث عن القضية الفلسطينية وفي إحدي هذه اللقاءات سئلت : ماذا تتوقع إذا وقعت الحرب بين العرب وإسرائيل ؟

لقد كنت موقنا على الرغم من التهويش الإعلامي المصري بخاصة والعربي بعامة أن أحوال الأمة العربية بمنتهي السوء فأجبت على ذلك السؤال : بأنني أتوقع أن نفقد الضفة الغربية التي أعلنت الأردن ضمها للمملكة وذلك أنها الخاصرة الأضعف في المنطقة العربية وأن تحتل إسرائيل قطاع غزة وتكون بذلك قد أجهزت على فلسطين كاملة .

ولم يدر في خلدي قط أن تتمكن إسرائيل من احتلال أجزاء شاسعة من مصر وسوريا تزيد عن أضعاف حجمها وعندما وقعت الحرب لم أتصور أيضا أن تنتهي بهذه السرعة بل لقد شرعت بإعداد نفسي للعودة إلى البلاد لعلي أستطيع المساهمة بالحرب التي سوف تطول بيننا وبين اليهود .

وفي ثالث أيام الحرب لم أصدق ما كنت أشاهده على التلفاز أو أسمعه من وكالات الأنباء آنذاك وحيث لم أجد أحدا أسأله فقد اتصلت بصديقي الدكتور أمين محمود الذي كان يدرس آنذاك في جامعة جورج تاون في واشنطن إذ اعتقدت أنه يعلم من الأنباء ما لا تذكره وسائل الإعلام ويبدو أنه كان أيضا تحت تأثير ما يسمعه من الإعلام العربي لوجوده قرب السفارات العربية في واشنطن فطمأنني وقال لى : إن عبد الناصر سوف يحرك الصواريخ التي حصل عليها من الاتحاد السوفيتي وسوف تسمع قريبا الأخبار السارة عن الجبهة .

وفي أول اتصال هاتفي استطعت أن أحصل عليه مع الأهل بعد اليوم الثامن من الحرب قلت لهم : إنني سأقطع دراستي وأعود لأساهم في المجهود الحربي الذي سيكون طويلا فقالوا لي : لقد انتهي كل شئ وأعيد فتح السينمات وسائر الأماكن العامة وانتهت كل مظاهر الحرب قبل اليوم لعاشر على بدئها لقد قال لى ذلك في اليوم السابع للحرب صديق أمريكي كان عميد لشئون الطلبة في الجامعة وهو الدكتور ريتشارد ترومبي فلم أصدقه في حينها بل لقد عرض على أن يساعد في حصولي على الإقامة الدائمة في أمريكا واستقدم عائلتي فاعتذرت وقلت له : إنني أفكر بقطع دراستي والعودة للأردن .

وبعد شهر أو نحو ذلك سافرت إلى واشنطن في زيارة لصديقي أمين محمود فلم أجد عنده أو عند سواه ممن قابلت من العرب سواء من الطلبة أو العاملين في السفارات العربية سوى الإحباط والألم العميق مما حصل .

قبل سفري إلى الولايات المتحدة عام 1966 تعرفت إلى دبلوماسي أمريكي من أصل تركي قابلته في عمان وزارني في واشنطن وتحدثنا طويلا عن الكارثة التي حلت بالأمة وكان أشد ما يؤلمه ضياع المسجد الأقصى وكان يفتخر أن الدولة العثمانية على ما كانت تعانيه استطاعت أن تحافظ على القدس والمسجد والأقصى خمسين عاما بعد قضاء الغرب على دولة الخلافة الإسلامية إثر الحرب العالمية الأولي في بداية القرن العشرين وقد شكي هذا الدبلوماسي من أسلوب السفراء العرب في واشنطن في التعامل مع القضية الفلسطينية , ومن ضعف جهودهم في محاولة التأثير على السياسيين وأعضاء الكونجرس الأمريكي وانتقد أسلوب شرحهم لوجهة النظر العربي تجاه القضايا التي تهم العالم العربي وبخاصة القضية الفلسطينية وقال : إن أقصي ما يقوم به السفراء هو إقامة الحفلات التي يبالغون فيها بالبذخ في تقديم الطعام والخمور بينما يستطيعون عقد اللقاءات وإلقاء المحاضرات في الأندية والمحافل السياسية والمدنية ويبدو أن مستوى السفراء العرب الثقافي والسياسي أدني بكثير من أن يستطيعوا ذلك وأن معظم الدبلوماسيين العرب مشغولون بالاستفادة من مزايا وإعفاءات المواقع الدبلوماسية في جمع الأموال والحصول على الاستمتاع إلى أبعد حد وقد قمت مرة بزيارة للسفارة الأردنية ورأيت الموظفين فيها يتعاونون لإفراغ حمولة من صناديق عدة لأحدهم وعندما اقتربت وجدت أنها كلها صناديق وسكي وعلمت أنها حصة ذلك الموظف من المشروبات الكحولية المعفاة من الرسوم وقد أظهرت اشمئزازي وغضبي من ذلك وقال لى أحدهم إن الجميع يفعلون ذلك ليستعينوا على تحقيق المستوي الذي يتطلعون إليه من المعيشة في فترة انتدابهم الدبلوماسي .

غير أن دبلوماسيا واحدا كان مميزا , وكان له نشاط ملموس في المحافل الأكاديمية والمجتمع الدبلوماسي وصانعي القرارات في الولايات المتحدة وبخاصة أعضاء الكونجرس الأمريكي دفاعا عن القضايا العربية بعامة والفلسطينية على وجه الخصوص وكان ذلك الرجل هو الدكتور محمد الفرا رئيس البعثة الأردنية في هيئة الأمم المتحدة في نيويورك, وقد زرته في شهر رمضان في مكتب البعثة وكان الوحيد من أعضائها صائما .

وفي لقاء مع بعض الأساتذة والمثقفين الأمريكان قال لى أحدهم : إن أقوي وسيلة للتأثير في الإنسان الأمريكي هو القوة إن استرجاع قرية من قري فلسطين وتحقيق انتصار في معركة مهما كانت صغيرة أفضل من كل ما يقوم به العرب من الشكوى من ظلم اليهود وما أصاب العرب من تشريد وقتل واحتلال بلاد ونهب أموال .

لقد وجدت من خلا متابعتي لما يرد من أخبار الوطن العربي , أن معظم من يعدون من المثقفين العرب ما زالوا مبهورين بالزعامات القومية وبخاصة عبد الناصر كانوا يؤمنون بقدراتها الخارقة, وأنه لن تمضي سنة حتى يسترجع ما فقد في حرب سبعة وستين بل ويستعيد فلسطين كلها .

لقد سألني أحد الأساتذة الأمريكان بعد انتهاء الحرب واتضاح حجم الكارثة ماذا تتوقع بعد الذي حصل ؟ هل تعتقد أن زعماء العرب سيعاودون الكرة لاسترجاع ما فقدوه وبخاصة مصر وسوريا اللتان فقدتا أجزاء شاسعة هي سيناء والجولان ؟ وكنت أقدر أن الدول العربية بما تملك من إمكانات بشرية واقتصادية سوف تستعيد قدرتها , وقدرت أنها ستحتاج إلى عشرين سنة لإعادة بناء قوتها واسترجاع ما فقدته في تلك الحرب الخاطفة ولم يخطر على بالي أو بال أى امرئ آنذاك أن أربعين سنة وأكثر لن تكون كافية لأولئك الزعماء وأنهم سوف يغادرون الدنيا وهم يحملون أوزار تلك الحقبة المظلمة التي كرسوا فيها التشرذم والتفكك مما أدي إلى تلك الهزيمة المنكرة .

بدء النشاط الإسلامي في الولايات المتحدة

أثناء تمضيتي للسنة الدراسية في الولايات المتحدة زرت أكثر من منطقة ومدينة فيها مثل واشنطن العاصمة ونيويورك وبوسطن ولوس أنجلس وسان فرانسيسكو وإيست لا نسنج والتقيت مع عدد من الطلبة العرب وبعض المهاجرين من الأقطار العربية وبخاصة من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين .

وكذلك قمت بزيارة عمي في بنما الذي هاجر إليها عام 1930 وبقي فيها منذ ذلك الوقت .

لقد تألمك كثيرا من أحوال العرب في تلك البلاد فقد وجدت أن المهاجرين منهم قد انصرفوا بكليتهم إلى العمل الدؤوب ليجمعوا أكثر ما يمكنهم من المال لينفقوا على أسرهم الفقيرة في بلادهم أو ليجمعوا ثروة يعودون بها ليبدؤا حياة أفضل من التي عاشوها من قبل .

وفي ظل سيطرة هذه الأحوال لم يكونوا يلتفتون إلى دينهم أو ثقافتهم أو حتى لغتهم ومن تزوج منهم من سكان البلاد التي أقاموا فيها كادوا أن يتحولوا إلى ما كانت عليه أزواجهم من حيث السلوك أو القيم وحتى الدين فقد كان كثير منهم يترددون على الكنائس مع زوجاهم وأبنائهم مع أنهم مسلمون .

أما الطلبة العرب فإن معظمهم قد انخرط في الحياة الأمريكية من إقبال على معاقرة الخمر أو الارتماء في العلاقات الجنسية سواء أكانت زواجا للحصول على الجنسية أم للمتعة وقضاء الإرب .

لقد شعر بعض الطلبة العرب الذين قابلتهم في جامعة وسكسن أثناء زيارتي لهم أنه لا بد ّمن عمل شئ للحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للطلبة العرب في الولايات المتحدة وشرع عدد منهم من المصريين والسودانيين والأردنيين وغيرهم وبعض أبناء البلاد الإسلامية التواصل لتأسيس رابطة للطلبة المسلمين واستطاعوا –فعلا – أن يؤسسوا في ذلك العام رابطة الطلبة المسلمين .

وقد دعاني الأخ محمود الرشدان آنذاك إلى الانضمام إليهم واقترح على أن أنتقل من الجامعة التي كنت فيها إلى جامعتهم للانضمام إليهم للعمل لأجل الإسلام من خلال الرابطة , وكان يرون أن العمل للإسلام في أمريكا قد يكون فاتحة لعمل إسلامي عالمي لما يتمتع به الناس هناك من حرية وقدرة على الاتصال أكثر من البلاد العربية التي كانت ترزح تحت نظم استبدادية تضطهد كل من يعمل للإسلام خوفا على اقتلاعها لما كانت تمارسه من بغي وعدوان وتبعية للقوى الاستعمارية وتكريس للإقليمية والتفكك .

وقد حاول بعض أولئك الإخوة إقناعي بعدم التعجل في الدراسة لبرنامج الماجستير لأطيل فترة إقامتي في الولايات المتحدة للمساهمة في العمل الإسلامي .

لقد أوضحت لهؤلاء الإخوة أمورا كنت على قناعة تامة بها :

أولا : إن ظرفي الخاص لا يسمح لى بالبقاء فقد تركت ورائي زوجتي وأربعة من الأبناء لا أستطيع إطالة الغيبة عنهم ولا أستطيع استقدامهم .
ثانيا : إن العمل للإسلام في أى بلد غير إسلامي ما لم يكن منبثقا ومتكئا على بلد إسلامي يكون أنموذجا للنظام الإسلامي فالناس لا يتقبلون الفكر المجرد عن النموذج وليس ثمة أى نموذج لنظام إسلامي أو قريبا من الإسلام يقدم للناس .
ثالثا : إن إقامة نهضة إسلامية لا يمكن أن يكون لها ثمار فاعلة إلا ضمن مجتمع مسلم وأمة مسلمة وإن محاولة إقامة مجتمع إسلامي وسط الحضارة الغربية الجارفة قد يكون مستحيلا , وإن العمل لإعادة بناء المجتمع الإسلامي يجب أن ينطلق من بلاد الإسلام أولا .

وقد أوافق أن الإقامة في الغرب قد تكون أكثر راحة وإمتاعا وبخاصة في جو الحرية وغير الفكرية ولكن لا يمكن أن تكون أقرب إلى رضا الله والعمل للإسلام على المدى البعيد .

ما بعد الهزيمة والكارثة ..... السراب والأمل

عندما عدت إلى الأردن مطلع عام 1968 وجدت قلوب كل من أعرف من الشباب المؤمن تفيض حزنا وألما وأن النفوس تعيش حيرة الكل يسأل : ماذا نستطيع أن نعمل ؟ هل يجوز لنا أن نستمر في حياتنا الرتيبة نأكل ونشرب وننام ونصحو على هذا الواقع المذل ؟

لقد أصبح الشعور الغالب على الناس – وبخاصة الشباب المسلم – النقمة والاحتقار للأنظمة الحاكمة التي أدت إلي هذه الهزيمة المهينة التي أضاعت بقعة من أقدس بقاع الإسلام التي روتها دماء آلاف الشهداء منذ الفتح الإسلامي في الخلافة الراشدة إلى شهداء الحروب الصليبية إلى شهداء الغزو المغولي, في حرب خاطفة أضاعت جهد أمة الإسلام في الحفاظ عليها والبالغ ألفا وأربعمائة سنة.

على الرغم من أن معظم جماهير الشعوب العربية ما زال مخدوعا بالزعامات القومية واليسارية ويعيش مع أماني سرابية بأن ماردهم سوف يصحو من الضربة ويعيد الكرة ويستعيد ما فقد وقد يستعيد فلسطين كلها , ويقضي على الدول الصهيونية لقد كان هؤلاء النفر من المخدوعين بتلك الزعامات ويرون في بقائها بعد الهزيمة المنكرة نصرا للقومية والتقدمية .

التقيت أحد رموز الناصرية في مطلع عام 1968 وقلت له : أتري ما فعلت زعاماتكم في الأمة ؟ وكيف أضاعوا بقية فلسطين وأضعافها من الوطن العربي في ظل شعاراتكم الزائفة ؟ فقال لى : انتظر ولن يمضي عام واحد حتى يتحقق النصر على يد القائد , فقلت له هل تعاهد الله على الكفر بقيادته إن لم يستطع أن يفعل شيئا حتى خمسة وعشرين عاما من تاريخ الهزيمة ؟ فلم يقبل بذلك لقد استطاع النظام المستبد بآلته الإعلامية التي لا يملك سواها أن يؤصل في النفوس أن نصر الأعداء ليس في احتلال الأرض واستباحة المقدسات وإنما في إزالة النظام التقدمي وما دام النظام قادرا على البقاء فإن الأمر لا يعدو أن يكون خسارة معركة سيتبعها انتصارات .

في ظل آلام الواقع المبرحة والأماني الخادعة لاحت بوادر الأمل في حركة المقاومة الفلسطينية وعندما حصلت معركة الكرامة استطاعت حركة المقاومة الفلسطينية ( فت) وأصغر جيش من الجيوش العربية وهو الجيش الأردني أن يصدأ معا الهجوم اليهود المباغت , ويلحقوا بالجيش الصهيوني – الذي أصبح أسطورة عالمية – هزيمة منكرة مخلفا وراءه في غور الأردن آلياته ودباباته وبعض قتلاه .

لقد كانت معركة الكرامة نقطة الضوء الساطع في ظلمة الهزيمة فأعادت إلى كثير من النفوس بريق الأمل وأن هذه الأمة ما زالت قادرة على تجاوز مرارة هزيمة النظم السياسية الفاشلة .

قد لا يكون لموقعة الكرامة تأثير كبير على جميع الأقطار التي منيت بهزيمة 1967 مثل مصر وسوريا ولكن كان لها أكبر الأثر على الأردن التي كان أهلها جميعا أكثر احتكاكا بالقضية الفلسطينية وتعايشا معها وامتزاجا مع سكان فلسطين من قبل نكبة 1948م, وما بعدها إلى كارثة عام 1967م.

لقد استقبلت الأردن أكثرية الذين هجروا من فلسطين من قبل الكيان الصهيوني عام 1948 فازداد التلاحم والتداخل بين سكان ما كان يعرف بشرق الأردن وبين الفلسطينيين المهجرين الذين أصبحوا أكثر من نصف سكان المملكة الأردنية .

هذه العوامل جعلت أرض الأردن لمكان الأخصب لحركة المقاومة الفلسطينية وقد تسابقت الحركات السياسية على اختلاف أصولها الفكرية على تشكيل حركات مقاومة على غرار حركة فتح وامتلأت الساحة العربية وبخاصة في الأردن بحركات المقاومة منبثقة عن الأحزاب اليسارية والقومية , وبعضها شكلتها النظم العربية على اختلاف مرتكزاتها الفكرية وفلسفة أنظمتها السياسية .

لقد كان معروفا للجميع أن حركة فتح ولدت من رحم الحركة الإسلامية فقد كان معظم مؤسيسها من شباب الإخوان المسلمين , ولكن عندما كبرت الحركة خرجت عن طور الفكر الإسلامي أصبح واقعها مزيجا من الإسلامية والقومية والإقليمية لقد كان يحز في نفوس الشباب المسلم سواء أكانوا في صفوف حركة الإخوان أم كانوا من الذين خرجوا من التنظيم كان يحز في نفوسهم أن لا يكون للإسلام و العمل الإسلامي دور في المقاومة .

وبحكم علاقتي السابقة بحركة فتح فقد رحبت قيادتها بتشكيل إسلامي ضمن الحركة سواء من قبل الإخوان المسلمين أم من الإسلاميين المستقلين عن تنظيم الإخوان .

التجربة مع حركة فتح

لم يمض وقت طويل على معركة الكرامة , حتى شكل الإخوان مجموعة من شبابهم تحت جناح حركة فتح وتشكلت مجموعة أخرى من الإسلاميين من غير الإخوان وتوليت قيادتها والإشراف على تكوينها واخترنا لها مكانا قريبا من أحد معسكرات فتح في منطقة سيل الزرقاء بين جرش وعمان .

انضم إلى هذا المعسكر التدريبي مجموعات من الشباب من المنتسبين لتجمعات دينية في الأردن من غير الإخوان المسلمين كانت أكثريتهم من شباب الحركات الصوفية في عمان وإربد خاصة ومن بعض الشباب المسلمين غير المنتسبين لأى تنظيم ديني .

ورحبت قيادة حركة فتح بالفكرة وتعهدت بمد المعسكر بالدعم الفني من حيث تدريب المنتسبين وبالدعم المادي إذا لزم ذلك, وكان عدد من الإخوة الذين كنت معهم في الإخوان المسلمين , تركوا التنظيم , يمدون المعسكر بما يحتاجه دون أن نكلف فتح تحمل أعبائه المادية , وكانوا يأتون باستمرار لزيارة المعسكر , وكان أحرصهم على استمرار التواصل الأخوين منصور الحيارى ووليد الحاج حسن رحمهما الله تعالي ولكن لم يبد أى من الإخوة الاستعداد للمشاركة بنفسه , وعندما انقطعت لقيادة المعسكر تركت أسرتي وحدها في عمان معتمدا على والدي وزوجتي لتدبير أمر الأسرة, وكان والدي كبيرا ولم تعتد زوجتي على الخروج الدائم وكان أكبر أبنائي لا يتجاوز الثماني سنوات لذلك فقد كنت أشعر بالألم أن الإخوة الذين شجعوا بقوة على إقامة المعسكر لم يبد أى منهم أى استعداد للعيش في المعسكر .

وفي أحد الأيام جاء لزيارة المعسكر أربعة من الإخوة هم منصور الحياري ووليد الحاج حسن وسليمان عربيات وحسين حياصات واحضروا معهم لى شخصيا طعاما خاصا كان بعض الشواء فرفضت أن أفتحه وأصررت على أن يعيدوه معهم إذ لا يليق أن آكل غير ما يقدم لسائر المشاركين في المعسكر, وألمحت لهم أنني لا أحتاج لمثل هذه الضيافة , وقد أحتج قريبا إلى من يأتي لمدة يوم وليلة على الأقل لأزور أسرتي في عمان .

في ذلك الموقف شعرت أن العمل الفردي مهما دوافعها وأيا كانت إمكانات أفراده فإنه لا يمكن أن يكون بمستوي العمل المؤسسي وأن أى تنظيم مهما كانت طبيعته هو الأقدر على الاستمرار والبقاء .

لقد أردت أن أدير المعسكر بأسلوب علمي منظم ونظمت لكل مشارك فيه ملفا خاصا ضمنته سيرة حياته بالتفصيل مستقيا المعلومات الخاصة بكل فرد عن طريق سؤاله عن نفسه وعن أسرته , وأقاربه الأدنين وأين درس وأين عمل , وعن الجماعة التي ينتمي إليها وعن شيوخه فيها .

إن هذا الأسلوب هذا جعلني أشعر بمعرفتي الوثيقة بكل منهم لا سيما وأنني لم التق بأى منهم من قبل.

وأرسلت لى حركة فتح مدربا من معسكرها التقريب من معسكري وكان شابا في أواسط العشرين من عمره وقدموه لى على أنه أحد شبابهم المناضلين ممن اكتسبوا خبرة جيدة في العمل الفدائي حيث قام بأكثر من عملية داخل فلسطين المحتلة .

كان تدريب العناصر المشاركة أوليا يقوم على أساليب القتال الشخصي دون استعمال السلاح , ولم يكن في المعسكر أى قطعة سلاح سوي مسدس كان معي أهداني إياه أحد قادة فتح عندما جاء لزيارتي في المعسكر وهو هاني الحسن أحد قادة فتح أيضا .

بعد بضعة أيام استكملت تسجيل المعلومات في ملفات جميع المشاركين , ثم قلت لنفسي : ولماذا لا أنشئ ملفا للمدرب الذي أرسلته لى فتح , فأجلسته أمامي وشرعت أوجه له الأسئلة عن حياته مبتدئا بالمدرسة الابتدائية وقد أخبر أنه من مواليد منطقة رام الله وأن أباه انتقل بعمله إلى أكثر من موقع في الأردن حيث أستقر به المقام في عمان في مطلع الستينات وأعلمني أنه أنهي مرحلة الدراسة الثانوية وأنه تخرج من كلية الحسين في عمان سنة 1965 وعندما أعدت عليه السؤال هناك مدرستين بهذا الاسم واحدة في الخليل وأخرى في عمان فأيهما درست فيها ؟ فكرر قائلا : كلية الحسين في عمان .

لقد صعقت عندما سمعت ذلك ولكن لم يظهر ذلك على وجهي وذلك أنني كنت مديرا لكلية الحسين في السنة التي قال :إنه تخرج فيها .

يبدو أنه لم يخطر بباله أن يكون قائد معسكر من أبناء عمان ومديرا لأكبر مدرسة ثانوية في الأردن, ولو قال عندما سألته أن المدرسة التي درس فيها كانت مدرسة الحسين في الخليل لأنتهي الأمر عند هذا الحد , وسجل ذلك في ملفه دون أن يثير أى شك أو ريبة .

ثم سألته من كان مدير الكلية عندما درست فيها ؟ فذكر اسما ليس له أى صلة بالكلية وتابعت سؤاله عن معلمي المواد المختلفة في الكلية فكانت إجاباته سريعة ولكن لم يكن أى منها مطابقا للواقع .

عندها نهضت واقفا , وضربته برجلي في صدره وأوقعته أرضا, وسحبت مسدسي وناديت اثنين من الشباب وربطت يديه وقدميه وأكملت حديثي معه فانهار فورا واعترف بأنه دخل إلى فلسطين أول مرة مع مجموعة من أربعة أشخاص وأنه قبض عليه من قبل اليهود , وأنهم أخذوه وجندوه , وبعد أن دربوه أطلقوا سراحه ليعود إلى قواعده في الضفة الشرقية, ويخبر قيادته بأنه الوحيد من مجموعته الذي استطاع أن يفلت من الاعتقال ,وأنه لا يدري ماذا حل برفاقه الأربعة وأنه بقي متخفيا في الضفة الغربية إلى أن استطاع العودة , وأعلمني أنه دخل مرة أخرى مع مجموعة من شباب المقاومة في فتح , وزعم لقيادته أنه نجا مرة أخرى من الاعتقال بعد أن قتل جنديا يهوديا واستطاع الهرب مرة أخري إلى الضفة الشرقية وقد أوسعته ضربا ووضعته في حفرة واستدعيت بعض عناصر فتح من معسكرهم وسلمته لهم .

لقد كانت هذه التجربة مؤلمة وزاد من تأثيرها أنني عندما كنت أزور معسكر فتح افجع بما أراه من بعد عن روح الجهاد القائمة على الالتزام بأخلاق الإسلام , وما يأمر به من عفة اللسان وأداء العبادات فلم أر صلاة تقام في معسكرهم قط , وكانت الألفاظ النابية على كثير من الألسنة بل كثيرا ما كنت أسمع الشتائم وسب الدين من عناصرهم .

إن تراكم هذه الأمور جعلني أعيد النظر في هذه التجربة وعندما عرضت قيادة فتح ضم المعسكر كليا إلى تنظيمهم وافقت على ذلك ,ولا أعلم ماذا حدث لذلك الجاسوس الذي كشفت أمره .

وأود أن أشير هنا إلى أن فشل التجربة التي خضتها لم تكن الوحيدة فقد تكررت مع الإخوان أ،فسهم فقد أقاموا معسكرا إخوانيا تحت عباءة فتح في نفس الوقت وكان معسكرهم في الشمال وعلى الرغم من أنه استمر أكثر من المعسكر الذي كنت فيه , إلا أن التجربة لم تنجح وحل معسكر الإخوان الفتحاوي .

اصطدام حركات المقاومة مع النظام الأردني

وهكذا لم يبق صامدا في ميدان العمل الفدائي على الساحة الأردنية سوي فتح وحركات ذات صبغة حزبية بعضها قومي مؤيد من الأحزاب القومية ومدعوم من الناصرية , أو من حزب البعث وبعضها يساري انبثق عن الأحزاب اليسارية وأصبحت هذه الحركات ذات تأثير على الساحة الأردنية خاصة وعلى الساحة العربية بصورة عامة وذلك أن الشعوب العربية لم يعد لها أى أمل بعد هزيمة سبعة وستين سوي المقاومة .

وقد نشأ سباق محموم بين حركات المقاومة لإثبات وجودها على الساحة من خلال إدعاء عمليات داخل الكيان اليهودي وغالبا لم تعد تلك العمليات البيانات الصحفية ولا تمثل الحقيقة .

ولم تكتف معظم هذه الحركات بزعم استهداف الدولة العبرية وإنما وجهت قوتها ضد النظام الأردني لأنه يشكل في نظرها عقبة في وجه تلك الحركات في عملياتها ضد دولة إسرائيل .

كانت حركة فتح في بداية الأمر تنأي بنفسها عما يصادم النظام الأردني موجهة إعلامها ضد الاحتلال اليهودي .

وكانت عناصر الجيش الأردني التي تقف على طول الحدود الغربية لا تتواني عن مد يد العون لعناصر المقاومة عند تجاوزها الحدود الغربية متوجهة إلى أرض فلسطين المحتلة لقد صرح لى عدد من الضباط على نقاط الحدود بذلك عندما رتبت زيارة لعدد من العلماء المسلمين من الأردن لزيارة الخطوط الأمامية , وكان هؤلاء الضباط فخورين عندما يستطيعون أن يمدوا يد المساعدة لأى محاولة لعبور النهر إلى فلسطين المحتلة للقيام بالعمليات الفدائية .

إلا أنه مع عجز معظم منظمات المقاومة عن أى إنجاز حقيقي في مجال العمليات العسكرية في فلسطين جعلها تتجه إلى المزيد من الاحتكاك مع النظام الأردني دون بقية الأنظمة العربية مع أن الدول العربية الأخري أعظم في قدراتها البشرية والاقتصادية والعسكرية من الدول الأردنية والسبب في ذلك أن تلك المنظمات لا تستطيع أن تفرض وجودها في تلك الدول التي كانت تفرض الكثير من القيود على حركة اللاجئين الفلسطينيين لديها بينما يتمعتون بقدر أكبر من الحرية في الأردن بل إن معظمهم وبخاصة لاجئي 48 حاصلون على الجنسية الأردنية ويشكلون مصدرا غنيا للعناصر الراغبة في الانضمام إلى تلك المنظمات .

إن هذا الوضع قاد إلى أن تتحول حركات المقاومة إلى شبه أحزاب سياسية ذات أيديولوجية غالبا يسارية مما قاد إلى أن تصبح في وضع الصدام مع النظام الأردني الذي لم تبخل عليه تلك الحركات بالألقاب التي تمثل في نظرها كل ما ترفضه : مثل الرجعية والبرجوازية وغيرها وامتلأت جدران عمان وغيرها من مدن الأردن بالشعارات المستفزة للأوضاع القائمة بل لقد تعدي الأمر إلى الاستفزاز الفعلي لأفراد الجيش وضباطه وبخاصة في المناطق التي تمثل التوجه الفلسطيني للمقاومة مثل : مخيمات اللاجئين المنتشرة في معظم أنحاء الأردن والمتداخلة مع السكان بشكل يصعب معه التفريق بين من هم من أتباع حركات المقاومة من غيرهم .

انحراف حركة فتح

وجدت حركة فتح نفسها وسط هذا الصدام الذي بدأ يتصاعد ,ووجدت أنها مضطرة لركوب موجة انتقاد النظام الأردني حتى لا تبقي ساحة مقاومة الرجعية والبرجوازية وما تحققه من مكتسبات شعبية حكرا على حركات المقاومة الأخرى وقد تنبه عدد من المخلصين إلى خطورة هذا الوضع وبذلوا جهودا متواصلة لكبح جماح بوادر الصدام وقد اجتمعت أكثر من مرة مع عدد من الإخوة مع ياسر عرفات – رحمه الله – لمحاولة إقناعه في الوقوف ضد هذا التوجه الصدامي مع الأردن, وكان في البداية يعد خيرا وكنت أرى عددا من رجال السياسة الأردنيين ينفخون في قرب المقاومة وظنوا أن مستقبلهم السياسي هو مع تلك الحركات التي تتبني الشعارات الثورية والتقدمية والكفاحية .

وقد استطعت بالتعاون مع بعض الشخصيات الأردنية التي كانت تحتل مواقع هامة في الدولة إلى ترتيب لقاء بين جلالة الملك حسين وياسر عرفات – رحمهما الله - .

وفي آخر محاولة لى مع ياسر عرفات على غداء عند أحد الأصدقاء في عمان ألححت على ضرورة إيقاف اصطدام حركة فتح مع النظام الأردني فكان جوابه : إنني لا أسمح لأمثال جورج حبش ونايف حواتمه أن يسحبوا من تحت أقدامنا بساط الشعبية فنظهر أمام الجماهير أننا على نفس نهج النظام القائم لذا لابد من أخذ المواقف المخالفة لتلك الأنظمة .

فقلت له : إنني أخشي أن يقود ذلك إلى تصفية العمل الفدائي برمته من الأردن , فأجابني : لن يحدث ذلك لأن النظام يعلم أننا قادرون على القضاء عليه خلال ثلاثة أيام فقلت له يبدو لى أنك لا تعرف هذا البلد , ولا يغرنك الذين يترددون عليك من الساسة أو سواهم , وإنني واثق بأن الدولة في الأردن قادرة على تصفية جميع حركاتكم في بضع ساعات .

وهكذا وقع المحذور وحصل الاصطدام بين الطرفين في أيلول عام 1970 وعانت الأمة كلها من ذلك الوضع الشاذ واضطر ياسر عرفات وغيره من قادة حركات المقاومة إلى مغادرة الأردن .

إنني أعلم أن ما قلته آنفا قد لا يرضي كثيرا من الناس الذين يريدون أن يفسروا الأحداث على هواهم إلا أن هذه شهادتي التي ألقي وجه الله عليها لم أود عليها ولم أنقص .

فترة ما بعد كارثة 67

على الرغم من بروز المقاومة الفلسطينية على الساحة السياسية بعد عام 67 فقد كان معظم الناس في الوطن العربي والعالم الإسلامي مصابون بالإحباط والحزن الذي يصل إلى درجة اليأس فعلي الرغم من انقضاء سنة ونيف على الهزيمة المنكرة لم يظهر في المنطقة أى بارقة أمل , ومما لا شك فيه أن الناس في الأردن كانوا الأكثر إحساسا بالمرارة , وكانت أفواج اللاجئين الجدد يملأون البلاد , وأعطوا اسما خاصا وهو النازحون ولم يفد على البلاد العربية الأخري المصابة في الهزيمة مثل ما وفد على الأردن من هؤلاء النازحين .

وبدأ الناس يكتشفون هشاشة الأنظمة السياسية المنهزمة وبخاصة ذات الأصوات الصاخبة في القومية والتقدمية والاشتراكية وعلى الرغم مما حاولت تلك الأنظمة الأحزاب الدائرة في فلكها من إيهام الناس أن دولة اليهود فشلت في حرب 67 لأنها لم تستطع إسقاط الأنظمة التقدمية ولأن رموز تلك الأنظمة وسدنتها ما زالوا على الساحة على الرغم من هذه المحاولة فإن الناس بدأت تفقد الثقة بتلك الزعامات, وشرع الناس يبحثون عن البديل, وكانت أبواق حركات المقاومة لا تنفك تنفخ في قرب الادعاآت الكاذبة ويزعمون لحركاتهم بطولات على أرض فلسطين المحتلة ويسجلون في كل يوم لأنفسهم عملية أو أكثر قضوا فيها على كذا عدد من جنود دولة إسرائيل , ولم يكن بمقدور الصحف أن تثير أى شك في مصداقية تلك الادعاآت المفتراه لأنهم كانوا يخشون على أنفسهم ومؤسساتهم أن تصبح غرضا سهلا لمدعي تلك البطولات .

تجربة الجبهة الإسلامية

لقد كان الدين هو الأمل الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه جماهير الأمة المنكوبة بقياداتها الفاشلة ولم يكن على الساحة في مجال العمل الإسلامي سوي حركة الإخوان المسلمين وحزب التحرير إلا أن معظم الناس ما زالوا تحت تأثير الدعايات المعادية للتجمعات الإسلامية بشكل عام , وكانت بقية الحركات الإسلامية إما من الصوفية أو المهتمة بالأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين والفقراء وليس لهم ذاك التوجه للعمل السياسي الذي يمكن أن يكون جاذبا للجماهير على الرغم من أن الناس عموما كانوا .

معبأين للعمل السياسي الذي يخرجهم من هول صدمة الهزيمة المنكرة عام 67.

ومن هذا المنطلق تداعي نفر من الإخوة الذين أسسوا جمعية العروة الوثقي إلى ضرورة التحرك خارج نطاق العمل الخيري داعين إلى توحيد الجهد الإسلامي السياسي بحيث يضم العناصر الإسلامية النشطة التي ليست ضمن أى من التنظيمات القائمة وبخاصة الإخوان والتحرير ودعوا إلى تكوين جبهة إسلامية سياسية تستوعب الأفراد والحركات القائمة فعلا بدأ هؤلاء النفر بالالتقاء تارة في منازلهم وتارة بمقر المؤتمر الإسلامي لبيت المقدس الذي كان يشرف عليه ويديره المرحوم كامل الشريف .

واستقر رأي هؤلاء النفر على تشكيل مجموعة عمل تدعو إلى قيام تكتل إسلامي يجمع العاملين في حقل العمل الإسلامي على اختلاف تظيماتهم .

وتكونت هذه المجموعة من التالية أسماؤهم :

- كامل الشريف
- يوسف المبيضين
- عبد الباقي جمّو
- عزت العزيزي
- وليد الحج حسن
- منصور الحياري

وقد كلفت بمهمة أمين السر لهذا الملتقي .

وقررنا دعوة الإخوان المسلمين للمشاركة وفعلا وافقوا على تأسيس الجبهة وحضر في أول الأمر المراقب العام للإخوان المرحوم محمد عبد الرحمن خليفة وبعد بضعة اجتماعات قرر الإخوان أن يمثلهم في الجبهة السيد عبد الرؤوف الروابدة, وبعد بضعة اجتماعات قرروا أن يمثلهم بدله السيد محمد نمر وهبه رحمه الله .

وقد أعلن عن تأسيس الجبهة في أواخر عام 1968 , ونظمت عددا من اللقاءات الجماهيرية بعضها كان محدودا بسبب صغر المكان وهو مقر المؤتمر الإسلامي في الدوار الأول بجبل عمان , ونظم لقاء جماهيري موسع بمناسبة المولد النبوي الشريف في قاعة المحاضرات في الكلية العلمية الإسلامية , وقد كنت عريف ذلك الاحتفال وتكلم فيه على ما أذكر كل من كامل الشريف ومحمد عبد الرحمن خليفة وعبد الباقي جمو , وكان التركيز بالاحتفال على القضية الفلسطينية وأهمية بعث روح الجهاد لتحرير الأقصى وأرض فلسطين من الاحتلال اليهودي .

لقاء الجبهة مع جلالة الملك وسمو ولي العهد

بعد أقل من شهر من الإعلان عن الجبهة الإسلامية استدعي جلالة الملك حسين مؤسسي الجبهة لمقابلته في قصر رغدان , وقد شارك في اللقاء كل من كامل الشريف , ومحمد عبد الرحمن خليفة , وعبد الباقي جموّ ويوسف المبيضين وعزت العزيزي وقد استمر اللقاء قرابة الساعتين ودار الحديث حول الأوضاع الراهنة آنذاك, وحاجة الأمة إلى الوحدة في مواجهة الأوضاع العصيبة التي تعانيها بعد كارثة سبعة وستين .

وقد اتفق الجميع آنذاك على ضرورة التصدي لبوادر الخلاف الذي لم يعد خافيا , وأكد جلالة الملك على أهمية ترسيخ أسباب الوحدة في المجتمع الأردني والتأكيد على الانتماء الصادق للوطن والأمة وقد تأكد الاتفاق على أهمية ثلاثة عناصر لتقوية الانتماء وترسيخ الوحدة وهي :

أولا: إن العقيدة الإيمانية بالإسلام يجب أن تكون المرتكز الأساسي لوحدة الفكر والثقافة للأمة حتى تقوى على الصمود في وجه التيارات الفكرية المنحرفة عن تراث الأمة وتاريخها وأصولها وحماية الأخلاق فيها .
ثانيا: ضرورة تحقيق الحد الأدنى من المعيشة الكريمة لجميع المواطنين ومحاربة جيوب الفقر المدقع, التي تسوق غالبا إلى التمرد والرفض وإشاعة الفوضى وعدم الأمان بالأمة .
وثالثا : الحرص على تحقيق العدل والعدالة لجميع أفراد وعناصر الأمة وبخاصة فيما يتعلق بتكافؤ الفرص وتوسيع قواعد التنمية الاجتماعية والاقتصادية بحيث يستطيع كل فرد في المجتمع أن ينال حقه في التعليم والرعاية الصحية ثم في تهيئة فرص العمل المنتج لكل القادرين عليه .

وبعد يومين من مقابلة المجموعة لجلالة الملك استدعينا من قبل سمو ولي العهد الأمير الحسن .وقد تناول سموه مع المجموعة نفسها معظم الأفكار التي طرحها جلالة الملك وأكد سموه على أهمية محاربة الفساد أينما وجد في المجتمع والدولة وأنه لابد من اجتثاث أسباب الفساد حتى تستطيع الدولة تحمل مسؤوليتها في ظل الأحوال الصعبة التي تمر بها الأمة .

انفراط عقد الجبهة الإسلامية

لقد اتجهت حركات المقاومة إلى النشاط السياسي – كما سبق أن بينت – متخلية في الواقع عن مقاومة الاحتلال اليهودي الصهيوني لفلسطين, وبقيت الحركات الإسلامية – عموما – منعزلة عن ذلك السباق السياسي الذي لبس عبارة المقاومة ورفع شعاراتها, وعجز التيار الإسلامي – بشكل عام – عن مجاراة تلك الحركات في ادعاءاتها بطولات زائفة عن المقاومة في الأرض المحتلة وذلك أن التزام الحركات الإسلامية بأخلاق الإسلام يحرم الإدعاءات الكاذبة, وثانيا : لم يكن باستطاعة الحركة الإسلامية أن تجمع الجماهير من الغوغاء وتمدهم بالرواتب والأموال التي كانت حركات المقاومة تحصل عليها من الدول العربية حيث تبنت كل دولة منها حركة مقاومة تعمل لحسابها وتروج لعملائها ومبادئها في جماهير الأمة التي لم تكن لتستطيع أن تميز الصدق من الكذب في ظل إعلام يملك الإذاعات والجرائد وكل أنواع الإعلام.

ولم يكن بمقدور الإسلامية أن يلجأوا إلى الدول التي لم تنشئ لها حركات مقاومة لأن تلك الدول نفسها لا يعنيها ذلك ولا تستطيع مجاراة الدول التقدمية في هذا المجال , والأهم من ذلك أن هذه الدول التي كانت توصف باليمينية وحتى بالرجعية لا تقل خصومة مع الإسلام الصافي عن الدول التي توصف بالتقدمية أو اليسارية .

وهكذا أجهضت تجربة الجبهة الإسلامية وخلا الميدان السياسي في الأردن للحركات اليسارية أو شبه اليسارية وانكمشت الحركة الإسلامية على نفسها مرة أخرى إلى أن تحين نهضتها وانبعاثها بعد بضع سنوات .

العمل في القوات المسلحة الأردنية

خلال السنوات ( 69- 71) انتدبت لعمل تربوي في الجيش الأردني مسئولا عن قسم الثقافة الذي كان مسئولا عن إدارة التعليم في عدد من المدارس في عمان والزرقاء والبادية الجنوبية وقد أتيحت لى خلال هذه الفترة الاطلاع على حالة السكان في مناطق البادية الجنوبية في القويرة وأذرح ورم والديسه, لقد رأيت نمطا من حياة الفقر والانعزال عن مواقع الحياة الحديثة فيتلك المناطق واعتقدت أنني بذلت جهدا حسنا في تطوير التعليم في تلك المناطق ورفع مستوى المدارس حتى إن جلالة الملك حسين – رحمة الله – زار مدارس الجيش آنذاك أثناء زيارته للمدارس التابعة لوزارة التربية فأعجب إعجابا شديدا بمستوى مدارس الجيش طلب آنذاك دراسة إمكانية إتباع جميع مدارس البادية للجيش إلا أنني أوضحت أن ذلك يتطلب كوادر فنية وتربوية قد لا يستطيع الجيش تأمينها بسهولة .

وقد كلفت أثناء تلك الفترة بالإضافة إلى مسؤوليتي عن التعليم بالإشراف على المجلة العسكرية وقد أتيحت لى من خلال هذه المهمة الاتصال بمعظم ضباط القيادة العليا للجيش وكنت أحثهم على الكتابة على ذلك كانوا يعتذرون بأنهم لا يتقنون الكتابة باللغة العربية الفصحي , فأقول لهم : أكتبوا بأى مستوى تستطيعونه وسأتولي إعادة صياغته ولكن لم أجد منهم تجاوبا سوى من عدد قليل كان يتمتع بمستوي من الثقافة لذلك كنت مضطرا لكتابة أكثر من موضوع واحد تحت أكثر من اسم .

ولم أكن أتعرض في المجلة للموضوعات السياسية وإنما كنت أركز غالبا على الموضوعات الفكرية والتاريخية ذات الصلة بتعبئة القاري بالوعي القائم على الإسلام النقي وإدراك مصلحة الأمة .

وقد حدث أثناء إشرافي على المجلة أن أرسلت الولايات المتحدة أول سفينة فضائية مأهولة إلى القمر , ولا شك أن هذا الانجاز العلمي والتقني كان مذهلا ومثيرا لأقصي مستوى من الإعجاب والتقدير ولكني انتهزت فرصة هذا الحدث وكتبت في المجلة العسكرية مقالا حوله , تناولت الجوانب الإنسانية التي غفلت عنها السياسة الأمريكية في الجو المسيطر على عقولهم للسيطرة على السماء إلى جانب الأرض , وانتقدت سياسة الولايات المتحدة في فلسطين وعجزها عن تحقيق العدل والكرامة الإنسانية للشعوب المستضعفة بل حتى للفقراء والمعدمين داخل الولايات المتحدة وأن ذلك أولي بالاتفاق عليه بدلا من صرف آلاف الملايين من الدولارات لغزو الفضاء والكواكب التي لا تفيد المسحوقين والفقراء لا في الولايات المتحدة ولا خارجها .

لقد كان لهذا المقال وقع الصاعقة على المسئول المباشر عني واستشاط غضبا أني لم أستشره في نشر هذا المقال , وأصر على سحب المجلة من السوق ومن جميع الوحدات العسكرية التي تم توزيعها ليها , ولا أدري هل كان هذا التوجه من اجتهاد المسئول أم كان يمثل سياسة الدولة من حيث عدم توجيه النقد للولايات المتحدة مع أن كثيرا من الكتاب الأمريكيين كانوا يرون مثل هذا الرأي وكانوا ينتقدون سياسة الإنفاق على مثل هذه البرامج ويرون أن صرف الأموال على رفع مستوى معيشة الإنسان داخل الولايات المتحدة وخارجها أولي ,

كان لهذا المقال تأثير على علاقتي بالمسئول وشعرت أنني أصبحت عبئا لا يستطيع احتماله خوفا على موقعه , وكذلك وجدت أن علىّ العودة إلى ميدان عملي الأصلي حقل التربية , وحيث إنني كنت قد تقدمت للحصول على بعثة لإكمال دراستي في الولايات لدرجة الدكتوراه فقد اخترت العودة لوزارة التربية وتابعت موضوع البعثة وحصلت على القبول لدرج الدكتوراة في جامعة بتسبرغ بولاية بنسلفينيا وهكذا غادرت إلى الولايات المتحدة وانخرطت مباشرة في الدراسة في جامعة بتسبرغ في بداية 1973 م.

بعد أن بدأت الدراسة في جامعة بتسبرغ وقعت حرب سنة ثلاثة وسبعين , وقد كان لها تأثير كبير على المسلمين في كل مكان على الرغم من أن نتائجها النهائية لم تكن بالمستوى الذي تطلعت إليه الشعوب الإسلامية إلا أنها حركت العمل الإسلامي وبعثت في المسلمين الهمة إلى النهوض وحيث كنت على علاقة قديمة برابطة الطلبة المسلمين في أمريكا , فقد أعدت الاتصال بهم وعملت على تأسيس فرع للرابطة في بتسبرغ واستطعت الحصول من إدارة الجامعة على قاعة نجتمع فيها مرتين في الأسبوع يوم الجمعة ويوم الأحد وشرعت في إقامة صلاة الجمعة التي كان معظم المصلين فيها من الطلبة أما اجتماع يوم الأحد , فكان مخصصا على الغالب لأبناء المجتمع المحلي من المسلمين في بتسبرغ وما حولها .

وتأسس في نفس الوقت فرع لرابطة الطلبة العرب في أمريكا وغالبا ما كانت هذه الرابطة على خلاف وتنافس مع رابطة الطلبة المسلمين واستطعت بعون الله أن أجمع بينهما في كثير من المناسبات ومع أنني انتخبت رئيسا لرابطة الطلبة المسلمين في بتسبرغ إلا أنه تم انتخابي كذلك عضوا في مجلس إدارة رابطة الطلبة العرب وأمينا للصندوق في تلك الرابطة .

لقد تطور نشاط رابطة الطلبة المسلمين وتفرع عنه جمعية للمسلمين في بتسبرغ وزاد العدد في اجتماع يوم الأحد الذي كان يشمل صلاة الظهر ودرس ديني باللغة الإنجليزية حيث كان كثير منهم من غير العرب من الهنود والباكستانيين والأمريكان السود الذين أصبح لهم وجود جيد في المجتمع وتضمن البرنامج كذلك درس في اللغة العربية لمن أراد ذلك من أبناء الجالية الإسلامية من العرب وغيرهم .

وخلال أقل من سنتين من بدء هذا البرنامج استطعنا جمع ما يكفي لشراء موقع لنتخذه مسجدا في بتسبرغ وكنا نتفاوض على شراء كنيسة ضخمة قرب الجامعة إذ لم يعد السكان في تلك المنطقة يترددون عليها .

على الرغم من أنني كنت حريصا على إنهاء دراستي في أقصر وقت ممكن إلا أن ذلك لم يمنعني من المشاركة في كل النشاطات العربية والإسلامية في المنطقة وقد نظمت مع رابطة الطلبة المسلمين معسكرا لمنطقة بتسبرغ وما حولها شارك فيه أعداد كبيرة واستضفنا فيه من قيادات رابطة الطلبة والعلماء لإلقاء المحاضرات والندوات , وقد شارك في ذلك المعسكر من هذه القيادات الباز والرشدان وسوداني نسين اسمه .

وقد كرروا على الاقتراح بأن لا أتعجل العودة للوطن كما حدث عام 67 للعمل لنهضة الإسلام في أمريكا وعدت وأكدت أن قناعتي بأن العمل للإسلام لابد أن يكون أولا من بلاد الإسلام وهكذا أتممت دراستي وعدت إلى الأردن عدت للمنطقة بعد حوالي ثلاث سنوات زائرا فسررت أنهم استطاعوا شراء مكان خصص مسجدا ولكني صدمت عندما رأيت أن المسلمين الذين كانوا عربا وغير عرب جماعة واحدة قد انقسموا إلى ثلاث فئات العرب والهنود مع الباكستانيين والفئة الثالثة الأمريكان السود وأصبح لكل منهم مجتمعهم الخاص بهم ومسجدهم وهكذا انتقلت أمراض العالم الإسلامي إلى المجتمع المسلم في أمريكا ولم تستطع قياداتهم أن تجمع صفهم في الوحدة التي هي أساس الإسلام .

المرحوم إسماعيل الفاروقي

كان المرحوم من أبرز قادة الفكر الإسلامي في العالم الغربي بعامة وفي الولايات المتحدة بخاصة وعلى الرغم من عمله أستاذا في جامعة تمبل في فيلادلفيا, إلا أنه كان جم النشاط في جميع اللقاءات الإسلامية في أمريكا وخارجها .

وقد تعرفت عليه في أحد مؤتمرات رابطة الطلبة المسلمين وتوثقت علاقتنا منذ ذلك الوقت واستطاع أن يؤسس مركزا إسلاميا ثقافيا وأكاديميا في العاصمة واشنطن باسم المعهد العالمي للفكر الإسلامي مع عدد من العلماء المسلمين في الغرب ومن العالم الإسلامي .

وقد نجح في استقطاب مجموعة من المفكرين والعلماء المسلمين لبرنامج للدراسات العليا في المعهد لمنح درجتي الماجستير والدكتوراة في الدراسات الإسلامية وامتد نشاط المعهد إلى عدد من الأقطار الإسلامية تحت قيادة المرحوم مثل ماليزيا وبروناى ومصر والأردن وأقطار أخرى متعددة وقد نظمت له لقاء مع رئيس جامعة اليرموك وأساتذتها ورحب رئيس الجامعة بإقامة علاقة أكاديمية بين الجامعة والمعهد في بداية الثمانينات من القرن الماضي .

وعزمت بعدها على الانضمام للهيئة التدريسية للمعهد لمدة سنة في 1986 وتمت موافقة الجامعة والمعهد على ذلك وظهر اسمي في قائمة الهيئة التدريسية للمعهد إلا أن الأحداث التي حصلت في جامعة اليرموك حالت دون ذلك .

وكان رحمه الله يتألم كثيرا لأحوال الأمة الإسلامية وفي لقائي معه في جامعة تمبل شعرت بأنه يحس بالخطر المحدق بالمسلمين سواء في الأقطار الإسلامية أم في الغرب ,وفي آخر رسالة تلقيتها منه كان شديد التشاؤم من أوضاع المسلمين وبخاصة من سوء فهمهم وسوء علاقتهم ببعضهم وشعرت أنه غير مطمئن على نفسه ممن هم حوله من المسلمين الذين لا ينفكون عن التآمر والكيد لبعضهم .

لقد فجعت بنبأ مقتله رحمه الله هو وزوجته وبعد ما نشرت وسائل الإعلام خبر اغتياله بأقل من أسبوع وصلتني رسالته وكأنه كتبها قبل يوم أو يومين من واقعة اغتياله وكأنه ينعي نفسه رحمه الله وجزاء عن جهده في خدمة الإسلام خير ما يجزي به العاملين المخلصين .

فترة انكماش وخمول

كادت معركة الكرامة في غور الأردن بين الجيش الصهيوني والجيش الأردني ومشاركة رجال المقاومة الفلسطينية فرصة تعاف وانطلاق من كارثة حرب سبعة وستين وجاءت بعدها بخمس سنوات حرب ثلاثة وسبعين حين استطاع الجيش المصري عبور قناة السويس واختراق خط بارليف وحطم بذلك خرافة الجيش اليهودي الذي لا يقهر وكانت مشاركة الجيش السوري على محدوديتها بعثا للروح المعنوية عند العرب عموما على الرغم من أن بقية الدول العربية لم تشارك في تجربة ثلاثة وسبعين حتى الأردن التي فقدت الضفة الغربية عام سبعة وستين .

لذلك لم تكن حرب ثلاثة وسبعين محركا كافيا للروح المعنوية العربية لا سيما أن الجيشين المصري والسوري لم يصمدا طويلا واضطرا للتخلي عن معظم الأرض التي استعادتها القوات العربية .

فعادت روح الإحباط واليأس تسيطر على النفوس بالنسبة للشعوب العربية أما القادة العرب فعادوا يبحثون عن الخروج من مأزق الهزيمة العسكرية باللجوء إلى المحاولات السياسية وإلى الأمم المتحدة وإلى الوساطات السرية والعلنية بينهم وبين الدولة اليهودية علهم يستعيدون شيئا من الكرامة التي تعيد احترام شعوبهم لهم.

ولم تكن الحركات الإسلامية بأفضل حال من المسئولين العرب إذ لم يستطيعوا أن يقدموا أية برامج بديله عن الواقع المتردي للأمة سوي رفع الشعارات وانتقاد القيادات القائمة .

لقد بدأت توجهات جديدة في العمل الإسلامي تخرج عن الحركات الإسلامية التقليدية الإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات الإسلامية حركات رافضة للواقع السياسي للأمة ورافضة في نفس الوقت لواقع الحركات الإسلامية التقليدية كانت الحواضن فيما بعد للتطرف الإسلامي وحركات التكفير والرفض .

أما قادة الحركات الإسلامية التقليدية والموصوفة بالمعتدلة فقد توجهوا إلى وجهتين بديلتين فبعضهم أخذ بالتقرب من مواقع السلطة وقبول المشاركة بأدنى قدر من النفوذ السياسي مع السلطة القائمة نتيجة اليأس من الإصلاح عن طريق الحركة وهكذا دخل بعض قادة حركة الإخوان الحكومة وتولوا مواقع وزارية هامة فيها , سواء بموافقة قياداتهم الصريحة أم بسكوت تلك القيادات أو مع انتقادها الخجول لمثل هذه المشاركة.

واتجه فريق آخر من رجالات وقادة الحركة الإسلامية إلى نوع آخر من النشاط الإسلامي غير السياسي على أساس أنه أحد الطرق الطويلة الأمد لإحداث الإصلاح في المجتمع من خلال العمل الخيري والاجتماعي والفكري والتعليمي والثقافي .

وهكذا وجدت في فترة السبعينات وما بعدها عدد من الجمعيات الخيرية التي تعني بالأعمال الإنسانية مثل مساعدة الفقراء والمحتجين , وإقامة المشاريع الاجتماعية في مجالات الصحة والتعليم والثقافة والفكر .

وحيث إن حركة الإخوان المسلمين كانت تتمتع بقاعدة شعبية واسعة فقد نجحت في توجيه كثير من عناصرها تلك الوجهة وتأسست جمعيات وتنظيمات مدنية خلال عقدين من نهاية السبعينات إلى بداية التسعينات واستطاعت إثبات وجودها في مجالات العمل الاجتماعي والثقافي والخيري على نطاق واسع وضمت هذه المؤسسات عددا من عناصر الإخوان ومن غيرهم من النشطاء الإسلاميين .

ويمكننا أن نذكر من هذه المؤسسات والجمعيات :

1- جمعية المركز الإسلامي الخيرية

تأسست هذه الجمعية وسجلت لدى وزارة التنمية الاجتماعية عام 1965 وقد كان من أبرز المؤسسات التي تفرعت عن هذه الجمعية مؤسسة المستشفي الإسلامي الذي أصبح خلال العقود الثلاثة التي تلت إنشاءه أكبر مستشفي خاص في الأردن ويسد ثغرة رئيسية هامة في المجال الطبي , وغدت له سمعة طبية جيدة في داخل الأردن والأقطار المجاورة التي يفد منها أعداد كبيرة من المرضي للمعالجة فيه .
وشمل نشاط الجمعية على مد نشاطاتها إلى ميادين أخرى متعددة من مجالات الخدمات العامة مثل مساعدة الفقراء والمحتاجين , وكفالة الأيتام, ومجالات التدريب والتعليم على مختلف مراحه وأصبح للجمعية فروعا في معظم مناطق ومدن الأردن بلغ مجموعها حسب تقرير الجمعية عام 2008 خمسة وخمسين فرعا .\
وقد أحصي تقرير عام 2008 عشر مجالات من العمل الخيري للجمعية وبلغ مجموع الأموال التي جمعت وأنفقت على هذه الأعمال الخيرية لتلك السنة ( 13215445) دينارا أى ما يقارب تسعة عشر مليون دولار أمريكي , عدا مساعدات فقراء المرضي المخصص لها أثنا عشر ألف دينار سنويا ومساعدات الطلبة الفقراء في المدارس المختلفة التابعة للجمعية أما مجالات التدريب فقد أنشأت الجمعية كلية جامعية متوسطة في الزرقاء وأربعة عشر مركزا مهنيا .
إلا أن أهم ميادين الجمعية المهنية بعد المستشفي الإسلامي كان ميدان التعليم العام بارتداء من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية وقد بلغ عدد المدارس التي أنشأتها الجمعية خمسين مدرسة في مختلف مناطق الأردن أشهرها مدارس الأرقم في عمان لقد بلغت قيمة الاستثمارات للجمعية بمختلف فروعها ونشاطاتها حسب تقرير عام 2008 سبعة وخمسين مليون دينار أردني أى ما يقارب ثمانين مليون دولار أمريكي .
عندما شرع عدد من العاملين في حقل العمل الإسلامي تأسيس هذه الجمعية كان رأي بعض نشطاء الإسلاميين عدم التوسع في هذا الاتجاه وكانت حجتهم في ذلك أن صرف الجهد في هذا المجال سيضعف نشاط الجماعة الأساسي وهو العمل الدعوي , وكذلك سيؤدي إلى إضعاف النشاط السياسي للعمل الإسلامي إلا أنّ المتحمسين لهذا النشاط كانوا يرون فيه دعما أدبيا وماليا لمختلف أنواع النشاط الإسلامي في الأردن ولم يلتفت هذا الفريق إلى تحذير الفريق الآخر من أن التوسع في هذا النشاط قد يجر إلى تخوف الحكومات من تنامي القدرات المالية للعمل الإسلامي ويدفع الأنظمة القائمة إلى وضع يدها على تلك المؤسسات .
ولعل حجة الأولين كانت أوضح وأصح ودفعت الحكومات في أكثر من قطر من الأقطار إلى التخوف من العمل الخيري الإسلامي , وعملت على تحجيمه أو السيطرة عليه واتهامه بتهم قد يصعب على الإسلاميين إثبات براءتهم منها ولو كانت تهما باطلة وملفقة .

2- جمعية الدراسات والبحوث والإسلامية

كان ثمة إدراك لدى عدد من الإسلاميين أن العمل الإسلامي بشكل عام يفتقر إلى المنهجية العلمية لكثير من القضايا العامة التي تهم العمل الإسلامي العام , وكان كثير من معارضي العمل الإسلامي يصفون معظم الحركات الإسلامية أنها تفتقر إلى العمق والدراسات الجادة لقضايا المجتمع في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعامة ويصفون الحركات الإسلامية بأنها تقوم على رفع الشعارات الإسلامية دون أن تضع برامج تفصيلية لحل المشكلات التي تواجه الحياة المعاصرة من منظور إسلامي .
ومن منطلق تغطية هذا الجانب في العمل الإسلامي تأسست في سنة 1969 جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية وكنت أحد مؤسيسها وأذكر منهم د. إسحاق فرحان ورائف نجم , وفاروق بدران ود. محمد صقر , ود .
عدنان جلجولي وغيرهم ومعظمهم من العاملين في مجالات متعددة من العمل الإسلامي في الأردن .
وقد سدت هذه الجمعية ثغرة مهمة في هذا الجانب فنظمت عددا من المؤتمرات والحلقات الدراسية في مختلف حقول المعرفة وبخاصة التربوية والاقتصادية والاجتماعية واستقدمت عددا من رجالات الفكر الإسلامي والقيادات السياسية والحزبية في العالم الإسلامي لإلقاء المحاضرات أو المشاركة في المؤتمرات والندوات التي كانت تعقدها الجمعية .
وأذكر ممن استضافتهم الجمعية من رجالات وقادة الفكر الإسلامي من الخارج الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي العالم المصري المقيم في قطر , وراشد الغنوشي من تونس, والصادق المهدي وحسن الترابي من السودان و قد تم عقد تعاون علمي وبحثي بين الجمعية ومعهد الفكر الإسلامي العالمي في واشنطن في الولايات المتحدة واشتركت المؤسستان في تنظيم عدد من الندوات والحلقات الدراسية في الأردن وخارجه .
ومن أبرز نشاطات الجمعية أنها قامت بتأليف مجموعة من الكتب الدراسية لوزارة التربية والتعليم لمختلف المراحل في التاريخ والتربية الإسلامية مستفيدة من العلماء التربويين في الأردن لإنجاز سلسلة من الكتب المنهجية التي تعد من أفضل الكتب المدرسية في البلاد العربية .
ولا تزال هذه الجمعية تؤدي دورا رياديا هاما في إجراء الدراسات والبحوث في مختلف حقول المعرفة الإسلامية .

3- اللجنة المركزية لرعاية شؤون المساجد

أسس هذه اللجنة وأشرف على إدارتها لأكثر من عشرين عاما المرحوم الشيخ منصور الحياري من سنة 1976 بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي في مكة بتوجيه من المرحوم كامل الشريف ممثل الرابطة في الأردن .

وقد ساهم في دعم هذه اللجنة معنويا وماليا عدد من الناشطين الإسلاميين من رجال الفكر والتجار كهيئة عاملة للجنة وهم :

1- مصطفي العشي
2- فتحي البقاعي
3- غالب أبو قورة
4- عزت العزيزي
5- محمد طاهر الهدهد
6- عبد الرزاق أبو رمان
7- موسي أبو الراغب
8- عدنان سلهب
9- أحمد صالح السيلاوي
10- عز الدين الخطيب التميمي
11- منصور الكسواني
12- أ. د همام سعد
13- إسماعيل أبو نعمة
14- محمد سليم رابية
15- د. عدنان الجلجولي
16- وليد الحاج حسن
17- زاهر البسطامي
18- محمد الملكاوي
19- محمد عبد الله حداد
20- عبد الكريم الكيالي
21- د.أحمد بشايره
وقد ساهمت هذه اللجنة في تأسيس عدد كبير من دور القرآن الكريم في الأردن , وتخرج منها أعداد كبيرة من حفظة القرآن الكريم , وكانت اللجنة تشجع خريجيها على إكمال دراستهم الجامعية في كليات الدراسات الإسلامية, وساهمت في إيفاد كثير منهم للدراسة في الجامعات السعودية مستفيدة من علاقة اللجنة برابطة العالم الإسلامي .
ويحتل كثير من خريجي مدارس القرآن الكريم التي أنشأتها اللجنة المركزية لرعاية شئون المساجد مواقع هامة في ميادين العمل الإسلامي .

4- جمعية المحافظة على القرآن الكريم

استفاد عدد ممن عملوا ضمن اللجنة المركزية لرعاية شؤون المساجد من خبراتهم في مجال تعليم القرآن الكريم وكونوا جمعية المحافظة على القرآن الكريم , واستطاعت هذه الجمعية بفضل صلة مؤسسيها بجماعة الإخوان المسلمين أن تنتشر بسرعة كبيرة في المجتمع الأردني ,وامتدت إلى معظم مناطق الأردن وتؤدي دورا هاما في خدمة كتاب الله تعالي وأصبحت لها مئات الفروع في جميع أنحاء الأردن ويقوم على رئاستها الشيخ الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني .

5- جمعية الصالحين لتحفيظ القرآن الكريم

بدأت اللجنة المركزية لرعاية شؤون المساجد تتقلص علاقاتها برابطة العلم الإسلامي لأسباب قد تعود إلى أوضاع الرابطة وأصبح من الضروري تنظيم عمل اللجنة ضمن الأطر القانونية في الأردن .
وهكذا تقدم عدد من الناشطين في مجال خدمة القرآن الكريم لتأسيس جمعية لهذا الهدف باسم جمعية الصالحين لتحفيظ القرآن الكريم , وأصدرت وزارة الثقافة الموافقة الرسمية على تأسيس الجمعية بهذا الاسم عام 1993 , واعتمد الأشخاص التالية أسماؤهم هيئة تأسيسية للجمعية :
الحاج محمد يوسف أبو عزام
كامل إسماعيل الشريف
د. عبد اللطيف سليمان عربيات
موسي حسين أبو الراغب
عزت خليل فهد العزيزي
منصور محمود الحياري
عبد الكريم على يوسف الكيالي
أحمد صالح السيلاوي
أحمد محمود أحمد الخصاونة
غالب عبد اللطيف عبده أبو قورة
عبد الرزاق حمد الله على أبو رمان
كمال عبد القديم أحمد عابدين
الحاج مصطفي سعيد صالح العشي
د. عدنان عبد الفتاح الجلجولي
عبد السلام عبد الرحيم قاوقجي .

وتأسست فروع للجمعية في معظم مناطق المملكة ويزيد عدد فروعها في الوقت الحاضر على خمسين فرعا منتشرة من شمال المملكة في محافظة إربد إلى أقصي الجنوب في العقبة وتؤدي دورا هاما في خدمة القرآن الكريم.

وقد تأسست في فترة الستينات والسبعينات أعداد من الجمعيات الإسلامية المحلية كانت تستوعب نشاط بعض العاملين في مجالات العمل الإسلامي إلا أنه لم يكن لمعظمها تأثير واضح سواء في الحياة الفكرية أو السياسية في البلاد .

الثورة الإسلامية الإيرانية

لم يكن لمملكة الشاة في إيران أى تأثير إيجابي على البلاد الإسلامية عموما ولا على البلاد العربية على وجه الخصوص وذلك لتوجهها القومي الفارسي من ناحية ولما كان يعرف عنها من فساد في الحكم من الناحية الثانية والأهم من هذا كله كانت إيران للدولة الإسلامية الوحيدة التي اعترفت بالدولة اليهودية المحتلة لفلسطين وأقامت معها علاقات دبلوماسية وكان جميع العرب يرون فيها أنموذجا للدولة الخاضعة للدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة منذ أجهضت الدول الغربية محاولة الانقلاب التي قادها مصدق على الشاه في أوائل الخمسينات من القرن الماضي .

لقد كان نجاح الثورة الإسلامية في إيران مفاجئا ومذهلا للعالم , وكان نمطا فريدا في القضاء على النظام القديم وإقامة نظام جديد يختلف عنه من جميع النواحي والمرتكزات .

إن نجاح الحركة الإسلامية – مع أنها شيعية – في إقامة دولة انتسبت للإسلام على الرغم من المد العلماني في معظم الدول الإسلامية بدأ يحول مشاعر العامة إلى العودة لحماسهم للإسلام كنظام حياة, وبدأت الشعوب الإسلامية التخلي عن التوجه العلماني سواء المتمثل بالاشتراكية التي تدعمها كتلة الدول الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي , أو كتلة الدول الرأسمالية المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية وبأوربا الغربية .

لقد اندفع كثير من المثقفين في الأقطار العربية والإسلامية من الإسلاميين وحتى من غير الإسلاميين إلى التعبير عن تأييدهم للحكم الجديد في إيران .

وقد أرسلت أول برقية تأييد للخميني من جامعة اليرموك من قبلي ومعي أحد الأساتذة المعروفين بميولهم للعلمانية وهو الدكتور جاسر الشوبكي , ولم أكن أخفي تحمسي للنظام الجديد في إيران على الرغم من تحفظي – مثل كثير من الإسلاميين – على المذهب الشيعي .

كنت أخطب الجمعة في مسجد جامعة اليرموك وفي إحدي الجمع بعد أقل من شهرين على قيام الثورة الإسلامية في إيران, تعرضت في خطبة الجمعة لواقع الأمة الإسلامية والآمال التي تبنيها جماهير المسلمين على التجربة الإيرانية لتكون أنموذجا يقتدي لتوجه الدول الإسلامية عموما والدول العربية خصوصا لينابيع الفكر الإسلامي لإصلاح واقعهم وتحرر الأمة من التبعية لفكر الحضارة الغربية بشقيها الرأسمالي والاشتراكي وقد فوجئت بعد الخطبة بالسفير الإيراني في الأردن يسلم على ويثني على ما سمعه في خطبة الجمعة .

وكان الأخ المرحوم حسن التلقد دعاني لتناول الغداء في بيته في إربد وكان السفير الإيراني على ذلك الغداء , وفاجأني بعد تناول الغداء بدعوتي للمشاركة في زيارة إيران مع مجموعة من رجال الفكر الإسلامي في الأردن وقلت له متى ستكون هذه الدعوة ؟ فقال: اليوم الساعة السادسة واستطعت أن أحزم أمرى , وأسلم علاماتي لمساق كنت أدرسه واستطعت خلال ساعتين أن أكون في طريقي إلى إيران بصحبة وفد لحضور أول لقاء تنظمه الدول الإسلامية الجديدة في طهران وأذكر من الذين شاركوا في ذلك اللقاء حسن التلومحمد خليفة وليث شبيلات وغيرهم .

لقد كانت الزيارة فرصة للإطلاع على واقع الدولة الجديدة وما كانت عليه إيران في عهد الشاه فقد كان العهد بتلك الفترة ما زال قريبا سأل المشرف على اللقاء : ماذا تحبون أن تروا في طهران ؟ فقلت لهم : أحب أن أري مواقع قصور الشاه , وأفقر الأحياء في طهران وفعلا ذهبت أولا في زيارة لحي الصفيح في طهران وهو حي كبير جدا يزيد عدد سكانه على المليون بيوته كلها من الصفيح الصغير المتصلة ببعضها مع بعض بقطع من الخشب والكرتون وطرق ضيقة جدا للمشاة فقط, تعيش فيها العائلة من عدة أفراد في غرفة واحدة , أو غرفتين بلا أى مرافق صحية في الغالب, وقد أصررت على دخول إحدي هذه البيوت رغم معارضة الدليل القوية إذ كان يخشي علينا , ولكني وجدت أولئك الفقراء بمنتهي الطيبة والمسكنة وقد ظنوا عندما رأونا أننا مرسلون من قبل الثورة لدراسة أحوالهم فخاطبنا أحدهم بقوله : بلغوا الإمام أننا راضون , وأننا لا نريد الآن منه أى شئ وندعوا الله له بالتوفيق , نحن صابرون وقولوا له أن يمضي في طريقه حتى يحقق الانتصار التام للدول الإسلامية .

وعندما سألنا عن سبب اجتماع هذه الأعداد الهائلة من الناس في مثل هذا الحي ؟ قالوا : إن هذه الحالة نتيجة ما دعاه الشاه الثورة البيضاء التي قامت على نزع الملكيات الزراعية الصغيرة في الأرياف وتوحيدها بملكيات أشبه بالإقطاعيات الكبيرة وإعطاءها لشركات رأسمالية كبرى بحجة مكننة الزراعة وتحديثها وأدي ذلك نقل مئات الألوف من سكان القرى والأرياف إلى المدينة لتشغليهم عمالا في المصانع التي أنشئت أيضا تحت شعار الثورة البيضاء فلم تنجح المكننة الزراعية وبدلا من زيادة الإنتاج الزراعي تدني المحصول , واضطرت البلاد إلى استيراد المواد الغذائية ولم تنجح الصناعة في استيعاب المهجرين من الأرياف فانتشرت مدن الصفيح في ضواحي المدن الإيرانية .

وعندما ناقشنا المسئولين الإيرانيين عن خططهم لمعالجة هذا الوضع اعترفوا بأنهم لم يضعوا بعد الخطط لذلك ,وإنهم ليسوا متفائلين بمعالجة هذه الأوضاع خلال فترة قصيرة بل قد يستغرق الأمر سنوات قبل أن يستطيعوا التغلب على ما خلفته الثورة البيضاء من خلل اقتصادي وفوضي ديمغرافية .

وعندما زرت الموقع المقابل وهو قصور الشاه ذهلت لسعة المنطقة التي احتلتها تلك القصور التي لم أشاهد مثلها فقد زرت قصور الأسرة المالكة في مصر في القاهرة والإسكندرية وكانت من الأسر المالكة العريقة كما كانت قد زرت قصور الأسرة المالكة في العراق فلم تكن أى منهما شيئا بالقياس لقصور الشاه التي امتدت بمسافة تزيد على الخمسة عشر كيلو متر طولا ولا أدري سعتها عرضا , وبها عشرات القصور وسط حدائق بمنتهي الجمال والروعة .

وقد سمحوا لى بدخول حديقة واحدة من القصور المخصصة لضيف معين من ضيوف الشاه وقطفت بعض الورود من حديثة ذلك القصر وأبقيتها معي إلى أن عدت بها إلى عمان .

كان قضية رهائن الأمريكية في طهران في عنفواتها وكان من الوفود المشاركة وزير العدل الأمريكي الأسبق ( رمزي كلارك ) مع زوجته, والتقيته في أحد الأيام في قاعة المطعم وقال لى : أري أن وفدكم الأردني من الوفود المقربة من المشرفين على المؤتمر , وأرجو أن تبذل جهدك في إقناع الإيرانيين لحل مشكلة الرهائن الأمريكيين وقال لى : إنه يعتقد أن حل هذه المشكلة سيخدم الثورة الإيرانية.

وأجبته أنني شعرت عندما طرحت مسألة الرهائن في إحدي الجلسات العامة أن النظام الإيراني لا يرغب في مناقشة هذه القضية على هذا المستوي من التجمع الدولي وأنصحك بأن تقصر مناقشة هذه القضية بينك وبين أحد المسئولين الذي يمكن أن ينقل وجهة نظرك إلى مستوى صانعي القرار .

أثناء زيارتي هذه لطهران التقيت بممثل منظمة التحرير الفلسطينية في طهران وكانت الثورة قد قطعت العلاقات بين إيران وإسرائيل , وطردت السفير وطاقم السفارة الإسرائيلية وأعطت مبني السفارة الإسرائيلية لمنظمة التحرير ومع ذلك شعرت أن ممثل المنظمة ورفيقه اللذين التقيتهما – ونسيت أسمأهما – لاحظت أنهما غير راضين عن وجودهما في إيران لجفاف الحياة بالقياس لمن يحتلون مثل موقعهم كدبلوماسيين في مواقع أخرى من بلدان العالم .

لقد شعرت آنذاك أن كوادر منظمة التحرير لا تختلف كثيرا عن الموظفين في أى دولة من الدول العربية , وأنهم لا يمثلون رسالة تملأ عليهم حياتهم وتوجه سلوكهم واهتماماتهم وإنما هم موظفون يأخذون راتبا ويمضون وقتا وأنهم غير جديرين بأن يكونوا حملة رسالة تحرير في مواجهة الدول اليهودية الصهيونية .

لقد كان لقاء جميع الوفود بقائد الثورة الخميني مؤثرا من ناحية وكان بالنسبة لى دون توقعاتي من ناحية ثانية , لقد كانت بساطة المنزل الملحق به قاعة مصلي صغيرة مبهرة لرجل يسيطر ويحكم دولة من دول الغنية في العالم لرجل ورث ملكا كان ينفق الملايين على زخرفة قصور ضيوفه فضلا عن قصوره والملايين على لذاته ومراكبه وأتباعه .

فقد كان الشيخ الخميني يجلس على كرسي خشبي ذكرني بكرسي معلم الصف في مدراسنا في عمان في فترة الأربعينات وهو كرسي خشبي ووضعوا فوق مقعد مخدة مثل مخدات بيوت القرى بجلالة بيضاء وقرنتين باللون الأحمر , ويلبس الخميني ثوبا تبدو على بعض جوانبه بقع من آثار طعام لم يحسن تنظيفها وقد تدثر بعباءة صوف بنية .

أما القاعة ويسمونها حسينية فكانت صغيرة ليس فيها سوي سجاد أو ( مكيت ) قديم , ويجلس عليه جميع الزوار على الأرض .

إنني أعلم أن جميع علماء الشيعة, وبخاصة الذين وصلوا إلى مستوى آية الله بل وحجة الإسلام يتقنون اللغة العربية لأنه لابد لهم من فهم القرآن وقراءة كتب مراجعهم الأساسية وهي اللغة العربية وكان معظم المشاركين من العرب حتى غير العرب كانوا من الإسلاميين الذين يفهمون اللغة العربية لقد توقعت أن يتكلم الخميني بلغة القرآن اللغة العربية ,لكنه تكلم بالفارسية وتولي أحد وزرائه الترجمة للعربية .

لقد وقر في نفسي آنذاك أن هذه الثورة التي أملا لكثير من الإسلاميين – لأنها أول نجاح سياسي للحركات الإسلامية المعاصرة – وقر في نفسي أنها لا تصلح أن تكون أنموذجا للحراك السياسي الإسلامي , لأنها أصطبغت من بدايتها بالصبغة القومية على الرغم من إضافة الإسلامية لجمهورية إيران .

لقد كنا معشر الإسلاميين – عموما – نشعر أن التوجه القومي سواء عربيا أو لأي قومية يحد من تثبيت عرى الوحدة الإسلامية القائمة على وحدة الأمة الإسلامية على اختلاف قومياتها وأعراقها وإن من أسباب إنهيار الخلافة الإسلامية التي كانت بقيادة العثمانيين هو سيطرة الاتجاه القومي التركي على السلطة مما دفع القوميات الأخري – وبخاصة القومية العربية – إلى الانتفاض على دولة الخلافة وحتى دفعها إلى الاستعانة بالدول الاستعمارية المسيحية! وكانت النتيجة تمزق الدولة الإسلامية الموحدة ونشوء الدول القومية, بل والإقليمية حتى أصبحت المنطقة الإسلامية عموما والعربية على وجه الخصوص دولا فسيفسائية بمنتهي الضعف والتفاهة, سواء من الناحية السياسية أم الاقتصادية ولم تعد أى منها قادرة على الدفاع عن نفسها في وجه الأطماع الصهيونية ومن حالفها حتى ضاعت فلسطين وانتهبت الثروات وضاعت الكرامة وانتهكت الحرمات, ورضيت الشعوب المنتمية لتلك المزق السياسية بالتبعية والذل .

إن أمل المسلمين في الدولة الإسلامية القائمة على ما هو أشمل من القومية أيا كانت لذا فقد فشلت الدولة الإيرانية الحديثة رغم التسمية للدولة بالإسلامية لأن هذه التسمية لم تترجم إلى واقع حقيقي يرتفع بالأمة لمستوي الوحدة الإسلامية الحقيقية التي تتساوي فيها القوميات والأعراق والألوان والأجناس .

والإسلاميون والدولة الإيرانية الجديدة

لقد كانت مواقف الإسلاميين على اختلاف مدراسهم وتوجهاتهم مختلفة من الدولة الإيرانية الجديدة مثل اختلاف أنظمة الحكم السائدة في البلاد الإسلامية عموما وفي البلاد العربية على وجه الخصوص وكانت مواقف بعض الإسلاميين متوافقة مع مواقف الأنظمة القائمة فمنهم من وقفوا علانية ضد النظام الإيراني الجديد متذرعين بذرائع غير صادقة في الواقع مثل الخوف من اجتياح المذهب الشيعي للأكثرية السنية على الرغم من أن تلك الأنظمة نفسها أشد على الإسلاميين وعلى التوجه الإسلامي في بلادهم على الرغم من بعدهم كل البعد عن التشيع ومنهم من وقف موقف الحياد مع النظام الجديد مصرا على الانغلاق وعدم التعامل مع الدولة خوفا من انتقال روح الثورة أو يخشي أى نوع من التمرد على النظام سواء أكان إسلاميا أم علمانيا .

وقد نشطت بعض الأنظمة العربية ومع عدد من الإسلاميين المحسوبين على التيارات الإسلامية المتشددة في مهاجمة النظام الإيراني الجديد تارة بالهجوم على المذهب الشيعي بحجة معاداته للإسلام السني وتارة بالهجوم على القومية الفارسية بحجة معاداتها للقومية العربية بل لقد ذهب بعض المهاجمين إلى اتهام الدولة الإيرانية الجديدة بميلها إلى الدين الفارسي القديم المجوسية وألفت كتب بهذا الاتجاه بعناوين شتى من أشهرها كتاب ضخم بعنوان :" وجاء دور المجوس " وألفت كتب وأصدرت نشرات لا حصر لها تهاجم رموز النظام الجديد بالخوض في أعراضهم وتدينهم وعقائدهم بل وفي علاقاتهم بالدول الغربية وأ،هم صنائع لتلك الدول على الرغم مما يبدو من معاداتهم لها.

ولا أريد ها هنا أن أناقش صحة هذه الاتهامات بتفنيدها أو التوافق معها ولكني آخذ على الإسلاميين أنهم بهذا السلوك لم يخدموا الإسلام وبخاصة الإسلام السياسي بل إن هذا السلوك فتح الباب أمام خصوم الإسلامي السياسي – على وجه الخصوص – وأحبط جهود العاملين الداعين لقيام نهضة العالم الإسلامي على أساس الإسلام وساعد على نشر بذور الشك حول كل الإسلاميين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم .

وكان الأجدر بالإسلاميين أن يحاولوا بناء جسور الثقة والحوار مع المذهب الشيعي على الرغم من المآخذ التي لا يستطيع أحد إنكارها على المذهب , وكأنه غاب عن قادة الإسلاميين السنة أن معظمهم من الداعين إلى التقارب والحوار مع الأديان الأخري , كالمسيحية واليهودية بل والبوذية والهندوسية على الرغم من معاداة كثير من قادة الدول المنتمية لتلك الأديان للإسلام ,والشعوب الإسلامية ودورها الذي لا يمكن التغاضي عنه في احتلال البلاد الإسلامية واجتياح مقدساتهم واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم , ومهاجمة الإسلام عقيدة وشريعة والتهجم على رسول الله صلي الله عليه وسلم وهل بيته من أزواجه وذريته .

إن من أقسي ما أصاب العمل الإسلامي المعاصر هو بروز طبقة من علماء الإسلام يدورون في فلك الحاكم الذي لم يعد واحدا في ظل التقسيم الاستعماري لشعوب الأمة الإسلامية ومن هنا فقد الفكر الإسلامي خاصية الوحدة وأصبح لكل دويلة مراجع إسلامية خاصة بها ولم يعد أى من العلماء المسلمين من يستطيع أن يدعي أنه يمثل الأمة الإسلامية أو حتى غالبيتها .

أما العلماء المتحررون من التبعية للحكام فأصبحوا إمام مهمشون وأحيانا ممنوعون من إسماع صوتهم للأمة بل لقد اتهم بعضهم بالخروج عل النظام الشرعي وزجوا في غياهب السجون أم تمت تصفية بعضهم بقتلهم إما غيلة أو بموجب محاكمات مصنوعة في ظل الأحكام العرفية والعسكرية التي أصبحت لها السيادة والسيطرة على الشعوب الإسلامية .

أحداث جامعة اليرموك

بدأت العمل في جامعة اليرموك منذ بداية تأسيسها عام 1976 مديرا للإدارة ويقابل هذه الوظيفة في الجامعة الأسبق الجامعة الأردنية منصب الأمين العام وهو أكبر منصب إداري غير أكاديمي في الجامعة وتشمل مسئولية هذا المنصب كل ما يتصل بالعاملين في الجامعة من غير أعضاء هيئة التدريس وكل ما يدخل الجامعة من أموال وما ينفق فيها كذلك وتنظيم ومتابعة كل ما يلزم للجامعة من أبنية ومرافق ولوازم ومعدات وما تشتمل عليه من خدمات تقدم للعاملين وللطلبة في الجامعة .

وحيث كانت الجامعة في مرحلة التأسيس في كل شئ ابتداء من تأمين الموقع والبنية واللوازم والمرافق وتعيين الكوادر اللازمة لإدارة الجامعة بما في ذلك الكوادر الإدارية المساعدة للكادر الأكاديمي في الجامعة ومن مطالب منصبي في الجامعة العضوية في معظم مجالي الجامعة ولجانها .

إن هذه المسؤوليات المتشعبة والمعقدة كانت تملأ كل وقتي من بداية الدوام في الصباح إلى ساعة متأخرة من المساء مما لم يدع لى وقتا لنشاط اجتماعي أو أسري أو متابعة نشاطي في أى من الجمعيات التي كنت عضوا فيها مثل جمعية الدراسات والبحوث الإسلامية واللجنة المركزية لرعاية شؤون المساجد ولا حتى المحافظة على الصلات الشخصية مع الأصدقاء وإخوة العمل الإسلامي وبخاصة أنني انتقلت في سكناي من عمان إلى إربد لأكون قريبا من عملي في الجامعة .

لذلك كانت فترة عملي في الجامعة وبخاصة ما بين سنتي 1976, 1984 فترة تفرغ كامل للجامعة ومسؤوليتها وأنشطتها ,ولعل خطبة الجمعة في مسجد الجامعة كانت صلتي الوحيد بالعمل الإسلامي العام, وكان عموم الناس ومنهم دائرة المخابرات يحتسبوني على الإسلاميين على الرغم من أنني لم أكن ومنذ أواخر الخمسينات على صلة بأى تنظيم إسلامي بما في ذلك تنظيم الإخوان المسلمين ولكن لم يعفني ذلك من المسؤولية في نظر الجهات الرسمية فقد تم استدعائي لدائرة المخابرات إثر زيارتي لإيران بعد قيام الدولة الجديدة فيها ووجهت إلى ّ بعض الأسئلة , وصارحني مدير المخابرات في إربد أن سبب قلقهم هو خوفهم من محاولة إيران تجنيد عملاء لها , وكان جوابي على ذلك أنني لو كنت على استعداد لأصبح عميلا لأحد فإن أولي من يستطيع تجنيدي عميلا للنظام الذي أعيش في كنفه , ويملك على من وسائل الضغط والإغراء الأدبي والمادي ما لا تملكه جهة أخري .

ولقد زاد من الجفوة بيني وبين كثير من الشخصيات ذات النفوذ هو طلبهم المستمر تعيين محاسيبهم أو أقاربهم في الجامعة وبخاصة الوظائف الإدارية سواء الدنيا أم الأعلى في السلم الوظيفي, وكنت أصر أن يكون التعيين على أساس الكفاءة ومصلحة الجامعة فقط دون الخضوع لأى ضغوط حتى من أعلي الشخصيات وقد علمت أن هذا الموقف فسر من بعض من لم ألب رغبتهم بأنني عنصري فلسطيني ودافع عني بعض المخلصين ممن يعرفوني بحق موضحين أنني لست فلسطينيا بل إن أجدادي في السلط من قبل قيام إمارة شرق الأردن بقرابة قرن من الزمن .

ومنذ 1985 استقلت من العمل الإداري في الجامعة وتفرغت للعمل الأكاديمي في دائرة التربية قبل أن تصبح كلية ,وتوليت إدارة الدائرة بالإضافة إلى كوني مديرا للمركز الثقافي الإسلامي في الجامعة والتزامي بخطبة الجمعة في المسجد الجديد في الجامعة الذي كان يعد أهم مساجد إربد وأكثرها مصلين خاصة يوم الجمعة .

وفي عام 1986 أدخلت الجامعة تعديلا على نظام النجاح والرسوب لطلبة الجامعة , ورفعت مقدار الرسوم المستوفاة من الطلبة وقد عارضت في مجلس الجامعة آنذاك على جعل علامة النجاح ( 60) بدلا من ( 50) مع العلم أن علامة النجاح في الجامعة الأردنية وهي الأولي ( 50) ولكن أصر رئيس الجامعة على موقفه رغم معارضة جميع مجالس الطلبة في الكليات ,وبدا الطلبة ينظمون اعتصاما داخل الجامعة لإلغاء التعديل وعندما لم يستجب رئيس الجامعة وبدأت اعتصامات الطلبة تزداد قابلت وزير التعليم العالي آنذاك الدكتور ناصر الدين الأسد وقد أوضحت له أن جمهور طلبة الجامعة مصرون على إلغاء التعديل , وأن الإصرار عليه قد يقود إلى إضطرابات في الجامعة لا تحمد عقباها .

كنت أشعر أن الإدارات الأكاديمية في الجامعة كانوا غير مدركين لأبعاد هذه المسألة, يدفعون رئيس الجامعة على التمسك في موقفه , وكذلك بعض الجهات الرسمية في الحكومة كانت تحث رئيس الجامعة على التصلب والإصرار على موقفه .

وفي اليوم الثالث أو الرابع لاعتصام الطلبة بدأت قوات الأمن العام ومقاومة الشغب تحاصر الجامعة كان ذلك في رمضان , وخرجت بعد صلاة العشاء مع بعض أساتذة الجامعة لمحاولة تهدئة الطلبة وإقناعهم بفك اعتصامهم بعد أن رأينا كثافة القوات التي تحاصر الجامعة وتحدثنا مع مدير شرطة إربد آنذاك الذي دخل إلى الجامعة وطلبنا منه رفع الحصار عن أبواب الجامعة والسماح للطلبة من باب واحد , وأن يبرز كل منهم هويته ليسمح له بالخروج ورفض الطلبة ذلك وأصروا أن يخرجوا دون إبراز هوياتهم لرجال الأمن .

قاربت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل , وزاد الموقف تشنجا بين الفريقين , والتفت مدير شرطة إربد إلى ّوإلى من كان معي من أساتذة الجامعة وقال : اذهبوا إلى بيوتكم وأغلقوا أبوابكم فورا, فلا مجال لأى نوع من التفاوض, وانصرفنا من مكان تجمع الطلبة إلى بيوتنا في داخل الحرم الجامعي التي لم تكن تبعد عن مكان التجمع سوي أمتار محدودة.

ما كدنا ندخل بيوتنا حتى سمعنا أصوات الآليات المسلحة تقتحم أبواب الجامعة يرافقها صياح الطالبات والطلبة المعتصمين, وتبع ذلك أصوات العيارات النارية الكثيفة واستمر ذلك قرابة الساعة أو أكثر قليلا, ثم سكن كل شئ , وطرق باب بيتي وبيوت عدد من أعضاء هيئة التدريس القاطنين في الحرم الجامعي من قبل رجال الأمن يطلبون أن يفتشوا بيوتنا بحثا عمن يمكن قد اختبأ فيها من الطلبة .

كان قد لجأ إلى منزلي بعض الطالبات الذين لم يستطعن الوصول إلى الأقسام الداخلية التي ينزلن فيها على الرغم من قربها فأدخلتهن إلى غرفة بناتي وبتن معهن بقية تلك الليلة .

وفي صباح اليوم التالي وجدنا أن كثيرا من الطلبة كانوا يختبئون تحت السيارات أو بين الأشجار المتناثرة بين بيوت القاطنين في الجامعة وتمت سيطرة الشرطة على الحرم الجامعي , ولم نعرف حينها إذا كان نتج عن إطلاق النار أى إصابات , إلا أننا علمنا أن سيارات الإسعاف قد نقلت بعض الطلبة إلى المستشفيات خارج الجامعة .

نتج عن هذا الحدث إغلاق جميع مرافق الجامعة بما فيها المسجد لمدة ثلاثة أيام لذلك فقد كنت أخرج أنا ومن يريد صلاة العشاء والتراويح إلى المساجد خارج أسوار الجامعة .

في اليوم الثالث عدت من صلاة العشاء والتراويح إلى منزلي في الجامعة فوجدت طالبا عرفت انه كان من قيادات الطلبة المعتصمين, ورأيته في حالة يرثي لها من الجوع والخوف وأعلمني أنه كان مختبئا في أحد المكاتب التي دخل إليها من بعض النوافذ التي يسهل فتحها , وقال لى بالحرف : إنني دخيل على حرمك وبيتك, وحاولت إقناعة أن يسلم نفسه للأمن , فرفض ذلك , وقال : إنني أخشي على نفسي منهم فطمأنته وآويته وهدأت من ورعه , ونام تلك الليلة في المنزل بين أبنائي الثلاثة الذين كانوا في حينها من طلبة الجامعة وفي مساء اليوم التالي أخرجته من الجامعة في سيارتي ومن غادر إربد إلى عمان .

بعد يومين من إخراج هذا الطالب واسمه سعد , أعلنت أجهزة الإعلام أنه قبض عليه, وأعلن في نفس الوقت أن جلالة الملك المغفور له الحسين أصدر عفوا عن جميع الطلبة الذين اشتركوا في تلك الأحداث .

وشكلت لجنة وزارية عليا للتحقيق في أحداث الجامعة , ورأس هذه اللجنة نائب رئيس الوزراء الأستاذ ذوقان الهنداوي – رحمه الله – ومعه لعضويتها الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم العالي , والأستاذ رياض الشكعة وزير العدل , واستدعت اللجنة عددا من العاملين في الجامعة , وكان أولهم رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور عدنان بدران ثم استدعيت بعده واستدعي بعدي آخرون .

لم يستمر تحقيق اللجنة معي طويلا فقد أجبت على أسئلتهم فيما يتعلق بالواقعة وأسبابها وما تبعها من أحداث , ثم خاطبني الأستاذ ذوقان الهنداوي رئيس اللجنة قائلا : أريد أن أسألك خارج إطار التحقيق ولن أسجل هذا السؤال ولا الإجابة عنه : ماذا تعتقد أنه سيحدث لو لم تدخل قوات الأمن لحرم الجامعة تلك الليلة ؟ فتبسمت وقلت : لن تسقط القدس مرة أخري , وسيخرج الطلة وتنتهي القضية وتبسم رئيس اللجنة وكذلك الدكتور ناصر الدين الأسد بينما نظر إلى وزير العدل , وأراد أن يعلق على إجابتي فقال له رئيس اللجنة إنا أدرى بعزت وشكرني وانصرفت .

قرار الفصل

لم يمض طويل وقت على جلسات تحقيق اللجنة حتى صدر قرار من مجلس الوزراء بفضل واحد وعشرين من أعضاء هيئة التدريس والإداريين في الجامعة .

لم يكن بين المفصولين رابطة أو صفة مشتركة تجمعهم فقد كان فيهم من يصنف أنه إسلامي , وآخرون يساريون , إلا أن معظمهم لم يكن له أى انتماء حزبي أو فكري , ولا يعرف لهم أى نشاط خارج عملهم في الجامعة وقد شعر معظمهم بكثير من الإحباط والألم والخوف على مصدر رزقهم إذ لم يكن لهم مصدرا آخر لتدبير معيشتهم سوى عملهم في الجامعة .

محاولة إلغاء القرار

التقي المفصولون للتشاور فيما يفعلون إزاء قرار الفصل , واقترح بعضهم الاتصال ببعض من يتوسمون فيهم الاستعداد للمساعدة واتفقنا على مقابلة رئيس مجلس الأعيان آنذاك دولة الأستاذ أحمد اللوزي, وكلفت مع بعض الإخوة بمقابلته , وقابلناه فعلا , وأحسن استقبالنا,ووعد خيرا ولكنا شعرنا أن الأمر أصعب من أن يستطيع أن يفعل إزاءه ما يغيّر القرار .

ثم طلبنا مقابلة دولة رئيس الوزراء زيد الرفاعي ,واختار الأساتذة ثلاثة لهذه المقابلة عزت العزيزي من المحسوبين على الإسلاميين وجاسر الشويكي من المحسوبين على اليسارين وذيب مرجي المسيحي وطرحنا في مناقشتنا لدولة الرئيس أكثر من جانب واجبنا على عدد من الملاحظات أبداها دولته , وقد أوضحنا في بداية المقابلة أن قناعاتنا الفكرية وإن من يدعي سوي ذلك إنما يحاول خداع نفسه وغيره فلا تصدقه يا دولة الرئيس .

أما ما ذكرته دولتكم من أنّ بعضنا آوى بعض قيادات الطلبة فإن من يفعل ذلك واحد فقط هو عزت العزيزي, وقلت له : إن هذا الطالب دخل بيتي مستجيرا دخيلا , ونحن عرب ومسلمون لا يمكن لأحدنا أن يخيب المستجير به, وإن جلالة الملك قد ضرب المثل الأعلى عندما عفي عن الطلبة أنفسهم فهل ذنبنا أكبر ؟ ومع ذلك قد يستحق الذي .

آوي الفصل , ولكن ما ذنب البقية ؟ وقال دولته : إنّ بعض المفصولين قاموا بزيارة إيران ونخشي أنهم حاولوا اتخاذ عملاء وهذا لا نحتمله وكان جوابي – أيضا – يا دولة الرئيس إن الأردن لا ينافس الدول المحيطة به لا بالمال ولا بالنفط ولا بكثرة العد ولكنه يتميز بنوعية الرجال الذين يرتفعون فوق مستوى أى عمال لغير وطنهم وإنّ دولتكم أفضل مثل لذلك, فعندما أراد جلالة الملك أن يزيل ما بين الأردن وسوريا من جفوة نظر في رجال الأردن فوجد أن أقدرهم على أداء هذه المهمة الخطيرة هو دولتكم وأن قدرتكم على التعامل مع دولة قام بينها وبين الأردن جفوة لا يقدح في إخلاصكم وانتمائكم وتحدث زميلاي ما يوضح وجهة نظر بقية الزملاء , وختم دولته حديثه معنا بوعد قاطع بمعالجة الأمر وإعادتنا جميعا للجامعة, وقال سوف أزوركم قريبا في الجامعة وأشارككم طعام الغداء مع بقية إخوانكم فاطمئنوا وطمنوهم , وودعنا إلى الباب الخارجي لمكتبة وانصرفنا .

مضت بضعة أسابيع دون أن يصدر أى قرار يلغي قرار الفصل لأى من المفصولين وهكذا استقر الرأي على اللجوء إلى محكمة العدل العليا لإلغاء قرار الفصل واتصلنا بالمحامي الأستاذ أحمد بكر وهو من أشهر المحامين في مثل هذه القضايا ووكلنا جميعا , وقد عرضت على الأستاذ رحمه الله أن أدفع له مقابل أتعابه فلم يقبل وقد أحشرت دفتر شيكاتي لأدفع له ولكنه أصر على الرفض , فقلت له : لندفع على الأقل رسوم رفع الدعوي ولكنه رفض – أيضا – وقال بالحرف الواحد إنني أشعر بالشرف بأن أتولي الدفاع عن قضيتكم التي تمثل أروع أوجه العدل والرجولة .

وقد سار هذا المحامي الإنسان في متابعة القضية التي أخذت منه كثيرا من الجهد والوقت والمال , لكن الصبغة السياسية لهذه القضية سيطرت ووجهت الحكم إلى تعزيز وتثبيت قرار الفصل .

وانصرفنا كل لتدبير أمر نفسه إلى أن أجريت أوّل انتخابات بعده أدخلت إلى عضوية مجلس النواب عناصر متعددة من كل ألوان الطيف السياسي في الأردن من إسلاميين وقوميين ويساريين ,وأصدر البرلمان قرارا ملزما للحكومة بإعادة المفصولين من الجامعات , وتم ذلك .

الحرب بين العراق وإيران

عندما نشبت الحرب بين دولة العراق بقيادة صدام حسين وبين إيران بقيادة الخميني في ثمانينيات القرن الماضي كانت الشعوب الإسلامية ومنها العربية منقسمة فيما بينها إلا أن معظم الشعوب الإسلامية كانت تراها كارثة فكرية وسياسية يجب أن تبذل الجهود لإطفائها وأنه لا يجوز الانحياز لأى من الفريقين حتى لا تزداد الحرب بين أبناء الدين الواحد اشتعالا بينما كان فريق آخر من القيادات العربية يري أن على العرب أن يصطفوا ضد المعسكر الإيراني ورأوا أن هذه الحرب تعبير عن نهضة قومية في وجه قومية أخرى معادية .

وكان الإعلام العربي الرسمي بصورة عامة منحازا للعراق مبرزا كل عيوب وسلبيات المعسكر الآخر ولم تتورع بعض الجهات والشخصيات العربية من كيل تهم العصبية القومية المعادية للعروبة في المعسكر الإيراني بل إن بعضهم كان يتهم إيران بالعودة إلى المجوسية الفارسية ضد الإسلام العروبي على الرغم من أن عنوان الدولة الإيرانية الجديدة إسلامي , وأن هذه الدولة الناشئة حاولت اجتثاث التوجه الفارسي القديم المناوئ للإسلام الذي كان هو السائد في الدولة الفارسية بقيادة الشاه المعزول .

ومما يؤسف له في تلك المرحلة أنه لم ترتفع أصوات القيادة الإسلامية العلمية والفكرية ولا السياسية لمحاولة التقريب والتوفيق بين الدولتين المتقاتلتين وكنت بعد زيارتي لإيران في بداية قيام الدولة الجديدة أشعر أن الأمة الإسلامية بحاجة إلى المزيد من بذل الجهد لفهم الأسس التي تقوم عليها الدولة الإيرانية الإسلامية وكانت ثمة أمور طرحت للمناقشة مع عدد من الإخوة الذين يتشاركون هذا الرأي تتعلق بالأسس التي وضعت للدولة الناشئة وأهمها :

- الرواسب التاريخية القديمة التي تباعد بين الشيعة والسنة مثل الشيعة من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – وما يتبعها من مواقف نحو عدد آخر من الصحابة وآل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم وكذلك آراء كانت بين أهل السنة في الحكم على الشيعة من الناحية العقدية بسبب مواقفهم تلك.
- موضوع القومية العربية والفارسية والاتهامات المتبادلة بين الفريقين في التعصب القومي وكان لكل فريق حجته ضد الآخر لقد ذهب كل من الفريقين إلى نبش التاريخ الجاهلي قبل الإسلام بالإضافة إلى المغالاة في تفسير التاريخ الإسلامي, وقد ذهب بعض القوميين العرب إلى اتهام الإيرانيين بأنهم يريدون الانتقام لمعركة القادسية التي انتصر فيه المسلمون وكانت بداية القضاء على الدولة الفارسية وكانالإيرانيون يقولون : إن هذه المعركة مفخرة لهم لأنها قادتهم إلى الإسلام الذي لم يتخلوا عنه منذ الفتح الإسلامي لبلاد فارس ومما أرثّ الخلاف القومي التغيير الذي أحدثه العرب للخليج الذي كان يعرف باسم الخليج الفارسي إلى اسم الخليج العربي.
- مخاوف الدول العربية من توجه الدولة الإيرانية إلى تصدير الثورة إلى البلاد المجاورة لها , وكلها من الناحية الغربية لإيران دول عربية أو إسلامية يغلب عليها الطابع السنيّ, وكان العرب المتخوفون من تصدير الثورة يرون أن العراق يشكل السد الذي يحول بين امتداد الثورة غربا إلى الجزيرة العربية بكل ثرواتها وبترولها ومن ثم إلى بقية البلاد العربية في آسيا ثم إفريقيا .

الوفد الشعبي إلى إيران

في ضوء هذه المخاوف, ومع قيام الحرب بين العراق وإيران تحدثنا كمجموعة من الإسلاميين الحريصين على إطفاء نار الفتنة بين القطرين الإسلاميين المتجاورين عن ضرورة بذل الجهد لإطفاء آوار تلك الحرب التي لا يبدو إلا أنها ستجر إلى المزيد من سفك دماء المسلمين , وإهدار طاقاتهم الاقتصادية وتعميق الهوة الفكرية بين جناحي العالم الإسلامي الشيعي والسني .

وتم عقد عدد من الاجتماعات في منزلي بعمّان لمحاولة صنع شئ بهذا الصدد ,والتقي كل من حسن التلوليث شبيلات ومحمد العلاونةويعقوب قرش وعبد المنعم أبو زنط.

كان المرحوم حسن التلوثيق الصلة بإيران وتكلف بأخذ موافقتهم على استقبال وفد شعبي من الأردن لبدء الحديث مع إيران أولا , ومن ثم مع العراق .

وقد توجه وفد من خمسة أشخاص من الأردن إلى إيران وهؤلاء الأشخاص هم : المرحوم حسن التلالمهندس ليث شبيلات المهندس الزراعي محمد العلاونةالشيخ يعقوب قرش الدكتور عزت العزيزي

وقد استقبل الوفد استقبالا جيدا منذ وصوله إلى مطار طهران وعين لمرافقة الوفد طيلة إقامته في طهران حجة الإسلام محمد على التسخيري.

ولقد عقد الوفد عدة لقاءات مع عدد من الشخصيات الإيرانية المهمة لمناقشة مهمة الوفد الأساسية وهي إيقاف الحرب بين البلدين المسلمين العراق وإيران .

وكانت اللقاءات التالية أهمها :

- لقاء مع رئيس مجلس الشورى آية الله الكروبي,وحضر اللقاء معه ثلاثة من أعضاء مجلس الشورى.
- اللقاء مع وزير الخارجية السيد على أكبر ولايتي , وأبدي الوزير ترحيبه بالوفد , ودعا إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الأردن وإيران .
- اللقاء مع نائب وزير الخارجية السيد حسين شيخ الإسلام , وكان جل اهتمامه على أنّ النظام العراقي بمرتكزاته الفكرية وممارساته يتعارض مع الإسلام ومبادئه بصرف النظر عن كونه سنيا أو شيعيا .
- اللقاء مع لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشورى , ويرأس هذه اللجنة الدكتور رجائي خراساني ,وقد أثيرت عدة قضايا مع هذه اللجنة أهمها : دور الإعلام العربي في تشويه سمعة إيران وتقصير الحركات الإسلامية في العالم العربي عن القيام بدور إيجابي في مقاومة المد العلماني الذي يقود إلى الإساءة إلى إيران الإسلامية .
- اللقاء مع مجلس المحافظة على الدستور

وقد التقي من خلال هذا المجلس بعدد من قادة الفكر الديني والسياسي في الدولة ومعظمهم من العلماء وهم :

آية الله المحمدي

آية الله جنتي وهو رئيس منظمة الإعلام الإسلامي أيضا :

آية الله الخزعلي
آية الله الكاشاني آية الله الرضواني
الدكتور مهر كور
الأستاذ على زاده
الدكتور فاخرى
الدكتور على زاده ( غير المذكور أعلاه )
- لقاء مع منظمة الإعلام الإسلام برئاسة آية الله جنتي
- لقاء مع وكيل وزارة التربية الدكتور حداد عادل

وقد دعونا في مقابلتنا له إلى أهمية دور التعليم في تجسير الفجوة بين فئات المسلمين وبخاصة بين السنة والشيعة وأفاد أن النهج الجديد للتعليم شرع في تغيير المناهج في هذا الاتجاه .

- لقاء بعض علماء الحوزات العلمية في قم وأبرزهم آية الله العظمي الإمام المرعشي
- عدد من الفعاليات الشعبية مثل قادة الأحزاب الكردية وحزب الدعوة اللاجئين إلى إيران فرارا من النظام العراقي .

وعلى الرغم من حسن الاستقبال والحفاوة وحسن الضيافة إلا أنه لم يتمكن الوفد من أخذ وعد قطعي وثابت لقبول القيادة الإيرانية العليا بوقف الحرب , أو بالإفصاح عن الشروط النهائية للقبول بوقفها مما جعلنا نشعر أن الجرح الدامي أعمق من قدرة هذا المستوى من التدخل على معالجته وكان أهم ما يعبر عنه الإيرانيون بهذا الصدد هو أنهم لم يبدؤوا بالحرب, وأن على من بدأها أن يبدأ بالتوقف دون أى شروط سوى الانسحاب من الأراضي الإيرانية إلى الوضع الذي كان قائما قبل بدء الحرب .

وهكذا بعد أن عاد أعضاء الوفد إلى عمان كان رأي بعضنا أن لا فائدة من التدخل لا سيما وأن العراق كان ما زال لا يري نفسه معتديا , وكان يظن أنه ما زال قادرا على كسب الحرب , وكنت من هذا الفريق , ولم أقبل أن أكون طرفا في التوجه إلى العراق , وكان تقديري أن إيران ستكون أطول نفسا وأقدر على تحمل تبعات استمرار الحرب أكثر من العراق ذلك أن الدولة في عنفوان شبابها دولة قائمة على نظام فتي قادر على الصمود وعلى المزيد من التصدي , وأن قواعده الشعبية في ظل مد الثورة الإسلامية الناشئة يمده بزخم واستمرارية لا حد لها , حتى من قبل العناصر غير الإسلامية في المجتمع الإيراني إذ كانوا يرون في الثورة الإسلامية نافذة للحرية حتى بالنسبة للأحزاب غير الإسلامية وقد كانت منشورات الحزب الشيوعي تعرض في الشوارع وفي ظل ساحات المساجد في طهران, وذلك بعكس النظام العراقي الذي كان يقوم على الدكتاتورية الفردية ونظام الحزب الواحد وإقصاء كل ما ليس من ذلك الحزب حتى الإسلاميين سواء أكانوا من السنة أم من الشيعة , لم يكن يسمح النظام لأى منهما بالوجود أصلا فضلا عن ممارستهم لأى نشاط فكري أو سياسي على الساحة العراقية .

ومما لا شك فيه أن أتباع المذهب الشيعي في العراق الذي يصل إلى أكثر من ثلث السكان كانت عواطفه مع شيعة إيران على الرغم من القمع لذي كان يمارسه النظام البعثي لذلك فإنه من الخطأ الاعتماد على دعم حقيقي من جماهير الشعب العراقي لحرب يراها الشيعة أنها ضد إخوانهم في المذهب , ولا يري السنة أن لهم فيها مصلحة دينية أو مذهبية , أما القوميون العروبيون سواء أكانوا من الشيعة أم من السنة فإن وزنهم القائم على قدر ما يحقق لأشخاصهم من المصالح السياسية أو المالية , وليس نابعا من عقيدة أصلية حقيقية .

لذلك قررت بعد عودتنا من إيران أن لا تكون لى صلة بالنظام العراقي في تلك الفترة وشاركني في هذا التوجه أخي المرحوم حسن التل, ولم أعن بمتابعة ما قرره بقيتنا في هذا الصدد.

واقع الاتجاه الإسلامي من الناحية السياسية

كانت فترة الثمانينات من القرن الماضي فترة نهوض للفكر والمشاعر الإسلامية في العالم الإسلامي من أقصي غربة من المغرب وأفريقيا مرورا بمنطقة شمال أفريقيا ومصر والأقطار العربية وتركيا وباكستان إلى أقصي شرق آسيا , وبدأت تظهر حركات إسلامية في جميع البلاد الإسلامية تدعو إلى العودة إلى الإسلام بعد إفلاس الحركات اليسارية التي كانت مدعومة من المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي وفشل الفكر التقليدي الوارث للفترة الاستعمارية الذي لم يستطع أن يتجاوز الخطوط التي رسمتها الدول الاستعمارية في مطلع القرن العشرين بل أصبحت تعد الدعوة للوحدة العربية جريمة وإرهابا لأنه سيؤدي إلى تقويض وتفكيك الكيانات الإقليمية الوارثة لقرارات ( سايكس وبيكو) في تقسيم الوطن العربي والعالم الإسلامي .

إن هذه الأحوال للعالم الإسلامي حركت المتطلعين للنهضة الإسلامية باتجاهين : اتجاه يميل إلى العنف في مقاومة الأوضاع السائدة في النظم القائمة لاعتقادهم أنها السبيل الوحيد للعودة إلى النظام الإسلامي بديلا عن تلك النظم سواء أكانت يسارية علمانية, أم كانت يمينية تقليدية , ولو كانت تتظاهر بالتدين وبرز إلى جانب هذا الاتجاه توجه آخر يعمل على محاولة إقامة النهضة الإسلامية عن طريق العمل السياسي السلمي , والاستفادة من المد العالمي للديمقراطية السياسية التي تدعو إلى إحداث التغيير السياسي عن طريق المؤسسات السياسية المدنية .

لقد بقيت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن حتى التسعينات الكيان الإسلامي السياسي الوحيد تقريبا , بينما الغالبية من الناس يتطلعون إلى أن يكون في الميدان السياسي تنظيم سياسي إسلامي أوسع وأشمل من تنظيم الإخوان الذي يراه الكثير من الناس مناسبا لقيادة العمل السياسي الإسلامي .

لقد كنت أشعر منذ اعتزلت تنظيم الإخوان في أواخر خمسينات القرن الماضي أن المنطقة بحاجة إلى تنظيم إسلامي يركز على الجوانب السياسية ويكون قادرا على استقطاب الإسلاميين الذين لا تستوعبهم حركة الإخوان وقد سبق أن أشرت إلى تجربة الجبهة الإسلامية عام ( 1968) وكيف أنها أجهضت .

وبدأ ينمو لدى عدد من الإسلاميين أن الصحوة الإسلامية الجديدة يمكن أن تهيئ لقيام حركة إسلامية سياسية قادرة على أن تستوعب الإخوان وغيرهم من الإسلاميين .

العودة لفكرة الجبهة الإسلامية

لقد بدأت الاتصال بعدد من قادة الإخوان أولا لخوفي من إجهاض المحاولة كما أجهضت المحاولة السابقة , ولمست أن عقلية الإخوان أصبحت أكثر انفتاحا وتقبلا لعمل إسلامي سياسي خارج تنظيم الإخوان .

كان الدكتور إسحاق فرحان أوّل من اتصلت به لهذه الغاية وكان موقفه مشجعا وشعرت أن كثيرا من عناصر الإخوان وبخاصة الشباب يؤيدون مثل هذا التوجه .

وهكذا بدأت الاتصال بمن أعرف من الإسلاميين وبخاصة ممن كانوا من الإخوان من أمثالي وبغيرهم من الإسلاميين ممن لم يسبق لهم الانتظام في الإخوان .

لقد فوجئت بالترحيب القوى بالفكرة ليس من المعروفين بالتزامهم بخط الفكر الإسلامي فحسب بل بعناصر ذات خلفيات فكرية مختلفة منهم القومي واليساري بل إن بعض المسيحيين رحبّوا بالفكرة , وأبدوا الاستعداد للتعاون لإنجاح فكرة الجبهة وأحسب أن ذلك بسبب بدء تشكل قناعة عند كثير من المهتمين بالعمل السياسي في المنطقة بأن الفكر القومي واليساري - عموما – لم يعد جاذبا لأكثرية المهتمين بالفكر السياسي والمتابعين للقضايا العامة, وأن المستقبل يبدو مرحبا بالتوجه الخصوص وفي جميع الأقطار الإسلامية عموما , ولم يعد الإسلام السياسي موسوما بالجمود أو الرجعية كما كان الحال في الخمسينات والستينات في فترة نهوض الناصرية التي كانت تركز هجومها وعداوتها على الحركات الإسلامية عموما وعلى تنظيم الإخوان المسلمين على وجه الخصوص .

لقد بدأت تبرز بقوة في المجتمعات الإسلامية – عموما – ومنها العربية أن الإسلام هو المخرج الحقيقي للأزمة التي تعيشها الأمة ليس فقط المتمثلة في هزيمة الأنظمة العربية سواء التقدمية منها أم التقليدية في معركتها في مواجهة الدولة اليهودية المدعومة من الغرب بل في مواجهة الأزمات الداخلية أيضا المتمثلة بالفساد المالي والإداري وضعف التنمية للمجتمعات المحلية وانتشار الفقر إلى جانب دكتاتورية النظم السياسية القائمة وعدم وجود أدني حد من مشاركة أكثرية السكان في الحكم واستئثار الفئات الحاكمة بالسلطة والثروة معا, وإلقاء الفتات للأكثرية المغلوبة على أمرها .

في ظل هذه المشاعر المتنامية بدأت أدعو لقاءات متتابعة في منزلي – غالبا – وعقد أحد هذه اللقاءات في منزل أحد المتحمسين للفكرة وهو الحاج حمدي الطباع .

لقد أثمرت هذه اللقاءات إلى قناعة عدد لا بأس به بفكرة إقامة حزب إسلامي مفتوح لجميع العناصر الإسلامية من الإخوان ومن غيرهم .

ولادة حزب جبهة العمل الإسلامي

لقد كان لهذه اللقاءات تأثير واضح علي عناصر الإخوان وأصبح الجو لديهم مهيئا لتكوين مثل هذا الحزب , وهكذا تم الاتفاق بين الفريقين على بدء عقد اجتماعات مشتركة لإخراج الحزب إلى حيزّ الوجود الرسمي , والحصول على التصريح اللازم لممارسة النشاط السياسي ضمن إطار حزب سياسي إسلامي .

لقد أطلق على المجموعة المكونة لقاعدة الحزب من غير الإخوان المستقلين , وكان هؤلاء المستقلون لا يشكلون فيما بينهم رابطة معينة , وإنما كانوا أفرادا لا يجمع بينهم سوي خلفيتهم الإسلامية الواسعة وكانوا منذ بداية الأمر متخوفون من سيطرة الإخوان بعد تأسيس الحزب , وكان هذا التخوف سببا في إحجام كثير من العناصر الإسلامية المستقلة الذين دعوتهم للانضمام لمشروع هذا الحزب ,وقد ذكرني بعضهم بالتجارب السابقة لى ولغيري مع الإخوان , مثل تجربة إقامة نقابة للمعلمين وتجربة الجبهة الإسلامية وكيف كانت رغبة الإخوان بالاستئثار بالسيطرة السبب الرئيسي في عدم نجاح أو استمرار تلكما المحاولتين .

ولم أكن أنا وبقية المستقلين غافلين عن هذا الاحتمال لذا فقد أثرنا هذه المسألة في الاجتماعات التمهيدية الأولي لمشروع الحزب فأكد لنا الإخوة المشاركون بأن قيادة الإخوان تدرك أهمية أن يكون الحزب جاذبا لجميع العناصر القابلة للإسلام كمرجعية للعمل السياسي مهما كانت خلفيتهم .

لقد أوضحنا للإخوان أننا مجموعة المستقلين لا نرغب في تجميع العناصر من غير الإخوان تحت أى عنوان حتى لا يؤدي ذلك في المستقبل إلى تفتيت الحزب وانقسامه وأوضحنا لهم أننا نعي أن قدرة الإخوان على السيطرة واردة حيث أنهم جماعة منظمة ذات قيادة موحدة قادرة على تجنيد أى عدد من عناصرها وأننا أى المستقلون لا نستطيع منافستهم أو مجاراتهم .

وهكذا تم الاتفاق على أن لا تتجاوز نسبة الإخوان في قيادة الحزب الأربعين في المائة وأن تبقي نسبة المستقلين هي الغالبة على قيادة الحزب وأكدوا أنهم ملتزمون بهذا المبدأ وفي ضوء ذلك تم اختيار أول أمين عام للحزب من الإخوان هو المرحوم أحمد الأزاديدة وكان – رحمه الله – يؤكد باستمرار على مبدأ عدم سيطرة الإخوان .

لقد كان واضحا للجميع أن معظم الراغبين في الانضمام لهذا الحزب من غير الإخوان سيبقون مترددين في هذه المرحلة لعدة أسباب منها تخوفهم من السلطة الرسمية للدولة على الرغم من أن الحكومة أعلنت بوضوح الانفتاح السياسي على جميع الحركات والاتجاهات السياسية , وأعلن لأول مرة عن أحزاب كانت محظورة وتمارس نشاطها سرا مثل الحزب الشيوعي والبعثيين وغيرهم إلا أن التخوف الحقيقي كان التخوف من سيطرة جماعة الإخوان الذين لم ينفكوا عن تأكيد عدم الرغبة في السيطرة المطلقة على الحزب .

وهكذا تشكلت اللجنة التحضيرية للحزب وتقدمت لوزارة الداخلية للحصول على الترخيص اللازم لإنشائه وسميت المكتب التنفيذي المؤقت لحزب حزب جبهة العمل الإسلامي وكانت على النحو التالي :

المكتب التنفيذي المؤقت لحزب جبهة العمل الإسلامي تحت التأسيس الأسماء كما وردت في الطلب المقدم للداخلية :

أحمد قطيش الأزايده
رائف نجم مستقل
حمدي الطباع مستقل
عزت العزيزي مستقل
عبد اللطيف عربيات
عبد الله العكايله
ماجد خليفة
يوسف العظم
إسحاق أحمد فرحان
عبد العزيز جبر
محمد أبو فارس
عبد المجيد ذنيبات
زهير أبو الراغب' مستقل
يوسف مبيضين مستقل
عبد اللطيف صبيحي مستقل
على الحوامده
إبراهيم مسعود خريسات
عبد الرزاق طبيشات مستقل
همام سعيد
حمزة منصور
راجح الكردي
محمد عويضه

هكذا تم ترخيص الحزب من قبل وزارة الداخلية في الأردن بتاريخ 8/ 12/ 1992 كان عدد أعضاء هذا المكتب اثنين وعشرين عضوا منهم سبعة مستقلين وبقيتهم من الإخوان وقد باشر المكتب فيعقد اجتماعات دورية منتظمة لاستكمال تشكيل الحزب وافتتاح فروع له في مختلف مناطق الأردن لقد كان واضحا أن الإخوان المسلمين يشكلون عصب الحزب وبخاصة خارج العاصمة عمان .

اختطاف حزب جبهة العمل الإسلامي

بدأ الإعداد لانتخابات أول مكتب تنفيذى للحزب من قبل العناصر المنضمّة للحزب والمسجلة في مختلف المناطق , لم يعمد أى من المستقلين إلى تسجيل أعضاء مناصرين لهم بالطريقة التي تحدث عادة في مثل هذه الأحوال للتجمعات أو التشكيلات الحزبية أو السياسية , مع أنهم كانوا قادرين على ذلك وكانوا يستطيعون مكاثرة الأعضاء الآخرين من الإخوان معتمدين على الاتفاق مع الأزايده والدكتور إسحاق فرحان وغيرهما على عدم تجاوز نسبة الإخوان في قيادة الحزب الأربعين بالمائة إلا أننا فوجئنا في الاجتماع الموسع لمنتسبي الحزب الجدد أن كثيرا من أعضاء المكتب التنفيذي قاموا بتسجيل عدد من أقاربهم من أبنائهم وأصهارهم , وأصدروا تعليمات واضحة بالأسماء التي عليهم انتخابها , وحذروهم من انتخاب أى من المستقلين على الرغم أنهم كانوا معروفين لدي كوادر الحزب الحقيقي أنهم هم المؤسسون الحقيقيون للحزب وهكذا أسفرت أول انتخابات لقيادة الحزب إلى استبعاد جميع المؤسسين للحزب من المستقلين باستثناء واحد أو اثنين.

ولم تكن هذه النتيجة مفاجأة للمؤسسين للحزب سواء من الإخوان أم من المستقلين وإنما كان مفاجأة لجميع المتفائلين من أن يكون الحزب مظلة واسعة لجميع الإسلاميين في الأردن سواء من الإخوان أم من غيرهم .

وكانت النتيجة المفاجئة تأكيدا لما توقعته العناصر المتشككة بإمكانية تعاون الإخوان مع غيرهم من الإسلاميين من غير الإخوان وقد اهتمت معظم وسائل الإعلام المحلية بتغطية ما حدث في هذه الانتخابات وأبرزت دور عدد من المستقلين وبخاصة كاتب هذه المذكرات الذي عرف الجميع من الإخوان والمستقلين والمراقبين الخارجيين دوره المتميز في الإعداد لتأسيس الحزب .

الخلفيات لهذه التطورات في حزب جبهة العمل الإسلامي

كنت أعلم أن ثمة أكثر من توجه أو من تيار في حركة الإخوان بعضها منفتح على العناصر الإسلامية غير المنتظمة في الجماعة ,وعلى استعداد للتعاون معها , وأخري ترفض هذه الفكرة وترى أن المحافظة على تماسك الجماعة وقوتها لا يتأتي إلا بسيطرة العناصر المنتظمة , وأن تدخل أية عناصر أخري قد يؤدي إلى تفكك الجماعة أو على الأقل إلى إضعاف سيطرة القيادة ومن ثم إلى سيطرة مستويات أخري من القيادة للحركة تفقد الذين في القمة نفوذهم , وما يترتب على هذا النفوذ من مكاسب مادية أو معنوية .

وعندما بدأنا بالتعاون مع عناصر جماعة الإخوان لتأسيس الحزب حسبنا أن الاتجاه للانفتاح داخل قيادة الجماعة أصبح هو الأقوى وهو الذي يمسك بزمام الأمور فيها مع أن عددا من الإسلاميين القدماء الذين دعوناهم للانضمام للحزب ورفضوا فكرة التعاون مع الإخوان قد أوضحوا أنهم لا يوافقوننا تفاؤلنا بقدرة الأجنحة المعتدلة في جماعة الإخوان على تسويق فكرة التعاون الإسلامي الموسع , وأن الإخوان لن يتقبلوا فكرة الانضمام إلى تنظيم لا تكون لهم السيطرة التامة عليه .

ولو تمعنا النظر في أوضاع الجماعة آنذاك لوجدنا أن العناصر التي تؤيد الانفتاح كانت من حيث العدد هي الغالبة على ما اعتقد إلا أن هذا الاتجاه بطبيعته يميل إلى المسالمة ولا يتمسك بموقفه بالقوة التي يتمسك بها الفريق الآخر , ولا يحسن الدفاع عن قناعاته ويهمل الاتصال بقواعد الجماعة وشبابها الذين يمكن أن يميلوا الكفة إلى معسكرهم لذلك كان للفريق الرافض للآخرين القوة والغلبة في الصراعات المحتدمة على السيطرة على قيادة الجماعة .

الانسحاب من الحزب

تم عقد لقاء لجميع المستقلين المؤسسين وبخاصة الذين كانوا من أعضاء المكتب التنفيذي المؤقت لمناقشة الوضع الناجم عن هذه الانتخابات لقد طرحت للمناقشة ثلاثة اقتراحات لمعالجة الوضع الجديد للعلاقة مع حزب جبهة العمل الإسلامي :

الأول : الانسحاب من الحزب دون اتخاذ أى إجراء آخر , والانسحاب من النشاط السياسي تحت أى تكتل سواء حزب جبهة العمل الإسلامي أو غيره مما يمكن أن يكون بديلا عنه .
الثاني : البقاء في الحزب والعمل على تغيير أسلوب التعامل والعمل على تجنيد عناصر تتبني خط المستقلين ومحاولة تصحيح وضع الحزب في المستقبل وذلك حفاظا على الجهود الحثيثة التي بذلها الأعضاء المستقلون وعدم التخلي عن الحزب على الرغم من عدم وفاء الإخوان بالتزامهم, ودافع أصحاب هذا الاقتراح عنه بأن من أسباب عدم وفاء الإخوان مرض أحد عناصرهم الذي أخذ على عاتقه الدفاع عن اتفاقهم معه ووفاة ذلك الشخص وهو المرحوم أحمد قطيش الأزايده وعجز العناصر الأخري من الإخوان المعتدلين مثل الدكتور إسحاق فرحان عن مواجهة تكتيكات المتشددين الرافضين لبقاء عناصر من غير الإخوان الملتزمين في قيادة الحزب وكان يمثل هذا الاتجاه كل من همام سعيد ومحمد أبو فارس .
الثالث : الانسحاب من الحزب والمباشرة فورا بالعمل على تأسيس حزب إسلامي مستقل استقلالا تاما عن الإخوان وكانت كثير من عناصر المستقلين الذين لم ينتسبوا للحزب من قبل يشجعون على تبني هذا الاقتراح ويرون أن الساحة السياسية في الأردن مهيأة لمثل هذا التوجه , وأن المؤسسين المستقلين لحزب جبهة العمل الإسلامي هم الأقدر على خوض هذه التجربة وأن لهم قبولا جيدا في المجتمع الأردني .

وبعد مناقشة مستفيضة لهذه الاقتراحات استقر الرأي بتبني الاقتراح الأول وهو الانسحاب من الحزب وعدم العمل لتأسيس أى حزب آخر .

وكان السبب الرئيس بتبني هذا الاقتراح المحافظة على وحدة العمل الإسلامي في البلد وأنه ليس من مصلحة ومستقبل العمل الإسلامي في الأردن إقامة تجمع إسلامي جديد وكانت الخلفية الإخوانية لمعظم المستقلين أهم سبب حال بينهم وبين تشكيل حزب إسلامي آخر.

وكانت قناعتهم أ، نجاح حزب جبهة العمل الإسلامي ولو كان مسيطرا عليه كليا من قبل الإخوان المسلمين أفضل لمستقبل الإسلام السياسي في الأردن من الدعوة إلى تشكيل حزب إسلامي ثان سيؤدي إلى إضعاف التنظيم الإسلامي السياسي مهما كان عنوانه أو صفة القائمين على قيادته .

وهكذا طويت صفحة هذه التجربة التي لا شك أنها كانت مؤلمة لكثير من الإسلاميين في الأردن ولا شك أنه كان لهذه التجربة تأثير على العمل السياسي الإسلامي في البلاد العربية الأخري وحال دون قيام تنظيمات سياسية إسلامية تجمع عناصر الإخوان مع غيرهم من العناصر الإسلامية المستقلة وتقدم الأشخاص التالية أسمائهم باستقالة جماعية من حزب جبهة العمل الإسلامي وهم – مع حفظ الألقاب:-

- رائف نجم
- حمدي الطباع
- عبد الرزاق طبيشات
- يوسف مبيضين
- عزت العزيزي
- عبد الرحيم عبد النبي النتشه

وتقدم غيرهم باستقالات إفرادية أو جمدوا نشاطهم في الحزب دون تقديم استقالاتهم .

أما بالنسبة لى فقد انصرفت بكليتي إلى العمل في مجال جمعية الصالحين لتحفيظ القرآن الكريم ومع عدد من الإخوة الذين تفرّغوا لهذا النشاط وعلى رأسهم المرحوم منصور الحيارى الذي لم ينقطع عن العمل الدؤوب للإسلام من خلال هذه الجمعية إلى أن أنتقل إلى الرفيق الأعلى وأسأل الله أن يتقبل من جميع العاملين لدينه ولكتابه وسنة رسوله وأن يثبتنا على نهج رسوله صلي الله عليه وسلم حتى نلقاه وهو راض عنا.

تجارب جانبية في العمل الإسلامي

اللجنة الإسلامية لدعم العراق

عندما تعرض العراق للهجمة الأمريكية الأولي عام 1990 لم تهدف إلى مضايقة النظام الحاكم فحسب وإنما كان تأثير المقاطعة على جميع فئات الشعب العراقي وبخاصة الطبقات الفقيرة .

وقد هب كثير من أهل الأردن لمد يد المساعدة للشعب العراقي لتزويدهم بما كانوا يعانون من نقص في الأدوية والمواد الغذائية وقد تداعي عدد من الإسلاميين في الأردن لتشكيل مجموعة عمل لجمع المساعدات وتأمين وصولها للشعب العراقي .

وقد اختارت المجموعة لجنة تنفيذية لهذا الغرض برئاسة الحاج حمدي الطباع وتوليت الأمانة العامة للجنة واستطعنا مد يد المساعدة للعراق على مدى سنتين ونيف استطعنا خلالها – إلى جانب إرسال المساعدات الغذائية – تمويل وفتح عيادة طبية في بغداد واستمرت هذه العيادة سنوات بعد ذلك إلى أن سيطر عليها حزب البعث .

وساهمت اللجنة كذلك في أمداد المدارس الإسلامية في الفلوجة بأدارة الشيخ هشام الألوسي, وفي مساعدة المؤتمرات الإسلامية الشعبية التي أقيمت في بغداد أثناء أولي سنوات الحصار, حيث شاركت في تلك المؤتمرات لعامين متتاليين كنت أحاول باستمرار تقديم النصيحة للمسئولين في العراق على أمل إقناعهم بالتوجه إلى النظام الإسلامي وعندما تأكدت من إصرارهم على المضي على طريق حزبهم حزب البعث توقفت عن المشاركة في تلك المؤتمرات , وبخاصة عندما شعرت أن النظام العراقي يسعي لشراء المؤيدين للنظام من مختلف الأقطار الإسلامية وكان النظام يقدم الهدايا العينية الثمينة لمن يسلم بزعامة قائده وقد ربأت بنفسي عن التلوث بقبول أى شئ من نظام لا يتورع عن تقديس زعاماته ورفعها فوق مستوى البشر.

مساعدات البوسنة والباكستان

وعندما تعرض المسلمون لمحنة الاعتداءات الصربية في البوسنة والهرسك وكوسوفا وغيرها , شاركت مع عدد من الإسلاميين في جمع التبرعات للبوسنة وكذلك عندما تعرضت الباكستان للزلازل التي ضربت منطقة كشمير شاركت في تنظيم حملات لجمع التبرعات للمصابين في باكستان وقد كلفت بإيصال المساعدات إلى المسلمين في البوسنة واشتركت مع الشيخ عبد المنعم أو زنط في تسليم المساعدات لمستحقيها في البوسنة والهرسك .

مع جماعة التبليغ

توثقت صلتي مع بعدد من رجال هذه الجماعة وكنت وما زلت أري فيهم الكثير من بساطة المسلم وتواضعه وإخلاصه لذلك عندما دعاني أحد الإخوة منهم مشاركتهم ببعض نشاطهم رحبت بالفكرة , واشتركت في الخروج مع جماعة منهم إلى جنوب أفريقيا , وقد امتدت الرحلة شهرا أو يزيد قليلا , ولقد سررت بالتعرف إلى عدد من رجال الحركة في جنوب أفريقيا وأكبرت بهم إقبالهم على الدعوة وتضحيتهم إلا أنه كان لى عليهم بعض الملاحظات وبخاصة ما يتعلق بمستوي العلم الإسلامي لدي دعاتهم وحاجتهم إلى مزيد من التعمق , وقد كتبت لهم رسالة مطولة في ملاحظات على نشاطهم وحركتهم وآمل أن يكونوا قد أخذوها مأخذ الجد.

تجربة رابطة علماء الإسلام في الأردن

لقد حاولت مع عدد من علماء الإسلام في الأردن البدء في تشكيل هذه الرابطة وكان مفتاح المجموعة من المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين وقد اتفقنا على تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد النظام الخاص بالرابطة وكلفتني اللجنة بذلك , وقد أعددت النظام فعلا وفي أول لقاء بعد إعداده بينت للإخوة المجتمعين أنهم إذا أرادوا لهذه التجربة النجاح فيجب أن تكون قيادتها من عناصر الجماعة بل يجب اختيار مجموعة يرضي عنها أكثرية المنضمين لفكرة الرابطة من غير الوجوه المعروفة من جماعة الإخوان وإلا فلن تنجح الفكرة وكما أجهضت فكرة نقابة المعلمين ثم حزب الجبهة الإسلامية ثم حزب جبهة العمل الإسلامي .

ماذا بعد؟ الصحوة والنهضة وواقع الأمة

إن الدارس المتتبع لأحوال العالم السلامي يري بوضوح أن بوادر الصحوة الإسلامية بادية في معظم الأوطان الإسلامية إن لم يكن في جميعها بل حتى في المجتمعات الإسلامية في الأقطار غير الإسلامية حيث يشكل المسلمون أقليات متفاوتة أصبح لها وزنها في تلك الأوطان وأصبحت ذات تأثير في المجتمعات التي تعيش معها, ومع أنه يكون في كثير من هذه الأقطار نوع من التخوف والرفض لوجود أقليات إسلامية فيما بين شعوبها وبخاصة بعد أحداث أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن ذلك لم يحل دون سرعة انتشار الإسلام في تلك الأقطار حتى أن كثيرا من الدراسات لتلك المجتمعات صنفت الإسلام على أنه أسرع الأديان انتشارا بين الشعوب التي لا تدين غالبيتها بالإسلام ولا شك أن هذا الوضع يمنح الإسلام مزيدا من القوة والاعتزاز في نفوس المسلمين ومع تزايد الحملة على الإرهاب في تلك الأقطار والصاق تهمة الإرهاب بالمجتمعات الإسلامية انتقلت عدوي الخوف من الإرهاب الإسلامي إلى فئات شتي في الأقطار الإسلامية وبخاصة الحكومات التي يدور معظمها في فلك الدول الكبرى الغنية التي تغدق على هذه الحكومات التأييد والمساعدات المالية على الدولة غالبا وعلى المسئولين وأسرهم وأتباعهم أحيانا.

إن هذا الوضع المعقد يوقع الحركات والأحزاب الإسلامية في حالة من القلق والرهبة ويجعلها في موقف الدفاع لصد التهم التي تنهال عليها بأنها قد تكون راعية للعنف أو الإرهاب وأصبح مصطلح الأصولية سيفا مسلطا على العاملين في تلك الحركات أو الأحزاب , ويؤيد هذا التوجه كثير من الأحزاب والحركات العلمانية والقومية اليسارية منها واليمينية كثير من الفئات التي تصف نفسها بالمثقفين وما يتبع هذه الفئات من المؤسسات الثقافية والإعلامية حتى لم يتورع عدد من الإعلاميين المحسوبين على العلمنة والثقافة عندما قام شباب تونس ثم شباب مصر بثورتهما في بداية عام 2011 على تفضيل بقاء الأنظمة المهترئة التي قامت الثورتان لهدمهما على نهوض الحركات الإسلامية بديلا عن تلك النظم , ولم تتراجع تلك الأبواق إلا عندما رأت انتصار الثورتين, ورأوا أن الفكر الإسلامي يشكل أهم رافد للتغيير والنهوض في المجتمع وتخليصه من طواغيت الظلم الذين ربضوا على صدور شعوبهم نصف قرن أو يزيد وعانت شعوبهم كل ألوان العذاب والقهر لشبابها وشيوخها ونسائها , ونهبوا ثروات شعوبهم وفقروا أكثريتهم وباعوا الأوطان بثرواتها وكل طاقاتها إما لأعداء الأمة أو لعصابات النهب الذين أصبحوا معهم فريقا متجانسا وموحدا حتى تخلفت الأمة كلها علما واقتصادا وتربية وسلوكا .

واجب العاملين للإسلام في هذه المرحلة

لم يكن العمل السياسي إبان الحكم الإسلامي يعاني من العقبات إلا ما يصيب المجتمعات الإسلامية من سوء التطبيق من الحكام ولم يكن ثمة قوي ذات تأثير في تلك المجتمعات تعارض تطبيق الشريعة الإسلامية لذلك كان جل اهتمام العاملين للإسلام منصبا على بيان أخطاء التطبيق سواء أكانت تلك الأخطاء أو الانحرافات مقصودة أم ناتجة عن الجهل أو اختلاط الأحكام الشرعية بالعادات والتقاليد المتعارضة مع الإسلام أو تأثر المجتمع الإسلامي بثقافات الشعوب المكونة لتلك المجتمعات لا سيما أن الإسلام أصبح دين شعوب ذات ألوان ثقافية بالغة التعدد, وكانت الشعوب الإسلامية منفتحة على بعضها من أقصي الغرب في أروبا ,إفريقيا إلى أقصي شرق آسيا في اندونيسيا والهند والفلبين وغيرها من الأقطار وكان هذا الانفتاح ذا تأثير عميق على حياة جميع الشعوب الإسلامية التي يشمل فيها انتقال الأفراد والجماعات واستقرارها في أى قطر من ذلك العام الواسع .

من هذا المنطلق كان العالم المسلم مسموع الرأي في أى مكان حل فيه , قادر على توجيه خطابه الإسلامي سواء لجماهير الناس وعامتهم أو لخاصتهم وحكامهم .

أما بعد القضاء على الخلافة الإسلامية أوائل القرن العشرين وانتشار الدول القومية أو الإقليمية أو القبلية حسب نظام الحكم المسيطر بدأت تتكون التنظيمات السياسية أو الدينية المتلونة بلون النظام المسيطر.

وحيث ضربت بين أقطار الإسلام الحدود والفواصل فلم يعد بمقدور أى مواطن في قطر ما أن ينتقل إلى قطر آخر قريبا أو بعيدا عنه إلا من خلال كل أنواع التصريحات والشروط الصارمة ولم يعد من السهل لأى صوت أن يمتد خارج حدوده القطرية.

في ظل هذا الوضع الشاذ أصبحت الحركات والتنظيمات الإسلامية متباينة ومتعددة الألوان والأسماء والأفكار ولقد أصبح لزاما على قادة العمل الإسلامي في أى موقع أن يكونوا بمنتهي الدقة في إدراك طبيعة أوضاع بيئة عملهم وإمكاناتهم وطبيعة علاقاتهم بمواطني أقطارهم وبأنظمة الحكم الخاضعين لها وبعلاقاتهم بالشعوب الإسلامية من حولهم وأنظمة الحكم السائدة فيها .

من خلال إدراكنا لكل هذه المعطيات والمؤثرات والبيئات أري أن على قادة العمل الإسلامي مراعاة مجموعة من المبادئ والأسس التي تجعل تنظيماتهم قادرة على مواجهة الظروف والتحديات والقدرة على الاستمرار حتى تحقيق أهدافهم وأهم هذه الأسس في اجتهادي :

1- الفقه الصحيح العميق في الإسلام لقادة العمل ومؤسسيه الذي هو الأساس لتكوين أى تنظيم إسلامي .

لقد وضع علماء ومجتهدو الإسلام تعريفات محددة للتفقه في الإسلام قائمة على :

أ‌- الفهم العميق للنصوص من القرآن والسنة الصحيحة ويخطئ من يظن أن حفظ النص يكفي مهما كانت دقته وإتقانه ومن المؤسف أن أعدادا غير قليلة من المتصدرين للعمل الإسلامي لا يعدو علمهم حفظ بعض النصوص والكثير منها دون إدراك عميق لمقاصدها.
ب‌- امتلاك القدرة على إدراك الواقع المعيشي الذي يتناوله النص الشرعي ولعل كثير ممن يدعي العلم ضحل المعرفة بمشاكل الحياة المعاصرة المعقدة لذلك نراه عاجزا عن إسقاط النص الشرعي على القضايا المتعددة وبخاصة التي تحتاج إلى فهم العلوم التي تعالج مثل هذه المشكلات كالاقتصاد والعلوم على اختلاف فروعها لقد سمعت مرة أحد قادة العمل الإسلامي يخلط بين الاشتراكية والوجودية على أنهما شئ واحد.
وإن المتتبع للمحطات الفضائية المنتشرة بالمئات سواء الدينية أو غيرها يشاهد طوفان المفتين بالدين وأمور الدنيا حتى الطب الجسدي أو النفسي إن الافتاء الفردي لقضايا المجتمعات التي على الحركات الإسلامية التصدي لها لا تصلح في هذا الزمن وإن على الحركات الإسلامية أن تعمل على تنظيم أو تأليف فرق عمل متخصصة قادرة على التعمق والبحث في جوانب القضايا المطروحة وتعقيداتها وإصدار الدراسات والأبحاث واقتراح الحلول المناسبة .
إن الغرب المتقدم أدرك أهمية هذا الأسلوب فأقامت مؤسساته على اختلاف أهدافها ومقاصدها سواء الحكومية أم الأهلية والخاصة مراكز للبحث تغطي معظم جوانب الحياة من اجتماعية واقتصادية وسياسية وتربوية وغيرها , وتعد هذه المراكز أساس نهضة المجتمعات والدول المتقدمة وتفوقها في كافة المجالات , ولا شك أن مثل هذه المراكز تتطلب نفقات كبيرة قد لا تستطيع بعض الحركات الإسلامية توفيرها ويمكن للتغلب على هذه العقبة أن تتعاون الحركات في مختلف الأقطار وتوزع العمل فيما بينها وتنسق جهودها بما يمنح نتائج مثل هذه الدراسات مصداقية أكبر ويغذي ويقوي أواصر التعاون والتكامل فيما بينها.
2- وحدة العمل الإسلامي :
من المعلوم أن جميع الحركات الإسلامية تعمل كل منها في الدولة التي فيها , ونعلم أن كل دولة من الدول العربية خاصة تمثل قطرا وأنها تتفاوت فيما بينها سواءا في المساحة أو في عدد السكان , وأنها كلها ضمن أقاليم أكبر , وأن مجموعة الأقاليم كانت تشكل جسم الأمة وكيان الدولة في فترة ما قبل هذا التقسيم الفسيفسائي للأمة الإسلامية بعامة والأمة العربية بخاصة منذ هدم الخلافة الإسلامية.
لا أريد أن أناقش التأثير الكارثي على الأمة نتيجة هذا التقسيم فما من عربي أو مسلم ألا ويدرك ذلك على الرغم من أن هذا التقسيم الذي يكاد يبلغ عمره المائة سنة وقد أصبح له سدنة وكهنة بين عشية وضحاها رئيسا لدولة لها وجودها الدولي وعلمها وعملتها ويتمتع بكل بل بأكثر مما يتمتع به رؤساء الدول العملاقة على الرغم من تفاهة الدويلة وضعف إمكاناتها لذا فإنه يفضل أن يكون رأسا على مثل هذه الدويلة على أن يكون مواطنا في دولة عظمي لها مكانتها في عالم لا يحترم إلا الأقوياء .
إلا أن الأخطر من ذلك كله أنه نشأت طبقة من المنتفعين في هذه الدويلات القزمة ونمت ثقافة إقليمية وقطرية غطت على الوجود الأممي وزاد نفوذ واستفحال هذه الطبقة مع اكتشاف النفط وغيره من الثروات التي وزعت على أعداد متزايدة من أفراد تلك الدويلات , حتى أصبحت الدعوة إلى وحدة الأمة تشكل تهديدا لمصالح تلك الفئات فنشأت أدبيات وثقافات وحتى فلسفات لكل قطر من هذه الأقطار , ولم يكن كثير من الإسلاميين بمنأى عن هذه الروح وبدأت تخفت أصوات الدعوة إلى الوحدة العربية فضلا عن الوحدة الإسلامية وقد استفحل التقسيم في كثير من هذه الكيانات إلى مزيد من تقسيم المقسم حتى كدنا نرى دويلات أشبه بتجمع الحارات أو الأسر والعشائر البالغة الصغر , ولم يبرز صوت إسلامي مؤثر رافض لهذا الواقع وعامل مؤثر لدعم التوجه الوحدوي , قد لا يكون بمقدورهم أن يكونوا ذوي تأثير فعال من الناحية السياسية ولكن لا يجوز أن يكونوا وحدويين نظريا وقطريين واقعيا .
وأود أن أنبه بإيجاز إلى مواقع يبدو فيها قصور العمل الإسلامي الذي يتجاوز حدود التقسيمات التي أشرت إليها .
أ‌- غياب التكافل بين أجزاء الأمة وبخاصة بين الذين يجدون فوق ما يحتاجون وبين الذين لا يجدون ما يسد أدني الاحتياجات الإنسانية وأنه لمن المحزن بل المخزي أن يكون في المجتمعات الإسلامية أغني أغنياء العالم وأفقر فقرائه , ومن بين هؤلاء الأغنياء على الصعيد الفردي من يحتلون مواقع قيادية في العمل الإسلامية ولا يصح أبدا أن يبقي دوران الثروة ضمن الحدود الإقليمية فإن ذلك قد يصل إلى حد إنكار ما نصت عليه آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة من وحدة الأمة والأخوة بين أفرادها وأجزائها .
ب‌- غياب الدعوة الصريحة والقوية لرفض التقسيم الذي فرضته قوى الاستعمار قديمه وحديثه ورفض ما بدأ يستقر في أدبيات ومسلمات أنظمة الحكم القائمة من المحافظة على الكيانات التقسيمية التي أصبحت مؤبدة ومقدسة من قبل منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدولة العربية وسائر التجمعات الإقليمية حتى استقر في مفهوم الوطنية الحديثة أن محاولة اختصار أحد هذه الكيانات مع غيرها يعد اعتداءا, يبيح الاستعانة بأى قوى أجنبية مهما كانت تلك القوى معروفة بحقدها على الإسلام وأوطان المسلمين ومقدساتهم .
أن على الحركات الإسلامية أن يكون لها موقف في مسألة التوحيد وإزالة التشرذم نابع من ثوابت الإسلام فإن الأمة واحدة وإن أيا من دواعي الانقسام والتفرق من الجاهلية المنتنة .
ت‌- تقصير الحركات الإسلامية منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن عن العمل وعلى وضع ميثاق وأسس مشتركة فيما بينها للعمل السياسي والاجتماعي والدعوي , وبخاصة بين الاتجاهات التي تتباين فيما بينها سوءا تباينا فكريا ذا أصل تاريخي قديم – كما هو الحال في موضوع طائفتي السنة والشيعة – أو تباينا حادثا مع نشأة هذه الحركات في العصر الحديث .
إن العمل على استئناف الحياة الإسلامية في شتي جوانب الحياة يوجب على العاملين للإسلام أن يعملوا على وضع قواعد مشتركة تقربهم من بعضهم في وجه أعداء يضعونهم جميعا في معسكر أن تتخلي عن التشبت بمنهجها الخاص وقناعاتها التي تؤدي إلى رفض كل ما سواها من الفئات والحركات الأخري ويجب أن لا يستثني من هذا الجهد التقريبي أى جهة أو طائفة مهما كان عنوانها .
وإن الحوار فيما بينها كفيل بتحقيق قدر من الفهم المشترك , ولا يجوز للحركات الإسلامية أن تقصير أو تستثني أى تنظيم إسلامي من الاتصال به والحوار معه ألصق بهذا التنظيم من بعد عن الاعتدال وأن لا يتأثروا بالتهم التي تروج لها بعض الدول تحت عناوين مقاومة الإرهاب وغيره من المسميات.
إن على العاملين للإسلام أن يتعلموا من واقع المجتمعات المعاصرة حيث استطاعت الأحزاب في أوروبا وغيرها من المناطق في العالم أن توجد فيما بينها مقادير مشتركة من الأيديولوجية والفلسفة الاجتماعية على الرغم من انقسامهم العنيف عبر تاريخهم السياسية وولد على أيدي هذه الأحزاب أعظم اتحاد بين الدول الأوربية وبين دول قامت بينها في الماضي القريب حروب هلك فيها الملايين من أبنائها .
أن تأصل مثل هذه الروح في الحركات الإسلامية يوجب عليها أن تكون عونا لبعضها مهما كانت الخلافات الفقهية أو التنظيمية بينها , وأن لا تعين أى قوي أخرى على الاستفراد ببعضها وأن لا تظن أن إضعافها قد يفيدها ويزيل من طريقها منافسيها في العمل الإسلامي وإنما سيكون بداية للقضاء عليها على مبدأ أكلت يوم أكل الثور الأبيض .
د- نظافة التنظيمات الإسلامية :
إن نمو العمل الإسلامي وإقبال جماهير الأمة على تأييده والالتفاف حوله يفتح أمامه آفاقا واسعة ومغرية مثل الشهرة والنفوذ , وقد يفتح آفاقا من الكسب السياسي أو الاقتصادي وتطالب التنظيمات الإسلامية أن تفرز من صفوفها قيادات في كل هذه المجالات .
والتنظيمات الإسلامية معرضة مثل غيرها إلى تأثر قياداتها بالعوامل الشخصية والأسرية والعشائرية مما يقود إلى ارتكاب أخطاء تسئ إلى نظافة الحركة وسمعتها ومن ثم إلى اهتزاز الثقة بها وبقدرتها وذلك مثل اختيار مرشحي الحركة للمجالس النيابية أو المناصب الوزارية أو المسؤوليات التنظيمية في الحركة عندما يكون الاختيار على أساس القرابة أو أى نوع من الصلة مع متخذي القرار في ذلك الشأن وقد وقعت بعض الحركات الإسلامية في أكثر من موقع بمثل هذا الاختيار السئ وانعكس ذلك على حسن أداء الحركة , وأعطي أنموذجا سيئا لما يؤول إليه وضع الأمة في حال وصول التنظيم إلى الحكم .
ومن الأخطاء التي يجب على التنظيمات الإسلامية أن تتجنبها نظافة قياداتها بشكل لا يسمح لأدني مستوى من الشك سواء في سلوكياتهم الشخصية وعلاقاتهم مع جميع من يتصلون بهم من الناس أو في مصادر كسبهم وأساليب معيشتهم , فالقيادات الإسلامية يجب أن تكون القدوة للأمة في ذلك , ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وعلماء الإسلام عبر العصور المثل الأعلى الذي يجب أن يتمثله قادة العمل الإسلامي حياة وعملا لا أقوالا أو خطبا ومقالات.
هـ - دور الحركات الإسلامية في الخلافات بين الدول الإسلامية :
إن الخلافات التي تنشأ الدول والأقطار الإسلامية أو بين الجماعات في القطر الواحد يجب أن تكون على أعلي مستوي من اهتمام قادة الجماعات الإسلامية ومعهم علماء الإسلام في محاولة رأب الصدع وإزالة أسباب الخلاف التي تؤدي إلى مزيد من ضعف الأمة , ومزيد من سيطرة القوى الأخري عليها .
ففي البلاد الإسلامية عدد من بؤر الخلاف التي تحولت في كثير من الأحيان إلى صراع مسلح راح ضحيته نفوس بريئة ولعل ما هو واقع الآن بين الحركات الوطنية والإسلامية في مواقع مثل فلسطين والصومال والباكستان وأفغانستان , شاهد ما زال ينزف دماء الإسلام العزيزة الغالية , لا يكفي أن تصدر الجماعات الإسلامية أو علماء المسلمين توجيه النداءات أو إصدار الفتاوى في حكم الشرع في هذه الخلافات بل عليهم أن يشكلوا فرق عمل ذات كفاءة ومصداقية للانتقال إلى مواقع هذه الأزمات والاتصال المباشر بأصحاب القرار ومحاورتهم ومحاولة إزالة أسباب الخلافات والتوترات فيما بينهم .

3- التعاون مع الحركات والتنظيمات غير الإسلامية :

شهدت فترة ما بعد زوال الخلافة الإسلامية مطلع القرن السابق وقيام الدول القطرية قيام حركات سياسية ذات خلفيات متعددة ومتفاوتة منها الإسلامية التي كانت تدعو إلى استعادة الخلافة وإقامة الحياة الاجتماعية والسياسية على أساس الإسلام ومنها الحركات القومية التي تدعو إلى تحقيق الوحدة العربية التي قامت لأجلها الثورة العربية بقيادة الشريف حسين الذي تخلي عنه حلفاؤه الإنجليز وأجهزوا علي أمل لوحدة التي ثار من أجلها على الدولة العثمانية ولم يكن لهذا الاتجاه أيديولوجية واضحة لمعالجة مشاكل الأمة , بل كان أقرب إلى الأيديولوجية الإسلامية ولكن دون توجيه الخطاب إلى غير العرب , ومن هذه الحركات أخري تبنت نوعا من الأيديولوجية العلمانية الغربية لإقامة الدولة على غرار الدولة الغربية التي رفضت سلطة الكنيسة على الدولة مع أن الحكم الإسلامي لم يكن في أى وقت مضى تحت نفوذ ديني غيبي على النمط الكنسي , ومنذ قيام الثورة الشيوعية في روسيا وامتدادها عبر العالم لم يكن الوطن العربي بمنأي عن التأثر بهذا الفكر ولم يكن كذلك بمنأي عن رد الفعل الرافض له بعد أن انقسم الغرب المتقدم إلى معسكرين متنافسين على شعوب العالم المعسكر الاشتراكي بقيادة روسيا الذي امتد ليشمل معظم شرق أوروبا ووسط آسيا تحت اسم دولة كبري باسم الاتحاد السوفييتي وانضمت لهذا المعسكر أكبر دولة في العالم بعدد السكان وهي الصين وفي المقابل دول غرب أوروبا ومعظم القارة الأمريكية تحت شعار العالم الحر وكان أهم عنصر في هذه الحرية هو الجانب الاقتصادي وعرف هذا المعسكر باسم معسكر الدول الرأسمالية .
وعلى الرغم من الخلاف الأيديولوجي بين المعسكرين فقد اتفقا على تكوين جبهة موحدة ضد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وبمجرد انتهاء الحرب بهزيمة ألمانيا وحليفتها اليابان عاد الصراع على أشده بين الحليفين على مد نفوذ كل منهما عبر العالم .
وكانت الأقطار الإسلامية قد بدأت تتحرر من الاستعمار المباشر دون أن تتخلي عن الواقع القطري الذي وضعت خططه من قبل الدول الاستعمارية على إثر الحرب العالمية الأولي . وهكذا نشأت حركات وأحزاب في الوطن العربي.
وحيث أن جميع الدول القطرية كانت من إنتاج المعسكر الرأسمالي وريث الاستعمار الحديث فقد كانت النظم السياسية المسيطرة تابعة إلى هذه المعسكر, وكان هذا الواقع دافعا إلى قيام أحزاب وحركات سياسية رافضة للنظام الرأسمالي لكن أكثر ميلا إلى الشيوعية تحت اسم الاشتراكية بدل الشيوعية ذلك أن الشعوب الإسلامية ترفض الشيوعية لما صاحب فكرها من أن الشعوب الإسلامية ترفض الشيوعية لما صاحب فكرها من إنكار للدين ورفض للإيمان بالله .
وفي ظل هذا تمخض الواقع عن ثلاثة أنواع من الحركات السياسية الرافضة للواقع إسلامية وقومية ذات أيديولوجية ضبابية أو اشتراكية , واشتراكية علمانية شيوعية أو شبه شيوعية ويضاف إلى هذه القوى الشعبية معسكر النظم الحاكمة الملتفة بعباءة الدول الرأسمالية التي كانت مسيطرة قبل عهد الاستقلال .
وقد دخلت القوى الثلاث الإسلامية والقومية والاشتراكية في صراع على جماهير الأمة وقد توحد في بعض الأقطار التوجه القومي والاشتراكي تحت شعار التيار اليساري في مواجهة التيار الإسلامي.. ودخل هذان التياران في صراع طويل منذ استقلال الأقطار وتبادل كل منهما قذائف التهم ونجح التيار اليساري في السيطرة على الحكم في بعض الأقطار فلم يرحم التيار الإسلامي وساموا عناصره أسوأ أنواع العذاب والإقصاء وسالت بين الفريقين دماء وانتهكت حرمات وأصاب الأمة نتيجة ذلك هزائم منكرة على أيدي أعدائها واضطر التيار الإسلامي في بعض الأحيان إلي وضع يده في يد النظم القائمة ضد التيار الآخر مما زاد في ترسيخ تلك النظم على ما فيها من فساد وظلم وأحيانا من تبعية وذلة للدول ذات التطلع للسيطرة على المنطقة العربية والإسلامية .
إن الأمثلة لهذا الواقع المؤلم متعددة تكررت في أكثر من قطر من أقطار العالم العربي والإسلامي وقد يكون ما حدث في العهد الناصري في مصر والبعثي في العراق وسوريا شواهد فاضحة على هذا السلوك .

بوادر التغيير

إن ما حدث منذ بداية العام 2011 من نهضة معظم شعوب المنطقة العربية على فساد الأنظمة القائمة , وعلى الظلم والإقصاء الذي تمارسه تلك النظم ونجاحها في اقتلاع بعض النظم وهز بعضها هزا عنيفا دفعت رؤساءها إلى مراجعة أوضاع دولهم وما يمارسون فيها هم وأعوانهم من ظلم وهضم لحقوق أكثرية شعوبهم والموافقة على التخلي عن بعض امتيازاتهم أو بسط أيديهم خزائنهم التي ملأوها من أموال شعوبهم ووزعوا النزر اليسير من المليارات التي سيطروا عليها بغيا وعدوانا .

إن من أسباب نجاح هذه الثورات أو الانتفاضات – كما دعاها البعض – هو توحد قوي هذه الشعوب وتوقفها عن رفضها التعاون فيما بينها لقد أذهلت العالم والعدو قبل الولي في السرعة التي استطاعت من خلالها اقتلاع أنظمة قمعية جبارة ذات تاريخ طويل في ممارسة قمع شعوبها وإرهابهم وسفك دمائهم , حتى لتبدو تلك النظم في مواجهة هذا التوحد وكأنها نمور من ورق أو قلاع من القش الهش سرعان ما تهاوت تحت مطارق الشعوب المتوحدة .

قد لا يعجب هذا التوحد كثيرا من ضيقي وضعاف الرؤية المستقبلية سواءا من هذا الفريق أو ذاك والتشبث بحرفية تفسيراتهم لنصوصهم ورؤاهم الشخصية الضيقة لواقع الآمة ومستقبلها .

إن أمثال هؤلاء يجب أن يرفضوا لأن تشنجهم لا يجر على الأمة إلا ترسيخ أنظمة الفساد وعليهم أن يعلموا أن القواعد الشرعية – إن كانوا من التيار الإسلامي – والقواعد العقلية والمنطقية – إن كانوا من غيره – أن ما لا يدرك كله ( أى في انفراد فريق واحد ) لا يترك جله في تكاتف كل الفرقاء.

وقد لا نستطيع أن نحكم على استمرار هذا التوجه ونجاحه في دفع عجلة التقدم والتحرر لشعوب المنطقة فهي تجربة لما زالت في بدايتها ولكن كل الآمال معقودة على شباب الأمة الذين قادوا هذه المرة شيوخها في هذا السباق المبارك على التوحيد لجهود الأمة وتعاون جميع فئاتها وعناصرها في الطريق الذي بدأوه للتحرر من ربقة التبعية للأفكار المتحجرة والتفرقة التي فرضت على شعوب المنطقة يحميهم الله ويثبتهم على طريق القوة والوحدة وعمق الفهم لحاجات أمتهم .

وفي الختام
أسأل الله تعالي أن يكون قد وفقني لقول الحق والحقيقية حيث لم آل جهدي في تحريهما, وأستغفر الله إن كان فيما كتبت ما جانب الحق أو الصدق والحمد لله أولا وآخرا .