النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٩:٠٨، ١٩ مايو ٢٠١١ بواسطة Admin (نقاش | مساهمات) (←‏تجدد الدين والأزمة المعاصرة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع

المؤلف : الشيخ الدكتور حسن الترابي


تـوطـئـة

هذا كتاب من هدىالإسلام ، وربما يحق أن تبين نسبته تلك لدى عنوانه ليجتذب القراء المهتمين بالإسلام السياسي ، أو تغيب ليمضى سبيله بين سائر القراء الذين تعنيهم شئون السياسة. ذلك أن الشائع في سوق المنشورات السياسية العربية الحاضرة يغلب فيه المترجَم أو المقتبس من الثقافة السياسية الأوربية أو المستمد من هديها.

وتلك ثقافة تأصلت من تراث أفكار يونانية وأعراف رومانية وتقاليد مسيحية خاصة ، ثم تنورت برؤى العقلانية الإنسانية المنقطعة عن الغيب والدين وتطلقت بأهواء المادية الشهوانية وحاجات الدنيا وحاضراتها الواقعة ، وتطورت بها الحياة والنظم السياسية خارجة على حكم الكنيسة ونفوذها متحررة من سلطان الملوك والعرف القديم مندفعة بثورات الشعوب وقواها المتصارعة وعلومها المتطورة. وقد تكثفت تلك الثقافة بعمران الحضارة الغربية وتعالت بوسائل الاتصال والاستكبار فائضة على سائر العالم المتخلف الواطئ الثقافة ، فامتدت إلى أوساط الأمة المسلمة المستضعفة لاسيما في حياتها العامة التي كانت ثغراً للغزو الثقافي إذ ضؤل فيها الوعى وانغمر الدين. فى ذلك العهد كان المنشور الصادر عن فقه القضايا السياسية بالإسلام وارداً غريباً لابد أن يُنسب لأصله ليتميز عن السائد المعروف وأن يثار ذكره حتى يشتريه القراء المفتونون عادة بالمعروض الغربى الصبغة. لكن هذا الكتاب ومثله ليس إلا من مجاهدات التحرر من عقدة تغريب الإسلام وأفكاره ومن ثمرات اليقين بأنه حق متى وافته الصحوة والدعوة بعد الغفلة العارضة ظاهر على الدين كله.


ولئن كان الإسلام المتجدد يعود لأول العهد غريباً فى بيئته - على سنة التجديد فى ثقافات العالم – فإن ساحة المسلمين اليوم لم يعد منطمساً فيها ذكر الإسلام حتى يبدو كتابه منكراً تلزمه شارة تعريف وجهدة ترويج. فإن ارتكمت على المسلمين قرون إدبار عن فقه سلطان الإسلام الراشد ثم ارتكزت غفلتهم عنه لمّا تمكّن عليهم السلطان الغربى واستعمر فيهم قوته ودعوته ، ها هى اليوم تنتشر دعوة الإسلام السياسية ويظهر حقه وأخذت تضمحل بين المسلمين فتنة المذاهب والقوى النازعة إلى شمالى الأرض. ولمّا يتحققّ بعدُ هدى الإسلام السياسي واقعاً منبسطاً في كل دياره ، ولكن بارت فيها شرعية النظم السلطانية المؤسسة كرهاً على المسلمين تحمل شعارات وأشكالاً منسوبة غالباً زوراً للديمقراطية وشيئاً ما أحياناً للإسلام .بل أن المارقين على الإسلام دين التوحيد بفتنة اللادينية أو العلمانية العازلة لعالم الدنيا

السياسي عن الغيب والهدى الديني ، هؤلاء اليوم فى اضطراب يجادلون حول الإسلام ، وأحياناً فى اضطرار يزيّنون مذهبهم بكلمات مبهمة تخادع بذكر من الإسلام. وكذلك المتسلطون المستبدون بأهوائهم على الرعايا المسلمة المتلبسون زخرفاً ظاهراً من صور الديمقراطية ، هم اليوم يرفعون شارات زيف ليؤكدوا مزاعم النسبة للإسلام ، وكلهم يحملون أحياناً على دعاة الإسلام الشاهدين الصادعين بحق رشده السياسى والسلطانى خشية أن يودوا بهم إلى حرج فانفصال من الشرعية واطّراح ، ويدعّون أن حشر الدين فى السياسة ليس إلا سوء استغلال لمحترماته ، يتوهمون أنهم بالمنافقة يسترضون جماهير الرعية. ومهما يكن فدعوة الإسلام السياسى ينتشر ذكرها بذلك من حيث لا يشعر الكارهون. أمّا الجماهير المسلمة فهم اليوم أكثر وعياً بالإسلام الحق وأرجح وقعاً في مسيرة السياسة وأحمس للولاء والعطاء في سبيل الله ، ومنشور الدعوة الإسلامية السياسية اليوم في غناء عن إعلان نسبته حذر الغربة وفى كفاية عن علامة تجارية طلب الرواج .


هذه الإلمامة بقضايا السياسة والسلطان أو المعالجة لها فى هذا الكتاب ليست إلا ثمرة من توحيد مكاسب المعرفة فى حياة الكاتب. بعضها علمٌ أخذه المرء من مصادر غربية ناظرة فى مطروح تلك القضايا أو راوية للمعمول به منها قديماً وحاضراً ، وبعضها عبرةٌ تلقاها مباشرة من مشاهد الواقعات فى حكم الغرب ، وبعضها زادُ حكمةٍ من ممارسة التجربة فى الحياة السياسية لعشرات السنين في السودان ، وبعضها أضواء اطلاعات من قريب أو بعيد على واقع الحياة العامة فى كثير من ديار الإسلام. وذلك فضلاً عن أساس من دراسات لتراث فقه الإسلام فى أحكام السلطان وقصص سيرته فى السياسة ، وقراءات لمنشورات حديثة شتى من ملة المسلمين تصدر عن ذوى علم أو تجربة بعضهم يحمل ميول المذاهب التقليدية وبعضهم يعبّر عن مواقف عصرية متباينة المدى من حيث الإيمان بحق الإسلام واجتهاد النظر فى صراطه السياسى المستقيم المتجدد أو الافتتان بالواقع انكباباً على مثير أحواله وتقلباته أو بالغرب استقبالاً لفكره وخبره. وحيثما نشأت مصادر المعرفة للإنسان فبقدر وسعه في جمعها تتحد وتتناصر ويزداد فى النفس رسوخ اليقين والعلم والحق والحكمة شعاباً للإيمان بدين التوحيد. فمتى كانت فطر النفوس تتزكى بالتجارب اطمأنت القلوب باليقين ، وحيثما كانت العقول تتفكر في منظورات الوجود ومشهوداته اهتدت خواطرها إلى العلم الحق ،وكلما كانت آيات الوحى المنزلة من الأزل تُتدبر تجلى بها عبر حادثات الحياة الدين الخالد ، وأينما كانت الحياة تُقرأ بسيرة عواقبها الشاهدة على صالحها وسيئها فعبرها وعظاتها تنزل الحكمة البالغة .


وكذلك مَن قصد الخلاص إلى محصول الرؤى فى هدى الإسلام فى القضايا السياسية والسلطانية ينبغى أن يتحرى ويوحّد مادة من معرفة حق الإسلام وكل حقائق الحياة ، يوحد النظر إلى أصل المثال الإسلامي المستقيم الخالد فى الحكم والى واقع كسب المسلمين ثقافة مقصورة ومنقولة للمعتبر المتعظ ، ويصل سيرة السلف والخلف السياسية الناهضة والهابطة والمتجددة والمتنقلة عبر تقلب ابتلاءات التاريخ ، ويجمع ظاهر الحياة العامة وصورها ومراسمها الطيبة بباطنها فى خلق الوجدان الخالص ، ويربط عموم الوجهة والمبادئ والقواعد في أحكام السلطان ومفصّل المناهج والقضايا والسنن ، ويوحد الإنسان بمقارنة الأصيل من دين المؤمنين بلا نسخ ولا مسخ والدخيل عليهم من كسب سائر البشر وحضاراته في شئون الحكومة .


لابد أن نتعرف أصول الإسلام المثال القرآني والواقع السنّى فذلك فيه هدى الحق الخالد ، ولئن عبّرت عن بعضه حقائق مسنونة من الواقع والصور مثل الشعائر التعبدية المعروفة فإن بعضه لاسيما فى السياسة والسلطان إنما يتحقق فى أوضاع وهيئات وعلاقات متجددة عبر تبدلات ابتلاءات الدهر وتغيرات ظروفه. وينبغى ألا ينقطع خلف المسلمين عن تراث ثقافتهم برؤاها المتمذهبة وسيرها المتقلبّة ، ففى ذلك وجوه من إصابة تتبين للنظر الراجع تُزوده علماً وعبرة ومن خطأ يُكسبه عظات ، وفيها مجاهدات ومحاولات لبلوغ المستوى الأعلى والميزان الأقسط مما تطلبه تكاليف المثال ، وفى ضوء التاريخ وسياقه يبين الدرج الذى سما إليه الواقع ليُبنى عليه صعداً أو الدرك الذى تدهور إليه ليُستدرك. وينبغى ألا تحجر الخلف المنقولات التقليدية التى تتراكم عليهم عن أن يتّيّمموا الأصول ، وألا يُقعدهم التعويل عليها عن الاجتهاد فى ضوء البلاءات الجديدة ووجوه الرأى النابتة ، بل أن تنشرح صدورهم بالاجتهاد المتجدد الممتد الذى لا تنسد أبوابه وتنفتح نفوسهم من ركام العصبية الموروثة مذهبية فقهية أو نحلية شيعة وسنة. وتعاقب التاريخ امتحان لكل أمة إما زادها علماً وحكمة فرقيت أو رهنها جموداً وعصبية فهوت.


ومن هدى دين التوحيد لمن يبتغى رشد الحياة السياسية بالدين دارساً ظاهرها وما يبدوا من بلاءاتها بشتى مساقاتها وتطوراتها وما يلزم من خطّها ورسمها وحكمها بوجوه من تجديد فقه الإسلام ، أن يتأمل أيضاً باطنها متذكراً عظة التاريخ. فقد اعتزل الخلف الصوفى الذى عمّ بين المسلمين ساحة السياسة إذ هجر شيوخ المتصوفة حمى السلطان وأبوابه خوفاً أو قنوطاً مما غشيها من فتنة الشيطان واقتداء بما جرى لأئمة الفقه ، فجفّت السياسة من الإيمانيات إذ التهت بالجدليات والفرعيات عن أصول التدين وأنقطعت عن التقوى منسطحة على ظاهر الصور والأقوال ، فشاعت أعراض النفاق والفساد السياسى وفرغت القلوب من النيات الحية. لابد للدين علماً وعملاً أن يتحد به الباطن والظاهر لتنشط الوجدانيات العامرة وتصدق التعبيرات الكثيفة وتتماثل تزكياً وخشوعاً وتقوى فى السياسة والإمارة ، مثل الصلاة والإمامة فيها. وبلاء كل الثقافات أن تتفاصل فيها الأحكام القانونية الضابطة لظاهر السلوك والأخلاق الباطنية الموجهة لدوافعه ، وذلك فساد وموات للحياة بما يجعلها قاصرة لا تتكامل ويحيلها إلى منافقة لا تتصادق حقائقها. وأشد ساحات الحياة عرضة لمرض الفصام بين الظاهر والباطن هي السياسة التى تباعد فيها فى كل نظر النصارى وغالب واقع المسلمين المشهود الحاضر والغيب الآجل وتعازل الدنيوي والديني.


وكذلك على المعنىّ بشأن السياسة في الدين أن يوحد النظر لسياق البلاء عبر المراحل والانتقال. فسيرة المتدينين وغيرهم من البشر تتعاقب قروناً ، قد يتصاعد الأوائل وعياً وتجدداً ونهضة إذا استفزهم تحدٍ أصابهم من أمة أرقى منهم أو قوّمهم بعد الضلال والجمود هدى تنزّل عليهم من السماء أو تذكروه بعد غفلة ، وقد يخلف قرن يُتم البناء بعد تأسيسه السالف ثم يعقب قرن عاطل لا يجتهد تعويلاً على التراث المنقول ولا يجتهد توكلاً على الفخر والكسب الموروث. وهكذا تتداول الأيام بالأمم. وهى سنة كان وقعها ظاهراً فى تاريخ المسلمين لاسيما فى سيرتهم سكوناً خاملاً بعد حركة حية وجبروتاً مطلقاً بعد شورى حرة و شتات ذليل بعد وحدة عزيزة. وفى دراسة تلك السياقات المتداولة عبرةٌ لتقدير عوامل الانحطاط عن المثال ولتخطيط حركة جديدة نحو نهضة بعد وهدة ولتدبير اتصال مراحل المستقبل تعالياً مستمراً ونزوعاً دؤوباً نحو المثال لاتصيبه العلة المعهودة من طروء العجز والخرف والتقادم عند الخالفين.


والداعون أول العهد للإسلام أو من بعدُ لمنهاج فيه متجدد يحييه بعد ذبول أو يكيّف مقتضى حقه الخالد حسب تطور الحقائق الواقعة ، أولئك إنما يبدرون إلى عرض المبادئ إجمالاً لتُقبل أساساً جديداً للحياة ووجهة عامة لها قبل أن تتنزل من بعد شعابَ هدى لفروع الحياة. وكذلك المجاهدون الآخذون دينهم بالقوة فى وجه مستبد قوى يقيم جبروتاً على المسلمين أو طاغوت عارض عادٍ عليهم من الخارج ، هؤلاء يقيمون ما تيسر من الدين في جماعتهم لكنهم يرفعون سائر معانيه شعارات ورايات رمزية تركّز الولاء للدين والبراء من نظام الباطل وسلطانه والتحرر للحق المنشود ولاستقامة الحياة. ولربما يكتب لهم النصر فيجابهون بلاءات الواقع التالى بغير عدة من مناهج مفصّلة تصدّقها سياساتٌ منزّلة نظاماً سلطانياً رشيداً على الأرض التى تمكنوا فيها وهداياتٌ منبسطة تحيط بكل ابتلاءات الحياة السياسية الجديدة المنتقلة ليرسخ أمرها ويستقر ، ربما يتحير بهم المسير فى مرحلة الحرج بعد النصر. وإنما الأرشد أن يتيسر لدعاة التغيير الإصلاحى ومجاهديه فقه أصول وفصول يُمد روح المجاهدة ويعززها بنيات مركبة تتقصد كل الأهداف المفصلة التى يجادلون ويقاتلون فى سبيلها وليستعدوا إذا فتح الله بالاستجابة من الناس أو النصر على الطاغوت وسلّمت أمة الخطاب بالمبادئ الأول أن يبينوا لهم شعاب مقتضايتها ويفسروها مع تطور التساؤل ليُطمئنوهم إلى ما ينشدون لصالح الحياة وليتمكنوا فيهم بلا خيبة أو اضطراب. وهذه سنة بلاء التحولات والثورات كلها تتحيّر شيئاً ما عند التجاوز من التبشير إلى مرحلة التطبيق ، يتمادى الثوار خاصة بروح الصراع من فور ما يفاجئهم الانتقال فيصوبون المشارسة المنقولة من عهد الثورة إلى أنفسهم ، إذ يهلك العدو المستهدف فينقلب بعضهم يهدف بعضاً ، ويقوم فراغ بيّن فى ثغور المبادى المبهمة التى كانت كافية شعاراً لعهد الدعوة والثورة ، فيغزوا باطلٌ جديد يسد الفراغ ويبدو الفشل من حملة الرشد والعدل والخير الموعود بعد أن امتحنهم الواقع موطّأً لهم ممهداً ، ولا تقوم سياسات متكاملة يرضاها الناس ويطمئنون ويسكنون. تلك مخاطر مسنونة فى ظواهر التحول ومراحل الانتقال ، ويلزم من ثم بسط فقه متكامل بشئون السياسة والسلطان فى الإسلام أهدافاً عامة يُدعى إليها أو يُجاهد فى سبيلها ومناهج وسياسات مفصلة منها تُتم الدين حقائق متنزلة مطمئنة فى كل واقع حاضر.


إن هذا الكاتب فى شأن الإسلام و السياسة والسلطان ومعظم إخوانه هم من تغشاهم الثقافة الغربية المهيمنة ، وقد ينصبغ بعضهم بها فلا يرى السياسة إلا مفتوناً بالدهريات الظاهرة منصرفاً عن الأزليات مُدبراً عن ثقافته الأصيلة. إن حفظ الأصالة الإيمانية المتجددة هو ضمان الرشد والهدى فى الدوافع والمقاصد والثبات والنفاذ فى المناظم والمراسم التى تسيّر حياة المسلمين السياسية والسلطانية ، ولايجدى أن يقوموا فيها تشبهاً بغيرهم بغير أصالة ، أفعالهم كالقرود وأقوالهم كالببغاوات مهما طاب المنقول المحاكى ، و لا اتباعاً لبعض الذين نبتوا فى دمن الثقافة الدينية التقليدية البائسة الفقه السياسى يقلدونه مفتين فى مسائل فرعية لايدركون الأصول والأركان والمغازى فى هدى الإسلام جامدين لا يجتهدون مجددين فى ضوء الابتلاءات المتطورة ولا يسيحون فى الأرض لا سيراً ولا اتصالاً يسيراً غزيراً ليحيطوا بسنن العالمين من بنى آدم يتفهمون مذاهبهم ويتبينون واقعاتهم ويتدبرون عبرها ومواعظها ويقارنونها إلى مقتضى الدين الواجبة اليوم ليعوا المقبول منها تجربة بشر والمنكر ضلالاً. والحق على المؤمن المتعلم أن يوحّد كل علوم الإنسان وتجاربه ويسخّرها على أساس وإطار من الهدى المتنزل من الله لإقامة الحياة الأقوم والأحكم.


إن هذا الكتاب مخاطبة لعامة جمهور المسلمين ،لا لتشغلهم بفرط تشعيب الفرعيات الدقيقة ولا لتربكهم بازدحام منقول المقولات والمحاجات المتعصبة والمختصمة ، بل ليتبينوا ويتفهموا بأنفسهم أصول هدى الدين فى السياسة والسطان ومعانى أحكامه ووصاياه ومقتضى قواعده وكلياته ومحصول قيمه وموازينه فى سياق حاجات واقعهم المعلوم الذى تنشأ فيه القضايا ، وذلك ليطبقوها على الواقع حياة تستقر نظمها وضوابطها وتطمئن دوافعها وعلاقاتها. وأم القضايا اليوم هى قيام الدين السياسى أو بقاءه محجوراً كله مقبوراً. والجماهير المؤمنة هم حملة تلك الأمانة الثقيلة لإقامة أصل الحكم الإسلامي في وجه الابتلاءات والتحديات المثقل بها هذا العصر ، والمعوّل والواجب الأول إنما هو على الجماهير أن تأخذ الدين بقوة وتحمل فى سبيله ضغوط المدافعة السياسية للباطل القائم فى حال الحرية والسلام أو دفوع المجاهدة الثورية فى حال الكره والصدام للجبروت أو العدوان. ولا قوام بعدئذ لتحقيق الدين وتطبيقه واقعاً كاملاً إلا وقفاً على جهد كل الجماهير ناشطة فى أداء التكاليف ، إليهم المرجع ليرفعوا ويخلعوا ببصيرتهم وإرادتهم سلطان الوضع ويقيموا سلطان الشرع وليحفظوا أسس الحكم مشاءة تمارس الحرية وإرادة لإجراءات الشورى وعقداً لقرارات الإجماع وليرتبوا نظم الحكم المتوازنة المتضابطة وليبسطوا ويحسموا الخيارات المتنافسة ويبعثوا المناصحات العامة ويكيفّوا الإصلاحات المتضاعفة. وإنما جاهد واجتهد لتمكين الإسلام لأول عهده جمهور المؤمنين الصحب للرسول، ما كان فيهم متخصصون متفرغون لتدقيق العلم وإنما أخذوا الدين كافة من عموم هدى القرآن وخصوص أحكامه المتنزلة على الأحداث والوقائع كما يبينها قائدهم ، وما كانوا على أساس من فقه كثيف ورصيد غنى من الثقافة السياسية. ومن ثم بدأ الاجتهاد الفقهى يتبارك مع تطور الحياة وتشعبها وظهر بعض الأئمة ناطقين بما عليه الرأى والعرف المقبول فى الثقافة الحية الواسعة ، لكن تدهور من بعدُ مستوى الدين السياسى باختلاط الجماهير الداخلة فى الأمة بما تحمله من تراث وتعّسرت وظائف الحكم وطرأت الفتن السياسية ، وأخيراً ظهر خلف فقهى من الشراح الذين يفرعون التعليقات الموغلة المتنطعة فى الحواشى الدقيقة علماً يتباعد بعامة الناس عن أصول الدين ومنابعه ويغمر معالمه، بل تعازل اولئك المتفيقهون والعوام الذين أصبحوا يسدُون فى الحياة فى غفلة وجهالة إلا سماع الفتاوى فى صغائر المسائل ممن اختص بأمر الدين واحتكر معارفه. والعهد اليوم تركة ساكنة لا حياة متعمرة بالدين لتعقبها نهضة ثقافية متفجرّة بالاجتهاد تستدعى ضبطها بالعلم المتخصص المنظم، بل حياة يغشاها التماوت وثقافة دينية تغلب فيها المورثات البالية من منثورات الفتاوى ، وذلك يستدعى الاستنفار لدفع الحركة خوفاً من الموت لا التحفظ حذراً من الفوضى ،لاسيما فى الثقافة الساسية التى هى أشد جموداً لا تتحرك أو تنمو أو تلد وهى أبعد تخلفاً عن تطور الابتلاءات لا تناسب بروز قوة المجتمعات بقواها المستعصية حكماً وظهور معضلات حاجاتها وأمورها العامة المعقدة وثقافاتها العالمية المتدافعة. فالخطاب الأجدى اليوم إنما هو بفقه الإسلام السياسى الحىّ لعامة الناس.


والكاتب كثيراً ما ألقى من قبل رسائل خطاب عام ودعوة للجماهير لتحريكهم فى مسالك السياسة والسلطان على هدى من الإسلام ، وما كانت تلك مادة تعُد للمدارسة الدقيقة التى ينظر فيها العلماء ويحفظها الطلاب. وهذا خطاب جامع يعرض الآراء المتجددة الراجعة إلى الأصول مجردة من المقولات الشواهد من السلف غير محفوفة بكثيف حيثيات المحاجة فى أمة خطاب مرهونة بالنظر إلى حرف النصوص لاسياقها وظاهرها لا مغزاها ومصروفة إلى قديم الفقه المعهود وقائم الأوضاع الحاضرة ، قد تنكر الآراء الجديدة الداعية للإصلاح. والتعزّى بالمصابرة لزام حتى تألف النفوس ما لم تعهد ويستقر فيها وحتى يُقيض للفقه الجديد المتخصصون المتفرغون لسنده بالمأثورات ومده بالفرعيات ، وحتى يدفع القدر قوى الدعوة والمجاهدة فتتطور مصائر الواقع فتُصدّق الحق والحكمة فى ذلك الجديد. إن حال مجتمع المسلمين اليوم لم تبارحه بعد أزمة الضلال فى الرؤية السياسية وفتور الحمية لحكم الشريعة وعوائق الأهواء العالقة بالواقع ، ولا يصح تأخير نزول أصول الحق حتى تتوافر كل المباحث العلمية التى تجليّه وتتهيأ من نفسها تصاريف الظروف منزلاً له ميسوراً. بل هدى الدين أن يُسارَع إلى الحق ما بانت وجهته العامة وإلى الخير ما ارتسمت معالمه الأساسية ، والعمل بمبتدأ العلم يباركه بياناً ويحققه فعلاً. ذلك ولو تعرض أول المسير ليعض الخطل والفشل وتعثرت الخطى فإن بنى الإنسان ما اعتصموا بالقبلة هدى وبالله توكلاً هم خطاءون توابون يتنامون بذلك علماً وحكمة.


و الحق يقال أن كاتب هذه السطور إنما حررها وهو فى حبس سياسى من فتن السلطان معتقلاً عن الإحاطة بكل الكتب فى مكتبة خاصة أو عامة حتى يثبت بيان مراجعه فيها وينقل عنها حرف المنقولات ومواصف مصادرها ،وإنما تيسر له ما يحفظ ويتلو من آى القرآن التى يجتهد أن يتفقهها موصولة بسياقاتها المبيّنة وبأطر نزولها الظرفية والثقافية بمنهج تفسير توحيدى لا يأخذ مقطّع الكلمات ومجردها ، وإنما يتبين معانى آيات القرآن فى إطار منزلها أحداثاً وسيرة واقعة وأقولاً مروية عن الرسول ، وقليلاً ما تنثر هنا جمل من الأحاديث النبوية مبتورة من هوادى القرآن وظروف الواقع المبينة ، لا سيما والشأن سياسة سلطان متغيّرة متطورة ابتلاءاته يخطّ الدين هديه العام ولا يرسم كل منطق أقواله وحركة أفعاله وصورة علاقاته مثل شعائر الدين المسنونة كالصلاة والصيام والحج .


والكاتب كما سبق القول يحاول أن يوحد ما اجتمع لديه من مصادر المعرفة تتوالى وتتكامل ولا يرتبك الأعلى والأدنى حجة ولا يختلط الأقرب بالأقصى إطاراً لإخراج مثال للإسلام اليوم فى الموضوع. وإنه ليسأل الله مستغفراً من الخطأ مرجياً رضوانه تعالى بالصواب متشفعاً لكل أهل المشارع التى ورد ماءها واستقى منها علماً ما أو حكمة ، ليشملهم الله رأفةً من رحمته للكافر الملة الموزور لاسيما الذى يعتدل ولا يتعدى على دين الإسلام وبركةً من فضله للمسلم المأجور قدر كسبه ، من يبّعض إيمانه بالإسلام فينصرف عن هدى الدين في السياسة كفراً صريحاً أو نفاقاً يوارى ضلته بحيل الكلام ومن هو منفعل بمشاعر الولاء الديني لكنه يضرب فى السياسة بجهالة ومن هو صادق متبصر يأخذ دينه بتفقه واجتهاد. أؤلئك هم جميعاً علّموا الكاتب مدارسة أو بسطوا له علمهم مطالعة أو هدوه إلى الحكمة مشاركة أو مشاهدة لهم فى السياسة وما يعملون فيها من صالح يزودِّ بحسن القدوة أو فاسد يعظ بسوء الفعلة ، لايستطيع المرء أن يحصيهم عدداً أو يشير إليهم ذكراً فى حاشية أو ملحق فى هذا الكتاب الذى هو حصيلة كل بنيته المعرفية لا هديته فى شأن السياسة والسلطان وحدها ، وإنما كتاب أسباب المكاسب وحساب جزائها عند الله وهو بكل شئ محيط .


لئن سارع الكاتب إلى جمع تعاشيب معلومات كسبها وكلمات محاضرات تذكّرها ورؤوس خواطر تدبّرها ، وإلى تحريرها فى هذا الكتاب أجمل فيه المتن بلا ترتيل للفروع وعطل النص بلا ذكر للمراجع ، وآثر ألا يتركه أوراقاً مخطوطة محفوظة جمعت فى السجن ، ولئن كان فى المادة غريب أفكار انتظرت عشرات السنين رجاء فراغ وبوح بعد الفرج يُتمها محفوفة ويقدمها مالوفة لكن ظلت مغمورة بمشاغل الحرية ، لئن كتب الكاتب اليوم فإنه ليرجوا أن يقرأ القارئ بسماحة منفتحة ولو وجد غريباً ينكره ويشذ عن مألوفه ومعهوده ولم يجد إيلافاً من شواهد رأى كثيفة من السلف. وإنما الكتاب استرفاد بكل رصيد سابق واجتهاد لمدّه نحو بناء لاحق وتحضيض لعامة الداعين الساعين المجاهدين فى سبيل الحق وتثويرٌ لفكر الهادين المجتهدين يوافقون رأياً ويؤيدونه ببيان المساند وجلاء الشعاب ويدركون خطأ فيستغفرون للخاطئ ويعدلّون للسالك ويتدبرون ويطورون مسيرة المسلمين السياسية توبةً ثقافية إلى بينّة ويقين وقومةً عملية على صراط مستقيم هدى للعالمين.


مقدمة : أصول الدين وواقعه السياسى

الإنسان حيوان مكرم مطلق الخيال والتفكر في الكون والتدبر في الحياة حوله ، لكنه بطبعه محدود الإدراك لما يحس من العلم المشهود أو يعقل بمدى علمه. وهو حر الإرادة عواطف أهوائه وشهواته طمّاحة إلى تعلقات المتاع والصلات حوله ، ولكنه مضبوط بوسع الاستطاعة ومحاصر بقدر الظروف. وهو بنسبه وغريزته ووجوده في جماعة قد توقعه شباك المجتمع في منافسة مطامع ومحاسد على محدود الأغراض ففي صراع بالقوة والمغالبة له الدولة أو عليه الدبرة ، وقد تنعقد صلات القرب والود وعقود التعاون والمشاركة.


والدين قدر لازم في سيرة الإنسان في الأرض ، تتنزل من الله رسالة آياتها المسموعة تتم ما في عقله من تدبر آيات الغيب المشهودة وتضيف حقائق الوجود الغيبي ، وتُزكى ما في فطرته من بواعث الإيمان المطبوعة، وتهدى خياره في الدنيا إلى الشرعة والمنهاج الحق ببشارة أو نذارة تسوقه إلى حسن العاقبة أو سوئها في الآخرة. فحجب العالم المشهود يفتحها ذلك إلى عالم الغيب ، وحوافز العمل وروادعه العاجلة فى الدنيا تكاملها الآجلة فى الآخرة ، والمجتمع تتعزز فيه دواعي الوحدة ومشاعر الخير وتتوافر معالجات الفتن. فالإنسان محدود مخيرّ الإرادة ومبتلى بالدنيا والدين يهديه إلى تمام العلم واليقين بالوحى وإلى صواب الخيار بهدى التكاليف وإلى تجاوز الدنيا إلى الحسنة العليا في الأزل.


ويكسب الإنسان لو أخلص الإيمان بالدين توحيد علمه بالعالم المشهود وزمانه المعهود وعلمه بالغيب وأزله الموعود ، وتوحيد مسعاه في الوجود أوله الحياة الدنيا مبتلى ومتزوداً وعاقبته الحياة الآخرة جزاء وفاقاً ، وتوحيد مساقات حياته بشتى وظائفها وأسبابها وإسلامها لله عبادة مهما تنازعت بعضها دون بعض عاجلات المقاصد وضغوط الظروف ، وتوحيده إلى المجتمع كل فرد حر الرأي والتصرف ولكنهم طوعاً يتسالمون فيتآخون ويتوالوان ويتناصرون في وجه الفتن والعدوان. وقد يكون كسب الإنسان وخياره الكفر المطلق لايؤمن بالغيب كله ويضرب في الحياة حسب هواه وقدر عقله منكفئاً على مذهب واحد أو مضطرباً بوجهات شتى لحياته وفى مجتمع سلام أو صراع مع الآخرين إذ ضيّع معنى التوحيد الأعلى في الحياة. وقد يؤمن الإنسان بالله بإيحاء الفطرة وبده العقل ولكنه يكذّب الرسالة فيضل في الحياة ولا يتبيّن الحق. وقد يصدّق الإنسان بأصل الرسالة الدينية لكنه في الدنيا مفتون مشرك غير موحد ، فإما حصر دينه في حياته الخاصة لأنها أقل عرضة لبلاءات الدنيا وضغوطها الكثيفة وخياراتها المختلفة المتكاثرة أو لأن طقوس تعبده فيها وشعائره المرسومة لاتصله بأغراض الحياة العامة المضطربة ، ولكن هذه الحصون الخاصة للحياة قد تغزوها الفتن بكثافة الحياة المتحضرة وعلانيتها التى تصل الخصوص والعموم.

وهذا الانحصار بالدين هو أكثر الظواهر التى تعترى الديانات ضلالاً يشق منهج التوحيد فيه. وإما من مقتضى ما سبق هجر ذلك الإنسان دينه في مجال السلطة وعلاقات السيطرة الآمرة والسياسة الحاكمة للمجتمع والمعاش ومعاملات تصريف المتاع والمال ، فذلك كله حيث التجادل والتدافع والصراع والحمية الجائحة والمحامسة مما يغالب هدى الدين وتقواه ورشد العقل أحياناً ، ولذلك كثيراً ما تمرق هذه المجالات من حمى الدين أو تغمره مشاغلها وتفجر منه نوازعها ، وهى حيت تتعازل السياسة والمعاش عن الدين. لكن ساحات أخرى من الحياة تفسق أحياناُ من الدين أيضاً كعلاقات الذكورة والأنوثة ، على ما فيها أحياناً من خصوص حياة الأسرة وسكينتها المذكرَّة بنعمة الله وهدايته قد تراودها مثيرات الشهوة التى تتعسر مجاهدتها ويضطرب بها الإنسان على شفا حدود الدين. وفنون الجمال والزينة وعلوم السنن الكونية قد تندرج في الدين والتوحيد منسوبة إلى لطف الله وقدره وتتخذ سبباً لعبادة الله ، ولكن قد تفتن الإنسان وترهنه وتقطعه من الله ويكون العلم ظاهراً من الكون لاينفذ وراءه والجمال غاية لذاته لا وسيلة.


وموقف الإنسان بين الدين التوحيدى الخالص والإشراك المختلط في الحياة وقف على منهج الدين الذي يليه. فإن كانت في ملتة معالم قطعية ومبادئ عامة توجيهية تترك للإنسان المؤمن مجالا واسعاً لحربة الإجتهاد بالرأي والتصرف بالخيار فى بوح من الخلاف سمح يترك عفواً لكل أحد أو يحسم شورى و إجماعاً وعرفاً فيما يعمّ الناس ، فثمة معادلة بين الضبط والعفو بما يحفظ أصول التوحيد ويُغنى عن اللىّ والجنوح إلى الخروج والإشراك الذي تتعرض له الملل الدينية المكثفة التكاليف والحرج أو المفوضة الحجة القدسية الملزمة لفرد أو مؤسسة بشرية تنزل الأحكام وتفصّلها تنطعاً وتفرعاً بالأوامر المُطبِقة التى تفتح فتن الفجور والإشراك والفسوق.


والإنسان بأهوائه المشركة بالله والغيب والدين له تعلقات ومقاصد دنيا قد يعبر عنها بواحاً صراحاً فعلاً وقولاً أو تغالبه قوى المجتمع وتقاليده المتدينة فيضطر للمراءاة والنفاق ، يراعى ظاهراً مقولات الدين ومراسمه وتحركه باطناً دوافع الدنيا يخرجها بصور وحيل كاذبة. وقد يتواضع الناس على النفاق عادة كلهم يعرفون ما يبطنون وراء ما يظهرون تفضحهم شواهد معروفة. وتلك ظاهرة غالبة فى المجتمعات المتدينة التى تحفظ مقدسات الدين ظاهراً وتطلب مشتهيات الحياة وتوقّر القيم ظاهراً وتعربد فى سبيل مبتغياتها بشتى الذرائع. وسيرة الفرد والمجتمع قد لا تضطرد على استقامة من التوحيد في الدين ، فقد يطرأ إشراك في قضية ثم يتسع الخرق حتى لايبقى من الدين كثير ، وقد تتجدد روح الدين وتفيض حتى تطهّر تدرجاً كل أعراض إشراك سابق. وذلك حسب تطور الابتلاءات ، تخف الفتن أو يصحو الإيمان فيتوب المؤمنون إلى إسلام كل الحياة توحيداً لعبادة الله. أو تشتد ويضعف الإيمان فتتجلى العزلة للدين قسمة ضيزى من نصيبه فى الحياة ، ويتداول الناس الثقافة الدينية بتياراتها فيسود النسيان والغفلة عن الدين أو يتعاظم التذكير وتنشط حركة التوبة .وحسب مراحل الانتقال في تغير حياة المجتمعات يتناقص الدين ويتبعّض أو يتكامل ويتتامّ ، ويظهر النفاق الإشراكى أو يتلاشى ، وتتسارع الردة المتجهة إشراكاً أو النهضة نحو كمال الدين.


وكلمة الإشراك تعبير دقيق عن مذهب الإنسان حين يفاصل بين شعاب حياته ويشارك بين حياة عامة وأخرى خاصة أو علوم سمع وعقيدة وعلوم حس وتجربة وإدراك ، ومعاناة حياة شهوانية وفترات رهبانية ، ومعروضات تجذب بجمالها وأخرى بقدسيتها. لكن غالب الثقافات الدينية اليوم تتقى ذلك التعبير الصريح الدقيق وتسمى مذهبها بأسماء سيأتي ذكرها وكلها رؤى لا دينية لبعض الحياة مع بقية من دين شركةً بمختلف النسب.


السيرة اليهودية والنصرانية والأوربية

الملة الإبراهيمية سنة وملة متواصلة السيرة كانت تبلى وتتجدد بتعاقب الأنبياء ، ويتأكد وقعها في حياة الإنسان في الأرض بتواتر الرسالات يصدق بعضها بعضاً ويؤيده اتباعها مهما تفرقوا بالعصبية الطائفية. وهذا التراث تعرض عبر كل رسالاته المتجددة لابتلاءات في توحيد الدين لكل الحياة عامّها وخاصّها أو انحساره. أما الديانات التى انقطع فيها العهد بالرسالات القديمة كالهندوسية أو انبتت عن الغيب كالبوذية والكنفوشية والجاهليات الإفريقية وأصبحت مقولات مأثورة وطقوساً معروفة وثقافات ساذجة ، فتوحيد الحياة كلها عبادة لله أصبح استصحاباً غائماً ، ما تتقدم العقول نحو العلم إلا رشدت وقصرت على المادة وما تتطور الحياة حضارة تتفاعل فيها البلاءات وتتداعى الثقافات إلا أخذت المقدسات منظورات أو معروضات تتلاشى ، أما السياسة والمعاش والعلوم الطبيعية والمسالك المنكبّة بالحياة على الغايات العاجلة فهى تخرج من الدين ، يغلب الكفر والإشراك بل لايبقى من الملة إلا تراث قديم في هوامش الثقافة وآثار في بعض مساقات الحياة لا سيما عصبية الولاء والتناكر أو التناطح مع ملة أخرى. وهؤلاء من الهيّن أن تغشاهم دعوة من ملة كتابية تنتشر فيهم أو من مذهب إشراكي لا دينى يخرج بالحياة العامة صريحاً عن الدين ويشيع مقبولاً معمولاً به إلا ظلالاً من الرواسب القديمة.


إن اليهود منذ دخول يعقوب – إسرائيل – وذريته سالمين في مصر بدعوة من الوالى العزيز والنبي يوسف عليه السلام - تكاثروا فأصبحوا قومية متمايزة بعرقها وتراثها الديني الاجتماعي لكنها ذات صلة بالحياة السياسية لا بطريق مدخلهم وحسب بل بوقع نشاطهم المالى ومحامستهم مع قوم فرعون وحذره منهم مما دعاه لأن يستضعفهم ويسومهم سوء العذاب ، ثم أثارت رسالة موسى عليه السلام ثائرةً أبلغ في الساحة السياسية حول ديوان فرعون ، ثم تمايزوا سكناً وخرجوا مهاجرين يلاحقهم فرعون وجنوده حتى هلك بمصيره المعروف.

وهناك في سيناء أنزل الله على موسى عليه السلام ألواح التوارة هداية أخلاق وأحكام شرع ، وتطوروا في تيه الصحراء فانتظمت فيهم الإمارة بنقبائها والملُك ودخلوا القرى دفعاً في طريق الشمال حتى تهيئوا تزكياً إلى منهج حياة أرشد واستعداداً للجهاد الأشد فقامت منهم قوة مقاتلة فاقتحموا وفتحوا الأرض المقدسة التى كان يسوسها جبابرة خافوا مجاهدتهم عشرات السنين. وبرز في المعركة داود عليه السلام لا قائداً لكن مقاتلاً وقام فيهم بعدها نبياً وملكاً ورثه سليمان عليه السلام واتسعت بمجاهداتهما المملكة. لكن ضربتهم فتن الحياة الأغنى والسلطان الأقوى فانقسمت وحدة سلطانهم أرضاً وغشيتهم صفات التعالى السياسى والفساد الكبير لاسيما في معاملة الرعايا الأخرى. ولم يسلم رجال الدين الأحبار من فتن السياسة والمال العام فأخذوا يأكلون المال ويصّرفون مواقفهم بفقه حيل ظاهرى و سحر ونفاق وتبعيض لأحكام الشريعة. وتفاقم الخلاف بينهم والاحتراب لا تعصمهم وحدة دين إلا عصبية هوية على الآخرين في شئون الحروب والأسر. فلم يعد الدين هداية تقوى في السياسة وفى المعاملات المالية بل غدا تراثاً لإحماء التفاضل على الناس بالعرقية والهوية المغرورة بالأماني ، وكتابهم المقدس أصبح رمزاً محفوفاً بالخلاف في تلاوته ومعانية ، وطغت النزعات المادية المفتونة بالمال والسياسات الضالة. وجرت عليهم سنة الله أن النظم المتمكنة سلطاناً ما تتطور مفتونة من الصلاح إلى الفساد ومن العدل الى الاستكبار إلا أخلف الله عليهم طوفاناً من كارثة طبيعية أو جائجة غازية من آخرين. وكذلك تعرض بنو إسرائيل لغزوة بابلية أخرجتهم من ديارهم وأذلتهم حتى تابوا فتاب الله عليهم ثروة وقوة عادوا للافتتان بها والتدهور فبعث الله عليهم الرومان فتشتتوا شيعاً في الأرض وضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولم يتهيأ لهم العود والعز حتى عدل في شأنهم الأوربيون والأمريكان وكانت لأقلياتهم مكانة مالية ووقع سياسي. ثم تيسرت لهم وراثة الأرض المقدسة التى جرت فيها على المسلمين سنة الاستخلاف فالفساد والظلم فالجائحة المعاقبة بقدر الله. وفى دولة بنى إسرائيل التى أسست على العدوان والعصبية غلبت اللادينية في السياسة إلا بقية من مشاعر الدين وقواه تحفظ تراث الهوية وتغذى عصبية الولاء بينهم والعداء على العرب المسلمين.


ولقد ظهر في بنى إسرائيل قديماً المسيح عليه السلام مولوداً معجزة بغير أصل أبوي مرسلاً ليحيى تجربة الدين الظاهرية التى ضيعت أصولها الباطنية. ما جاء ليعزل الدين من واقع الحياة العامة بل ليوحد الحياة كلها إخلاصاً لله ولا ليميز بنى إسرائيل بل ليوحدهم إلى بنى الإنسان بالرحمة والسلام. وكان عيسى عليه السلام دعوة لتقويم الحياة بالدين لكن تحت وطأة من جبروت الرومان وضغط من التقليدية الإسرائيلية الغيورة من التجديد. فلم يتم الدين سُنّة في الواقع فقد توفى الله عيسى وخلفه حواريوه وأتباعه في عذاب واضطهاد من الرومان بتحريض اليهود ، واضطروا بذلك الحرج لابتداع رهبانية ما كتبها الله عليهم ولكن كانت لجوءاً للسرية الخاصة واعتكافاً في البيع والخلوات واعتزالاً بمثال الحياة أمُنية أن يعود عيسى ويقيم ملك الله في الأرض. ثم ظهر القديس بولس فأراد في وطأة تلك الضرورات أن يكيّف الدين ليفتح له مجالاً من الحرية في ظلال سيوف الجبابرة الرومان ، ولذلك أخذ دعوة عيسى لإتقاء الظاهرية القانونية المنافقة التى لاتتم بها الشريعة فذهب بها إلى إعلان نهاية قانون التوراة بقيام عيسى عليه السلام وأن ما لله من الهدى الخلقى فهو لله وأن لقيصر ما عرف الناس من سلطان التصرف في الشأن والمال العام. وتفاصل المتدينون النصارى لولائهم الخاص لصف الإيمان إلى هامش الولاء بحكم الواقع السياسى لطاعة السلطان. وأصبحت الكنيسة هى ما يمثل الهوية الجامعة مركز الموالاة الخاصة للنصرانية ، والمحور لنشر تعاليم الدين وشأن الصلاة و الاعتكاف مما جعل أهل الكنيسة المختصين بقدسياتها وتراثها وكتابها هم الواسطة لله ، فعامة المؤمنين يقل حظهم من علم الدين ومن التفرغ للعبادة الخالصة ، والمغفرة والشعائر كلها موكولة لبركة المقدسين وكلمتهم هى كلمة الله ن كأن الله وكتابه محجوب من المؤمنين والكنيسة هى الصلة ، فالولاء للكنيسة عالمى يجمع المؤمنين جميعاً إخواناً في سبيل الله رب العالمين حتى لو وقف بهم الولاء السياسى في حد السلطان القطرى.


ولما انتشرت العقيدة النصرانية في الرعايا دعا ذلك الأباطرة للاقتراب من الدين لتعزيز ولاء الرعية وتأمينه لهم إردافاً لولاء بولاء حذراً من المجانبة. وشرع تلك السنة السلطانية قسطنطين واضطربت حيناً حتى استقر تنصّر الملوك والنبلاء وأصبحت الكنيسة برجالها تضفى بركتها وروحها عليهم لتأييد السلطان المتجبر في السياسة على رعيته والإقطاع المسخر للخدم من زراع الأرض. ولكن ظلت ولاية الكنيسة الخاصة على رعيتها المؤمنة بعلومها التقليدية وقوانينها ومؤسساتها الاجتماعية وتكاليفها المالية ورعايتها التعبدية ، توازنها ولاية السلطان الدنيوية الإقطاعية والملكية. وإذ انقطع النصارى عن الرب الواحد بالواسطات الكنسية وعن أصل دينهم الكتابى بالمقولات العقدية لمؤتمرات القديسين ، تعرضوا للخلافات الغالبة الحدة في تكفير بعضهم بعضاً ، وتفاقم التعبير عن ذلك حروباً طائفية دينية ، وسواء كانت الصراعات طائفية في الملة أو ضد ملة أخرى كالإسلام كان الدين عاطفة الإهاجة وكان المكر السياسي بأغراضه هو الذي يديرها.


كانت تلك عهود الظلمات والتقاليد المثّاقلة بالمجتمعات الأوربية ، القرون الوسطى. وحينئذ كانت العقيدة النصرانية راسخة في النفوس والشعائر ظاهرة في الحياة. ثم خلف التطور نحو عهد التنوير والنهضة والثروة. وعندئذ تدهور ذكر الدين وأخذت إيمانياته تذبل وظواهره تضمحل. ومن ثم ساء الظن الواهم بأنها سنة لمصائر الإنسان بكل الملل الدينية ، بأن الدين والتخلف ظاهرتان متلازمتان ، لا سبيل لقومة ونهضة حضارية إلا ينفضةٍ لتعاليم الدين المثقلة ونقضة لعهوده المكبّلة. ولكن إنما دبت الحياة في موات أوربا بغاشية من تلقاء الجنوب الإسلامي الناهض ديناً ودنيا الذى نقل إليها الفكر اليوناني القديم بعقلانيته وماديته وواقعيته وبعث فيها نفحات هدى باجتهادات المسلمين الحية في علوم الإنسان والطبيعة. وكان أيضاً يعتمل فى أوربا التنازع بين الخشوع والولاء للكنيسة والطاعة والولاء لجبروت الملوك ، وبين قديم الأوضاع التى فرضتها على أرض الزراعة الطبقات الإقطاعية وجديد الأموال والتجارة والصناعة التى حركتها الطبقات البرجوازية الحضرية وبين الخضوع الجامد الذليل عقلاً ونفساً لواقع الولاء الكنسى والمعاشى والسلطانى ونزعات الإنسان المرتدة رد فعل لفرط الضغوط.


إن عهود التنور والانتهاض العلمى المتوالية قد أخذت تخرج بالثقافة الأوربية من حفظ الموحيات المسموعة في الكتاب المقدس والمقولات الكنسية المنقولة حول الوجود ومن طاعة التعاليم الدينية في الأخلاق ، الى إعمال عقل الإنسان تفكراً حراً وتأملاً طلقاً يُستمد من منظورات الفلسفة اليونانية التى استنارت بها أوربا ويتطور قدماً. كان أول النظر العقلى يؤصل الوجود على المادة الظاهرة مثل بادئ ذلك الفكر القديم بالتراب والماء والنار والهواء ، وكما ترقى الفكر عند القدماء ينفذ تأملاً نحو الواحد أو الوجود أو المادة الثابتة المطلقة أو صيرورتها حركة وراء ظاهرات الأشياء وصورها لا يبلغ العقل الى الله هدياً من بلاغ الرسالة الدينية بل كما اهتدى الفكر السقراطي والا فلاطونى تجاوزاً للصور المادية نحو الواحد العاقل المدبر للوجود بنظامه وجماله واستنباطاً للأخلاق من ذلك الوجود فضائل ومثلاً ومعاني كليه ، كأن الله من طبع الوجود و ما هو بحى قيوم يبلغ الرسالات العلمية والخلقية. وانتشر المنطق الارسطى الصورى تدبراً من الإدراكات الحسية إلى تجربة مقارنتها وتعليل علاقاتها إلى النتائج والأحكام.

وتلك القومة العقلية العلمية كانت استغناء بالتأمل عن كتاب الدين واستقلالاً عن الركون لقدر الكنيسة وقانون السلطان والإقطاع اللازم. ولما أمدّ تلك النهضة كسب العلوم الطبيعية من المسلمين تمكن التركيز على المحسوس المادى في العلم الذى أصبح وضعياً قاصراً على ما هو كائن واقعاً وطبعاً منصرفاً عن الغيب وما ينبغى أن يكون من تكليف شرعى وأحكام دينية خلقية. وتداعى تطور العلوم الطبيعية طباً ورياضة وهندسة وفلكا ً ، وأصبح العلم مشغولاً بالمكتشفات المادية عن تدبر آيات الله فيها أو عن السماع لمقولات الكنائس في طبيعة الكون، بل استحكم العداء بين العلوم التجريبية الطبيعية وعلم الكنيسة.


والفكر اليوناني كان فيه مجال للإنسان من أصول معان ألقتها السفسطة أو العندية تذر الإنسان في ضلاله المبين لأنه هو مقياس كل شئ في الوجود تختلف عنده ظواهر الأشياء ولا برهان وراءها على مبادئ أولية والحقيقة فيها ما يدركه هو وحسب. بل أن اللاأدرية جعلت الشك في نفس الإنسان أساساً يلغى العقائد المؤمنة بقوانين ثابتة في الوجود. وقد انفتحت بذلك أبواب التفكر الأوربى في الإنسان ومشاعره في الحياة وتولدت مذاهب اللذة والمتاع العاجل التى تنصرف بالإنسان عن عقائد الآجلة والآخرة ومتاعها وعذابها. وفي هذا المذهب الفكري أصبحت المبادئ في الحياة هي ما تقتضيه المنفعة زوجية أو معاشية أو أمنية محسوبة بأقدارها واحتمال وقوعها ومداه وأصبحت السياسة معادلة المصالح الفردية والعامة. فمن المفكرين من جعل الأولوية للأمن من الفوضى فرجح استسلام الإنسان للسلطة الطاغية ، ومنهم من درج الفرد في الجماعة بسياق إرادة عامة ، ولكن منهم الفكر الذي شاع وجعل الحقوق الفطرية الطبيعية هي فى كرامة الإنسان وحريته لاتقوم الجماعة ولا السلطة إلا بعقد اجتماعي بين الأفراد والأفراد سواسية لا يتمايزون بالذكورة والأنوثة أو الحرية والرق أو بالقدسية في حمى الكنيسة و العامية أو بالنبالة والثروة الموروثة فوق العموم. ومن ثم انتشر الفكر الديمقراطي الذي استمد شيئاً من ذكر الديمقراطية في الفكر اليوناني وأن لم تكن فيه فاضلة على حكم الصفوة ذات الحكمة ،ولكن سالفة الممارسة الديمقراطية في بعض المدن اليونانية وأثر معاني الشورى والبيعة في الإسلام نشر الفكر الديمقراطي ، أن يحكم الشعب لا يحتكر السلطة الملوك ولا النبلاء ولا الكنيسة ، وكانت ضغوط التطورات العملية هي الفاعلة لإمضاء مذهب ذلك الفكر.


وقامت النهضة العامة في الثقافة والنظم الأوربية إذ نزّل العلم أسباباً لنهضة صناعية جذبت الجمهور من خدمة الإقطاع إلى العمالة التى شغلتهم بالآلة والناتج عن رجاء دعوات الكنيسة نحو الغيب وشكر نعمة الله الذى سخر للإنسان قوى الوجود بقدره الغيبي. وكذلك انطلق التعبير الفنى موسيقى ورسماً وزينة اندياحاً وراء متاع النفوس وغاية الجمال لذاتها و مداً لم يسعه التعبير الديني التقليدي. وذهب الإنسان يتحرر من المفهومات والأعراف الدينية والاجتماعية لافكراً وذوقاً وحسب بل تعبيراً عن عواطف الشهوات البشرية ليشبع هواه في كل متاع مستطاب ونفع مبتغى في الدنيا العاجلة ومواد واقعها المحسوس لايبالى بحدود الدين وحرماته ومسالك فضائله ومثله المجردة في غيوبه وأزلياته ولا يرتهن لواقع القدرية الدينية تعطل طاقاته وتعوق نهضاته. لم يعد الإنسان يسلم نفسه لله لان التدين كان فعلاً تعبداً للكنيسة ظلاً له في الأرض ورجالها البشر الواسطة المحتكرة للطريق إلى الله من هجرهم قطع الصلة بالربوبية الغيبية العليا وتحرر عما يباركون من قوى السلطان والمال. فالإنسان أخذ يبدو كياناً عزيزاً بذاته لايعلو عليه غيره ، ذلك لاسيما أن الإنسانوية بسطها بوجه حاد المذهب الفكرى الوجودى الذى يعلى ذاتية الفرد وكينونته على الجماعة بحريته المطلقة فوق ضغوط المؤسسات الاجتماعية والذى يعالج أحوال الإنسان كآبة وخوفاً وقلقاً من مجهول الغيب. كذلك قامت العلوم النفسية ترتكز على شخصية الإنسان وما حوله. حتى التقاليد الدينية الباطنية الروحية التى كانت ترد الظواهر المادية إلى أرواح غيب تتقمصها وتجسّد روح الغيب المقدسة في قوى بشرية من حملة الدين ومواقع مادية تتعلق بها العبادة وتنزع كذلك للرهينة في الحياة الدنيا وتعالج أمراض النفوس روحياً – تلك ورثتها أساطير وخرافات تستعمل خيال الإنسان بما يصرفه عن الغيب الدينى كما انصرف قبلاً كثيرون بالسحر عن كتاب سليمان في بابل.


إن طلاقة الفكر العقلى والعلمى وشيوع مفهوم الحق الحر والمصلحة الفردية والتعاقد المرضى في الحياة والحكم ، وإن النهضة الثقافية بانتشار التعليم والاتصال العام وإن التحول الاجتماعى بكثافة المجتمعات وحضرها وانبساط قواها الفاعلة ، وإن القومة الاقتصادية بكثافة متاع الحياة الدنيا وزيادته المتضاعفة المتمادية ، وإن التطور السياسى بضعف القوى المتسلطة على الرعايا قديماً - كل ذلك جعل العهد الحديث طوراً متمايزاً من المعهود القديم. والفكر التاريخى الأوربى أخذ يتصور التطور سنة لازمة ، أن تجاوبات حركة الزمان وقوى الحياة تنقض وتصد التحديات من القديم ليتولد من ذلك الجديد ، وأن الحداثة أوالتقدمية ترث التقليدية والرجعية. ولذلك نهض الفكر الذى يزدهد الثوابت التى كان يقررها الدين الكنسى خوالد ومنقولاته التى كان يذعن لها المؤمنون تقليداً ، ويحرك قُدماً في سبيل التجديد ودفع المتغيرات مع مَرّ الزمان نحو خطط المستقبل ، ويتحرر من عقائد الجمود الأزلي الكنسي.


ولذلك سارعت المجتمعات مروقاً على الكنيسة ، أحياناً في سبيل الإصلاح الدينى احتجاجاً على التنطعات المراسمية والشعائر الراتبة والظاهرية الساذجة ، وأحياناً انفصالاً باتاً عن المقولات غير المعقولة والأحكام والتكاليف الحرج. ولما تأجج الصراع الطبقى المعاشى ثورة قادتها البرجوازية الجديدة وحركت بها الجماهير اعتزالاً للإقطاع والملكية ، كانت تلك ثورة على الكنيسة التى كانت متحالفة مع المستكبرين. واتخذت الثقافة السياسية من عقد البيعة لولاية السلطان في الإسلام أساساً لنظرية عقد اجتماعى يضبط الملوك ويوازيهم ، ومن الديمقراطية اليونانية دعوة لحكم الشعب ، ومن الإنسانوية أصلاً للحقوق والحريات الأساسية. وتداعت بذلك الثورات الديمقراطية لاتستهدف جبابرة الملك وحسب ولكن الكنيسة أيضاً لأنها ملكت الناس دون الله فأصلت وباركت للإقطاع أن يملكهم معاشاً والملوك أن يستبدوا بهم سياسة. كان واضحاً أثر الثقافة الإسلامية التى لا تُوسط دون الله أحداً روحياً ولا معاشياً ولا سلطانياً لأن الله نفسه ترك الناس أحراراً دونه. أصبح اتجاه الحياة أن تتحرر الجماهير من عامة الناس لترجح بموازين الحياة العامة بعرفها قانوناً ورأيها العام ونوابها قوة سلطان. أصبحت الحقوق الطبيعية والمواثيق الحرة بين الجماهير تعبر عنها تدابير لحقوق الإنسان أو دساتير لنظم الحكم هي أصول السلطان ، وانحسرت الشرعيات التقليدية : وراثة ملكية ، أو قوة قهرية ، أو بركة من نصوص الفتاوى الكنسية. وانفجرت أوربا بعلمها تكتشف العالم وبقوتها تستعمر أرضه وتستغل شعوبه لا لنشر الدين بين بنى آدم إخوة ولا لبسط الإنسانوية شركة على سواء بل بدفع الأهواء والمنافع لبسط السلطة وجلب الثروة. ذلك أن مفهومات الإنسانوية الشعبية والمنفعية أصول مذهب منقطع عن الله المطلق منحصر في إنسان أوربا وشعوبها خاصة ومنافعها الدنيوية المباشرة ، مجانبة لأصول الدين الحق التى تؤسس على وحدة بنى آدم من الناس كافة ومساواتهم ووحدة المصالح والمفاسد بينهم عدلاً عبر الزمان الدنيوى والأزل.


كان الأثر السياسى العام الناتج لتطورات النهضة الأوربية هو أن الكنيسة – ومن ثم الديانة كلها كما عُهدت قد انهزمت وأجُليت من ساحة سلطان الدولة وشأن الحياة العامة علماً وفناً ومعاشاً وسياسة. ويبدو ذلك غريب مذهب كأن الله بحكمته المطلقة ما هو بهاد ولا محاسب للإنسان في هذا المجال. وإنما انكفّ ذلك النظر عن بدائة التوحيد المعقول للإيمان بالله لأن الله كان محجوباً في النصرانية الأوربية بالكنيسة التى شهد التاريخ بقصورها عن الحكمة المتطورة في حياة الإنسان العامة وأصبحت ثَم طالقة أبداً لايردها الإنسان ليزاوجها في حياته تلك. ولم تُمح الكنيسة وما تحمله من دين بل بقيت بؤرة ولاء في الملة النصرانية لكن لمدى محدود في حياة المؤمنين- معتقدات حول المسيح والغيب وممارسات في الحياة الخاصة أذكاراً منثورة وفضائل أخلاق مرعية وشعائر مسنونة عند الميلاد والزواج والممات. لقد حُرمت الكنيسة ونفى الدين من فرض التكاليف السلطانية والمالية اللازمة وتدابير مباركة ولاة الأمر وإجازة أعمالهم الرسمية. فالحكم كله إما طاغوت دنيوى نافذ الأمر بالقوة أو ديمقراطية تضمن للناس حرياتهم وتكل إليهم مواثيق النظم السياسية واختيار الحكام تعاقباً ومراقبتهم وضبطتهم مباشرة أو نيابة وترتيب سائر نظم الحكم واختصاصاتها المتوازنة المتضابطة. لكن بقيت للدين فى السياسة بعض آثار تذكير وفى الحكم أحياناً بعض مراسم صورية ومناصب رمزية. أما في البلاد التى اعترمت فيها ثورات ديمقراطية فقد تباعد الدين عن الحكم قطعاً مثل فرنسا وأمريكا. لكن من رواء نظم السلطان وأحكامه ظل الدين ذا أثر في مشاعر الناس وتصرفاتهم السياسية ولم ينطمس عاملاً في تفاعلات القوى السياسية في الحكم الا بقدر تطور الثقافة المادية اللادينية في بعض المجتمعات. فقضايا الفساد وإصلاح والظلم والعدل والمقبولية الخلقية التى تكيف انتخاب الحكام في تقدير الشعب ، والخلافات السياسية بين قوى الملل الدينية لا سيما إذا احتدمت منافسات أو أزمات ، ونحو ذلك من السياسيات التقديرية للدين أثر في حكم الناس وللكنيسة ورعيتها وزن بين قوى الضغط المختلفة في سوق السياسة وموازين وقعها في ساحة السلطان. فالدين لا ينُفى كله من السياسة حتى لو عُزل مصدراً لأحكام القانون أو معياراً لتمييز أو شرطاً في إجراء في ظاهر القوانين القطعية المنضبطة.


وراجت في الثقافة اللادينية الحديثة التى غشيت غالب الحياة في الحضارة الأوروبية التقدمية الغازية للعالم اليوم مصطلحات مشهورة الآن. فإذا خرج العلم بخياراته ووسائله الواسعة وخلافاته التى تحكمها التجربة أو تُترك للتقدير البشرى ولتجرباته للظاهر دون الغيب وتأملاته في الدنيـا دون الآخـرة ، فتلك ’ العقلانية ‘ لا مجال فيها للوحى أو المقالة المقدسة من مصدر ديني. وتلك هى ’’ الدهرية والزمانية ‘‘ ، بلا أبدية أزلية لأنها تقتصر على الظروف المشهودة ووتصريفاتها وآجالها. وإذا مرق الإنسان واستقل من الإلهية المعبودة فتلك ’’ الإنسانوية ‘‘ ، الإنسان بها هو الأعلى. وإذا أفلت معاش الإنسان ومنافعه ووسائله من رجاء نعيم أو اتقاء شقاء بأسباب غيب أو آجال آخرة فتلك ’’ مادية ‘‘ من مادة العالم المشهود المحسوس ’’ ومنفعية ‘‘ تحرياً للمنافع وتجنباً للمضار الحاضرة أو الآجلة المشهودة الأسبـــاب ، ’’دنيوية ‘‘. أما فسوق السلطان من الدين منصرفاً إلى عموم هموم الناس وأهوائهم فتلك ’’ علمـانية ‘‘ ’’ زمانية ‘‘- حياة قاصرة على هذا العالم والزمان الدنيوى لا مجال فيه للتميز بين’’مقدس‘‘ و ’’ عام‘‘ أو بين أهل زلفى لخصوصية غيبية في مؤسسة تعبدية وعوام جمهور الناس الذين لايتقدسون أو يتطهرون بشعائر بل يتفاضلون في بوح الحياة بمكتسباتها المتنافسة المتصارعة وإلى هذا فقط ترجع مصائرها المحسوبة هنا.


إسلام السياسة والسلطان لله

الأصل التوحيدى في ملة الإسلام أن الحياة كلها لله توحيداً. فكما أن الإنسان من مادة الأرض المخلوقة هو من روح الله أيضاً ، ومن مدده علماً يميزه من الحيوان بالعقل تجربة وتبصراً للمحسوس وتدبراً أيضاً للوحى الغيبى وكلها آيات مادة مشهودة أو كلمات متلوة كلها من كلمات الله بعضها من بعض ، والإنسان حر للتفكير فيها تلهمه روحه أو تفتنه المادة. ووجود الإنسان موحّد حياة دنيا بظروفها وآجالها ومنافعها ومضارها وحياة أخرى لأجل بعد الموت ويوم قيامة ومصير حساب إلى سعد أو شقاء ، كل ذلك طريق الإنسان حر أن يتزود من أوله لآخره أو يكفر بالغيب وينقطع للأدنى. والإنسانية كلها موحدة الأصل ، الإنسان المؤمن مسلك حياته عبادة موصولة بالله الواحد بلا واسطات مقدسة أو متجبرة تتعدد معبودات والمؤمنون متوحدون موالاة في الله ، ولكن الإنسان حر أن يكفر بغاية العبادة الواحدة فيتخذ أولياء من دون الله عدداً وينعزل بعض الناس عن بعض بالهوى أو يتوالون بالموروثات والمقاصد الدنيوية المصطرعة المتفرقة. والحياة كلها للمؤمن موحّدة تُسلم لله مساقاتها طاعة متكاملة متوافقة هداها هدى الله ، والإنسان حر أن يكفر فتضطرب مساقات حياته وتتباين غاياتها سدى ويلتمس الهدى من مصادر شتى في تناقض واختلاف.


التوحيد الإيماني هو هدى الملة الحنيفية الإبراهيمية التى وصَلتها تعاقباً الكتبُ المنزلة تصّدق بعضها بعضاً وسيرُ الأنبياء والرسل المتوالية لتحفظ أُصولها. وبينما انقطعت ملل من هدى السماء بتاتاً أو إلا قليلاً ، كانت اليهودية والنصرانية هى من كتاب الله بتنزلاته المحفوظة الأصل المتبدلة بابتلاءات سير الواقع – هكذا غشيت اليهودية علة في توحيد الإنسانية فانفصلت بالدين فضلاً وميزة لأبناء يعقوب واعتزلت به عن الأميين سائر البشر ، وأصيبت المسيحية علة فى توحيد الحياة فقسمتها لله نصيب قليل والباقى للهوى ولقيصر السلطان. وإنما جاءت الرسالة المحمدية تصدق الإسلام التوحيدى وتذكّر به بعد الضياع والغفول وتحييه بعد موات الإيمان بالمادية الجاهلية أو في النفوس المفتونة بالدنيا ، وجاءت لتجدد الدين الواحد رسالة وتجربة متكاملة خاتمة أصولها محفوظة ومداها عام خالد عبر الأرض والزمان دون اقتصار على قوم أو انتظار لرسول جديد.

فسياسة السلطة فى حياة الإنسان أسست على التوحد كسائر وظائف الحياة ، أن تكون خالصة لله لا تفسد إسلامها له وحده طاعة لمستكبرين بنفوذ دنيوى من مال أو قوة ، ولا لمقدسين من طائفة أو مؤسسة تحتكر حجة الله وحكمته وتستلب ربوبيته العليا. كل السلطان لله ينزله فى قلوب المؤمنين الذين استخلفهم ومكنهم فى الأرض ، ويعبر عنه إيمانهم ورأيهم العام ، وبينهم الحرية والمساواة لا يتمايزون إلا بالاجتهاد والكسب ، ويتحاكمون جمعاً إلى سلطة تقوم بإجماعهم ومبادئ حق – حريةً واستواء وشورى – أسست منذ قرآن مكة ، ثم نزلت من بعد حقائق واقع هداه قرآن المدينة ومثلت ذلك سيرة الرسول ومن معه من المؤمنين سلطاناً متمكناً فى أرض بحدودها بالمتعاقدين معهم فى وطنها ، وحياة سياسية دوّاره بوشائج الموالاة ومناشط الرأي والاجتهاد والشورى الحرة ، ونظماً ومراسم للإمارة والإدارة والقضاء ، وعلاقات من العهد والحرب والسلام مع الاخرين. وعلى ذات الهدى تطور الهدى التوحيدى للحياة خاصها وعامّها بنور الدين اختياراً لولىّ الأمر وإحاطة له بأهل الشورى وبالعرف والرأي العام وإقامة لنظم تحكيم الشريعة فى معاملات الناس وجناياتهم وإدارة لسياسة رشيدة فى الحياة العامة والعلاقات الخارجية.


لنحو من ثلاثة عقود بعد وفاة الرسول استمر رشد الخلافة السلطانية على هدى من القرآن والسنة. ذلك وإن ظهرت محنة انتقال من قيادة سلطان جامعة للمسلمين بالنبوة إلى خلف عرضة لأن يخوضوا مجادلات شورى ليؤمّروا منهم خليفة أميراً وهم طوائف من مهاجرين وأنصار فيهم تفاريق وحولهم قبائل شتى ، ذلك وإن ثارت فتنة زلزلت النظام بارتداد جمهور كبير من العرب الذين كانوا أسلموا اندياحاً بدفعة الفتح وإشهاراً لم يخل من نفاق. ولكن بالغ الرشد الذى تزكى به الرواد الصحابة وعموم الهدى الذى أحاط بكثير من عامة المسلمين حفظ عهد الإسلام السياسى. وكانت تشرق بعض بشائر من توالى الاجتهادات وتطور التجارب التى تثبت أحكام المبادئ وتفصّل بعضها إلى مستوى أقرب للقيم العليا وتنـزلها إلى واقع أتم لبناء النظم والأعراف والعلاقات الأفضل وكسب أبرك من أمة متكاثرة نمطاً فى العالم قدوة طيبة تدعو للإسلام بهدية المتجدد الغريب. ولكن مبلغ الإبتلاءات كان يتعالى بأسرع من نمو التفقه السياسى المستوعب لمشكلات الحياة السياسية ورقىّ زكاة الخلق المجاهد لفتن السلطان المتضاعفـة ، وكان فيضان البلاء أكبر من عُدة الشرائح القيادية المتعلمة المتزكية ومن وسع الأفواج العظيمة الداخلة إلى أمة الإسلام تحمل تقاليدها السابقة .لم يكن اتساع الأمة المتباينة المتباعدة تطوراً وئيداً يتيسر معه إنبساط مطمئن فى كل تلك الجماعات لهدى الدين الواعى الكافى لتطهيرهم مما كانوا ينقلون من تراثٍ وعرفٍ كثير منه منكر بمعايير الشرع ولرسوخ واف للمعانى والأخلاق السياسية التى يقتضيها الإسلام المتجدد لمن كان فيه سابق تراث ولترسيم جديد لحياة سلطانية من نظم البناء ومسالك العرف وأسباب العلاقات المناسبة لمجتمع المسلمين فى ظروف حادثة.

لم يتوافر تأسيس قاعدة قويمة يكون الإنسان فيها مهتدياً فى حياته السياسية بموجبات الإيمان بالغيب موصولاً نحو الآخرين بأصول من الإنسانية المستوية كما يعلّم الدين المتآخية كما يزكى بشعائره وأخلاقه ، يتوالى المؤمنون وينحاز بعضهم إلى بعض بعقد الإسلام وعقود المواطنة التى تميزهم عن الكافرين الأجانب الذين يسالمونهم بالحسنى أو يدافعون عدوانهم ، ألاّ تكون الرعية عبيد الهوى الدنيوى السياسى يعكف كل فرد على ذات نفسه ومنافعها العاجلة يزكيها على الآخرين ويغار منهم ويحسدهم وينقطع عنهم إلا أن تصلهم به روابط قربى قبلية أو وشائج منافع أو عصبيات ثقافة تميز بين الجماعات والأقوام بالموروث وتفرقهم وتضرب بعضهم ببعض يتساخرون ويتفاخرون ويتصارعون بالعدوان بين غالب ومغلوب. وتلك علل ثقافية كانت تنتاب المسلمين الجدد الذين حملوا بقية جاهلية عربية ومادية وعصبية فارسية أو رومانية. ثم كان الانتقال اللازم يقتضى إقامة مجتمع سياسى إسلامي يقتضى أن يستشعر كل فرد انه مكلف حقاً وواجباً ، أن يجتهد رأيه لابهواه بل بهدى الشرع لا فى شأنه الخاص وحسب بل فى الشأن العام ، وأن يجهد ويضرب فى الأرض على صراط مستقيم لا للدنيا وحسب بل فى سبيل التزود للآخرة صابراً فى الضراء شاكراً فى السراء لا مدبّراً لحاجته وحاله وحسب بل للحاجة العامة ، فهو ومن مثله مجتمع لايعرفون حكر الرأى ولا المال للذات ولا اعتزال الآخرين تنطعاً واستبداداً بالرأي أو ترفاً وشحاً بالمال. المؤمنون إذا كسبوا بالجهد المتنافس فتتفاضلوا محصول رأى ومال يتواصلون بالآراء تناصحاً وشورى حتى يسوسوا أمرهم العام إجماعاً نحو ما هو أحكم وأرشد بميزان الشرع الواحد ، ويتبادلون المكاسب تشاركاً وتعاوضاً وصدقة وزكاة حتى يديروا ثروتهم العامة تعاوناً وتكافلاً نحو ما هو أنمى وأبرك فى الدنيا فى سبيل الآخرة.


كان لابد للمسلمين من تغير وتحول من تعاليم الجاهلية العربية والرومانية والفارسية والهندية ، حيث الفرد محروم من الحرية والمساواة مستضعف وقف للسادة والكبراء والأباطرة الأمر لهم فى سياسة الأمر العام والذل للسواد الأعظم من الرعية ، وتلك الرعية مسخرة وعالة الأغنياء المترفون فوقها بشهواتهم غنى وتكاثراً وهم مستعبدون فى حال الفقر والمسكنة. وكان بعض القادمين إلى الإسلام ما انفكوا من تراث دينى حنيفى أو يهودى أو نصراني ، الفضل بينهم للاعتكاف والترهب والتصبّر اعتزالاً لكل شئون الدنيا العامة سياسة أو اقتصاداً ، أو حفظ المرء أن يرضى بحاله قدراً ويترك الشأن العام ، والحكمة الدينية لمن أغناهم الله ولطائفة من أهل الدين الواصلين وحدهم لله علماء يهود أو كنيسة نصارى تحت طاغوت من الملك والقيصر و الشاه. إن الإصلاح الاجتماعي الذي كان لازماً لتأسيس الرشد السياسي الإسلامي كاثرته الأفواج وسارعته الظروف أن يعلمّ الناس ويزكيهم بمبادئ الحرية والمساواة والموالاة والمعاملة والشورى والإجماع وألا يكلوا السلطة أو المال لبعضهم دون بعض وألا يتعازلوا أو يتفاضلوا طبقات وألا يسودهم سلاطين أو رهبان وأحبار دون شرع الله الجامع المعلوم لهم على سواء. لكن عدّ الداخلين على الإسلام الحامين قديم تراث غريب باعد ذات بين المجتمع المسلم وفرق شعابه وجعل سواده عرضة للفتن السياسية الكثيفة اختلافاً وتدافعاً وتصارعاً بالبغى والعدوان. فهجوم الأموال المكتسبة من الإمبراطوريات الغنية كان فتنة للمسلمين الذين تربوا في عهد الإسلام الأول على أحوال الجزيرة العربية الفقيرة التى لم تتحضر ولم تتعّمر ، وغزوٌ من الأفكار والثقافات المتطورة فى المجتمع والسياسة كان وطأة على المسلمين ذوى الثقافة العربية الساذجة إلا من تعاليم ومبادئ جديدة شرعها لهم الإسلام ولمّا تنشرح وتبين شعاب هديها. كان عسيراً على السابقين الأئمة أن يجاهدوا همّ البلاء الغازى والحادث وأن يفيضوا على اللاحقين بعددهم الكاثر الغالب بياناً بالدعوة والقدوة يسرى فى النفوس ومنهجاً يتمكن فى الواقع من نظم السلطان والمال الذى يملكه الله ويستخلف فيه الناس أحراراً سواسية أفراداً متعاملين بالحسنى جميعاً غير ما عهد من قبل العجم والعرب الذين كانوا هوامش منفعلة بهم إلا قليلاً.


ثم إن اتساع ديار الإسلام وتباعد أقاليمها وتثاقل وسائل الاتصال المحدودة ذلك الزمان مما تفلّت بالناس عن مدى انتشار التعليم والتزكية بالإسلام وعسّر عليهم أن يتناصحوا ويتداولوا الرأى ويتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر بهدى الدين وخاصّة أن يعقدوا الإجماع ويتخذوا القرار في شأن ولاية الحكم ومسائل الحل والعقد في عزائم الأمور العامة. فالقضايا العامة – كاختيار أمير يخلف من مات أو قرار حرب أو سلم أو عهد – كانت تستدعى قراراً عاجلاً عسيراً أن يُجمع له الرأي أو أن يُبلّغ بكل حيثياته لكل الرعية لتطمن إليه النفوس ولا تفتتن.


كانت تلك بعض أقدار الظروف العامة التى كيّفت تنزّل المثل الدينية على الواقع الدينوى ووجّهت المسيرة العامة لجملة الأوضاع والمسالك السياسية بين المسلمين. وفى كتب التاريخ والسير بيان مفصل فيه ذكر أسماء الأعلام والقوى في الحكم والسياسة وسرد الأحداث ووصف الأوضاع التي عبرت عن تلك السنن في تاريخ حكم الإسلام. وفى كتب الأحكام السلطانية والسياسية يبدو كيف انطبع الفقه بجملة عوامل ، فيها الأصالة الراجعة إلى القرآن والسنة ، وفيها أثارة من سوابق السيرة الصحابية والتابعية والخالفة من بعد ، وفيها تميال مع غاشية من فيح دواخل الثقافة ومياط مع الظروف المضطربة بفتن السياسة العامة. ومهما يكن اشتياب الثقافة الفقهية والخلقية وتدهور سير الحياة السياسية عن مقام الحق الخالص فقد كان الأنكى والأنكس بسيرة المسلمين تساقط نهج الخلافة الراشدة. وكان قدراً واعظاً أن قد قاد ذلك التبدل معاوية بن سفيان غفر الله له إذ كان يحركة ابتلاء بدم عثمان بن عفان لوتيرة قربى وطمع من النفس في نيل السلطة زادته نوافح من تقاليد الجاهلية التى ورثها من آبائه وتراث القيصرية التى عهدها في الشام. وكان أهل المدينة قد عاجلوا باختيار من يعقب القتيل في ولاية الخلافة وغالبهم بايع علياً بن أبى طالب ، لكن لم يكن ذلك عن إجماع فقد خرج عليه أعيان من كبار الصحابة ، وما كان الخيار خالصاً من اللىّ حباً لبنى هاشم عشيرة النبى.

وقد كان بعض الفقهاء الصالحين ذوى الخبرة السياسية يؤثرون إقامة الحق في نهج اختيار الخليفة عن شورى وتقوى ومحاسبته دون جناية ومنهم أبو موسى الأشعرى. وتجرد البعض عن لىّ النسب تحرياً لمن هو أقوى وأتقى. وذلك مذهب حق ثبت في تراث الخوارج مهما تكن تنطعاتهم حول إجراء التحكيم مع معاوية وحول خلافاتهم المتواترة. لكن خُلق الموالاة والمساواة بين المسلمين بغير تفاضل نسب ، ومعيار الأقوى كفاية الأتقى تأدية لولاية الأمر العام ، ونهج الشورى لا المغالبة بالقوة والمجادلة بالحسنى حول الأمور السياسية الخلافية و اتقاء غلو التشايع والتفرق وحمىّ الصراع والقتال بين المسلمين ، كلها مبادئ طوحت بها الفتنة الكبرى ، إذ فسدت بين المسلمين نيات القوامة بالحق الخالص والتقوى في السياسة ، وسرت بواعث مفتونة بحب السلطة ومقولات باطل تعبر عن ذلك، وتجسد ذلك في مواقف ضلال عن الاستقامة الراشدة بالسياسة مرجعاً إلى حق الدين ، وانتج واقعاً من ولاية الأمر العام بالقوة والنسب أصبح هو المذهب المعمول به تعاقب يحكمه الأمويون فالعباسيون بيوتاً ثم تفشى فيهم صراع الهوى بين الأقربين ثم تفجرّ ذلك بوحدة الأمة دياراً شتى.


وانتهجت سيرة المسلمين العامة إلى أن يتفاصل فيها عن الدين الحق مجال ذلك الهوى في الحياة العامة ملتهياً بحمية صراع السياسة غافلاً عن ذكر الله وتقواه وشرعه، بينما بقى كل مجال المساقات الخاصة والاجتماعية لحياة المسلمين راجعاً إلى الدين. والحق أن أئمة الفقه الأوائل كانوا يسلمون الحياة كلها إلى حكم الله وتقواه ، ولكنهم حينما ذهبوا يفتون بإنكار شرعية تولى الأمر استلاباً وجنوح الساسة إلى العصبية والمغالبة وتجبّر الولاة فظاظة وغلظة على الرعية تعرضوا لتدابير وأُخذوا بنذير العقاب ، فاتقوا مصطرع السياسة وتوجهوا بالفقه إلى خطاب عامة المسلمين يفصّلون لهم أحكام الشرع وهديه العام في شعاب الإيمان شعائر العبادة وأخلاق التعامل وقضايا التحاكم فى شئون الأسرة والجناية والتجارة ونحو ذلك. وكان ذلك تفريعاً يبسط عموم الشريعة بالاجتهاد ينزلها على كل مثانى الواقع الخاص وينشئ تشريع أحكام من الشرع تتعزز حجته بقبول الناس للفتاوى به واتخاذه مذهباً يسير عليه العرف ويجرى به القضاء. وأهل السلطان في العهود الأولى ما كان يعنيهم كثيراً بيان الشرع لهداية الناس في حياتهم الخاصة وعلاقتهم الاجتماعية والمالية وإنما يريدون أن تُخلّي لهم ولاية السلطة بحكم الأمر الواقع عن قوة لا شرعية وتصريف السياسيات والأموال العامة وأخذ من يكره أو يقاوم سلطانهم بما يصدّه إلى سكوت مكبوت ، بل يلتمسون في ذلك فتاوى تبارك ذلك الواقع باسم الدين .فالحكم وسياسته لم يبق منه في الفقه إلا أغباش ومبهمات من الدين وزينة زائفة وشئ من نظم صلاة وزكاة وقضاء وجهاد. فالتفاصل بين الدين والحياة العامة لم يكن تجلياً بائناً بل كانت روح الدين حية في الجهاد خاصة ، وعندما ضعفت وغزا المسلمين فى العهود الخالفة طاغوت غير مسلم وطأهم مستعمراً حاكماً واستلب كل حياتهم العامة بسط عليها شرعه الوضعى عندئذ القى المسلمون حليه الخلافة وزخرفها ثم بدلوا أحكام الشرع في معاملات الناس الجنائية والمالية ثم تمادى يعضهم فعزل أحكام الشرع حتى عن شأن الأسرة.


لقد زحف الغرب على المسلمين لما أنهاضت حضارتهم ونهض بها الغرب فجاءهم بلا دينيته وماديته وواقعيته اللاغيبية التى نضجت لديه نظراً في السياسة بل في سائر الحياة إلا قليلاً وتمكنت في واقعة ممارسة. وقد عززتها عظة تجارب وعبرة ثورات على الدين لما كان يمس السياسة لكنه يبارك الطغيان الملكى والإقطاعى فيها ويهيج خلافاته إذ يحولها معتقدات مطلقة متناقضة متجسدة فى طوائف متصارعة ومتحاربة ، ذلك بينما كان الغرب بنهضته قُدماً يلتمس الحرية والحوار السلم. فلذلك أراد الغرب حاكماً للمسلمين أن ينزل عليهم حكمته في نفى الدين عن مجال لم يسعده دينه فيه بهدى بل أشقاه بظلم وهلاك. ثم إن الغرب بيهوديته ونصرانيته كان أشد كرهاً لدين الإسلام لأن اقتصار اليهودية بالدين عرقاً على بنى إسرائيل واقتصار النصارى على المسيح إلاهاً جعلهم معاً أشد كفراً بالرسالة المحمدية غيرة أيضاً من أصالتها الإبراهيمية والكتابية. واحتد ذلك لماّ أسعره عداء العدوان الغربى على المسلمين حروباً صليبية واستعمارية ألفت خطراً في الإسلام صداً لمطامع الغرب وسداً لقوته بالمجاهدات المتوالية. ولذلك كان الغرب أشد حرصاً على تجريد المسلمين من صلاح الدين السياسى وشوكة الجهاد المقاوم. والمقاومات الجهادية الإسلامية نفسها إنما كانت قومات في سبيل هوية الولاء للإسلام بلا رصيد من فقه هدى الإسلام في الحكم والسياسة بل بفقر في التراث وضعف في السيرة هو الذى عرّض المسلمين لأن يصابوا. ولذلك حيثما انتصر الجهاد كان أهله بعد إجلاء الاستعمار فارغين من أدنى زاد معدّ لخلافته فاستوعب ذلك الفراغ ذات تركة العدو المذهبية يضاهونها ويبارونها. بل في غالب معتركات الكفاح نحو الاستقلال تحولت المقاومة إلى نزعة وطنية ما تخرج من الأرض وجوه الأجانب التى كان يثار عليها إلا بقيت عقابيل ثقافته ونظمه يُنفى بها الدين ويُفصل من الحكم والسياسة ويُحاصر يكاد يُستأصل إلا شعائره ورسومه الخاصة عند قليل.


تجدد الدين والأزمة المعاصرة

لقد انتشرت في هذا العصر ظاهرة تجدد الدين ، نشأت بواعثها في مجال الحياة العامة وطرحت فيها قضية علاقة الدين بوظيفة السياسة ومؤسسات الحكم وأعماله دعوة نحو التوحيد أثارت أزمة. وقد ظل حفظة تراث الدين التقليدى ساكنين بحكم الأوضاع الواقعة ، وسواء من ورثوا فقه الظاهر ومن اتخذوا طرق الصوفية الباطنية ما انشغلوا بعالم السياسة ولو بدا فيه الفسوق عن الشرع إلا حينما يدعوهم أولياء الأمر أحياناً ليباركوا مقاعدهم ويزينوا فعالهم ترويجاً لأمرهم بين عوام المسلمين الذين يتبعون العلماء والشيوخ التقليديين. وإنما تجدد الدين وحيى متكاملاً من تلقاء شرائح مثقفة نفذوا بفوائح الحضارة الغربية التى صبغت كثيرين ، ولكن ارتد عنها هؤلاء وأثار مسعاهم إلى التوبة بالسياسة إلى الإسلام تجلى الفرقان بين ما يعلمون من مذهب اللادينية السياسية التى تشرك بالله في حياة الإنسان وما يعون من وحدانية الله ووحدة الحياة كلها عبادة له. هؤلاء تذكروا أصول الدين التى شملت هدى الحياة جميعاً ودرجت فيه كل شعابها السياسية والخاصة ، ودرسوا حياة السنة الحكيمة والخلافة الراشدة التى قامت واقعاً على هدى ذلك التوحيد ، فبان لهم مدى انحطاط المسلمين عن ذلك المثال بإبعاد السياسة عن صميم الدين ، وكيف أخذ الشق يسرى في وحدة الحياة العابدة فعلاً لانظراً بفسوق شئون ولاية الحكم ومشروعية منهج التمكين منها بغير خيار ومدى سلطانها بغير ضابط ونفاذها على الرعية بغير معارض أو خارج ، ثم بتعطيل في غالب الأحكام التى تلزم المسلمين في معاملاتهم بحكم قضاء الشريعة. أولئك الذين جددوا التوبة السياسية إلى الإسلام أدركوا ما فعل بهم الاستعمار من إثم الفصل في حياتهم بين ما هو سياسى وما هو دينى وإغشاء بعضهم مذهب نظر واعتقاد في أن ذلك حق ، ورأوا أنه لايجدى الاستقلال السياسى لمجتمعات المسلمين من وجوه الحاكمين المتستكبرين الكافرين بل العزة في الخشوع للعزيز الحكيم وحده وإقامة الشريعة الحاكمة بهديه وتوحيد الحياة بدينه كله ما كان تكليف طوعاً خاصاً وما كان تنفذه السلطة ، وأيقنوا بوجوب الارتفاع عما ذلوا له من مذهب خلط الحكم الوضعى ببعض الشرعى ، وبضرورة إسقاط القوانين التى شرعت عليهم بغير دين ولا رضى وتطهير السياسة التى سنّت بواحاً للكيد والكذب والنفاق ، وثبت لهم ضلال الإشراك الذى يبقى في الحياة نصيباً قليلاً لله وعبادته ويذر الباقى تذهب بالإنسان فيه أهواءه إن عز استوحى شهواته وأحاديث فكره المحدود وشيطانه وإن ذل طوّع نفسه لأهواء الآخرين لاسيما أهل الغرب الذين يتوهمهم أئمة فوقه بمعايير مادة الحياة ومتاعها العاجل.


لما طرحت بين المسلمين مسألة الفصل بين الدين وشأن الدولة وتذكرة التوبة للتوحيد لم يكن يسيراً علاجها بفوحة من دعوة للغافلين ، بل تأزم أمرها واعتملت في تعسيره أسباب شتى. منها أن رصيد الفقه الموروث لم يجد هدياً حاضراً كافياً لإسلام السياسة لله بل كان خواء إلا قليلاً يعتوره الخطأ الكثير. وأصول الفقه رويت بمنهج جامد ميت لايلد اجتهاداً مسعفاً فوراً يعمرّ ما خرب ويُتم ما نقص في مجال السياسة. بل كان لغو السياسة الحديثة بغالبه لفظ غريب ترجمةً ساذجة لمعانى المذاهب والتجارب الوضعية اللادينية يكاد يغيب عنها مصطلح الفقه الشرعى الذى أصبح منكراً غير مفهوم. وكانت قراءة التاريخ الإسلامي مؤئسة من رجاء أوبة عاجلة لسيرة الحق في السياسة ، فقد ضل المسلمون عن الهدى منذ سقوط الخلافة الراشدة قروناً ، وتلك خطيئة وقعت بين الصحابة والخلف يؤثر الصمت لايجرؤ على إنكارها لأنه يوقر الصحابة كأنهم أئمة معصومون من الخطأ في الشريعة. ولما هوى المسلمون وعلا عليهم الكفر وسلّط عليهم لادينية السياسة كانت مجاهداتهم عقيمة في هذا المجال لم تُثمر لما انتصرت عاقبة حكم إسلامي رشيد على الرعية ورعاتها بل جرّت إلى فوضى أو إيقاع ضلال جديد من المجاهدين إذ فتنتهم سكرة النصر وثورته فأصبحوا منهومين بالسلطة بغير حد شرع أو ضابط شورى أو تقوى أو بان لهم بعد تجاوز مجاهدة الباطل جهلهم بفقه السياسة الراشدة فالتمسوا دلائل الحكم في مصادر ضلال.


والثقافة الغربية الجائحة لم يسلم منها حتى من تذكر الإسلام بل قصّرت مسعى كثير منهم الى حفظ الشعار الشرعى هويةً ووجهةً دون تنزيل الشرع وتفصيله على مواقع الحياة ومراسمها. أما الشرائح الغالبة من المثقفين نتاج الثقافة الغربية فقد أصبحوا لايدينون بدين الإسلام الذي يوحد الحياة كلها بسياستها عبادة بل بدين الغرب الوضعى الذى طغا في مجالات التعليم ووسائل الثقافة وأهّل هذه الشرائح لوظائف الحكم وشُغل دواوينه وقيادة الحياة السياسية والاقتصادية يحملون إليها المأخوذ المستمد من الغرب. بل كان يسرى الولاء السياسى للغرب في قلوب القوى السائدة على الحكم يأخذونه بالقوة قهراً والنفوذ والزعامة تضليلاً وبالدعاية المرجّية من تلقائهم المنافع العاجلة أو المميلة إليهم أحياناً بنسبتهم إلى التراث العرقى أو الدينى. وقوى الغرب نفسها استمرت تدخل مباشرة في ميزان الحكم لبلاد المسلمين تسلط عليهم إعلامها المحيط وترغبّهم في النحو الذى تأمر به بوعود العون من مخازنها الغنية وترهبهم بنذير القطيعة أو الضائقة أو الهلاك الحربي مما يفهم مغزاه ضد الإسلام السياسي المحرر من الاستغلال ويخرج ظاهراً بذرائع ساترة وخادعة.


والذين في السلطة قائمين على ديار المسلمين غالبهم طغاة على الرعايا لا يبالون بوجهة إرادتها ولايرضونها بالاستجابة لمقاصدها في الحياة بل تدفعهم ضرورة تأمين مقاعدهم إلى استرضاء الغرب والتعويل على مدده والحملة على دعاة الإدبار عنه والإقبال على الإسلام ، لاسيما أنهم يحذرون ما ينالهم من تلقاء الإسلام السياسي ودواعيه للحرية والمساواة والشورى واختيار الحكام وضبطهم ومحاسبتهم وعزلهم. فالولاة يجتهدون بوقع نفوذهم في تضليل عامة المسلمين بأن التزام الشرع في ولاية الأمر فضلٌ للسلف لايُضاهى وأن الإصرار عليه الآن قد يضر بالمسلمين ويحرمهم زينة الحياة ومتاعها بنمط الغرب المتحضّر. والعوام في أنفسهم قد غلب فيهم تضاؤل الإيمان بالغيب والعلم والالتزام بالشرع وإنما يقصره الصالحون منهم على الشعائر والأذكار ، وينفصل التقليديون من رجال الدين عن السياسة وفتنتها ولايؤذيهم فيها أحياناً إلا دعاة الحكم الإسلامي المجدودون يثيرون فيهم غيرة وحسداً. والسنة في ظواهر التجديد الدينى كلها بيّنة مثل الدعوة المحمدية التى جاءت تؤصل وتتم وتجدد تراث الدين الواحد وأهل الكتاب المرجو تجاوبهم أخذتهم الغيرة جعلتهم حسداً يفضلون المشركين على المؤمنين لأنهم لايبارونهم ولا ينافسونهم فيما يعرضون على الناس من هدى ، لذلك كثيراً ما يبيع هؤلاء دينهم الحق بفتاوى ضد دعاته خشية من السلطان وشراء لثمن منه قليل.


إن الأزمة فى علاقة الدين والدولة عَرَض انتقالى حاضر بسيرة المسلمين. ولقد تباينت فيها مذاهب ودعوات بدت عليها غواشٍ من دواعى الانتقال ونوازعه بين أصول التوبة إلى الدين الراشد وأثقال الثقافة التقليدية الضالة ورهان الأوضاع السياسية السائدة وضواغط النفوذ الغربي الكثيفة. ولقد تطورت أيضاً مواقف الواقع السلطاني تطوراً عبر تداعيات ذلك الانتقال السياسي. وفى سائر هذا الكتاب بيانات وافية لمقتضيات التوحيد بين الحياة العامة والدين ، وإنما يتصوب البيان فيما يلي إلى أزمة الانتقال وبعض ما يعتري أطروحات الدعوة الإسلامية السياسية فيها من اعتلال ، وما يلزمك من حجج توحيدية دواحض للغزوة اللادينية السياسية ، وما ترتب من مواقف المباعضة والمنافقة بين بين في مذاهب السلطان ووقائعه.


(1) دعاة التوحيد السياسى. فى قطب من فرقان المواقف ، في العدوة الأدنى الى الدين التوحيدى ، ظهر دعاة إسلاميون ، لكن ظروف الأزمة جعلتهم لحين غرباء عند العامة الغافلة شذاذاً بين صفوف المثقفين المحدثين مأخوذون كالخوارج من تلقاء أهل السلطة الطغاة. وهؤلاء التوحيديون ما انفكوا عهداً طويلاً ، بمثل سنة الداعى إلى الجديد الحادث من المذاهب ، يطرحون المبادئ الأولى فقط للإسلام السياسى يجادلون فى أصول الحق قبل تولى تنـزيلها وتفصيلها منهاجاً ، همهم الأول إبطال الوجهة الباطلة نحو الأهواء الوضعية اللادينية ورد المؤمنين الى قبلة الحق. فكانت منهم حركات سياسية لحدثانها القريب لم تتم الأعداد لإحقاق الحق المنـزل وإن أتتها فرصة سانحة بدا عجزها وقصور زادها للمرحلة التالية لمجادلات المتاب إلى الإسلام ومجاهداته. فمهما يكن قد طال عهدها وورطت فى المرحلة الأولى للدعوة وللثورة فتحاً للطريق نحو وجهة الإسلام. ومن ذلك ما راجت إلا شعارات عامة بارت من تردادها بعد تساؤل الناس عما تقتضى من سياسات ومناهج. فمن ذلك شعار الإسلام ’’ديناً ودولة‘‘ ’’ودستوراً وحكماً ‘‘ وأنه هو ’’الحل ‘‘ ونحو ذلك من العمومات التى توحّل في مثلها كثير من حركات التغيير وثوراته في العالم.


وبعض دعاة حكم الشريعة المبشرون بأنها صالحة لكل زمان ومكان أخذوا يجعلون من تحرّى المصلحة المتطورة مصدراً للتشريع كأنه يوازى النصوص. وتلك زلة قديمة تصف مصادر وأصولاً للأحكام والفقه كأنها متوازية الحجة : قرآناً وسنة ورأيا اجتهادياً وقياسياً ومصلحة واستصحاباً وعرفاً واستحساناً ونحو ذلك. والحق أن القران أم المصادر اللازمة وهو الذى شرع للسنة أن تبينه ، والشريعة هى القرآن والسنة المبينة فيها روافد البيان فقهاً والإلزام من بعد أحكاماً. ولكن خروج المصلحة أو العرف أو الأحسن بالرأي كأنها مصادر مستقلة جراثيم قديمة لعزل الدين وفصله لاسيما في مجالات المسائل الخلافية التقديرية كالسياسة. والشريعة سياق شامل للحياة ، والمصالح والمضار تهدى إليها النصوص بتوجيهات عامة وقطعية أحياناً يتضابط بها الرأى المتفقه لئلا يسوقه إبتغاء المصالح غايات لذاتها تخرج بمسالكها من نسج الشريعة الموحد المتين. والواقعية والمنفعية كانت في أوربا باباً من أبواب الفكر الخارج من الدين خفية لأول العهد وصراحاً بعد جلاء العلمانية المخالطة لادينية قاطعة خالصة. وإهمال المصالح في الفقه الجامد الظاهرى المتقادم كان تعطيلاً لإعمال النصوص التى توجه الى المصالح وتوصى بتفقه أسبابها واحتمالاتها وأقدارها النسبية وموازناتها في سياق الأعمال الصالحة ديناً وشرعاً ، وكان غفلة عن النصوص التى توجه الفرد أن يجتهد ويسعى لكسب متاعه الطيب الحلال لا يلوي طلباً وحرصاً بأنانية ظالمة أو انحياز جانح بين الآخرين بل المجتمع يتكامل به الأفراد ليباركوا مصالحهم وليقتسموها بعدل وقسط واستواء لا ينغمر فيه الفرد ولا تظلم فئة ، والسلطان يرعى المصالح العامة بالشورى لا يتخذ مصلحة عامة حيلة يتجبر بها على الناس ، وتنفسح مبادرات المبارّة بالحسنى والأصلح للأقرب نحو الأبعد من بنى الإنسان كافة بشرع الدين الموزون. أما الجنوح إلى المصالح الدنيوية متجردة ملحة لذاتها فالمجادلات فيها والمدافعات تسوق إلى التفاصل بالأهواء عن الدين ، مثل ما يقع للماديين كلٌ على هواه يتطلب أولوياته وغاياته ويضرب وسائلها لايبالى بأن تضطرب به نزعات شتى وأغراض متفرقة في حياته وأن يتضارب سير الناس حسب آرائهم وحاجاتهم وظروفهم.

وهذا هو ضلال الشرك وضياع التوحيد. والغفلة عن واقع المصالح المنشودة بالشرع ظناً من المتفيقه بأن النصوص تُقرأ حروفاً مجردة تحُيل الفقه إلى مجادلات نظرية في ثبوت رواية الحديث ودلالة لغة النصوص ووزن القائلين بشتى وجوه المعانى ، ذلك مما يباعد الدين عن الواقع لاسيما في وظيفة من الحياة كالسياسة النصوص فيها ليست كثيفة والفتن فيها متضاعفة. وتلك غفلة عن أن القرآن ما كان كتاباً في نزلة واحدة يُقرأ نصاً وحسب يفهم ثم يطبق بعداً ولا كانت السنة منثورات خطب مجردة لترشيد النظر ، بل كل ذلك اتحد بمسيرة الحياة لبضع وعشرين سنة من مصالح ومضار وظروف متقلبة وابتلاءات مختلفة ، لا عين سبب واحد لكل نص واقع بل شبكة من أسباب الحياة وما يؤثر فيها من أقدار الله الدوارة وتصريفاته واتجاهات البشر وأفعالهم وعلاقاتهم. وخالص القول أن المصالح هى بالشريعة ونصوصها ، وأنه لا نص إلا فيه قدرٌ من إجتهاد بقدر مدى حده وقطعه ووقعه. والغفلة عن تفقه الشريعة بمصالح الحياة فيها جرّت أخرين من أهل التأمل الباطنى إلى الاعتكاف بالدين والرهبنة والتجرد المزعوم لله وللآخرة. وإنما تفلح الآخرة من خلال صلاح الدنيا ، والمصالح العاجلة الراشدة هى التى تعبُر بالمؤمن حسب نيّاته إلى مصالح الآخرة ومن ضيع دنياه رهبانية أو فساداً فقد نسى نصيبه من الدنيا أو أفسده ، نصيبه الذى يستثمره ليتبارك فى الآخرة صالحاً خيراً وأبقى.


(2) دعاة اللادينية السياسية. فى طرف القطب الآخر من المواقف أمام قضية الدين وشأن سلطان الدولة يقف دعاة العلمانية الدهرية العازلة للسياسة عن الدين والفاصلة للأحكام الوضعية عن الشرعية. وقليل من هؤلاء من أعلن ذلك الكفر الصريح لأول العهد. وإن لم تكن له فى الإسلام عقوبة جزاء بالسلطة أو بردع عنيف من المؤمنين فما فى الدين من سيطرة جبارة ولا إكراه ، فإن مجتمع المسلمين بضوابط ضغوطه من العسير على أحد أن يكفر فيه ببدائه الدين. فأدنى الوعى بالإسلام يشهد على أن الحياة كلها ينبغى أن تسلم لله عبادة ، والقرآن تتواتر آياته فى شأن السلطان ، أن ولاته يُختارون شورى وينصحون ويضبطون وأن الأمور العامة تحل وتعقد بالشورى فى شأن الداخل أو حرباً وجهاداً أو سلاماً وعهداً تلقاء الخارج وأن على الرعية الطاعة لا البغى وعلى أُولي الأمر مسئولية ولهم سلطة إنفاذاً بالأوامر للأحكام وقضاء فى النـزاعات والخصومات وقراراً عاماً بالإجماع لنظام علاقات الناس وسياسة أمرهم وعدالة معاملات أموالهم ورعاية حاجاتهم. والقران صريح فى خروج الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من الدين ، لايُدعون كفاراً بجملة الملة ولكنهم من حيث ما فعلوا بالحكم كافرون ظالمون فاسقون وقد يُنسبون إلى الإسلام ولكن غشيهم الارتياب ولمّا يدخل الإيمان فى نفوسهم : ) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ( ، ) وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ( (سورة المائدة الآيات 44، 45، 49 ) ، ) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ( (سورة النور الآيات 47-51 ).

والتجربة النبوية فى المدينة كلها مع النبوة والبلاغ والتعليم والتزكية هى أيضاً الحكم والسلطان نظام التدبير والادارة والقضاء والقيادة : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ( (سورة النساء الآيتان 60، 61 ) ، ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( ( سورة النساء الآيتان 64،65 ). وسيأتى فى الفصول التالية بيان شامل لوظائف الحكم التى أتى بها القرآن لا يعطلها تديناً إلا الكافر بكتاب الله.

والفساد البالغ فى منطق عزل الدين عن السياسة وأنه لاحكم لله إلا فى الأخلاقيات أن الألوهية إما أن تُنكر مطلقاً وإما أن يُعرف الله كامل العلم والحكمة مطلق التصريف والتكليف لعباده ، ولايمكن عقلاً أن يؤمن أحد بالله حكيماً فى تعليم عبادة طقوس العبادة له بالشعائر أو معاملاتهم بالأخلاق وهو لا يعلم كيف يهديهم فى الحكم والمعاش العام وكيف يتعاملون بالسلطة والقوة ، أو أنه تعالى يعلم ذلك لكنه يترك الناس سدى ورسالاته تتنزل يبلغها مرسلون لكنها لا تهدى.

وإذا حُظر الدين فى مجادلات السياسية وتنافسات ولاية الأمر ودوافع شئون السلطان العادلة وروادع جورها لأنه خلافى بين مؤمن وكافر فإن مما يترتب عقلاً أن يحظر أى مذهب وضعى آخر يختلف عليه الناس بين موافق ومعارض ، ينبغي أن ينفى كل مذهب فكر ومعتقد ليبرالياً كان أو رأسمالياً أو اشتراكياً أو قومياً أو مذهباً يميل لحفظ البيئة أو الثقافة أو السكينة في المجتمع أو يجنح للطرافة والطلاقة في السلوك والمتاع ، فتنفى كل إرادات الناس الحرة التى تتحول وتتغالب بالمجادلات والمعايشات العفو. أو إذا كان السواد الأعظم مسلماً كيف يُحال ما بينه وبين التعبير عن ارادته فى الحكم والسياسة ويترك لهم إذا كانوا على رأى أو مذهب آخر. إن الدين ليس وراثة كالذكورة والأنثوية ولون البشرة والنسب مما إذا مُيز به يُظلم من لم يُحظ به قدراً ، بل هو خيار بين إيمان وكفر ، وأصله وهديه الحرية فى الاعتقاد ليسود فى السلطان اختيار أغلب. والدين يعرف مثل عقد الإيمان بالله عقد المواطنة ولو اختلفت المذاهب أو الملل بين مسلمين وغير مسلمين ويحفظ سواء الحق الأدنى فى العيش والأمن والمساواة والحرية والجدال وفي الإيمان أو الكفر شذوذاً عن الأكثرين. وليس فى الدين الإسلامى قداسة أو عصمة لأعيان أو لمؤسسة يجعل حكمها قاهراً للجمهور محتكراً للحق الصادر من الله. فكل الأزمات فى حرية الدين والملة والطائفة وفى تعصب الخلاف والمشادة فيه التى لاتحسم إلا بالقوة والقدسية لرجال الدين المعصوم المفروض رأيهم - كلها ما هى إلا أزمات من تجربة المسيحية المتبدلة فى أوربا لاتقاس بالإسلام.

ولقد اتخذ بعض دعاة فصل الدين والحكم حجة من فقر العلوم التقليدية الإسلامية من حسن سياسة الحكم ونَظمه ، لكن المرصود فى التراث إنما هو بائس كما قلنا فى فقه شئون السلطان لبؤس التدين فى هذا المجال فى سيرة المسلمين الضالة عن الرشد. وقد اعتزل غالب طبقة العلماء التقليديين قضايا السياسة والحكم إلا بعض البسيط والمثير منها كتطبيق الحدود الجنائية ، ولئن اقتحم بعض منهم القضية وسلاحهم العلمى فقير فقد انهزموا لغزوة العلمانية وذهبوا يبدون عصريتهم بأن يتخذوا أيضاً موقف إبعاد الدين وصونه وحفظه من معترك السياسة وخلافاته وفتنه. وقد سبق قديماً فى تاريخ الإسلام أن انطبع مسلمون بثقافة فارس الكسروية ورأوا تفاصل الدين والحكم واقعاً فى المسلمين عهد ظهور السلاطين الذين يتولون بلاءات الحكم ممارسة للسلطة وتدبيراً للأمور العامة فى الواقع بشتى ألقاب السلطان ويحيلون الخليفة إلى رمز للشرعية الدينية الموقرة لنسبه العريى العباسى المحترم لكن مجرداً من وظيفة السلطة فعلاً. ولذلك نشأت عندئذ أطروحات نظرية كُتبت تفصل بين الدين والسلطان، ولمصدرها المنكر من فارس ولأنها كانت تعبر عن أهواء شرائح متسلطة لاتمثل رؤى الجمهور ومصالحه كما مثلت ذلك الدعوة الديمقراطية ضد الكنيسة فى أوربا ، لم تشهر المقولة فى مجادلات النظر الفقهى ولا قبلها جمهور المسلمين مذهباً. اما من عادوا الآن فعبروا بدعوى فقه الدين عما انطبعوا به من مذهب الغرب القيصرى فقد شهرت منهم أسماء فى مصر مثل الشيخ على عبد الرازق رحمه الله ، ولكن حجتهم كانت واهية انبرى لهم علماء تقليديون وعصريون فلم يتركوا لمذهبهم أثراً فى ساحة العلم أو المجتمع التقليدى ولا قيمة فى حوارات الفكر الحديث، لانهم قدموا من ذخيرة محفوظاتهم تأويلات واهية الحجج لنصوص وتفسيرات ملتوية لما بسط الشرع.

إن مستهل القرن الحادى والعشرين شهد جلاءً أبين فى المواقف من التوحيد والفصل بين الدين والسلطان. ذلك أنه وافى ظاهرة غلبة الإيمان بالإسلام هدياً جامعاً للحياة مشتملاً على السياسة والحكم ، وذلك فى أوساط الأمة الإسلامية فى العالم سواء بين سوادها من جماهير العوام فى قاعدة المجتمعات أو بين الشرائح العليا ثقافة ومكانة غير مواقع السلطة. وتجلى ذلك التحول لانتشار دعوة التوبة التامة إلى أصالة الإسلام يأساً من خيبة الاتجاهات اللادينية السابقة التى كانت ذيولاً للوقع والدفع الاستعمارى الماضى على المسلمين ، وغمراً لدعوتها. فمن تلك الاتجاهات ما كان هجراً للولاء للأمة الإسلامية الواحدة قصوراً على الحميّة الوطنية أو القومية الواردة دعوى وعدوى من أوربا التى كانت نزعت إلى ذلك من عالم الولاء الكنسى المحيط ففرقته شيعاً وطوائف وعصبيات قومية أحياناً. لكن تلك العصبيات المحدودة التى فشت عهود الكفاح للاستقلال السياسى تجاوزها الابتلاء المتطور وانبسطت عليها الآن الدعوات العالمية بوسائل التواصل العابر ونظم التعامل الغامر لتمايز الأقوام وأصبح الشائع الآن الحديث عن الإسلام في سياق مقارنة الحضارات بدياناتها وثقافاتها الجامعة. ومن تلك الاتجاهات اللادينية ما كان متولياً صوب المذاهب اليسارية الشرقية المناوئة للدين إدباراً عن الغرب واستعماره المستفز ، وتلك مذاهب أشد نفياً للدين من السياسية ولكن مقلديها بين المسلمين تلاشى صوتهم الآن لحوقاً بمصائر المثال الواقعى الذى انهار. ومن تلك الاتجاهات ما كان فسوقاً بالحياة العامة من معانى الشريعة الهادية الضابطة فى سبيل الهوى والمتاع المطلق أو تقليداً لنظم الغرب الذى عزل الدين عن السلطان وجعل السياسة كلها سعياً نحو المطلوب والميسور فى منافع الدنيا إلا الظهور ببعض مراسم الدين الباقية منافقة للعامة. ولكن تجارب تلك المسيرة السياسية اللادينية وكسوب النظم التى مثلتها فى أرض الإسلام كانت بغالبها فى خيبة وخسار بؤساً فى دنيا الناس وذلاً بين العالمين.

لكن هيمنة الحضارة المادية بغزو الاتصال الثقافى العالمى وسياسة العولمة الساعية لقولبة حياة العالم كله على النمط الغربى برهبة السلاح أو هيبة المال والإعلام الأغلب وظاهرة انحسار غالب ديانات العالم التى امّسخت فأصبحت هويات فارغة قد يهيج بينها التناكر الأعمى لكنها لاتهدى فى الحياة إلى رشد أو نظام - تلك الدواعى أخلفت فى الاتجاه اللادينى السياسى بين المسلمين لحاضر عهده تياراًً أوسع منهجاً وأشد صراحة وعزماً فى ردته عن الإسلام. فهو يهمل شعائر التعبد ويزدهد معروفات تقوى الخلق الخاص وينكر جهاراً بواحاًشرائع النظم والأحكام السياسية الدينية. وهو يستنصر بكل حجج الفكر الأوربى النظرى العقلانى المذاهب التجريبى العلمانى الوسائل النفعى الدنيوى الغايات الإنسانوى الوجودى المشاعر التاريخى التطورى المنهج وبكل عظة التجربة الدينية المريرة فى ساحة الحياة العامة فى أوربا وبكل عبر النمط السلطانى الغربى الديمقراطى الحر الطلق النظام الإصلاحى التحديثى التغييرى السياسة ، وبكل منهاج السلوك بالحياة فى الغرب سدواً وعفواً فى سبيل المتاع والفنون والملاهى خلياً من الدوافع والضوابط الغيبية والثوابت والهوادى الدينية ، وبكل انبساط الغرب نحو العالم الراكن لحكم التفاضل والمنافسة والمغالبة الساكن لأمر الغرب الذى هو أرهب وأغرى وأقوى.

لكن مهما يتوهم العقلانيون في شأن الدين ، إن الإسلام دين توحيد يجمع أصول المعرفة علم فطرة وعقل إنسانى ووحى ربانى يقوّم ويتمم معرفة الإنسان. فالعقلانية حتى حين تجذرت فى الأصول اليونانية اللادينية انسابت فى مصادر العلم بين المسلمين تفكراً غير خارج عن مسموع الوحى كما خرج التنوير بأوربا من علم الكنيسة. بل تصدى أعلام فكر وفلسفة كابن رشد والغزالى وعلماء الكلام والمعتزلة يوحدون بين العقل والنقل ويتخذون المنطق الأرسطى منهجاً لعلم أصول العقيدة والفقه. ذلك لأن وصايا القرآن تتواتر مخاطبة للناس أن يتفكروا ليؤمنوا بآت الله. وكذلك ما انفصل علم التجارب المتبينة لقوانين الطبيعة عن الدين ، بل كان البحاثة يجمعون علم بيان مواد الطبيعة وعلم بيان النصوص الشرعية ذلك لأن القرآن يهدى من خلال التبصر والتدبر فى آيات الكون المخلوق إلى فقه آيات الكتاب المنـزل ، ويتوارد ذكر متوال لتلك الآيات معاً فى القرآن الذى يكلف بلفظ متحد المؤمنين ليكونوا علماء وفقهاء فى أقدار الله فى الطبيعة وأوامره فى الشريعة. وكذلك التأمل والتلقى من تلقاء الفطرة لرؤى وراء المشهودات فى الفضائل والمثل هو هدى القرآن الذى يؤكد فى غالب آياته أن تعاليمه تأتى تذكيراً لما فى النفوس من رواسى ميثاق الإيمان بالأعلى لمن يزكون فطرتهم ولايدسّونها. إن القومة الفكرية فى تاريخ الإسلام إنما اندفعت بدواعى الانبعاث الدينى ولم تنقض الحق فيه. بل لازمت تطوره رفعة وحطة ، فلما ضعف الإيمان فى النفوس انسدت أبواب الاجتهاد العقلى فى فقه الشريعة فجمد بل ضل فى مجال الحكم والسياسة وانكف التأمل الفلسفى والتبين فى علوم الطبيعة فاثاقل مسير الحياة وانحطت أسبابها. وقد وقع خلاف وجدال بين من أفرطوا نزعاً إلى الفلسفة أو إلى نقل مأثور الدين أو إلى إيمانيات النفس ، ولكن ما شهد التاريخ الإسلامى صراعاً حاداً ولا اضطهاداً للعلماء فى أى اتجاه بقدر ما شهد تاريخ الكنيسة عند القرون المتوسطة بل لم تقع إلا حالات استغلها هوى الجبابرة. وقد أنتشرت فى أوساط جهلاء المسلمين فى ثغور مظلمة الخرافات الغيبية والسحر مصدراً للعلم ولكن ما غمرت أبداً قداسة القرآن وشرف السنة المحمدية.

ومهما يرتاب النفعيون الدنيويون بجدوى الدين في السياسة ، إن دين الإسلام يقضى المنافع في حياة الإنسان كما سبق البيان ، لكنه يصل المصلحة العاجلة فى الدنيا بالخير الغيبى الآجل فى الاخرة. ويعظ المسلمين ألا يقعوا فى الفصل بينهما فى سياسة معاشهم فى الأرض لئلا يتورطوا فى مزالق الشهوة والهوى انصرافاً عن المرجوات الأخروية وألا يزدهدوا متاع المعاش ويترهبنوا اعتكافاً وتجرداً مزعوماً للتعبد مقصداً للغيب. وإنما جرى ذلك فى أوربا ، أُسست سياسة الحكم على المنفعة العاجلة الفاسقة عن الدين بينما ابتدعت الكنيسة الرهبانية سنة لم تسلم من الفسوق. ويتوافر البيان للمصالح من هدى عموم آيات القرآن والسنة وخصوصها ، والتوجيه لطلبها لا مبتغي دنيوياً معزولاً من الشرع بل إتماماً له فى الحياة ، فالمصلحة مصدراً للأحكام راجعة إلى أصولها فى الدين والقرآن ، والكتاب بشرعه يصل المصالح الدنيوية بالآخرة ويزنها بالقسط بين بني الإنسان.

وكذلك ليعلم من كان معنياً بشأن الإنسان أن فى عقيدة التوحيد في الإسلام كرامة للإنسان، فهى تؤصل حريته فى صلته بربه مطلق القدرة ، إن شاء الإنسان قطع وإن شاء وصل بعقد مرضى من الإيمان والطاعة لابقدر جبرى. وذلك من ثم حقه ووضعه الأساسى فى الحياة إزاء المجتمع حيث كل العلاقات عقود مرضية يستحق بها ما له ويفى بما عليه ، والناس فى سواء لأنهم جميعاً من نفس واحدة ومسيرة خلق وتكليف وبلاء وحساب واحدة يرجعون إليها ذكوراً أو إناثاً وأحراراً أو عبيداً عهد الرق وكيفما كانت مذاهبهم وأوضاعهم. وكذلك الإنسان مع السلطان كرامته وحريته محفوظة لاذل طاعة بإكراه بل الحكم الحق والعدل مؤسس على عقد حر مرضىّ مكانة الولاية العامة وقرارها بالخيار وبالشورى وبالإجماع وبالنصيحة مقابلة للطاعة من الأفراد لنظام الحكم ، لايتمرد الفرد إلا بالحق ولا يتعالى السلطان على الخيار والمحاسبة. ومهما يكن الإنسان فى إطاره الطبيعى والاجتماعى والسلطانى فهو قائم بذاته عزيز فى وجوده الحر المطمئن الموزون ، إذا آمن نزلت بالإسلام السكينة فى نفسه يذكر الغيب ورجاء الآخرة وتقواها لاتضطرب به بلاءات الكآبة والقلق من شرور الدنيا أو الغرور بخيراتها هدراً للمسئولية وسعياً عبثاً فيما حوله لهواً فى سفسطة وريبة وغربة بل وجوده فى وفاق مع الوجود الكبير المطلق لا فى شق وشك كما زرعت أفكار يونيانية وحصدت مذاهب وجودية فى الغرب. وسواء أسلم الإنسان وتزلف عابداً لربه أو كفر فعاش فى بواح ومتاع فليس بينه وبين ربه غربة وحجاب تتولاه كنيسة تحتكر دون الله أسرار علمه وبركاته العلوية. فلا حكر فى الإسلام للعبادة ولا للعلم ولا للمال ولا للسلطان ، يوالى الإنسان من يشاء مؤانساً بالرضى ولكنه لاينغلق فى عصبية طائفة ملية أو حزب سياسى أو طبقة معاش تعميه وتصمه وتنسخ وجوده.