تأسيس دعوة الإخوان بالإسماعيلية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٤:٠٣، ٨ يناير ٢٠١١ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات) (←‏أول نواة للإخوان المسلمين:)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


الظروف السائدة بمصر قبل نشأة جماعة الإخوان (7)

تأسيس دعوة الإخوان بالإسماعيلية

حشد-الجماهير.gif

• أول تشكيلة لـ(الإخوان) تكونت من (نجار وحلاق ومكوجي وميكانيكي وجنايني وعجلاتي)!!

• نظَّم الإمام (مدرسة التهذيب) لتربية أصحابه بالقرآن والحديث ودعوة الجماهير.

تناولت الحلقة الماضية الستة أشهر الأولى من حياة الإمام "حسن البنا" في الإسماعيلية، التي بدأها برصد للواقع لمدة أربعين يومًا، بدأ بعدها الدعوة على المقاهي، ثم في الزوايا، مع الاستمرار بالمقاهي، حتى جاءه ستةٌ من الرجال الذين حفروا لأنفسهم أحرُفًا من نور في التاريخ مع الصادقين من سلف هذه الأمة، ونشأت على أكتافهم دعوة (الإخوان المسلمين)، وفي هذه الحلقة نتناول ظروف تأسيس دعوة الإخوان المسلمين في محافظة الإسماعيلية.

كان الإمام "حسن البنا"- يرحمه الله- منذ حداثة سنه مهمومًا بواقع الأمة الإسلامية؛ لذا أنشأ كثيرًا من الجمعيات التي تحارب المنكرات وتحثُّ على الأخلاق، إلا أنه في نفسه كان يشعر بأن عليه عبئًا كبيرًا لعودة الناس إلى الإسلام الصحيح بصورة عملية؛ لذلك لم يترك فرصةً لتحقيق هذه الغاية إلا وسلكها.. يعرض ذلك في (رسالة المؤتمر الخامس) فيقول:

"تجسَّدت عمليًّا- ولأول مرة- تلك الفكرة في نفوس أربعة: حامد عسكرية، وأحمد السكري، وأحمد عبدالحميد، وحسن البنا بالقاهرة أثناء (دار العلوم)، وقبلهم كانت حديثًا نفسيًّا ومناجاةً روحيةً أتحدث بها في نفسي لنفسي، وقد أُفضي بها إلى كثير ممن حولي، وقد تظهر في شكل دعوةٍ فرديةٍ أو خطابةٍ وعظيةٍ أو درسٍ في المسجد إذا سنحت الفرصة، أو حثٍ لبعض الأصدقاء من العلماء على بذل الهمة ومضاعفة الجهود في إيقاظ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير، ولقد أخذت أفاتح كثيرًا من كبار القوم في وجوب النهوض والعمل، وسلوك طريق الجد والتكوين، فكنتُ أجد التثبيط أحيانًا والتشجيع أحيانًا، والتربيت أحيانًا، لكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية، وولَّيت وجهي شطر الأصدقاء أو الإخوان ممن جمعني وإياهم عهد الطلب وصدق الود والشعور بالواجب، فوجدت استعدادًا حسنًا وكان أسرعهم مبادرةً إلى مشاركتي عبءَ التفكير وأكثرهم اقتناعًا بوجوب العمل في إسراع (الإخوان) الفضلاء الأستاذ "أحمد السكري"، والأخ المفضال المرحوم الشيخ "حامد عسكرية"- أسكنه الله فسيح جناته- والأخ الشيخ "أحمد عبدالحميد"، وكثير غيرهم أثناء الدعوة على المقاهي في القاهرة، وكان عهدًا موثقًا أن يعمل كل منا لهذه الغاية حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية خالصة".

إلا أنه بعد فترة الدراسة في القاهرة تفرق الأربعة، فكان "أحمد السكري" بالمحمودية، و"حامد عسكرية" بالزقازيق، و"أحمد عبدالحميد" بكفر الدوار، والإمام "البنا" بالإسماعيلية، وهو أول من وضع نواةً تكوينية للفكرة.


أول نواة للإخوان المسلمين

كان من ثمرةِ الجهد الذي بذله الإمام "البنا" في الإسماعيلية طيلة ستة أشهر من شهر سبتمبر حتى شهر مارس 1928م ودعوته في المقاهي والزوايا، وحنكته في التعامل مع طوائف البلد المختلفة أن تأثر بدعوته كثير من رواده بالمقاهي والزوايا، وبلغ هذا التأثير مداه عند ستة من العمال والحرفيين بالمدينة الذين زاروا الإمام في بيته؛ ليضعوا أرواحهم وأموالهم بين يديه لتوظيفها لخدمة هذا الدين، فكانت البيعة ونشأة الجماعة.

في هذا يقول الإمام الشهيد في مذكراته: "في ذي القعدة 1347هـ مارس 1928 م- خلط الإمام "البنا" تاريخ التأسيس الفعلي وهو المذكور بالتقويم الميلادي مع تاريخ التأسيس الرسمي بالتقويم الهجري وهما غير متوافقين- زارني بالمنزل أولئك الإخوة الستة: حافظ عبدالحميد (نجار)، وأحمد الحصري (حلاق)، وفؤاد إبراهيم (مكوجي)، وعبد الرحمن حسب الله (سائق وميكانيكي)، وإسماعيل عز (جنايني)، وزكي المغربي (عجلاتي)، وهم من الذين تأثَّروا بالدروس والمحاضرات التي كنت أُلقيها، وجلسوا يتحدثون إليَّ وفي صوتهم قوَّة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، وقالوا:

"لقد سمعنا ووعينا وتأثَّرنا، ولا ندري ما الطريق العملي إلى عزة الإسلام وخيره؟ ولقد سئمنا هذه الحياة.. حياة الذلة والقيود، وها أنت ترى أن العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظَّ لهم في منزلة أو كرامة، وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب، ونحن لا نملك إلا هذه الدماء، تجري حارَّة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقةً بالإيمان والكرامة مع أنفاسنا، وهذه الدراهم القليلة من قوت أبنائنا، ولا نستطيعُ أن ندرك الطريق إلى العمل كما تُدرك، أو نتعرف السبيل إلى خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف.

وكل الذي نريده الآن أن نقدم لك كل ما نملك لنبرأ من التبِعَة بين يدي الله، وتكون أنت المسئول بين يديه عنَّا، وعما يجب أن نعمل، وإنَّ جماعةً تعاهد الله مخلصةً على أن تحيا لدينه وتموت في سبيله، لا تبتغي بذلك إلا وجهه، لجديرةٌ أن تُنصَر وإنْ قلَّ عددها، وضعُفت عدتها، كان لهذا القول المخلص أثره البالغ في نفسي، ولم أستطع أن أتنصل من حمل ما حملت؛ وهو ما أدعو إليه وأعمل له، وما أحاول جمع الناس عليه.

فقلت لهم في تأثر عميق: "شكر الله لكم، وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح يُرضيه وينفع الناس، وعلينا العمل وعلى الله النجاح، فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندًا، وفيها حياة الوطن وعزة الأمة.. وكانت بيعةً، وكان قسمًا أن نحيا إخوانًا نعمل للإسلام ونجاهد في سبيله، وقال قائلهم: بم نسمِّي أنفسنا؟ وهل نكون جمعيةً أو ناديًا أو طريقة أو نقابة؛ حتى نأخذ الشكل الرسمي؟؟ فقلت: لا هذا ولا ذاك، دعونا من الشكليَّات ومن الرسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه الفكرة والمعنويات والمعطيات، نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن (الإخوان المسلمون).

وجاءت بغتةً، وذهبت مثلاً، ووُلدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة، على هذه الصورة وبهذه التسمية.

مدرسة التهذيب:

لاحَ في الأفُق بعد البيعة طوفان أبيض يحتاج إلى تخطيط وتزيين وديباجة.. أين يجتمعون؟ وماذا سيفعلون؟

وفي الجلسة نفسها تشاوروا.. وأخيرًا وقع الاختيار على أن يستأجروا حجرةً متواضعةً في مكتب الشيخ "علي الشريف" بشارع (فاروق) بالإسماعيلية، وكان إيجارها في ذلك الوقت ستين قرشًا في الشهر، وأطلق على هذه الحجرة اسم (مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين)، وفي هذه المدرسة بدأ الإمام "البنا" يُربي طلابه بدايةً بهؤلاء الستة من الرجال الذين بايعوه على العمل للإسلام.

حدَّد هذا المربي منهجَ التربية في هذه المدرسة، فكان تصحيح تلاوة القرآن وفق أحكام التجويد، وحفظ بعض سور من القرآن الكريم، وحفظ بعض الأحاديث وشرحها، وتصحيح العقائد والعبادات والتعرُّف على أسرار التشريع، ومعرفة آداب الإسلام العامة، ودراسة التاريخ الإسلامي وسيرة السلف الصالح بشكل مبسَّطٍ يعمَد إلى النواحي العملية والروحية، مع التدريب على الخطابة والدعوة علميًا وعمليًا، بحفظ ما يمكن من النَّظْم والنَّثر، ثم الخطابة والمحاضرة والتدريس في هذا المحيط الصغير أولاً ثم في أوسع قمة.

ولم يكتف "البنا" بالجانب النظري، بل بدأ يأخذهم معه في المقاهي حتى يستأذنوا صاحب المقهى بغلق (ميكروفون) الأغاني لمدة خمس دقائق ويبدأ حديثه، كما كلف أحد هؤلاء بحصر حالات الوفاة بالبلد وبعد صلاة العشاء يقومون بزيارة أهل المتوفى في سرادقات العزاء، وفي غير هذه الليالي يجلس معهم ويعلمهم إلقاء الكلمات في المناسبات المختلفة من التهاني والتعازي، ويشجعهم على مواجهة الجماهير، وكان يسعَد كثيرًا حين يقوم أحدهم ويقدم واجب العزاء وهو جالس يستمع إليه.

وقد ظهرت هذه التربية العملية في تصرفاتهم الواقعية فكانت ودًا ومحبةً وتعاونًا فيما بينهم.. فتكونت جماعةٌ مثاليةٌ فريدةٌ من نوعها، وصارت قرآنًا يمشي على رجلين، وضرب أفرادها أروع الأمثلة في الحب والإيثار، والأخوة والتجرد، والثقة والثبات، والفهم والأخلاق، والجهاد والتضحية، والعمل والطاعة، فكان جيلاً قرآنيًا فريدًا.

أمثلة لرجال قرآنيين:

تخرج في هذه المدرسة دعاةٌ مخلصون جادون، يقرب عددهم من سبعين داعيةً، كان لهم من السلوك الأمثل ما هو فخرٌ لشخصية المسلم المعتز بإسلامه وشرفه ونقاء عرضه، ومن أمثلة سلوك بعض أفراد هذه الجماعة ما يلي:

استدعى المسيو "سولنت"- أحد مهندسي القنال ورئيس قسم السكسيون- الأخَ "حافظ"؛ ليصلح له بعض أدوات النجارة في منزله، وسأله عن قيمة الأجرة، فقال له الأخ حافظ: 130 قرشًا، فقال له المسيو "سولنت": أنت حرامي؛ لأنك تأخذ أكثر من حقِّك، فقال له "حافظ": اسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك، فإن رأى أني أخذت أكثر من المناسب فعقوبتي أن أقوم بالعمل مجانًا، وإن رأى أني طلبت المعقول فسأسامحك، واستدعى المسيو "سولنت" مهندسًا فقال له هذا العمل يستحق 200 قرشًا، فطلب المسيو "سولنت" من "حافظ" أن يستمر فقال له "حافظ": أنت أهنْتَني وعليك أن تعتذر وتسحب كلمتك، ولكن "سولنت" استشاط غيظًا، وقال له مَن أنت؟ لو كان الملك "فؤاد" نفسه ما اعتذرت له!! فقال "حافظ" هذه غلطة أخرى فأنت في بلد الملك "فؤاد" وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام، فارتبك "سولنت"، وجعل يمشي في البَهو الفسيح ويداه في جيب بنطلونه وأخذ "حافظ" يعد نفسه للخروج وجهَّز عدته وجلس على كرسي وبعد قليل قال "سولنت": افرض أنني لم أعتذر ماذا أنت فاعل؟؟

قال "حافظ": الأمر هيِّن، سأكتب تقريرًا إلى قنصليتكم هنا، وإلى سفارتكم ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس، فإذا لم أستطع أن أحصل على حقي استطعت أن أُهينك في الشارع أمام الناس، فقال "سولنت": يظهر أنني أتكلم مع (أفوكاتو) لا نجار، ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس؛ فكيف تتصور أنني أعتذر إليك؟ فقال "حافظ": ألا تعلم أن قناة السويس في وطني، وأن مدة استيلائِكم عليها مؤقتةٌ، وستنتهي ثم تعود إلينا، فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا؛ فكيف تتصور أن أدَع حقي لك؟؟

بعد فترة عاد "سولنت" وقد بدت على وجهه علامات التأثير، وطرق على المنضدة وهو يعتذر لـ"حافظ"، ويقول: "أعتذر يا "حافظ".. سحبت كلمتي"، فقام "حافظ" بكل هدوء وقال: "متشكر يا مسيو "سولنت"، وأكمل عمله، وبعد الانتهاء أعطاه "سولنت" 150 قرشًا، فأخذ 130، وردَّ له الباقي، قال له: "خذها بقشيش"، فرد عليه: "لا؛ حتى لا آخذ أكثر من حقي فأكون (حرامي) ، فدُهش "سولنت"، وقال: "لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت (فاميلي) محمد؟؟

فقال "حافظ": "كل المسلمين (فاميلي) محمد، ولكن الكثيرين منهم خالطوا (الخواجات) وقلدوهم، ففسدت أخلاقهم"، فلم يرد الرجل بأكثر من "متشكر".

هذا مثال من أمثلة التربية في الغرفة الصغيرة، التي أُطلِق عليها (مدرسة التهذيب)، فكانت بحق مدرسة تهذيب، وهناك أمثلة أخرى متعددة لهذه النماذج الفاضلة!!