تغيير القيادة وحل الإخوان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٥:١٧، ١٧ أكتوبر ٢٠١١ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
((كان الإخوان المسلمون جنوداً أبطالا أدوا واجبهم كأحسن ما يكون ))

بقلم: أ/فؤاد صادق

Ikhwan-logo1.jpg

استقرت القيادة العامة في ((غزة)) بعد إخلاء المناطق المتقدمة الذكر وبدأ ((المواوى )) ينظم نفسه في الوضع الجديد وقبل : إنه قد فرغ من تنظيم خطط عسكرية جديدة وإنه سيباشر تنفيذها بنفسه ولقد قال لي القائمقام ((علي مقلد )) أركان حرب القائد العام في ذلك الحين إن هناك خطة توضع لاختراق الحصار المضروب حول حامية وإنقاذها بالقوة .

وبعد أن بين لي بإيجاز تفصيل هذه الخطة :قال لي : إن الرأي متجه إلى أن يقوم الإخوان المسلمون بأهم أجزائها فأبديت له ترحيبي للقيام بأي عمل مهما كانت خطورته إذا كان فيه نجاة لإخواننا .

غير أن الظروف لم تسمح للمواوى بتنفيذ الخطة إذا تقرر سحبه إلى مصر وغادر الميدان (11) نوفمبر بعد أن سلم مهام القيادة العامة إلى اللواء أحمد فؤاد صادق .

جاء اللواء ((فؤاد صادق)) ليتسلم قيادة الحملة وتناقل الضباط والجنود قصصا كثيرة عن قسوة القائد الجديد وشدته وبالغوا في إظهاره بمظهر القائد الفظ الذي يبطش لأتفه الأسباب .

وكانت مهمة القائد الجديد شاقة للغاية فحالة الجيش كانت قد وصلت إلى درجة كبيرة من السوء والفوضى وكانت الروح المعنوية في الجنود قد هبطت إلى الحضيض من جراء الهزائم والانسحابات المتتالية فقوات الفالوجا لا تزال تعانى مرارة الحصار ويتناقل الجنود أنباء الهجمات الجوية والرضية التي تتعرض لها القوات الباسلة وقوات المتطوعين في مناطق الخليل وبين لحم تقاسى مرارة حرمان من جراء انفصالها عن القوات الرئيسية والعدو يعمل جاهدا لإفنائها واستخلاص تلك المناطق الحيوية من أيديها .

أما القوات الرئيسية في غزة فقد كان عانى ضعفا شديدا ورعبا قاتلا بسبب هذه الأنباء المثيرة بسبب الوضع الدفاعي الشاذ الذي لزمته في الخنادق الموحلة تحت رحمة الأمطار .

تلك كانت حالة الميدان حيت تغيرت القيادة وجاء ((فؤاد صادق )) ليتسلم التركة فكان أول عمل قام به أن طاف مع كبار ضباطه علي الجنود في مواقعهم وخنادقهم يتحدث إليهم ويثير الروح الكامنة في أعماق قلوبهم تلك الروح التي حطمتها أخطاء السياسة ونزلت بها إلى الحضيض .

وكانت سنة حميدة سنها القائد الجديد فجاء بالنتائج الطيبة وكان لها أثر كبير في النجاح الموضعي الذي أحرزه تلك القوات بعد ذلك وما لبثت الصورة القاتمة التي رسمها الضباط والجنود لقائدهم أن تبدلت وحلت محلها عاطفة متبادلة من المحبة والإعجاب .

ولقد زار القائد الجديد معسكرات الإخوان في الأسبوع الأول وجلس إليهم وأبدى إعجابه الشديد بروحهم العالية وكان يقول لهم في أول لقاء : إنه سمع عن بطولتهم وأعمالهم وإنه يتمنى أن لو كانت روح أفراد الجيش علي هذه الشاكلة .

ثم تكررت زياراته لهم في مواقعهم ومعسكراتهم وتلك الإخوان في كل مرة يزدادون بالرجل إعجابا به وكان الإخوان حتى ذلك الوقت لا يزالون يحتلون المواقع المحيطة بالمستعمرات ولا تزال تقارير المخابرات الحربية ترد تباعا إلى القيادة العامة عن مبلغ الخسائر الكبيرة التي ينزلونها بالعدو ولقد مر بك كيف ضج اليهود بالشكوى وهددوا باستئناف القتال إن لم يوقف الجيش هذه العصابات عن نشاطها .

وفوجئت ذات يوم بطلبي إلى رفح حيث كانت القيادة العامة قد انتقلت إليها وهناك تسلمت أمرا يقضى بسحب الإخوان من تلك المواقع وإرجاعهم إلى المعسكرات وحاولت أن أجد تعليلا لهذا الأمر المفاجئ فكنت أقابل بالصمت من الجميع وقد همس لي بعض ضباط الرئاسة العمليات واردة من القاهرة .

وعجبت كثيرا لصدورها وخصوصا في هذه المرحلة الخطيرة من الحرب وبعد أن آمن الجميع بالفائدة التي يجنيها الجيش من بقاء الإخوان في هذه المنطقة وكنت أعلم أن اليهود سيبادرون حتما لاحتلال هذه المواقع ليأمنوا شر العصابات وبالتالي ليضعوا خطوط الجيش المصري تحت رحمتهم فمضيت أشرح وجهة نظري إلى المسؤلين وأبين الأضرار التي يمكن أن تنجم عن هذا الأمر ولكن المسئولين أصروا وأفهموني بلباقة أن هذه الأوامر ((تعليمات عليا )) ليست قابلة للنقاش والتعديل .

فمضيت أنفذ هذا الأمر علي كره منى وعلي كره من الإخوان جميعا وسحبت الإخوان جميعا من مواقعهم تنفيذا لهذه التعليمات وبذلك انحلت القيود التي كانت تكبل مستعمرات النقب ومضت القوافل اليهودية تجوب الصحراء بحرية من جديد وتحشد الجنود والمعدات في المستعمرات القريبة استعداد للعمليات المقبلة وفقد الجيش عيونه المبصرة التي طالما نبهته للخطر قبل وقوعه .

ولقد صح ما توقعته وما حذرت منه فلم تمض إلا أيام قلائل حتى هاجم اليهود ((تبة الشيخ نوران )) واحتلوها وأصبح في مقدورهم مراقبة الجيش المصري وإحصاء حركاته وسكناته ولقد حاول الجيش استرداد هذه التبة المنيعة فهاجمها في (6) ديسمبر بقوات كبيرة ولكن ذهبت محاولاته أدراج الرياح رغم كثرة التضحيات والخسائر التي منى بها وكان الفصل في ذلك لمناعة هذه التبة وخصائصها الطبيعية وتحكمها في السهول المنبسطة التي تحيط بها وكان هذا الموقع واحدا من الموقع التي ظل الإخوان يدافعون عنها بإصرار طوال عام كامل رغم الهجمات والمحاولات المتعددة التي قام بها العدو.

أما بقية المواقع فقد احتلها اليهود بدون قتال كذلك فاحتلوا (( تل جمعة )) في ((15)) ديسمبر و((تل الفرعة )) في (( 18 )) ديسمبر وبذلك فق الجيش المصري منطقة تربو مساحتها علي سبعمائة كيلو متر مربع فقدها دون قتال كما فقد المناطق المتقدمة قبلها دون قتال أيضا أما الأرض التي احتلها اليهود عقب انسحاب الإخوان منها فقد أقاموا فوقها المستعمرات المحصنة وحشدت فيها القوات اليهودية التي هاجمت الجيش المصري في ختام الحرب .

أما سحب الإخوان من مواقعهم المنيعة والحد من نشاطهم العسكري فكان صدى للإجراءات التمهيدية الشاذة التي اتخذتها الحكومة السعدية قبيل حل جماعة الإخوان في مصر وكانت الحكومة كما أبلغت مؤخرا تخشى أن يقوم الإخوان في فلسطين بحركات انتقامية وهكذا صور لهم الوهم أن هؤلاء الشباب المؤمنين سينقضون علي جيشهم وقت أن كانوا يقذفون بأنفسهم في لهب المعارك دفاع عن جيش بلادهم وكرامة أمتهم.

ولقد مر بك اللواء ((المواوى )) طالب بإرسال عدد كبير من الإخوان وإرسالهم فورا إلى الميدان وسافر لهذه الغاية الأستاذ (محمد فرغلي ) رئيس الإخوان في فلسطين ولقد حدثني الصاغ (محمود لبيب ) وكيل الإخوان أن عبد الرحمن عزام أمين الجامعة قد استدعاه في ذلك التاريخ ورجاه أن يعمل علي تجنيد هذا العدد لأن خطورة الموقف العسكري تتطلب إرسالهم علي وجه السرعة ومضى الصاغ (لبيب) فاتصل بشعب الإخوان في القطر وأمر كل شعبة بتجهيز فرد واحد من أعضائها وإبقائه مستعدا للسفر في مدة معينة

ولكن ما أن تناهي النبأ إلى مسامع النقراشى حتى هاج وماج ورفض قبول الفكرة من أساسها ولم يستطع الإخوان تعليل ذلك الرفض حتى جاءت الحوادث القريبة بعد ذلك لتعلن الحقيقة المرة ذلك أن النقراشى كان مشغولا في ذلك الحين بتنظيم القضاء علي جماعة الإخوان ومحوها من الوجود

وأعود بالذاكرة قليلا إلى الوراء فأذكر الوقت الذي كان فيه المرشد العام رحمة الله ورضوانه عليه يعد ضخمة للدفاع عن القدس حيث كان اليهود يشنون هجمات عنيفة علي مراكز الجيش الأردني بها مما خشي معه أن يستولي اليهود علي المدينة المقدسة وأذكر أن حديثا تليفونيا جرى بيني وبين فضيلته وكان يقول لي : إنه يجهز قوات كثيفة ليدخل بها فلسطين وأنه سيعلن الجهاد الديني والتعبئة الشعبية بعد أن فشلت الحكومات وجامعاتها وكان يسوق لي هذه الأنباء مرددا هذه العبارة : (ما فيش فايدة الناس دول مش عاوزين يحاربوا ) وكان فضيلته يرمى من وراء ذلك إلى إثارة الشعور الديني في العالم الإسلامي ودفع الشعوب الإسلامية والحكومات الإسلامية لعمل شئ ما

علي أن الحركة العسكرية التي أرادها المرشد العام لم يقدر لها النجاح إذ وقف عناد النقراشى الزعيم النزيه حجر عثرة في سبيلها استجابة لرغبات الإنجليز وتمشيا مع سياستهم حيث كان يفزعهم اسم الإخوان وأنباء قتالهم الرائع في فلسطين

ولقد سمع ضباط الجيش وجنوده بأنباء هذه الحركات الشعبية التي أرادها المرشد العام وارتاحوا لها وعلقوا عليها كثيرا من الآمال الكبار وكان الجميع يعلمون أن مجيئه كفيل ببعث الروح المعنوية التي سحقتها الهزائم وشد أزر المحاربين الذين فقدوا الثقة في قادتهم وزعمائهم ولم يكن يدور في خاطر أحد أن هذه الوقت العصيب هو الوقت الذي حدده النقراشى ليركب رأسه ويرتكب فيه أبشع حماقة عرفها تاريخ مصر الحديث

ولم تلبث الأنباء أن جاءت بعد ذلك بقيام المذبحة الهائلة فسيق زعماء الإخوان إلى المنافي والمعتقلات وكان من بينهم الأستاذ (محمد فرغلي) الذي ذهب ليستحضر جنودا للميدان !

حتى ذلك التاريخ لم يكن الإخوان المحاربون يعلمون شيئا عن حقيقة ما يجرى في مصر وعن سر هذه الإجراءات المريبة التي تتبع إزراءهم في الميدان ولقد أدهشهم كثيرا إصرار المسئولين العسكريين علي جمعهم في معسكر والحد من نشاطهم حتى كانت ليلة (7 ديسمبر سنة 1948) حين جاءني اللواء (البردينى) وكان يشغل منصب (قائد ثان) للقوات المصرية في فلسطين وقد حضر إلى المعسكر في ساعة متأخرة من الليل يصحبه عدد كبير من ضباط أركان الحرب وجنود البوليس الحربي واقتحم حجرتي الخاصة أحد ضباط البوليس الحربي وقال لي :

إن وكيل القائد العام موجود في المعسكر ويريد أن يراك لأمر هام فارتديت ملابسي علي عجل وتبعته إلى الخارج فأدهشتني السيارات العسكرية التي ملأت ساحة المعسكر وأخذت أسائل نفسي عن سر هذه المظاهرة دون جدوى وأقدمت عليهم مسلما ومحييا فانبرى (البردينى) قائلا : إنه يريد التحدث معي علي انفراد فصحبته إلى حجرة المكتب وجلسنا ومعنا بعض كبار الضباط وافتتح الكلام قائلا: طبعا يا فلان كلنا لإخوان وكلنا مسلمون فضلا عن أننا نحارب عدوا مشتركا ولغاية واحدة ولا يمكن أن يضرب بعضنا وجوه بعض مهما كانت الدوافع والأسباب ثم أخذ يردد هذه المعاني ويصوغها في جمل مختلفة وشاركه ضباطه في تأكيدها وكنت في حيرة شديدة ولا أفهم معنى لهذا الكلام فقلت له : ألا أرحتني من عناء التفكير وبينت لي الموضوع دون حاجة لهذه المقدمات فلست أشك أننا جميعا إخوان نحارب عدوا مشتركا ولغاية واحدة وإلا لما رأيتني هنا في هذا الميدان

قال: اسمع يا فلان ! أنت رجل عاقل وحكيم وتستطيع أن تزن الأمور بميزانها الصحيح ولقد أبلغنا أن قرارا سيصدر غدا بحل جمعية الإخوان المسلمين بمصر والقائد العام بناء علي طلب الحكومة يريد منك أن تسلمه جميع الأسلحة ومعدات الحرب حتى تهدأ الحال وتستبين آثار هذه القرار خشية أن يركب بعض الإخوان رءوسهم ويقوموا بحركات انتقامية يكون فيها أبلغ الضرر في هذه المرحلة الخطيرة التي يجتازها الجيش

ونرجو ألا تمانع في تسليم الأسلحة والمعدات لأمد محدود رغم أننا نثق في حكمة الإخوان وإيمانهم ونؤمن أيضا أنهم لن يقدموا على عمل ينجم عنه الضرر مهما كانت الأسباب !

فقلت له : إن مسألة حل جمعية الإخوان مسألة نتوقعها بين يوم وآخر ولسنا نعجب لوقوعها مادام الإنجليز وصنائعهم يحكمون هذه البلاد ثم إننا نؤمن أن هذه الدعوة ليست قابلة (للحل) لأنها دعوة الله ودورنا فيها لا يتعدى الإخلاص لها والعمل لتحقيقها كل جهد استطاعته فإن فعلنا ذلك فقد أدركنا بغيتنا وأدينا واجبنا وحل الإخوان عندنا لن يتعدى نزع اللافتات وإغلاق الأبواب أما الدعوة فموضعها قلوب الصفوة المؤمنة وهي قلاع منيعة لا يمكن قهرها ولا اقتحامها ولو نصبت الحكومة المشانق في الطرقات وراجعت سجلات الإخوان المسلمين لتشنق كل صاحب اسم أدرج فيها بلا استثناء فلن تصل إلى ما تريد لأن دعوة الإسلام ستجد حتما من يعمل لها ولو بعد أجيال كثيرة وليست هذه أول مرة يتعرض فيها دعاة الإسلام للمحن والنوازل فصحائف التاريخ مفعمة بأنباء الطغاة والجبابرة الذين وقفوا في وجههم وحاربوهم بكل سلاح وكانت النتيجة في كل مرة أن يمحى الطغاة وتمحى آثارهم ثم يخرج الإسلام من محنه مرفوع الهامة موفور الكرامة

هذا كل ما عندي بشأن حل جمعية الإخوان أما خشية الحكومة السعدية من قيام حركات انتقامية في الميدان فتلك خشية لا موضع لها فإن إيمان الإخوان ووطنيتهم الصحيحة يمنعانهم من التفكير في مثل هذه الأعمال وإن هؤلاء الشباب الذين باعوا أنفسهم وهجروا الدنيا بمن فيها لن يختموا جهادهم بضرب وجوه المؤمنين من إخوانهم وزملائهم ثم إننا لو فكرنا في الانتقام من مرتكبي هذا الجرم ومقترفيه لما فكرنا في الجيش مطلقا لأننا نعلم أن الجرم كله يتركز في قلة تافهة من الحكام والكبراء وهم وحدهم سيتحملون التبعة أمام الله وأمام الناس وسيأتي يوم ينزلون فيه من عليائهم ليحاسبوا علي كل صغيرة وكبيرة

أما دعوتنا فستظل كما هي كالطود الراسخ لا تزيدها المحن إلا قوة وصلابة وعلي هذا فتسليم الأسلحة والمعدات يعتبر أمرا لا لزوم له ومن واجب القائد العام ألا يفكر فيه مطلقا وعليه أن يبلغ المسئولين رأيه الصريح وأن يتحمل التبعة وهو رجل شجاع جرئ لاتهمه المسئوليات والتبعات وأرجو أن يعلم أيضا أن هذه الأسلحة ليست ملكا للحكومة ولا للجيش ولكنها ملك لأفراد هذه المعسكر الذين اشتروها بمالهم الخاص ومنهم من باع ملابسه وحلي زوجته لشرائها ولن يستطيع إنسان كائنا من كان أن يقنعه بتسليمها والوقوف بدونها .

كنت أقول هذا الكلام وقد بلغ منى الغضب منتهاه وأخذ الرجل يحاول إقناعي دون جدوى وأخيرا اتفقنا علي كتمان هذا الأمر حتى أقابل القائد العام في الصباح بمركز رئاسته في رفح ومضى (البردينى) وصحبه وبقيت وحدي فترة من الزمن ثم غادرت المكتب وقد عولت علي كتمان هذا الأمر حتى يمكن معالجته بحكمة ولباقة

وهناك علي باب الحجرة وجدت جمعا كثيرا من الإخوان ينتظرني وقد دهشوا لهذا المظاهرة العسكرية التي اقتحمت بسياراتها وبوليسها ويبدى كل واحد منهم يبدى سببا من الأسباب ويتكهن بالأحداث الجسام التي لابد أن تكون قد وقعت أو علي وشك الوقوع ودلفت إلى الغرفة بعد أن طمأنتهم بكلمات مختلفة وبينت لهم أسبابا وهمية عن معارك وشيكة الوقوع وأن هؤلاء الضباط قد جاءوا ليبينوا لي دور الإخوان فيها فانصرف الإخوان كل إلى موضعه ولم يبق إلا عدد قليل دخلوا معي إلى الحجرة وأذكر أنني قمت لأصلي العشاء وجدت نفسي بلا إرادة أقرأ سورة البروج فلما وصلت إلى قول الله تعالى { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الآية) لم أتمالك نفسي فبكيت

كان الإخوان المحيطون بي قد فهموا كل شئ فما كدت أنتهي من الصلاة حتى كانوا جميعا يبكون وبادرنى أحدهم وهو الأخ (سيد عيد يوسف) بقوله : هل حلت الإخوان في مصر ؟ قلت له نعم وطلبت إليهم أن يكتموا هذا الأمر حتى نتبين عواقبه وخرج الإخوان وبقيت وحدي في غرفتي ولم يغمض لي جفن طوال تلك الليلة

كان مفروضا أن أذهب في الصباح الباكر لمقابلة القائد العام حيث ثبت له أمر الإخوان عقب هذه الحوادث فصليت الصبح ثم ركبت سيارة المعسكر وتوجهت إلى قرية رفح حيث القيادة العامة وكنت أفكر طوال الطريق عما عسى أن يحدث لو أصر (فؤاد صادق) علي رأيه في تجريد الإخوان من سلاحهم وكنت أعلم سلفا أن الإخوان لن يقبلوا تنفيذ هذا الأمر بسهولة ولن يلقوا أسلحتهم بهذه الصورة المزرية

وظللت أقلب الأمر علي وجوهه كلها فلم أجد إلا وسيلة واحدة تريحنا من هذا العناء هي أن يقتنع القائد العام بما أقوله ويدع الأمور تمضى في مجراها الطبيعي حتى دخلت رفح وكان الضابط يقبلون علي مرحبين وكانوا جميعا ناقمين علي هذه الأوضاع ولم يخف أحد منهم استنكاره لهذا الإجراء الظالم الذي استهدفت له أكبر هيئة شعبية في مصر علي أنهم كانوا مجمعين علي أن جماعة الإخوان لم تحل ولكن الأحزاب الحاكمة هي التي حلت نفسها بنفسها حين أقدمت علي هذه الخطوة الطائشة ثم التقيت بكبار المسئولين في الرئاسة وقال لي القائمقام )إبراهيم سيف الدين) وكان أركان حرب القائد العام وساعده الأيمن ومن خيرة الضباط الذين عرفناهم في الميدان : إن القائد قد فكر كثيرا في الأمر وتحدث مع المسئولين في القاهرة وأغلب الظن أنهم قد تركوا له معالجة الأمر بالصورة التي يراها وبعد لحظات دعيت لمقابلة القائد العام فقابلني الرجل بوجه باسم ورحب بي ثم عرج علي حوادث القاهرة فقال : إنه يرجو ألا يتأثر الإخوان بما يجرى هناك وأن يركزوا جهدهم في المهمة العظمى التي يقومون بها في سبيل الله والوطن واستطرد يقول :

إنه قد فكر كثيرا في الأمر فاستقر رأيه علي معالجته بالحكمة والحسنى وإنه سيترك للإخوان الخيرة في أمرهم وعليهم اختيار الأوضاع التي يرتاحون إليها فإن رأوا كلهم أو بعضهم مغادرة الميدان والذهاب إلى بلادهم ليشاركوا إخوانهم في محنتهم فسوف يسهل لهم أمر العودة وإن رأوا أن يستمروا مع زملائهم حتى تستقر الحالة العسكرية علي وضع من الأوضاع فسيظلون في أماكنهم دون أدنى تغيير في أوضاعهم ونظمهم

علي أنه يرجو أن يتدبر الإخوان الأمر وأن يعلموا أن الجيش في حاجة ماسة إلى جهودهم ولا يليق بهم التخلي عنه وهو علي هذه الحالة ثم طلب إلى أن أجمعهم في موعد معين حتى يذهب إليهم ويتحدث معهم كعادته فوعدته خيرا وخرجت وقد زال من صدري هم ثقيل واختفي من أمام ناظري شبح أزمة مخيفة كنت أحسب لها ألف حساب

ولما عدت إلى المعسكر وجدت أنباء القرار المشئوم قد سبقتني إليه عن طريق الصحف وأجهزة الراديو ورأيت الإخوان يتجمعون في حلقات كثيرة ويتناقشون في أمر هذا القرار وقد علت وجوههم علامات الغيظ والحنق فطلبت إليهم الانصراف إلى أعمالهم ثم عقدت اجتماعا عاما حضره قواد السرايا وضباط الفصائل وشرحت لهم ما دار بيني وبين قيادة الجيش وطلبت منهم بحث الموقف واتخاذ قرارات بشأنه فتداولوا الرأي بينهم ثم قرروا مفاتحة الإخوان في الأمر وعقد اجتماع عام حتى يمكن معرفة رأيهم جميعا واتخاذ قرار موحد علي أساس من الرغبة والاختيار

جمعنا الإخوان في مسجد المعسكر وتحدثت إليهم طويلا في هذا القرار الأحمق وبينت لهم حقيقة ما دار بشأن تسليم الأسلحة والمعدات وما تم التفاهم عليه ثم خيرتهم بين الاستمرار في القتال أو الانسحاب إلى مصر وطلبت إليهم الإدلاء بآرائهم الصريحة دون ضغط أو إكراه ثم أعقبني الأخ المجاهد (حسن دوح) من قواد المعسكر فحدثهم عن المحن كمرحلة ضرورية في الدعوات وأنهي كلمته بمطالبتهم باتخاذ قرار موحد نلتزمه جميعا ونتعاون علي تنفيذه

واستأذن أخ آخر في الكلام وقال : إن عنده وصفا لهذه المحنة من كلام المرشد العام نفسه ! وأخذ يقرأ كلمات من رسالة كتبها الإمام الكريم قبل ذلك التاريخ بسنوات وتنبأ فيها بمحن قاسية تعترض الإخوان فيعتقلون وينقلون ويشردون وتصادر حريتهم وأرزاقهم وتلصق بهم التهم الباطلة ظلما وعدوانا ويتعاون عليهم أعداء الإسلام من مستعمرين وحزبيين ولكن الله وعدهم بعد ذلك كله مثوبة العالمين ونصرة المجاهدين

وذكر الأخ المتكلم أن الأستاذ الإمام كان يتعجل المحنة ويتعجب من تأخرها ويعتبر وقوعها علامة النصر وبداية إلى الفوز المبين

وبعد أن انتهي المتكلمون طلبت إلى الإخوان الإدلاء بآرائهم فوجدت إجماعا تاما علي ضرورة البقاء ومواصلة القتال حتى ينتهي الجيش من مهمته وتعود فلسطين كما كانت دائما أرضا عربية مسلمة

وفي اليوم التالي حضر اللواء (فؤاد صادق) يرافقه جمع كبير من ضباطه وأبدى رغبته في الجلوس إلى الإخوان والتحدث إليهم بنفسه فلم تمض إلا دقائق حتى كانوا جميعا في مسجد المعسكر ولما دخل عليهم حيوه بهتافات الإخوان المعروفة ثم قام الأخ (حسن دوح) فتحدث نيابة عن الإخوان وبين للقائد إجماع الإخوان علي البقاء ومواصلة الجهاد حتى تنتهي الحرب دون أن يتعرض مطلقا رأى ضرر تخشاه الحكومة وتحدث القائد إلى الإخوان وشكرهم علي هذه الروح السمحة الطيبة وأبدى استعداده لإجابة مطالبهم كلها .

وهكذا انحصر تفكير الإخوان في الجهاد في فلسطين ووضع مصلحة الجيش والأمة فوق كل اعتبار

فهل كان الموقف يتنافى مع رأى قيادة الإخوان في مصر؟

المفروض أن (قيادة الإرهاب العليا) لن تحارب فلسطين ومصر معا في توزيع قواتها بين جبهتين ! والوضع الطبيعي أن تبادر القيادة العليا المذكورة فتسحب قواتها من فلسطين لتواجه بهم هجمات البوليس المصري وتنفذ مؤامرتها الكبرى لقلب نظام الحكم في الدولة وتحقيق المسرحية المثيرة التي ألفها (عمار) وأخرجها (النقراشى) وخليفته كان هذا هو المفروض في مثل هذا الموقف ولكن يظهر أن قيادة الإرهاب لم تكن لها حكمة (عمار) ولا ذكاء (إبراهيم عبد الهادي) فكان أن أرسل المرشد العام خطابا مع أحد الإخوان يقول فيه :( إنه لا شأن للمتطوعين بالحوادث التي تجرى في مصر ومادام في فلسطين يهودي واحد يقاتل فإن مهمتهم لم تنته ) ثم يختتم الرسالة بوصية طويلة للإخوان بالتزام الهدوء وحفظ العلاقات الطيبة مع إخوانهم وزملائهم من ضباط الجيش وجنوده

والواقع أن خطة المرشد العام كانت تقضى بعدم المقاومة حتى لا يستفيد الإنجليز من الفتنة إذ كان يدرك خيوط هذه المؤامرات كانت في يدهم فهم الذين احتضنوا الصهيونية منذ كانت فكرة وحلما حتى أصبحت دولة وجيشا .

ورأى الإنجليز أن مصر كلها تقف صفا واحدا لمواجهة الخطر اليهودي وأن هيئاتها المختلفة لم تتفق علي أمر بقدر ما اتفقت علي محاربة اليهود ومكافحة شرهم رأى الإنجليز ذلك ورأوا أن هيئة الإخوان هي التي تتزعم الحرب ضد اليهود في البلدان العربية وفي فلسطين وخشوا أن يتناول الإخوان لواء الجهاد وبذلك تتحول الحرب إلى معركة شعبية لا سيطرة فيها لقرارات الأمم المتحدة ولا لمجلس أمنها المنكود

والإنجليز يريدون أن تستمر هذه الحرب حكومية رسمية حتى يمنعوها أو يدعوها فتسير

ولقد زاد من خوفهم ما أذاعه المرشد العام عن عزمه علي إعلان التعبئة الشعبية والجهاد الديني وهو ما ذكرته في موضع سابق كل هذه الأسباب وغيرها جعلت بريطانيا وزميلتها الاستعماريتين فرنسا وأمريكا تضغط علي النقراشى وتأمره بحل الإخوان المسلمين والتضييق عليهم فإن قاوم الإخوان وتحولت الفتنة إلى حرب أهلية فهي الفرصة الذهبية لبريطانيا وإن سكت الإخوان واحتسبوا فقد نجحت في تحطيم الوحدة الشعبية وتوجيه قوى الأمة والحكومة وجهة مضادة

ولقد حدثني أحد الإخوان العائدين إلى الميدان أن نفرا من شباب القاهرة توجهوا للإمام الشهيد عند طغيان موجة الاعتقالات وسألوه عن رأيه في هذه الحركة واستأذنوه في المقاومة حسب الطاقة ولكن الرجل المؤمن حذرهم من هذا وبين لهم أن الإنجليز هم السبب وأنهم هم الذين أوحوا إلى النقراشى بحل الإخوان والتضييق عليهم عسى أن يقاوموا فيغتنم الإنجليز الفرصة للتدخل المباشر في شئون البلاد ثم وضح لهم الدور في القصة المشهورة التي تروى عن سليمان الحكيم عليه السلام حين اختصمت إليه امرأتان علي طفل وليد وادعت كل واحدة منها بنوته فحكم بشطره نصفين بينهما فوافقت المرأة التي لم تلده علي قسمته بينما عز ذلك علي الأم الحقيقة وآلمها قتل فلذة كبدها فتنازلت عن نصيبها فيه نظير أن يظل متمتعا بحياته وقال الإمام الشهيد : ((إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام ونحن أحرص منهم علي مستقبل هذا الوطن وحرمته فتحملوا المحنة ومصائبها وأسلموا أكتافكم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاءوا حرصا علي مستقبل وطنكم وإبقاء علي وحدته واستقلاله))

وصدع الإخوان بالأمر وتحملوا مصائب المحنة بصبر وجلد ومضى السعديون في خطتهم الطائشة يقتلون ويشردون ولا ينام زعيمهم مطمئنا إلا إذا ارتاحت نفسه لعدد من المشردين والمعذبين وكان كلما زاد العدد كان ذلك أدعى لراحته وسعادته حتى كنفت مصر كلها في سحابة كثيفة داكنة من الظلم والظلمات وبات أي فرد في مصر تحت رحمة البوليس السياسي إن شاء عذب وإن شاء غفر له وشهد الناس ألوانا جديدة من الطغيان لم يعرفوها قبل هذا العهد الأسود فمساجد الله تهاجم وتراقب ويوضع روادها في قائمة المشبوهين وكتب الله والسنن تعتبر نشرات ممنوعة لا يجوز تداولها ومبادئ الإسلام الكريمة تضم إلى غيرها من المبادئ الهدامة التي يحاربها القانون

قانون الدولة التي يزعمون أن دينها الرسمي هو الإسلام !

وكان طبيعيا أن تبرز الحكومة موقفها وتخلق سببا أو أسبابا لهذه المذبحة المريعة فأخذت أبواقها في االجمهور أنباء مختلفة عن مؤامرات تدبر في الخفاء لقلب نظام الحكم وطفحت الصحف الحكومية المغرضة بتفاصيل هذه المؤامرات الوهمية وتعدتها إلى الكلام عن الجمهورية الإسلامية ودستور القرآن الذي يريد الإخوان تطبيقه وصور الخيال أركان النظام الجديد حتى ذكرت إحدى هذه الصحف أسماء بعض وزراء الحكومة الإسلامية الجديدة !

ولم يكن الإخوان يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في ذلك الجو الخانق الأغبر فالحكومة تقبض بيد من حديد علي وسائل الإذاعة والنشر وتملي عليها ما تكتبه وما تذيعه وخزائن الدولة مفتحة الأبواب لأصحاب الأقلام المأجورة والذمم الخربة ليغترفوا منها ويدبجوا المقالات ويكتبوا ما يمليه عليهم الهوى والغرض ويساهموا مساهمة فعالة في تضليل الشعب واستعداء الحكومة التي لم تكن في حاجة إلى استعداء وهي تعلم جيدا معالم الطريق الوعر الذي خططه لها أسيادها المستعمرون واندفعت فيه دون روية أو تفكير

والشعب المسكين يقف مذهولا من هذه الحركات ولا يكاد يفقه معناها فهو يستقى معلوماته من الصحف المغرضة والأقلام المأجورة ويطالع كل يوم أنباء العثور بها على أسلحة ومفرقعات هي في الواقع من مخلفات الكميات الهائلة التي بعث بها الإخوان إلى فلسطين ولكن أبت الروح الحزبية الخبيثة إلا أن تجعل منها أسلحة لجيش سرى خطير !

في هذا الجو المسموم كانت تعيش مصر وتلك كانت حالتها الداخلية عقب هذا القرار الأحمق فأي توافق عجيب بين هذه الحركات الداخلية وبين توتر الحركة العسكرية في الميدان ؟!