الشيخ محرم عارفي الداعية المجاهد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الشيخ محرم عارفي الداعية المجاهد

بيت الدعوة والدعاة .. قسم الدراسات والأبحاث

بيروت - لبنان

بقلم: محمد عبد الله أبو زيد


الإهداء

باسم كل الشرفاء إلى روح فقيد الدعوة والجهاد الشيخ محرم عارفي عنوان حب ووفاء

بسم الله الرحمن الرحيم

( يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ،(المجادلة :11)

إن قيمة الفكرة وحياتها تعلو وتنتعش كلما رواها ناصر من عرق جبينه وإخلاص قلبه ,, وتنتقل لما تمثلها بشر من حيز النظر الأمل المشكوك فيه إلى حيز الواقع والممكن الذي لا شك فيه .

وصفت عائشة رضي الله عنها الرسول صلي الله عليه وسلم بقولها " كان خلقه القرآن " فهو صلي الله عليه قرىن يمشي على الأرض , إن كان في هذا الوصف إثبات لعلو خلق الرسول صلي الله عليه وسلم ففيه أيضا إثبات لواقعية القرآن أى أن البشر بإمكانهم أن يتملوه في حياتهم وواقعهم لعل أهم ما في الدعاة اليوم أنهم على سنة النبي صلي الله عليه وسلم في تمثلهم للقرآن في حياتهم فهم الدليل على هذا الدين خالد وأنه باستطاعة البشر وقدراتهم وليس مستحيلا وفوق طاقاتهم والشيخ محرم رحمه الله داعية من أولئك الدعاة ودليل من تلك الدلائل وشيخ من مشايخ بيت الدعوة والدعاة في لبنان قال : ربي الله وتوكل عليه وسار في دروب الحياة خطيبا ومجاهدا يعطي هذه الدعوة المباركة من جهده ووقته حتى ملأت عليه حياته فأعطي الثقة بهذا الدين فيمن حوله وأصبح دليلا على أن الإسلام بمتناول أيدينا وليس فوقها وأنه كسب وليس إدعاء وأننا قوم مقصرون.

مضي الشيخ محرم إلى ربه وبقيت حياته كما عرفها أحباؤه ماثلة أمام عيونهم تحثهم على أن يكونوا رجالا وصناعة الرجال لا يحسنها كل أحد وأحبوا أن يعرضوها على من حولهم ومن يليهم ليقولوا إن الأمة ما زالت حية بدعاتها كما بعلمائها وبمخلصيها كما بعامليها وأنه أهم ما فى الأمة رجالها وأهم ما في الرجال إخلاصهم وعملهم .

لهذا كله يضع قسم الدراسات والأبحاث في بيت الدعوة والدعاة هذا الكتاب بين يدي محبي الشيخ وبين يدي من عرفه ومن لم يعرفه وليحافظ على سنة سرت في الأمة وما زالت بحمد الله ألا وهي ذكر سير رجال الدعوة فإن لم يخلفوا كتبا من بعدهم فقد خلفوا بحسن خلقهم وحسن بلائهم وجهادهم ما لا يقل أهمية عن ذلك وقد يفوقه أحيانا فقد خلفوا رجالا :( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) (النور : 37) والحمد لله رب العالمين .

مسئول قسم الدراسات والأبحاث


المقدمة

منذ سنين عديدة قرعت مسامعي كلمة قالها أحد الأفاضل وبقيت لأهميتها عالقة في ذهني أستحضرها من حين إلى حين قال حفظه الله :

" إن تجربة الداعية مهما كانت متواضعة ليست تجربة شخصية بل هي جزء من تاريخ الأمة وصفحات تضاف إلى سجل دعوتها لذلك لزاما على كل داعية أن يكتب خلاصة تجربته لتكون زاد خير لإخوانه من بعده ..)

هذه الكلمات حق لها أن تسطر بماء الذهب لأهميتها ولعل السابقين من أئمتنا تنبهوا لهذه الحقيقة فجردوا أقلامهم وسروا المجلدات التي ضمت تراجم الحفاظ تنبهوا لهذاالحقيقة فجردوا أقلامهم وسطروا المجلدات التي ضمت تراجم الحفاظ القراء الفقهاء المفسرين وغيرهم .. غير أن هذه الهمة ضعفت كثيرا كما يشهد حاضرنا فصار المرء يجد عشرات التراجم لأناس من أهل الفن ! ولا يكاد يجد ترجمة لإمام مجدد أو عالم مجتهد أو داعية فاضل وقد أشار الشيخ محمد الغزالي إلى هذه الحقيقة بقوله .

" نسأل أخيرا : هل هناك تاريخ للدعاة الذين ذكرنا طريقتهم وأوضحنا واجبهم وشرحنا فائدتهم للإسلام وأهله ؟؟

إنهم كثير في ماضينا وحاضرنا بيد أنهم لا ينظمهم سجل ولا يضبط مآثرهم كتاب .. وما أحرانا وأجدرنا باستدراك هذا النقص "

وتوفي الشيخ محرم عارفي رحمه الله تعالي واجتاح الحزن أفئدة محبيه وتركت وفاته أثرا بالغا أنسانا فرحة عيد الفطر وبهجته وفي خضم الإثارة الإعلامية لتكريم الشيخ الفقيد تتصل حدي الأخوات الفاضلات بالإذاعة وتقول بصوت كادت غصة الحزن أن تخنقه :

" لا تجعلونا ننسي الشيخ محرم ذكرونا به دائما داوموا على بث خطبه ودروسه .."

ومضت الشهور سريعا ومع انقضاء كل شهر كنت أشعر كما يشعر الكثيرون أن ذكري الشيخ محرم بات وهجها يخبوا شيئا فشيئا .. ,ما يدرينا لعل السنوات القادمة ستعمل على طمس ذكري الشيخ ومواقفه الجريئة وصيحاته التي أيقظت الراقدين وزلزلت كيان العدو والمتعاملين .

لذلك عزمت – بعد الاستئذان من أقارب الشيخ – أن أستعين بالله العظيم على وضع دراسة أسطر فيها سيرة الشيخ محرم عارفي وتجربته لتكون أولا :عنوانا وفاء للشيخ المجاهد الذي أعطي الدعوة الإسلامية الكثير .

ولتكون ثانيا : سطور تجربة رائدة نتعلم منها الإقبال على القرآن والعمل للدعوة والصمود في وجه الأعداء والعملاء رغم الاعتقال والترويع .. والثبات على الحق حتى الوفاة ..

هذا غيض من فيض تعلمناه من الشيخ محرم في حياته وواجب علينا أن نراجعه ونلتزمه ونحمله للأجيال القادمة وفاته. والله الموفق

محمد عبد الله أبو زيد

غرة رمضان 1421

الشيخ محرم عارفي الداعية المجاهد على درب الدعوة 1947 -1980

البداية

صيدا الحبيبة هذه مدينة التي أدارت ظهرها لجهة الشرق مستظهرة جملة من الهضاب والجبال الشامخة المتعالية ا نحو السماء واستقبلت هذا البحر اللجي الذي تراه هادئا في كثير من الأحيان لكنك أيضا قد تراه في بعض الأحايين هائجا ثائرا يلقي الرعب في قلوب الذين يفكرون في مواجهة موجه المتلاطم أو تحدي عبابه لعل هذه المدينة الواقعة بين الجبل والبحر تأثرت بهما أشد التأثر .. فأهلها الموسومون بالدعة والوداعة والطيبة كانوا على مر التاريخ ثورة عارمة في وجه المحتلين والمعتدين الذين يريدون النيل من عنفوانهم أو عزتهم وكرامتهم كأنهم تعلموا من الجبال معاني الصمود والشموخ وأخذوا عن البحر روح الثورة والتحدي .

هذه هي الصبغة العامة لأبناء صيدا لكن لعلك تجد أن هذه الصفات متفاوتة إلى حد ما بين إنسان وآخر لذلك فإننا نجد من بين أهل مدينتنا نماذج من الناس تميزت بين أقرانها ولمع نجمها في سماء العزة والرفعة وذاع صيتها في آفاق التحدي والثورة فصارت أسماؤهم مرادفا لمعاني الصمود والجهاد ضد المعتدين والطغاة وما هذه الصفحات إلا سيرة لواحد من هؤلاء العظام إنها سيرة الشيخ محرم عارفي ذلك الرجل الطيب الوديع الهادئ في فترات الرخاء والاستقرار لكنه أيضا القائد الثائر والمجاهد الصامد في زمن الشدة والتحدي إنها سيرة أحد أبناء صيدا مدينة الكرم والحفاوة ومدينة الثورة والتحدي والصمود

الطفولة

في العاشر من كانون الثاني من العام 1947 علت في ربوع صيدا صرخة مولود هو الثالث بين إخوته وأخواته التسعة هذه الصرخة التي ظنها كل من شهد حدث الولادة وقتها أنها صرخة عادية كصرخة أى مولود جاءت الأيام لتقول بل هي صرخة ستسهم في قادمات الأيام في صون كاملة المدينة وتضيف لبنات أخري يعلو بها صرح العزة والصمود .

كانت طفولة محرم عادية جدا فالأسرة التي ينتمي إليها تعد من الأسر الفقيرة وهي التي تحصل قوت يومها من تعب وعرق الحاج خير الدين ذلك الرجل البسيط الذي ارتضي لنفسه أن يقضي يومه يعمل ويكد ليأمن لأهله العيش الكريم فاحترف النجارة وجعل منها سببا لرزقه ورزق زوجه وعياله .

وهناك في المنزل الصغير المتواضع المجاور للمسجد العمري الكبير قضي حرم الصغير أيام طفولته الأولي صحيح أن الأحوال المادية والظروف الصعبة حرمته من كثير من الأشياء التي يحتاجها الأطفال لكن رعاية الله عز وجل وحب الوالدين والأهل كانا الزاد والعتاد الذين تسلح به محرم ليواجه الحياة الصعبة التي قدر له أن يخوض غمارها .

النشأة

لم يستطع محرم الناشئ أن يتابع التحصيل العلمي من خلال الدراسة المنهجية في المدارس فقد اضطر لترك المدرسة وهو في المرحلة الابتدائية وذلك في سبيل تعلم حرفة تساعده على كسب قوته ومساعدة عائلته .

من وقتها صار محرم اليافع سباكا كان يشارك كعامل بسيط في ورشة لتصليح الأدوات الصحية وكان من مستلزمات هذه الحرفة أن يستعمل العامل المطرقة والإزميل مستعينا بعزمه وقوته لتحطيم الحجارة الكشف عن أنابيب المياه المستترة في جوف الجدر ولعل الشيخ محرم صاحب الجسد النحيل اكتسب من هذا العمل خصلة الجلد والثبات ومتابعة الضربات تلو الضربات حتى يفتت الحجارة التي تقف في طريقه ..

بعد ساعات العمل المجتهد , وفي أوقات الفراغ كان محرم الشاب يلتجئ إلى المسجد العمري الكبير وغيره من مساجد صيدا هناك كان يجد راحته وسلواه لقد كان معلقا بالمساجد .كانت المساجد في الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي أشبه بمأوي العجزة فأنت إن تأملت روادها وجدتهم جميعا شيوخا وهنت عظامهم وتقوست ظهورهم وفقدوا عنفوان الشباب وحيويته وها قد صارت حياتهم على وشك الانقضاء فآثروا حسن الختام وكان المسجد ملجأهم في أيامهم الأخيرة ..

لكن شجرة الإسلام الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء بدأت تزهر من جديد وبدأت البراعم الغصة الطرية تنمو وتكثر معلنة أن فوجا جديدا من ثمار أخير على وشك النضوج نعم لقد أنجبت رحم الإسلام جيلا جديدا من الشباب ليملأ هذه المساجد ويضخ فر أرجائها إكسير الحيوية والعنفوان وكان محرم الشاب أحد هؤلاء الشباب .

في تلك الفترة ظهر تعلق الشيخ بالمساجد بشكل صارخ لا مراء فيه فكان ينام في المسجد الليالي الطوال وكانت بالنسبة له المنتدى والمبيت ومكان الطعام والسمر فضلا عن العبادة والطاعة ..

طلب العلم النافع

وكانت الأم الطيبة إذا ما افتقدت ولدها الشاب علمت أنه في المسجد فكانت ترسل أخاه الصغير لتستدعيه .. هناك في المسجد تحول محرم إلى طالب علم نجيب وراح يحاول تعويض ما فاته من تحصيل علمي بسبب تركه المدرسة وكان علماء البعثة الأزهرية خير معين له لذلك اجتهد في ملازمتهم والأخذ عنهم ومن العلماء الأفاضل الذين علقت أسماؤهم في ذاكرة شبابا ذلك الجيل : الشيخ محمود الباز رحمه الله والشيخ أحمد الدومي ذلك العالم الضرير الذي كان محرم الشاب يلازمه لأوقات طويلة ليعينه على قضاء حوائجه من جهة – لما به من عمي – وليأخذ عنه العلم النافع والهدي القويم من جهة أخري ..

وكما انتفع محرم الشاب من علماء البعثة الأزهرية كذلك انتفع من علماء المدينة فكان بحضر دروس الشيخ عمر الحلاق رحمه الله تعالي والشيخ عقل حمادة رحمه الله كما كان يجلس بين يدي الشيخ القارئ موسي نضر والحاج محمد أبوزيد ليحفظ القرآن ويتقن تلاوته على أيديهم رحمهم الله جميعا ..

وبعد صلاة الفجر من كل يوم كان طالب العلم النجيب محرم ينطلق سيرا على الأقدام إلى منطقة البستان الكبير ليجلس بين يدي الشيخ إبراهيم غنيم ويأخذ عنه الفقه الشافعي .. نعم لقد شهدت تلك الفترة بدايات تكون شخصية محرم عارفي العلمية ليكون بعدها الشيخ محرم لا محرم الشاب الملتزم فقط .

الالتحاق بالمقاومة الشعبية

مع إطلالة العام 1967 وحدوث النكبة الأليمة التي كان من آثارها ضياع ما تبقي من فلسطين واستباحة اليهود لمقدسات المسلمين بدأت توجهات محرم الشاب تتبلور أكثر وأكثر فدبت فيه الحمية لله ورسوله ولأمته ودينه .. وما أن أعلن في صيدا عن إنشاء ( المقاومة الشعبية ) حتى سارع محرم للانخراط بهذه المقاومة تلبية لداعي الجهاد ومواجهة الأعداء .. في تلك الفترة حمل الشيخ محرم السلاح وتلقي التدريبات العسكرية لكن الولد الطيب الذي لم يعرف خلال حياته الهادئة قتالا أو نزالا لم يتقبل صنيع لده فهم عائلة لا شأن لها بالحروب والقتال والعمل السياسي .. فالوالد وقتها ما كان ليتوقع أن ولده الشاب سيمسي في يوم من الأيام رمزا للجهاد العمل السياسي ....إتمامه لحفظ القرآن

أيضا شهدت تلك الفترة تنامي حب الشاب محرم للقرآن الكريم فعكف مع أواخر العام 1967 ومطلع العام 1968 على حفظ القرآن الكريم فحبس نفسه في مسجد قطيش لمدة ثلاثة أشهر أو يزيد يصل الليل بالنهار ولا يخرج من المسجد إلا في حالة الضروري القصوي وإذا ما خرج سرعان ما عاد إليه إذ كان همه ودأبه أن يحفظ القرآن الكريم ...وكان له ذلك بفضل من الله ونعمة .. ومنذ ذلك الوقت شهدت شخصية الشاب محرم تطورا إيجابيا جبارا عبر عنه بقوله :

"... منذ أن أكرمني ربي بحفظ القرآن الكريم كان هذا الكرم مصحوبا بنفسية تأبي الذل والهوان مصممة على مقارعة الظلم والعدوان تواقة إلى لقاء الله والجنة ... ومهما حاول المعتدون والخائنون صدها عن هذا الاتجاه فسوف تفشل جميع المحاولات ... لأن هذا الاتجاه المستقيم أصبح ولله الحمد عقلي الذي يفكر وقلبي الذي ينبض .." 2 / 10/ 1984

وبحلول العام 1969 يبدأ محرم الشاب نشاطه الدعوي كمحاولات متواضعة تحمل في طياتها مشروع دعوة سيبلغ يوما آفاق الوطن الحبيب بل ويتعداه منطلقا غربا وشرقا .. لقد شرع محرم الشاب منذ ذلك العام في إلقاء الخطب والدروس والعظات .. وكانت قري الجنوب مثل البرغلية وضيعة العرب وغيرها .. فضلا عن المخيمات الفلسطينية مسرحا لنشاطه في تلك الفترة .. ويحكي لنا فضيلة الشيخ خليل الصيفي كيف حل في مدينة صيدا كإمام للمسجد العمر الكبير وذلك ابتداء من شهر تشرين أول من العام 1969 وهناك كان لقاؤه الأول بمحرم عارفي الشاب المتحمس للدعوة في ذلك اليوم بادر بسؤال الشيخ خليل عن كيفية تلاوة قوله تعالي : ( يا بني اركب معنا) بشكل سليم .. وعن الفرق بين ( صرير الأقلام ) و( صريف الأقلام ) الواردة في قوله صلي الله عليه وسلم :

1- " عربي بي حتى ظهرت بمستوي أسمع فيه صريف الأقلام " رواه البخاري

2- " صرير الأقلام عند الأحاديث يعدل عند الله التكبير الذي يكبر في رباط عسقلان وعبادان " قال الإمام الذهبي في الميزان خبر باطل

3- وأجاب الشيخ خليل ودون محرم الشاب كلام الشيخ في دفتر كان بحوزته بعدها أطلع الشيخ على خطبة مدونة عنوانها ( حفظ اللسان ) سبق له أن ألقاها في قرية البرغلية ..

خلال هذا اللقاء رأي الشيخ خليل نفسه أمام شاب متحمس للدعوة يحب أن يتعلم العلم ويحب أن يعلمه للآخرين امتثالا لحديث سول الله صلي الله عليه وسلم " بلغوا عني ولو آية .." رواه البخاري والجدير بالذكر أن العمل الأساسي لمحرم الشاب كان حرفة السباكة وبسبب كونه عاملا بسيطا كان دخله المالي قليلا لكنه رغم ذلك , كان يدفع من جيبه أجره الطريق ليصل إلى القرى الجنوبية حيث يعمل على تبليغ الدعوة وتثقيف الناس قدر استطاعته ..

كذلك شهدت صيدا في ذلك العام تحولا في مسار محرم الشاب فقد صار يؤم الناس متطوعا في مسجد قطيش , وكان يتطلع إلى الظفر بوظيفة دينية رسمية من خلال الأوقاف الإسلامية إيمانا منه بأن هذه المؤسسة وغيرها من المؤسسات الإسلامية كالمحاكم الشرعية ودار الفتوي هي حصن من حصون الإسلام وواجب المسلم أن ينضم إليها ويعمل من خلالها على خدمة المجتمع والدعوة .. وقدر الله أن ينال محرم مبتغاه إذ صدر بتاريخ 4 / 2/ 1969 قرار بتعيينه قارئا في مسجد قطيش عقبه قرار أخر بتاريخ 27 / 1/1969 بتعيينه مؤذنا في المسجد ذاته .. هنا بدأ الشاب يتحول ليكون لاحقا الشيخ محرم عارفي بشكل رسمي .

كذلك في العام 1969 شهدت صيدا تحولا نوعيا في الناشط الدعوي غذ تزامن حلول فضيلة الشيخ خليل الصيفي في ربوعها مع إطلالة سماحة القاضي المستشار فيصل المولوي على ساحتها ... ومنذ ذلك التاريخ صارت الحلقات تعقد في منزل الشيخ خليل الكائن في منطقة ساحة الشهداء وهناك كان يتم التباحث لا في قضايا الوضوء والطهارة وحسب بل كان النقاش يتعدي هذه المباحث الشرعية المهمة ليطال موضوعا لا يقل عنها أهمية ألا وهو موضوع التحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية وضرورة تطوير الناشط الدعوي في لبنان والدول الأخرى ليكون على مستوي هذه التحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية ..

في تلك الجلسات بدأت نواة العمل الإسلامي المنظم في مدينة صيدا وبدأ الشباب المسلم يتواصلون مع رموز الفكر الإسلامي المعاصر ورواد الصحوة الإسلامية المباركة مثل الإمام المجدد حسن البنا والشهيد سيد قطب وسعيد حوي ومحمد قطب ومحمد الغزالي وغيرهم ..

مطلع السبعينات

وأطل العام 1970 وكان الشيخ محرم المؤذن القارئ قد لبس الثوب الشرعي ووضع العمامة البيضاء على رأسه وبدأ يظهر بشخصية الشيخ الداعية رغم كونه لا يزال يمارس مهنته السابقة الذكر وفي 28 / 12 / 1970 امتحن الشيخ محرم من قبل لجنة من العلماء الأفاضل وبتوجيه من دائرة الأوقاف الإسلامية فنال إعجابهم وأقروا له بحفظه للقرآن وأهليته لممارسة المهام الدينية والدعوية..

كان الشيخ محرم لا يزال مرابطا في مسجد قطيش هذا المسجد الذي حوله بعون الله إلى خلية نحل نشطة فكان الشباب المسلم يرتادونه ليجتمعوا على تذاكر العلم وحفظ القرآن فضلا عن السمر والمرح , وكان الشيخ محرم الأخ والصديق والأستاذ وممن تتلمذ عليه في حفظ القرآن الكريم وقتها فضيلة الشيخ محمد الشيخ عمار والحاج زهير القبلاوي وغيرهم من وجوه العمل الإسلامي المعروفين .

ومن الطريف أن الإمام الرسمي لمسجد قطيش وقتها كان أعجز من أن يقف في الناس خطيبا أو واعظا فكان يكتفي بالإمامة في الصلوات بينما كان الشيخ محرم – وهو من الناحية الوظيفية أدني رتبة من إمام المسجد يقوم بالتدريس وإلقاء الكلمات والعظات عقب الصلوات وكأنه الإمام الفعلي للمسجد ..

بين يدي شيخ القراء

بعد إتمامه لحفظ كتاب الله لم يقنع الشيخ محرم بما وصل إليه بل طمح للإستزادة وتحصيل الأفضل لذلك تقدم بكتاب الدائرة الأوقاف الإسلامية بوصفة أحد موظفيها " يطلب الإذن بالمضي إلى بيروت للجلوس بين يدي القارئ الشيخ حسن دمشقية رحمه الله تعالي وهو شيخ قراء لبنان وأحد أبرز قراء بلاد الشام .. ولدي الموافقة على الطلب بدأ الشيخ رحمه الله يتردد على الشيخ دمشقية لمدة شهر كامل يقرأ في كل يوم جزءا من القرآن الكريم والذين عرفوا الشيخ حسن دمشقية رحمه الله تعالي يحكون عن مدي تشدده في الإقراء وخير ما يبت ذلك انه من المئات الذين قرؤوا عليه لم يجز منهم إلا العدد اليسير واليسير .. هذا فضلا عن شدته وحدته في بعض الأحيان مع طلابه وقد حدث أن اخطأ الشيخ محرم في القراءة يوما فما كان من الشيخ حسن إلا أن انتهزه بشئ من الحدة مما اثر في نفس الشيخ محرم فعاد إلى صيدا دامع العينين قال لأخيه يومها :

" والله لولا حبي لكتاب الله وتشوقي لأن أبعث يوم القيامة في زمرة الحفظة أصحاب السند المتصل إلى رسوله الله صلي الله عليه وسلم لهربت من مجلس الشيخ ولما عدت إليه أبدأ .."

تابع الشيخ محرم تردده على الشيخ حسن دمشقية حتى نال منه شهادة تفيد بأنه متين في الحفظ مجيد للأحكام وضابط لمخارج الحروف أما ما كان من أخطاء فقد تم تقويمها وتصويبها .. وكان ذلك في العام .. 1972.

الانضمام إلى الجماعة

بدأ التواصل الشيخ محرم مع فكر الحركة الإسلامية ومشروعها التغييري منذ العام 1969 كما أسلفنا حيث بات من رواد دروس سماحة المستشار الشيخ فيصل مولوي حفظه الله .. وزاد تبحر الشيخ محرم في فكر الحركة الإسلامية مع تزايد مطالعاته لكتابات روادها ومفكريها ... ولكن حتى مطلع السبعينات كانت علاقته بالحركة الإسلامية لا تعدو كونه أحد المؤيدين المؤازرين لها .. وكان مع إخوانه الدكتور صلاح الدين أرقدان والشيخ ماهر حمود والحاج زهير القبلاوي والشيخ موافق الرواس وغيرهم من أبرز المرشحين للتحول من مجرد التأييد والإعجاب بمشروع الحركة الإسلامية إلى الالتزام بهذا المشروع والانخراط في العمل الحركي ليكونوا من أركان الجماعة وكوادرها ..

وبحلول العام 1972 في بيت الشيخ خليل الصيفي في منطقة ساحة الشهداء حضر الشيخ فيصل المولوي ليشهد إعلان الشيخ محرم عارفي عن استعداده للالتزام بالعمل مع الجماعة وتسخير إمكاناته لخدمة مشروعها والعمل على نصرتها ومؤازرتها في المنشط والمكره ..

منذ ذلك التاريخ تم التحاق الشيخ محرم بركب الجماعة , واستمر معها حتى وفاته .. ورغم كل الظروف لم يسقط أو يتخلف عن الركب مع المتساقطين المتخلفين .. لقد كان يؤمن بمنهج الجماعة ويعتقد أن ما يقع من أخطاء أثناء التطبيق لا يمكن أن يعالج من خلال الانكفاء والابتعاد عن التنظيم بل من خلال التقرب منه أكثر وأكثر والتفاني في خدمة المشروع الإسلامي باذلا الجهد ومستفرغا الوسع للتقليل من الأخطاء تخطي العقبات

زواج الشيخ

ها قد بلغ الشيخ محرم الخامسة والعشرين من عمره المبارك ولكنه كان لا يزال عازبا لقد حدثته نفسه بالزواج لكنه كان متريثا يتطلع إلى الاقتران بالتي تعينه على أمور دينه وتشاركه مسيرة الدعوة إلى الله وتصبر معه على قلة ذات اليد وصعوبة الحياة . وشاء الله تعالي أن يرشد الشيخ إلى ضالته , فإذا به يري في منامه السيدة ( سعاد حنينة) أخت فضيلة

الشيخ غازي حنينة حفظه الله – الذي تربطه بالشيخ محرم صداقة وطيدة – مرتديه ثوب العرس الأبيض .

يمضي الشيخ محرم إلى الشيخ إبراهيم غنيم ويفاتحه بأمر هذه الرؤيا فيبشره الشيخ إبراهيم بالخير .

لكن الشيخ محرم ابن العائلة المتواضعة وصاحب الدخل المحدود خشي أن يرد خائبا فلا يزوج ... فسعي إلى الاستعانة بأصحاب الفضيلة الشيخ خليل الصيفي والشيخ سليم سوسان والشيخ غازي حنينة وكان معهم صادقا أشد الصدق ففاتحهم بحقيقة وضعه المادي ومستواه المعيشي بل أكثر من ذلك فقد كشف لكل من الشيخ سليم سوسان والشيخ غازي حنينة عن الحروق التي في جسده والتي أصيب بها وهو صغير حتى لا تكتشفها العروس بعد الزواج فيكون في عينها مخادعا ..

لكن أم سعد الدين – هذه المؤمنة التي ابتلاها الله بفقد زوجها وتيتم وحيدها – لم تنظر إلى كل ذلك , فهي لم تكن لتبحث عن المال أو الجاه أو غير ذلك.. لقد كانت تبحث عمن ترضي خلقه ودينه كما أمر الله وكما أمر رسوله الكريم ..

تبتسم الحاجة أم سعد الدين وتقول :

" نحنا ما رضينا بالشيخ محرم إلا لدينه .."

وبسبب التطلع إلى الدين والخلق قبل كل شئ تم هذا الزواج الميمون الذي عاش في ظله أفراد هذه العائلة حياة سعادة وهناء .

نعم لقد أصبح الشيخ محرم منذ العام 1973 رب أسرة يبحث كعادته عن الحلال الطيب لإعالتها والإنفاق عليها .... ولم يكن راتبه آنذاك يتجاوز 218 ليرة لبنانية وكان عليه أن ينفق منها 75 ليرة كأجرة سكن ويحاول أن ينفق باقي الراتب بحكمة حتى لا ينفد قبل آخ الشهر .. لكن نفقات الأسرة كان أكبر من راتب الشيخ لذلك حاول العودة إلى مهنته القديمة – السباكة – عله يجد فيها بعض المال الذي يعيه على تحسين دخله لكن الله شاء أن يكون الشيخ محرم للدعوة فقط فلم يستطيع الشيخ التوفيق بين مهنته ونشاطه المسجدي فعاد وترك المهنة وتفرغ للدعوة بعد شهر واحد وكان ذلك في العام ... 1977

ولتعرف مدي ضيق حال الشيخ وقتها يكفي أن تراجع ملفه الوظيفي في أرشيف الأوقاف لتجد الشيخ يلتمس في أكثر من خطاب أن ينظر إلى حاله ويرجو أن يزاد له في راتبه ..

لكن المرأة الصالحة صبرت على حال زوجها فعوضها الله في قادمات الأيام جزاء صبرها وإخلاصها كل خير ..

وتشرح لنا زوج الشيخ مدي عشقه رحمه الله للعلم والدعوة فهو أثناء النهار مع الكتب يقرأ ويحفظ فجسده في المنزل وروحه تحلق بعيدا فقد انجذبت إلى الموضوع الذي يقرأ عنه حتى إنه رحمه الله كان ينسي الطعام والشراب لشدة انجذابه للمطالعة والقراءة ..هذا في النهار أما في فترة المساء فكان مع الشباب من إخوانه وطلابه يحيون سويا العبادات والنشاطات الدينية والدعوية المختلفة .. كثيرا ما كان الشيخ محرم يتأخر خارج البيت فلا يعود إلا مع حلول الليل بل ويتأخر أحيانا إلى منتصف الليل .. لكن الزوجة المتفهمة ما كانت لا تنكر على زوجها ذلك فهي تعرف أنها تزوجت من داعية وأنه من واجبها أن تصبر على نمط حياته وتعينه في دعوته ..

الانتقال إلى مسجد بطاح

مر معنا أنه منذ العام1969 والشيخ محرم مرابط في مسجد قطيش يقوم بمهام القراءة والأذان فضلا عن الاعتناء بالمسجد وصيانته ... فإن وقف إمام في الصلوات فذلك على سبيل التطوع وليس بشكل رسمي لكن الشيخ محرم كان يتطلع إلى الارتقاء بنفسه ليصبح إمام وخطيبا ينفع الناس بما من الله علي من علم ومعرفة وبقي يتطلع إلى ذلك حتى أتيحت له الفرصة في 1/4/1973 حيث انتقل إلى رحمة الله فضيلة الشيخ عمر سنجر إمام وخطيب مسجد بطاح وبوفاته رحمه الله تعالي بات المسجد شاغرا فكلفت مديرية الأوقاف الشيخ محرم بالقيام بهذه المهمة ومن وقتها صار الشيخ محرم مسجد بطاح حيث عهدت إليه جميع الوظائف الدينية من قراءة وتدريس وخطابه وأذان وخدمة .. وقام الشيخ رحمه الله بكل هذه الوظائف – على قلة ما يتقاضاه مقابلها – على أتم وجه , وبفضل إخلاصه في عمله وتفانيه في الدعوة إلى الله تحول مسجد بطاح إلى خلية نحل نشطة وبقي الشيخ محرم في مسجد بطاح رسميا حتى 26 /6/1989 حيث تم نقله في تلك السنة إلى مسجد باب السراي الذي بقي فيه خطيبا حتى آخر أيامه .

في رحاب الديار المقدسة

في العام 1974 يسر الله الشيخ محرم أداء فريضة الحج وكانت هذه أول حجة يؤديها وهناك في رحاب الديار المقدسة جاور الشيخ محرم الكعبة المشرفة قضي الساعات أطوال بحذائها يتلو القرآن ويقوم الليل , وشهد بعض من عرف الشيخ في رحلات الحج أنه كان يطيل الصلاة بخشوع واستكانة مغتنما فرصة وجوده في هذه البقاع الطاهرة ليتزود من خير الزاد زاد الإيمان والعمل الصالح .

كذلك في المدينة المنورة كان رحمه الله يلازم المسجد النبوي مجاورا الحجرة الشريفة مرابطا في الروضة المباركة ويكفيك أن تستمع إلى الأشعار وكلمات المدح والثناء التي كان الشيخ محرم يرددها في دروسه وخطبه لتعلم مدي شفافية هذا الإنسان ومدي تعلق قلبه بحب الرسول صلي الله عليه وسلم هذا الحب العجيب الذي تجلي من خلال دأب الشيخ على الالتزام بنهجه والاستنان بسنته مهما كلف الأمر ..

وفي الحج كان الشيخ محرم يجعل من نفسه خادما للعامة والبسطاء من الناس فيرشد ويعين ويعلم وكأنه يحج عن نفسه وغيره في آن معا ..

وتحكي لنا زوج الشيخ كيف يسر الله لها مرافقة الشيخ أكثر من مرة لأداء هذه العبادة الجليلة لكنها تعلن أنه كان معها في جسده لكن قلبه وروحه منشغلان في خدمة الحجيج ومعاونتهم .. لقد عشق الشيخ هذه العبادة عشقا فكان يداوم على أدائها في كل عام ولم ينقطع عن ذلك إلا بسبب الاعتقال الذي طاله على أيدي اليهود لكنه بعد خروجه من المعتقل عاد لهذه السنة الحميدة حتى كانت آخر حجة له في العام 1999 بعدها اشتد عليه المرض وتوفاه الله تعالي ونفسه تواقة لأداء حج الموسم التالي بعد أن قدم الأوراق اللازمة ولكن قدر الله وما شاء فعل ..

لئن كان الشيخ يري في الحج فرصة للعبادة والتقرب من الله فإنه كذلك كان يري فيه مؤتمرا عالميا يشهده أبناء الأمة الواحدة على اختلاف لغاتهم وجنسياتهم وأعراقهم وقومياتهم ..ويحدثنا أبو العطاء – أخو الشيخ محرم – عن حادثة تجلت من خلالها الكثير من العبر ..

كان الشيخ في المسجد الحرام وهناك التقي أحد الأشخاص المتحمسين للدعوة القومية فأراد الشيخ أن يثبت لذلك الرجل أن الإسلام أسمي وأرقي من كل الدعوات سواء كانت قومية أو عرقية أو غير ذلك .. فطالبه بأن يتأمل مشهد الحجيج وهم يطوفون حول البيت العتيق وفيهم الأبيض والأسمر والأسود العربي والأعجمي .. لكن لباسهم واحد وفعلهم واحد وربهم واحد وعبادتهم واحدة ..

وسأل الشيخ ذلك الرجل قائلا :

"بالله عليك من غير الإسلام يقدر على جمع هذا الشتات ليجعل منه أمة واحدة تذوب في رحابها كل الاختلافات ؟".

لم يملك الرجل من جواب إلا أن دمعت عيناه إقرارا بقدرة الله وعظمة دينه وإفلاس كل الدعوات الأخرى .. نعم لقد فهم الشيخ محرم معني عالمية الدعوة من خلال كتابات مفكري الحركة الإسلامية نظريا لكنه لمسها عمليا من خلال هذه الرحلات المباركة ..

الشيخ محرم في مسجد بطاح 1973 -1982

بدأ الشيخ محرم يتألق يوما بعد يوما مع النصف الثاني من فترة السبعينات فقد استجمع عدته من حفظ للقرآن مع اطلاع على الفقه والتفاسير فضلا عن الأحاديث والأخبار واللطائف التي لابد منها كمعين للداعية تمكنه من الوصول إلى قلوب وعقول مستمعيه .

غير أن الشيخ محرم كان يعي أن العمل الدعوي على أهميته لابد من أن يقترن بحركة على الصعيد الاجتماعي والسياسي وذلك في سبيل تحقيق النهوض المنشود في حياتنا ومجتمعاتنا بشكل متوازن على جميع المستويات وكون الشيخ محرم من أبناء الجماعة الإسلامية – التي انضم إليها منذ مطلع السبعينات كما سبق – وكونه كذلك من الناشطين في مجال الدعوة إلى الله والعمل في خدمة الإسلام منذ أواخر الستينات .. فأين تراه يصب جهوده حتما ستكون الساحة الإسلامية هي المصب الطبيعي لعطاء الشيخ محرم المتدفق كينابيع الخير .

لذلك شهدت هذه الفترة حركة مميزة على ثلاثة صعد :

الأول : والأهم كذلك – كان على صعيد العمل الدعوي فقد تعددت نشاطات الشيخ محرم الدعوية في المسجد , وفي المدارس و وبين عموم الناس حيث شاركهم أفراحهم وأتراحهم فضلا عن ارتياده منتدياتهم ومجالس سمرهم ..ولقد استحال مسجد أطاح – هذا المسجد المتواضع – خلية نحل نشطة وكان الشيخ محرم هو محور هذه الحركة المباركة والدافع الأبرز لها فعلي مدار العام كنت تشهد بعد عصر كل يوم جلسة إقراء وتحفيظ لكتاب الله الكريم حيث يجلس الشيخ القارئ وقد تحلق حوله طلابه من مختلف الأعمار والمستويات ويبدأ الدرس ويتسارع الوقت حتى إن الساعات لتنقضي بسرعة عجيبة فلا يكاد يشعر بمرورها أحد كيف لا وعذوبة تلاوة الشيخ ونداوة صوته تجعل القلب يخشع والعين تدمع كيف ولا فيوض الرحمات قد نشرت على أهل المجلس وبركاته كتاب الله حلت على الشيخ العالم وطلابه المتعلمين .

كان الشيخ محرم يعرف طبائع النفس البشرية ويعرف أن الملل هو الداء الذي يمنع الطلاب عن المواظبة .. فما كان منه إلا أن تسلح بالكلمة الطيبة والعظة النافعة واللطيفة المفيدة , فضلا عن تواضعه ولينة مع الآخرين ليحبب إلى الناس مجالس العلم لذلك كانت مجالس الشيخ تجذب الرواد والطلاب والقراء حيث تتضافر الجهود جهد العطاء من الشيخ وجهد التلقي من الطلاب ولا مجال للملل فأنت مع الشيخ محرم ..

إلى جانب الجلسة اليومية بعد صلاة العصر كان فصل الصيف فرصة سانحة لإقامة الدورات الدينية وتاريخ صيدا يشهد أن فكرة الدورات القرآنية المسجدية التي تموج بها مساجد مدينتنا كل صيف يعد الشيخ محرم أول من أطلقها كفكرة وأول من مارسها كتجربة دعوية وأول من حشد الجهود لإنجاحها وضمان استمرارها وانتشارها في مساجدنا ..

هذا ولا ننسي خطب الجمعة المميزة فقد أتم الشيخ محرم قراءة كتاب " في ظلال القرآن " للشهيد سيد قطب رحمه الله تعالي وحفظ منه مقاطع طويلة كما اطلع على العديد من التفاسير القيمة التي تضافرت جهود علماء الأمة قديما وحديثا على إخراجها لتكون زاد لكل عالم وطالب علم وداعية ولاحظ كل من عرف الشيخ أن خطابه قد ارتقي جدا أسلوبا ومضمونا في تلك الفترة وبقي أسلوب الشيخ محببا وقريبا من العامي والمتعلم .

أما المضمون فقد ارتقي إلى حد كبير خاصة حين كان الشيخ محرم يصغ أفكار سيد قطب وآرائه لتكون محور خطبه فيحلق الشيخ رحمه الله في آفاق الفكر الإسلامي الأصيل .. ولعل المتنورين من رواد مسجده استطاعوا اللحاق به غير أن العوام كانوا اعجز من أن يجاوره وسرعان ما تنبه الشيخ لذلك وعاد وطول خطابه ليكون من السهل الممتنع القريب من جميع المستويات فتقبل العوام والمتعلمون خطبه بعد ذلك وبقي بلا منازع لخطيب الأبرز وفارس فرسان المنابر لا يدانيه أحد ..

هذا وقد امتد نشاط الشيخ محرم ليشمل مجال التدريس في مدارس مدينة صيدا حيث كان الشيخ خليل الصيفي حفظه الله منتدبا من قبل دائرة الأوقاف الإسلامية للتدريس في بعض المدارس الرسمية وليس مستغربا أن يقف الشيخ خليل الصيفي في الصف أمام الطلاب أو الطالبات ليشرح ويدرس فهو العالم المتخرج من الجامعات الأكاديمية والحامل للإجازات الجامعية لكن المستغرب أن يضطر الشيخ للانقطاع عن التدريس في بعض الأحيان فلا يجد أحدا أفضل من الشيخ محرم لينيبه مكانه .. فصرت تجد الشيخ محرم الذي لم يتجاوز في دراسته المرحلة الابتدائية من مراحل التعليم يقف أمام الطلاب شارحا وموضحا لمعالم ديننا الحنيف ..ولعل الشيخ خليل كان متخوفا من إخفاق الشيخ محرم فالدعوة في المسجد مختلفة عن التدريس في فصل دراسي ورواد المساجد ليسوا كطلاب المدارس .. لذلك كان الشيخ خليل يسأل الطلاب الطالبات عن رأيهم بالشيخ محرم ويمتحنهم في المعلومات التي أخذوها عنه وكانت المفاجأة .. لقد أبدع الشيخ محرم في اقتحام قلوب الطلاب وعقولهم .. وكان عجيبا في قدرته على جذب انتباههم , وشحذ تركزيهم وإيصال المعلومات إليهم بشكل واضح وأسلوب مميز رغم كونه لم يتدرج في التعليم الأكاديمي .

أما خارج المسجد وبعيدا عن المدارس فقد كان للشيخ محرم أنشطة أخري تهدف إلى تقوية أواصر الإخوة الإسلامية بينه وبين محيطة لذلك جعل من منزله الكائن في حارة الكنان في صيدا القديمة – ناديا للمقربين من طلابه وكانوا من حين إلى حين يجتمعون على طعام أو جلسة سمر وإنشاد أو لتدارس أوضاع المسلمين عامة أهل المدينة خاصة لقد كانت هذه الثلة المؤمنة التي تجمهرت حول الشيخ وقتها نواة العمل الإسلامي العام هذا العمل الذي ترجم واقعا من خلال عدة مخيمات أقيمت في الأحراش المجاورة لمدينة صيدا . ولا زالت الصور الفوتوغرافية تحفظ لنا مشاهد من هذه المخيمات حيث يظهر الشيخ محرم مع الشباب المسلم وهو يشعل نار المخيم لأجل الطهي , أو يقف من أعلي الشجرة ليحملهم على القفز أو يركض وهم على إثرة يحاولون اللحاق به وإمساكه .. وكانت أجواء الشباب المسلم وقتها ذات طابع مميز حيث انقسم الشباب المسلم إلى جناحين جناح الطلاب – طلاب المدارس والجامعات ويترأسه فضيلة الشيخ ماهر حمود – وجناح العمال – أى أصحاب المهن والحرفيين – وكانت المنافسة بين هذين الجناحين على أشدها في كل نشاطات الترفيهية ..

إلى جانب المخيمات كانت هناك الرحلات الترفيهية إلى متطرق الباروك ونبع الصفا وقلعة موسي وبيت الدين وغيرها .. ولا ننسي ما يرافق هذه الرحلات من طرائف ومواقف مضحكة فضلا عن الهتافات والأناشيد ..

في خضم هذه الأنشطة الدعوية لم ينس الشيخ محرم الجانب الاجتماعي من ديننا الحنيف لقد كان يعي شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة وبالتالي ما كان الموضوع الاجتماعي ليفوته لذلك كان يحث المصلين على التبرع لصندوق المسجد ثم تجميع هذه التبرعات لينفق جزء منها على الفقراء والمحتاجين لتيعنهم على تأمين حوائجهم .

صحيح أن الإنسان يحتاج إلى الأمور العادية لتجاوز الضائقة التي وقع فيها لكنه أيضا يحتاج إلى الشعور بان هناك من يقف إلى جانبه يواسيه ويخفف عنه ولعل هذا الجانب المعنوي أبلغ تأثيرا من العطاء المادي ... وكان الشيخ محرم يعي ذلك تماما ويلتزمه في تعاطيه مع الآخرين .. ولعل خير من يطلعنا على هذا الجانب من شخصية الشيخ محرم هو الحاج معتز سالم حيث يقول حفظه الله :

" تعرفت على الشيخ محرم في صيف عام 1975 وكنت وقتها صغيرا أشعر بمرارة اليتم فضلا عن قلة ذات اليد فالتحقت وقتها بالمجموعة التي كانت ترتاد مسجد بطاح وتقربت من الشيخ محرم – أو هو تقرب مني – وسرعان ما عرف الشيخ أني يتيم , فكان الأب والأخ والصديق . ولا أنسي عناقه الأخرى وقبلته التي يطبعها على جبيني من حين إلى حين وكنت أعاونه في القيام على خدمة المسجد وتنظيفه فكان من فرط لطفه يتفضل على بخمس ليرات أسبوعيا لأستعين بها على شراء ما قد أحتاجه .. كما أنه ما كان ليفوت أى مناسبة أو عيد إلا ويدفع إلى بعش ليرات – عيدية – لكي أنفق منها شان كل الأولاد وحين عرف الشيخ بأمر مرضي ( الحاج معتز مصاب بمرض في العيون يجعل المصاب يفقد بصره شيئا فشيئا ) حاول مساعدتي وتطبيبي لكنه لكثرة مشاغله طلب من الأستاذ حسن أبو زيد أن يتابع الموضوع وأن يعرضني على أفضل الأطباء إن استدعي الأمر وبالفعل فقد اصطحبني الأستاذ حسن إلى مستشفي الجامعة الأمريكية في بيروت حيث أعلمت أن مرضي لا علاج له .

وحين علم الشيخ محرم بالأمر , كاد قلبه ينفطر حزنا لحالي وصرت ألاحظ اجتهاده الزائد في إكرامي وتطييب خاطري ومواساتي .."

لعل هذه الشهادة تظهر لنا الجانب الإنساني والاجتماعي من الشيخ محرم رحمه الله وهو الذي عرفناه جميعا إنسانا عطوفا يعين المحتاج ما استطاع إلى ذلك سبيلا .. لكننا نكتفي بهذه الشهادة خشية الإطالة .

إلى جانب العمل على الصعيد الدعوي والاجتماعي لم ينس الشيخ محرم الجانب السياسي والجهادي من ديننا الحنيف فكان يسعي ليكون حضوره على الصعيد السياسي موازيا لحضوره على الصعيد الأخرى وكانت فصائل الثورة الفلسطينية وقتها القوة الأساسية على الساحة اللبنانية عامة – خاصة بعد إخراجها من الأردن مطلع السبعينات وانتقالها بكل ثقلها إلى لبنان وكان الشيخ محرم يتألم لحال الشعب الفلسطيني المسلم ويتحسر للمآسي التي تصيبه من الغريب والقريب لكنه أيضا كان يستنكر حالة الفوضي وعدم الالتزام الديني السافر في أوساط الفدائيين وبوصفه داعية إلى الله حاول بالتعاون مع آخرين أن يجتهد على بث الروح الإيمانية والمنهج الإسلامي بين من عرفهم من أبناء التنظيمات الفلسطينية وكان حلامه أن يكون في عداد الثورة الفلسطينية فصيل إسلامي مخلص لقضايا أمته ودينه يحمل قضية القدس دون الغرق في متاهات السياسات حاول التواصل معهم لذلك لم يبرز الشيخ محرم كناشط سياسي ومجاهد عسكري في تلك الفترة بل اقتصرت جهوده على الصعيد الدعوي والاجتماعي وكان مسجد بطاح المحور والمنطلق لهذه الجهود .

نماذج من نشاطات الشيخ محرم المسجدية

كان البرنامج المسائي يبدأ بعد صلاة المغرب ذا ما قضيت الصلاة كانت جلسة لقراءة المأثورات قراءة جماعية ثم يحين موعد صلاة العشاء ومع انقضاء الصلاة يبدأ رهبان الليل تهجدهم الذي يفتتح بالنوافل التي يعقبها دعاء طويل يدعو به الشيخ محرم فيسمع دعاؤه الخاشع الممزوج بنبرة حزينة ضارعة إلى الله وتجيش في النفوس أحاسيس الشوق والحب الإلهي وتنفجر الطاقات الروحية وتنثر النفس مكنوناتها فيكون هذا الدعاء جلاء للصدأ الذي طال القلوب والوهن الذي تسلل إلى النفوس وتفيض الدموع وتطمئن القلوب برحمة الله وفضله .. ومن ذاق عرف .

لكن الشيخ محرم كان يعي أن الدين عبادة وضراعة إلى الله لكنه أيضا فرح وحبور خاصة إذا كان المؤمن بين إخوة يحبهم ويحبونه فكان رحمه الله يختم جلسات العبادة بالأناشيد الجهادية التي تشحذ الهمم وتحرك في نفوس السامعين معاني العزة والكرامة ولا ينسي الشيخ أن يكرم رواد مسجده فكما تشاركوا في الاجتماع على مائدة الغذاء الروحي يتشاركون في الاجتماع على مائدة الغذاء الجسدي فتوزع الحلوى ويحلو الجو مع السمر والطوائف إلى أن ينفض المجلس ويفترق الإخوان وقلوبهم مطمئنة بحب الله ورسوله والمؤمنين .

إذا كان هذا ليل مسجد بطاح فإن نهاره في الأيام العادية يعتبر تقليديا – اللهم ما كان من نشاطات تحفيظ القرآن بعد صلاة العصر – وذلك بسبب انشغال الناس في أعمالهم والطلاب في مدارسهم لكن يوم الجمعة يعتبر العلامة الفارقة بين أيام الأسبوع حيث كان الشيخ يبكر في الحضور إلى المسجد ثم يشرع في تلاوة عذبة لسورة الكهف وما تيسر من السور الأخرى فإذا ما انتهي من التلاوة تناول صندوق الأسئلة الذي جعله في المسجد لأجل أن يضع الناس فيه أسئلتهم الشرعية ويبدأ الشيخ بالإجابة ويستفيض في إجاباته لتعم الفائدة وينتفع السامع والسائل على السواء .. ولا ينسي الشيخ أن ينفذ من خلال الأسئلة والإجابات إلى ما يلامس واقع الناس ومعاشهم فينصح ويوجه ليكون الدين والشرع عنصرا عمليا في حياة الناس لا مجرد آراء نظرية ومثلا لا مجال لتطبيقها .

شهر رمضان في مسجد بطاح

كل ما قدمناه من أنشطة تعبدية كانت في الأيام العادية أما شهر رمضان المبارك فقد كان موسما مميزا بالنسبة للشيخ محرم ورواد مسجده ومن يلتحق بهم من الشباب المسلم فالإفطارات الجماعية التي يجتمع عليها عشرات الأشخاص حتي يكاد المسجد يضيق عليهم وصلاة التراويح التي تطول ركعاتها العشرون ليشهد المصلون ختم القرآن بصوت الشيخ محرم في هذا الشهر الكريم والدعاء والقنوت لله تعالي فضلا عن طعام السحور المميز ..

ولأن ساعات ما قبل الفجر تكون عادة ساعات نوم وسكون ... لكنها مع إقبال شهر الخير تدب فيها الحياة فتري الشيخ يدعو تلاميذه وإخوانه لتناول السحور في المسجد ... وكان من حكمته أن يكلف كل من يخشي تخلفه عن الحضور , بعمل معين يلزمه به ليضمن حضوره . ومن الطرائف أن الشيخ قرر في يوم من الأيام أن يكون طعام السحور كنافة بالجبن فعهد إلى الحاج معتز السالم مهمة إحضار الخبز الخاص بالكنافة , وكان معتز طري العود وقتها غير معتاد على الاستيقاظ والخروج من البيت في مثل هذا الوقت الباكر جدا فضلا عن كون الجو في تلك السنة ماطرا . فقال الحاج معتز للشيخ :" أتخشي أن لا أحضر فتبقي الكنافة بلا خبز ..." فقال الشيخ :" لقد وكلتك بهذه المهمة لأضمن حضورك .." وكان ذلك من فطنة الشيخ وحكمته .

الناشط الاجتماعي في مسجد بطاح

أما النشاط الاجتماعي فكان عماده صندوق المسجد و وما تجود به نفوس أصحاب الأيادي البيضاء . ثم تجمع هذه الأموال وتقسم بمعدل 20 إلى 25 ليرة وتوضع في ظروف وتعطي للعائلات المستورة لتكون عونا لها على متطلبات الحيا .

يلاحظ مما سبق أن الجانب الدعوي هو الجانب الأبرز في حياة الشيخ ونشاطه في تلك الفترة كما ويظهر بشكل جلي أن الشيخ كان رائدا في هذا المجال أما بالنسبة للعمل الاجتماعي فقد كان بسيطا ولم يأخذ طابعا مؤساتيا احترافيا لعدم توفر الإمكانات من جهة وعدم وضوح المعطيات من جهة أخري .

وهكذا تنقضي فترة السبعينات ويظن المرء أن الشيخ سوف يبقي حبيس الإطار الدعوي والاجتماعي الذي ذكرناه .... ولكن خيوط القدر كانت تنسج ليلبس الشيخ ثوب العمل السياسي والجهادي بجدارة مع مطلع الثمانينات فيبرز هذا الجانب من شخصيته بعد أن فشلت محاولته في الانخراط في العمل السياسي خلال فترة السبعينات ..

الشيخ محرم عارفي الداعية المجاهد على درب الجهاد 1980 -1983

بوادر توسع العدوان الإسرائيلي

كانت أجواء الثمانينات ملبدة بالغمام , فبوادر الأزمات والحوادث بادية واضحة لقد كان الصهاينة يتحضرون لضرب العمل الفدائي الذي ينطلق من لبنان وساحته الجنوبية لضرب شمال فلسطين المحتلة .

وكانت التوجهات الصهيونية تسير نحو تصعيد الموقف وضرب لبنان ضربة موجعة تكون سببا في تدمير قوي الثورة الفلسطينية وتقليم أظافر كل المجاهدين الذين ينطلقون من الساحة اللبنانية في سبيل الحفاظ على أمنهم المزعوم .

والشباب المسلم في صيدا جزء من هذا البلد , وجزء من أمة الإسلام فإن نظرت للأمر من منظار وطني فواجب على المسلمين أن يتجهزوا لدفع أى عدوان على الوطن وأهله الآمنين .

وإن نظرت للأمر من منظار ديني فالصهاينة يحتلون القدس الشريف وفلسطين المباركة وأجزاء أخري من أرض المسلمين وواجب على أبناء الأمة أن يتصدوا لهم ويواجهوا توسعاتهم ويسترجعوا المقدسات السلبية من براثن الاحتلال الغاصب .

وكان الشيخ محرم أحد المشجعين للعمل الجهادي من خلال الخطب والدروس التي تهدف إلى نشر الوعي السياسي وبث روح المسئولية بين صفوف المؤمنين ..

لكن الشيخ محرم أراد لنفسه أن يوافق فعله قوله , حتى لا يكون ممن قال فيهم ربنا سبحانه وتعالي :

( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف : 2-3)

فما كان منه إلا أن حول بيته الكائن في حارة الكنان – إلى معقل للمجاهدين ولاما كانت عدة المجاهد عقيدة راسخة وفكرا مستنيرا وعتادا مناسبا كان دأب الشيخ أن يزرع في نفوس الخلص من طلابه وإخوانه روح الجهاد وحب الشهادة في سبيل الله ليكون جهادهم نابعا من قلب مفعم بالإيمان .

ولوعية الرأي العام كانت المنشورات والطبوعات خير وسيلة لنشر الوعي السياسي وتنبيه الناس إلى أبعاد التطورات السياسية في لبنان والجوار وكان منزل الشيخ مستودعا لهذه البيانات والمناشير .

وإلى جانب العقيدة والفكر السياسي كان لابد من التدريب على السلاح وبالفعل فقد حول الشيخ منزله إلى معسكر تدريب عسكري حيث كان يجتمع الشباب المسلم من آخر إلى حين ليتدربوا على نصع الأسلحة الشعبية من قنابل حرقة وعبوات هذا فضلا عن الدرب على استعمال الأسلحة التقليدية .

الاجتياح الإسرائيلي للبنان

وبحلول صيف العام 1982 ومع بداية شهر حزيران كانت طائرات العدو تحلق في سماء المدينة والشيخ محرم يتعاون مع زوجه الفاضلة على حرق البيانات والمنشورات والصور والأوراق التي يخشي إن وقعت في أيدي العدو وعملائهم أن تفضح أسماء ووجوه الشباب المسلم المجاهد .

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل حول الشيخ منزله إلى قاعدة عسكرية حيث رابط الشباب المسلم بسلاحهم داخل البيت المطل على البحر من جهة الغرب وهم يراقبون الساحل تحسبا لأي إنزال يقدم عليه العدو.

وحل الخامس من حزيران واجتاحت قوات لعدو الصهيوني لبنان ومن ضمنه مدينة صيدا وتصدي الأشاوش للعدوان لكن الآلة العسكرية المتطورة كانت أكبر من أن تتصدي لها الأسلحة الخفيفة والتقليدية فحلت الكارثة وبات قسم كبير من بلدنا الحبيب تحت نير الاحتلال الغاشم .

كان الحرق والتدمير السمة البارزة للجيش الإسرائيلي فهمجية الصهاينة لم تفرق بين المواقع العسكرية ودور العبادة ومنازل المواطنين فدمر المسجد العمري الكبير ودمرت المنازل والبيوت حتى منزل الشيخ محرم نال حظه من التدمير حيث قصف وأصيب بإصابات مباشرة مما تسبب في تدميره واستحالة السكن فيه لكن رحمه الله تعالي وعنايته تدخلت حيث كان ذلك اليوم يوم أحد وقد اصطحب الشيخ أهل بيته لعيادة أخت زوجه والاطمئنان على حالها ولما عاد وجد المنزل قد تهدم بعضه وأكلت النيران بعضه الآخر لكن ذلك لم يؤثر على عزيمة الشيخ بل صبر على الابتلاء واحتسب ما خسره عند الله وفي سبيل الله .

صلاة الجمعة تحت وقع القصف

أثناء الاجتياح كانت المدينة تعيش حالة رعب وهلع لأجل ذلك فرّ كبير من الأهالي إلى مناطق أكثر أمنا أما الذين بقوا فقد لازموا الملاجئ وتخلفت جموعهم عن صلاة الجمعة خشية حدوث أى طارئ لا تحمد عواقبه .

في ذلك اليوم مضي الشيخ سليم سوسان إلى مسجد المجذوب ليخطب الجمعة – وكان وقتها خطيب المسجد – لكنه فوجئ بعدم وجود أحد من المصلين .

خرج من المسجد وقصد مسجد الزعتري وفي طريقه التقي بالشيخ محرم فترافقا ولدي وصولهما وجدا المسجد خاليا إلا من بضعة مصلين تجمعوا رغم سوء الحالة الأمنية – لأداء الصلاة .

وبدا للشيخ سليم أن يوعز إلى الشيخ محرم بأن يرتقي المنبر شرط أن لا يطيل الخطبة بل يقتصر على الأركان الواجبة من حمد وثناء على الله والصلاة على رسوله والتذكير بالتقوي... لأن الحالة الأمنية لا تسمح بغير ذلك .

وارتقي الشيخ المنبر فشرع في حمد الله والثناء عليه . لكن الموقف أنساه فاسترسل, واسترسل , واسترسل بينما كان جمع المصلين يتململ خوفا من أن يحدث حادث ويتشوف للانتهاء من الصلاة بأسرع ما يمكن ..شعر الشيخ سليم بحساسية الموقف فأشار بشكل عفوي للشيخ محرم بأن يقطع الخطبة وينزل للصلاة لكن الخطيب المفوه صاح بصوت المدوي كقصف الرعد بأنه سيتابع الخطبة ولن ينزل قبل إتمامها حتى ولو سقطت القذائف فوق رأسه مباشرة ..

وكانت هذه الخطبة أول إعلان للتحدي رغم نير الاحتلال وفاتحة المواجهة المباشر مع اليهود عملائهم ..

في ذكري المولد النبوي الشريف

رغم الاحتلال ورغم التضييقات أبي أهل المدينة المسلمة إلى أن يعملوا على إحياء ذكري المولد النبوي الشريف ..وهناك في مسجد الموصلي تحولت الذكري إلى مناسبة للتحدي ورفض الخضوع للمحتل الغاشم – أليس هذا الذي علمنا إياه النبي الكريم الذي اجتمعنا على إحياء ذكراه ؟؟ وكان الشيخ محرم عارفي من بين المتكلمين فوقف وقفة عملاق وأعلن الشعار الذي لا يزال محفورا في ذاكرة الصيدوايين يومها قال :

" اجعلوني قذيفة وأطلقوني في وجه اليهود ..."

لعل البعض ظنها مبالغة خطيب مفوه , وأنها لن تعدو كونها نفحة من نفحات الانفعال العاطفي ... لكن الأيام جاءت لتترجم هذا الشعار عملا فعليا في مواجهة اليهود .

الانتقال إلى مسكن جديد

بعد أن دمر الصهاينة بيت الشيخ محرم اضطر للانتقال إلى منطقة سيروب حيث استأجر مسكنا يأوي إليه مع عائلته وهناك انقطع عن الأنشطة العامة بعض الشئ لأسباب منها :

أ‌- إن حالة التوتر الأمني وانتشار الصهاينة وعملائهم لم تكن تسمح بالأنشطة العامة وذلك خشية أن يرصد المشاركون فيها ويتم اعتقالهم .

ب‌- إن التطورات التي طرأت على الساحة كانت تستدعي نشاطا أكثر ملائمة من الأنشطة لدعوية والثقافية والترفيهية التي اعتاد الناس عليها في السبعينات .

ت‌- كما حال التجاء العديد من الشباب المسلم إلى مدينة بيروت وصعوبة التواصل معهم بسبب الحواجز والتشديدات الأمنية دون التعاون على أى نشاط مثمر .

كل هذه الأمور قللت من حركة الشيخ لكنها لم توقفها فقد كان يتوسل خطب الجمعة لتحريض الناس على عدم الخنوع والاستسلام للعدو ويذكر بأننا وإن هزمنا عسكريا واحتلت بلادنا لكن الواجب يحتم علينا أن لا نمكن العدو من هزيمتنا معنويا يجب أن يبقي القلب ينبض بروح الجهاد والتصدي مهما بلغت التضحيات وأنه لجهاد نصر أو استشهاد :( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ( يوسف : 21 )

منذ ذلك الحين صارت خطب الشيخ المحرك الأبرز لمشاعر المؤمنين حيث وجدوا – في خضم الطغيان والجور الصهيوني المدعوم من قبل أذيالهم من العملاء والخونة رجلا يقف في وجه التيار ويصدع بكلمة الحق بجرأة نادرة وعزيمة أكيدة لا يخشي في الله لومة لائم ولا يمنعه ظلم المحتل وجوره من أن ينطق بكلمة الحق .

وتجاوب الناس مع خطب الشيخ وصار مسجد بطاح خلية نحل تضج بجموع المصلين المتشوقين لسماع هذا لنفس الجهادي الذي ينضج بمعاني العزة والرفعة والكرامة في زمن ظن البعض أن الصهاينة استطاعوا بإرهابهم أن يستأصلوا هذه المعاني .

وضاق مسجد بطاح بالمصلين الذين تتراوح أعدادهم 500,550 مصليا انتشروا في حرم المسجد وعند مدخله وفي مكان الوضوء ولما ضاق المكان عليهم افترشوا الشارع المؤدي إلى المسجد مما استدعي أن توضع أبواق إضافية خارج المسجد ليبلغ صوت الخطيب الثائر إلى الآذان المتعطشة للكلام الناري الذي يلامس القلوب ليفجر الغضب لله والحق ويعلن ثورة على الطغاة .

لم يقتصر الشيخ محرم على الخطابة والتحريض بل سعي ليترجم كلامه عملا ضد ظلم الصهاينة وطغيانهم فبادر إلى تنظيم مظاهرة احتجاج ضد الصهاينة وذلك استنكارا لإقدامهم على اعتقال العديد من الشباب وكانت صلاة عيد الفطر عام 1983 وخطب الشيخ خطبة العيد وعبأ النفوس محرضا محمسا ضد اليهود والعملاء ثم ناشد جميع المصلين أن يشاركوا في مظاهرة الاحتجاج وقد كان اليهود وقتها في أوج جبروتهم وكانت مقولة " الجيش الذي لا يقهر " لا تزال تتردد على الألسنة وتزرع في أذهان الناس صورة أسطورية لهذا الجيش .. وكان الناس يخافون من الوقوف في وجه هذا المحتل لكن الشيخ أراد أن يكسر حاجز الخوف فكانت هذه المظاهرة التي نظمها أول مظاهرة تخرج لتتحدي جبروت الصهاينة وعنجيتهم وكان للشيخ محرم فضل إطلاقها وقيادتها .

انطلقت جموع المصلين بعد صلاة العيد وسارت في طرقات صيدا القديمة وصولا إلى بوابة الشاكرية ومنها باتجاه شارع رياض الصلح, لتبلغ أخيا ساحة الشهداء وكان الصهاينة على جنبات الطريق يراقبون المتظاهرين الذين تسلل الخوف إلى قلوب البعض منهم فصرت تري عدد الناس يتناقص كلما مضت المسيرة قدما حتى إذا ما بلغت ساحة الشهداء كان الجمع يقدر بخمس محرم على رأسهم وقادهم إلى أن بلغ بهم ساحة الشهداء هناك وقف الشيخ عند قبور الشهداء وخطب بالناس معلنا أن درب الجهاد والشهادة هو درب العزة وكل الدروب الأخرى لن تقودنا إلا إلى الهوان الذلة والضياع .

عزة في مواجهة محاولات الإذلال

كان دأب الصهاينة أن يستدعوا الناس للنزول إلى البحر حيث يجمعونهم كقطعان الماشية ويعرضونهم على المتعاملين معهم ليتم التأكد من أن أحدا منهم لا ينتمي إلى أى جهة قامت بأعمال مقاومة ضد اليهود وبناء على ذلك تعطي لهم التصاريح التي تخولهم التجول في المدينة ومن شهد تلك المواقف يذكر الساعات الطوال التي قضاها الناس في الشمس بلا طعام أو شراب ينتظرون فرج الله ويستجدون التصاريح من الصهاينة لكن رجلا كالشيخ محرم ما كان ليضع نفسه المعتزة بعزة الله المتسامية بسمو الإيمان في مثل هذه المواضع لذلك رفض أن ينزل إلى البحر لينال التصريح بل كان يقول بعزة المؤمن كلما سمع نداء الصهاينة للنزول إلى البحر :" يلي بدو يحكي معي يجب لعندي "

الشيخ محرم يجمع السلاح

في تلك الفترة صار الناس يتخلصون من أسلحتهم حتى لا تكون سبب اتهامهم بالعمل ضد الصهاينة فيؤدي ذلك إلى اعتقالهم وصار مشهد الأسلحة الملقاة على جوانب الطرقات أو في مكبات النفايات مشهدا مألوفا في تلك الفترة لكن الشيخ محرم كان يتصرف خلافا للتصرف السائد .

لقد كان مع إخوانه جمال حبال جمال حبال وغيرهم يجمعون هذه الأسلحة سرا ويخفونها في غرفة مسجد بطاح . في تلك الفترة كان مسجد بطاح قد أغلق في وجه المصلين وتحول إلى مأوي للعائلات التي تهدمت بيوتها جراء الاجتياح الصهيوني والقصف العنيف الذي هدم مساكنهم وذلك في آب العام 1982 .

وكانت غرفة المسجد ذات الباب الواحد قد سترت بخزانة للكتب وضعت على بابها حتى أن الناظر لا ينتبه إلى الباب المختفي خلف الخزانة وبالتالي إذا كان لا يعرف المسجد فإنه لن ينتبه لوجود هذه الغرفة التي حولها الشيخ وإخوانه إلى مستورد أسلحة وعزموا على استعمالها لمواجهة اليهود متى سنحت الفرصة وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن فقد أحست إحدي النساء بحركة غريبة في المسجد وانتبهت إلى وجود تلك الغرفة حين رأت أحد الشباب يجر الخزانة ليكشف عن باب الغرفة ثم يفتحه ويدخل ما معه من الأسلحة ثم يخرج ليعيد مدخل الغرفة بالخزانة فجزعت وخشيت أن يقدم الصهاينة على اعتقال كل العائلات التي أوت إلى المسجد في حال افتضاح أمر الأسلحة لذلك سارعت وأبلغت العدو بنفسها , كبادرة حسن نية معلنة أن لا علاقة لأحد ممن في المسجد بهذه الأسلحة وما كان من الصهاينة إلا أن أقدموا على اقتحام المسجد وقلب الخزانة فظهر باب الغرفة أمامهم بادروا إلى كسره فوجدوا الأسلحة مكدسة في الغرفة فما كان منهم إلا أن صادروها ولما سألوا عن الذي وضعها ؟ تنكر الجميع وزعموا أنها موجودة منذ مدة ولا يعرف من وضعها ..

أخبر الشيخ محرم بالذي كان فاحتاط للأمر وتواري عن الأنظار لفتة وأوعز إلى جميع الناشطين معه بضرورة التخفي خشية الاصطدام بالعدو والتعرض للاعتقال .

عودة الشيخ محرم إلى مسجده

مع مطلع العام 1983, تركت العائلات مسجد بطاح ومضت إلى مكان آخر تأوي إليه .

وأعيد افتتاح المسجد بعد إجراء الصيانة اللازمة , وعاد الشيخ محرم ليلهب المشاعر بخطبة النارية متحدا اليهود وفاضحا العملاء .

لعل العملاء لم يستسيغوا مهاجمة الشيخ محرم لهم فعمدوا في يوم من الأيام إلى التسلل خلسة إلى المسجد حيث صبت أحدهم الوقود على السجاد وأشعل النار ثم التواري عن الأنظار وسرعان ما انتبه البعض إلى السنة اللهب والدخان المتصاعد من المسجد فسارعوا إلى إخماد النار وأبلغوا الشيخ محرم بالذي ري سارع الشيخ إلى الحضور وعلم أن اختيار هذا التوقيت – وكانت تلك ليلة الجمعة – ليس إلا محاولة لتعطيل خطبة يوم الجمعة لذلك قر تفويت هذه الفرصة واجتهد بنفسه وعاونه الحاج معتز السالم على إخراج كل ما التهمته النيارن من أثاث المسجد ومن ثم عمدا إلى تنظيفه من ىثار الحريق مضت تلك الليلة وأطل الفجر وكان المسجد عندها مؤهلا لاستقبال المصلين تسارعت الساعات وحان وقت صلاة الجمعة فاعتلي الشيخ محرم المنبر وأعلم الجميع بالذي جري وفضح العملاء وخبث طويتهم وأعلن قبوله للتحدي وعدم استعداده للرضوخ لأساليب التهديد والإرهاب التي يراد منها ثنيه عن مهمته كعالم وداعية مجاهد .

وشاء الله أن تكون حادثة إحراق المسجد دافعا لمزيد من الثورة بدلا من أن تكون كما أراد مخططوها – وسيلة لإخضاع الشيخ وتخويفه .

موقف الشيخ محرم من العملاء

كان اليهود أجبن من أن يدخلوا إلى أحياء صيدا القديمة رغم تفوقهم عددا وعدة وذلك بسبب طبيعة العمران حيث تكثر الطرقات الالتفافية وتتقارب البيوت بل وتتصل الأسطح بحيث يسهل على المجاهدين مهاجمة الدوريات الصهيونية لمسارعة في التواري عن الأنظار عبر لطرق والمداخل التي يعرفونها جيدا ويجهلها اليهود وكان من خبث الصهاينة أن عهدوا إلى أذيالهم من العملاء مهمة السيطرة على الوضع داخل صيدا القديمة ليكونوا أشبه بكلاب حراسة لأسيادهم [الصهيونية|[الصهاينة]] .. وكان أهل المدينة يتهيبون من الاصطدام بالعملاء لما عرف عنهم من انعدام الضمير , والتجرد من لك القيم الأخلاقية والإنسانية وكان العملاء يشعرون بنبذ الناس لهم ويخشون أن يؤدي عدم قبول الناس لهم إلى الاعتداء عليهم عبر القيام بعمليات جهادية ضدهم – على اعتبار أنهم صاروا مع الصهاينة في خندق واحد لذلك كان العملاء مسلحين بشكل دائم وتحركاتهم في الغالب لا يتكون إلا في جماعات خشية أن يستفرد الناس يهم ويتمكنوا منهم إن ساروا فرادي .

وفي الوقت الذي كان الواحد من الناس يخفض صوته كلما أن يذكر اليهود وعملائهم كان الشيخ محرم كالرعد القاصف لا يهاب ولا يخشي يصدع بالحق ويعلن المواقف دون خجل ولا وجل وهو الأعزل الذي لا يملك من السلاح إلا الكلمة الصادقة والإيمان العميق بالمقابل كان العملاء يرصدون مواقف الشيخ محرم وخطبه وقد تعود بعضهم الوقوف عند مدخل المسجد أو في جواره كل جمعة ليرصد حركة المسجد وينظر من يدخل للصلاة فيه وماذا يدور خلال الخطب والدروس من كلام المواجهة مع العملاء :

وبدأ للعملاء في يوم من الأيام أن يطوقوا المسجد فتدفقوا بأعداد كبيرة وبعد أن كان يرصدون المسجد بضعة أشخاص يحملون أسلحتهم دون أن يظهروها للعيان كانت حركتهم هذه المرة مختلفة عن كل مرة فقد بلغ عدد المحيطين بالمسجد قرابة 25 عميلا دججوا بالسلاح بشكل علني .

بالمقابل تدفق المصلون إلى المسجد ولاحظوا هذه الحركة غير المعتادة والشيخ محرم بدوره لاحظ ذلك لكنه دخل المسجد واعتلي المنبر وبدأت الخطبة .

تري ماذا يقول الشيخ للناس ؟ هل يخفف لهجته وحدته في مواجهة العملاء مراعاة للوضع المتازم ؟ أم يبقي على عادته ثائرا لا يهاب ولا يخشي العملاء وأسيادهم ؟

إن كنت تعرف الشيخ محرم فلابد أنك ستتوقع التصعيد والتحدي , لا الاستكانة والمدارة فهذا هو الشيخ المجاهد الذي أخفي جسده النحيل روح عملاق وقلب ثائر مقدام وبالفعل كانت خطبة نارية وثار الشيخ كالبركان وسمي الأشياء بمسمياتها بلا مداراة أو مراوغة فبعد الحمد والثناء على الله تعالي والصلاة والسلام على رسول الله صلي الله عليه وسلم استشهد الشيخ بالحديث الذي يقول :

" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمر ونهاه فقتله " حديث صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك .

ثم قال بأعلى صوته :

" أيها الإخوة الأعزاء .. منذ قليل كان يقف على باب المسجد عميل من عملاء إسرائيل – و أدري إذا ما كان لا يزال واقفا إلى الآن – وهذا العميل بدلا من أن يقدم ما عنده من طاقات وإمكانات في سبيل قضية فلسطين أو في سبيل قضية لبنان أو في سبيل قضية الحق والعدالة... وإذا بهذا العميل يتآمر مع اليهود ويسخر ما عنده من طاقات وإمكانات لخدمة اليهود هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرضنا واعتدوا على شعبنا وحاربوا ديننا .. وإنني أقول لهذا العميل ولكل العملاء بل وإنني أقول لأسياده الذين يدفعون له والذين يعمل لحسابهم .

إذا كنتم تظنون أنكم من خلالا هذه التصرفات ستخيفوننا ... فإني أقول لكم لا فإن الذي يخاف الله لا يخشي أحدا من العباد لأنه لا يريد إلا مرضات الله ... وأما الصعاليق والمسوخ فهم الذين يخافون من الذين يخافون الله عز وجل ...."

كان الشيخ بصوته الجهوري كالرعد القاصف وكانت تكبيرات المصلين تتفجر غضبا وثورة تهتز لها أركان المسجد .. وفي الخارج كانت قلوب العملاء ترتعد خوفا فقد قذف الرعب في قلوبهم واجتاحتها الهيبة .

قضيت الصلاة وتحلق الناس حول الشيخ مستعدين للخروج من المسجد وهم يتحسبون لصدام مع العملاء والهياج والثورة قد دبت على وجوه الجمع المؤمن لكن الشيخ نصح بالحكمة في التصرف وطلب أن لا يتهور أحد وراح ينشد قائلا :

أخي أنت حر وراء السدود
أخي أنت حر بتلك القيود

إذا كنت بالله مستعصما

فماذا يضيرك كيد العبيد

وكان الناس ترددون النشيد وراءه . ثم خرج الشيخ من المسجد والناس خلفه فتصدي له كبير العملاء ومد يده يريد أن يصافح الشيخ محرم , فأبي الشيخ أن يصافحه وهنا دار بين العميل والشيخ الحوار التالي :

العميل : ولو يا شيخ محرم إنت شيخ وبتعطي دروس وما بدك تسلم علي...

الشيخ : أنا ما بصافح أمثالك لأنك عميل لليهود الأنجاس لما توب وتصير تخاف الله أنا آتيك بنفسي وأقبل رأسك .

وأدار الشيخ ظهره لكبير العملاء باحتقار وقسمات وجهه تتألق بنور الإيمان والعزة .

لم يصدق أحد أن تبلغ جرأة الشيخ هذا الحد كبير العملاء ومن حوله رجاله المدججون بالسلاح والشيخ يكيل له الكلام اللاذع بلا خوف ولا استكانة .. هكذا هم الرجال الذين شمخوا بالإسلام وشمخت الأمة بهم.

ماذا يفعل العملاء ؟ لقد حاولوا التدخل عبر إشهارهم الأسلحة لعلهم يوقعون الرعب في قلب الشيخ والمصلين لكن الأجواء المشحونة كانت أعظم من أن تعالج بقوة السلاح .. وشموخ الشيخ محرم انعكس ذلا وخشية على العملاء فدعاهم كبيرهم للانسحاب وبالمقابل مضي الشيخ محاطا بالخلص من المصلين وصولا إلى سيارته حيث مضي إلى بيته وروحه تحلق في سماء العزة والكرامة .

واليوم وبعد مرور سبعة عشر سنة على هذه الحادثة لا يزال هذا الموقف يذكر للشيخ ويعترف الجميع أن أحد – بالغا ما بلغ – ما كان ليقف هذا الموقف في تلك الفترة بسبب الرعب والخنوع الذي دب في قلوب الناس جراء عنجهية العدو وعملائه ... لكن الشيخ من معدن عجيب لا يعرف في قاموسه كلمات الخنوع والاستكانة ...

الشيخ يتوقع الاعتقال

كان لأحد المصلين أخ من العملاء , وكان هذا الشاب المؤمن يستغل فرصة قربه من أخيه العميل فيستدرجه في الكلام ليعرف منه بعض ما يدور في خلد العملاء وماذا يعتزمون وبالفعل عرف أن هناك لائحة تضم قرابة 75 اسما كلهم من الشباب المؤمن ورواد المساجد وقد صدر القرار باعتقالهم فسارع الشاب المؤمن إلى الشيخ محرم يطلعه على هذه المعلومات خاصة وإن اسم الشيخ وأبرز تلاميذه على رأس اللائحة ومن الأسماء التي ذكت في اللائحة محرم عارفيعماد أبو شامةمحمود الريشمعتز سالم ... ,غيرهم .

فما كان من الشيخ إلا أن طلب من الشباب التخفي وعدم التهور وتعريض أنفسهم للاعتقال أما هو فبقي على سيرته المعتادة لا يخشي غير الله ولا يخضع غلا له سبحانه ..

في ذلك الوقت كانت زوج الشيخ الكريمة دائمة القلق عليه تستيقظ ليلا ويهجر النوم مقلتيها كلما أحست بدورية لليهود تقتحتم بيتا مجاورا لتقتاد أحد أفراده للإعتقال . لكن الشيخ كان مطمئن النفس يقول لها على الدوام :

" نامي .. حين يأتي دورنا يقرعوا بابنا ..."

نعم لم يعرف القلق أو الجزع رغم تيقنه أنه على رأس المطلوبين تري ما س ذلك ؟ لقد كان قلب الشيخ معلقا بالله مستسلما لقضائه وقدره يذكر على الدوام قوله تعالي :( قل ن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) التوبة 51 )

وبدأت ملحمة العزة والكرامة

شهد العام 1983 تطورات لم تكن في حساب الصهاينة وعملائهم نعم لقد استطاعة الآلة العسكرية الصهيونية أن تجتاح لبنان مرورا بجنوبه ووصولا إلى العاصمة بيروت .

كما تمكن هذا الجيش الجرار – الذي حقق توسعا خطيرا كهذا - من سحق المقاومة التي تصدت له أيام الاجتياح صيف عام ... 1982 لكن ومع حلول العام 1983 كانت المعطيات قد تغيرت لقد ظهر بشكل جلي أن الآلة العسكرية الجبارة يقودها جنود سمتهم الأساسية الجبن والخوف ..بالمقابل كانت هناك ثلة من المؤمنين لا يملكون من العتاد والعدة الشئ الكثير لكنهم كانوا يملكون إيمانا يخفق في قلوبهم ونفسا تحدثهم بالشهادة في سبيل الله حتى أن الواحد منهم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه ...

وكانت البداية على دي الشهيد جمال حبال رحمه الله تعالي لقد أراد الشهيد القائد أن يؤسس نواة العمل الجهادي في مدينة صيدا فعمل مع إخوانه على شن حرب عصابات طالبت دوريات الصهاينة وعناصرها .

لقد اتخذ الشهيد جمال حبال من بيروت مركزا للتخطيط والتحضير لتلك العمليات ومع تنفيذ كل ضربة من تلك الضربات الموجعة التي ألمت الصهاينة كان يدخل الشهيد القائد إلى مدينة صيدا خلسة فيتصل بإخوانه سرا .. عندها تحدد الأهداف وتوزع الأدوار والمهام فالبعض يرصد البعض يهاجم .. أما المبدأ المعتمد فهو الكر والفر وبعد انتهاء الهجوم كان المجاهدون يلوذون إلى أماكن سرية بعيدة عن الشبهات تاركين الصهاينة منشغلين بقتلاه وجرحاه .. تكررت العمليات فأثخن العدو وأربك إرباكا شديدا لم يغن عنه شيئا لا أسلحته المتطورة ولا تفوقه العددي فضلا عن تعامل الخونة معه .

وهكذا بقيت عناصر جيش الاحتلال فريسة لصقور " قوات الفجر " هذه القوات التي عزمت مستعينة بالله على تبديد دجي الاحتلال ليطلع فجر النصر وتعلو في سماء الوطن آيات النصر والعزة المسطرة بدماء المجاهدين ..

وفي شهر كانون الأول من العام 1983 وبعد سلسلة عمليات بطولية ألمت العدو وأربكته تمكنت أجهزة الصهاينة من رصد القائد المجاهد جمال حبال بعد تنفيذه لإحدي العمليات فقد لجأ مع أخيه المجاهد محمود زهرة إلى إلا أن سارع بتطويق المنطقة وتضييق الخناق عليها ظنا منهم أن المجاهدين الثلاثة فريسة يسهل اقتناصها لكن الأمر كان خلاف المتوقع حيث بادر المجاهدون بالتصدي للعدو المحتشد , وهناك دارت رحي المعركة التي استمرت طوال الليل إل أن انتهت مع ساعات الفجر الأولي – قرابة الثانية من فجر يوم الثلاثاء 27 / 12 / 1983 م هناك استبسل المجاهدون وثبتوا حتى قضوا شهداء ومضوا نحو الجنان بعد أن خطفوا أرواح عدد من جنود العدو بينهم ضابط برتبة ميجر جنرال من قوات المظليين هذا فضلا عن الجرحي والخسائر التي طالت الآليات والعتاد ..

حملة الاعتقالات

هزت عملية المجاهدين الثلاثة الكيان الصهيوني هزا عنيفا مما جعله يقود حملة اعتقالات هستيرية طالت العديد من الشباب المسلم وكان على رأس المعتقلين فضيلة الشيخ محرم عارفي كيف لا وهو الذي تتلمذ هؤلاء الشهداء على يديه وبات يعتبر المحرض والموجه لجهادهم ..

تفاصيل حادثة اعتقال الشيخ :

عند مساء يوم الثلاثاء 27/12/ 1983 كان الشيخ محرم جالسا في بيته وقد لبس ثوب النوم بينما كانت زوجة في ركن من أركان البيت .. فإذا بالباب يقرع بعنف , ومن خلفه صوت يصيح بلهجة غريبة : افتح ... افتح .

هب الشيخ ليفتح الباب فيتفق جمع من الصهاينة إلى داخل البيت عندها يقيد الشيخ وتعصب عيناه ويبدأ تفتيش البيت تسارع زوج الشيخ إلى ستر نفسها وتخرج إلى غرفة الاستقبال لتجد الشيخ مقيدا وقد حجز في زاوية من زوايا الغرفة بينما كان الجند يعيثون في رحاب البيت تخريبا ولا يدعون خزانة أو زاوية إلا ويبحون فيها .

وعن أى شئ تراه يبحثون ؟

أعن السلاح , والذخائر؟

لقد فاتهم أن سلاح الشيخ هو الكلم الصادقة المؤمنة الثائرة لأنها كانت ابلغ تأثيرا من الأسلحة التقليدية . ماذا في الحقيبة ؟؟

وتقع عيون الصهاينة على حقيبة يد من نوع ( سامسونيت) كان الشيخ يضع فيها بعض الأوراق الخاصة لكن الصهاينة ظنوا أنها تحتوي على أوراق خطيرة يمكنهم الانتفاع بها لضرب العمل الجهادي .. فطلبوا من الشيخ أن يفتحها لهم ...ولكن الشيخ نسي الأرقام .. حاول وحاول لكن ذاكرته الحديدية خانته في تلك اللحظة .

طلب الشيخ من زوجته أن تذكره بالأرقام لكن أم سعد الدين أبت التجاوب مع الصهاينة ..

لماذا يا أم سعد الدين لم تفصحي عن الأرقام ؟

قالت : أردت أن أغيظ الصهاينة مصداق قوله تعالي : ( .... قل موتوا بغيظكم ..) أل عمران : 119)

وبالفعل اشتد غيظ الصهاينة وطالت معالجتهم لقفل الحقيبة دون جدوي فما كان منهم إلا أن عملوا على كسرها .. لكن النتيجة كانت أن ظفروا بأوراق عادية لا تحوي على أى شئ ينفعهم ... عندها اقتاد الصهاينة الشيخ إلى الاعتقال دون يسمحوا له بتغيير ثيابه .. وتركوا زوج الشيخ التي صدمتها الحادثة فباتت لا تدري ماذا تفعل .

في سراي صيدا

حمل الشيخ محرم إلى سراي صيدا الحكومي – وكان العدو الصهيوني قد احتلها واتخذ منها مركزا له وهناك ادخل الشيخ إلى غرفة التحقيق وبدأ المحقق يسأل , ويسأل عساه يظفر من الشيخ بأسماء المجاهدين الذين يعرفهم أو ينال شيئا من المعلومات التي قد تسهم في كشف خلايا المجاهدين .. لكن الشيخ الذي كان دأبه أن يعلو المنبر ليتكلم بأعلي صوته وجد أن هذا الموقف هو موقف الصمت والسكون فأى كلمة يذكرها قد توظف ضد الوطن وضد تلك الثلة المؤمنة التي هبت للذود عن حياضة ..

أدرك المحقق أن الشيخ لن يتكلم بسهولة لذلك لجأ إلى أسلوب خبيث حاول أن يحطم إصرار الشيخ على التكتم لكنه أدرك أن تعذيب الشيخ وإجباره على الكلام لن يجدي نفعا ولكن لعل الأمر يكون مختلفا لو كان الذي يعذب إنسان عزيز على قلب الشيخ كزوجة مثلا ؟ لذلك وضع الشيخ محرم في غرفة تجاورها غرفة أخري يسمع منها صوت امرأة تصرخ وتستغيث وراح المحقق يقن الشيخ بأن الت تصرخ هي زوجه , وأنها ستقاسي الأمرين على يد العلوج من رجاله إن لم يتعاون الشيخ ويتكلم والشيخ حائر بين العاطفة الجياشة والحب الكبير الذي يكنه لزوجه , وبين الواجب الشرعي الذي يمنعه من الكلام والإدلاء بأي شئ يفيد الصهاينة ..

وبينما الشيخ في حيرته وصوت المرأة المستغيثة يطرق مسامعه فإذا بشعور داخلي يتفجر من أعماقه فيملأ فؤاده طمأنينة ثقة بالله يشعر أن في الأمر مكيدة وأن المرأة ليست زوجه – وفعلا لم تكن زوجه بل كانت خدعة من خدع اليهود للضغط عليه نفسيا وحتى لو كانت زوجه فالواجب الشرعي مقدم على الوالد والولد والزوج.

سكت الشيخ ولم يدل بأي شئ .. حاولوا معه شتي الوسائل خوفوه , وهددوه بنفسه بزوجه بأهله فما كان منه إلا أن قال : ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ( التوبة : 51 ) عندها أيقن العدو أن لا أمل من الشيخ .

الصهاينة يغلقون مسجد بطاح

بعد التطورات الأخيرة صار مسجد بطاح في نظر الصهاينة منبعا للتحريض ومعقلا للثائرين لذلك آثروا أن يستغلوا فرصة تغييب شيخه المعتقل لإغلاقه ومنع تلاميذ الشيخ من إقامة أى نشاط قد يستغل ضدهم فأوعز الصهاينة إلى بعض أذنابهم من العملاء الذين أقدموا على إغلاق المسجد في وجه المصلين .

وبقي المسجد مغلقا من 27 كانون الثاني 1983 حتى 18/ أيار من العام 1984 كما نشر العملاء بعض أعوانهم وعيونهم في جوار المسجد حتى لا يقدم أحد على فتحه من جديد ومن الطريف أن ذكر مسجد بطاح – هذا المسجد الصغير المتواضع صار مرادفا لذكر المقاومة ضد الصهاينة , ومجرد الصلاة فيه أو ارتياده يجعل المرء مشتبها به من قبل الصهاينة لذلك كان بعض السذج يتحرجون حتى من المرور من الطريق المؤدي إلى المسجد وإذا ما اضطر احدهم للمرور تراه سرع خطأه ويتلفت يمينا ويسارا خشية أن يراه أحد :

إعادة افتتاح مسجد بطاح

بقي المسجد مغلقا بضعة شهور ومديرية الأوقاف تفضل إبقاء الوضع على ما هو عليه حينا من الوقت خشية أن يؤدي افتتاح المسجد أثناء فترة التأزم إلى صدام بين عامة المصلين والعملاء فيقع جراء ذلك مالا تحمد عقباه ..

ومرت الشهور والمسجد مغلق وفي منتصف شهر أيار فاتح الحاج معتز السالم بعض الأفاضل بضرورة فتح المسجد وعدم الاستسلام للأمر الواقع لكنهم تخوفوا من ذلك فقابل تخوفهم بالإصرار على فتحه ليتباع المسجد أداء رسالة شيخه المعتقل ..

وفي يوم الجمعة 18 / أيار / 1984 عزمت ثلة من الشباب على افتتاح المسجد فخرج الحاج معتز السالم واتجه نحو المسجد فإذا به يلتقي بسماحة قاضي صيدا الشرعي الشيخ أحمد الزين الذي أحس بعزم معتز على شئ ما .. فدار الحوار التالي بينهما :

الشيخ أحمد : إلى أين يا معتز ؟؟

معتز: سأفتح المسجد ...الشيخ أحمد ( مشجعا ) : أتكل على الله وبالفعل يقدم معتز على فتح باب المسجد فيتصدي له أحد العملاء ويسأله عن نيته ؟ فيتذرع الحاج معتز بأنه موظف في الأوقاف الإسلامية وإن واجبه يحتم عليه أن يكون في مكان خدمته ..يتساهل هذا العميل مع الحاج معتز ويتركه يفتح فإذا بالمصلين يتوافدون إلى المسجد .. وحين يبلغ الحاضرون قرابة الستين من المصلين يقوم الأخ نادر شلبي برفع الأذان ويرتقي الحاج معتز المنبر ليخطب بالجمع .. وكانت تلك أول خطبة جمعة في المسجد منذ اعتقال الشيخ محرم .. هذا وقد خطب الحاج معتز في مسجد بطاح مدة ثلاثة أسابيع إلى أن كلفت مديرية الأوقاف الإسلامية الشيخ إبراهيم اللقيس بالخطابة في هذا المسجد الذي عادت إليه الحياة و لكنه ظل يفتقد خطب ومواقف إمامه الشيخ محرم ..

صيدا تفتقد شيخها المجاهد وأبناءها البررة

نعود إلى أعقاب حادثة اعتقال الشيخ محرم فقد استيقظت صيدا صباح الأربعاء 28/ 12/1983 لتجد العديد من شبابها قد بات خلف القضبان في المعتقلات الصهيونية بدأت المدينة تغلي ويجيش الغضب في صدور الشرفاء من أبنائها استنكارا لهذا الظلم وبدأت التحركات لتنظيم اعتصام حاشد يعلن فيه موقف المدينة من هذه الاعتقالات ..

أحس الصهاينة بالتحركات الهادفة لتنظيم الاعتصام فبدأت محاولات الإرهاب والتخويف لثني رموز المدينة عن المشاركة في هذا الاعتصام لتحجيم آثاره وتقليص صداه .

كان سماحة مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين من الذين طالهم الإرهاب الصهيوني حيث داهموا منزله بعد أن أطلقوا النار عند المدخل الخارجي لإحداث جو من الرعب ..قرع الباب بعنف ففتح سماحته الباب فإذا بالصهاينة عند العتبة ما الأمر !! تفتيش ..تمالك الشيخ الوقور نفسه وقاد المسئول العسكري إلى داخل البيت من غرفة إلى غرفة .

ثم سأل سماحةالشيخ المسئول العسكري : عن ماذا تبحثون !!

فقال المسئول العسكري : عن الأسلحة ..

فقال الشيخ الجليل : لو أنك ذكرت الأمر من البداية , انتظر ..ومضي سماحة المفتي عاد حاملا قطعة قماش لف فيها مسدس لم يستعمل منذ سنوات طوال ... فالشيخ الجليل رجل علم وقانون وماذا يفعل مثله بالسلاح بعد أن بلغ من الكبر عتيا ؟؟

لكن اليهود أرادوا لهذا التصرف أن يكون رسالة لسماحة المفتي علة يحجم عن الماركة في الاعتصام الاستنكاري المقرر ..

لم يلبث الصهاينة أن غادروا المنزل بعد أن اقتادوا معهم أحد أبناء سماحة المفتي لكنهم سرعان ما أطلقوا سراحه فالأمر كما ذكرنا مجرد تهويل وتخويف مع ذلك لم تكن سماحته هذه الفعلة عن المضي في مشروع الاعتصام .

أطل يوم الجمعة في 30/12/1983 وإذا بمسجد الزعتري يشهد الجموع المحتشد وعلى رأسهم سماحة المفتي الذي قام فيهم خطيبا وضمن خطبته كلمات الاستنكار والاحتجاج على التعسف الصهيوني ومما جاء في كلامه قوله :

" إن السلاح الأمضي ضد المحتل هو سلاح الإيمان وهو سلاح مشروع ..

وبعد انقضاء الصلاة بقيت الجموع معتصمة وقد استحال غضبهم إلى ما يشبه الثورة العارمة وصارت هتافات التحدي تتردد في المسجد على ألسنة المعتصمين لكن سماحته تدخل ونصح بالهدوء , ليس خوفا من شئ بل مراعاة لحرمة المسجد حيث لا يصح الصخب فيه .

وفي تلك الأثناء يأتي خبر عاجل من منزل سماحة المفتي مفاده أن الحاكم العسكري الإسرئيلي قد اتصل به يريد الاعتذار .. ولما كان سماحة المفتي خارج البيت بداعي مشاركته في الاعتصام أعلم الحاكم العسكري أهل البيت أنه سيعاود الاتصال ثانية .

وجد سماحة المفتي أنه من المحكمة أن يتم التعاطي مع هذه المبادرة بشكل جماعي فاعلم إخوانه العلماء والنائب نزيه البرزي وبعض الفعاليات بالذي كان من الحاكم العسكري ودعاهم جميعا للاجتماع في منزله ليصار إلى اتخاذ الموقف المناسب من تلك المبادرة الإسرائيلية ..تم عقد الاجتماع في منزل سماحته وسرعان ما سمع رنين الهاتف فإذا به اتصال من مكتب الحاكم العسكري للمرة الثانية يعلم المفتي عن الرغبة بالاعتذار على ما كان من أمر تفتيش منزله واعتقال ولده لكن سماحة المفتي يعلن أن المسألة ليست شخصية لتكون منحصرة باعتذار وجه لشخصه الكريم .. بل هي مسألة متعلقة بمن يمثلهم بحكم موقعه الديني إنها مسألة تتعلق بالمدينة بأسرها لذلك فإن الاعتذار الشخصي لا يجدي نفعا بل لابد أن يكون الاعتذار موجها إلى المدينة بأسرها ..

وفي سبيل ضع صيغة الاعتذار الذي يمكن للمدينة أن تقبله يسارع سماحته للإعلان عن اجتماع موسع في اليوم التالي – السبت 31 / 12 / 1983 – وبالفعل يتجاوب السادة العلماء والقضاة والسياسيون مع هذه الدعوة ويتم التباحث في الأمر ويتوافق المجتمعون على الآتي :

إن الذي كان من الصهاينة يعتبر إهانة لمشاعر أبناء المدينة الصامدة بأجمعهم لذلك لا يمكن أن يعتبر الاعتذار مقبولا إلا إذا ترجم بفك الحصار الآثم الذي ضربه الصهاينة على المدينة لخنقها كما لابد من إطلاق سراح جميع الأسري والمعتقلين بما فيهم فضيلة الشيخ محرم عارفي

ويتم الاتصال بمكتب الحاكم العسكري الصهيوني عبر الهاتف حيث يبلغ ما توافق عليه المجتمعون .

لكن الصهاينة ما كانو ليطلقوا الأسري بهذه السهولة فلغة الاستنكار والمطالبة أثبت التاريخ عدم جدواها مع مثل هؤلاء وهكذا بقي الأسري في قبضة العدو الغاشم .. وبقي الشيخ محرم غائبا لا يعرف عنه شئ .

أحي هو أم ميت ؟

سليم هو أم سقيم ؟؟

في أى السجون تراهم جعلوه ؟؟؟

أربعة شهور مضت ولا يعرف عنه شئ إطلاقا فلا هو مع الموقوفين في صيدا ولا هو مع المعتقلين في أنصار .... لذلك بادرت الجماعة الإسلامية وتجميع العلماء المسلمين إلى تفعيل قضية اختطاف الشيخ من بيته وتغييبه عبر إثارة قضيته من خلال الصحافة اللبنانية آملين أن يسهم ذلك في بقاء قضيته حية خشية أن يغلفها التجاهل أو النسيان ..وطالت فترة الانقطاع , وزوج الشيخ يتزايد قلقها يوما بعد يوم , فوساوس الشر تجول في خلدها ولا تترك للراحة سبيلا إلى قلبها ..وساوس وأسئلة قضت مضجع الزوجة المخلصة وجعلت النوم يهجر مقلتيها وكما كانت الزوجة قلقة كذلك كان جميع أحباب الشيخ .

وشاء الله أن يخفف عن الزوجة الصابرة محنتها فإذا بها تقرأ هذا الحديث :" الصدقة تسد سبعين بابا من السوء "

هذا الحديث رواه الطبراني في الكبير وفيه حماد بن شعيب وهو ضعيف فتسارع إيمانا وتصديقا برحمة الله وفضله العميم إلى التصدق بمبلغ من المال بنية أن يكشف الله السوء عن زوجها الشيخ المجاهد ...وشاء الله أن تحقق أمنيتها فإذا برسالة تصل عبر الصليب الأحمر الدولي مؤرخه بتاريخ 15/ 3 / 1984 تحمل اسم الشيخ ( محرم العرف ) ورقمه ( 11666) ومكان وجوده ( سجن كيشن) في داخل فلسطين المحتلة .. ومعنونة بكلمتين اثنتين ( بصحة جيدة ) لا غير .

وصدق الله القائل :( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ورزقه من حيث لا يحتسب ..)( الطلاق : 2-3)

حلقت روح الزوجة المخلصة من شدة الفرح وراحت تعلم كل أحباب الشيخ بأمر الرسالة وأنه بصحة جيدة ففرح الجميع بسلامة الشيخ المجاهد

الشيخ محرم عارف الداعية المجاهد في سجون الاحتلال 1983 -1985

في سجن كيشن

كان هذا السجن القابع فوق تراب فلسطين الحبيبة أول محطات رحلة الاعتقال فقد بادر الصهاينة إلى وضع الشيخ محرم في زنزانة إفرادية مدة طويلة قاربت أربعة أشهر آملين أن تتسبب هذه العزلة والوحدة المشوبة بوحشة الغربة والبعد عن الأهل والأحباب والوطن بزعزعة إيمان الشيخ وتحطيمه نفسيا وحمله على الجنون .. ولكن خابت مساعيهم ولنستمع إلى الشيخ محرم يذكر لنا وقائع تلك التجربة :

عندما جار على العدو ونقلني ظلما وعدوانا إلى الأرض التي بارك الله حولها فلسطين ووضعني في زنزانة إفرادة ضيقة مظلمة جلست على السرير الحديد ووضعت يدي على وجهي ثم تلوت قول الله عزوجل :(.... ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا * المرسلين إنهم لهم * المنصورون وإن جندنا لهم الغلبون ..) الصافات 171-174)

ثم توجهت إلى ربي بدعوة كان يدعو بها قدوة المجاهدين محمد صلي الله عليه وسلن فقلت : " اللهم خر لى , واختر " هذا الحديث رواه الترمذي وضعفه

وبعدما انتهيت من مناجاتي مسحت ناصيتي بدموعي التي انهمرت خشية ورضاء بقدر الله م أخذت عيناي تحدقان في أسماء المعتقلين لمحفورة على جدران الزنزانة من حولي ولما وصلت عيناي إلى جهة الباب رأيت اسما لمعتقل سبقني إلى هذا المكان .. كتب تحته :

لا تظنوا السجن قهرا
رب سجن قاد نصرا

فطمأن قلبي وارتاحت نفس وانفرجت أساريري وتناولت قطعة نقود معدنية .. وحفرت بها على باب الزنزانة قول الله عزوجل :( الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ( الرعد :28) نعم هكذا تحول حزن الشيخ إلى عزم هزم جحافل اليأس التي أوشكت أن تجتاح فؤاده .

راح يردد آيات القرآن يوميا عن ظهر قلب مستعينا بحافظته الحديدية وكان يختم القرآن كل ثلاثة أيام وأحيانا كل يومين ومع كل ختمة كان يقينه بالله يملأ قلبه رضا وترتسم والطمأنينة على محياه فيري وجهه مشرقا منبسط الأسارير..

بن الشيخ وسجانه

كان السجان يطل من فتحه باب الزنزانة على الشيخ الأسير من حين إلى حين وكان يعجب من حال السكينة الطمأنينة التي يعيشها الشيخ رغم وحشة سجنه .. فقال له سجانه يوما :

" أنت السجين أجدك مطمئنا, وأنا الحر تجدني مهموما !"

فسأله الشيخ عن أسباب همه ؟؟ فأفصح السجان عن مكنونات نفسه وبين للشيخ المعتقل سبب حزنه وكآبته .

هو أب وجد لعدد من الأبناء والأحفاد لكن هناك جفاء وقطيعة بينه وبين أولاده وأحفاده .. وقد أورثه هذا الحال شعورا بالضيق والأسى...عندما يعلن الشيخ عن استعداده لإعانته على حل هذه المشكلة يستبشر السجان العجوز ويسرع للسؤال عن الوسيلة عندها ينصحه الشيخ محرم بأن يبادر إلى إرسال الهدايا إلى الذين جافوه .. فنبي الإسلام محمد صلي الله عليه يقول :" تهادوا تحابوا "أخرجه البخاري في كتابه الأدب المفرد وإسناده جيد ولعل هذه لهدايا تكون سببا لعودة المياه إلى مجاريها وعودة الإلفة والمحبة .

ويستجيب السجان لنصح الشيخ وإذا به يعود بعد فترة مستبشرا فرحا ويعلم الشيخ أن القطيعة انتهت وأن الحل كان على يدي الشيخ الذي أحسن النصح .

لكن الشيخ يتوقف عند هذه النقطة ويقول لسجانه بل كان الحل على يدي رسول الله صلي الله عليه وسلم وببركة هديه ويصر على سجانه أن يقر له بذلك وفعلا يقر السجان بأن بركة هدي النبي هي سبب تحسن العلاقة بينه وبين أهله .

دعوة السجناء في سجن كيشن

في زنزانته الإفرادية كان الشيخ ممنوعا من لقاء أى إنسان حتى ولو كان من السجناء الباقين لكن ذلك لم يمنع الشيخ الداعية من العمل على دعوة إخوانه السجناء فكانت الحوارات الدعوية تجري بينهم من وراء جدران الزنازين الشيخ يتكلم بصوته الجهوري والسجناء في الزنازين المجاورة يستمعون ويسألون ويستزيدون كان لهذا العمل تأثير بالغ على السجناء حيث كان فيه من المواساة وبلسمة الجراح ما يعينهم على تحمل ألم السجن ووحشية وشعر الشيخ أن الله قدر له هذا المقام لينتفع إخوانه السجناء ويأنسوا به في خضم هذه المحنة ..

إلى معتقل أنصار

شاء القدر أن ينقل الشيخ محرم من سجنه في فلسطين ليجعل مع المعتقلين في معتقل أنصار في جنوب لبنان وبالفعل تم ذلك .

حمل الشيخ في سيارة عسكرية والقيد في يديه وسيق إلى معتقل الشرف والكرامة – كما يحب الشيخ أن يسميه – وانزل عند مدخل المعتقل صباح الأربعاء 25/ 4/ 1984 .

تنبه السجناء للقادم الغريب .. رجل نحيل الجسد كث اللحية يقاد باتجاههم وهو يسير بهدوء ووقار ... فمن هو هذا الغريب القادم يا تري ؟ وكلما تقدم الشيخ باتجاه المعتقلين كلما تجلت ملامح وجهة أكثر فأكثر وحين تكشفت ملامحه تماما وأيقن الجمع أن الشيخ المجاهد صار بينهم ضج المعتقل بالهتاف والتكبيرات التي هزت المعتقل هزا وقد وصف الشيخ هذا الموقف فقال :

" لحظة وصولي إلى هذا المكان الذي أفتخر به وأعتز فإذا بجميع المعتقلين ينتفضون انتفاضة واحدة وآثار لعزة والكرامة والفرحة بادية على قسمات وجوههم فاستقبلوني بالهتافات والأناشيد والتحيات والقبلات وكل فريق منهم يريد أن يصحبني إلى معسكره من شدة حبهم لى مما جعلني أذرف دمع العيون شكرا لله على نعمة وتضرعت إلى الله قائلا :

" يا رب لقد أبعدت عن أحبابي في مدينة صيدا فحولت المعتقلين إلى محبين..)

نشاط الشيخ داخل معتقل أنصار

كان معتقل أنصار يضم ما يزيد على الألفي معتقل جعلوا في خيم قسمت إلى قطاعات كل قطاع يضم مجموعة من المعتقلين مع خيم المبيت والمتفقات التي تضم مكانا لقضاء الحاجة ومكانا لصنع الطعام .. وكان يحظر على أهل كل قطاع ان يتواصل مع من في القطاعات الأخرى أو زيارتهم كما جعل اليهود على كل قطاع " مختارا " من السجناء أنفسهم مهمته التنسيق بين اليهود والمعتقلين إذ ينقل رغبات المعتقلين وحاجاتهم إلى المساجين وبالمقابل يبين أوامر اليهود لإخوانه المعتقلين.. وخشية أن يصبح هذا المعتقل المختار أداة ف يد اليهود آثر العقلاء من الأسري أن لا يكون المختار وحيدا بل جعلوا إلى جانبه لجنة من المعتقلين لكي تكون الأمور بيد مجموعة تمثل المعتقلين حقيقة لا بيد فرد يسهل التغرير به وفي سبيل توحيد التحركات في كامل المعتقل عمل المعتقلون على اختيار واحدا من أعضاء كل لجنة من لجان القطاعات وشكلوا من مجموعهم لجنة أخري عامة تمثل كل المعتقل .

وهكذا كانت الأمور الخاصة بكل قطاع تنظمها لجنة القطاع ( اللجنة الداخلية) منسفة مع المختار الذي ينقل وجهة النظر إلى اليهود لأجل نيل الإذن بها . أما الأمور العامة التي تهم كل المعتقلين في جميع القطاعات فكانت تنقل إلى ( اللجنة الخارجية) التي تذيعها بين كل القطاعات ليكون التحرك بالمطالبة بها تحركا عاما وقد أسهم هذا التنظيم في تحسين وضع المعتقلين فاستحدثت أماكن للصلاة في كل قطاع وتم تحسين الخدمات الصحية إلى غير ذلك ..

وهنا يطرح السؤال أين تراه يكون الشيخ محرم في وسط هذا التنظيم ؟ هل يجعل عضوا في اللجنة الداخلية أم في اللجنة الخارجية ؟ أم يكون معتقلا عادا ليس له أى نشاط أو تمثيل ؟

لقد رأي المعتقلون في الشيخ محرم روحا وعزما يجعلانه أكبر من أن حصر ضمن اللجنة الداخلية أو الخارجية لقد وجدوا فيه شخصا يصلح أن يكون مرجعية للمعتقل بأسره فضج لمعتقل بأسه يطالب أن يسمح للشيخ محرم بالتنقل بيم كل القطاعات ليلتقي بالجميع ويرشد الجميع ويكون – بلا مبالغة – الموجة للمعتقل بأسره .. وتحت ضغط المعتقلين أذن اليهود استثنائيا للشيخ محرم بالتنقل بين جميع القطاعات .

فكان رحمه الله يقوم على التذكير والتوجيه والمواساة دون تمييز بن أحد مهما كان انتماؤه , فقد شعر أن الوحدة في هذا المقام مقدمة على أى شئ آخر لك لا يستغل اليهود اختلاف مشارب المعتقلين وتوجهاتهم فيدقوا إسفين الفرقة والخلاف بينهم ..

نشاطات الشيخ الدعوية في معتقل أنصار

كان لمعتقلون في سجن أنصار من عدة مناطق وبعضهم من أهل السنة والجماعة والبعض الآخر من الشيعة منهم من يعتبر ملتزما من الناحية الدينية فتراه يصلي ويشارك في الأنشطة التعبدية والبعض الآخر لا يلتزم ولا يشارك بشئ من هذا القبيل ..وفي هكذا أجواء متباينة يسهل على اليهود أن يزرعوا بذور الشقاق بين المعتقلين ويشجعوا الفرقة بينهم حتى لا تتحد كلمتهم ويشتد عزمهم ..

وكان الشيخ محرم يعي ذلك تماما لذلك سعي إلى أن يوظف كل خبرته الدعوي والتربوية للتقريب بين المعتقلين وجعلهم كالجسد الواحد ولتحقيق ذلك وزع الشيخ جهوده في اتجاهين :

الاتجاه الأول يطال من هم بعيدون عن أجواء العبادة والالتزام فكان مع هؤلاء يستعمل أسلوبا مميزا في تأليف قلوبهم بغية الظفر بحبهم وثقتهم وبالتالي تعاونهم مع الشباب الملتزم دينيا .ز

أما الاتجاه الثاني , فيطال من هم ملتزمون دينيا لكن الشقاق المذهبي سني , شيعي 9 قد يكون سببا في إيقاعهم في دوامة التناحر والتنازع .. والله تعال يقول :( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) الأنفال : 46)

من هنا انطلق الشيخ محرم وبالغ في حرصه على استيعاب الجميع والتأليف بينهم ليكونوا يدا واحدة ضد السجان الذي يتحين الفرص للإيقاع بينهم فصرت تجد الشيخ محرم يواس المرضي ويسهر بجانبهم ويحمل إخوانه على معاونتهم ولو كانوا من غير الإسلاميين .. وإذا ما تأخر الطبيب عنهم أو منعوا من الحصول على الدواء , وكان الشيخ محرم والذين معه يشعلونها ثورة بهتاف الله أكبر .. الله أكبر .. هذا الهتاف الذي يقض مضاجع الصهاينة فيضطرون لمداوة المرضي اتقاء لثورة المعتقلين .

أما على صعيد الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة فكان الشيخ أحرص الناس على تجاوزه وذلك من باب تخطي الخلاف حرصا على وحدة الأمة وقد نجح الشيخ فعلا في تخطي الحواجز التي كانت أمام مشروعه الدعوي داخل المعتقل وعندها أطلق جهوده التربوية والدعوية بعد أن وضع لها أسسا متينة نعم لقد حول الشيخ معتقل أنصار إلى خلوة للأبطال ومدرسة للصمود ومن ابرز الناشطات الدينية التي أقيمت في المعتقل جلسات قراءة المأثورات بشكل جماعي وبصوت واحد , وجلسات إقراء القرآن وتحفيظه والدروس الشرعية من فقه وعقيدة وتفسر ..

ومن باب طاعة الله تعالي ونكاية بالصهاينة أصحاب مشاريع التفرقة والشرذمة .. كان الشيخ محرم يحث على صلاة الجماعة ويبالغ في ذلك فلا يرضي أن تقام الصلاة إلا بعد أن يتأكد من حضور الجميع .. ثم تقام الصلاة ويشرع الجميع في أدائها فإذا ما كانت صلاة جهرية شنف الشيخ محرم الآذان بتلاوته العطرة ولا مس القلوب بدعائه عند القنوت في الفجر ومن ذاق عرف ..

ويحدثنا الأخ بسام محمود عن احدي الليالي الباردة حيث كان الجو ماطرا والبرد شديدا حتى أن الماء تجمد في الأنابيب .. وحان موعد صلاة الفجر .. لكن دفء الفراش أغري الكثيرين بالتقاعس عن القيام لأداء الصلاة .. انتظر الشيخ محرم بعض الوقت لعل الشباب يغلبون شيطانهم فيهبوا إلى الصلاة مرددين مع المؤذن ( الصلاة خير من النوم ) لكن دفء الفراش كان أشد تأثيرا على كثير من الشباب من نداء المؤذن عندها غضب الشيخ محمر وصاح بالشباب المتقاعس عن الصلاة .

ما هكذا تكون أسود الله .. ما هكذا تكون أسود لله ..وقام وتوضأ وشرع في سنة الفجر فأحس الشباب بالخجل من تكاسلهم وهبوا ليلحقوا بالشيخ المربي لأداء الصلاة جماعة ..وكان الشيخ رحمه الله يشعر بوجوب تحول كل مسلم إلى داعية يدعو إلى الله – بقدر استطاعته – وذلك من باب الاستجابة لحديث رسول الله صلي الله الذي يقول فيه :" بلغوا عني ولو آية " رواه البخاري

لذلك كان الشيخ محرم يحث إخوانه على ضرورة التمرس في مجال الدعوة فيعينهم على تحضير كلمة تلقي عقب صلاة الجماعة وغالبا ما تكون شرحا لحديث أو تذكير بخصلة من خصال الخير .

وهكذا حول الشيخ محرم معتقل أنصار إلى جامع وجامعة جامع أزهرت فيه رياض الذكر ودوحات العبادة وجامعة للتربية والتوجيه تخرج منها الشباب ومعهم من زاد الإيمان والتربية الشئ الكثير .. فرحمك الله يا أبا عاصم يا نعم الداعية والمربي ..

من ذكريات المعتقل

أ‌- عيد بأي حال عدت يا عيد:

كان الشيخ محرم معتادا على قضاء صبيحة كل عيد بين الأهل والمحبين لكن عندما حل عليه هذا العيد وجد نفسه بعيدا عن زوجه , وأمه , وسائر الأهل والأحباب فكتب هذه السطور معبرا عن حزنه فقال : " في صبيحة يوم العيد استيقظ شيخ من نومه كان نحيل الجسم كث اللحية كثير الشيب, متعب البدن , رث الثياب , باكي العين , حزين النفس كسير الفؤاد سلوي قلبه – يعني زوجته – ليست إلى جانبه كعادتها أراد زيارة والدته الحنونة فلم يتمكن .. نهض من فراشه لزيارة الأقرباء فلم يستطع حاول إدخال السرور على قلوب الأطفال فلم يقدر ..

زوجتي الغالية : هل تعرفين من هو هذا الشيخ ؟ إنه زوجك الباكي الحزين الكسير صبيحة يوم العيد .." نعم أنه الحزن – لا اليأس – قد تغلغل في قلب الشيخ الذي يخفق بالحنان والشوق إلى الأهل والأصحاب لكن رغم حزنه لم يشأ الشيخ أن يحرم إخوانه من فرحة العيد فعمل على مفاوضة آمري السجن لفتح العنابر والسماح للمعتقلين باللقاء وتبادل المعايدة , تجاوب السجانون معه ففتحت العنابر وغمرت الفرحة قلوب المعتقلين – دون قلبه – فتصافحوا وتبادلوا التحيات.. وشكروا للشيخ صنيعه ..

ب‌- ذكري المولد الشريف :

نظمت مسيرة كشفية رغم أنف اليهود الذين لم يسمحوا بها أقام المعتقلون بأجسادهم هرما بشريا جعلوا في أعلاه راية التوحيد وزلزلوا المعسكر بالهتاف والتكبير وألقي الشيخ كلمة معبرة مؤثرة .. وختم النشاط بمسرحية من تأليف الشيخ عنوانها " معجزة في الضفة الغربية".

جـ - أمل ورجاء رغم المرض العزلة :

مرض الشيخ مع جماعة من إخوانه المعتقلين فأودعوا لزنازين الإفرادية خشية أن تنتقل عدوي المرض إلى الآخرين . فاجتمع بذلك على الشيخ ألم المرض وألم العزلة في تلك العلب المصنوعة من الإسمنت المسلح التي تضيق على ساكنها حيث يبقي فترة طويلة ولا يجد مكانا لقضاء الحاجة إلا جردلا فارغا عدّ لذلك , وآخر فيه ماء للاستعمال لكن ما كان من الشيخ إلا أن شعر بالسعادة تغمر قلبه , فقد شعر بالسكينة في هذا المكان الهادئ البعيد عن زحمة الأنشطة الدعوية التي أغرفته في الفترة السابقة فعاد للتلاوة والدعاء يشحن نفسه بالإيمان من جديد وهكذا حول المعاناة إلى خلوة ومؤاساة .

د- زيارة زوجة الشيخ لمعتقل أنصار :

بعد فترة طويلة من الاعتقال سمح اليهود لزوجه الشيخ أن تزوره في معتقل أنصار وكانت تلك الزيارة الأولي والأخيرة وكانت الزيارة تتم على الشكل لاتالي :

يوضع المعتقلون الذين حضر أهلهم لزيارتهم في سيارة عسكرية تنقلهم إلى قطاع من قطاعات المعتقل بعيد نسبيا عن مكان وجود المعتقلين الآخرين ثم يحشرون بعد ذلك هذا القطاع المسيج بالأسلاك المعدنية أهلهم خلف الأسلاك ينظرون إليهم ويكلمونهم ف ختام الزيارة التي لا تزيد على ربع الساعة يسمح للمعتقلين بمصافحة الأهل والاقتراب منهم لحظة الوداع وشاهدت الزوجة الصابرة زوجها المجاهد خلف الأسلاك وكتبت لاحقا انطباعها عن هذا المشهد فقالت :

" زوجي الحبيب ....عندما زرتك ورأيتك وراء الأسلاك صدقني كأني رأيت أسدا ... رأيتك أسد في إيمانك وإسلامك وعقيدتك وتصميمك على الجهاد في سبيل الله .. الأسد يخافه الناس لذلك يضعونه خلف الأسلاك وهم يحسبون له ألف حساب " 11/2/1985

هـ- حادثة الهرب :

كان دأب اليهود أن يحصوا عدد المعتقلين يوميا لضمان عدم فقدان أحد أو فراره, وحدث أن قاد الشيخ محرم مظاهرة داخل المعتقل للمطالبة بالإعفاء من إحصاء المعتقلين يومي الجمعة والأحد بحجة أن هذا الإحصاء مع ما يرافقه من إهانة للمعتقلين لا يجدي نفعا بسبب عدم إمكانية الهرب أصلا .

طمس الله على بصيرة اليهود واستجابوا لمطلب الشيخ وإخوانه فانتهز هذه الفرصة اثنان من المعتقلين احدهما من ضيعة العرب كنيته أبو أيمن ؟ وهو راع للغنم يعرف الطرق والممرات بين فجاج جبال تلك المنطقة والآخر هو السيد " يحيي الرواس" من صيدا وعزم الاثنان على الهروب من المعتقل .

مع الساعات الأخيرة من ليل الأحد تحت جنح الظلام وخلف كثافة الضباب قام الاثنان وتحضرا لتنفيذ عملية الهروب من المعتقل . توه " يحي الرواس" إلى الشيخ محرم ودعاه للهروب معه فما كان من الشيخ إلا أن خاطبه بكلمات مزج فيها بين المزاح والجد فقال له : " وعلى من اترك هذا الشعب ؟؟ أخشي إن تركتهم أن يتركوا الصلاة .."

وأبي رحمه الله اللحاق بزوجة وأهله وآثر البقاء للدعوة والتوجيه داخل المعتقل بينما هرب الاثنان .

ولقد يسر الله لهما السبيل فلم يلاحظ اليهود غيابهما بسبب عدم إحصاء المعتقلين يوم الأحد – إلا عند حلول يوم الاثنين حيث كان أوان اللحاق بهما والنيل منهما قد فات لقد نجاهما الله وكتب لهم الحرية .

لكن هروبهم انعكس ويلا على الشيخ وإخوانه حيث صب اليهود جام غضبهم على هذه الثلة التي كانت خلف كل تحركات المعتقلين وثوراتهم .. فأودعوهم الزنازين الانفرادية بهدف التنكيل بهم..

لعل الشيخ محرم شعر عندما تخلف عن الهروب وأبي اللحاق بأهله وزوجه مؤثرا البقاء في المعتقل لأجل خدمة الدعوة أنه قد حرمهم من حضوره بينهم وهم في أحوج الظروف إليه بعد غياب الذي قارب السنة فكتب معتذرا يقول :

"زوجتي السامية : أنا أعلم علم اليقين بأنك بحاجة إلى وأنا في الحقيقة بحاجة إليك أيضا .. ولكن ديننا بحاجة لكلينا .. وفي سبيل ديننا القويم الإسلام العظيم فلنضحي سويا .."

وتفهمت الزوجة الصابرة ما كان من زوجها المجاهد فكتبت إليه قائلة :

" زوجي الحبيب : صدقت إني محتاجة إليك , ولكني عندما أفكر في أنصار أقول إن الشباب هناك أحوج مني إليك ..

أقول لك يا حبيبي إن كانت هذه المتاعب من أجل هذا الدين ومن أجل الحرية والعزة والكرامة فهنيئا لى ولك .. أبا عاصم إبق على الطريق الذي أنت عليه ولا تخش أحدا الله معك .

وفرح الشيخ المجاهد بتفهم زوجته الصابرة فكتب لها قائلا :

الحمد لله الذي لم يخيب فراستي فيك .. لقد سمعت عنك ما يثلج الصدر ويفرح القلب ويجعلني أعتز بك أمام الناس وأفتخر .. فهنيئا لى بك "

في أعقاب عملية الهروب

بعد أن نجحت عملية الهروب تنبه اليهود إلى خطورة الوضع حيث بات المعتقلون منتظمين في إطار متماسك ويعملون من خلاله على التخطيط والتحرك بشكل لم يكن متوقعا لذلك عمل اليهود على إعادة إحكامهم للسيطرة على المعتقل من خلال انتقاء لعناصر الخطيرة وفصلها عن عامة المعتقلين ووضعها في قطاع خاص عرف بمعسكر " البعيوت " أى المشاغبين باللغة العبرية ثم عهدت مهمة السيطرة على هذا المعسكر إلى جنود وضباط من لواء غولاني المعروف بصرامته وشدته مقارنة مع آمري المعتقل السابقين .

صدامات داخل معسكر البعيوت

أحس المعتقلون بعزم آمري السجن الجدد على فرض سيطرتهم وإحكام قبضتهم .. فحاولوا أن يظهروا لهم التماسك والتوحد فضلا عن استعدادهم للمواجهة ولو أدي ذلك إلى قتلهم إذا ما حاول الجنود قمعهم وإذلالهم .

هنا بدأ النزال بن الجنود والمعتقلين فحين أراد اليهود اقتحام معسكر البعيوت بالقوة هب المعتقلون بعزم وتكبيرهم يتردد في فضاء المعتقل فيزلزل أركانه فدب الرعب في قلوب الصهاينة الذين استعانوا بالقنابل الغازية المسيلة للدموع .. لكن الوضع تطور بشكل خطير فاستعان الجنود بأحد أكابر قادتهم .. فما كان منه إلا أن زار المعسكر لضبط الوضع لكن ومن شدة الخوف على نفسه أمر جميع من في المعسكر بالجلوس أرضا ووضع الأيدي على الرأس .. في ذلك الوقت كان الشيخ محرم قد توافق مع إخوانه على المواجهة والالتحام مع اليهود إذا استدعي الأمر وظهرت نية اليهود بإهانة وإذلال المعتقلين أو إيذاءهم ... وكان الإشعار ببداية المواجهة هو التكبير بصوت عال من قبل الشيخ محرم .. وتهيأ الشباب لإشارة شيخهم .

دخل الجنود إلى المعسكر من دون أى عنف يذكر ونادوا على الشيخ محرم عارفي واثنين من إخوانه فقام الثلاثة فما كان من اليهود إلا أن ألقوا بالشيخ وإخوانه أرضا وكبلوهم بطريقة مهينة وساقوهم إلى الزنازين الانفرادية حيث قضوا ما يزيد على الخمسة عشر يوما ..

بعد انقضاء هذه المدة وتحت إلحاح شديد من المعتقلين أفرج عنهم وعادوا إلى جوار إخوانهم هنا سأل الجميع الشيح محرم : " لماذا لم تكبر لنبدأ المواجهة ؟" فقال الشيخ :

" لو أني كبرت عندما طلبني اليهود وكبلوني ... لكانت تكبيراتي من أجل حملكم على الثورة في وجههم لتخليص نفس .. وليس من أجل حقكم بالكرامة وعدم التعرض للإهانات من قبلهم .. أما وقد قضي الأمر بسجننا نحن الثلاثة فلم يكن هناك ما يدعو لأورط الجميع بمواجهة لا نعرف عاقبتها .."

وحفظ الجميع للشيخ المجاهد هذا الموقف الذي آثر فيه أن يعرض نفسه للأذي فداء لإخوانه .

إلى معسكر في فلسطين المحتلة

قضي الشيخ محرم وإخوانه في معسكر البعيوت – داخل معتقل أنصار – عددا من الشهور ثم بدا لليهود أن يشرعوا على تفكيك المعتقل والانتقال إلى معتقل عتليت داخل فلسطين .

كان تعداد المعتقلين يزيد على الألفي معتقل فتم إطلاق عدد منهم يقارب 800 معتقل وسبق الباقون – وكان عددهم 1167 أسيرا إلى معتقل عتليت .

أحداث داخل معتقل عتليت

نقل الشيخ محرم مع إخوانه إلي داخل فلسطين حيث يقع سجن عتليت ومع الدخول إلى المعتقل الجديد بدأ فصل جديد من مسلسل الظلم والاضطهاد فقد جرد الجميع من ألبستهم بالكامل تحت تهديد السلاح وجعلوا يدخلون المعتقل الجديد الواحد تلو الآخر وهم عراة حاول الجمع الاحتجاج لكن غلظة اليهود وشدتهم كانت بالمرصاد فانصاعوا مكرهين .

بعد ذلك دخلوا إلى غرفة من الغرف حيث استلموا ثياب السجن بعد ستر عوراتهم ووضع ثيابهم على الأجساد المنهكة الحاوية بين جنباتها نفوسا تشعر بمرارة الظلم اليهود الحقود جعلوا على أقسام وزعت بين قطاعات المعتقل هناك فرز لشيخ محرم مع ثلة إخوانه إلى احدي القطاعات وفي سبيل لجم أى تحرك وقمع أى نشاط قد يعزم المعتقلون على تنظيمه بادر آمرو السجن إلى أعلام الجميع بأن معتقل عتليت ليس كأنصار .. ثم وجهوا وعيدا خاص للشيخ محرم ولثلة المشاغبين الذين كانا خلف كل نشاط وتحرك ..

هنا وجد الشيخ محرم أنه من الخير اللجوء إلى التريث والتهدئة ريثما يتأقلم الجميع مع ظروف السجن المتسجدة ويعرفوا مدي إمكانية التحرك داخل المعتقل دون التورط في أمور لا طاقة للمعتقلين بها وبالفعل مرت فترة الاعتقال الأولي والجميع ملتزم بضبط النفس ..

كان من غرائب السجن الجديد أن التجمع ممنوع حتى ولو كان في أبسط صوره كأن يتحلق الشباب حول الشيخ للاستماع إلى دروسه لكن كما يقولون الحاجة أم الاختراع فكان الشيخ يلزم فراشه وكذلك يجلس المستمعون لدرسه كل على فراشه ويشرع الشيخ بالتكلم والجميع يسم .

مرت الأيام في سجن عتليت سراعا وعلق في ذاكرة الشيخ محرم قصة دأب على ذكرها وحدت بها مرارا قال :

" جعل معي في المعتقل شاب مجاهد نالت شظايا أسلحة العدو من رجليه فبات عاجزا عن المشئ بسبب إصابته كنت أعينه على حوائجه رافة به وتبركا بالقيام على خدمة أخ مجاهد ... وفي يوم طلب مني أن أدعو له .. فوجدته أفضل عند الله من وظننت أنه أجدر بأن يدعو لنفسه من أن أدعو له فرحت أعلمه بعض الأذكار وأملي عليه صيغة الدعاء قلت له :

قل لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .

رب اغفر لى وتب على إنك أنت التواب الرحيم

اللهم اكفينهم بما شئت

اللهم إن أسالك أن تفرج عني وعن الشيخ .

ويعلق الشيخ ضاحكا فيقول :

" لقد اغتنمت فرصة دعائه وجعلت لنفسي حظا من دعائه .. وشاء الله أن يتقبل ذكر الشاب ومناجاته ودعاءه فلم تمض فترة يومين حتى أفرج عنه لكني بقيت في الأسر ونفس تتشوق للحرية التي نالها الأخ ببركة دعائه .

وبالفعل فإن الله تعالي أكرم من أن يرد دعوة عبد صابر صادق فلم تمر فترة أسبوعين حتى نالتني رحمة الله وأفرج عني كذلك .."

الشيخ محرم عارفي الداعية المجاهد الانطلاقة الجديدة 1985 -1999

العودة إلى الحرية

رفرفت في أجواء العام 1985 بشري تحرير المعتقلين الأبطال فقد تم التفاوض بين اليهود والمناضلين الفلسطينيين الذين كان في حوزتهم بضعة جثث لجنود صهاينة وتم التوافق على أن يفرج عن هذه الجثث وتسلم للصهاينة مقابل عدة أمور أبرزها إطلاق المعتقلين في سجون الاحتلال وبالفعل تم ذلك بعد سلسلة مفاوضات تمت عبر عدة قنوات تواصل محلية ودولية وأقبل شهر رمضان المبارك وأقبلت معه قافلة المعتقلين لتي كانت تشق طريقها نحو الحرية من جديد والناس اجتاح أفئدتهم الفرح لعودة الأحباب .

صيدا ترحب بابنها الشيخ المجاهد

كان يوم الخميس في 30 / 5/1985 يوما مميزا في مدينة صيدا فقد كانت المدينة الصامدة على موعد مع دفعه جديدة من أبنائها المحررين من سجون العدو الإسرائيلي.

كان المشهد مهيبا فالمسلحون على جنبات الطريق بكامل عتادهم الحربي ورايات " لا إله إلا الله محمد رسول الله " خفاقة فوق رؤوس المحتشدين الذين بلغ تعدادهم الآلاف وعلى رأس الجمع سماحة مفتي صيدا والجنوب والسادة العلماء من حوله .

أطلت حافلة المعتقلين وقد تقدمتها سيارة صغيرة أطل من فتحة سقفها رجل نحيل الجسد كث اللحية يرتدي ثوبا رياضا ويحمل بيده السلاح ويلوح بالأخرى للمحتشدين .

من هذا يا تري ؟؟

إنه الشيخ محرم لقد عاد إلى المدينة الصامدة بعد أن غاب عنها مدة سنة ونصف قضاها في رحلة صمود فريدة تجمهر الناس عند ساحة الشهداء هناك رفعت لافتة كتب عليها بالخط العريض:

" صيدا المجاهدة ترحب بأبطال المقاومة الإسلامية الأحرار "

هناك تكلم فضيلة لشيخ غازي حنينة بكلمة ترحيبية موجزة قدم في ختامها الشيخ محرم الذي اشتقت الجموع لسماع كلماته الصادقة .

وتكلم الشيخ محرم فحمد الله واثني عليه ثم تحدث عن وجوب الإيمان بالله لننال النصر والعزة .. ووجوب العيش مع الناس والانغماس في صلب واقعهم ومعاونتهم على مشاكلهم لننال حبهم ومؤازراتهم .. ثم أعلن الشيخ أن المعركة مع اليهود لن تنتهي بخروجهم من لبنان بل ستبقي مستمرة إلى أن يتم تحرير الأقصى على أيدينا أو أيدي أبنائنا وأحفادنا .. وبين الشيخ للجموع أن قضية فلسطين ليست حكرا على الفلسطينيين بل هي قضية الأمة الإسلامية بأسرها ثم توجه الشيخ إلى الجمع بالشكر الجزيل على حفاوتهم وأعلن أمامهم أن هناك من هو أحق بالتكريم منه إنهم العلماء لمجاهدون والشهداء المضحون أمثال جمال حبال هؤلاء أحق الناس بالتكريم لما بذلوه من تضحيات .. وختم الشيخ بقوله :

" إني أجدد العهد بمتابعة المسيرة الجهادية وكما قال سيد قطب رحمه الله سأثأر لكن لرب ودين وأمضي على سنتي في يقين فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين "

وهكذا عاد الشيخ محرم إلى عرينه في صيدا الصامدة ليتابع المسيرة مع أهلها المجاهدين .

الشيخ محرم أمينا عاما للجبهة الإسلامية

يعود تاريخ تأسيس الجماعة الإسلامية في لبنان إلى الستينات غير أن نشاطها في مدينة صيدا بدأ بالتنامي مع مطلع السبعينات سرعان ما تسارع نموها مع النصف الثاني من السبعينات لكن الإطار الحزبي للجماعة ضمن تعاون الذين هم من الملتزمين معها تنظيميا فضلا عن بعض المقربين منها لكن الأمل كان أكبر من ذلك فقد أملت الجماعة أن تكون كل القوة والوجوه العاملة للإسلام متحدة متعاونة مع بعضها البعض الجسد الواحد .. ولتحقيق ذلك احتاج الأم إلى إطار أوسع من إطار تنظم الجماعة الإسلامية .. من هنا نشأت فكرة إنشاء إطار أوسع عرف باسم ( الجبهة الإسلامية ) وكانت الغاية أن شمل هذا الإطار المستحدث كل الناشطين الإسلاميين بمعزل عن انتمائهم التنظيمي إلى الجماعة أو عدمه . وقد بدأت هذه الفكرة بالتبلور مع تضافر جهود عدد من الوجوه الإسلامية الصيداوية الذين وحدت المعانات من الاحتلال رؤيتهم فترة وجودهم في العاصمة بيروت .

كان من المقرر أن يعلن عن قيام الجبهة الإسلامية يوم الأربعاء في 29 / 5/1985 لكن ذلك تزامن مع بشائر الإفراج عن الشيخ محرم عارفي فتوافق الجميع على تأخير إعلانها إلى حين خروجه الشيخ الذي بات وشكا سيما وأن لحضور الشيخ وصدي صيته دورا أساسيا في تفعيل ناشط هذه الجبهة وبالفعل تم تأخير الإعلان بتفاصيل وبعد وصول الشيخ محرم إلى صيدا ونله قسطا من الراحة تم إعلامه بتفاصيل إنشاء هذه الجبهة وأعلن الساعون لإنشائها عن رغبتهم في جعل الشيخ محرم على رأسها ليكن أمينا عاما للجبهة الإسلامية ولم يجد الشيخ محرم - الذي نذر نفسه للعمل الإسلامي – حرجا في قبول ذلك وهكذا تم اختياره أمينا وجعل إلى جانبه الشيخ ماهر حمود ليكون الناطق الرسمي باسم الجبهة .

حل يوم الجمعة في 31 / 6 / 1985 ودعي الناس لأداء الصلاة في مسجد الزعتري حيث سيخطب الشيخ محرم خطبته الأولي بعد التحرر من الاعتقال ويعلن عن للملأ عن قيام الجبهة الإسلامية وتنصيبه أمينا عاما لها .

احتشدت الجموع في ذلك اليوم وبلغ تعداد الحاضرين الآلاف وخطب الشيخ خطبة نارية أعلن في ختامها عن إنشاء الجبهة وتعهد بالعمل من خلالها على المضي في سبيل الدعوة والجهاد من وقتها عرف الشيخ محرم على صعيد الساحة الإسلامية بأمين عام الجبهة الإسلامية .

المناطق اللبنانية تستقبل الشيخ محرم عارفي

تلقي الأمين العام للجبهة الإسلامية الشيخ محرم عارفي دعوات كثيرة من عدة مناطق لبنانية كان الدعوات يرجون منه التفضل بالزيارة والمشاركة في المهرجانات الإسلامية التي تقام في المناطق ولبي الشيخ الدعوات فزار العاصمة بيروت وكذلك مناطق الإقليم والبقاع وهناك أقيم له في بعلبك احتفال مهيب احتشدت فيه الجماهير , وخرج البعض بأزيائهم التقليدية وهم يعتلون صهوات الخيل تكريما للشيخ المجاهد..

حادثة طريفة :

كان الشيخ خليل الصيفي من أبناء البقاع لكن السفر للدراسة في المدينة المنورة ومن ثم الإقامة لفترة طويلة في صيدا وقد دامت عشر سنوات جعلاه قليل الشهرة في الساحة البقاعية لطول فترات غيابه أمام الشيخ محرم عارفي الذي ذاع صيته في جميع المناطق فقد كان معروفا بشكل كبير في الأوساط البقاعية وحدث أن وجه أهل البقاع دعوة وانضم للشيخ محرم ليشهد معهم احدي المناسبات العامة ولبي الشيخ تلك الدعوة وانضم إلى الحضور الذين كانوا من أهل السياسة والوجاهة ومن محاسن القدر أن الشيخ خليل الصيفي كان مدعوا أيضا وكان أن التقي بالشيخ محرم فما كان من الشيخ – وهو الأسطورة في عيون الناس – إلا أن اقترب من أستاذه الشيخ خليل الصيفي وقبل يده على الملأ بتواضع واحترام ..

طرابلس الفيحاء ترحب بالشيخ محرم

بعد بيروت والبقاع وغيرهما من المناطق اللبنانية ناشد أهل الشمال الشيخ محرم لزيارة مناطقهم وعندما لب لدعوة إذا به يجد من الحفاوة مالا يكاد يوصف أمض الشيخ عشرة أيام وسط الحفاوة والإكرام البالغين وغطت الصحافة اللبنانية هذا الحدث الضخم فسطرت المقالات وبينت من خلال الصور كيف احتشدت الجموع الغفيرة أحاطت بالشيخ المجاهد لقد استنفر الشباب المسلم بكامل سلاحهم لمواكبته أينما ذهب .. وقد حدثتني زوج الشيخ أنه حين انطلق موكبه من طرابلس إلى الضنية كانت الطريق بطولها تشهد اجتماع الناس بينما الشباب المسلح مصطف على جانبي الطريق من بدايتها إلى نهايتها .. لن كل ذلك كان أعجز من أن يفسد تواضع الشيخ محرم عارفي الذي نشأ بين الناس وعاش بينهم حتى وفاته ولم تبعده عنه الزعامة أو الشهرة وما خروج الآلاف لتشيعه إلا شهادة حق على ذلك .

حرب المخيمات وأيام الحصار 1987

لعل نشاط الشيخ محرم في الفترة التي سبقت الاعتقال كان منحصرا في مدينة صيدا ومساجدها نعم لقد شهدت بعض القرى الجنوبية كبلدة البرغلية أو ضيعة العرب وغيرها حضورا للشيخ محرم لكن هذه الأنشطة العابرة وغير المركزة جعلت من مدينة صيدا المسرح الفعلي الأوحد لأنشطة الشيخ الدعوية .

أما حادثة الاعتقال فقد يسرت للشيخ التعرف على العديد من الأشخاص من عدة مناطق لبنانية كما أن الصحافة اللبنانية التي فعلت نبأ الاعتقال , وبعد حين فعلت من جديد نبأ الإفراج عن الشيخ ساهمت في ذيوع صيت الشيخ محرم على صعيد الساحة اللبنانية عامة .

أضف إلى ذلك الزعامة التي سبقت إليه من خلال إعلانه أمينا عاما للجبهة الإسلامية فضلا عن نشاطه الحزبي مع الجماعة الإسلامية التي باتت في ذلك الوقت إحدى القوي الأساسية على الساحة اللبنانية .. هذه الأمور مجتمعة جعلت الشيخ ينطلق من قلب عاصمة الجنوب ليجوب المناطق اللبنانية داعيا موجها , معلما ومحرضا على الظلم والطغيان .

كما وتشهد أواسط الثمانينات للشيخ محرم بمواقف ضجت بها الساحة اللبنانية ولا تزال تذكر حتى أيامنا هذه أعني الدور الذي لعبه أثناء حصار المخيمات عام 1987.

الخلفية السياسية لحرب المخيمات

دخلت فائل الثورة الفلسطينية إلى لبنان منذ مطلع السبعينات وعندها صار الوجود الفلسطينيين في لبنان متجسدا في الأعداد الغفيرة من اللاجئين الذين نزحوا بعد نكبة فلسطين وفي القيادة الساسة المسلحة والمنظمة التي دخلت لبنان بعد الصدام مع النظام الأردني مطلع السبعينات . منذ ذلك الحين والوجود الفلسطينيين في نظر البعض – خطر على التوازن السياسي في الساحة اللبنانية لما له من قوة وتأثير مستمد من القعدة الشعبية الفلسطينية ومن يتعاطف معها من اللبنانين ومن القيادة المسلحة ذات القوة التي لا يستهان بها .

وبعد أحداث كثيرة ومخاض أليم طال الشعب الفلسطيني على مدي عدة أعوام طويلة منذ أن دمرت قوته العسكرية وقلص نفوذه السياسي والأمني جراء الاجتياح الإسرائيلي أراد البعض أن يجهز على ما بقي من نفوذ للقوي الفلسطينية.. ووسط تعقيدات سياسية تورط فيها العديد من الأطراف وقع ما يسمي بحرب المخيمات .

كانت الجولة الأولي من هذه الحرب عام 1985 وكان مسرح الأحداث بشكل أساسي منطقة بيروت وتحديدا صبرا وشاتيلا .. وانتهت هذه الجولة مخلفة دمارا وويلات يندي لها الجبين ..

لكن الفتنة عادت لتتفجر من جديد عام 1986 حيث وقعت الجولة الثانية من حرب المخيمات كانت الصورة ملتبسة جدا فهي حرب لبنانية فلسطينية من جهة وسنية شيعية من جهة أخري على اعتبار أن الطابع العام للفلسطينيين هو الطابع السني وبالمقابل فإن طابع حركة أمل هو طابع شيعي . ذلك فضلا عن تعداد الأهداف والمنطلقات السياسية المعلنة وغير المعلنة التي كانت تدير رحي الحرب من خلف الكواليس كل ذلك جعل الشعب الفلسطيني العربي المسلم يقع في دوامة الدماء والدمار من جديد .

دور للإسلاميين في حرب المخيمات

بعيدا عن الخلفيات الساسة لحرب المخيمات وانطلاقا من الواجب الشرعي والإنساني اللذين يحتمان على المرء المسارعة لنصة الضعيف انبري الإسلاميون في لبنان – سنة وشيعة – للعمل على إيقاف هذه الدوامة التي ظهرت آثار ويلاتها بشكل بشع جدا لا يقره شرع ولا دين نظرا لتلك الجرائم الفظيعة التي ارتكبت بحق هذا الشعب . نعم لقد كان منطلق أمراء تلك الحرب سياسيا لكن منطلق الإسلاميين وتدخلهم لإيقافها كان على أساس إنساني قبل كل شئ ..

تركزت الجهود على الفصل بين الشعارات والدوافع السياسية التي يرفعها المتقاتلون وبين الواعق المأساوي الفظيع الذي آل إليه حال أهل المخيمات ونظرا لتورط قوي ذات حجم كبير وذات علاقات دولية في هذه الحرب احتاج الإسلاميون إلى تدخل دول يغطي تحركهم ودعمه لجعله يوازي حجم القوي المحاربة ..

فكانت إيران تلك الدولة لماذا إيران ؟؟ لأن الحرب وسمت بشكل أو بآخر بالطابع المذهبي – سني شيعي- وبتدخل إيران وهي دولة ذات طابع الشيعي سيخرج كل مقاتل شيعي شارك في القتال. غذ كيف يكون مسعر الحرب شيعيا وفي الوقت ذاته الساعي لإيقافها شيعيا أيضا ..

أضف إلى ذلك حجم الدولة الإيرانية وتأثيرها على الساحة اللبنانية من خلال عدة قنوات سياسية وغير سياسية .

تم التوافق على أن تنصب الجهود لوقف الحرب وفك الحصار وتأمين المساعدات الإنسانية لأهلنا سكان المخيمات... ومن أبرز الوجوه الإسلامية التي نشطت في تلك الفترة لأجل تحقيق الآمال المنشودة السادة أصحاب الفضيلة " سعيد شعبان ,محمد حسين فضل الله , ماهر حمود , عباس الموسوي " حيث شاركوا في اجتماعات كانت دمشق مسرحا لها جمعت بينهم وبين مسئولين إيرانيين .

وبعد توضيح الرؤية والتوافق على ألأهداف بدأ التحرك الميدان فحول منزل الشيخ ماهر حمود إلى غرفة عمليات لمتابعة الإجراءات الميدانية وكان أبرز الناشطين الميدانيين وقتها من العلماء السادة أصحاب الفضيلة ( ماهر حمود , محرم عارفي , غازي حنينة , عباس الموسوي , وغيرهم ..)

دور بارز للشيخ محرم عارفي

كانت المخيمات عموما تعاني من أوضاع مزرية وتضافرت آثار القصف والحصار على جعل حياة أهل المخيمات أشبه بالجحيم .. لكن الوضع الأسوأ كان في مخيم الرشيدية في منطقة صور .. فقد بدأ التضييق على المخيم من خلال حصار اقتصادي عمل المحاصرون من خلاله على منع دخول الكميات اللازمة من المواد الغذائية التي تحتاج أهل المخيم فقلت كميات الطحين فضلا عن غيرها من المواد الأولية التي لا غني عنها.

وبدأ القصف المدفعي يطال المخيم بقذائف الهاون من عيار 72,5 ملم إلى القذائف المباشرة من 1,6 ملم فضلا عن طلقات القناصة التي كانت تتصيد العزل الغافلين كما غيرهم لتوقعهم بين قتيل وجريح ..

محاولات الإسلاميين لفك الاشتباك

في ظل هذه التطورات الخطيرة عزم السادة العلماء على المضي نحو المخيم بأنفسهم للعمل على نزع فتيل تلك الفتنة حقنا لدماء وصونا للأعراض ومضت كوكبة من العلماء في وفد ضم كل من الشيخ محرم عارفي والشيخ عباس الموسوي الشيخ غازي حنينة السيد عيسي الطبطبائي وموفد السفارة الإيرانية " ستار " وغيرهم .. أمام هذا الحضور العلائي وتحت هذا الضغط توقف التهجير لكن القصف والحصار بقيا على الوتيرة ذاتها لذلك عمد الأهالي إلى تحصين المخيم بالسواتر من ألواح معدنية هزيلة علها تحجب الرؤية عن القناصة ..

أربعون يوما تحت الحصار

كان الدخول إلى مخيم الرشيدية في 10/ 12 / 1986 وقد أحضر العلماء معهم قافلة من المواد الغذائية علها – على قلتها – تسد رمق الجياع , وبعد تسليم الأغذاية قضي الوفد يومين في المخيم حيث عاين الأوضاع عن قرب ثم قرر الوفد في تاريخ 13 / 12 / 1986 أن ينسحب ويعود أدراجه ليتابع القضية مع الجهات المعنية ..

ولكن كان للبعض وجهة نظر استحقت التجاوب معها والأخذ بها لقد وجدوا أنه من الخير أن يبقي بعض العلماء داخل المخيم ويعيشوا بين أهله لسببين :

الأول : طمأنة الناس وتهدئة النفوس من خلال مواساتهم وبلسمة جراحهم .

الثاني : إحراج المعتدين لأن قصفهم جميع القوي والفعاليات التي تدخلت لنزع فتيل هذا التقاتل .

سارع الشيخ محرم وتطوع ليكون أحد الذين سيبقون داخل المخيم وعمل الوفد على إقناع السيد عيسي الطبطبائي ليكون إلى جانبه نظرا لموقعه وما يمثل مما يعطي لوجودهما معا طابعا وحدويا في مواجهة المعتدي فوافق السيد عيسي على ذلك وهكذا بات الاثنان تحت الحصار يعايشون معانات الناس ومآسيهم ..من أحداث أيام الحصار 13 / 12 / 1986 – 20/1/1987:

الطفل الشهيد

كان صغيرا وبراءة الأطفال بادية من عينيه . لكن القصف الأعمى أراد أن يفتك حتى ببراءة الأطفال فإذا بقذيفة تصيب الطفل سمير قدورة بتاريخ 9/1/1987 فتحيل جسده الطري أشلاء ممزقة .. يسارع الناس لجمع الأشلاء ودفنها ولكن بسبب هول الموقف وشدة القصف خلفوا وراءهم – عن غير قصد – بعضا من أشلائه وبقدر من الله يمر الدكتور أحمد أبو الشباب من تلك الطريق فيري قطة غليها الجوع فراحت تنهش بعضا من أشلاء الطفل الشهيد . يتقدم منها وينتزع الذراع المضرجة بالدماء من بين أسنانها ليحملها إلى الشيخ محرم ليري بأم عينيه فظاعة هذه الحرب ووحشيتها التي طالت حتى الأطفال الذين لا ذنب لهم.

يتألم الشيخ محرم أشد التألم لهذا المنظر وينصح الدكتور " أبو الشباب " أن يسارع الدفن بقية الأشلاء دون أن يريها للسيد عيسي الطبطيائي خشية أن تسوء حالته النفسية بعد أن ساءت حالته الصحية كثيرا فيصاب بما لا تحمد عقباه .

لكن الله سلم : كان دأب الشيخ أن يبث العبر والعظات في قلوب الناس لذلك كان يحملهم من حين إلى حين على زيارة قبور الشهداء فيقول لمن حوله : هلموا نزور الأحياء – يقصد الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون .

وهناك أما القبور لتي حوت أجساد الذين سقطوا ظلما وعدوانا كان الشيخ يقف والناس من حوله فيدعو ويقرأ ما تيسر من أى القرآن ويعتبر ويعظ الناس .

وفي إحدي المرات وقف الشيخ هذا الموقف المعتاد وكان الناس حولاه .. وما أن انتهي من دعائه وتلاوته ومضي في حال سبيله وانفض الناس .. فإذا بقذيفة من عيار 130 ملم تسقط في المكان عينه .. نعم لقد كان بينه وبين القتل لحظات لكن الله سلم ..

ولا تنازعوا فتفشلوا :

إلى جانب اجتهاد الشيخ محرم في مجال مواساة الناس والتخفيف عنهم حاول رحمه الله أن يجنبهم وبال الفتنة الداخلية وقد وفقه الله لنزع فتيل الأكثر من فتنة داخلة نذكر منها :

أ‌- حصل صدام بين شابين أحدهما من فتح والآخر من الحركة الإسلامية إذ قام الأول بالاعتداء والتمادي ,وأوشك الإشكال أن يولد معركة بين الطرفين لكن الشيخ محرم سارع إلى التهدئة وخطب بالناس خطبة فسر خلالها قوله تعالي :( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ..) الأنفال : 25)

وأعلن أن أى حرب داخلية سيكون الشعب بأسره معرضا لخطرها بينما تقر عين العدو بتناحرهم فما بينهم .. فتجاوب الناس وانفض الاشتباك .

ب‌- وقعت حادثة قتل بالخطأ داخل المخيم .. فهب أولياء المقتول يريدون الثأر لقتيلهم فما كان من الشيخ إلا أن سارع إلى تهدئة النفوس وخطب في الجمع خطبة أعلن فيها أنه لا قصاص في الخطأ .. وبين أن لا مجال للقصاص لكون الحادث وقع خطأ , وأن التسامح هو الأول في هذا الظرف خشية أن يتحول الأمر إلى فتنة تحرق نيرانها ما تبقي من صمود أهلنا .. وقدر الله أن تهدأ النفوس ببركة وعظ الشيخ وتوجيهه ..

أعطوا اللبن للأطفال :

خلال فترة الإقامة داخل المخيم أراد كل من الشيخ محرم والسيد عيسي أن يعيشا عيشة الناس دون ترفع أو الفيل لذلك ارتضيا السكن في مسكن عادي غير محصن ولا مدعم – مع العلم أن القصف كان شديدا

وفي الوقت الذي نال الجوع من الجميع ارتضيا أن يجوعا من الناس فأكلا معا من نبات الأرض وكان قوت يوم أحدهم لا يتعدي الوجبة الواحدة .. لكن كرم أهل المخيم دفعهم إلى عرض اللبن ( الحليب ) على الشيخين ليسدا به رمقهما ويقيما صلبهما .. لكن جواب الفاضلين كان : أعطوا اللبن للأطفال ..آثر الشيخ محرم الجوع على الشبع فأثر الجوع فيه كثيرا فضعف جسده كثيرا واجتمع عليه الجوع والمرض والتعب فبات الشيخ صاحب الجسد النحيل أكثر نحالة ..

وتحكي لنا زوجة الكريمة أنه أصيب بالحمي وبقي يعاني من آثارها لفترة طويلة ..أما السيد عيسي فقد شوهد عند خروجه من المخيم وهو عاجز عن الوقوف لشدة ما اعتراه من ضعف وإرهاق .

الخروج من المخيم

أربعون يوما قضاها الشيخ محرم تحت الحصار بذل خلالها كل وسعه ليدعم صمود الناس وفي الوقت الذي كانت زوجه تحادثه عبر جهاز اللاسلكي وتسأله عن موعد عودته كان يجيبها في كل مرة قائلا : بها اليومين . لكن الأيام طالت والشيخ لم يعد .. أنه لم يشأ لنفسه أن يعود إلى بيته ليعيش مرتاحا وسط أهله في الوقت الذي كان أهل مخيم الرشيدية يعيشون تحت خطر الموت والجوع والقهر يتربصان بهم ..

أمر واحد جعل الشيخ يضطر للخروج لقد حمل إليه نبا اشتداد المرض على والدته ,أنها باتت بين الحياة والموت... تردد الشيخ في الخروج .. لكنه أخيرا قرر العودة إلى صيدا ليس فرارا من الحصار .. بل لينال بركة رضي الأم التي أحبها على الدوام فخرج من المخيم في 20/ 1/ 1987 لكن قلبه كان معلقا بأطفال المخيم وبالمرضي والمساكين ..خرج وهو يسأل الله تعالي أن يخفف عنهم ويخشي أن يكون خروجه سببا لتفاقم مأساتهم.. وخلف فضيلة الشيخ غازي حنينة حفظه الله الشيح محرم إذ دخل إلى المخيم ليقض ثلاثين يوما أخري من أيام الحصار إلى جانب السيد عيسي الطبطبائي وشاء الله أن يسبغ على الناس فيضا من رحمته إذ سرعان ما انتهت الأزمة وتم فك الحصار في 14 / 2 /1987 بعد أن سجل صبر الشعب وصموده الذي استلهموه من تعاليم الشيخ المجاهد – صفحات وضاءة من تاريخنا المعاصر .

وهنا يحق لنا أن نسأل هذا السؤال خلال وجود الشيخ محرم داخل المخيم هل تاره ساهم في تغيير مجري الأحداث ؟؟

توجهت بسؤالي هذا إلى الدكتور أحمد أبو الشباب فأجابني قائلا هذا ما لا يستطيع أن ينكره أى عاقل تابع أحداث تلك الفترة عن كثب .. ووثق الدكتور إجابته من خلال حادثة وقعت في تلك الفترة إذ دب الإحباط في عزائم الناس وحرضهم بعض ضعاف النفوس على الاستسلام وبالفعل خرج الناس باتجاه مدخل المخيم يريدون الاستسلام لكن الشيخ محرم اعترض طريقهم يومها وخطب فيهم يحثهم على الثبات والصمود ويقول ك ذهب الكثير ولم يبق إلا القليل .. فاستجاب الناس لدعوة الشيخ المجاهد الذي أثرت كلماته النابعة من قلب رجل ذاق طعم الجهاد وجرب الثبات في وجه الشدائد في نفوس الجموع , فعادوا أدراجهم , وتابعوا الصمود حتى النهاية ... نعم يومها ساهم الشيخ في تغيير مجري الأحداث , فلولا كلماته لما انتهت الأزمة بالشكل المناسب الذي تم .. فرحمه الله تعالي ..

أحداث ومواقف

الشيخ محرم والوحدة الإسلامية

لعل تعاون الشيخ محرم مع جهات شيعية من الأمور التي أثارت وتثر الجدل حول شخصه الكريم رحمه الله تعالي . ولابد من تناول الحديث في هذا الجانب حتى تتضح الصورة .

لقد ظهر تعاون الشيخ محرم مع كوادر ووجوه شيعية بعد خروجه من أنصار وتبلور هذا التعاون في نشاط مشترك ومكثف أثناء حرب المخيمات ومن بعدها استمر هذا الناشط – وإن خفت وتيرته – من خلال المشاركة في تجمع العلماء المسلمين .

لكن هذا التواصل وإن ظهر بعد الهروج من المعتقل فإن جذوره ترجع إلى زمن الاعتقال حيث كان سجن أنصار يضج بالحضور الإسلامي السني من جهة والحضور الشيعي من جهة أخري وكانت ما سعي اليهود وجهودهم منصبة على بث الشقاق بين الفريقين من باب فرق تسد بالمقابل كان جهد العقلاء منصبا على فكرة الوحدة في سبيل إفشال مساعي اليهود , من هنا كان منطلق الشيخ محرم في التعاون مع الشيعة ضمن شعار الوحدة الإسلامية والتكاتف لتحقيق مصالح المسلمين .

ثم تطور معالم هذه الوحدة التي كان الشيخ يؤمن بها ؟"

الإجابة على هذا السؤال دأب الشيخ على إعلانها من حين إلى حين في كثير من المناسبات واللقاءات ... إنها وحدة بمعني التعاون على الخير وحدة بمعني التكاتف لتحصين الصف من الانشقاق الذي سيؤدي إلى حرب مذهبية تضعف كلا الطرفين ولا تخدم إلا العدو إنها وحدة في وجه التحديات المشتركة والعدو المشترك . هذا ما كان يؤمن به الشيخ محرم , وبذلك يشهد كل من عرف الشيخ وحاوره في هذا الموضوع وقد تجلت معالم مشروع الوحدة هذا أثناء الاعتقال في أنصار حيث فوت المعتقلون على يهود فرصة زرع الشقاق المذهبي بين السنة والشيعة وكذلك تجلي نجاح المشروع أثناء التعاون على إيقاف حرب المخيمات ببركة تضافر جهود علماء السنة والشيعة على السواء ..

موقف الشيخ من حرب الخليج الأولي

بناء على ما تقدم فقد كان الشيخ محرم ينظر بعين الأسي والحزن إلى تلك الحرب الضروس التي وقعت بين العراق وإيران على مدي أعوام طويلة هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس وطالت ويلاتها البشر والحجر والشجر مستنزفة طاقات جبارة ومهلكة لنفوس كثيرة .. لقد أرجعت هذه الحرب اللعينة عجلة المدنية والتقدم أعواما إلى الوراء في وقت كانت الأمة في أمس الحاجة لرص الصف وتسخير هذه القدرات في مواجهة العدو الصهيوني والجدير بالذكر أن الشيخ محرم وغيره من العقلاء من أبناء المذهبين السني والشيعي كانوا جميعا في لبنان في تلك الفترة يعملون جاهدين على نزع فتيل الفتن التي تفضي إلى أى شكل من أشكال النزاع ويجاهدون لرص الصفوف في مواجهة العدو فكانت جهودهم استنكار عمليا لتقاتل أبناء الأمة الواحدة هذا التقاتل الذي كانت أمتنا هي الخاسر الأكبر في خضمه بينما قرت عيون الصهاينة بمشاهد الدمار التي اجتاحت كلا القطرين .

الموقف من انتفاضة 8 / 12 / 1987

تزامن إدبار العام 87 مع تصاعد وتيرة الأحداث في داخل فلسطين الحبيبة إذ تفجر الإيمان الصادق المتجذر في قلوب أهلنا الصامدين انتفاضة عارمة سجلت في صفحات البطولة والعزة أن المسلم المجاهد قادر بحجر بحجم قبضة اليد أن يزلزل الكيان المغتصب مهما عظمت ترسانة أسلحته . وكما تفاعلت جماهير الشعوب المسلمة مع هذه الانتفاضة المباركة تفاعل الشيخ محرم فكان صوت الانتفاضة المدوي في فضاء لبنان وكنت تراه يشارك في المؤتمرات والمحاضرات والندوات .. يحث النفوس ويشحذ الهمم ويعمل جاهدا على تفعيل صدي الانتفاضة على الصعيد الإعلامي والسياسي .. لقد كان رحمه اله يؤمن منذ البداية أن قضية فلسطين هي القضية المركزية وأنه لا يمكن ان يتعاطي معها بجدية إلا أصحاب السواعد المتوضئة من المجاهدين الصابرين الصامدين وكان رحمه الله يرجو لهذا الانتفاضة الاستمرا وتخطي كل العوائق والأشراك التي تعد للإيقاع بها .

مبارك أبا عاصم :

مر على زواج الشيخ مدة ستة عشر عاما , لكن الله عزوجل لم يكتب للزوجين أن يرزقا ذرية تقرّ بها أعينهم طيلة هذه الفترة وبقي الشيح محرم راضيا بقدر الله تعالي حامدا شاركا فالخير فيما اختاره الله .

وكان منه أن فجر كل ما حواه قلبه الطيب من حنان أبوي ورعاية ورأفة .. وصبه على ولد زوجه سعد الدين , هذا الذي ابتلاه الله باليتم صغيرا لكنه وجد في الشيخ ما عوضه عن فقد أبيه . وكان الشيخ شديد الحب لسعد الدين وحين كانت أمه تكتب للشيخ الرسائل زمن الاعتقال كان الشيخ في ردوده على رسائلها يداوم على تذكيرها بالرأفة به والرفق بحاله ..

ومن طريف ما وجدناه في رسائل الشيخ أنه رسم قلبا كتب فيه محرم وقلبا آخر يعانق القلب الأول وكتب فيه ( سعاد ( اسم زوجه ) وفي مسحة التقاطع بين القلبين المتعانقين كتب سعد الدين وعلق على الرسم بقوله : أنت في قلبينا فأحمد الله على ذلك .

هذا هو الشيخ محرم الأب المحب والعطوف رغم أنه لم يرزق الولد طيلة تلك الفترة لكن رحمة الله التي وسعت كل شئ شاءت أن يشهد العام 1988 الحدث الذي طال انتظاره ... فأم سعد الدين حامل لأول مرة بعد ستة عشر عاما من الزواج.. وحمل النبأ إلى الشيخ محرم فتمالك نفسه ومضي مع زوجه لإجراء الفحص للتأكد من الحمل .. لقد أفاد الفحص أن هناك حملا ... لكن الشيخ عاد وطلب أن يجري الفحص ثانية لا شكا في قدرة الله ولكن ليطمئن قلبه ... وكانت النتيجة كسابقتها لقد من الله على الزوجين بعد طول انتظار بنعمة ما بعدها نعمة فطار الشيخ فرحا وحمد الله على منه وكرمه .

ماذا يفعل الشيخ ؟ هل يجلس مع زوجه الحامل ليرعاها ويقوم على العناية بها ؟؟ أم تراه يؤثر حب الله ورسوله والسعي في تبليغ دعوة الإسلام على الجلوس إلى جانبها يترقب المولود الذي طال انتظاره ؟؟

هنا يظهر حب الشيخ محرم للدعوة وتفانيه في خدمتها ولو على حساب أحب الأشياء إليه . فقد تزامن نبأ الحمل مع دعوة من الجالية المسلمة في أمريكا لأجل القيام بجولة دعوية وإلقاء الدروس والمحاضرات على مسامع المسلمين هناك . فماذا يفعل الداعية المتفاني ؟؟

لقد ترك الشيخ زوجه الحامل ومضي ملبيا نداء الدعوة إلى الله أما الزوجة المؤمنة فقد تفهمت صنيع زوجها ودعت له بالتوفيق في رحلته .

وولد عاصم :

انتهي الشيخ من رحلته الدعوية وعاد إلى لبنان وجلس مع زوجه يعدان الأيان منتظرين ولادة الحبيب المنتظر وأطل شهر نيسان في ربيع العام 1989 ومعه عبق الورود والزهور الذي نشر على الطبيعة جميل عبيره وأذيع النبأ السعيد لقد ولد " عاصم " بكر الشيخ ووحيده ؟؟

لقد كان " عاصم " الاسم الذي ارتضاه الشيخ لوليده وذلك تيمنا بالقارئ الجليل عاصم بن أبي النجود الذي حفظ القرآن على قراءته وأملا بأن يعصمه الله من كل شر ..

وقد دأب الشيخ على توجيه هذا المولود إلى حفظ القرآن . نعم القرآن هذا الكتاب العظيم الذي بسببه وصل الشيخ محرم إلى القمة وهكذا أحب الشيخ لولده أن يكون حافظا للقرآن لينال ببركته كل الخير والعزة التي ذاق الأب

موقف الشيخ من حرب الخليج الثانية

شاءت الأقدار أن يشهد مطلع الثمانينات حربا ضروسا بين العراق وإيران حتى إذا ما خبت نيرانها شهد مطلع التسعينات حربا أخري كانت شرارتها الأولي مع إقدام النظام العراقي على اجتياح الكويت . وعلى الفور هبت الدول الغربية هبة راجل واحد وجيشت الجيوش وزحفت باتجاه الخليج بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترا .. وفي وسط الأجواء المشحونة هبت صيدا لمجاهدة لنصرة الشعب العراقي المسلم الذي حولته جيوش الحلفاء إلى حقل رماية تصب عليه حمم القذائف والصواريخ .

نعم لقد أخطأت القيادة العراقية في احتلال الكويت لكن لا يجوز أن يتحمل الشعب الأعزل العقاب نيابة على القيادة التي تسببت في ذلك .

وهبت جماهير المسلمين في مظاهرة بلغ تعداد المشاركين فيها قرابة الثلاثين ألفا وكان الشيخ محرم عارفي وإخوانه العلماء في طليعة المشاركين المستنكرين للهمجية الغربية – التي تذرعت بما فعله العراق لتجعل من منطقة الخليج قاعدة من قواعدها العسكرية تعمل أولا وأخيرا على تطويق العرب لدعم إسرائيل ووضع المنطقة تحت مرمي نيران مدافعها وطائراتها .

في تلك الفترة كان دأب الشيخ محرم المناداة التمييز بين الشعب العراقي والقيادة العراقية فالشعب برئ والقيادة مدانة .. لكن إدانتنا لهذه القيادة لا يجوز أن تترجم انبطاحا وارتماء في أحضان الغرب .

موقف الشيخ من مؤتمر مدريد

في أعقاب تفجر الانتفاضة الأولي وتنامي تأثيرها سعت الصهيونية إلى إجهاضها بالقوة فلما عجزت عن ذلك سلكت مسلك الحيلة والمراوغة فكان أن تضافرت الجهود لعقد مؤتمر مدريد بين أطراف النزاع من الفلسطينيين والعرب من جهة واليهود من جهة ثانية تحت رعاية دولية مميزة.

لقد كانت شعارات الصلح وسلام الشجعان واسترجاع الأرض من العناوين البراقة التي تستر بها المجتمعون . لكن الراصدين لهذا المؤتمر وما عقبه من تداعيات كانوا على يقين من أنه ما عقد إلا لإجهاض ثورة شعبنا وزيادة القيود على أبنائه بغية تكبيلة , وجعله أعجز ما يكون ..

في تلك الآونة لمس الشيخ محرم أن هذا المؤتمر هو حلقة جديدة من حلقات الذل والهوان بل لعله أسوأ انحدار شهدته الحقبة المعاصرة على الصعيد السياسي لذا وقف منه موقف الرفض وسعي من خلال مواقفه وخطاباته إلى فضح هذا المؤتمر ( المؤامرة ) .

لقد أعلن أن التسوية والمالحة ليست سوي عناوين جوفاء صنعت لتضلل الشعوب وتصرفها عن الثورة في سبيل استرجاع الأرض السلبية والمقدسات المغتصبة .. وهذا الهدف الذي لا يمكن تحقيقه إلا عبر الجهاد ومقارعة العدو بالقوة فتلك هي اللغة الوحيدة التي يفهمها ولا يفهم غيرها .

وأثناء تسابق الدول العربية لشهود المؤتمر والتوقيع على مقرراته كان الشيخ محرم يميز بين دولة منبطحة تزحف نحو قاعة الاجتماعات وفي نيتها التنازل والتفريط .. وبين دولة أجبرتها الظروف الإقليمية على المشاركة في هذا المؤتمر لكنها لا زالت على أرض الواقع تدعم العمل الجهادي بكل ما تستطيع ..

لقد استنكر الشيخ محرم أشد الاستنكار موقف المهرولين وأثني أعظم الثناء على موقف المتمنعين عن مجاراة الصهاينة والتسليم لهم .

وفي هذه الأيام ونحن نشهد فعاليات الانتفاضة الثانية ونشهد انعقاد الاجتماعات والقمم التي تسعي للإلتفاف على ثورة الشعب المجاهد نعود لنسمع خطب الشيخ محرم التي ألقاها في مطلع التسعينات ونقول :" ما أشبه اليوم بالأمس "

لعل الشيخ محرم كان ينظر بنور الله حين استبشر بأطفال الانتفاضة المسلحين بإيمان صادق وحجر صغير يقذف بعزم وإخلاص لقد أعلن الشيخ وقتها أن هؤلاء هم أمل الأمة وصناع مجدها وأنه على أيديهم يكون تحرير فلسطين من النهر إلى البحر .. وتأتي هذه الأيام لتظهر صوابية نظرة الشيخ رحمه الله تعالي .. فإن المؤتمرات أغرقتنا أكثر وأكثر في مستنقعات الذل والهوان ولن ينتشلنا منها إلا ثورة المجاهدين المؤمنين الصادقين ..

انتخابات عام 1992 - وعام 1996

بعد سنوات الحرب الطويلة التي عاشها اللبنانيون قدر الله أن يحل السلم الأهلي لتعود الحياة العامة إلى وضع أقرب للمسالمة منه إلى التقاتل والتناحر ومع هذه المتغيرات المستجدة توافق أهل القرار والسلطة على إجراء أول انتخابات برلمانية بعد توقف استثنائي استمر طويلا .. وفي تلك الفترة هب الشيخ محمد لدعم المرشحين الإسلاميين في حملاتهم الانتخابية فصار يجوب المحافظات اللبنانية طولا وعرضا ليطل على الناس بصفته أحد الرموز الوطنية والجهادية ذات التوجه الإسلامي ويقول لهم : عبروا عن أصالة انتمائنا لهذا الوطن الذي نريده واحدة للحريات والسلام والازدهار بدعمكم للمرشح الإسلامي .

وشاء الله أن تسفر جهود الشيخ وإخوانه عن وصوله ثلاثة من المرشحين إلى سدة البرلمان ..

وفي العام 1996 أيضا سعي الشيخ محرم جاهدا وبذل كل طاقته ( رغم المرض ) لدعم إخوانه المرشحين .. وكأن الشيخ وجد في هذا المضمار مجالا لخوض النضال السياسي الذي يعتبر تكملة لمسيرة النضال الجهادي التي شاء الله للشيخ أن يكون أحد فرسانها ...

الدعوة شرقا وغربا

إسلامنا العظيم رحمة للعالمين :

شاء الله لدعوات السابقة على دعوة الإسلام أن تبقي ضمن الإطار الضيق الذي لا يشمل غير القوم الذين بعث فيهم النبي أو الذين أرسل إليهم الرسول أما مع دعوة الإسلام فقد شاءت لها الحكمة الإلهية أ، تكون دعوة عالمية لا يحدها قطر أو بلد بل تنطلق مخترقة كل الحدود لتصل إلى قلوب الناس في جميع آفاق الأرض .

والشيخ محرم كان يعي ذلك تماما منذ مطلع شبابه حين كان يدرس كتاب ( في ظلال القرآن ) الذي استقي منه الكثير بوعي واعتدال من معالم الفكر الإسلامي الأصيل كما كان رحمه الله يتغني بالقصائد والأشعار التي تنطق بعالمية الدعوة وشمولها لكل الخلق .

وشاءت الأقدار أن يرزق الشيخ محرم نعمة حمل هذه الدعوة في المرحلة الأولي من نشاطه داخل مدينة صيدا وبين أحيائها ومساجدها وبعض ضواحيها .

أما في المرحلة الثانية – بعد خروجه من المعتقل – فقد شاء له القدر أن تتوسع دائرة دعوته لتشمل المناطق اللبنانية عموما ..ولكن ومن فضل الله وفيض جوده وكرمه ,, رزق الشيخ محرم شرف حمل الدعوة إلى آفاق العالم ليسير بها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا على هدي سيد المرسلين محمد الذي قال فيه ربنا عز وجل : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 106) .

فمنذ أواخر الثمانينات وعلى مدي فترة التسعينات كانت الجاليات الإسلامية من حين إلى حين تنعم بقدوم الشيخ محرم صاحب الحضور المميز فيتكلف أبناء الجالية الإسلامية في دول لغرب عناء الانتقال من مساكنهم إلى المناطق التي يعلن فيها عن إقامة ندوات أو محاضرات للشيخ محرم الذي ان يحشد في كلماته حصيلة عمر طويل قضاه في الدعوة والتربية والتوجيه .. فتراه واعظا تدمع العين لكلامه المؤثر الذي ينفذ إلى القلوب وتراه معلما يستطيع إيصال الأفكار إلى عقول الجميع مهما تباينت المستويات بينهم .. وتراه ثائرا يذكر الجاليات الإسلامية بالمآسي والمشاكل التي تعيشها أرض الإسلام ..

ونظرا لنجاح الشيخ محرم في جولاته الدعوية تسابقت المؤسسات الإسلامية على دعوته من حين إلى حين ليكون أحد أبرز الوجوه التي تشارك في المؤتمرات والندوات التي تنظمها تلك المؤسسات .

ويكفي أنتطلع على جواز سفر الشيخ محرم لتعرف أنه بات داعية عالميا بكل معني الكلمة فقد شملت جولاته الدعوية الدولة العربية مثل السعودية والكويت والإمارات فضلا عن سوريا والأردن .. كما شملت من دول المشرق الإسلامي كالهند وإيران وباكستان وفي أوروبا تعددت زيارات الشيخ إلى ألمانيا بريطانيا والدنمرك اليونان , ثم رزقه الله تعالي أن يعبر المحيط الأطلسي وصولا إلى القارة الأمريكية حيث كثرت زياراته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا فضلا عن البرازيل التي زارها عام 1996 .

النشاط الدعوي خلال هذه الرحلات

قد يظن البعض أن الرحلات الدعوية سهلة وفرصة للراحة . لكن هذا الظن من أكذب الحديث إذ يكفي أن تسأل الجهات المنظم لهذه الجولات عن برامج الناشطات التي كانت تعد مسبقا لكل داعية لتجد الأوقات قد ملئت بالمشاغل فمن محاضرة هنا إلى ندوة هناك إلى خطبة جمعة أو درس عام .. فضلا عن زيارة للمؤسسات الإسلامية لدعوتها للتعاون مع مؤسسا داخل الوطن الحبيب أو زيارة وجهات الجاليات الإسلامية وتذكيرهم بواجباتهم تجاه الجالية وتجاه الوطن الأم .. ولعل مشاهدتك للشيخ محرم بعد عودته من كل جولة خير معلم عن مدي الإجهاد الذي يناله جراء ما يبذله خلال الرحلة .

الشيخ محرم في البرازيل

في العام 1996 دعي الشيخ محرم لزيارة الجالية الإسلامية في البرازيل وهناك التقي بأستاذه الشيخ خليل الصيفي حفظه الله .

نزل الشيخ في الفندق ونال اقسطا من الراحة ثم هب ليبادر في جولاته المعتادة في كل سفر.. ولكن المفاجأة كانت حين علم أن الجبهة الداعية لم تنظيم برنامجا للأنشطة التي اعتاد الشيخ عليها خلال رحلاته الدعوية غضب لهذا التقصير وقلا : " أنا ما أتيت إلى هنا لكي أجلس في الفنادق.."

ثم بادر إلى وضع برنامج للأنشطة التي يمكن أن تقام وأعانه على ذلك بعض أبناء الجالية عارفين بطبيعة الوضع في البرازيل وما أن انتظم البرنامج حتى شرع الشيخ في نشاطه .. فمن زيارة إلى زيارة ومن ندوة إلى ندوة أو محاضرة يزور الناس , يذكرهم , يدعوهم .. حتى تمت فترة جولته وآن أوان العودة إلى لبنان ..كانت حصيلة الرحلة بنظر أصحاب الدعوة أكبر مما تصوروا فسألوا الشيخ عن رأيه فقال : نجاح 70%.

سبحان الله كل هذا النجاح يراه الشيخ في مستوي المقبول ليس أكثر !! حقا على قدر أهل العزم تأتي العزائم ..نعم لقد كانت تطلعات الشيخ وطموحه أكبر من الإمكانيات والقدرات لقد كان ذلك الجسد لنحيل يحوي روح عملاق في الدعوة كما يحوي روح عملاق في الجهاد والصمود ..

الرسالة التي حملها الشيخ للجاليات الإسلامية

يحق للسائل أن يسأل عن مضمون الرسالة التي حملها الشيخ محرم للجاليات الإسلامية التي التقي بأفرادها خلال الجولات العديدة التي قام بها في ديار الغرب وألقي على مسامعهم عشرات المحاضرات والدروس .

والجواب عن هذا التساؤل نأخذه من أفواه الذين واكبوا الشيخ محرم واستمعوا للخطاب الذي كان يتوجه به إلى المسلمين المقيمين في الغرب .

لقد تمحورت جل كلماته إن لم نقل جميعها حول مضمون البحث عن بذور الخير في نفوس أبناء هذه الأمة وتنميتها لتمس ثمار خير يعود نفعها على المسلمين في جميع أرجاء الأرض , كذلك سلط الأضواء على نقاط الضعف البادية في جسد أمتنا داعيا إلى ضرورة معالجتها بجدية كما سلط الأضواء على نقاط القوة مناشدا الجميع العمل على توحيد الجهود لاستثمار هذه القوة في مجال خدمة قضايا أمتنا في بلاد الاغتراب أو في وطننا الأم ... هذا ما حمله الشيخ محرم للجاليات المسلمة وهو ينبأ عن نظرة ناضجة ورؤية فاحصة لواقع مع استشراف طامح لمستقبل أفضل ..

من أدب الشيخ أثناء رحلاته

أثناء محادثتنا مع بعض أبناء الجالية اللبنانية الذين التقوا الشيخ في الغرب بينوا لنا شيئا من أدبه رحمه الله لقد كان أحباب الشيخ يتسابقون لاستضافته في بيوتهم ويدعونه إلى قضاء فترة أقامته عندهم .. لكنه كان يرفض ذلك ويفضل النزول في أى فندق متواضع .

لماذا ؟؟ لقد أحب الشيخ أن لا يثقل على أحد أو أن يحرج أهل بيته أثناء إقامته عنده فالزوجة والأولاد لهم الحق أن يأخذوا حريتهم ويتمتعوا براحتهم في بيتهم .. وحضور الضيف كائنا من كان هذا الضيف – يجبرهم على تقييد أنفسهم إلى حدا ما هذا ما لم يرده الشيخ .

وكان من تواضعه أن يلبي دعوات أبناء الحالة مهما كانت تلك الدعوات متواضعة فيجتمع مع الشباب المسلم على المائدة وقلما أن تمر جلسة الطعام دون أن يبادر هذا أو ذاك إلى إطعام الشيخ بيده إكراما له وملاطفة والشيخ يجاريهم ويضحك فرحا بنعمة الإسلام وحب المؤمنين .

وفي الغربة لا ينسي الشيخ أحبابه في الوطن فيشتري الهدايا لكل من يذكره ... ولقد لمست بنفسي هذا الأمر ففي احدي المرات أحضر الشيخ من البلد التي كان في زيارتها هدية لى ولما كان متعبا عجز عن رؤيتي ليعطيني الهدية لكنه أرسلها إلى مع أحد الأفاضل الذي جاءني وقال : هذه من الشيخ محرم .

كانت فرحتي بالهدية كبيرة لكن الفرحة بالشيخ المحب كانت أكبر وبعد مدة التقيت الشيخ وعانقته مقبلا ومهنئا بالسلامة وقلت له :

" نحن نحب الشيخ محرم كثيرا دون هدية .. فكف ترانا نحبه إذا نلنا منه الهدايا ؟" رحمه الله تعالي...

الجولة الأخيرة 1999 -2000

خاض الشيخ محرم خلال سني حياته عدة جولات أثبت خلالها أنه أهل للصمود والثبات مهما عظمت المحن ومع حلول العام 1993 بدأت جولة جديدة من جولات الصراع لكن الصراع هذه المرة لم يكن مع الواقع الغافل والنفوس التائهة كما كان في السبعينات ولا مع اليهود والعملاء كما كان في زمن الاجتياح وفترة الاعتقال مطلع الثمانينات ولا مع الفتن الداخلة ومشاريع التفرقة الشرذمة كما كان في زمن حرب المخيمات ..

لقد كانت الجولة الأخيرة من صراع الشيخ مع مرض فاتك عجزت البشرية حتى الساعة عن القضاء عليه .

نعم لقد شهدت فترة التسعينات مرحلة جديدة من مراحل جهاد الشيخ لكنه جهاد النفس والصبر على الآلام والأوجاع ..في العام 1993 بدأ الشيخ يشعر بعدم انتظام حالته الصحية وبدا له أن يستشير أهل الاختصاص وبعد التنقل من طبيب إلى طبيب ظهر أن الشيخ على حق فهو مريض .. لكن ما هو المرض ؟؟ لقد حاول الشيخ محرم جاهدا أن يقنع نفسه أنن مرضه ليس مرضا خبيثا كأنه أراد أن يستعمل الإيحاء الذاتي كوسيلة تعينه على التغلب علي التغلب على مرضه الفتاك .. وهكذا كان الشيخ يجاهد نفسه لمنع اليأس والاستسلام من أن يتسلل إلى قلبه يهزم روحه .

لكن المرض تفاقم مع مرور السنوات وصار العلاج المتبع يدل بشكل واضح على أن مرض الشيخ مرض خبث ... هنا سلم الشيخ بالأمر الواقع واعترف لنفسه انه مصاب بالسرطان ومرة أخري استعان الشيخ بالإيحاء الذاتي في سبيل التغلب على اليأس لقد حاول الشيخ أن ينقع نفسه يوحي إليها أن مرضه ليس من النوع الخطير .. بل هو من أخف الأمراض الخبيثة وطأة وأنه يمكن التغلب عليه بالعلاج وهنا بدأت حلة الشيخ مع تفاقم المرض .

في تلك الفترة التي بدأ المرض فيها بالتفاقم صار الشيخ اعجز من أن يصوم شهر رمضان المبارك وكان صيام ذلك الشهر الحبيب إلى قلب الشيخ وقلوب المؤمنين من الأمور التي يأنس بها رحمه الله , لكن المرض منعه من لذة الصوم فبك الشيخ حزنا وسأل الله أن يعافيه ليتمكن من أداء هذه العبادة التي لم ينقطع عنها منذ الحلم ..

واستمرت رحلة الشيخ من الألم , من طبيب إلى طبيب ومن مشفي إلى مشفي .. والآلام الشديد تتفاقم ألم المرض وألم التداوي والعلاج .. وكم هو صعب أن يكون الداء والدواء سواء في الإيلام وإحداث الأوجاع ..

هل خاف الشيخ من مرضه ؟؟؟

رغم ما صحبه من آلام أوجاع , ورغم علمه أن هذا الداء الخبيث نهايته الموت لم يخش الشيخ من مرضه , ولم يجزع بسبب الآلام , ومنع اليأس من أن يتسلل إلى قلبه ويهزم نفسه الأبية ويضعف روحه الشامخة المتسامية ..

لكن شيئا واحدا كان يخافه الشيخ ويخشاه أشد الخشية كان يخشي أن يؤثر المرض ومضاعفاته من جهة .. والعلاج بأنواعه المتعددة من جهة أخر على ذاكرته .. فينسي القرآن الكريم ويعجز عن استذكاره .

هذا الذي أقلق الشيخ فكان دأبه أن يراجع محفوظا ته ويداوم على التلاوة أو القراءة خوفا من النسيان..

وشاء الله لرحلة الجهاد والدعوة التي بدأها الشيخ بحفظ القرآن والتي استلهم عبرها معاني الصمود والثبات من فيض هديه فكان الصاحب والأنيس نعم الجليس في كل حين .. وشاء الله لهذه لرحلة أن تختتم مع القرآن فسر للشيخ رحمه الله ترداد آياته التي آنسته في أيامه الأخيرة حتى أكرمه الله بأن أجري على لسانه في اللحظات الأخيرة من عمره المبارك بعض من الآيات المباركات .

داعية حتى النهاية

سبع سنوات قضاها الشيخ في جهاد النفس يدفع عنها جيوش اليأس وجحافل القنوط من رحمة الله كان يداوم على ذكر الله وتلاوة كتابه يستلهم الصبر من سيرة النبي والسلف الصالح ..

لم يسمح للمرض أن يمنعه من نشاطه الدعوي فكان يلب دعوات الجميع رغم آلامه وغاية ما يفعله هو أن يتسلح ببعض الدواء ومسكنات الألم وينطلق ليحاضر أو يخطب أو يعظ .. لقد أراد لنفسه أن يكون داعية حتى نهاية حياته فلا يحرم نفسه من لذة خدمة هذه الدعوة والعمل على تبليغها ..

في المستشفي

تفاقم الأمر في أواخر العام 1999 فقد بلغ المرض أقصي مداه حلول الشهرين الأخيرين من ذلك العام ..فالأوجاع و ولآلام الظهر والداء الذي بدأ ينخر العظام . كل ذلك اجتمع على جسد الشيخ النحيل لكن روح العملاق التي حلت في هذا الجسد قاومت وقاومت وقاومت . ومرة واحدة اشتكي الشيخ إلى الله من سوء حاله لكنه سرعان ما عاد واستغفر الله , وحمده على قضائه ومشيئته ..

في تلك الفترة أجريت للشيخ بعض الفحوصات والصور فاستبان للأطباء أن هناك ثقوبا في العظم عندها علموا أن أيام الشيخ باتت معدودة ... يومها قال الشيخ رحمه الله : أنا عارف كل شئ .. بقي لى كم يوم ..

أدخل الشيخ إلى مستشفي حمود في صيدا حيث قض الشيخ هنالك آخر شهرين من عمره المبارك محاطا بأهله وإخوانه وأحبابه لقد, لقد تسابق الشباب المسلم لخدمة الشيخ والسهر على راحته في ساعات الشدة التي ألمت به ..

كأنهم شعروا أن اقل الواجب يقتضي أن نقف إلى جانب الرجل العظيم في ساعة الشدة عرفانا له بفضله علينا وهو الذي قضي حياته بيننا متفانيا في تعليمنا ووعظنا وتوعيتنا . وتمر الأيام والمرض يفتك بجسد الشيخ محاولا أن ينال من شموخ روحه وعزة إيمانه . لكن الشيخ الصابر استلهم من رحلته الطويلة مع الجهاد والدعوة معاني الصمود واستحضر في كل ساعة من الساعات دروس الصبر التي تعلمها على مرّ الأيام فهزمت روحه آلام المرض , وتعالت نفسه على أوجاع الجسد فكان رحمه الله معلما يبث فينا معاني الصمود والثبات حتى في زمن مرضه .

الممرضة تتحدث

وتحدثنا الممرضة المسئولة عن القسم الذي نزل فيه الشيخ رحمه الله فتقول :

" لقد أعتدنا على المرضي الذين وصلوا إلى المراحل الأخيرة من مرضهم وبات سماع نبأ وفاة أحدهم شيئا مألوفا وعاديا لكن حضور الشيخ المميز والمعزة الخاصة التي زرعها في قلوبنا جعلتنا نحن الممرضات نبكي لوفاته .. لقد اثر أدبه الرفيع فينا جميعا فهو ساكن النفس هادئ البال لا يستدعي الممرضات إلا في حال الضرورة القصوي , خشية أن يزعجهم , وكلما دخلنا عليه وجدناه يذكر الله يسأله رحمته ويرجو عفوه كان لهدوئه أثر عجيب ..

فقد أورثه هيبة ووقارا لم نعرفه مع مريض آخر ومن شدة حرصه على عدم إيذاء أحد لم تحدث أى مشكلة بسببه طوال فترة بقائه في المستشفي .."

الشباب يتحدثون

لقد اجتهد العديد من الشباب المسلم في خدمة الشيخ رحمه الله فكانوا يتناوبون على السهر على خدمته ومواساته وقضاء حوائجه كان من هؤلاء الشباب من سبق له أن عرف الشيخ عن قرب ومنهم من كانت هذه الفترة هي بداية تقربهم منه رحمه الله .. لكن ومن فرط فطنة الشيخ رحمه الله , ما كان يميز بين من صحبوه منذ سنوات وبين من يصاحبونه في هذه المحنة فكلهم أخوة وأحباب ولهم في قلبه المكانة المميزة ..كان يشكو لهم صنيعهم ويفكر في وسيلة يرد من خلالها بعض خدماتهم تجاهه فكان أن أوصي الأخ أبا عبيدة الكلش أن يعطي كل شاب من هؤلاء الشباب هدية رمزية تكون شعار محبة وعنوان شكر لهم ..

الروح المرحة حتى أثناء الشدة

كان الشيخ مرحا ضحوكا أيام الصحة لكن روحه المرحة لازمته حتى أيام اشتداد وطأة المرض عليه فكان يتحامل على نفسه مخفيا ألمه ويمازح زواره والمحيطين به .. وقد زرته يوما فوجدته ممددا على السرير فتقدمت منه فرحب بي . أنكببت على يده أقبلها وأدعو له بالسلامة والدمعة في عيني فما كان منه إلا أن مازحني ليذهب عني ما لحظه على من علامات الحزن التي نطقت بها قسمات وجهي .

داعية حتى الأيام الأخيرة

أصابت الشيخ نوبة من نوبات الألم الشديد فنادي على الأخ بسام حمود الذي ساعده في السير باتجاه غرفة الممرضات ليعلمهن بألمه علهن يعطينه شيء من المسكنات وكانت الممرضة تتكلم عبر الهاتف والشيخ واقف يصارع الأم وهي مسترسلة في حديثها دون أن تلتفت .. فما كان من مرافق الشيخ إلا أن صاح بها .. لكن الشيخ غضب لذلك ونهره قائلا : نحن دعاه ندعو الناس باللين ولا بالشدة ..

خطيب حتى الأيام الأخيرة

أعجز المرض الخطيب المفوه عن ارتياد المحافل المنابر ومنعه من الخطابة لكن روحية الخطيب بقيت لديه متيقظة حتى أيامه الأخيرة فجاءه يوما أخوه الداعية خالد عارفي – أبو عطاء – فسأله الشيخ عن الموضوع الذي اختاره لخطبة الجمعة التي يعتزم أن يلقيها في اليوم التالي فشرح له أبو العطاء فكرة الخطبة .. لكن الشيخ راجعه ونبهه وعرض عليه أفكارا أفضل ونصحه بالأخذ بها ..

عندما سمعت من أبي العطاء هذه الحادثة تذكرت أني سألت الشيوخ يوما إن كان يفكر باعتزال الخطابة في سن معين ؟؟ فكان رده رحمه الله أن الخطابة بالنسبة إليه شئ نابع من داخله وسيبقي يخطب ما دام قادرا على ذلك .

الإخوان الإخوان

مر معنا أن الشيخ انضم إلى الجماعة الإسلامية عام .. 1972 وأنه رغم كل الأحداث والمتغيرات بقي ملتزما بالجماعة لقد كان يؤمن بأن كل عمل لا بد أن تشوبه بعض الشوائب لذلك لا يصح أن تكون هذه الشوائب ذريعة للقطيعة أو الابتعاد عن الجماعة .

وعلى مدي الأربعين يوما من أيامه الأخيرة يذكر أحد الإخوة بضرورة عدم اتخاذ أى موقف سلبي من الجماعة ويذكر بقوله تعالي في وصف المؤمنين الناجبين يوم القيامة : ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) ( المؤمنون : 102) .

ويستنبط ممن هذه الآية أن هؤلاء لم تكن موازينهم بلا سيئات .. أبدأ بل كانت لهم بعض السيئات .. لكن حسناتهم كانت أكثر وكانت كفة الخير عندهم أرجح .. لذلك يحب أن نتفهم حقيقة التقصير البشري الملازم لنا جميعا ونتعاون مع إخواننا – ولو صدر منهم ما لا نوافق عليه – طالما أن خيرهم هو الراجح إذ لا أحد معصوم ..

آخر ما كتبه الشيخ

بقي الشيخ في المستشفي فترة 12 يوما بدأ للأطباء أن يخرجوه ليرتاح قليلا في بيته وفي بيته قام الشيخ مساء وجلس خلف مكتبه , تناول القلم وخطت يمناه هذه المناجاة التي كانت آخر ما كتبه في حياته :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ..

من وصل إلى الله وصل إلى كل شئ .

ومن انقطع عن الله انقطع عنه كل شئ بما في ذلك عقله وكل جوارحه

من استأنس بالله فرح بقضاء الله وقدره وكان أنسه معه أينما وأينما حل .. حتى سمو إلى الله وهو يحدوه الشوق العظيم فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه , ومن كره لقاء الله , كره الله لقاءه .

يا إله العباد مالي سواك

ارحم اليوم عاشقا قد أتاك

أنت سؤال ومنيتي وسروري

طال شوقي فمتي يكون لقاك

يا إله العباد جد لى بعفو وينظرة فيها رضاك

وأشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له ..

وأشهد أن محمد رسول الله علمنا كيف نتعامل مع الله لنكسب رضاه وننعم بأنسه وقربه فقال صلي الله عليه وسلم .

إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي

افعل بس ما تشاء وما تريد

واستخدمني كيف كيف ومتي تريد ..

وأكرمني بأنسك , بحبك , بنورك , برضاك..

أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات

وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل علينا غضبك أو يحل علينا سخطك..

لك العتبي حتى ترضي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

وترجل الفارس

واشتدت وطأة المرض على الشيخ بعد خروجه من المستشفي فأعيد إليها وقد بلغ منه الألم مبلغا لا يطاق لكن الشيخ بقي صابرا محتسبا .

ومع إقبال يوم الخميس في 30/21 / 1999 إذ بحال الشيخ الصحبة تتدهور فيسارع الأطباء والممرضون لاستنقاذه من براثين المرض الذي اشتدت وطأته على الجسد النحيل لكن قدر الله لا مفر منه ..

في ذلك اليوم نطق الشيخ بالشهادة خمس مرات ثم تلا قوله تعالي :

( إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب ) الزمر : 10)

والتفت إلى زوجه وقال لها : سلمي لي على " عاصم " وغاب بعدها عن الوعي .

نعم لقد دخل الشيخ في غيبوبة وتوقفت سائر أعضاء جسده لكن قلبه المؤمن بقي ينبض..

ثمانية أيام مضت والشيخ بين الحياة والموت وباتت حالته الصحية شغل الناس الشاغل ..

الكل مكتئب ..

الكل حزين ...

الكل يدعوا ..

لقد كشف المرض عن مدي حب جميع الناس للشيخ محرم .. وكيف لا يحبونه ! وكيف لا يكترثون لحاله !! وهو الذي قضي حياته بينهم مذكرا وموجها وهو الذي عرض نفسه لأشد المحن في سبيل الانتصار لقضاياهم .. ومرت الأيام ببطئ شديد وكان الجميع يترقب الأنباء عن حال الشيخ الصحية ..

وأقبل يوم الخميس في 6/1/2000 فإذا بالنبأ المفجع يدوي في أرجاء المدينة ..

لقد ترجل الفارس أخيرا ..

لقد اسلم الروح ومضي إلى جوار الله ..

وضجت المدينة بهذا النبأ ..

ذرفت العيون دموع الحزن والأسي ..

وخيم جو من الحزن والوجوم في الأرجاء ..

فبوفاتك يا شيخ محرم فقدت صيدا المجاهدة أبنا من خيرة أبنائها فقدتك داعية مربيا ..

وفقدتك مجاهدا مقداما .

فإلي رحمة الله يا شيخ محرم

وإننا على العهد باقون ..

وعلى الدرب الجهاد والدعوة على إثرك سائرون ..

وموعدنا في جنات النعيم ..

مع الآل والصحب والصالحين ..

موكب التشيع

ولما كان الوفاء من شيم الكرام أبي أبناء صيدا الكرام إلا أن يعلنوا الوفاء لشيخهم الحبيب .

وفي يوم الجمعة في 7 / 1/2000 احتشد الآلاف من أبناء المدينة في مسجد الزعتري وعندما ضاقت جدران المسجد علي الجموع المحتشدة انتشرت هذه الجموع في الساحات المحيطة بالمسجد وقام بالناس خطيبا الأمين العام للجماعة الإسلامية سماحة القاضي المستشار الشيخ فيصل المولوي فذكر بخصال الشيخ الراحل وسلط الأضواء على النهج الإسلامي الذي التزمه رحمه على مدي سني عمره المبارك ولم يحد عنه قيد أنملة إلى أن توفاه الله ..

وبعد صلاة الجمعة صلت الحشود على الشيخ الراحل وبعدها حمل جثمانه على الاكتاف وانطلقت مسيرة التشييع في موكب مهيب ..

لقد أبت الجموع إلى أن تواصل السير على الإقدام من مسجد الزعتري إلى المقبرة الجديدة التي تقع في بعيدا خارج نطاق مدينة صيدا .. ولم تستطع المسافة الطويلة ولا رداءة الطقس واحتمال هطول المطر أن تثني عزيمة أبناء صيدا الأوفياء عن مواكبة جثمان شيخهم .

وشهدت صيدا لأول مرة في تاريخها موكب تشييع بهذا الحجم قيل إن عدد المشيعين قد بلغ خمسة عشر ألفا من الناس ..وقيل بل إن عددهم بلغ عشرين ألفا ..لكن بغض النظر عن التقديرات فغن الشوارع التي ازدحمت بالمشيعين وشرفات المنازل والأسطح التي أطلت منها النساء فضلا عن مشاركة العلماء من مختلف المناطق اللبنانية ومشاركة الرسميين وبعض رجال الدين من مختلف الطوائف .. كل ذلك كان يعلن عن مدي حب الناس الشيخ محرم وتقديرهم البالغ لمسيرته الدعوية والجهادية .

نعم لقد كرمت صدا ابنها الذي وقف أيام الاحتلال بعزم وإيمان ليدافع عن كرامتها أعظم تكريم .. فهنيئا لك يا شيخ محرم ..

أسباب نجاح داعية أسباب نجاح الشيخ محرم

بحثت في شخصية الشيخ محرم عن اسبب الكامن خلف نجاحه في مجال الدعوة إلى الله خاصة وأننا وجدنا من هم أعلم من الشيخ ويحملون من الشهادات العلمية ما لم يتح له أن يحصله علمية أو تخصصات أكاديمية فقط مع تسليمنا بما لها من أهمية بالغة .

قلت في نفسي : " لعله الوقع والنفوذ " خاصة وأن الشيخ محرم صار في فترة من الفترات زعيم له العديد من الإتباع والمحبين لكنني تنبهت إلى أن نجاح الشيخ محرم بدت معالمه بالظهور قبل بلوغه رحمه الله مبلغ الزعامة هذا فضلا عن وجود من هو أعرق منه وأقدم ومع ذلك لم يبلغ مبلغه .

وبعد تأمل ظفرت بالإجابة إنها النفس الكريمة والروح اللطيفة والخصال الحميدة التي تحلي بها الشيخ هذا إلى جانب جمعه بين العلم والعمل .

نعم لم يكن الشيخ محرم صاحب مال أو سلطان أو مكانة اجتماعية لكنه وبشهادة كل من عرفه – كان آية في التواضع مع الجميع ولم تفسد الرياسة تواضعه حتى آخر حياته ..

كما كان الوفاء والعرفان بالفضل لأهله إحدي الخصال الحميدة التي كرست حب الشيخ محرم في قلوب الذين عرفوه وقد مر معنا حادثة تقبيله ليد الشيخ خليل الصيفي على مشهد من الناس في وقت كان رحمه الله – بلا مبالغة أسطورة في أذهان بعض الناس .

وكم سمعناه يترحم على الذين تعلم على أيديهم ويذكر فضلهم عليه . أو يذكر الذين أعانوه في ساعات ضيقة ويدعو لهم جميعا بالخير . وفي الوقت الذي كان فيه شديد اللهجة مع أهل الباطل لم يسمح للسانه الذي دأب على تلاوة القرآن – أن ينطق بما لا يليق فلهجته الصارمة لم تتلوث يوما ببذاءة المنطق وفحش الكلام .. فأنت لا تسمع من فم الشيخ إلا الكلام الطيب الذي لا يخدش الآذان بسلاطته أو إقذاعه بل هي شدة بلا بذاءة وصرامة بلا سفالة منطق حق وكلام حق بعيدا عن الإقذاع .

كما لم كن الشيخ في كلامه ممن يصطنع الخطاب اصطناعا بل كان لسانه ينطق بما يجيش في صدره رحمه الله فكنت تجده متأثرا بكلماته يعيشها وينصهر مع معانيها كلمات تنبع من القلب لتقع في قلوب السامعين ..

نعم لقد كان كلام الشيخ من القلب إلى القلب بعيدا عن التصنع وتمثيل الانفعال .

ومن خصال الشيخ الحميدة توقيره لكبار السن وأصحاب الشأن فكنت تراه مع سماحة المفتي محمد سليم جلال الدين آية في التوقير والاحترام وكذلك كان حال الشيخ مع سائر أهل الفضل , وهذا التأدب الذي تميز به الشيخ رحمه الله تجده ظاهرا في مسلكه في حضور الشخص أو غيابه فالشيخ لم عرف الرياء .

أما مع من هم دونه سنا أو مكانة فكان آية في التواضع ينزل إلى مستواهم ويخاطبهم بما يستسيغون فهو بين الطبقة الشعبية كواحد منهم لا يسمح للرياسة أو الزعامة أن تحجبه عنهم يمشي بين الناس يشتري حوائجه بنفسه يحملها بنفسه ويأبي كل الإباء أن تحمل له . وإذا ما خطب أو وعظ أو درس تجده يمزج الفصحي بالعامية , ويضرب الأمثلة والتشبيهات من واقع عيش الناس ليكون العالم وعلمه أقرب إليهم أحظي عندهم .

أما مع أخطأ في حقه, فكان يكتم غيظه ويحاول جاهدا أن يحتوي بحلمه رعونة الرعناء وإساءة المسيئين وغاية ما يمكن أن يفعله – إذا ما شعر بالأذي البالغ من جهة ما أو فرد ما – أن يبتعد ويحتجب عن الذي تسبب له بالإساءة لفترة من الزمن فإذا ما صفت نفسه وطاب قلبه وسرعان ما يكون ذلك –عاد إلى معاملة الذي أساء إليه كأن شيئا لم يكن .

وفي الوقت الذي كان فيه شديد اللهجة مع أهل الباطل لم يسمح للسانه – الذي دأب على تلاوة القرآن – أن ينطق بما لا يليق فلهجته الصارمة لم تتلوث يوما ببذاءة المنطق وفحش الكلام .. فأنت لا تسمع من فم الشيخ إلا الكلام الطيب الذي لا يخدش الآذان بسلاطته أو إقذاعه . بل هي شدة بلا بذاءة وصرامة بلا سفالة منطق حق وكلام حق بعيدا عن الإقذاع

كما لم يكن الشيخ في كلامه ممن يصطنع الخطاب اصطناعا بل كان لسانه ينطق بما يجيش في صدره رحمه الله فكنت تجده متأثرا بكلماته يعيشها وينصهر مع معانيها كلمات تنبع من القلب لتقع في قلوب السامعين ..نعم لقد كان كلام الشيخ من القلب إلى القلب بعيدا عن التصنع وتمثيل الانفعال .

ومن خصال الشيخ الحميدة توقيره لكبار السن وأصحاب الشأن فكنت تراه مع سماحة المفتي محمد سليم جلال الدين آية في التوقير والاحترام وكذلك كان حال الشيخ مع سائر أهل الفضل وهذا التأدب الذي تميز به الشيخ رحمه الله تجده ظاهرا في مسلكه في حضور الشخص أو غيابه فالشيخ لم يعرف الرياء .

أما مع من هم دونه سنا أو مكانة فكان آية في التواضع ينزل إلى مستواهم ويخاطبهم بما يستسيغون فهو بين الطبقة الشعبية كواحد منهم لا يسمح للرياسة أو الزعامة أن تحجبه عنهم يمشي بين الناس يشتري حوائجه بنفسه يحملها بنفسه ويأبي كل الإباء أن تحمل له وإذا ما خطب أو وعظ أو درس تجده يمزح الفصحي بالعامية ويضرب الأمثلة والتشهبيات من واقع عيش الناس ليكون وعلمه اقرب إليهم أحظ عندهم .

أما مع من أخطأ في حقه فكان يكتم غيظه ويحاول جاهدا أن يحتوي بحلمه رعونة الرعناء وإساءة المسئين وغاية ما يمكن أن يفعله – إذا ما شعر بالأذى البالغ من جهة ما أو فرد ما – أن يبتعد , ويحتجب عن الذي تسبب له بالإساءة لفترة من الزمن فإذا ما صفت نفسه وطاب قلبه – وسرعان ما يكون ذلك – عاد إلى معاملة الذي أساء إليه كأن شيئا لم يكن .

والشيخ محرم عفوي في تصرفاته يحب المزاح ولو في أحلك الظروف وأحرج المواقف والذي عايشوه في سجن أنصار وعتليت يحكون أخبارا وطرائف شهدوها وعاشوها مع الشيخ وفي رسائله رحمه الله يكتب إلى زوجة بعض تلك المواقف المضحكة مع الإخوة المعتقلين كما لا ينسي أن يمازح أهله بكلمات عفوية ظريفة نذكر منها قوله في احدي الرسائل :

أمي ومرتي وحماتي
طيرولي عقلاتي

لو بدي رد عليهم

بيطيروا مصرياتي

وللكرم مع الشيخ محرم قصص وحكايات فكان دأبه أن يذكر الجميع من حين إلى حين بهدية تكون بمثابة إشعار بحبه وإعلام بمعزته حدثني الأستاذ جمال الظريف انه اصطحب الشيخ محرم إلى أحد الأسواق في كندا – أثناء احدي الجولات الدعوية – وكأ دأب الشيخ أن يبحث لزوجه عن ثوب مميز يهيدها إياه . ولما سأله الأستاذ جمال عن سر هذه الدقة المتناهية في اختيار الأجمل والأبهي – ضمن إمكاناته المادية – من بين جميع ما عرض أمامه من البضائع اعلمه الشيخ أن من حق المرأة المسلمة أن تنال حقها من اهتمام زوجها وحرصه على إسعادها وإكرامها ولا حرج من اقتناء أجمل الأثواب أطيب العطور طالما أنها ستستعمل داخل البيت وبعيدا عن الأجانب .. قال محدثي من وقتها تعلمت أن التدين لا يعني التزمت بل يعني الحرص على إكرام وإسعاد الآخرين وخاصة الزوجة والأقارب .

وكما كان الشيخ كريما مع زوجه فإنه كان كذلك مع ولدها سعد الدين فأنت تقرأ في رسائله زمن الاعتقال دوام توصيتها به وحثها على شراء الهدايا له وتطييب خاطره .. وكذلك كان مع ولده عاصم لاحقا .

وكان للإخوان حظ من كرم الشيخ فنادرا ما يمر عام دون أن ينالهم شئ من كرم الشيخ وعطاياه .. بل أكثر من ذلك فقد وجدته في احدي رسائله يوصي زوجه بزيارة أخ معتقل له طفلة لم تره طوال فترة الاعتقال ويطلب الشيخ من زوجه أن تحمل هدية لهذا الطفلة وتسلم عليها وتعلمها بأن أباها يحبها قد أرسل لها هذه الهدية وأنه يحبها ..

وفي أيامه الأخيرة جاد الشيخ من فيض كرمه – مع قلة ذات اليد – على الشباب الذين سهروا على راحته وخدمته فترة مرضه بهدايا متواضعة كانت عنوان حب وشكر وتدير .. كما أهدي بعضا من كتبه لأحد الإخوة لتكون صدقة جارية عن روحه الطاهرة بعد وفاته رحمه الله .

الوضوح والشفافية

أيضا مما تميز به الشيخ رحمه الله الوضوح التام والشفافية في التعاطي مع الآخرين فكان وجه ينطق بما يجول في خلده .. ونظرات عينيه تنبئك بما يجيش في صدره فلا يعرف مراوغة ولا خداعا .... بل الصراحة والوضوح ديدنه .. وإن عجز المرء عن التفرس في وجه الشيخ لمعرفة ما في نفسه فسرعان ما يسعفه رحمه الله بالإفصاح والتوضيح ما الذي في قلبه . سرعان ما تراه على لسانه ..

الإتقان في كل شئ

كانت حياته تطبيقا عمليا لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم

" إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه "

هذا الحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : فيه مصعب بن ثابت وثقة ابن حبان وضعفه جماعة .

فمن عمله البسيط أيام الشباب إلى عمله الدعوي لاحقا كنت تجد الإتقان ديدنه مهما كان الأمر بسيطا أو خطيرا .. بل إن الشيخ عاش الإتقان في كل جوانب حياته كان يحب لأثاث بيته أن يكون متألقا بثوبه الأبيض النظيف وعمامته الصغيرة المتقنة وإذا ما سألناه عن سر أناقته وإتقانه في اختيار هندامه , تمثل بسيدنا الإمام مالك رحمه الله ورضي عنه إذ كان يتخذ لنفسه أجود الثياب دون إسراف أو تبذير .

وكذلك كان الشيخ في علاقاته الاجتماعية يحب أن تكون صلاته بالآخرين على أفضل ما يكون .

أما من الناحية الثقافية والعملية فحدث ولا حرج .. إتقان في حفظ القرآن وإتقان في حفظ عشرات الأحاديث والأذكار والأخبار واللطائف والملح فضلا عن الشعر والحكم.... نعم هو الإتقان في كل شئ ديدن الشيخ وهاجسه ..

كل هذه الخصال توحي للقارئ أن الشيخ اللطيف الوديع المحب كان كذلك على الدوام وهذا خطأ فالوجه الآخر للشيخ محرم يبرز من خلال وقفاته في وجه كل شواذ أو مخالفة أو ظلم أو قهر هناك تبرز الجرأة المتناهية والصلابة الأسطورية أمام المحققين زمن الاعتقال وفي الزنازين الانفرادية وتحت التعذيب .. أيضا داخل المخيمات زمن الحصار هناك ظهر الشيخ الصامد الصابر المجاهد الذي صيره الإيمان جلمود صخر تتحطم عليه كل الأنواء والأمواج دون أن تفت من عزيمته .

ولجرأة الشيخ العجيبة حكايات وحكايات ففي أحلك الظروف كنت تجده رابط الجأش مقداما لا يهاب ولا يخشي في الله لومة . قال أحد رفاق الدرب من إخوان الشيخ :" لقد كانت جرأته المتناهية تشعرنا بالصغر أمام عظمته وبالإحراج أمام إقدامه ".

ومن أخبار جرأة الشيخ الكثيرة , أنه كان يسير في الطريق – زمن الاحتلال – وإذ باليهود يوقفونه ويقتادونه للتحقيق وهنالك أمام المحق ثار الشيخ وتوعد وهدد وقال : إن مثله يعتبر رمزا دينيا ولا يصح أن يقاد كالمجرمين ..

وأمام هذه الثورة والصلابة اعتذر المحقق وأطلق الشيخ ولأجل عدم الوقوع في مثل هذا الأمر ثانية أرسل المحقق إلى بيت الشيخ رسالة خطية يدعوه فيها للمثول للتحقيق ثانية .. فما كان من الشيخ إلا أن قال لحامل الرسالة :" يلي بدو ياني يجي لعندي".

نعم لقد أبت عليه نفسه الكريمة أن يمثل للتحقيق حتى ولو كان الاستدعاء بهذا الأسلوب المؤدب ..

وفي احدي المرات مثل الشيخ محرم أمام المحقق الصهيوني الذي راح يسأل الشيخ عن اسمه وجنسيته وطبيعة عمله .... وكان الشيخ يجيب عن كل الأسئلة وبالمقابل سأل الشيخ المحقق عن اسمه .. لكن المحقق تجاهل السؤال ولم يجب وتابع توجيه الأسئلة إلى الشيخ .. وهنا أعرض الشيخ الإجابة على الأسئلة وراح يقرأ القرآن متجاهلا وجود المحقق أمامه وتملك الغيظ من المحقق وصرخ في وجه الشيخ قائلا : ألا تسمع ؟؟

فقطع الشيخ تلاوته وأجاب المحقق قائلا بلي أسمع وسمعي بحمد الله جيد قال المحقق : لماذا لم تجب إذا؟

قال الشيخ بجرأة متناهية : إنك حين سألتني عن اسمي أجبتك ولكنك تجاهلتني حين سألتك عن اسمك ولم تجبني .. وهذه قلة أدب منك , وأنا لا أرضي لنفسي أن أكلم قليلي الأدب .. لذلك أعرضت عن إجابتك بعدها فيالها من جرأة عجيبة تحلي بها الشيخ رحمه الله .

الداعية الرباني

إذا كان هذا هو حال الشيخ مع الخلق .. فكيف تراه يكون حاله مع الخالق سبحانه وتعالي .. الأصل أن تكون الصالحات بين الإنسان وخالقه كي لا ينفذ الشيطان إلى قلب المرء ويحيل صالحاته إلى رياء وسمعة لذلك لا نعرف الكثير عن عبادة العباد اللهم ما صرحوا به – من باب الحث التشجيع للآخرين على الاقتداء بنهجهم أو من باب العمل بقوله تعالي :( وأما بنعمة ربك فحدث ) ( الضحي : 11)

وقد تحدث الشيخ في بعض رسائله إلى زوجه عن عبادته فذكر أنه كان يختم القرآن في ثلاثة أيام وأحيانا في يومين أعلن في رسالة كتبها في 15/4/1984 – أى بعد قضائه 109 أيام في الاعتقال – أنه قد ختم القرآن 31 مرة من حفظه غيبا عن ظهر قلب .. وحين وصلته بعض الحوائج من زوجه ومعها التطمينات بأن الجميع بخير صفق قلب الشيخ فرحا ورضا وسرورا ومضي في درب الشاكرين فجلس بعد أن تطهر وانكب على تلاوة القرآن حتى ختمه في يوم واحد حمدا وشكرا لله تعالي .

أما عن قيام الليل فحدث ولا حرج فقد كان وعلى يقين أن قيام الليل هو السبيل لتبديد وحشة السجن ففي النهار تراه ينعم بمؤانسة إخوانه لكن في الليل حيث الجميع ينام ولا أنيس ولا جليس كان الشيخ يستأنس بالله تعالي متعبدا متهجدا يطيل القراءة في الصلاة حتى أنه أحيانا كان يقرأ سورة البقرة – على طولها – في ركعتين اثنتين .. ويحكي لنا الشيخ في رسالة من رسائله كيف قام في احدي الليالي من فرشه , وكان المعسكر ساكنا كأنه خلي من الناس فاغتسل وقام لصلاة الليل وطالت صلاته حتى إذا ما انتهي منها جلس يناجي الله تعالي فخشع قلبه ودمعت عينه وإذ به تأخذه غفوة فيري نفسه والنبي صلي الله عليه وسلم عنده فجاءه وناداه باسمه :" محرم" فتقدم الشيخ من النبي مطأطئ الرأس أدبا في حضرة النبي صلي الله عليه وسلم فمد النبي يده الشريفة إلى رأس الشيخ ورفعه إلي الأعلى وفي لحظتها هب الشيخ من نومه وعلى لسانه قوله تعالي ) ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) ( أل عمران : 139)

وكان الشيخ رحمه الله رجلا بكاء من خشيه فإذا ما شرع في الدعاء كنت تلحظ من نبرة صوته الحزينة مدي التأثر والخشوع ولا تعجب إذا ما لمحت دموع الخشية تلألأ على وجنتي الشيخ وحدثني الشيخ خليل الصيفي أنه شهد الشيخ محرم في فترة الثمانينات – عقب خروجه من المعتقل وقد تجمهر الناس حوله في سهرة من السهرات وهم يعظمونه ويثنون عليه ويبالغون فما كان منه إلا أنه استأذن وانسحب من المجلس وانزوي في مكان هادئ حيث لا يراه الجمع . وإذ بالشيخ خليل الصيفي يقترب منه ليراه دامع العينين فيقول الشيخ لأستاذه : أنا ما واجهت ولا جاهدت إلا طمعا برضي الله وليس لهذه المظاهر وهذه الأبهة ...هذا غيض من فيض وقليل من كثير من خصال الشيخ الحميدة التي ظهرت من خلال معاملته للخلق وتواضعه بين يدي الخالق ..

والحق أن كل هذه الصفات مجتمعة توجتها صفة المصداقية التي تحلي بها الشيخ محمد ..

نعم المصداقية .. فما أكثر الخطباء الذين يتكلمون عن التواضع والبعد عن الكبر وما أكثر الذين يزينون للناس الاجتهاد في العبادة وما أكثر الذين يغنون بأحاديث الجهاد والثبات فيوجه العدو .. ولكنك حين تراقب سيرهم تجدهم أبعد ما يكونوا عن التواضع في معاملتهم للآخرين , وإذا ما رصدت محاريب العبادة فيندر أن تراهم يطيلون الصلاة ويجتهدون في العبادة . أما حين البأس فإنك لن تري منهم نضالا ولا جهادا ولا ثباتا بئس الخطباء هم فكلامهم الذي يفتقر إلى المصداقية يجعلهم أبعد ما يكون عن قبول الناس وتسليمها زمام القيادة لهم .. أما الشيخ محرم الخطيب المفوه فكان يتوج كلامه ويتوج حياته بالمصداقية النابعة من الالتزام الشخصي بكل ما يقول قبل إلزام الآخرين ..كل ذلك جعل الشيخ مقبولا عند الناس فذاع صيته وعلا ذكره فرحمه الله تعالي .

إطلالة على قلب داعية محب

المسلم خير من عرف الحب وكيف لا والإسلام دين الحب .. فعلي الصعيد الإيماني ديننا يعلمنا حب الله ورسوله حيث جاء في الحديث : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " متفق عليه

وعلى الصعيد العام نجد أن حب المؤمنين هو شعار هذا الدين العظيم وقد جاء في الحديث : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " متفق عليه .

فإذا كان حب الله ورسوله وحب المسلمين عامة هو عنوان ديننا فإن الشيخ محرم رحمه الله أدرك معني هذا الحب السامي وعاش حياته محبا لأهله وزوجه وإخوانه .. ولو شئنا أن نفصل الحديث في هذا الجانب من حياة الشيخ لاحتجنا إلى صفحات وصفحات .. لكننا اقتصرنا على ثلاث صور مفعمة بالحب علها تكون إطلالة متواضعة على قلب الشيخ الداعية المفعم بالحب .

بين الشيخ وأمه

حب الأم واحترامها عند الآخرين فضيلة من الفضائل يحسن التحلي بها أما حب الأم وإكرامها عندنا نحن المسلمين فهو فرص فرضته التعاليم الإلهية قبل أن يكون فضيلة إنسانية والشيخ محرم عاش حياته محبا لوالدته وسعي جاهدا لإكرامها ولعل من أجمل المقاطع التي تضمنتها رسائله تلك التي يتحدث فيها عن أمه معربا عما يختلج في قلبه من مشاعر سامية تجاه هذه التي حضنت ورعت فاستحقت أن يكون رضاها سببا لرضي الله فلنقرأ ما كتبه الشيخ محرم زمن الاعتقال عن أمه :

"... كنت ود أن أقبل يدي أمي وأشنف أدني بسماء رضاها النابع من قلبها لكن قدر الله وما شاء فعل : زوجتي الحبيبة الرجاء أن تقبلي أمي نيابة عني وأن تكرميها حتى تكثر من الترضي علينا , والدعاء لنا وأن تعتذري لى منها إن كنت قد أخطأت يوما في حقها .. فرضاها على مدرارا لمرضات الله ومرضاة أسمي الغايات ..." 5/2/1985

هذا وقد تفجر حب الشيخ لأمه من خلال أنشودة خط قلمه معانيها النابعة من أعماق قلبه عنوانها : أماه يا حبي الكبير هاكم كلماتها :


أماه يا حبي الكبير

أماه يا حبي الكبير

أماه يا أزكي عبير

أماه هيمي وغردي

بنجلك الحر النذير

أماه قد أرضعتني

حب الجهاد والنفير

أماه لبيت النـــدا

طمعا برضوان الكبير

أماه لا لا تحزني

على فراقي والمصير

أماه إني زاحف

لأحرر القدس الأسير

أماه لا تغفلي

عن دعوة بها استنير

نصر الإله قادم

فترقبي وعد البصير

أماه إني مخلص

في حب هادينا المنير

وفي حب من وصي

بها محمد طه البشير

أماه أ،ت سعادتي

برضاك أنهم بالكثير

برضاك أحظي بالعلي

في ظل معطاء قدير

فيا لها من نعمة

فواحة أزكي عبير

بين الشيخ وزوجه

أم مع زوجه الكريمة فقد عاش الشيخ محرم أسمي معني الحب والوفاء الزوجي مستلهما معانيهما الرائعة من قوله تعالي :(.... وجعل بينكم مودة ورحمة ....) ( الروم : 21)

وإذا اطلع المرء على رسائل الشيخ لزوجه الكريمة وجد كلمات رسائله تنم عما في قلبه من حب عارم إذ لا تخلو رسالة من كلم " حبيبتي " أو قرة عيني " أو ط بهجة حياتي .." وبالمقابل نري الزوجة المحبة تبادل الشيخ المشاعر السامية عينها ...وهنا نترك الكلام للشيخ الراحل ليعلن لنا عن نوع الحب الذي استقرت معانيه في فؤاده .

يقول الشيخ في احدي رسائله الموجهة إلى زوجه :

".. يا حبي الكبير تحية حب وتقدير ووفاء .. بكل صدق وصراحة أقول لك إن الحب ينقسم إلى قسمين :

حب من أجل المال أو الجمال وما شابه ذلك وهذا هو الحب الزائل .. والثاني هو الحب الخالص لله وفي سبيله وهذا هو الحب الطاهر العفيف الباقي .

والحقيقة كل الحقيقة أقولها لك : هذا هو الحب الذي عرفته نحوك .. لذلك كلما مت الأيام والليالي ازداد حبي لك عمقا وصفاء, ونقاء , حتى أصبحت لا أطمع بشئ في هذه الحياة سوي نيل رضي الله م رؤيتك في هذه الحياة سعيدة مبتسمة تتقلبين في نعيم الله .. حبي الكبير .. سألني أحدهم مداعبا وملاطفا :" كم تريد من الحور العين في الجنة ؟ فقلت له بصدق وصراحة : " أنا لا أريد سوي مرافقة أم سعد الدين في الجنة وسوف أستغني بها عن الحور العين... فهي في نظري أجمل وأسمي منهن جميعا.."

ونجد الزوجة المؤمنة الوفية تبادل زوجها المحب المشاعر السامية ذاتها فتقول له في احدي رسائلها :

"... أيها الزوج المجاهد الصابر المحتسب .. يا من رضيت لنفسك آلام الاعتقال على ذل الاستكانة والخمول والعمالة .. أيها الطائر الشادي الذي تعرف صيدا تغريدك بالقرآن .. أيها الزوج الحنون عندما كنت بقربي كنت أعرف مدي حبي لك ولكن بعد هذا الفراق أقولها صراحة ... أنت أحب إلى من الدنيا ومن فيها .." بين الشيخ محرم والشهيد جمال حبال :

معلوم أن الشيخ محرم كان أستاذا ومربيا لتلك الثلة المؤمنة التي تحلفت حوله في مسجد بطاح وكانوا كلهم أعزاء على قلبه يحبهم حبا خالصا لله لا تشوبه أى شائبة دنيوية أو مصلحة شخصية ولقد كانت للشهيد جمال حبال معزة خاصة وكأن فراسة الشيخ توسمت في هذا الشاب ملامح البطولة والإقدام وهكذا مضت السنوات وإذ باليهود يزحفون بآلتهم العسكرية الجرارة فوق تراب وطننا الطاهر ليدنسوه برجس احتلالهم ولا يكون من التلميذ النجيب إلا أن ينتفض مع ثلة المجاهدين ليطلق العمليات البطولية التي وقعها باسم الجماعة الإسلامية قوات الفجر " ويمضي سائرا في درب الجهاد حتى ينال الشهادة ..

يقف الشيخ محرم أمام التلميذ الحبيب فيجده قد صار أستاذا في البطولة والجهاد يتشرف المرء بالجلوس بين يديه ليتعلم منه حب الشهادة في سبيل الله ..وفي يوم من الأيام وبينما الشيخ في سجنه إذا بالذكريات تثور في مخيلته فتتحرك مشاعره الجياشة التي تسارع إلى ترجمتها من خلال أنشودة تسجل حبه واحترامه للتلميذ النجيب الشهيد القائد جمال حبال .

جمال فجر الثورة

جمال فجر الثورة

جمال جاهد الكفر

جمال كبر المولي

فنال العز والنصر

جمال شع إيمانا

جمال أزهر الزهرة

جمال عانق الشرف

شريف شرف البشر

جمال قمة الأدب

مع الإخوان والبررة

فدي الأوطان محتسبا

فأعطي الروح والعمر

جمال هب مشتاقا

فباع الدنيا بالأخرى

جمال سرع الخطو

فنال النعمة الكبرى

أخا الإسلام لا تحيا

ذليلا خائنا بطرا

وطلقها بلا خوف

تري التكريم والظفر

أخا الإسلام من للدين

ومن لأرضنا الحرة

فغير السيف لا يجدي

به نستأصل الغدر

أخا الإسلام لا ترهب

عدوا ظالما أشرا

توسط ساحة الحرب

تري المنفوخ مندحر

أخا الإسلام كن بطلا

كما الحبال والزهرة

وجاهدا لا تهم أبدا

تري العدوان منكسرا

بعض ما قيل من قصائد الرثاء في الشهيد محرم

قصيدة الشيخ محمود الجشي:

من الشيخ محمود الجشي إلى فقيد العلم والجهاد المغفور له محرم عارفي

بسم الله الرحمن الرحيم

الله باق والوري لفناء
كيف الممات لسائر الأحياء

كل يسير غلى التراب وإنما

يبقي الإله مقلب الأناء

في قبضة الله الوجود جميعه

يجري الأمور بحكمه وقضاء

وله المشيئة في الخلائق حكمها

جار على العظماء والحقراء

ما أنت يا دنيا سوي حلم حلت

في الأماني ساعة الإغفاء

فإذا أفاق المرء من إغفائه

كنت السراب يلوح في البيداء

لو لكنت تمنع يا محرم بالفدا

لوجدت عند الموت كل فداء

ماذا أقول من الرثاء يا صاحبي

والموت يخرس ألسن الشعراء

لو يملك المخزون غير دموعه

صاغ الرثاء اليوم كالخنساء

أيها الراحل الكريم تركتنا فآلمتنا وغادرتنا فأوحشتنا هجرت دنيانا وأنت تنتظر اليوم الموعود للعودة إلى فلسطين وزوال إسرائيل

سلام عليك حيا وميتا وسبحانك ربنا إليك تبنا وإليك المصير وإنا لله وإنا إليه راجعون

قصيدة لفضيلة الدكتور محمد صيام ( خطيب المسجد الأقصى سابقا )

ستظل تذكرك القلوب

ستظل تذكرك القلوب وأنت رأس في القلوب

يا عارفا بالله أوابا وتشعق من يؤوب

وتجد سيرك في سبيل الله علام الغيوب

وتحب من سلك لرب الغزو مختلف الدروب

لا تنحني لهم جباه أو يمسهم لغوب

كالطود في وجه الخطوب وإن تتابعت الخطوب

وومضيت عنهم والرياح الهوج توشك بالهبوب

لكن نهجك مستمر لا فتور ولا نضوب

ومجاهدنا يذكرونك ما تعاظمت الكروب

وكذلك تذكرك المحافل في الشرق والغروب

والعلم والعرفان والإحسان في الشروق والغروب

والعلم والعرفان والإحسان والعمل الدؤوب

ومعارك التحرير في صيدا وفي أرض الجنوب

لله أنت محرم كم كنت كالأسد الغضوب

تحيي لنا الآمال وهي تكاد تذبل أو تذوب

وتعيد للحق النضارة حين يغشاه الشحوب

وتريد منا أهل القضية أن يكون في الحروب

مثل الضراغم ليس يعرفن التقهقر والهروب

ولذا ستذكرك القضية أيها البطل المهيب

والقدس والأقصي وكل مرابع الوطن السليب

إذا كنت تنكث كل لص أو دخيل أو غريب

وعلى الغزاة كأنك البركان يقذف باللهيب

كنت المحرك في المسيرة كي تهبب وتستجيب

لم تخش نومة لائم أو غدر خوان مريب

فلقد غزوت قلوب كل الناس شبان وشيب

وتركتنا لله أنت وغبت في الزمن العصيب

ومن العجائب أن نظل فداك نحن وإن تعيب

وعلى الخص ونحن والأيام في زمن كثيب

زمن الجوارح والنعيق المتسمر أو النعيب

زمن الوحوش وهن ينهشن البعيد أو القرب

فهناك في الشيشان مجزرة وتدمير رهيب

وهنا الجنوب سهام أعداء البلاد له تصيب

وهناك في القدس المؤامرة الوليد لها يشيب

والمسجد الأقصي يئن ويستغيث ولا مجيب

فالمسلمون مفرقون وحالهم حال عجيب

وبنو العروبة مالهم إلا التأوة والنحيب

وشموسهم بعد الضياء تكاد تأذن بالمغيب

يا ربنا فالطف بنا فيما جري القدر المصيب

فمن استجارك لن يضل ولن يذل ولن يخيب

عجل بنصرك يا إله فأنت أكرم من يجيب

وفقيدنا اسكنه فيا لجنات والنزل الرحيب

حيث الرضا والعفو والعيش الرغيب

وعزاؤنا للأهل كلهم وكل أخ حبيب

قصيدة للأستاذ ياسر على

يوم غياب الشيخ

الصمت أجدي فالمصيبة تؤلم

إذ لا لسان لى هنا بل لا فم

ما دق قلبي بل تقطر حرقة

ما سال من عيني دمع بل دم

فسألت قلبي ما به فأجابني

اليوم غاب العارفي محرم

رمضان جاء فغاب صوتك أين هو

رمضان غاب فأين أنت تنعم

رمضان هذا العام جاءك باكيا

فبكاك فيه الصائمون القوم

سيف الحناجر والمنابر قد مضيت

وقد مصي في العيد معك المغنم

فتري المساجد والمآذن نوحها

يبكي الذي بالأمس كان يعلم

ومنابر الجمع استغاثت أهلها

أتري بفقدك سيدي سنيتم

فبصوت من نحيا وقد غادرتنا

نبكي وقد كنا به نترنم

واحر قلبي حين يندب منبر

حتى يكاد من التلوع يلطم

واحر دمعي حين يبكي مسجد

حتي تكاد حجارة تتهدم

واحر محرابا توجد شاكيا

رباه أين العابد المستلهم

في المسجد البطاح في صيدا القديمة منبر

يبكي النوي يتألم

منه الأذان الحر نادي للصلاة

فأين بات إمامها المتقدم

راموا اعتاقلك حيا يومها

واليوم تحملك القلوب فتثلم

عرفتك صيدا لليهود مناهضا

وتصول له صولات بها وتقاوم

وجمال حبال السلاح رصاصه

وسلاحك الأقوى بما تتكلم

فرأيت حبالا يبريمنه بسلاحه

والروح إذ يتقدم

تخشي العدو وقد عصمت من الأذى

والله خير الحافظين العاصم

إن كنت امدح شيخنا فلأنني

لا يستقيم لى ارثاء وينظم

إذ ليس تشييع الحبيب جنازة

بل ليس يجمع في هواه المأتم

بل فليكن هذا اللقاء حية

ليضاء بالآهات ليل مظلم

حيوا الذي قد عاش عزه روحه

يأوي لجسم لا يكاد يجسم

لكن هامات الرجال مقاسها

من يوم ذل قاهر تتعاظم

من كان يحي في الليالي قائما

والقاعدون عن الهداية نوم

لا لست أبكي فقده لكنني

بخفوت صوت دامع أترحم

إذ كيف أبكي في غياب مجاهد

إن غاب تحتفل السماء وتبسم

هو مدفع طلقات كلماته

هو سيف حق إن أتي يتكلم

هو كلمة هو فكرة هو ندوة

هو مهرجان للوغى ومخيم

ما كان يفخر بالمواهب كلها

إلا بعزة قوله : أنا مسلم

فادعوا الإله وكبروه وهللوا

صلوا على الهادي الشفيع وسلموا

وإلى الفقيد محرم سوقوا الغمام

بدعوة القلب الصفي ترحموا

قصيدة فضيلة الشيخ عبد اللطيف الرواس

يا حافظ القرآن

في حومة الدهر والأقدار معترك

يطوي الرجال وليست تنطوي الفكر

يمضي الفحول ويبقي النهج مرتسما

دربا من النور في خطواته العبر

آمنت بالموت حقا لا مرد له

آمنت بالله قهارا ويقتدر

يستنزع العلم بالعلماء يقبضهم

قبض المحب ويبقي الجهل والغرر

وعلمت من سنة المختار يرشدنا

إن المحب على البلواء يصطبر

فشكوت لله من بثي ومن حزني

نارا تأجج في الأحشاء تستعر

قد كان فقدك يا شيخي لقاصمة ذوت

الضلوع وكان القلب ينفطر

قد بات ذكرك بالتقوى يذكرنا

فلذاك سلواك ذنب ليس يغتفر

في عزمة الغيب والأيام جئت لنا

كما قدر الله للأمطار تنهمر

قد جئت صيداء والهوجاء من فكر

تغوي العقول فما تبقي وما تذر

فكنت بالحق صاعقة مجلجلة

تخزي اللئام ومن بالحق قد غدروا

وكنت كالبلسم الشافي لمن طلبوا

طب الإله ومن زل ومن عثروا

أشعلت في وجه أبناء القرود لظي

وما جزعت لما عاثوا وما فجروا

صيرت أنصار بركانا وجامعة

تبني رجالا بهم صيداء تفتخر

أوقدت في الفتيان حب شهادة

خطبوا الجنان وبالأرواح قد مهروا

أرسلتها صرخة في وجه من هربوا

يوم اللقاء ومن لذمامهم خفروا

لا عز للمرء مهما طال سؤدده

إن زل في محنة أو شابه خور

نعم المعلم بالحسني يرشدنا

من طيب قلبك بالتحنان يعتمر

كم مرة جدت لى بالنصح من درر

أعلم أخي فهذي الآي السور

كنز لمن يطلب الأخرى وجنتها

وهي المعين لمن للعلم قد سبروا

هذي ثمارك في الأجيال قد نبتت

هذي المساجد بالأفواج تعتمر

لو انطق الله منبره لقال لنا

قد كان شيخي للرحمن ينتصر

أنشأت للصبر نبراسا ومدرسة

تلوي الشدائد لا تلوي إذا انكسروا

في الفقر عشت ومرت كل ضائقة

تستصغر الخطب الأهلون ما شعروا

من عفة لنفس تكسو كل ذي كرم

ثوب المهابة لا كبر ولا بطر

سبع شداد من الأعوام قد مرت

تغالب الضيم والأدواء تنتشر

لا زلت تدعو إلى الرحمن مبتسما

والناس حولك بالدعوات قد جأروا

إن العظام إذا ما استجمعوا همما

سود النوازل في ميزانهم غبر

يا حافظ القرآن تستغني به شرفا

عن المديح فذاك الفوز والظفر

يا حافظ القرآن فلتعلوا به رتبا

نعم المقام ونعم الصحب يفتخر

يا حفاظ القرآن فلتأنس به نورا

في وحشة حيث لا جن ولا بشر

من ذا يعد محامد شيخنا اجتمعت

من ذا يعد جمال البحر ينتثر

قد أعجز الشيخ من أحصي فضائله

كم أعجز الكيل في مكياله النهر

هل نندب الشيخ بل نرثي لأنفسنا

لما رحلت ودمع العين يعتصر

تبكي المساجد إذ فارقتنا عجلا

إنا لروحك في الأزمات نفتقر

سحائب الخلد تسقي وروضة حضنت

زين الشئ فطاب الحجر والحجر

قصيدة من الشعر العامي للسيد محمد قادربة:

يا قلبي لا تجزع ضل صابر
المنية مرصد لكل عابر

ويا رب بخفاياك اللطيفة

تبقي بخاطر المسكين جابر

وأرسل على الكفار هزة عنيفة

اقطع منهم كل دابر

ويا عين ادمعي دمعة كثيفة

عفقد الشيخ سليل الأكابر

بموتوا استوحش الجامع وآيات الصحيفة

واستبشروا الأموات سكان المقابر

يا شيخ محرم يا بو النفس العفيفة

الزهد عيشه مثل من القوابر

بالعزم تسلح والأسنة الرهيفة

يوم مكان العدو فاعوا مضابر

تقدم تحت القنابل والقذيفة

أعادوا الدين صاروا غوابر

وبالمعتقل والسجون المخيفة

نورك سري وملا العنابر

يا بو عاصم استفقدتك مكة الشريفة

والمدينة تسائل الحجاج وتخابر

خمسين عام يمضوا خطيفة

سبحانوا يرفع الأقلام ويجف المحبر

ويا رب تقبل عبدك بجنة منيفة

وأقبل عزانا وصبرنا وآجرنا
بموت الشيخ سلطان المنابر

خاتمة المطاف

توفى الشيخ محرم وتقبل التعازي في دائرة الأوقاف.