الشيخ طنطاوي جوهري دراسة ونصوص

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١١:٠٠، ٢٩ مايو ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات) (←‏6-القرآن والعلوم)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الشيخ طنطاوي جوهري دراسة ونصوص

بقلم: د. عبد العزيز جادو

مدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول إديسون: ليس في هذا الوجود من نحني له الرأس إجلالا عن حب وتقدير إلا صناع الزاد للإنسانية... وحينما اعترض صديقه فورد قائلا: إذن فأنت تفضل رجال الحقول على عال المصانع ضحك إديسون قائلا: ليس أعني هؤلاء، إنما أقصد زاد الأرواح، أقصد رسل الفكر من رجال الحقول على عمال المصانع ضحك إديسون قائلا: أعني هؤلاء إنما أقصد زاد الأرواح أقصد رسل الفكر من رجال الفلسفة والدين والأدب والفكر.

وهذا حق، لأن رجال الفكر إنما هم تتمة للموكب الخالد، موكب الرسالات السماوية التي احتضنت الروح الإنساني وربته وهذبته، وأخذت بيده إلى المعاني العليا، والمثالية التي تسمو بالحياة، لتكون جديرة بعالم يصدر عن الله.

وليس من شك في أن الفيلسوف الحكيم الشيخ طنطاوي جوهري في مقدمة هؤلاء الأعلام من رجال الفكر العصريين الذين لا يزال إلى اليوم نذكرهم بكل إجلال وبكل تبجيل وإكبار، وسنبقي ويبقى أولادنا وحفدتنا وحفدة أولادنا متأثرين بمحاولاته الإصلاحية في الأدب والدين وبتعاليمه التقدمية سواء ذلك في جمهورية مصر العربية وطنه العزيز وفي العالم الإسلامي الذي كان فيه خير مصلح ديني أم في الشرق كله حيث كان يمد بصره وبصيرته في جوانبه فيفزع لهزيمة وتأخره وتخلفه عن الغرب فيحاول أن ينفخ فيه روحا فتية عساه أن يستعيد مجده، ويسترد سلطانه وجلاله.

وقد اختلف الناس في الحكم على الشيخ طنطاوى والنظر إلى عمله وجهاده ولهم العذر كل العذر في أن يختلفوا فالآراء مع تباينها والأنظار مع تخالفها وتفاوتها في الدرجات مجمعة على أن شيخنا الجليل بطل من أبطال الإسلام وفيلسوف من فلاسفة الشرق وحكيم من حكماء العصر، إلا أنه اختلف في مرتبته بين الحكماء:

هل هو حكيم اجتماعي ينظر في شئون الأمة كما تجلي ذلك في كتابة (نهضة الأمة وحياتها) وكتابه (أين الإنسان؟) أو هو حكيم طبيعي لاهوتي يبحث عن الروح وخلودها وحالها بعد خروجها من أسر المادة والمادة وعن المادة وعجائبها وغرائبها.

كما تجلى ذلك في كتبه (جواهر العلوم) و (الأرواح) و (النظام والإسلام) أو هو فيلسوف طبيعي يبحث عن المادة والصورة والهيولي والاسطقسات وما يتركب منها من الأجسام النامية وغير النامية ونواميس الكون والفساد السارية في العالم السفلي الذي هو تحت فلك القمر كما ظهر ذلك في كتابه نظام العالم والأمم؟.

ذهب كل فريق مذهبا وأيده بما تجلى لناظره، وذكر آخرون أنه حكيم إسلامي يفسر القرآن على حسب العصر والزمان كما بان ذلك منه تفسيره للقرآن وكما نطق به كتاب التاج المرصع، علاوة على ما جاء بتفسيره الكبير الجواهر.

ذلك خلاصة ما يختلفون فيه، ولعمر الحق إن سير الأبطال زينة المجالس وتشعب الأفكار في حقيقتهم إنما هو أمر طبيعي يأسر القلوب ويطرب الأرواح ويشدها إليهم.

كان الشيخ طنطاوى قدم راسخة في العلم والتأليف التصنيف في الفكر والحكمة والفلسفة ولكم صادفت آثاره هوى في النفوس الحية التي سئمت الجمود، وحنت إلى الحقائق فطرت وسكرت بما بدا لها من نير علمه ورائع مباحثه.

ألا إنما هي الحكمة ذات الجمال التي يرتاح لها البال، وتأسر عشاق العظمة والجلال..

ولقد كان الشيخ طنطاوى نورا يرشد ويقود إلى الفكرة الإسلامية وإلى الوصول إلى الحقيقة عن طريق النظر إلى مخلوقات الله، والتدبر في صنعه والتفكر في آلائه ونعمه على العالمين.

وكان له أثر بالغ في تطوير العلوم وفي إصلاح القوانين وفي التقويم الخلقي وبث الفكر السديد، والرأي الرشيد ومحاربة البدع والضلالات.

فإذا ذكرنا النهضة الحديثة، فهو علم شامخ من أعلامها الخفاقة، وأقلامها الفاتحة، وعقولها المفكرة... وإذا ذكرنا الحركة الإصلاحية في المعاهد الدينية ودور التعليم، فهو واضع أساسها وفاتح بابها ومرسى لبنها..

وهو فيلسوف من فلاسفة القرني العشريني ومصلح ديني مجدد تقدمي وكاتب مجيد مبدع، ومجادل مقنع قوي الاعتماد على الله قليل الحرص على الدنيا...

وضع للإصلاح وللمدنية كتبا ونماذج، وللسير في طلب الحكمة قوانين، فإن ذكرت أعماله فليس لتخليد ذكره، لأن ذكره خالد بآثاره وإنما ليكون درسا ونبراسا لمن شاء أن يستقيم، وهدى للمهتدين وصراطا مستقيما للذين تحن أرواحهم إلى العلوم ويميلون إلى السمو تشرئب أعناقهم ونفوسهم إلى المعالي والتقدم إلى مصاف عظماء الرجال والأمم.

ويسعدني أن أقدم بين يدي القارئ الكريم هذه الدراسة عن هذا الرائد الكبير الشيخ طنطاوي جوهري لعلها تنفع الباحثين من بعدنا... ولعلها أن تسد فراغا ولعلي أكون قد وفيت الأستاذ حقه علينا لدى أبناء هذا الجيل...

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

د. عبد العزيز جادو

الباب الأول الدراسة

الفصل الأول: الشيخ طنطاوي في مراحل حياته

مولده ونشأته الأولى

نشأ الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري في قرية كفر عوض الله حجازي من أعمال مديرية الشرقية بالقرب من الآثار الفرعونية في بوباستس جنوب شرق الزقازيق وعوض الله حجازي هو جد الشيخ طنطاوى لأمة، وقد ولد في هذه القرية في سنة 1862م، واشتغل في مبدأ أمره بالزراعة مع أسرته التي كان لها اتصال حميد بعلماء الجامع الأزهر يفدون كل عام على سراة الأسرة وأكابر بلدة الغار التي فيها أسرة أخوال والدته، فأثر ذلك كله في والده، فأرسله إلى كتاب القرية ليحفظ فيه القرآن وكانت له جدة في تلك البلدة أسرة عريقة لها نفوذ وسلطة تسمى أسرة الغنائمة، وكانت جدته هذه تعني بع عناية خاصة، ذلك لأنها كانت تحبه حبا جما ولا تطيق فراقه لحظة واحدة.

ولما أتم القرآن في الكتاب بدأ يشعر بغرام للعلم وولع للدرس شديد، وشاقه الوجد والهيام، وزاد به الولع والغرام وهو في سن الثالثة عشرة من عمره ولا سيما ما كان يراه من اشتغال أولاد عمه بالعلم والحضور بالجامع الأزهر.

أما والد الشيخ طنطاوى فهو الشيخ طنطاوى الزارع بقرية كفر عوض الله حجازي، والذي كان يشوقه دائما أن يكون له ابن يضارع أولئك الذين يجوبون البلاد، وينزلون ضيوفا مكرمين على المصاطب وفي المناظر والمضائف، والذي توقد لهم الشموع وتزين لهم المجالس والذين يرتل لهم القرآن وتقبل أيديهم ويتبرك بآثارهم وألئك الذين تخضع لهم القلوب، وتهش لهم النفوس من علماء الأزهر مثل الشيخ الأشموني والشيخ العشماوي والجوري وغيرهم.

كانت أولئك العلماء يجوسون خلال تلك القرى بين الفنية والفينة كان الشيخ جوهري يترنم بذكرهم، ويسارع إلى مجالسهم ويهفو إلى سماع أحاديثهم:

ولوجود تلك الخلال في الشيخ طنطاوى استجاب لثورة أخيه الشيخ محمد شلبي وكان أبناؤه أضرموا نار الشوق في قلب ابن عمهم لطلب العلم وكان الشيخ محمد شلبي عم الشيخ طنطاوى رجلا صالحا تقيا محبا للعلم والعلماء مغرما بمجالسهم وهو الذي أشار على أخيه الشيخ طنطاوى بإرسال ابنه إلى الأزهر ليتعلم الفصاحة والبلاغة وعلوم الدين فشاقه وأيم الحق أن يكون له ولد على مثال أولئك العلماء الكبار الذين ملكوا في القلوب بعلمهم ونزلوا أحسن المنازل لدى رجال الأمة.

وخشي أن يلحق ابنه الأسف كما كان هو يتأسف ويندم على ماضي من أيامه السالفة ذلك لأن أرسل في صغره إلى كتاب القرية فبقي فيه ثلاثة أيام، ثم ضربه الفقيه العريف فهرب ولم يعقب، ولذا كان دائما يقول: لم أحظ بالعلم فلينله ولدي.

لذلك أصغى لقول أخيه الشيخ محمد شلبي الذي كان له الكلمة المسموعة في بلدته، وعلى ذلك أرسل الشيخ طنطاوى ابنه طنطاوي مع أولاد أخيه للجامع الأزهر.

وقد حكي الشيخ طنطاوى أنه جلس مرة مع ابن عمه الصغير وسأله كيف تتعلمون النحو؟

فقال مثل قولهم: طحنت الرحى الدقيق فطحن فعل ماضي والرحى فاعل والدقيق مفعول به فقال له الشيخ طنطاوى: هذا كلام صحيح وسهل، ثم أخذ أجرومية ابن أجروم، وبدأ يقرؤها فألفاها أثقل من رضوى.

بين الحقل والأزهر

دخل الشيخ طنطاوى الجامع الأزهر وكان ذلك في عام 1877- والشوق يدفعه إلى العلم، والرغبة تستحثه إلى الدأب وراء العلم والمعارف وفهم الدروس ولقد ظهر ذكاؤه الحاد بالرغم من كثرة الحواشي والمتون، وبالرغم من الأساليب التربوية المتبعة وقت ذاك وطرق التعليم العقيمة التي كانت قائمة في هذا الجامع العريق فقد كانت له مكانته المرموقة في قرى مصر وكان اسمه وحده وشهرته على كل لسان وكان منارة العلم في هذا العهد.

وبعد سنوات قضاها طنطاوى في الأزهر درس فيها اللغة العربية والفقه الإسلامي ومذهب الإمام الشافعي والعلوم الأخرى في نحو وتوحيد وعروض وبلاغة إلخ.

وقعت الواقعة بنزول البلاد فسلب الزمان ضعف ما وهب فقد مرض الشيخ طنطاوى مرضا شديدا اضطره إلى الانقطاع عن الأزهر والتوقف عن الدراسة فيه وعاد إلى أسرته ف القرية حث وجد أباه أيضا يعاني من المرض واضطر إلى البقاء مع أسرته الفقيرة لمساعدتها بالرغم من مرضه، وأخذ يعمل مع الفلاحين في الحقول بنفسه، ويداوي مرضه بالعقاقير التي كان يقرأ عنها في كتاب الطب القديمة ويداوي كذلك والده.

وفي أثناء مزاولة الشيخ طنطاوى عمله في الزراعة واشتغاله بالفلاحة اكتسب نزعة جديدة أتجه فيها إلى البحث عن وجود الله فقد تجلت له الطبيعة بأجلي مظاهرها، وانفتحت لبصيرته أبواب العلوم، هنالك أخذ ينظر إلى الأشجار والأزهار والحقول من حيث منافعها الطبية لمرضه الذي ألم به وبوالده، ومن حيث دلالتها على المبدع الخالق ولم يقتنع بالأدلة التي أثبتت وجود الله في الكون فعكف على الصلاة وقراءة تفسير الجلالين وفي النهاية بفضل الراحة التي أحسها بين أحضان الطبيعة وبفضل صلواته وتأمله الخاشع زالت أزمته النفسية.

ولقد كان الشيخ طنطاوى يتمتع بخيال الشعراء ومواهبهم، ولم يطغ على استعداده للشعر إلا استعداده العلمي للنظريات الكونية، ولقد حدثنا بحبه للطبيعة فقال: لما كنت في الأزهر كنت أحس بميلي الشديد إلى الكواكب والنجوم، وكم ليلة قضيتها أحلق فيها معطبا بجمالها وأحسست في نفسي بحزن عميق لجهلي بهذه الأكوان... إلخ...

ولما كان بالقرية فتح عينيه ونظر إلى ما حوله، ولم يكن يحلو له مناجاة الطبيعة إلا على شاطئ قناة أبو الأخضر بجوار قريته.

وكان ي نظره إلى جمال الكون وبهجة الطبيعة يدعو الله أن يشفي له والده، ويعيد إليه صحته، ويعيده هو إلى الجامع الأزهر، واستجاب الله دعوته وعاد إلى الأزهر ثانية بعد ثلاث سنوات قضاها في قريته عشق فيها الطبيعة وجمالها.

وكان سميرة في فترة الانقطاع عن الأزهر عمه الشيخ محمد شلبي الذي أخذ يطالع معه الحديث الشريف في الجامع الصغير هناك، وأظهر عمه فرحه وسروره من ابن أخيه، وقال في نفسه: مالي أسمع من ابن أخي مالا أسمعه من أساتذة العلماء؟

وخاطبه قائلا: يا بن أخي، ستقصى قصصي معك في المستقبل حين يظهر أمرك.

ومكث في الأزهر أربع سنوات وطد فيها أواصر الصلة بينه وبين أستاذه الشيخ علي البولاقي أستاذ الخطابة الذي وجد عند الشيخ طنطاوى رغبة ملحة في تعلم الفلك فأعاره كتابا كان يقتنيه خاصا بهذا العلم ليقرأه في أثناء إجازة نصف السنة، وينقل أو يحفظ منه ما يشاء ثم يعيده له ثانية ووجد الشيخ طنطاوى في هذا الكتاب بغيته من أسماء الكواكب والمعلومات الفلكية الطريفة وكانت سعادته لا توصف إذ هيأ الله له الحصول على هذا الكتاب القيم.

في دار العلوم

كان الشيخ طنطاوى كزملائه في الدراسة بالأزهر يعيش في حرية محددة بما يدرسونه وكانت دروسه حيث ذاك مقصورة على قشور من علم الفقه واللغة يتلقاها الطالب عن أستاذه ويعول في تحصيلها على قوة الذاكرة، هذا إلى عبارات سقيمة في شروح وحواش حرمت قارئها قراءة هذا الكتاب المفتوح وهو العالم.

ولعل ما عاناه الشيخ طنطاوى في الأزهر حيث كان التعلم والتعليم كلاهما فوضى لا رقابة عليهما من أحد هو الذي دعاه بعد ذلك حيث وضع كتابه نهضة الأمة وحياتها إلى أن يتحدث عن محور نظام الأزهر ويضع له دستورا لإصلاحه.

وانتقل إلى مدرسة دار العلوم حيث التحق بها عام 1889 وظل يدرس بها حتى تخرج منها عام 1893 مع ثمانية من زملائه لعل أبرزهم سواه المرحومان أحمد زناتي بك وعبد الرزاق القاضي بك وهناك درس مبادئ المواد الحديثة التي لم تكن مقررة في الدراسات الأزهرية:

كالحساب والهندسة والجبر والفلك وعلم النبات والطبيعة والكيمياء ودرس فقه الحنفي على الأستاذ الشيخ حسونة النواوي ترشيحا للقضاء.

وقد عرفه إخوانه وأقرانه بميله الشديد إلى جمال الطبيعة والنظر إلى الكون والغرام لسماع الأطيار والنظر إلى الأشجار والأزهار وشاهدوا منه عشقا مفرطا للرياضيات والطبيعيات وكانوا يقولون له: كيف تحب مالا فائدة منه؟ فكان يجاوبهم:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

وكانت درجاته في علم الفلك والعلوم الرياضية والطبيعة والعربية عالية جدا.

وقد تحدث الشيخ طنطاوى عن دار والعلوم كما يتحدث السجين يوم توهب له الحرية، وقد قرأنا في تفسيره عن هذه الفترة التي قضاها في دار العلوم فذكر لنا اسم أحمد أفندي حمدي أستاذ الرياضة الذي درس له مبادئ الفلك كما ذكر أنه أحس في دار العلوم بأنه بين أهله وكما لو كان في الحقول بين ذوي قرابته.

وكان جل قصده في الحياة أمرين: الأول أن يفي بالواجب عليه لعشيرته والأقربين والآخر الوقوف على سر الوجود.

ولندعه هنا يصف لنا خلجات نفسه في تلك الآونة:

لم يكن ليخطر لي أن في العالم حكمة وفلسفة تكشف اللثام عن هذا الوجود كلا، ولكن بعد التيا والتي أخذت أدرس الفلسفة القديمة بحذافيرها ولكن بعد ذلك لم أزل في موقعي الأول أريد أن أفهم حقلنا الذي نزرع فيه القطن والقمح والذرة والبرسيم على هذه الأرض وما فوقها التي تحوي المواد الصالحة للبسنا وأغذيتنا وأغذية الحيوان، وما هذه الطيور الجميلة المغردة المنعشة للفلاح في حقله، وأخيرا ما هذا الجمال؟

الجمال الذي أخذ يلي وأرقني ليلا بنظراتي في النجوم وأبهج قلبي نهارا بنظراتي في الأشجار والزروع والأزهار.

ثم هو بعد ذلك يفضي إلينا بمكنون صدره وبما كان يشعر به من أحاسيس وانطباعات في الفترة التي قضاها في دار العلوم:

اتصلت بدار العلوم فدرست فيها علم الفلك الحديث بعد ما درست القديم في الفلسفة هنالك دهشت أعظم الدهش وقلت في نفسي: هذه فرصة سانحة فهاهم أولاء علماء الأمم قديما وحديثاي نظروا فيما كنت حائرا فيه في حقلنا:

(1)- نظروا في مقادير المادة المسماة عندهم بالكم المتصل والمنفصل من الهندسة وعلم الفلك ومن الحساب والموسيقي فقاسوا هذا العالم وحسبوا الكواكب أبعادا وأحجاما وحركات فأرونا السنين والشهور والفصول وأوقات الخسوف والكسوف الله أكبر نظام بديع حركات منظمة هذه أعز مطالبي وأجل ما أتمناه إني لسعيد جد سعيد كيف لا أكون سعيدا؟

ألم يظهر العلم أن أبعاد السيارات نفسها عن الشمس جاريات على سنن المتوالية الهندسية كما كشفه العلامة يود: 3- 6- 12- 24- 48 إلخ..

(ب)- ثم إن العلماء لم يقفوا عند هذا الحد من البحث فإنهم نظروا في أشكال المادة وتنوعها، فكانت العلوم الطبيعية وقد أحاطت بها العلوم الرياضية حتى أنهم رأوا في نحو الأحجار الساقطة نظاما حسابيا يرجع إلى الجذر والتربيع والمتواليات العددية.

ومما تقدم نرى كيف قامت القرية وإجازاته الدراسية بدور هام في حياة الشيخ الصغير؟ وكيف كان لدار العلوم أثرها العظيم في تقديم الثقافة، وفي فتح عينيه على الحياة وأوسع مما كانتا مفتوحتين من قبل؟

حياته العملية

تخرج الشيخ طنطاوى من دار العلوم وعين مدرسا بمدرسة دمنهور الابتدائية مدة ثلاثة أشهر ولما تغيرت وزارة رياض باشا وغادرها إبراهيم بك مصطفى نقل إلى المدرسة الناصرية الابتدائية بالجيزة وهناك لم يطلب له المقام ولما وقع بينه وبين ناظر المدرسة من خلف فدعت الحال إلى نقله لمدرسة الجيزة ثم المدرسة الخديوية بدرب الجماميز حيث بقي فيها عشر سنين من سنة 1900إلى سنة 1910 وفي أثناء وجوده بها عكف على تعلم اللغة الإنجليزية حيث أتقنها واختلط بكبار الإنجليزية حيث أتقنها واختلط بكبار الإنجليز وترجم من مؤلفاتهم ولاسيما من مؤلفات اللورد إفبوري كما ترجم شعرا بعض أعمال الشعراء الإنجليز التي نشرها أحد تلاميذه.

واقتبس الطلاب في الابتدائي والتجهيزي عنه أفكاره وآراءه وتشبه به كثير منهم حتى قال لمبير في مدرسة لبتون لبعض التلاميذ هناك وهم في الحديقة ما الذي شاقكم للنظر في جمال الطبيعة؟

فقالوا: درسنا سنة 1900 الإنشاء على الشيخ طنطاوي فعشقنا النظر في الوجود فقال: هذا عجب إذا وجد في مصر ثلاثة مثل هذا الرجل فلا ضرورة لمجيئكم هنا: فمثل هؤلاء يجب أن يعلموا في كلية شرقية وفي خلال هذه الفترة رشح لتدريس الفلسفة العربية في جامعة لندن، ولكن دسائس زملائه منعته من السفر.

ولما تولى أحمد باشا حشمت نظارة المعارف العمومية عين الشيخ طنطاوى مدرسا للتفسير والحديث سنة 1911 بمدرسة دار العلوم واختير أيضا ضمن هيئة التدريس بالجامعة المصرية القديمة حين إنشائها ليلقى بها محاضرات على طلابها في الفلسفة الإسلامية خلفا لسلطان بك محمد وفي ذلك الحين طلب للقضاء ولم يقبل.

ولم يكن الشيخ طنطاوى عالما كسائر العلماء بل كان ممتازا في كل النواحي فهو عالم ديني إسلامي وطني وهو عالم اجتماعي عالمي جمع بين الثقافة الدينية والحديثة ومزج المسائل الدينية بالآراء الاجتماعية والسياسية.

جاهد حق الجهاد بقلمه وبرأيه في رفعة شأن الإسلام والانتصار لمبادئه مظهرا أنه دين العقل والتجديد لا دين التسليم والتقليد، يرمي في كل أحاديثه وتأليفه إلى التوفيق بين العلم وما جاء به القرآن، وإلى أن العلم إذا حسن فهمه كان أداة صالحة لتفهم روح الدين، كان من أخلص المخلصين لقضية البلاد واستقلالها من فجر النهضة إلى وقت وفاته، فهو أحد قادة النهضة السياسية والدينية ومن رؤساء الحركة السياسية والاجتماعية.

وكانت الثقة بمستقبل المسلمين وبسيادتهم العالم وبنشرهم العلم بين ربوعه وإقامتهم السلام والطمأنينة مقام الحروب والقتال مستولية على الشيخ طنطاوي وهي تملأ كتابة القرآن والعلوم العصرية كما تجدها في ثنايا كتابه الكبير الجواهر وقد كانت ثقته باجتماع شمل المسلمين وصلاح أمر أهل الأرض جميعا بهم تنزل من نفسه منزلة اليقين الذي لا يخالطه ريب.

وناصر الشيخ طنطاوى الحركة الوطنية فوضع كتابا في نهضة الأمة وحياتها نشره تباعا في جريدة اللواء يندد فيه بالدول التي تؤسس وجودها على أسنة الحراب وأصوات المدافع وتخريب البلاد ودك الحصون لأنه يتمنى أن تؤسس الدول حياتها على تبادل المنافع والمحبة العامة، كما كان يرى سقراط وهو بذلك يوافق الرأي الذي تتمشدق به بعض الدول وما تخدع به العالم من ألفاظ الديمقراطية والمساواة يريد أن تكون الجمعية الإنسانية أسرة واحدة لا يفرق بينها لغة ولا دين ولا تحجزها جبال وبحار، ولا يفصل بينها خطوط دفاع أو هجوم.

وكان من أثر تعاليمه أن استيقظت مشاعر وانتبهت عقول وخف حجاب الغفلة في مختلف بلاد الشرق وانقشع ظلام الجهل والضلالة وحل محله نور المعرفة والحق واليقين.

ولأنه كان يجهر بآراء تفوض صروح المعتقدات السخيفة، وتحطم أصنام التقاليد البالية ناوأه بعض العلماء والمتفيقهين لأنهم رأوا فيه مصلحا جريئا ومناضلا في سبيل إعلاء كلمة الحق وإظهار معاني الحقائق المكنونة في باطن آيات القرآن مفسرا إياها بطريقة لم يسبقه إليها أحد في العالمين فحقدوا عليه، ورموه بالكفر والزندقة، وافتروا عليه كثيرا بسبب آرائه التقدمية وتفسيره للقرآن تفسيرا لم يخطر على بالهم وقت ذاك.

وهو مع ذلك لم يقنط ولم ييئس وسار في دربه صامدا قويا لا يأبه لما كان يقال عنه من سوء ولا يبالي ما يعترض سبيله من صعاب أو متاعب لقد تخلصوا منه في الجامعة المصرية القديمة لخطورته واستحضروا بدلا منه أستاذا مستشرقا للفلسفة الإسلامية برتغالي الجنسية وحولوا طنطاوي جوهري إلى وزارة المعارف في ذلك الوقت وقد رفضه جميع نظار المدارس المصرية وكان منهم مع الأسف الشديد محمود فهمي النقراشي السياسي المعروف وكان في ذلك الوقت ناظرا لإحدى المدارس الثانوية ولم يقبل الشيخ طنطاوي مدرسا مدرسته إلا رجل واحد من إيرلندا هو مستر فرنس ناظر المدرسة الخديوية في ذلك الوقت.

وفي عام 1914 بعد إعلان الحرب العالمية الأولى كان الشيخ طنطاوى هدفا لدسائس كثيرة من بعض الجاحدين انتهت به إلى إخراجه من دار العلوم واتهامه بصراحته في وطنيته فسعى بعض مواطنيه بالدس له عند الإنجليز لأن حنقه على الدول الأوربية التي تحتل بلادا إسلامية كانت تفيض بها خطبه وكتاباته وأحاديثه كما كان عضوا في الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل.

وانتقل إلى مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية وهناك انتهز فرصة وجوده بهذه المدينة فكون جمعية من الطلاب أسماها الجمعية الجوهرية وكان لها أثرها في بث الوعي القومي والثقافة بين الشباب الإسكندريين. وفي أكتوبر عام 1917 دعي إلى القاهرة للتدريس بالمدرسة الخديوية ثانية وفي عام 1919 وفي أثناء المظاهرات التي قامت ضد الإنجليز قام البوليس بتفتيش مسكن الشيخ طنطاوي بشارع زين العابدين رقم 8 لما عرف عنه من وطنيته وتحمس لقوميته ولما اشتهرت به مقالاته التي كان ينشرها في جريدة اللواء عن الأمم المستعبدة والأمم المستضعفة ووسائل الإصلاح.

في ذلك الحين أخذ الشيخ طنطاوى على نفسه عهدا وقال: (إنني عاهدت ربي أن أعلم الناس ما علمت وأني إذا وقفت على حقيقة نشرتها بين العالم الإسلامي، وإن لم أنشر ذلك بين الملأ كنت كافرا بنعمة ربي ناقضاي لعهده).

وبدأ يحقق ما قال وأخذ يقرن العمل بالقول كرج كبير النفس عالي الهمة شديد الغيرة على الإسلام والعلم فأبرز للعالم الإسلامي كتابيه: ميزان الجواهر وجواهر العلوم ولم يكن يظن أن الناس يحبون تلك العلوم ويميلون إليها.

وقد حدث قبل ذلك أن جاء المرحوم الشيخ محمد عبده من منفاه، وأخذ يدرس للناس علم التوحيد بطريقته المبتكرة وأقبل الناس عليه ثم ابتدأ المرحوم مصطفى كامل باشا في الدعوة الوطنية وأنشأ جريدة اللواء ووقعت مقالات للشيخ طنطاوى باللواء وأخرى بجريدة الفلاح وكتاب جواهر العلوم بيد الأستاذ المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده فعرف الشيخ طنطاوي بمقالاته وكتاباته ثم قابله وشجعه كثيرا وأثنى عليه وقال فلنخرج كتبا شتى لا كتابين اثنين.

أما المرحوم مصطفى كامل فقد طلب مقابلة الشيخ طنطاوى وقال له: (بمثلك ترتقي الأمة) وطلب منه أن يؤلف كتابا على هيئة مقالات فلبى الشيخ طنطاوى دعوة فقيد الأمة والوطنية والهمة العالية والنفس الأبية وكتب ستين مقالة ونيفا أرسلها إلى اللواء فكتب صاحب اللواء العنوان لتلك المقالات بيده هكذا.

نهضة الأمة وحياتها

لحكيم من كبار الحكماء

والمرحوم مصطفى كامل أول من سمي الأستاذ الشيخ طنطاوى باسم (حكيم) ولا عجب إذا أحدثت المقالات المذكورة ضجة في البلد وقامت الأمة الحاكمة المستعمرة بترجمة أكثر هذه المقالات دون أن تعلم: من الذي كتبها؟

الفصل الثاني مؤلفات الشيخ طنطاوي وآثاره المكتوبة

يعد الشيخ طنطاوي جوهري من كبار المؤلفين العرب: فلقد ترك لنا أكثر من ثلاثين كتابا يمكن أن تكون موسوعة ضخمة في مختلف فروع المعرفة مكتوبة كلها بطريقة محببة للقارئ بأسلوب يسير ورشيق يبدو فيها وكأنه قاص يقص عليك أمتع القصص وأعرب الوقائع صاعدا هابطا يجوب بك الآفاق ويخترق الحجب ويغور وينجد ثم لا تجد صعوبة في ذلك اللهم إلا ما تحس من أنك أمام مشكلات علمية ونظريات دقيقة ونتائج مدهشة ما كنت لتدركها لو لم تقرأ هذا الكتاب وذلك في سعة إطلاع وجلد ورسوخ قدم في البحث والتحقيق.

ولقد ترجم بعض هذه الكتب إلى الإنجليزية والفرنسية والأمهرية والهندوكية والإندونيسية وغيرها من اللغات. ونورد فيما يلي ثبتا بالكتب المطبوعة التي قام بتأليفها محاولين التعرف بها تعريفا موجزا وإلقاء الضوء على كل منها ليلم القارئ ببعض الشيء عنها.

1-الزهرة في نظام العالم والأمم

رسالة صغيرة وضعت في أول كتابه نظام العالم والأمم في نحو ستين صفحة وفيها عجائب الزهور، نقلها الشيخ طنطاوي عن اللغة الإنجليزية من كتب اللورد إفبوري وفيها أوقات يقظة الزهور ونومها وأسباب ألوانها وعجائب مدهشة.

2-نظام العالم والأمم: أو الحكمة الإسلامية العليا

كتاب من جزأين يحتوي على نحو ألف صفحة في عالم النبات والحيوان والإنسان والمعادن ونظام السموات وعجائب الملك والسياسة الإسلامية والسياسية العامة، ولا يمكن معرفة ما في هذا الكتاب القيم إلا بالرجوع إليه أو الاطلاع على تقريظ الجمعية الفرنسية الملكية وجمعيات إنجلترا العلمية ونقتطف هنا بعض ما كتبته الجمعية الآسيوية الفرنسية التي يدبرها جمع من فحول المفكرين والفلاسفة العظام في مجلتها التي كانت تصدرها وذلك في شهر يناير عام 1908 من مقالة ضافية الذيول تحت عنوان: (الشيخ طنطاوي جوهري، أستاذ اللغة العربية بالمدرسة الخديوية بالقاهرة ونظام العالم والأمم أو الح.

كمة الإسلامية العليا المجلد الأول وعدد صفحاته 421 نشر في القاهرة سنة 1905 ميلادية. إن كتاب نظام العالم والأمم الذي ظهر المجلد الأول منه أحد كتب عدة ألفت للنشأة الحديثة الإسلامية وهذه الكتب بناها المؤلف على نظريتين اثنتين:

أولاهما: أن الدين الإسلامي دين الفطرة: أي أنه ملائم للعقول الإنسانية وموافق للطباع البشرية.

وأخراهما: أن هذا الدين على مقتضى ما قدره المؤلف يسوق إلى استكناه جميع النواميس العلمية وسائر القوانين الطبيعية الشاملة لهذا الكون كله، الناظمة لعقده.

ثم أخذت المجلة في بيان ما في الكتاب من الأبواب والفصول وذكر عجائب الإتقان بين القرآن والعلوم العصرية وختمت المقال بما يأتي:

نحن لا يسعنا إلا الاعتراف للشيخ طنطاوي جوهري بسعة المدارك والاطلاع الواسع المقرون بعقل رزين وحكمة وذكاء فانظر كيف أتى بالفلسفة العالمية والنواميس الطبيعية وفنون الآداب العربية الواسعة وإبرازها بمهارة وعبارة عالية ثمينة وبلاغة باهرة تترقرق حسنا وتتيه عجبا تكاد تسيل سلاسة ورقة كالماء الزلال سهولة وانسجاما مملوءة حياة وحكمة.

وليس إجلالنا لهذا الأستاذ لما تقدم ذكره فحسب، وإنما لأنه أيضا ترجم آراء مؤلفي الإنجليز مثل إيفبري، وسبنسر، وداروين، وبحث في الفلسفة الإغريقية واللاتينية وجمع زبدة آراء جميع العصور المختلفة وحصرها في كتاب صغير بعبارة جميلة دقيقة كما وصفناها واتبع الفائدة أينما وجدها.

إن الشيخ طنطاوي جوهري رجل فيلسوف حكيم بقدر ما هو عالم بالدين وبهاتين الصفتين فسر القرآن الذي أثبت أنه دين الفطرة بما هو أكثر ملائمة للطباع البشرية، وموافقة للحقائق العلمية والنواميس الطبيعية أيما موافقة، بخلاف فريق من العلماء الغابرين الذين وقفوا على القشور وجمدوا على الألفاظ جمودا معيبا أدى إلى انحطاط المدارك الإسلامية في العصور المتأخرة فانحطت بذلك الأمم الإسلامية عموما وعشاق البحث من المخيم عليها في جميع الأقطار وسائر الممالك على اختلاف مذاهبهم وتباين مشاربهم حتى إنه لا يخص مذهبا دون مذهب ولا مملكة دون مملكة، بل أنه فوق ذلك يخاطب كل عاقل يريد الحياة والاطلاع على الحقائق من أي دين وأي نحلة ببلاد الشرق، لأن بحثه عام في الكائنات ونداءه عام حتى يلحق الشرق الأدنى بالأمم الغربية في المعارف والعلوم والمدنية والحضارة. أ هـ.

ولقد قرظ هذا الكتاب أيضا البارون كارادي فوفى كتابه مفكرو الإسلام وأثنى عليه مع كتاب نهضة الأمة وحياتها من كتب الشيخ طنطاوي.

ويجدر بالذكر أن هذا الكتاب نظام العالم والأمم قد ترجم إلى الهندية ويدرس بجامعة عليكرة وقد حلله الأستاذ الدكتور (هارتمان) وذكره ضمن كتب الشيخ طنطاوي التي تستحق الدراسة لأنه يتضح فيه سمات الشيخ وحبه الأصيل للطبيعة.

3-التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم

في نحو مائتي صفحة وهو كمقدمة في التفسير جمع فيه مقاصد الإسلام ونظام العالم، وبين كيفية تعلم الشيخ وسيرته كما أشرنا إلى ذلك من قبل ولقد ألف هذا الكتاب وأرسله إلى ملك اليابان وترجم إلى اللغة القازانية واللغة الهندية وينقسم إلى اثنين وخمسين بابا أو جوهرة كل جوهرة منها تفسير آية من آيات القرآن في ضوء ما كشف عنه العلم الحديث مما كان يجهله الناس في عصر النبوة عند نزول الوحي به أو تقف عند ظاهرة من ظواهر الكون العجيبة لتفسرها في ضوء القرآن وقد حاول المؤلف فيه أن يصنف آي القرآن في ستة أبواب وفق موضوعاتها وغايته من هذا أن يدلك في إيجاز على أصول العقائد الإسلامية وقد كتبه دفاعا عن الإسلام ودعوة الأمم الأخرى إلى اعتناقه وكانت اليابان مرمى سهمه وغاية مناه فأهدى كتابه إلى الميكادو كما تقدم وقدمه إلى مؤتمر الأديان الياباني عام 1906 وانتشر في تركيا وفارس وروسيا بعد أن ترجم إلى لغاتها وفيه ترجم للمؤلف وتحدث عن دراساته في الأزهر وجهوده في التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعلم الحديث من ناحية وبين القرآن من ناحية أخرى.

-15-وهاك الصورة الشمسية للمقدمة التي صدر بها الكتاب الأستاذ ذاكر القادري في ترجمته إلى اللغة القازانية مترجم طرفندن بر قاج سوز.

أمت إسلامية نك أفرادندن أولان هرمسلمه حقيقت إسلامية به وجامعة محمدية يه كندي أقتداري درجة سنده فوتني صرف أيدوب فائدة كتورمك فرضدر حركات وسكناتتدن وجميع أعمالندن الله وأمتي عند مسؤلدر كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته حديث شريف دين إسلامنك سياسي وأدبي أولان قواعد جليله لرندن بريدر أشته ينده بو أمتتك بر فردي أولديغمدن أمتمه بيوك فائدة كتورميه مقندر أولماديغمه تأسف أيدوب أمتمه جزئي أو لمسه ده فائدة أو لسون دبه رك مصر القاهرة نك أك متـنور وملتبرور علما سندن وأستاذنا الإمام وفقيد الإسلام الشيخ محمد عبده حضرتلرينك نائب حقيقيسي أولان أستاذ من فيلسوف طنطاوي جوهري مصرتلرينك تأليف عديده سندن بري أولان (التاج المرصع بجواهر القرآن واللوم) نام كتاب جليلني ترجميه شروع أيتدم.

مؤلف حضرتلري بوكتابنده قرآن شريفني علوم أدبيه كه تطبيق أيده رك تفسير أيدوب جزء جزء أو لرق تأليف أيك جكدر مؤلف حضرتلو بنك أشاره مسنه بناء عرنجه سي طبع أولمازدون أول ترجمه سنده استمرار أبده حكم كتابده مذكور آية قرآنية في مجمل أولرق تاتارجه تفسير أيدوب خط مستقيم التنده يازاجغم عربجه أنشاء وتحرير إبلان هركون أو غراشمقده أيسه مده تاتارجه بازي بازمق أيجون أول مرتبه أولرق ألمه فلم آلديغمدن فارئلريمنز تحريرمزده أولان قصور لرمزني عفو أيدوب مدرسة لرمزنك انتظا مسز لغنه حمل أيده حكلرندن أمينم لعتمز ناقص وأكثر مصطلحات أدبية في ترجمه أيجون لغتمرده هيج برماده ومراجعت إيجون قاموسمز أولمايفندن أدبي كتابلرني ترجمة نه قدر مشكل أولديغي أديبلرمزه معلومدر.

د. القادري ( مصر القاهرة).

وهو يدلك على أن تعاليم الغزالي أثرت في صاحبه تأثيرا قويا: وقد ترجم كذلك إلى الصينية: ترجمه الصيني المسلم (وأن ون كن).

4-نهضة الأمة وحياتها

هذا الكتاب كان في الأصل عبارة عن بعض مقالات نشرها تباعا في أعداد من جريدة اللواء وأعجب بها قراؤها لمراميها السياسية وموضوعاتها الحيوية فجاء الكتاب حاويا جل ما تهم الأمم الإسلامية معرفته مما له مساس بتنظيم حياتهم الاجتماعية وأمورهم العلمية والأدبية بما يذكرنا بمصنفات حجة الإسلام الغزالي وابن رشد والفارابي وكثيرين ممن أعلوا تعاليم الإسلام ويضم الكتاب ثلاثا وخمسين رسالة وبحثا صور فيه حال الأمة وأرشد الحكام ووصف الأمم المظلومة وتحدث عن المدنية وعلومها وجولة في علوم الإسلام والأزهر ورجال التركيب العجيب من بنية الإنسان وتشريح هيولي جسمه وتحدث عن تأليف الكتب وبيان التأليف عند الأمم وكيف يؤلف التاريخ والشعر ودرجاته؟

وما يجب أن يكون عليه الأمة في نظام الجندية والقرعة العسكرية وله في كل ذلك مقترحات واعية هادفة ثم أتى بمقالاته الثلاث في الرد على الرسالة القازانية شرح فيها حال علماء الإسلام في الأقطار قديما وحديثا وما يجب عليهم الآن في صراحة الرائد المجدد وحصافته وقد كتبت تقرظه جريدة لاهور في مارس عام 1910.

وكتبت عنه الجمعية الملوكية الإنجليزية في مجلتها مقالا ضافيا ابتدأت القول فيه بأن جعلت الإنجليز مطمئنين بأن الشيخ لم يرد بلفظ النهضة ثورة يثيرها، وإنما أراد الإصلاح ورقي الأمة، وليس في ثنايا كتبه ما يحض على الثورة أو يشر إلى عصيان...

وختمت المقال بقولها: نذكر رأيه في سياسة الأمم وهو في الحقيقة مقصود الكتاب: إن ما ذكره عن العلاقة بين المدينتين الشرقية والغربية عجيب نافع يفوق ما كتبه الكاتبون بل هو فرق العادة interesting unusual ويحق للمجلة أن تظهر الدهش مما خطه يراع الأستاذ في المدنية فإنه وضع للحكومات الدستورية نظاما جميلا لم يسبق له فيما نعلم نظير، إذ أبان كيف يكون التشابه بين جسم الإنسان ووظائف أعضائه، وما الحكومات العادلة؟ وكيف ينوب فريق من الأمة عنها؟ وما طريق الانتخابات... إلخ......

5-الفرائد الجوهرية في الطريق النحوية

ألفه لطلبة القسم الثاني لمدرسة دار العلوم أيام كان يعمل فيها مدرسًا.

6-جمال العالم

وهو كما يبدو من عنوانه عبارة عن سلسلة من الدراسات الطبيعية في الحيوان والطير والهوام والحشرات ولا يخلو مع هذا من دراسات أخرى ذات صبغة علمية أو دينية ويتميز الكتاب وصاحبه بحب الطبيعة حبا غير خفي كما نلحظ أن المؤلف كان متأثرا بالكاتب الإنجليزي اللورد إيفبري الذي أشتهر بحبه للطبيعة وأعظم ما يبدو أثره فيما كتب الشيخ طنطاوي عن ملاذ الحياة ومسراتها.

7-وجمال الطبيعة وعجائب الكون

وطبع هذا الكتاب مرتين الطبعة الأولى عام 1320هـ- 1902م في 140 صفحة وكتب الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي محرر مجلة البيان كلمة تعد من جوامع الكلم ومعجزات البلاغة عن الطبعة الأخرى التي صدرت في عام 1329 هـ بعنوان جمال الله في جمال العالم قال فيها: الله أنت مؤلف جمال العالم ونظائره من نفائس الأسفار وبدائع الآثار فإنك لا تفتأ تحبب إلى الإنسان هذا العالم وتنبهه إلى ما أودعه الله من الخلقة وأحكام الصنعة وباهر الأسرار الدالة على أنه الواحد نوع جليل من الإرشاد لم يفترعه منها إلا العالم المفضال الشيخ طنطاوي جوهري ولا يزال يتعهدها به من حين إلى آخر كأنه أخذ على نفسه أن يحي من موات النفوس ويوقظ من غفلة القلوب ويصعد بالفكر إلى أعلى عليين وإلى ما وراء المحسوس نعم ولقد افتتنت في ذلك ونوعت الطريق وكان من أفضلها وأبرعها كتابك جمال العالم الذي ما كدت تظهره حتى تخطفه الناس...

ولقد كان حافظ بك إبراهيم شاعر النيل هو الذي شجع الشيخ طنطاوى على وضع هذا الكتاب الذي في 200 صفحة من الحجم المتوسط بعد أن جلس معه يستمع إليه زهاء الساعتين والنصف عن نظام العالم والأمم فقال له: لو دون هذا الكلام في كتاب لترقت الأمة المصر ية وكان ذلك في عام 1320هـ.

8-النظام والإسلام

وهو عبارة عن مجموعة من المقالات نشرت في جريدة المؤيد ترجم إلى التركية والهندية والقازانية وطبع مرتين.

9-جواهر العلوم

النظر في الكون بهجة الحكماء وعبادة الأذكياء وضع هذا الكتاب على هيئة رواية يحكي فيها المؤلف حكاية شاب مصري أراد أن يتزوج فتاة متعلمة فلم يجد إلا في بلاد الفرس سيدة تركية فتزوجها وتصدى المؤلف لحب العلوم ومعرفة ما في السموات والأرض في حوار بديع بين الزوجين ويقف عند كثير من عجائب الكون التي أظهرها العلم الحديث ويقرنها بما ورد في شأنها من آيات القرآن الكريم وقد قررته وزارة المعارف المصرية في وقت ما على طلابها بالمدارس -مطبوع في سنة 1901م- 319هـ في حوالي 246 صفحة. ولقد ختم المؤلف هذا الكتاب بكلمة قال فيها.

(وقد تم بحمد الله ما قصدته من كتاب (جواهر العلوم) وقد اتبعت فيه خطة الترقي من الأسهل إلى السهل وجعلته سلما إلى فهم ما هو أدق وأرقى في الفكر وهو ميزان الجواهر وجمعته مستقلا على حدته وذكرت فيه بواطن العوالم وقواها وعجائبها الباطنة مع المقارنة بين آراء الفلاسفة الأقدمين ومقابلته بكلام الفلاسفة الأوربيين ووزن الأقوال بالحجج العقلية، فهاك أيها الأخ فقد جمعت لك في هذا الكتاب من دقائق الكون وبدائع العلوم ولطائفه رغبة استجلائك نفائس عرائسه: فهاك جليسا يناجيك في خلواتك ويزيدك جمالا كلما استجليت فيه النظر وأعدت فيه كرة الفكر فلم أعرج على القوانين العلمية العويصة بل جنيت الزهر من الأغصان والثمر من البستان فمهما فرغت من حاجاتك فاجلس على أريكتك وحادثه تجده سميرا لا يمل حديثه، ونديما لا يسأم جليسه فضلا على كونه مخ العبادة وأجلها بل فتح باب هذا الفكر هو المقصود من حياتك ومطمح نظر الأنبياء والحكماء وأكابر العلماء وقد قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة. هداني الله وإياك إلى طريق السعادة.

هذا وإني أضرع إلى الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن يسقينا شراب الأنس في كأس الصفا مع أحبابه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وذلك الفضل من الله.

10-ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر

وهذا الكتاب ينحو نحو جواهر العلوم طبع في سنة 1318هـ في 280 صفحة من الحجم المتوسط، وندع هنا الشيخ حمزة فتح الله المفتش الأول للغة العربية بالمدارس الأميرية وقت ذاك يقدمه لنا فيما يلي:

(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها أما (بعد) فقد وقفتي على ما نثرته من الجواهر، في كتابك (ميزان الجواهر) وقد برح الخفاء أن الميزان قسطاس العدل الذي به قوام العالم من العرش إلى الفرش، فلأمر ما آثرت هذا السماء على غير من بقية الأسماء نعم لقد أبثك التوفيق عن هذا الكون نزار من خبوره وشقوره، وبقوره، وكان هاديك في سبيله نبراس الشريعة المحمدية السمحة، إذ بدونها لا تحوم العقول حول فهمه،ولذا لم يهتد إليه أولئك الثرثارون بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه فلا يهولنك، فقد ذهبت الراح بعظم عقولهم خلا لميعة هي على وشك الذهاب حتى كأنما يعنيهم شاعرنا العربي بقوله:

مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي

قاتلهم الله فلطالما أوهموا الأغرار أنهم اكتشفوا الأسرار ونزفوا منها البحار، وإذا هم:

لم ينزفوا قط إلا قدر ما نزفت تلك العمانية الخرقا من الماء هذا مع اعتراف منصفيهم بأن قصاراهم الحدس والتخمين والحزر والتخريص.

يا سبحان الله وسعدانه ما أحق الحنيفية وأعدل ميزانها وأقوم برهانها وأصدق قرآنها فكما أسلفنا في باكورتنا كلما انتهت العقول إلى نهاية ألفتها فيها بداية.

لسرعان ما انكشف بها غطاء الحقائق لتقوم حجتها على العالمين فلله الحجة البالغة ولقد أذكرني ميزانك هذا يا تلميذي الأبر ومثلك من يفخر به شيوخه وما سطره صنوك محمد فريد وجدي بك ذاك الشاب الذي لا إخاله إلا حجة من الحق تبارك وتعالى على من نبغ من أترابه في اللغات الأجنبية بصحيفته الحياة وكتابه الحديقة الفكرية ما قاله السعد في شرح المقاصد نقلا عن الإمام حجة الإسلام في أثناء تعريف علم الكلام ومحصله: أن المتكلم ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود، فيقسمه إلى قديم ومستحدث، والمحدث إلى جوهر وعرض إلى أن قال: وينظر في القديم فيتبين أنه لا يتكثر ولا يتركب، وأنه يتميز عن المحدث بصفات تجب له وأمور تمتنع عليه وأحكام تجوز في حقه من غير وجوب أو امتناع وبين أن أصل الفعل جائز عليه، وأن العالم فعله الجائز فيفتقر بجوازه إلى محدث وأنه تعالى قادر على بعث الرسل وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات، وأن هذا واقع وحينئذ ينتهي تصرف العقل ويأخذ في التلقي من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وما قاله القطب الرازي في شرح مطالع الأنوار من أن تحصيل المطالب النظرية من مباديها متوقف على هداية الله تعالى لتعدد الطرق وكون التمييز بين الخطأ والصواب لا يتم بمجرد الطاقة البشرية إلى أن قال: وأما مراتب القوة العملية فأولاها تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع النبوية والنواميس الإلهية.

وثانيها تهذيب الباطن عن الملكات الردية، وثالثها ما يحصل بعد الاتصال بعالم الغيب وهو تحلي النفس بالصور القدسية، ورابعها ما يتجلى له عقيب اكتساب ملكة الاتصال والانفصال عن نفسه بالكلية وأني ذلك للنفوس البهيمية؟

ثم ناهيك بقول الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: إن للعقل حدا ينتهي إليه، كما أن للبصر حدا ينتهي إليه وقول الغزالي ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه مالا يظهر في العقل إلخ..

وقول الشيخ الأكبر في فتوحاته:

على السمع عولنا فكنا أولى النهي

ولا علم فيما لا يكون على السمع

وقال قدس سره:

كيف للعقل دليل والذي

قد بناه العقل بالكشف انهدم

فنجاة النفس في الشرع فلا

تك إنسانا رأي ثم حرم

واعتصم بالشرع في الكشف فقد

فاز بالخير عبيد قد عصم

أهل الفكر فلا تحفل به

واتركنه مثل لحم في وضم

إن للفكر مقاما فاعتضد

به فيه تك شخصا قد رحم

كل علم يشهد الشرع له

هو علم فبه فلتعتصم

وإذا خالقه العقل فقل

طورك الزم ما لكم فيه قدم

وبالإجمال فحياك الله وبياك وأضاء بنور الشريعة المحمدية فؤادك ومحياك...

الأربعاء 9 من شوال سنة 1318 هـ حمزة فتح الله الفقير إليه عز شأنه..

10-رسالة الحكمة والحكماء

وهو مجموعة رسائل تتضمن المقالات:

(1) الحكمة والحكماء-

(2) ما المقصود من هذا العالم؟ -

(3) وجهة العالم واحدة، هي النظام العام-

(4) قطع شعرية معربة عن الإنجليزية .

(5)- قصائد شعرية.

11- جوهر التقوى في الأخلاق

كتاب في علم الأخلاق ألفه ودرسه لطلبة دار العلوم سنة 1910.

12- مذكرات في أدبيات اللغة العربية

مذكرات لتلاميذ المدرسة الخديوية وضعها وهو مدرس لها.

13- أين الإنسان

موضوع هذا الكتاب وهو في 272 صفحة من الحجم المتوسط – إصلاح المجموعة الإنساني استهجن فيه المؤلف السياسة العامة ونظام هيئات الحكومة في العالم المتمدين وهو عبارة عن رواية يجري الحوار فيها بينه وبين روح من الأرواح القاطنة بمذنب هالي لما اقترب من الأرض وسأله عن السلام العام وعن أخلاق نوع الإنسان.

وهذا الكتاب الذي جمع من درر المعاني صنوفا ومن جوامع الكلم ألوانا مما يقف القلم على تحديدها ويحير اللب في وصفها لخصه ونشره في إيطاليا الفيلسوف الإيطالي سنتيلانا بعنوان صدى صوت المصريين بأوروبا. ولقد كتبت مجلة الملاجئ العباسية ومكارم الأخلاق الإسلامية في المجلد الحادي عشر ص 667 سنة 1329 كلمة عن هذا الكتاب قالت فيها:

للشيخ طنطاوي جوهري أسلوب من كتابته جم الفائدة، شامل النفع، قل أن يجاريه فيه أو يشق له غبار، فهو إذا لف أو سطر فإنما يكتب ليفيد لا ليقال: إنه كتب ولا تمر عليه أيام حتى يظهر للناس أطايب النفائس من خزانة عقله التي ملأها الله علما وحكمة وآخر ما جاء به على الناس كتابه المعنون ب (أين الإنسان؟).

فيه عطف الإنسان عطفة حنان ورفق جدير بقلم أستاذ حكيم كالشيخ طنطاوي جوهري أن يعطفها لأن ذلك القلم المهذب الطرير لا يألو جهدا في منفعة الإنسانية والحدب عليها وخير ما يقال في كتاب مثله بل غاية ما يقرظ ه أنه آية من آيات الرحمة أنزلها الله على عبده فأذاعها في الناس لتكون مأساة للبائسين وبلسما شافيا لجرحى المتوجعين، أثابه الله على ما فعل ونفع بكتابه آمين.

وكتبت دار المعار في الكتاب الذهبي الذي أصدرته في مارس عام 1931 كلمة عن هذا الكتاب الذي قامت بطبعه ونشره قالت فيها:

الأستاذ طنطاوي جوهري صاحب المباحث الجليلة، والنظريات القيمة في الفلسفة الأدبية والخلقية والاجتماعية وصاحب كتاب أين الإنسان؟

الشهير والفريد بأسلوبه وموضوعه يتلهب فيه غيرة على البشرية ويناشد ملوك الأرض وحكماءها وعلماءها وسواسها ونواب الأمم والشعوب أن يتعاونوا على العمل في سبيل سعادة العالم عسى أن يعدل الناس عن الظلم ويسروا على الصراط القويم وملخص موضوع هذا الكتاب الذي يحتوي على عشرين فصلا: بيان استخراج السلام العام في الأمم من النواميس الطبيعية والنظامات الفلكية والفطر الإنسانية وبيان السياسة على أساس الطبيعة وأن مدنية اليوم حيوانية، ودعوة الناس للإنسانية الحقيقية، وبيان أن الإنسان لم يفهم إنسانيته ولم يستخرج قوته، وخطاب موجه لفلاسفة الأمم ونوابها وملوكها ودعوة الأولين لبحث هذا الموضوع والآخرين للتعاون على العمل.

وقد طار في كتابه هذا على أجنحة الخيال إلى الكواكب السيارة، فخاطب سكانها وبحث في أحوالها وقارنها بأحوال الأرض الشقية، كل ذلك بأسلوب من أبدع الأساليب وأقربها للإفهام.

وقد قدم كتابه هذا قبل طبعه منسوخا بخط اليد إلى مؤتمر الأجناس العام الذي انعقد بإنجلترا في أواخر شهر يوليه سنة 1911 فكان له وقع جميل واستحسان عام.

ولقد قدم الشيخ طنطاوي جوهري كتابه أين الإنسان؟ بمقدمة غاية في الإبداع قال فيها هذا كتاب كتبته للناس، خاطبت به حكماء الخافقين، وعلماء المشرقين، وفلاسفة المغربيين تبصرة وذكرى للعادلين، من كل نبيه ونبيل، وعالم جليل وملك وعظيم، ووزير خطير، ونائب عن أمته كبير، ذكرى للأمم وعبرة للدول وسعادة للناشئين من البنين، عسى أن يعدل الناس عن ظلمهم ولا يتبعوا غيهم، ويسيروا على الصراط المستقيم.

إنني ضممت جوهرة الإنسان إلى فلذة الحيوان في النظام وقرنت نظام الكوكب الدري بما رآه بسمارك وسلسبوري، وسويت ما بين نواميس الأحجار في سقوطها وقوانين الكواكب في هبوطها وبين نظام الأمم الأرضية، وأحوالها السياسية.

ولست أدعي النهاية في تحقيقه، والإجادة في تنميقه، فما أكثر العوائق من الأعمال الدراسية وما أبعدها عن هذه المرامي النائية، والمطالب السامية.

وما هذا الكتاب إلا خطرات خاطرات ولمحات سانحات وبوارق لامعات في ليالي الحوادث المدلهمات.

وهو إن كان قطرة من بحر السلام العام فسوف تتبعها المزن الممطرات ولسوف يقوم بهذا الأمر علماء محققون من رجال الشرق والغرب وليعلمن نبأه بعد حين.

الدنيا بحر ملح أجاج متلاطم الأمواج يغشاه موج الحياة المدلهمة، من فوق المظالم المطلخمة من فوق سحائب الحروب الشيطانية البشرية، بحيث إذا أخرج المرء فيها يده لم يكد يراها، وظل في موجه العظيم هذا مثل حال الإنسان الضائع في ثنايا الزمان.

لذلك ألفت هذا الكتاب ليبحث العقلاء عنه في ذلك العباب وأسميته أين الإنسان؟ وأعطيته باليمين الحكماء ممن تحت السماء وباليسار السواس العظماء على سطح الغبراء ولما كانت الأشكال أولى بأشكالها والفضائل أقرب إلى أهلها، والعيون أعلق بأهدابها وكان كتابي موجها لطائفتين من العالمين، ومهدى إلى نوعين من العقلاء العاملين: رجل عليم، وسائس عظيم بدأت بإرسال إلى مؤتمر الأجناس العام، لأنه جمع بين الحسنيين ونال المنقبتين ولولا علو المنار ما عم نوره المسافرين، ولولا ضوءه ما هدى السفائن في ظلمات الغياهب ولا الضالين إن لتأليف الكتاب أسبابا يطول شرها وقد أرجأتها لتذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى .

14-السر العجيب في حكمة تعدد أزواج النبي

رسالة في تعدد الزوجات عند المسلمين وتعدد زوجات النبي وفي الأحاديث الموضوعة، وسبب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ترجمت للغة الهندية، وطبعت مرتين في عام واحد.

15-صدى صوت المصريين بأوربا

تلخيص سانتيلانا الإيطالي لكتاب ( أين الإنسان).

16-الموسيقى العربية

عبارة عن ثلاث محاضرات أعدت لتلقى في الجامعة المصرية، وألقيت الأولى منها وفيها عرف الحكمة وأقسامها ومنا فن الموسيقى وعرف الفلسفة وقسمها إلى علمية وعملية ثم تحدث عن علم الموسيقى وأن له أجزاء ونغمات وأحوالا ثم ما استخرجه الحكماء من الموسيقى ثم ذكر أصل العروض وملخص ما قاله الغزالي في الأغاني وتحليلها وآراء أفلاطون في الجمهورية وفنلون الفرنسي في كتابه تربية البنات ومقارنة بين موسيقى الناس ونغمات الحيوان وعجائب النبات وجمال العالم كله ثم تحدث عن النسبة الموسيقية ونوادر الفلاسفة في الموسيقي ونقل عن اللورد إيفبري في كتابه مسرات الحياة معنى الموسيقي، وتناول الموسيقي عند فيثاغورس والصينيين واليونان وهيرودوتس المصري وشكسبير ثم تحدث عن الشيخ حسن المملوك والأدوار الشرقية المشهورة.

17-سوانح الجوهري

مذكرات يومية أتى فيها بما كان يشاهده وهو راكب وسائر، وما كان يعن له من سوانح عبرة له وهدى ونور لمن يقرأ من أنباء الجيل المقبل وأبان فيها ما أملته عليه الكائنات وما أوحت إلى نفسه من معان عالية وصور حكمية.

وتحدث فيها عن أطوار الإنسان وعن الشورى في طبيعة الأطفال وأن زخرف الغرب حجب أبناء الشرق عما ابتكر آباؤهم الأولون، وتحدث عن أن الأمم المغلوبة على أمرها عرضة لفساد أخلاقها، وأن الحشرات تأكل مما نلبس وتلبسنا ما تأكل.

ثم تحدث عن أن جوهر الوطنية: الاقتصادي وترقية الصناعة والزراعة وحركة التعليم، وتعاون أرباب الفكر والأموال على العمل والترقي، ثم تحدث عن أن ما تجمعه القوة الشهوية تفرقه القوة الغضبية، ثم فسر آية كريمة تحض على أن الشهوات تمنع رقي الأمم، ثم قارن بين السائس والدجال وأفاض في الحديث عن القضاء والقدر، وأوجب أن يتحد الوطنيون في تعليم عام كما يجب الاتحاد في الزي والأخلاق الفاضلة: أي لابد من عقيدة واحدة تشمل الأمة إما وطنية أو دينية، ثم تحدث عن رجال الدين في الأمم المنحطة وأنهم يؤولون الدين بحسب أهوائهم، ثم تحدث عن البلاغة وقواعدها ويرى أن الأبواب المحدودة المسماة معاني وبيان وبديع حجاب بين الناس وبين البلاغة، والطريقة المثلى هي كيفية الحكم على الفرق بين كلام وكلام: أي الموازنات (المقارنات) وضرب لذلك مثلا من القرآن والشعر.

18-رسالة الهلال

ألفها عام 1914 حين سأله عالم القازان عن هلال رمضان وقد اختلفوا فيه أرسلت إلى الهند و

قازان، وترجمت إلى اللغة الهندية والتركية والقازانية ونشرت في مجلة الملاجئ العباسية.

19- براءة العباسة

أخت هارون الرشيد وهو كتاب تاريخي أدبي ولهذا الكتاب قصة روحية عجيبة هي روح هارون الرشيد اتصلت بالشيخ طنطاوي فؤي سنة 1922 وطلبت منه أن يصحح خطأ تاريخيها وقع فيها المرحوم جورجي زيدان بصدد العلاقة بين العباسة أخت الرشيد وجعفر البرمكي، وأن روح الرشيد كانت تظهر في الجلسات التي تعقد وكانت تشجع الشيخ طنطاوي على تأليف كتاب في هذا الشأن سماه براءة العباسة أخت هارون الرشيد.

وسنسرد وقائع هذه القصة الطريفة بالتفصيل في فصل خاص بحياة الشيخ طنطاوي الروحية فيما بعد بهذا الكتاب.

20-المدخل في الفلسفة

وفيه ستة عشر علما نقلها العرب عن اليونان وأحسنوا فيها ما شاءوا.

21-جوهرة الشعر والتعريب

يحتوي على ما ترجمه من شعر أشهر شعراء الإنجليز وبعض مقطعات شعرية مما سبق أن نشرت في بعض المجلات الأدبية، وفي كتبه الأخرى أما القصائد التي نظمها ونشرها في هذا الكتاب فكان خيرها منظومة في وصف جمال الطبيعة وهي مطولة.

22-رسالة عين النملة

عبارة عما دار بينه وبين علماء الطب وكبار المدرسين في عيون النملة ولقد أثبت في هذه الرسالة أن كل عين من عيني النملة مركبة من مائة عين، كل عين مستقلة استقلال تاما لا شك فيه، وفي هذه الرسالة أيضا عجائب كثيرة عن النمل وعسكره ومدنه وغير ذلك.

23-كتاب التربية للحكم الألماني كانط

وهذا الكتاب مترجم بتصرف عن الترجمة الإنجليزية التي قامت بها السيدة آنت وأوضح في مقدمته ما توخاه من تربية الناشئة الشرقية تربية فاضلة تناسب ما دبجه الفيلسوف كانط في كتابه ويذكر أن أول آية نزلت في القرآن حضت على التعليم ويحتوى الكتاب على مقدمة وخمسة أبواب، ويناقش كانط في بعض آرائه كما حدث في الفصل الخاص في التعليم الديني ويستدل في نقاشه بالآيات القرآنية.

24-الأرواح.

طبع هذا الكتاب ثلاث طبعات: ظهرت الطبعة الأولى في سنة 1918 والطبعة الثانية سنة 1920 في 315 صفحة من الحجم المتوسط، والطبعة الثالثة سنة 931 في 350 صفحة من الحجم الكبير.

وقد نحا المؤلف في هذا الكتاب نحوا جديدا على خلاف طريقة المسلمين القدامى في التأليف: فهو في هذا الكتاب يدافع عن هذا البحث ويبين مدى انطباق نتائجه مع العقيدة ويدفع كل شبهة قد تجئ من هذه الناحية.

ولقد حاول فيه أن يوفق بين الآراء الصوفية والدينية، وبين شبيهاتها في العلوم الروحية الحديثة ويحتوي الكتاب على ستة فصول، كل فصل منها يحتوي على مباحث مختلفة منها:

1-مقارنة بين ما جاء في الكتاب والسنة وبين ما جاء على لسان الأرواح في الجمعيات النفسية في أوروبا: مثل عذاب القبر ونعيمه، وتقسيم الغزالي ذلك إلى ثلاثة أقسام ووسوسة الأرواح الشريرة، وإلهام الأرواح الفاضلة للناس كما في إخوان الصفا والرازي والغزالي وغيرها، هذا كله نطقت به الأرواح صراحة وهو كشف عجيب للدين الإسلامي.

2-روح البخيل التي أحضرت في المجلس المعترف به من الحكومة وقولها هاتولي ذهبي ومالي وروح الحاكم الألماني الذي شكا من مضايقة يتيمين له وبحث في المديرية عنه فوجد ظالما للأيتام وبيان المؤلف أن هذا من أقسام عذاب القبر التي ذكرها الغزالي.

3-الأخلاق التي وردت في الأحياء للغزالي كالحقد والحسد والغضب والسرف والإخلاص ما شابهها ومطابقتها لما نطقت به الأرواح.

4-عجائب الأرواح في إحضار الفواكه والنبات والحيوان الحي على يد جمعيات أقرتها الحكومات في أنجلترا وفرنسا وأمريكا وما أشبه ذلك كإحضار عرش بلقيس في القرآن الكريم

5-اتصال عالم الأرواح بالإنس والإنس بعالم الأرواح، وهذا هو السر الذي في القرآن قد كشف الآن في هذا الكتاب.

وغير ذلك من موضوعات عجيبة في بابها سيأتي ذكرها في الفصل الخاص بحياة الشيخ طنطاوي الروحية. 25-أصل العالم

عبارة عن مباحث فلسفية في الجغرافيا الطبيعية وسبب وضع هذا الكتاب هو أن المؤلف وهو في الإسكندرية ورد إليه خطاب في أواخر شهر ربيع الآخر شهر ربيع الآخر سنة 1334 من الشيخ عبد العظيم فهمي الضرير الطالب بالقسم الثانوي بالجامع الأحمدي بطنطا يسأله فيه بعض أسئلة عويصة حار في فهمه كثيرون ويختم خطابه قائلا: كلا آمالي ورجائي أن تتكرموا علي بإيضاحها وإظهار الصواب فيها حتى أخرج من ظلمات الشك والتحير إلى نور اليقين، وعساك ألا ترد يدي صفرا، فقد عهدتك كما عهدك الملأ حتى سكان مذنب هالي لا تخيب سائلا ولا تكسف راجيا لا حرم الله العالم أمثال فضيلتكم.

فأجابه الأستاذ الحكيم وكان يومئذ مدرسا للغة العربية بالمدرسة الخديوية جوابا شافيا وافيا لم يجعل مجالا للريب فيه، وطبعت هذه الإجابة في هذا الكتاب الذي استغرق 36 صفحة من الحجم الكبير.

26-أحلام في السياسة

وكيف يتحقق السلام العام؟ وقد كتبه الشيخ طنطاوي باللغة الإنجليزية، ثم ترجمه في عام 1935 إلى اللغة العربية.

27-القول الصواب في مسألة الحجاب

ثلاث مقالات رد بها على كتاب قاسم أمين في تحرير المرأة نشرها في مجلة الموسوعات بإمضاء (ط.ج) وكانت ذات فائدة، إذا اعتدل قاسم أمين وأعطى الشيخ طنطاوي بعض الحق واعترض في بعض نقط، وكان مذهب المؤلف هنا في هذه المقالات كمذهب وسط بين الطرفين.

28- بهجة العلوم في الفلسفة العربية وموازنتها بالعلوم العصرية

طبع في عام 1936 بدأه بمقدمة في قبول الفطرة الإنسانية للفلسفة وفي تاريخ علومها ومن الفصول التي يحتويها الكتاب: عناية الدولة القديمة الإسلامية بالفلسفة اختلاف الترجمة وتلخيص الفارابي لها الدين والفلسفة الصابئون، غموض التاريخ تاريخ الأمة اليونانية في الفلسفة فلسفة اليونان في القرن الحادي عشر قبل الميلاد وما بعده، الكلام على سقراط وأفلاطون فلسفة أفلاطون وغيرها من ا لموضوعات الفلسفية الهامة.

29- القرآن والعلوم العصرية

وهذا الكتاب الذي أعيد طبعه في سنة 1342 هـ (1923م) جاء كله في حث المسلمين على جمع شملهم وعلى الأخذ بالعلوم حتى يكونوا أهلا لما وعدهم به الله سبحانه وتعالى من القيام على الأرض بالعدل.

ويختم المؤلف كتابه هذا بقوله:

ولقد أصبحت موقنا إيقانا تاما بطريق الإلهام وما أعرفه من أحوال المسلمين أن هذه الحركة العلمية ستجعل المسلمين حاملين رايات الفتح العلمي في مستقبل الزمان، وبهم يرتقي نوع الإنسان، ويكونون نورا وهدى للعاملين وأن أقول الآن مصرحا بعض التصريح: إني لم أقل هذا من تلقاء نفسي ولكني ألهمته إهاما وأيقنت به إيقانا..

وقد كانت ثقة المؤلف كبيرة بنهضة المسلمين واستعادتهم مجده: عمارتهم الأرض، وإصلاحه ما آل إليه أمرها من فساد واضطراب، وكانت هذه الفكرة تنزل من نفسه منزلة اليقين الذي لا يخامره فيه شك وربما لازمته منذ فجر حياته العلمية إلى نهايتها يجدها القارئ مبثوثة في ثنايا كتبه جميعا.

وللقارئ أن يراجع أمثلة لذلك في تفسيره الكبير للقرآن الجواهر جزء 11ص 15و 78و 227 و 237و 239 ولاسيما الموضع الأخير، حيث يؤكد ذلك من وجوه كثيرة: بعضها إلهام، وبعضها وجدان وبعضها اعتماد على سنن العمران.

30- الجواهر في تفسير القرآن.

وآخر مؤلفات الشيخ طنطاوى تفسيره الموسوم بالجواهر أتم تفسير القرآن في 25 مجلدا كبيرا ثم كتب المجلد السادس والعشرين لاستدراك ما فاته متوسط صفحات كل جزء منها 250 صفحة من الحجم الكبير ولقد دون هذا التفسير بدون توقف وهو بالمعاش من عام 1922 حتى عام 1935.

وفي هذا التفسير طبق القرآن على النظريات الحديثة أو استخرج النظريات العلمية من نصوص كتاب الله، فجاء مزيجا من علوم الأمم قديمها وحديثها مع التوفيق بين الآراء الحديثة والأفكار الدينية، وبخاصة مسألة الأرواح التي كتب فيها كتابا أشرنا إليه من قبل وسنرجع إليه فيما بعد.

وكان لهذا التفسير في الشرق الأقصى وفي إيران بوجه خاص سمعة طيبة وسمعة طيبة وشهرة واسعة النطاق وقد قالت عنه مجلة الجمعية الآسيوية الفرنسية إن الشيخ طنطاوي رجل فيلسوف حكيم بمقدار ما هو عالم بالدين وبهاتين الصفتين قد فسر القرآن الذي أثبت أنه دين الفطرة بما هو أكثر ملائمة للطباع البشرية وموافقة للحقائق العلمية والنواميس الطبيعية وقد ترجم تفسير الجواهر إلى اللغة الأوردية وفيه من الصور الشمسية ما يزيد على ألف صورة يتبين بها القارئ عجائب الحيوان والشموس والأقمار والنجوم وصور النبات والحيوان وعجائب العين مصورة، والدماغ وعجائبه وفي تفسير قوله تعالى وفي أنفسكم أفال تبصرون نرى صورة المخ موضحة، وكم في الكتاب من معجزات أظهرها العلم الحديث في هذا التفسير.

ولقد أخبر علماء إيران أن الكتاب يدرسه العلماء لجميع الطلاب وهو دائرة معارف عامة ولقد انتشر انتشارا عاما في السودان وشمال إفريقيا وبلاد جاوة وقال العلامة أبو عبد الله الزنجاوي إن طلاب العلوم الحديثة في مدارس إيران يقرءون هذا التفسير وبه وحده زالت عنهم الشكوك والوساوس في الدين، كما أن علماء الوعظ يخطبون به على المنابر هناك.

وأقبل أهل الهند على هذا التفسير إقبالا عظيما.

وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من التعريف بالجواهر مرجئين الحديث عنه بإسهاب في فصل خاص بـ (منهج الشيخ طنطاوي) في التفسير فيما يأتي بعد بهذا الكتاب.

وللشيخ طنطاوى عدا ما تقدم من كتب كثير من المقالات والأبحاث والمحاضرات التي نشرها في الصحف والمجلات وتبلغ عددا كبيرا يمكن أن يكون موسوعة ضخمة في المعارف سواء في التاريخ أو الطبيعة أو اللغة أو غيرها من مختلف فروع المعرفة رأينا أن ننشر بعضها في بعض فصول الكتاب، وبعضها الآخر في الباب الثاني الخاص بالنصوص.

الفصل الثالث المصلح الاجتماعي

في عام 1922 تخلى الشيخ طنطاوى عن التدريس لبلوغه السن القانونية للمعاش، ومنذ ذلك الوقت انقطع للتأليف، وأخذ يواصل الكتابة بأسلوبه الحلو الرزين الرصين، ويرسل في أبحاثه بنظراته الفاحصة العميقة، ويفيض من علمه المتمكن الغزير، فصنف الكتب الكثيرة التي كان أشهرها الجواهر وقد أفردنا لمؤلفاته فصلا خاصا.

كما أسس جماعة الأخوة الإسلامية وكانت تجمع طلاب المسلمين من الشرق الأوسط ومن الشرق الأقصى حين جاءوا إلى مصر ليتعلموا فيها، وقد أضعفت الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) نشاط هذه الجمعية وكانت قائمة في عام 1950 في قبة الغوري أمام المسجد الذي يحمل هذا الاسم بجوار الأزهر، وكان رئيسها في عام 1950 المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب وقت ذاك.

وكان الشيخ طنطاوى عضوا بجمعية البر والإحسان وعضوا في جمعية الشبان المسلمين التي كان يرى فيها مثلا طيبا للحركة الإسلامية في الشبيبة الناهضة، كما كان عضوا بارزا بدائرة القاهرة الروحية وتولى رياسة جمعية المواساة الإسلامية التي بدأت على يديه وكان أحد مؤسسيها.

لقد كان الشيخ طنطاوى عضوا بجمعية البر والإحسان وعضوا في جمعية الشبان المسلمين التي كان يرى فيها مثلا طيبا للحركة الإسلامية في الشبيبة الناهضة، كما كان عضوا بارزا بدائرة القاهرة الروحية وتولى رياسة جمعية المواساة الإسلامية التي بدأت على يديه وكان أحد مؤسسيها.

لقد كان الشيخ طنطاوى عالما متمكنا بطبيعة الأرض وبحياة أهل الأرض، وكان مجاهدا صادقا مع الرعيل الأول من المجاهدين الصادقين في الصف الأول.

لم تشتهر في الشرق شخصية من المصريين كما اشتهر الشيخ طنطاوى، فقد كان السائح الشرقي إذا رحل إلى مصر يسأل عن الشيخ طنطاوى في رحلته، كما يسأل الإنجليز أو الأوربيون أو الأمريكيون عن الأهرام فهو معروف في الهند وبلاد فارس والصين وإندونيسيا وفي بلاد العرب وتركستان قالت مجلة صحيفة دار العلوم.

إن التركستانيين لما استقلواي استقلالا تاما وأقاموا جمهورية إسلامية وأنشأوا المدارس والجامعات اتفقوا على أن يسموها باسم الشيخ طنطاوى جوهري، فسموها (جامعة طنطاوية) و مدارس جوهرية وألف زعماؤهم وعلماؤهم كتبا في لغتهم للتدريس في هذه الجامعات والمدارس باسم المترجم مثل كتاب القصائد الجوهرية لأنه في عقيدتهم حجة الشرق وفيلسوف الإسلام ويقول الأستاذ أحمد عطية الله وهو أحد معاصريه في مقال له عن الشيخ طنطاوي بمجلة المصور بتاريخ 24من نوفمبر عام 1972ما يلي:

ومن ناحية أخرى كان الشيخ طنطاوى يتابع ما ينشره في الصحف والمجلات من اكتشافات علمية ارتبطت في ذهنه والتطور الحضاري للغرب، لهذا نراه يقرن بين الجمهور والتخلف من ناحية وبين عزوف المسلمين عن العلوم الحديثة، وقاد دعوة إلى الإصلاح الاجتماعي قوامها نشر هذه العلوم مؤيدا قوله بالأدلة والأمثلة التي لا حصر لها بأنه لا جفوة بين القرآن وهو مصدر العقيدة الأول وبين هذه العلوم بل إنه أكد القول بأن القرآن يحث المسلم على طلب العلم بمعناه الشامل: وطريق ذلك في نظره نشر المدارس وإنشاء الجامعات الحديثة، وأجمل هذه الدعوة قصيدة له مازالت أذكر بعض أبياتها منذ المرحلة الابتدائية فيقول فيها:

وابنوا المدارس في القرى .

والجامعات كما يرى...

في كمبردج، ولندرا...

فزمانها قد حانا....

وتبلورت هذه الدراسات الموسوعية في نوع من الفلسفة الاجتماعية وأصبح داعيا إلى نظام دولي يقوم على السلام والإخاء منددا باستخدام الدول العظمى للقوة في إقرار سياستها وضمن ذلك عدة كتب منها نظام العالم والأمم و (النظام والإسلام) و (نهضة الأمة وحياتها) لهذا كان يرى نفسه في أخريات حياته أحد دعاة السلام العالمي....).

ولعل كل ذلك لم يضع الشيخ طنطاوى موضعه المرموق في مصر كما هو الشأن معه في أمم الشرق والغرب وقد كفانا الشيخ مئونة هذا بقوله: (إليك اللهم أشكو جور الحساد وغيظهم: يقولون إذا خلوا مع الموظفين من أمة الإنجليز: إن هذا إلا متعصب للدين فإذا تركتموه وشأنه أثار الثائرات وشن الغارات ويقولون للموظفين المصريين: ألا إنما هو خارج مؤول في الدين، وإذا لقوا فريقا آخر قالوا: إنه خلط العلم مع الدين ومزجها خبط ضائع اللهم إني سأعمل بما قلت لنبيك صلى الله عليه وسلم (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين).

في سبيل العلم والدين

تحت هذا العنوان نشرت جريدة الأخبار التي كان يدبرها ويرأس تحريرها المرحوم الأستاذ أمين الرافعي بعددها الصادر في 8 من سبتمبر عام 1924 نداء هذا نصه:

(نداء.. من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ طنطاوي جوهري إلى الملوك والسادة الأشراف والأمراء والأعيان وكل ذي حمية دينية إسلامية ببلاد الملايو وسنغافورة وجزائر الهند الشرقية وفولوفينا يستنهض فيه الهمم العلية لإحياء العلوم الدينية.

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله (أما بعد) فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله ثم إني أذكركم بما تعلمون أن هذا الزمان اتجهت أنظار الأمم فيه إلى العلوم والمعارف وتشييد المدارس وإنارة القلوب بالأخلاق والآداب وإن الأمم الشرقية الإسلامية اليوم أحوج إلى ذلكم من كل الأمم.

ولما كانت بلادنا المصرية كعبة أنظارهم ومرمى آمالهم ومنتهى مقاصدهم لشرفها باللغة العربية والجامعة الأزهرية والعلوم الدينية شرفنا في هذه الأيام ضيف مصر السيد النبيل حسن بن العطاس من مملكة جهور بهادر إحدى ممالككم العامرة، ومعه حضرة عبد العزيز أفندي الشيمي المدرس في أقطاركم وتحدث معنا في أمر المعارف الدينية ونشرها في أقطاركم المباركة الطيبة وطلب أن أسافر معه لبث الفكرة وجمع الكلمة فاستشرت طائفة من أولى العلم والفضل ففكروا مليا، وأجمعوا أمرهم بينهم وقرروا ما يأتي:

أولا: لا رقي لأقطاركم المباركة في الدين إلا بإنشاء المدارس في البلاد نفسها.

ثانيا: يجب أن يكون المعلمون من أبنائها لأن المدرسين المصريين وغيرهم يحتاجون إلى نفقات طائلة لبعد الشقة وطول السفر والغربة عن الأوطان.

ثالثا: يجب أن يبدأ أولا بتعليم طائفة من أبناء بلادكم العلوم المختلفة في مصر ليكونوا معلمين في المدارس التي تنشئونها فيما بعد إن شاء الله.

رابعا: يجب أن يبتدئ بإصلاح أحوال التلاميذ الذين هم الآن بالجامع الأزهر تشجيعا لهم واستنهاضا لهمم غيرهم من أبناء البلاد.

خامسا: كلفت اللجنة المشار إليها كاتب هذه السطور أن يقابل أولي الأمر مع السيد حسن بن أحمد العطاس صاحب المشروع لتنفيذ الفكرة في الأزهر أولا بدراسة أحوال هؤلاء الطلاب فلبيت طلبهم وتوجهت مع السيد إلى صاحب الدولة (سعد باشا زغلول) ونائبه صاحب الدولة (محمد باشا سعيد) وقد وعد كل منهم بالمساعدة ومن هناك صدر الأمر لصاحب الفضيلة شيخ الإسلام بامتحان الطلاب فشكلت لجنة تحت رياسة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان العضو بمجلس الشيوخ ومن كبار العلماء بالأزهر لامتحانهم ومعرفة أحوالهم فسرها حال وساءتهم أحوال وقد نظرنا في أمرهم من عدة وجوه لابد من تكميلها وهي:

أولا: إن التلاميذ لا يحسنون النطق بالعربية، وهي لغة العلم بالأزهر الشريف إلا القليل. ثانيا: إن مساكنهم التي يؤجرونها غير صحيحة، وأحوالهم المعيشية غير مرضية.

ثالثا: إن المال ليس متوافرا لديهم كما هو عند طلبة الترك والشام وبلاد المغرب فهؤلاء جمعيا غرباء مثلهم ولكن لهم أوقاف خاصة بهم فهم في عيش أحسن وزي أكمل على كل حال.

رابعا: رأت الجماعة أن هذا إنما نشأ من اقتراب هذه الأمم من مصر وابتعاد أمة الملايو وطول الشنقة في غابر الأزمان، أما الآن فقد وجدت المواصلات بين الأمم فيجب العناية بهؤلاء الطلاب.

وعلى ذلك تقرر أن يعتني بتعليم المستجدين من هؤلاء ويراعوا رعاية خاصة، ويجعل لهم نظام خاص عند ابتداء حضورهم ويطلب من فضيلة شيخ الإسلام العناية بذلك وهو أب لهم رحيمي ثم طلبت اللجنة وأعضاءها بترتيب حروف المعجم حضرات: حسن بك أحمد من الأعيان ومن كبار أولى العلم، والأستاذ الشيخ عليش، وعبد العزيز أفندي الشيمي والأستاذ الشيخ محمد نور المدرسون بالمدارس والسيد مصطفى البابي الحلبي الكتبي المشهور ونور الدين بك مصطفى من الأعيان وكبار أولي العلم طلبت من كاتب هذه السطور أن يدون ذلك ويرسل خطابا بمضمونه إلى حضراتكم ملتمسا جمع المال اللازم.

وأن تشكل لجنة عندكم من الملوك والوزراء والأعيان ويكون لها أمين صندوق ينتخب من بينهم وهذه اللجنة مهمتها جمع المال والتبرعات باكتتاب دائم لتعليم العلوم الدينية حتى إذا ما اجتمع عند الجمعية ما يسد الحاجة فهنالك يحسن أن تخاير اللجنة المذكورة كاتب هذه السطور، وترسل من تراه لتريه اللجنة ما هو واجب من شراء عقار ووقفه على الطلاب وغير ذلك ثم يستشار الإخوان هنا ويقرون ما يجب عمله في مصلحة الطلبة الأزهريين من مسكن وملبس وتعليم وتوجيههم إلى المقاصد التي يصلحون لها وتكون اللجنة هنا بمصر كمستشار يؤدي وظيفة النصح التي تجب على جميع المسلمين وهذا العمل هو المقصود من سفري فليؤجل ذلك السفر لفرصة أخرى إذا تمت الأمور.

وهذه اللجنة بمصر فوق التعليم الديني تقوم بكل ما يلزم من النصح لكل طالب يريد الطب أو الهندسة أو القضاء الشرعي أو علم الزراعة أو علم التجارة أو غير ذلك من العلوم العصرية خلاف العلوم الدينية.

ثم كلفتني اللجنة أن أنشر بيانا أستشير فيه الحمية وأبعث الغيرة في نفوس من عندكم من إخواننا المسلمين فلبيت طلبهم وهأنذا أوجه خطابي للجمعية وقبل أن أقول كلمتي في هذا الشأن أذكر أن جلالة ملك مصر فؤاد الأول قد أصدر أمره في هذا العام بأن يبني مسكن صحبي لسائر الغرباء وقد عهد الأمر فيه إلى صاحب الفضيلة الشيخ حسين وإلى سكرتير الجامع الأزهر ونحن لذلك مرتقبون.

وأيضا أخبرني أستاذنا العلامة إسماعيل بك رأفت أن هناك وقفا للجاويين وقفته السيدة رمز عاشق هانم من معتوقات المرحوم إسماعيل باشا من الأسرة العلوية وذلك من نحو عشرين سنة وهو شاهد عليه هو ومحسن نوري بك مدير الدفترخانة والبحث جاري عن هذه الأطيان وإعدادها لأهل الملايو وأهل جزائر الهند الشرقيين الطالبين بالأزهر.

ولما رأى ضيف مصر الفاضل العطاس حال هؤلاء الطلاب استأجر منزلا على نفقته بمعرفة السيد مصطفى أفندي البابي الحلبي حتى يتم النظام المستقبل الذي أعده لهؤلاء الطلاب.

ظهر العدد 343 من جريدة مصر الفتاة الصادر في 15 من نوفمبر عام 1909 مصدرا بمقالة شغلت الصفحة الأولى وجزءا كبيرا من الصفحة الثانية. وكان عنوان تلك المقالة.

مذهب داروين عند العرب

المقتطف والمفكر المصري الكبير للمفكر المصري الكبير، والعالم العصري العامل، الشيخ طنطاوي جوهري مباحث فكرية دقيقة في علوم لم يشتغل بها إلى الآن غير الغربيين ومن بنات مباحثه الجليلة كتابه الذي سماه نظام العالم والأمم وانتشر في أنحاء الممالك الإسلامية الدانية والقاصية فكان موضع إعجاب القارئين علماء المسلمين وطلابهم الكثيرين.

وقد أطلع أحد المشتغلين بالبحث والاستنتاج على هذا الكتاب الثمين فعن له سؤال بعث به أصحاب المقطم ليجيبوا عنه أو ليوجهوه إلى مؤلف الكتاب حتى إذا أطلع عليه أجاب بما عرف فيه من قدرة واطلاع.

وقد تصدى أصحاب المقطم للرد على السؤال وقرأ الأستاذ في مجلة المقتطف السؤال والجواب فرأى من الواجب عليه أن يكتب مقالة يميط بها عن الحقيقة الحجاب وبعث بمقالة إلى أصحاب المقتطف عن طريق أناس من ذوي الجاه، فوعدوهم وعدا حسنا ولما أن مضى الميعاد وظهر المقتطف في الشهر الحالي وجده خاليا مما كتب مخالفا للوعد فلم يجد الأستاذ مندوحة عن بيان الحقيقة الناصعة بيضاء للناظرين فأرسل إلينا بصورة مما بعث به إلى الدكاترة وطلب منا نشره ونحن مع أسفنا لظهور حضرات أصحاب المقتطف و (المقطم) بمظهر الناكثين للعهود نجيب حضرته إلى طلبه بكل ارتياح .

ونقول له: لا يحزنك يا فيلسوف مصر ما وجدت من دكاترة سوريا من المراوغة والمطل وخلف الوعد فإن من راوغ أمة كاملة ما ينيف عن ربع قرن لا يعز عليهم أن يراوغوا واحدا من كبار هذه الأمة وإن كان من كبار علمائها ومفكريها وهذا نص المقالة التي أبى حضراتهم نشرها بعد أن وعدوا به....).

ثم أخذت جريدة مصر الفتاة في نشر المقال ولما كان المقال طويلا ويمكن أن يكون رسالة في مذهب داروين أو دائرة الوجود في الشرق والغرب ولما كان لهذا المقال من أهمية كبيرة رأينا أن ننشره بحذافيره وفي الجزء الثاني من الكتاب في الفصل الخاص بـ (مقالاته المتناثرة) مصدرا بخطاب الشيخ طنطاوي لأصحاب مجلة المقتطف.

الفصل الرابع العالم الإسلامي

منهجه في الإصلاح الديني

ليس التفريق بين ما هو من السياسة، وما هو من الإصلاح بالأمر الهين، بل إن التفرقة تكاد تكون تفرقة تعسفية، فكل حركة إصلاحية تخدم هدفا سياسيا في حقيقة الأمر، وكل منهج سياسي يمكن وصفه بأن حركة إصلاح تستهدف رفع مستوى مجموعة أو أكثر من المجمعات البشرية والذين يعملون في الميدان إنما يعملون في الحقيقة في ميدان واحد هو ميدان الوطنية.

والمشكلة الكبرى التي تواجه كل سياسي وكل مصلح هي كيف تخلق أمة قوة راقية في هذا المجتمع؟

وهذا هو ما ندركه بعمق في كل ما قام به مصلحونا في مطلع هذا القرن فلم يقف أحدهم عند الإصلاح الديني فحسب بل جره هذا الإصلاح إلى الاشتراك في ميدان الوطنية وبخاصة إذا كان المصلح من أصحاب العبقرية الموهوبة المطبوعة على أداء رسالتها في عالم العقيدة والإيمان.

وهذا هو الشيخ طنطاوي جوهري لم يكافح ويناضل في سبيل سمو مبادئ الإسلام وقواعده فحسب بل كافح وناضل عن القضية المصرية بما يشهد له بأنه كان من أخلص أنصار القضية المصرية، وفيما خلف وراءه من الأناشيد الوطنية وكتابه (نهضة الأمة وحياتها) الذي نشره في جريدة المصرية وفيها خلف وراءه من الأناشيد الوطنية وكتابه (نهضة الأمة وحياتها) الذي نشره في جريدة (اللواء) أيام مؤسس النهضة الوطنية الزعيم مصطفى كامل- ما يشهد له بصدق النظر وقوة الإيمان ندعو إليه حتى أطلق عليه العلامة (سانتيلانة) الإيطالي أنه أحد رؤساء الحركة السياسية والاجتماعية التي انتشرت في طبقات الشعب الإسلامي.

ولعل فيما قدمنا من سيرته ما نلمس فيه وطنيته بجانب أنه كان داعية الإسلام في الشرق الناهض، ولعلنا حين نستعرض ما أقترحه للإصلاح العام نلمس جمعه بين الوصفية وقيامه بالنهضتين فهو يرى أن الإصلاح ينهض على أربع دعائم ويوجه قادة الشعب إليها فيقول:

1- أن يسرع قادة الشعب في تعميم مزج علوم الحياة بالدين حتى يطمئن المتدين إلى النظر في هذا العالم ويعشق العلوم عشقًا قلبيا.

2- أن تعمم آداب الدين الإسلامي التي حصرها الإمام الغزالي في سبعمائة وخمسين آية بين مشايخ الصوفية حتى يقتربوا من إخوانهم طالبي علم الدين، ويقودوا الشعب إلى المدنية والعلم.

3- أن يشجع قادة الأمة الصناعية والصناع بترويج ما صنعوا وإطرائه والإقبال عليه.

4- العناية بشعراء الربابة الذين يقصون أقاصيص خيالية تأخذ بألباب العامة على أن تهذب تلك الروايات، وتتحول إلى ما نحتاج إليه من الأخلاق الفاضلة وحب العلم ورقي الأمة فسلطان هؤلاء على العامة كسلطان رجال الديني ورجال الصوفية على الباقين.

وهذا المنهاج يدلنا على ما سلكه الشيخ طنطاوى وأمثاله من المصلحين في هذه الفترة من أمثال الأستاذ الإمام محمد عبده والكواكبي وعبد العزيز جاويش وغيرهم من دعاة الإصلاح الديني.

ويقول البارون كاراه دي فو في كتابه (مفكرون الإسلام) في الفصل الذي يبين فيه المظاهر الرئيسية لتطور مصر الحديثة: منها العناية الشديدة التي أظهرها رجلان من رجال الدين وهما الشيخ محمد عبده والشيخ طنطاوي جوهري في تمثيل الدين الإسلامي وتأثيره في النفوس للنهوض بها إلى التطور الحديث. وأيد ذلك العلامة (تشارلس آدمز) في كتابه الإسلام والتجديد في مصر حين ترجم للشيخ طنطاوي ككاتب له مؤلفات كثيرة في نصرة الدين والدفاع عنه وأنه أحد الرواد الذين عملوا على التوفيق بين المدنية الغربية والعلم الغربي وبين الحياة الاجتماعية والدينية في مصر، وجعلوا لكيان ذلك كله طابعا إسلاميا صحيحا.

ولعلنا نجد المشابهة واضحة بين رأيي الشيخ طنطاوى والشيخ محمد عبده إذا رجعنا إلى أستاذنا الكبير عباس محمود العقاد في كتابه عن محمد عبده ثم نرى ما قرره الشيخ طنطاوى لهذا الإصلاح، فإنه يرى أنه يجب أن يدرس الأزهر مبادئ تخطيط البلدان وسير مشاهير الرجال مما يدعو إلى علو الهمم، ثم دراسة السيرة النبوية بعد استخلاصها وإظهار ما يستوجب إعظام نبينا ومعرفة شجاعته وسياسته، وجمع الأحاديث الصحيحة التي لها مساس بالاجتماع والحياة والرقي واستبدال بعض كتب المتأخرين بكتب الأقدمين ودراسة مبادئ التاريخ الطبيعي وشرح الآيات به وكذلك مبادئ علم الهيئة بعد أن ينفي مما اختلط بعلم التوحيد مما ينافي الدين، وكذلك مبادئ قانون الصحة، ثم أراد تشكيل لجنة من ذوي الرأي للنظر في المعاملات والأحكام واستخلاص قانون مسنون من المذاهب الأربعة يلاءم هذا العصر يستبدل بالقانون الأوربي، ثم طالب له بالمال من الحكومة والأوقاف وأغنياء الأمة.

ثم هو يقول بدور المدافع عن الدين الإسلامي حين رد على ما يدور في أنحاء أوربا والشرق من أن المسلمين متعصبون ودينهم ينفر من المدنية والحضارة وعلوم العمران، وأنهم ظالمون للنساء متباعدون عن الأعمال يأمرهم دينهم بالكسل وينهاهم عن العمل، وأنه يبيح الرق، وأنه يجعل من أتباعه جماعة من أنصاف الهمج المحبين للحروب الذين لا يتسع صدورهم لأي تسامح وهذا كله ترديد لما قاله كرومر من أن الإسلام ناجح كعقيدة ودين، ولكنه فاشل كنظام اجتماعي!

وقد رد الشيخ طنطاوى على كل ذلك في كتابه نهضة الأمة وحياتها ردا مفحما مؤيدا بالآيات القرآنية والتاريخ والحديث والقديم، وقرر أن نهاية أبحاث علماء العمران في هذا العصر بداية علوم الإسلام لا المسلمين في القرون الحالية.

وتحدث الإمام محمد عبده عن الرشوة، وكذلك فعل الشيخ طنطاوى حين ندد بالمرتشين بشتى الصور، وتحدث عن الرشوة في الشرق وفي الغرب وتناول الحديث عن الزكاة والحكمة منها، وأن الرشوة قلبت الأمر فأدلى الفقراء بأموالهم إلى الأغنياء والحكام!

وتحدث الأستاذ الإمام عن البدع والضلالات ونرى الشيخ طنطاوى يتناول في كلامه عن العقول والأوهام بعدم تصديق ما ينشره الدجالون والمشعوذون من أفكار خاطئة عن التنجيم والعفاريت والإخبار بالغيب.

ولما كانت (الفتوى الترنسفالية) مثار ما كتبه الشيخ الإمام في لبس القبعة وأكل طعام أهل الكتاب وأداء الصلاة وراء كل إمام يدين بالإسلام كانت الرسالة القازانية مثار إجابة الشيخ عن سؤال أحد شبان القازان الذي يقول (هل علماء الإسلام المتقدمون بلغوا النهاية من مباحث الإسلام فلا تثريب علينا إذا نحن سكتنا وتوقفنا عن التفكير بعدهم، أو أن الأولين تركوا للآخرين مجالا للبحث والتنقيب والتفكير في أمر الدين؟

فسكت الشيخ طنطاوى مليا ثم قال: (أنا لا أنشر شيئا لقوم جبلوا على التقليد وأخاف –إن قلت الحقيقة- أن عامتهم تثور، فتحبط العمل) فرد عليه الشباب وقال: (ولمن تعطي العلم إذن يا سيدي؟

فحمله ذلك على أن يؤلف الرسالة القازانية في ثلاثة أيام، وهي عبارة عن ثلاث مقالات من خير ما كتب عن العلوم التي نسبها الغربيون إلى أنفسهم، وهي داخلة ضمن فصول كتابه (نهضة الأمة وحياتها) فليرجع إليها من يشاء.

وقد دعا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إلى تعليم اللغات الأوربية وكذلك دعا الشيخ طنطاوي إلى تعليم اللغات الأجنبية مؤيدا دعوته بالبراهين.

وهنا تقتضينا الأمانة أن ننقل على لسان نجل الشيخ طنطاوى جوهري السيد المهندس جمال الدين ما قاله لنا بشأن هذه المقارنات بين الشيخ طنطاوي والشيخ محمد عبده: إن الشيخ محمد عبده يرى تطويع الدين للدنيا وكان يعمل على أساس أنه مصري.

أما الشيخ طنطاوى فكان يرى أن الدين هو السياسة والوطنية والعلم، وكان لا يرى إلا أنه صاحب رسالة عليه أن يؤديها مهما كانت النتائج حتى لو عادت عليه بالضرر وكان يعمل على أساس أنه مسلم فهو يعمل للمسلمين جميعا وكان يرى أن السلام فلسفة، علم دين، وسياسة.

من كل ما قدمنا نريد أن نثبت أن الشيخ طنطاوى كان من مدرسة الإمام، ومن العاملين المفكرين المؤمنين بفريضة الإصلاح ورسالة التقدم، وكان مثله يكافح الجمود من جهة ويكافح التفرنج الذميم من الجهة الأخرى وقد سلك سبيل خدينه في الدعوة الإسلامية.

فحارب أولا ما استولى على المسلمين من ضعف وفتور العزائم والانصراف عن الدنيا، وعن مكافحة العدو التخلص من الاستعباد بمقالاته وكتبه وخطبه ثم خرجه على الناس بحملة تقدمية كبيرة في تفسيره العلمي، ثم برده على ما يتهم به الإسلام من أنه دين متخلف، ثم بمشروعه الذي تقدم به لإصلاح الأزهر ووصله بالحياة المعاصرة، ثم بتلك الفتاوى التي كان يرد بها على كل من سأله في مشكلات الدين سواء في الدروس أو في الصحف وكذلك آراؤه التي كان يذيعها عن طريق ندواته التي كان يعقدها في منزله أو في منازل مريديه أو الجمعيات التي تعمل بها، ثم اتصاله بالشرق عن طريق كتبه الدينية التي ترجمت إلى كل اللغات الشرقية، ثم كتاباته لكل علماء العالم وعظمائه في الشرق والغرب واتصاله بكل وافد شرقي وبالشبيبة من أبناء الشرقين الأوسط والأقصى في جماعة الأخوة الإسلامية كما قدمنا كل هذه الوسائل التي سلكها المفكر الإسلامي العبقري وغيرها جعلته على رأس القائمة حين يذكر دعاة الإسلام فهو مسلم ارتفع إسلامه الحنيف عن القعود والتواكل وعن خزن ما في صدره فعمل حتى لم يبق بلد شرقي يجهل مؤلفاته:

ففي اليابان يتردد اسم طنطاوي جوهري ويتدارس فقهاؤهم كتبه وكانوا يبعثون إليه في طلب زيادة الري منها.

وفي الصين يأتم جميع المسلمين فيها بكتبه، وفي الهندي يضع المسلمين من أهلها مؤلفات الشيخ طنطاوي موضع السند يعودون إليها كلما اختلفوا ويرتوون منها ما احتاجوا فيه إلى الرأي الثاقب.

وفي أفغانستان وإيران والعراق ومصر والشام والحجاز واليمن وما وراء هذه البلاد وما بعدها من الأمم المسلمة في المشرق والمغرب يعرف الناس ما كان للشيخ طنطاوي من فضل مشكور وجهاد مبرور.

الشيخ طنطاوي في صحف الهند

نشرت جريدة اللواء في عددها الـ (3260) الصادر في يوم الخميس 28 من أبريل سنة 1910 تحت العنوان السابق ما يلي:

لما كان مسلمو الهند الذين يبلغون ستين مليون من النفوس قد أخذوا ينهضون من سباتهم العميق وابتدءوا في حركة الرقي والإصلاح وأخذوا يجدون في العلوم الدينية والعصرية وكانت لغتهم هي الأوردية تطلعوا إلى قبلة يؤمونها ووجهة يولونها فلم يجدوا بلدا عربيا غاصا بالعلماء مثل القطر المصري فولوا وجوهم شطره.

وبينما هم يرتقبون عالما مصريا يشبه الإمام السيد أحمد خان يتلقون عنه العلم إذ ظهر الشيخ الإمام محمد عبده، فتلقفوا كتبه بشوق عظيم وودوا لو يطول عمره، وتكثر تصانيفه فلما غادر الدنيا ولقي ربه مع قلة تصانيفه صادفتهم كتب الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهرين فألفوها تضارع كتب الشيخين وتنهج نهج الإمامين، فاستبشروا، وتلقوها بالسرور وتلقفوها بالفرح، وأخذوا يترجمون وينشرون ما ظهر من كتبه، وكأن الله عز وجل عوضهم مما فقدوه من كتب الإمم الشيخ محمد عبده بوفرة كتب الشيخ طنطاوي جوهري وكلما نشروا كتابا منها أخذوا يسألون عن غيره حتى وصل لهم كتاب نهضة الأمة وحياتها فأخذت تترجمها جريدة (وكيل) التي تصدر في (أمرت) من بلاد (البنجاب) بالهند وقرظته جريدة (بيه أخبار) اليومية التي تصدر في مدينة (لاهور) بعددها الصادر في 15 مارس الماضي عام 1910 تحت عنوان المقالة الخاصة.

قالت ما ترجمته: وصلنا كتاب (نهضة الأمة وحياتها) الذي صنفه الفاضل المصر ي الشيخ طنطاوي جوهري الشهير فأنعمنا فيه النظر فألفيناه قد ابتدأ الكتاب بالمبادئ والمقدمات اللازمة لرقي الأمم من الروحانيات ثم أتبعه وجوب وجود رجال عظماء للأمم النائمة الساهية ليوقظوها من سباتها وينشروها بعد موتها وأخذ يشرح عناصر الإصلاح المكونة للأمم من الحرية والمساواة وتعليم العلوم والصناعات وطفق ينقد علماء العصر الحاضر الذين يمنعون المتعلمين من التغذي بلبان العلوم الحديثة باسم الدين.

ثم عقد فصلا خاصا بين متعلم أزهري وعالم عصري، وأخذ يشرح المقدمات ويستنتج النتائج بعبارة حسنة جميلة رائعة تأخذ بالألباب وانتهت باتحاد المتناظرين على أن العلوم العصرية لا تفسد عقائد الدين ولن تفسدها إلا الآثار الناقصة المشوهة من فلسفة اليونان المتخللة كتب الدين.

واتفق المتناظران على وجوب قراءة العلوم الحديثة جميعا في الجامعة الأزهر.

وبعد أن فرغ من الإصلاح الأزهري ألقى نظرة إلى الأمم الحاضرة ومدنيتها، فبسط الكلام في عناصر المدنية وقوانينها وأحوالها العامة وقارن مصر بتلك العناصر، وأسف أشد الأسف على بلاده وتمنى رقيها السريع فهو مغرم برقة بلاده كما هو مغرم برقي الأزهر وشرح الثانية كما شرح الأول ووصف داءها ودواءها وصفا شافيا مما دل على إخلاصه وحبه لبلاده حبا جما.

ثم أخذ يحلل بعد ذلك بطريق عجيب وأسلوب غريب مدهش كثيرا من الأخلاق والآداب والآراء بعبارات غاية في الحسن والإتقان حتى إننا نملك أنفسنا عن قراءاتها أن نقول (واه. واه) ثم قابل بين المشرق والمغرب بطريق عجب غريب، وأثبت بالأدلة الفلسفية البراهين العقلية أن لا حياة للأمم إلا بالأحكام الدستورية، وأن ذلك ناموس طبيعي يشابه تمام المشابهة لنظام الجسم الإنساني.

وعزز رأيه بالقرآن والتوراة، ثم أردفه المؤلف بمقالات كثيرة أظهر فيها قوة وغزارة علمه وتوفر مادته مما لم يجاره فيها أ؛د من الكتاب قبله، ثم أتبعه الكلام في مسألة الرقي في الإسلام بنهج عظيم رقيق فبين كيف ابتدأ الرقي في الإسلام.؟ وما فائدته؟ وعلى أي مقصد أسس بنيانه؟ وما فوائده العظيمة للأمم السالفة وأن الرقي في الإسلام وما فائدته؟ وعلى أي مقصد أسس بنيانه؟ وما فوائده العظيمة للأمم السالفة؟ وأن الرقي في الإسلام عبارة عن مدرسة جماعة يحشر فيها أبناء الجاهلية فيتعلمون ويصيرون علماء وملوكا (ككافور الإخشيدي وابن طولون والمماليك) فهو معهد علمي تربي فيه ألوف من أبناء الفقراء والمساكين من الأمم الوحشية، وأبان أنه لا سبيل لإصلاحهم بغير هذه الوسيلة.

والخلاصة أن هذا الكتاب في محاسنه وبدائعه ليس له نظير ولقد كنا ونحن نقرؤه ونزن قوة المؤلف وغزارة مادته نتذكر الإمام الغزالي في فصاحته وبيانه وقوة إقناعه في مصنفاته فتبارك الله رب العالمين)أ. هـ. وإنا نرجو من الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري أن يجعل حياته وقفا على تصانيفه، فإن ملايين من الأمم الإسلامية تتشوق لهذه الكتب فلا يحرمها مؤلفاته كل حين ولا يسعنا إلا أن نحث علماء مصر على اختيار هذا الطريق لخدمة الأمم الإسلامية وإحياء الإسلام والعلوم .

عبد الحق الشاه نوري الهندي.

وقد نشرت هذه المقالة جريدة العلم كما نشرته جرائد ومجلات هندية أخرى.

ويعد هذا المقال نموذجا لما نشر من هذا القبيل مما يدل على ما كان للشيخ طنطاوي من مركز كبير لدى الصحافة الشرقية والعالم الإسلامي.

مع السيد جلنار

هي مدام ليديف المستشرقة الروسية، وتتقن أربع عشرة لغة منها العربية والإنجليزية والفرنسية والنمساوية والتركية والفارسية والروسية التي هي لغتها الأصلية.

جاءت هذه السيدة إلى مصر عام 1906 وطلبت من نظارة المعارف أستاذا عالما بالتصوف، فأرسل فخري باشا ويعقوب باشا أرتين إلى الشيخ طنطاوي وطلبا منه أن يذهب إليها ويقول الشيخ طنطاوي:

توجهت إليها فوجدتها جالسة مع الوقار والأدب والكمال، وأخذت تحدثني باللغة العربية عن عالم الروح وما وراء الطبيعة وأقوال الأمم من شرقيين وغربيين في ذلك وكانت تبتدئ بالقول على نهج الأوربيين تارة وحكماء الهند أخرى، وفلاسفة اليونان تارة والعرب أخرى وما ولجت بابا إلا قال لها الأستاذ لقد طالعت هذا في كتاب كذا من الكتب العربية كالأسفار للشيرازي، والمواقف والإشارات لابن سينا، والفارابي وابن عربي وغيرها، ثم يأخذ في الشرح ويفيض فيه حتى يلم بأقسام الموضوع الذي ابتدأته فدهشت السيدة وعجبت، وكأن كلا منهما لم يكن ليعلم أنه يلاقي من يشاكله في هذا المجال واستمرت هذه الجلسة ساعتين ونصف الساعة شرح لها فيها الكثير من الرسالة القشيرية.

قالت مدام ليديف للشيخ طنطاوى: إن لها أستاذا بألمانيا يسمى ماركس وهو الذي أمرها بترجمة الرسالة القشيرية إلى اللغة الفرنسية لتعم أرجاء البلاد الأوربية ولتكون ذكرى لها بعد موتها.

وفي أثناء ذلك جاءها خطاب من أستاذها الألماني يسألها فيه عن الذي يساعدها في الدراسة فقالت له: إنه الأستاذ (طنطاوي جوهري) فأرسل لها يقول: (سليه عن معنى العفة وما معنى التوحيد) وظن الأستاذ أن ذلك لمجرد الاستفهام ولم يكن ليدور بخلده أنه امتحان وأن ذلك سوء ظن من الألماني بالمصري، فقال لها:

(العفة هي التوسط في المطاعم والمشارب والملابس والمساكن وكل ما حام حول حمى الشهوات البدنية واللذات الحسية: فإن مال إلى الزيادة سمى طمعا وشرها، أو إسرافا وتبذيرا وإن مال إلى النقص سمى بخلا وتقتيرا، ونحو ذلك من الأسماء والصفات التي شرحها علماء هذا الفن.

(أما التوحيد فهو أن الله عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الحي القيوم الأزلي الأبدي الذي تجلى على الأكوان فأبرزها، وعلى الحقائق الكونية فأظهرها ألا وإن الخلق جميعا سابحون في بحار نعمته، غارقون في أنوار جلاله وجماله، وما مثلهم مع الحق جل جلاله إلا كمثل النجوم مع الشمس، فلئن ثبت وجودهن إن الشمس أحاطت بهن وهكذا....).

فلما ردت على أستاذها الألماني بما سمعت من الشيخ طنطاوي جاءها الرد يقول:

((إن هذا الأستاذ عالم بالفلسفة اليونانية والتصوف، ولكنه لو قرأ اللغة اليونانية لكان ذلك أحسن ولي عليه اعتراض: هو أن هذا التوحيد الذي ذكر يدل على أن الدين الإسلامي لم يحل وثاقه ولم يطلق عنانه ولم يتح له أن يجعل التوحيد أوسع مما قال ولم يكن كالحلاج الذي فني في ذات الحق، وأفنى الوجود كله، فيه؟

ولكن الذي منعه هو دينه دين الإسلام إنه رجل مستنير فليدرس معك هذا العلم فإن الشيوخ الذين قابلناهم في أوربا لم نرى منهم من يعرف هذه العلوم)).

ولما قرأت هذا الجواب على الشيخ طنطاوى عرف أن الخطاب كان امتحانا وحضر إذ ذاك يعقوب باشا أرتين واطلع على الخطاب فاستغرق ضاحكا وقال: إن الشيخ (طنطاوي) يقول ما نعقله مما لا تفهمانه أنت وصاحب الألماني عن وحدة الوجود!

ولما أرسلت لأستاذها أول جزء من الترجمة كتب إليها يقول ما معناه: (لم أر ترجمة في اللغة الفرنسية الفقيرة أبدع ولا أروع مما جاء باللغة العربية الغنية التي أبرزت ما فيها من المعاني وبينت) ولقد كانت هذه السيدة تعجب مما تسمع من آراء مشهوري الصوفية- كالجنيد وابن المبارك ومثالهما ووجدهم لربهم، وعشقهم للحضرة الإلهية.

حادث الجنيد

وذكر الأستاذ الشيخ طنطاوى أنهما كانا يقرآن في حديث عن الجنيد إذ قال له تلميذه:

(.... وقوله ينشد شعرا والتلاميذ طربون فرحون صارخون مولوه بما طربوا وما استفزهم من المعاني البديعة والمغاني البهية) وتوقف التلميذ عن القراءة ثم سأل: أليس لك في السماع يا سيدي؟ فقال له الجنيد: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) أ. هـ.

فسألته السيدة: ما معنى هذه الآية؟

فأجابها: إن المتقدمين كانوا يفسرونها بأن الجبال يوم القيامة ستكون هباء منبثا كالعهن المنفوش والصوف المندوف، فيرى الإنسان الجبال كأنها لعظم جرمها ثابتة، مع أنها سريعة الحركة، فأما المتأخرون من المسلمين فإنهم لما قرءوا الهيئة الجديدة ورأوا أن الأرض دائرة والجبال معها قالوا: وترى الجبال تحسبها جامدة ساكنة وهي تمر مع الأرض الجارية بحسبان حول الشمس، والسحاب يدور حول الأرض وهكذا القمر، ولذلك أعقبه بقوله صنع الله الذي أتقن كل شيء، والإتقان ينافي التخريب، فلو أن ذلك كان يوم القيامة لم يسغ في نظم البلاغة أن يقال: صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولكن يقال: إن بطش ربك لشديد، لتكون الصفات مناسبة للمقام.

فقالت السيدة: إذن لقد كذب والله الأوربيون إذ يقولون: ليس في الإسلام لطائف وبدائع ورموز! وظهرت عليها الدهشة ثم قالت: فهمت معنى الآية.

وما قصد الجنيد إذن؟

قال الشيخ: إن الجنيد يقول، ما مثلي إلا كمثل الجبل يرى ساكنا وهو في الحقيقة متحرك جار أسرع من الهواء والطير والسحاب: فقلبه جائل في المعاني، وجسمه ثابت كالجبال الرواسي: فالطرب والحركة للقلب، والسكون للجسم.

وسألته السيدة جلنار يوما ما معنى البيت الذي يقول:

وأسكر القوم دور كأسي

وكان سكري من المدير

فقال: إن هذه على عادة أهل الحانات يجلسون وأمامهم ساق يسقيهم فيقول: إن كأس الخمر أسكرت القوم، أما أنا فما أسكرني إلا ساقيها والخمر هنا هي المعارف والعلوم واللطائف والفتوح الربانية، والمعاني البديعة المنزلة على قلوب العباد المخلصين لربهم أما الساقي فهو منزل تلك العلوم على الأفئدة والمتجلي بنوره على القلوب والمشرق شمسه على بصائرهم فيقول: إن الناس يسكرون للمعاني العلمية واللطائف الربانية، أما أنا فاستغراقي في جمال جلاله، وعشقي لذات جلاله.

فلا معشوق إلا الله، ولا محبوب لي سواه.

إذا كان هذا الكون يكلؤه الذي براه فأولاه الجمال وتمما.

فماذا يراه عاقل غير أنه قصور جنان الخلد رصعن أنجما.

فنظرت إليه وقالت بتحسر وتأسف: ليتني كنت شيخا.

وكانت تأنس إليه وتستشيره في كثير من الأمور، بل كانت تصلي معه الصلاة السرية كالعصر والظهر، وكانت تفخر به كأستاذ لها ليس له نظير.

الفصل الخامس منهج الشيخ طنطاوى في تفسير القرآن

لعل من أكثر من ركز على كونيات القرآن في العصر الحديث أستاذنا الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر فلقدي توسع في مجال التفسير العلمي، وقرر أن القرآن يحوي كل العلوم، وأنه يشير إلى جميع مسائلها، ولعل تأثر بأستاذه الإمام الغزالي الذي ألف كتابه (جواهر القرآن) وخصص منه بابا يبين فيه كيف تشعبت العلوم كلها من القرآن ويريد بالعلوم العلوم الدينية والدنيوية واللغوية، والعلوم التي كانت واندرست والعلوم التي هي كائنة ولا يعرفها الناس، والعلوم التي ستكون فيما بعد.

ثم يعقب بأن هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن فإن جميعها مغترفة من بحر واحد، من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال وقد ذكرنا أنه لا ساحل له إن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفذ البحر قبل أن تنفذ وعرض في بياني أفعال الله والحاجة في فهمها إلى مختلف العلوم كفعل الشفاء والمرض لا يفهمان إلا بالطلب وفعله في تقدير الشمس والقمر ومنازلها بحسبان لا يعرف إلا بالهيئة، إلى أن يشير أخيرا إلى أنه لو ذهب يفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها.

ولعل شيخنا طنطاوى تأثر كذلك بآخرين من قدامى المفسرين من أمثال: الفخر الرازي صاحب (مفاتيح الغيب) المشهر بالتفسير الكبير والبيضاوي صاحب التفسير المعروف بـ (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) ونظام الدين القمي النيسابوري صاحب التفسير المعروف بـ (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) والإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي صاحب كتاب البرهان في علوم القرآن) وجلال الدين السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) والراغب والأصفهاني، وأبي بكر بن العربي......

ولقد كان تفسير الشيخ طنطاوى- الجواهر- تفسيرا عجيبا حقا، تنقل فيه بين فنون من العلوم والمعارف يعجب القارئ لإلمامه بها على ما بينها وكان عملا رائعا لم يظفر التاريخ الإسلامي منذ قرون خلت بمثله.

وأما المنهج الذي انتهجه في هذا التفسير فلن يصل إليه إلا الأفذاذ من أهل العلم وأصحاب العقول الراجحة. وكان الشيخ طنطاوي عالما علما، وعاملا مخلصا ينتمي إلى جيل من الرواد الذين امتازوا بما لم يسبقهم إليه غيرهم: سعة أفق، وبسطة في العلم وشمول نظرة، وإحاطة وقدرة على الاحتواء، ورسوخ في الإيمان يضاف إلى ذلك كله الموهبة التي منحه الله إياها...

وفي مقدمة تفسيره يتحدث عن البواعث التي دفعته إلى تأليف هذا التفسير ويقول: (أما بعد) فإني خلقت مغرما بالعجائب الكونية، معجبا بالبدائع الطبيعية مشوقا إلى ما في السماء من جمال وما في الأرض من بهاء وكمال آيات بينات، وغرائب باهرات، ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية ألفيت أكثر العقلاء وبعض جلة العلماء عن تلك المعاني معرضين وعن التفرج بها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم، وما أودعت من الغرائب فأخذت أؤلف كتبا لذلك شتى: كنظام العالم والأمم وجواهر العلوم، والتاج المرصع وجمال العالم، والنظام والإسلام ونهضة الأمة وحياتها وغير ذلك من الوسائل والكتب ومزجت فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعلت آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع وحكم الخلق....

وكان مسلكه في هذا عن طريق النظر في آيات الكتاب الكريم والتدبر في معانيه على أساس ما كان يتلقاه من إلهام وما كان يراه بعين بصيرته فهو يصرخ بأن هذا التفسير نفحة ربانية، وإشارة قدسية وبشارة رمزية أمر به بطريق الإلهام، وأيقن أن له شأنا سيعرفه الخلق وسيكون من أهم أسباب رقي المستضعفين في الأرض. وسمى الشيخ طنطاوي تفسيره (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) لأنه يجعل الجوهرة بدل الباب أو الفصل، والجوهرة يتفرع عنها الماسة الأولى والماسة الثانية وهكذا ...

وطريقته في تفسير القرآن أن يبدأ بالتفسير اللفظي للآيات التي يعرض لها، ثم يتلوه بالشروح والإيضاح والكشف: أي أنه يشرع متوسعا في الفنون العصرية المتنوعة.

غير أن بعض العلماء في هذا العصر لم يرض عن هذا اللون من التفسير ولم يستسغ أن يشرح به كتاب الله تعالى وراح يرد هذه الفكرة على أهلها ويتناولها بالنقد والتفنيد، وينعى على من تأثروا في تفسيرهم بنزعاتهم العلمية وبعد هذا صارفا يصرف الإنسان عن القرآن وهديه، ويخرج به عن قصده، وينحرف به عن هدفه.. ونجد هذه المعارضة في كثير من المحاورات والاعتراضات التي وجهت إلى الشيخ طنطاوي وذكرها لنا في تفسيره وكثيرا ما نجده يخاطب الأمة الإسلامية وعلماءها خطابا يدل على الإشفاق والغيرة والإخلاص وإننا نراه يلوم المسلمين لأنهم اهتموا واعتنوا بالفقه واختلاف الفقهاء وآيات الأحكام قليلة جدا، ولم يهتموا بالعلوم والآيات الدالة عليها كثيرة جدا في القرآن فهو يقول:

(لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ ويقول: لماذا كثر التأليف في علم الفقه وقل جدا في علوم الكائنات التي لا تخلوا منها سورة بل هي تبلغ (750) آية صريحة؟ وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة ويجهلوا علما آياته كثيرة جدا؟ إذا نحن رجعنا لرأي الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا اللون من التفسير نراه يقول، وفيه تأييد لمنهج الشيخ طنطاوي جوهري:

(للتفسير مراتب أدناها: أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير، وهذه هي التي قلنا: إنها متيسرة لكل أحد ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر 54: 17) ثم يقول: (وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور)... ومن تلك الأمور التي نوه عنها علم أحوال البشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبين فيه ما لم يبينه في غيره بين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر، قص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسننه فيها، فلابد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم: من قوة وضعف، وعز وذل وعلم وجهل وإيمان وكفر.

ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه ويقول الأستاذ الإمام: (أنا لا أعقل كيف يمكن أي أحد أن يفسر قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين 2: 213) الآية- وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الوحدة التي كان عليها؟ وهل كانت نافعة أو ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم؟

(أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية, وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ولو اكتفينا من علم الكوني بنظرة من ظاهره لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة.

فهل خرج الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره عن هذا الخط؟

وهل خرج تفسيره الجواهر على هذا المعنى؟

يقول الأستاذ الإمام: إن التفسير قسمان: أحدهما جاف مبعد عن الله وعن كتابه وهو ما يقصد به حل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية، وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيرا وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرها والآخر هو التفسير الذي قلنا إنه يجب على الناس على أنه فرض كفاية وهو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها وهو ذهاب المفسر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام على الوجه الذي يجذب الأرواح ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام ليتحقق فيه معنى قوله هدى ورحمة ونحوهما من الأوصاف فالمقصد الحقيقي وراء كل تلك الشروط والفنون هو الاهتداء بالقرآن وهذا هو الغرض الأول الذي أرمي إليه في قراءة التفسير.

نقول: وهذا هو المنحى الذي نحاه هو نفسه الشيخ طنطاوي في تفسيره بل وزاد عليه فهو يقول:

(يا أمة الإسلام آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعا من علم الرياضيات فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها هذا زمان العلوم وهذا زمان ظهور نور الإسلام ها زمان رقيه يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟

ولكن أقول: الحمد لله، والحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم ودراساتها أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية فأما هذه فإنها لازدياد من معرفة الله وهي فرض عين على كل قادر إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وهكذا نجد أستاذنا الفيلسوف الإسلامي الشيخ طنطاوي جوهري يفسر آيات القرآن تفسيرا علميا يقوم على نظريات حديثة، وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل، فهو يقود المفسرين الذين يأتون من بعده إلى أفضل طرق التفسير، كما فاق من سبقه في ذلك، فأنت ترى الفلك والطب والهندسة والسياسة والاجتماع وكل علم ما في السماء والأرض وكل ما انتهت إليه الثقافة في مختلف عصورها من أول عهود الثقافة إلى الآن، من عهد (أفلاطون) إلى عهد (كانط) .

- كل أولئك مذكور في هذا التفسير بأجلي بيان، موضح بأعظم توضيح، ولا غرور فالأستاذ يفيض علما ونورا، لأنهما يصعدان عن علم عامل بما يقول، وعن عقيدة هي بقية من بقايا السلف الصالح المختار.

ومن العجيب أن كل من تصدى لتفسير القرآن تفسيرا علميا في هذا الزمان لا يذكر الرائد الأول في هذا المجال وهو الشيخ طنطاوي ولا يفسره العظيم الذي نحن بصدده لذا نرى من واجبنا أن نستحث الهيئات الإسلامية لعل واحدة منها كمجمع البحوث الإسلامية أو غيره، تتبنى إعادة طبع هذا التفسير الجليل الذي فاق سواه بما جمع من شتى النواحي العلمية والكونية لينتفع به المسلمون في جميع بقاع العالم.

ومن المفيدة أن نشير هنا إلى مقال قيم كريم منصف نشره الكاتب الفاضل الأستاذ رجاء النقاش في هذا الصدد بمجلة المصور بتاريخ 3 من نوفمبر عام 1972 بعنوان تفسير للقرآن بالخرائط والصور جاء فيه:

ولقد كانت أبرز وأغرب محاولة في مجال إزالة التناقض بين القرآن والعلم هي المحاولة التي قدمها الشيخ طنطاوي جوهري أحمد علماء الدين البارزين وواحد من المفكرين النابغين في هذا العصر برغم أنه لم يحظ بما يستحق من الدراسة والاهتمام لا في حياته ولا بعد وفاته وقد أصدر تفسيرا كاملا للقرآن سنة 1923 في ستة وعشرين جزءا وسماه (الجواهر في تفسير القرآن الكريم).

وتفسير الشيخ طنطاوي جوهري للقرآن أعجب تفسير قرآني عرفه العقل العربي على الإطلاق، فالتفسير كله ينادي بأن القرآن يطلب من الإنسان أن يتوسع في شتى أنواع المعرفة وأن ينظر في كل العلوم نظرة عميقة، ولذلك استعان الشيخ طنطاوي في تفسيره للقرآن بصفحات كاملة من صورة التشريح والحيوانات والنباتات والخرائط، كل ذلك ليثبت أن القرآن يدعم الروح العلمية ويؤكدها، ويدعو إليها دعوة عميقة وصريحة ويقول الشيخ طنطاوي جوهري في مقال له مبررا اتجاهه في النظر إلى القرآن: (إن قراءة التشريح والطبيعة والكيمياء وسائر العلوم العصرية ودراسة الحيوان والنبات والإنسان أجل عبادة ولولا قصور علماء القرون الماضية ما ضاع المسلمون وما أحاطت بهم عاديات الدهر، ولا أصابتهم كوارث الحدثان).

وهكذا يرى الشيخ طنطاوي جوهري أن الإسلام يدعو إلى العلم ويؤكد الروح العلمية وأن القرون الماضية قد أدت إلى تدهور المسلمين بسبب قصور علمائهم وما أصابههم من تأخر فكري كبير.

ويقدم لنا الشيخ طنطاوى تفسيره للقرآن على أساس منهج محدد فآيات القرآن تدفعنا إلى التفكير والتأمل، وهو في تفسيره للقرآن يفكر ويتأمل بوحي من هذه الآيات وهو لا يقول أبدا بأن النظريات العلمية جاءت في القرآن الكريم ولكنه يقول: إن اكتشاف قوانين الطبيعة وأسرار الكون أمران يحث عليهما القرآن ويدعو إليهما دعوة صريحة قوية وهو يقف أمام آيات القرآن ويربط بينهما وبين عجائب الكون التي أكتشفها العلم الحديث دون أن يقول أبدا: إن هذه الاكتشافات بنصها في القرآن..) .

ويسرد الأستاذ رجال النقاش بعض أمثلة من هذا التفسر ثم يقول: (هذه نماذج من تفسير الشيخ طنطاوي جوهري وقراءة هذا التفسير ولا شك تجربة فكرية ممتعة ورائعة، وكنت أنتمى أن يعاد نشر هذا التفسير اللامع ليكون بين أيدي القراء المعاصرين بصورة سهلة ميسرة، فهذا التفسير ولا شك يساعد المتدينين جميعا على أن تكون لديهم حاسة علمية وشغف بالنظريات العلمية والكشوفات والمخترعات المختلفة، كما أن هذا التفسير يساعد أصحاب النظرة العلمية المجردة على أن تكون لديهم مشاعر دينية عميقة حتى من خلال دراساتهم العلمية المتخصصة فهو تفسير يستخرج الروح العلمية من الدين ويستخرج الروح الدينية من العلم.

إن الحافز الأساسي للشيخ طنطاوي جوهري في هذا التفسير هو إزالة أي وهم بأن هناك تناقضا بين العلم والقرآن أو أن القرآن يمكن أن يبرر للمسلمين تخلفهم العلمي أو قصورهم عن اللحاق بأحدث النظريات العلمية والمساهمة في الكشف والاختراع والعمل على الإضافة إلى ما وصلت إليه البشرية في هذا المجال وتفسير الشيخ طنطاوي يفيض بالحماس للعلم الحديث بل يجعل طلب العلوم العصرية واجبا دينيا أساسا في حياة المسلمين.

ونظرة الشيخ طنطاوى للقرآن نظرة جريئة وجديدة وفريدة في مجال التفكير الديني المعاصر، وفي مجال النظر إلى القرآن وتفسيره.

والحقيقة أننا إذا أردنا أن نحكم على هذا التفسير العظيم فإننا نجد فيه ميزة أساس هي الابتعاد تماما عن سذاجة القائلين بأن كل النظريات العلمية وردت في القرآن، ولذلك فكتاب الشيخ طنطاوي أشبه بتأملات علمية واسعة من وحي القرآن أكثر من تفسيرا مباشرا لآياته وسوره، فهو يتوقف عند آيات القرآن ويتسوحي منها رحلته بين سائر العلوم العصرية.

وكتاب الشيخ طنطاوى من ناحيةي أخرى يؤكد في نفوس المسلمين وعقولهم احترام الروح العلمية ويدعوهم إلى الاهتمام الواسع بالعلم، ويرفع هذا الاهتمام إلى درجة يقول عنها:

إن التأمل في العلوم العصرية والاهتمام بها هو أجل عبادة.

وهذه الروح الدينية العلمية المتحمسة المشتعلة إنما هي ولا شك روح أصيلة ونبيلة وعالية، وهي ما يحتاج إليه العقل العربي أشد الاحتياج.

وإذا كان هناك من ملاحظة على هذا التفسير الجليل فهي أنه يفرض على الباحث في القرآن أن يجمع في عقله جميع فروع العلوم العصرية، فلابد أن يكون عالما في الكيمياء والطبيعية والطب والحيوان والنبات وعلوم الجيولوجيا والبحار والهندسة وما إلى ذلك وهو أمر صعب بالإضافة إلى أنه يثير الاعتراض حتى فيث الناحية العلمية فالعلم الحديث أساسه التخصص وليس في العم الحديث معنى للعلم الشامل الكامل الذي يجمع كل شيء ويحيط بكل شيء.

ولكن المبرر الأساس الذي يقف وراء منهج الشيخ طنطاوي جوهري هو أنه كان يهدف أصلا إلى أثارة شغف المسلمين بالعلوم العصرية وإلى إزالة وهم التناقض بين القرآن والعلم وإلى التأكيد بأن الإسلام إنما هو دين يدعو إلى العلم بمعناه العصري ويطلبه ويفرضه على كل مسلم وإلى أنه لا خوف على الإيمان بالله من العلم، ولا خوف على العقيدة الدينية من النظريات العلمية والمختلفة مهما اكتشف ومهما وصلت من نتائج بل إن ذلك كله في رأي ذلك الشيخ النابغ العظيم طنطاوي جوهري عامل من العوامل المساعدة على الإيمان لا على الشك والإلحاد.

وإلى هنا ينتهي مقال الأستاذ رجاء النقاش الذي كان له أثر كبير في العقول الواعية والأذهان المتفتحة. ثم يأتي الأستاذ أحمد عطية الله وهو عالم فاضل وكاتب كبير له آثار قلمية مجيدة منها (القاموس السياسي) في 14400 صفحة من الحجم الكبير، والقاموس الإسلامي في خمسة مجلدات كبيرة ومن معاصري الشيخ طنطاوي ليضيف إلى ذلك بعض آرائه وملاحظاته فيقول:

(المطلع عل هذا التفسير كما جاء في مقال الأستاذ النقاش يتبين مدى انفعال مؤله بالتأملات كما يقول المقال (تهدف أصلا إلى إثارة شغف المسلمين بالعلوم العصرية وإلى إزالة وهم التناقض بين القرآن والعلم) ويلاحظ الكاتب الفاضل أن هذا التفسير ينبغي أن ينتهي إلى حد الاستثارة بما تضمنه القرآن الكريم من إشارات إلى ظواهر الكون لا أن يستطرد المؤلف فيقحم علوم بأسرها في ثنايا تفسيره تمثل مكتبة متكاملة) ويعلق الأستاذ أحمد عطية الله على هذا الملاحظة بأن هناك حقيقة وراء هذه الحقيقة لعلها مازالت مجهولة هي:

كانت مؤلفات طنطاوي جوهرى من الكتب الذائعة الانشار في الشرق الأقصى ولاسيما في الهند والتركستان وجزر الهند الشرقية، إندونيسيا والملايو وكان اسمه يقرن بحكم الإسلام، ومن ناحية أخرى كانت سياسة الحكومة الهولندية بخاصة تقضى بحظر استيراد الكتب العربية باستثناء الكتب الدينية لهذا كان من الضروري لتصدير هذه المعارف الحديثة أن تتضمنها كتب غير محظور دخولها إلى جاوره وسومطرة وغيرها من مستعمراتها الأسيوية فمن .

ثم جاء هذا التوسيع في تفسير الجواهر من مجرد تأملات كونية إلى إدماج كتب بأسرها في صلب التفسير شملت جميع العلوم العصرية من طبيعة واجتماعية مع توضيحها بالخرائط والرسوم والصور الفوتوغرافية لهذا السبب كان تفسير الجواهر الذي صدرت منه حتى الآن عدة طبعات من التفاسير المجهولة تقريبا في البلاد العربية على حين كان ولا يزال من التفاسير المتداولة في دول الشرق الأقصى ولا سيما بعد أن ترجم إلى اللغة الأوربية.

وبعد فإذا حدثك إنسان بأنه رأي شجرة تحمل من الثمر والزهر الندى مما لا يوجد في كل أنواع الشجر من ثمر حلو الطعم طيب المذاق فتذكر القرآن وتذكر أن السورة منه سميت سورة لأنها تضم ألوانا من الفنون والعلوم كما السور مدينة سعيدة يجد أهلها فيها كل ما يشبع حاجاتهم ويمتع حياتهم، أو كما يضم السور بستانا ناضر الزهر ناضج الثمر موشى بمختلف روائع الألوان.

فإذا نظرت إلى سورة منفردة ومجتمعة فاذكر قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) وقوله تعالى: (ولو أن ما الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) صدق الله العظيم.

بقي علينا الآن أن نقدم للقارئ الكريم فيما يلي بعض نماذج من تفسير الجواهر تبين منهج المؤلف فيه: نماذج من تفسير الجواهر:

لقد كفر الذين قالو إن الله هو المسيح ابن مريم: قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينها يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير.

يعتمد الشيخ طنطاوى في تفسير هذه الآية على ما بينه علم الفلك من أن الأرض التي نسكنها كالعدم بعد أن كشفوا عما في الفضاء من أجرام عظيمة هي الكواكب والمجرات فكل مجرة مركبة من مئات الملايين من الكواكب ومجرتنا التي منها شمسنا فيها نجوم نسبة شمسنا إليها ضئيلة جدا حتى إن الجوزاء حجمها كحجم الجوهر الفرد (ومعلوم أنه لا يري) لصار حجم الكون الذي يرى بالتلسكوب مثل حجم الأرض الحالي، ولصار حجم الكون كله على ما يقضي به مذهب إينشتين) ألف مليون أرض منتشرة حولها في الفضاء.

إذن أرضنا على مقتضي تقريب هؤلاء العلماء عالم لا قيمة له، صغير جدًا وعلى قدر صغره يكون صغر سكانه وأخلاقهم فانظر لجهل هذا الإنسان الذي أظهره العلم الحديث، وأشار له القرآن وأعجب لنظام الآية في سورة المائدة حكم الله يكفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم لماذا كفروا؟

لأن الأرض ومن عليها لا قيمة لها بالنسبة لمخلوقاتنا فأنا قادر أن أهلك هذا الإله الذي ادعيتموه وأهلك أمه، وأهلك من في الأرض جميع فكيف أتخذوا ولدا في عالم لا قيمة له؟ ألم تروا أني ملك السموات والأرض وأنا على كل شيء قدير؟

فإذا كانت أرضكم أصبحت بالنسبة للعوالم أشبه بالجوهر الفرد بالنسبة لألف مليون أرض فقد انقلب الوضع، فبعد أن كان أهل لأهل الأرض مغترين بأرضهم ظانين هذه الكواكب كلها ما هي إلا سرج وضعت في السماء لتضيء لأهل الأرض أصبحت الأرض اليوم ملحقة بالعدم، وسكانها أضعف منها وأقل حيلة إذا سكان هذه الأرض قد اغتروا بأنفسهم حين جعلوا لله ولدا في أرضهم الفانية الضعيفة المعدومة في جانب مخلوقاتي هذا كله يفهم من قوله (ولله ملك السموات والأرض).

وعندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران (ألم) نجده يعقد بحثا طويلا عنوانه (الأسرار الكيميائية، في الحروف الهجائية، للأمم الإسلامية في أوائل السورة القرآنية) وفيه يقول:

(أنظر رعاك الله، تأمل... يقول الله: أ. ل. م –طس- حم- وهكذا يقول لنا: أيها الناس إن الحروف الهجائية إليها تحلل الكلمات اللغوية، فما من لغة في الأرض إلا أرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية سواء أكانت اللغة العربية أم اللغات الأعجمية شرقية وغريبة، فلا صرف ولا إملاء ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون.

ولا جرم أن العلوم قسمان: لغوية وغير لغوية فالعلوم اللغوية مقدمة في التعليم لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضيةي وطبيعة وإلهية فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها الماديةي والمعنوية؟

فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية لا يعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها فرجع الأمر إلى تحليل العلوم.

تفسير سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

(الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

بعد أن بين الله من الآداب والأحكام الشرعية في مخالفة هذه الآداب حفظا للمجتمع مما يقوض دعائمة وتقويته بما يكثر النسل... عقب على ذلك بما هو أعلى وأجل من العلوم والمعارف يقوله تعالى: (الله نور السموات والأرض) فكانه تعالى يقول: أيها الناس ارفعوا رءوسكم، وانظروا إلى جمال ونوري في شمسي وفي قمري وفي النبات والزهر والنهر ..

فلم أخلقكم لهذه الأرض خالدين، وإنما لتعيشوا آمنين ما تخلقتم بهذه الأخلاق ثم تسعدوا فيها ما تطلعتم لآفاق الجمال في كوني العظيم وقد جعل الله هذا المثل نبراسا للعلوم المشرقة وضربه بما نشاهده في مساجدنا من قناديل النور المشرقة في رحاب المسجد..

كذلك نور الله المشرق في عجائب الخلق وقد فسره العلماء بأوجه هي: تمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم تمثيل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، تمثيل لكل مؤمن، تمثيل للقوى الدراكة في الإنسان تمثيل للقوى العاملة في الإنسان تمثيل للقرآن الكريم.

وهذا المثل اللفظي الذي جعل مشاكلا لعجائب أجسامنا وعقولنا وإدراكنا أشبه بما نصبه الله في الأرض من الأجسام الإنسانية، إذ أحكم صنعها ونظم أعضاءها وخلق وسوى وقدر وأحكم فجعلها العلماء تمثيلا لأمور وهي: كالسفينة تركبها الروح في بحر الحياة الدنيا حتى الموت.

كالدار فيها السكان المختلفون من القوى الدراكة والحس وأعضاء الحركة والهضم، وأعضاء الخيال والغاذية إلخ..

كاللوح والنفس تنقش فيها وترسم وتتعلم حتى إذا علمت ما تطيق رمت باللوح وراحت إلى ربها كما يقرأ الطفل في اللوح حتى إذا تعلم ألقاه عنه جانبا.

كالمدينة والروح ملكها والأعظاء منازلها.

(كالدكان) والروح صاحبه والأعضاء الباطنة متاعها والأعمال تجارتها والربح والخسارة في آخرتها هكذا مثل قنديل المسجد.

الأول: نور محمد صلى الله عليه وسلم

المشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصابح فيه النبوة توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد صلى الله عليه وسلم وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم به أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار.

الثاني: كيان محمد صلى الله عليه وسلم

المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم: الزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله فيه لا شرقية ولا غريبة لا يهوى ولا نصراني توقد من شجرة مباركة (وهو إبراهيم عليه السلام) نور على نور نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهما متقاربان.

الثالث: إبراهيم والأنبياء

المشكاة إبراهيم والزجاجة إسماعيل والمصباح محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين سمي الله محمدا مصباحا كما سماه سراجا منيرا والشجرة المباركة إبراهيم لأن أكثر الأنبياء من نسله، لا شرقية ولا غربية يعني إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، لأن اليهود تصلي إلى الغرب والنصاري تصلي إلى الشرق.

الرابع: كل مؤمن

المشكاة نفس المؤمن، والزجاجة قلبه، والمصباح الإيمان في قلبه والقرآن يوقد من شجرة مباركة هي شجرة الإخلاص لله وحده وهذا أعلم .

الخامس: قوى الإنسان الدراكة

تمثيل لقوى الإنسان الدراكة الخمس التي بها المعاش والمعاد، وهي الحساسة (الحواس الخمس) والخيالية التي تحفظ صور المحسوسات لتعرضها على القوة العاقلة متى شاءت ثم العاقلة التي تدرك الحقائق الكلية، ثم القوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب الخاصة بالأنبياء فهذه مثل لها بالمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت: فالمشكاة (الكوة) قد شابهتها محل الحواس التي قد وضعت فيها ووجهها الظاهر، ولا تدرك ما وراءها كالعين فإنها لاتدرك ما خلفها فإذا أدرك المحسوسات وصورت صارت إلى القوة الخيالية فإذا أغمضنا أعيننا فإننا ندرك في أنفسنا تلك الصورة التي رأيناها:

فهذه القوة التي حفظت تلك الصورة هي الخيالية فهي كالزجاجة تقبل صورة المدركات وتضبطها ثم إن قوتنا المفكرة أكبر من الخيالية فإن هذه القوة الكامنة فينا تتصرف في الصور التي في قوة الخيال فتحكم عليها بالحسن والقبح، فهي كالمصباح فأما القوة العاقلة فهي كالشجرة المباركة لأنها تؤدي إلى ثمرات لا نهاية لها وزيتونها ولا شرقية ولا غريبة لأنها تجرد المعاني عن الصورة وتخترع القضايا الكلية التي لا تخص شيئا بعينه فلا تتقيد بالجزئيات فأما الزيت فهي كالقوة القدسية الخاصة بالأنبياء فهي لشدة صفائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تعليم ولا نفكر.

السادس: القوة العاقلة

إن القوة العاقلة في بدء أمرها خالية من العلوم، ثم نقشت فيها العلوم بالحواس الخمس فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار، ثم تعرف العلوم بفكرها كالشجرة الزيتون أو بالحدس كالزيت أو بقوة قدسية كالتي يكاد زيتها يضيء فإنها تكاد تعلم وإن لم تتصل بها العلوم فإن اتصلت بها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت فهي كالمصباح فإذا استحضرنها فهي نور على نور.

السابعة: قلب المؤمن

قال ابن عباس: (هذا نور الله وهداه في قلب أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا، على ضوئه، كذلك يكاد قلب المؤمن يعلم بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونورًا على نور.

وسأحاول بتوفيق الله عرض وجه آخر

وهذه الوجوه وغيرها مما تتفقي عنه العقول الراجحة تصلح لها الآية جميعها، وتلك خصيصة القرآن الكريم حيث يتضمن من المعاني ما يصلح لها جميعها في وقت واحد.. فكأن الله يقول: كما أنرتم مساجدكم حيث يتضمن من المعاني ما يصلح لها جميعها في وقت واحد. فكأن الله يقول: كما أنرتم مساجدكم بالقناديل كذلك أنرت قلوبكم وقلوب الأنبياء وعقولكم وحواسكم وخيالكم، وإني نور السموات والأرض: انرت الكون المادي بأجرامه، وأنرت الحياة بالأنبياء وإشراق بصائرهم فنوري في كل الوجود نور على نور.

وجه آخر: نور الله في المادة

إن الكون المادي مكون من مجرات والمجرات مكونة من النجوم والنجوم منها الفردي، والثنائي والثري والمجموعات المقاربة، ثم إن النجوم المضيئة بذاتها شموس باهرة تتجاذب وتدور حول نفسها كما تدور بعضها حول بعض في تجاذب متعادل بين الكبير منها والصغير، وهي كلها في داخل دورتين للمجرة الكبرى: دورة حول نفسها ودورة حول مركز آخر بعيد لا ندري أحيانا أين هو..؟

تلك شيمة الكون المادي كله في مجراته ونجومه، ثم إن للنجوم لبعضها – كواكب نفسها تدور عنها أو عن نجم آخر قريب أو بعيد قائم أو تفتت وتشعع في الفضاء وهذه الكواكب نفسها تدور حول نفسها، وتدور حول نجم بالذات... كمجموعتنا الشمسية تماما، فكواكبها التسع السيارة لها دورة حول ذاتها ولها دورة حول مصدر الضياء فيها وهو الشمس.

هذا هو الكون المادي في لبناته الكبرى فلندخل إلى بناء الذرة وأصغر لبنة في الكون المادي: لقد ظنوها منذ أجيال قبل الميلاد منذ أرسطو وفلاسفة اليونان واعتبروها الجوهر الفرد الذي لا ينقسم على نفسه ظنوها بناء مصمتا ثم جاء القرآن الكريم يسترعى الأنظار، فذكر أن الذرة ليست أصغر شيء، بل ثمة ما هو أصغر منها، قال تعالى في معرض التدليل على قدرته، والتوجيه للأنظار والعقول للتفكير ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. (سبأ:3).

(وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) (يونس:61).

ومع ذلك لم تبحث العقول عن الشيء الذي هو أصغر من الذرة ثم جاء العلم في القرن العشرين ليقول: إن بناء الذرة يتكون من نواة بروتون- شحنة كهربية موجبة.

وألكترون دوار حول البروتون- شحنة سالبة والنواة تعتبر من الذرة أو أقل فانظروا إلى هذا الذي دق عن الذرة التي لا ترى بأكبر المناظر المكبرة حتى كان أقل منها بخمسين ضعفًا أو يزيد.

ثم ماذا في هذا؟ إن النواة الموجبة هي الشحنة الموجبة المضيئة بذاتها كالشمس والنجوم في المجموعات الشمسية والنجمية ثم يحيط بها شحنة سالبة فهي كالكوكب بالنسبة للمجموعات الشمسية أما الشحنة الموجبة فإنها الشمس مضيئة بذاتها والإلكترون يستمد ضوءه من النواة كالكوكب.

إننا إذا أمام وجهين متماثلين بين أصغر حجم في بناء الكون المادي، وأكبر حجر بين الذرة والمجرة حتى قال عالم فلكي: إن القوانين التي تعمل في المجرة هي نفس قوانين الذرة وذلك دليل على وحدة الكون ووحدة الصانع الأعظم وهذا مثال واضح لنور الله في الأرض والكون المادي فالأكثرون وبقية الشحنات مثل الكواكب وتمثل الزجاجة والنواة تمثل الشمس وتمثل المصباح، في المثل المضروب لنور الله في القرآن الكريم.

فنور الله على الأرض هو ذاك ونوره في السموات ربما كان في الحقيقة –والله أعلم- يعني به نور الله في عالم الروح والملائكة فنوره في الناس ما مر من التوجيهات السبعة ونوره في الجن له نظير بالإنس، ونوره في الملائكة له نظير بنور الأنبياء بين الناس، فالله نور الكون المادي، والكون العقلي، والكون الروحي والإنس والجني والملائكي: أي الله نور الوجود كله. وقربه الله بمثل قنديل المسجد الذي يرونه ويراه الناس في مساجدهم في كل مكان وكأن الله يقول: إياكم أن يصدكم ويصرفكم فقه الشرع عن فقه الكون المشرق!! وانظروا إلى سمواتي:

فيها شموسها سرج وعقولكم سرج وحواسكم سرج وقواكم الداخلية سرج، ودينكم سراج، وأنبياؤكم سرج، والمؤمنون سرج، وقد أضأت كل شيء بأنواري وعلومي ظاهرًا وباطنًا، ومساجدكم فيها من لا تشغله تجارة ولا بيع عن ذكرى، فلا يشغلكم علوم الفقه بالبيع والشراء والمعاملات عن النظر في عجائب صنعي وكوني في المادة والعقل والروح وفي الأرض وفي السماء!

لذلك تراه سبحانه وتعالى وقد ذكر الخمر والحيض والنفاس، والإيمان والطلاق والنفقة والعدة والرضاع والخطبة، قال بعد ذلك: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى أي لا يشغلكم ذلك عن هذا الجمال والروعة وذلك مجال الرقي الحق.

وهنا لم يذكر الصلاة بل ذكر هدف الصلاة الأعلى حيث عبر بالنور الذي عم السموات والأرض وما نور السراج إلا أثر من آثار النور في الشمس فالزيت بعض عصارة الثمار في الأشجار والنبات وهي بدورها بعض عناصر الأرض وموادها مادة ساذجة لا صورة فيها والمادة قبس من نور العقول المجردة فاضت من ذلك العالم الأقدس بالنظام الأكمل.

وجه آخر للمؤلف

ذكر الله تعالى نور السموات والأرض بالنجوم والكواكب، ومثل بالسراج الذي هو أثر من آثار النور العام مثل به لما هو أتم وأكمل، وهو نور العقول والبصائر وذلك توضيح:

العقل عند الحكماء

العقل عند الحكماء كأرسطو وأفلاطون وسقراط والفارابي وابن سينا والغزالي والرازي وابن رشد وإضرابهم: إما عقل بالقوة أو بالفعل أو مستفاد، أو عقل فعال وإليك مثالا موضحا: ابن الملك الشاب الذكي ملك بالقوة.

فإن ولاه أبوه ولاية فهو ملك بالفعل وبالقوة فإن تولى الملك بعد أبيه فهو ملك بالفعل فإن أحسن إدارة ملكه وأشرف عليه إشرافا كبيرا وبصيرًا فهو ملك مستفاد.

ونظيره في العقول: الطفل العادي مستعد لفهم ما حوله وما يزال يحاول فهو حينئذ عاقل بالقوة فإن اكتسب معرفة فهو عاقل بالفعل لما يفهم وبالقوة لما هو مستعد له فإن اكتسب معرفة كبيرة فهو صاحب عقل مستفاد: أي أن العقول الإنسانية في أول أمرها مستعدة لاقتناص الصور في هذه المادة فكل إنسان ينظر ويسمع ويبصر ويشم ويذوق ويلمس وتلك صفات المادة وصورها، وصور المادة أثواب لها. وقد عدها الحكماء (36) ثوبا كالألوان والأصوات، إلخ...

وأثواب المادة خلق العقل ليكتسي بها ويلبسها منذ الطفولة الباكرة حتى يصل إلى مقعد الحكماء.

العقل المستفاد والعقل الفعال

والعقل المستفاد عند الإنسان في الحكماء والأنبياء نظيره في عالم الروح- ما وراء المادة- العقل الفعال، ذلك العقل الذي لم يقتنص معارفه من المادة، بل علومهم مغروسة فيه منذ وجد بفطرته، وقد اكتسبت المادة صورها من أثر ذلك العقل الفعال وفق ما قام به وارتسم فيه.

وهذه العلوم كلية فيه، وإنما تنقسم في المادة وتتوزع في أثوابها المختلفة وأحجار بنائها وعقولنا كذلك تجمع من المادة معارف غير منقسمة ولا موزعة لتنزهها عن الانقسام.

وهذا العقل الفعال نسبته إلى عقولنا كنسبة الشمس لأبصارنا، فإذا كانت أبصارنا مستعدة للإبصار، أي لو أشرق نور في الهواء وانعكس من الأشياء على قرنية العين وعدستها، فصور الأشياء على شبكيتها- أدركته وفهمته أعصاب المخ بالعين: فكذلك العقل الفعال إذا أشرق على عقولنا إشراقًا معنويا كإشراق الشمس في الهواء والعين فإن المعاني تتمثل في عقولنا كما رسمت الصور في القوة الباصرة فالعقل الفعال شمس بالنسبة للعقول التي هي عيون استقبال لضوئه، وإشراق العقل الفعال كإشراق الشمس الحسي، وحصول الصور في العقول كحصول المرئيات في أبصارنا: فإذا حصلت المعقولات في نفوسنا واستنتجنا بها علوما آخر فإنه يقال:

إن العقل عندنا بالفعل بالنسبة لما عرفناه، وبالقوة لما لا نعرفه، فإذا ارتسمت المعارف في نفوسنا يقال: إنها عندنا بالفعل ثم يكون العقل المستفاد: ثم إن العقل بالقوة كأنه مادة للعقل بالفعل والعقل بالفعل كأنه مادة للعقل المستفاد وهو كمادة للعقل الفعال وإدراكنا من الجزئيات في الصور والمحسوسات إلى الكليات في المعارف، وأما العقل الفعال فيتنزل عن الكليات إلى الجزئيات بلا زمان.

الصورة والمادة والمعاني والعقول

لا تظنن أن المعاني تنقش في العقول كنقش الصورة في المادة والصورة كما هو معلوم غير المادة فنقش الخاتم غير معدن الخاتم كالثوب غير الإنسان أما المعاني فإنها نفس عقولنا:

كالصورة في المرآة عين المصور، إذ لا مادة ثمة فكل معنى عقلناه فهو نسيج عقولنا: فالله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، فاقتبسنا من المادة معلومات كونت عقولنا، ولا شيء وراء عقولنا، وليست المعارف صفات لعقولنا، بل هي نفس العقول.

ومعناه أن عقولنا تعتبر: عقلا وعاقلا ومعقولاً... فإذا تعقل الإنسان نفسه فالعقل هو نفس المعقول، وهو العاقل فإذا نحن اكتسبنا عقولاً مستفادة من المادة وصورها والتصرف فيها لنذهب بها إلى عالم آخر فأجدر بنا أن نقول: إن ثمة عوالم لم تكتسب علومها من المادة بل هي فيها كامنة، ثم هي تشرف على إكساب عقولنا هذه العلوم عن طريق إشرافه على المادة وتصويرها وتحرير قوانينها.

ومعلوم أن المادة هي محور معلوماتنا هنا: أي أن مثال القنديل في المسجد ونور الكواكب ضربه الله لأنوار القلوب، وإلى ما ينقش في العقول من المعاني وما تزال تنتقل من معنى لآخر، ومن مقام لمقام حتى تصل في الفهم عن عالم الملائكة ذوات العلوم الكامنة بالطبيعة.

ولعمري لضياء القنديل لحيطان وجدران، أما الحقائق فنور البصائر والأبصار. (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: 46).

قطرة ماء في تفسر (الله نور السموات والأرض).

نظرية النور والمادة

إن روعة الخلق تتجلى في آفاق السموات والأرض والقرآن دل كثيرا على ذلك وهناك روعة أخرى للخلق تغيب عن الكثيرين:

إن كل ذرة في أرض أو قمر أو شمس أو كوكب أو نجم أو سديم أو ماء أو غاز.. إن كل ذرة في الكون المادي من النور، فما بالك بالسموات وما فيها من كائنات وعوالم؟ وصدق الله العظيم: (الله نور السموات والأرض).

يقول العلامة هنشو الفلكي الطبيعي بمجلة هاربر الأمريكية في سنة 1926م: إن بعض قطرات الماء تصل إلى ثلث سنتيمتر، فلو كبرناها إلى 15 سم لارتجفت وظهرت عليها ألوان قوس قزح، فلو كبرناها 170مترًا لزال القوس وظهر الماء فقط، فلو كبرناها 100 ميل لظهرت جواهر الماء الصغيرة ويصبح كل جوهر في حجم (الجوزة) وقطره 5‚2 ومعناه أن كل قسم لا يقسم لأنه جوهر فيحلل فقط للعناصر الأصلية لا للماء ونعني به (أكسوجين وأيدروجين) متحدين تمامًا بنسبة 1: 2 وحينئذ لا يمكن فصلها إلا بالكيمياء.

فلنكبرها إلى مائة ألف ميل فيصبح قطر الجوهر الفرد منها 40 قدمًا تقريبًا، ويفيدنا هذا التكبير فقط في رؤية كل من الأكسوجين في الوسط والأيدروجين ذرتين عن يمين وشمال، وهذه الذرات لا تنقسم وإنما تتكون من شيء آخر سنعرفه. وجوهر الأكسوجين في الوسط أشبه بقنديل في المركز تحيط به ست دوائر تبعد عنه 20 قدمًا وهذه الدوائر في سطحه وذرتا الأيدروجين دائرتان من النور قطر كل منهما سبع أقدام تدوران حول مركز النور.

ولكي نرى كل ذرة منها فلنكبرهما بعد ذلك ألف مرة فتصبح أكبر من فلك الأرض حول الشمس، ويصبح قطر الجوهر المائي (ذرة الماء) ثمانية أميال، ونرى دوائر النور السابقة في الأكسوجين والأيدروجين خطوطًا وهمية من النور ترسمها نقطة صغيرة من النور تدور حول مركزها في الثانية الواحدة 6آلاف مليون مليون دورة وهذه النقطة الدائرة هي (الكهربا السالبة) ومركزها النوري يسمونه (الكهرباء الموجبة) وهذه الدوائر التي رسمتها النقطة في (سج ويد) ما هي إلا كالدوائر التي ترسمها شعلة نحركها نحن بسرعة، فترسم دائرة في مرأى العين فقط، أما الواقع فهي الشعلة فقط..

فالجوهر المائي: سج 1كـ يد 2 وكل منهما نقطة من النور الموجبة من حوله دائرة من النور السالب وبالدوران السريع صار كل منهما غازًا، وبالاتحاد صارا ذرة ماء والأصل فيهما النور.

بقي أن نعرف أن عدد جواهر الماء الفردة = 000‚ 000‚ 000‚ 000‚ 000‚ 000‚500 جوهر: أي ذرة ماء متحدة فيها سج1: يد2 وأعجب من ذلك أن كل ذرة منهما مجوفة وفيها من البعد بين الكهربا الموجبة أو النواة والسالبة (الإلكترون) كما بين الشمس والأرض وذلك في جميع الذرات.

في العناصر المادية التي وصلوا في معرفتها إلى 92 عنصرًا أصيلاً تتكون منها جميع المواد في الأرض والكواكب والنجوم والهواء بينها.

نتيجة: إذن فجميع عالمنا المادي مكون من النور: نقطة نور تدور في الفضاء حول مركز نور فترسم دوائر من النور فقطرة الماء مثلا أشبه بالمشكاة وكذلك كل ذرة ودوائر الأنوار الحادثة داخلها بسرعة جري النقط النورية في عناصر أشبه بزجاجة المصباح، والمصباح أشبه بالنقطة النورية في المركز (البروتون أو النواة). وبذلك ظهرت المشكاة والزجاجة والمصباح وبقي ما يوقد منه المصباح فجعله الله تعالى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية وربما أفاد ذلك الوصف: أنها ليست من عالمنا الأرضي، بل من العالم الإلهي الذي لا شرق له ولا غرب ولا زمان ولا مكان.

وبذلك رأينا قطرة الماء نورًا بل قطعة الحجر وحفنة التراب، وما هذا إلا شرارة وشعلة مقدسة من أنوار الحق في كل الوجود وعلينا لندرك هذا النور أن نفتح أبواب عقولنا لتدرك هذا الجمال الذي سيصبح رائعا جليلاً واضحًا عندما نصفو أو عندما نودع هذا الكون المادي المحتجب في نفسه.

وحينئذ نكون بتوفيق الله تعالى وفضله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وندرك بعدئذ تفسير قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) حتى في الذرة فيها موجب وسالب كالذكر والأنثى أو هما زوجان متناظران ومكتملان..

وكذلك في جميع الكائنات النباتية والحيوانية وقد ظهر ذلك في كل الديانات تقريبا.

وفي الفارسية مثلا: إن الله خلق أصلين هما الخير والشر، ولا يقوم العالم إلا بهما، ثم جاء المخرفون فجعلوا للخير إلها وللشر إلهًا وهكذا طبع العدد (زوج وفرد) والحساب جمع وتفريق والعالم مركز من التنافر والمحبة وكلها ترجع للآية: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) حتى ذهب فيثاغورس إلى القول بأن العالم: عدد ونغم. ومن فلاسفة اليونان من قال: كراهة ومحبة.

ولا تنس صلة هذه الآيات بقوله تعالى في أول سورة الأنعام: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقوله في سورة النمل: 88: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء، إنه خبير بما تفعلون) فليراجع تفسيرها أيضًا في الجواهر..

الفصل السادس الشيخ طنطاوي جوهري الرائد الروحي

كان الفيلسوف الإسلامي الشيخ طنطاوي جوهري عالمًا روحيًّا كبيرًا، وكان رائدا من الرواد المناضلين الشجعان الذين أمضوا حياتهم في سبيل محاولة كشف المجهول من أسرار الإنسان في علاقته بنفسه وبالكون وبالخلق عز وجل، ويا لها من أسرار تتجاوز في قيمتها كل تقدير إذا ما وضعها الإنسان في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار مهما بدا له ضعيف القيمة هين الآثار!

لقد كان من أبرز أعضاء (دائرة القاهرة الروحية) وكان يشترك اشتراكًا فعليا في الجلسات الروحية التي كان يعقدها الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير في هذه الدائرة، وقد كان بحق أول أبٍ للروحية الحديثة في الشرق. ولقد قام الشيخ طنطاوي بالدور الذي قام به في الخارج ذوو الأذهان المتفتحة عندما عرفوا كيف يربطون بين الآراء الدينية وبين حقائق العلم الروحي الحديث بل بالحقائق العلمية وهو لا يجدي أي غضاضة في أن يكون رجوعه في كتاب (الأرواح) إلى مراجع الفرنجة وبحوثهم قائلاً في الصفحة 47 من طبعة 1920م:

إن سائر العلوم المدونة من سماوية وأرضية يقرؤها القوم ونحن معهم وأهل كل فن صادقون، ولا جرم أنك تعلم أن سائر الناس لم يكونوا ليعلموا أن ههنا مخلوقات صغيرة (ميكروبات) تحدث في أجسامنا الحمى والجدري وأمراض الوباء حتى إن الوفاء مؤلفة من تلك المخلوقات الحية تؤلف جماعة عظيمة تتعاون على إتلاف أجسامنا وتمزيق أحشائنا وبعثنا من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، فأصبح بفضل علماء أوربا الإيمان بهذه الحيوانات الذرية التي لا تراها العين يقينًا لا يشك فيه أحد.

وقد آمن بها الصعاليك والملوك والجهلاء والعلماء.

(فهكذا هم الذين خاطبوا الأرواح بتلك النفوس العصبية والأمزجة المستعدة للتخاطب مع العالم اللطيف الذي لم نقرأ عنه إلا في الكتب الدينية، فهل نصدقهم في الحيوانات الذرية المسماة بالميكروبات) وتكذبهم في حياة الأرواح؟

وهكذا يسترسل هذا العالم الجليل في مؤلفه هذا في تبيان الاتفاق التام بين العالم الروحي الحديث وبين العقيدة، وفي الدفاع عن النتائج التي تكشف عنها هذا العلم، فهو يقول في مقدمة الكتاب:

(... يشب الإنسان منها ويشيب وهو في هموم الحياة مغمورًا غافلاً عما بين يديه من عجائب الموت وغرائبه، يسمع مقال الدين والأنبياء والعلماء فيمر عليه مرور النسيم على يابس الهشيم والصرصر على الحصباء في الأرض الفضاء وجري الماء على الصخرة الصماء برع الناس في العلوم، بلغوا الثريا في المعارف، وغاصوا في البحار، طاروا في الهواء، سبحوا فوق الماء هل هذا الإنسان غاب عقله وضل سعيه، وضاق مذهبه فعجز عن أمر نفسه؟ هل هذه الأمم التي برعت في سائر العلوم فجعلت ظهر الأرض بطنًا وقلبت بطنها ظهرًا، واتخذت من الهواء مواد الحياة، ومن ضياء الشمس جري المياه، ومن حركاتها سر الكهربا- غاب عنها أنفسها التي هي أعز مطلب، وأنفس مأرب وأجل مرغوب؟ كلا ثم كلا...

ألا فليعلم المسلمون في أقطار الأرض أن المحافل الروحية والمجامع النفسية في البلاد الأوربية قد نطقت فيها الأرواح على مرأى ومسمع من مجالس شوراهم والملأ من قومهم ومجالس الشيوخ والأعيان في أمريكا وغيرها كما سترونه مفصلاً في الكتاب مبينًا أيما تبيان لقد شرحت الأرواح ما شهدته في عالم البرزخ ونعيم وبؤس وهناء وعناء وخاطب الأموات والأحياء والآباء الأبناء فأنصت الجمع، وكفكف الدمع وجاءت البشرى بالحياة الأخرى وقال الأموات للأقارب والإخوان: وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) فصدق الله وعده، وأعز جنده، وجاء الحق وزهق الباطل وفرح المسئول وقنع السائل.

فهل نقف نحن معاشر المسلمين أمام هذا الحادث صامتين؟ إنه لعيب فاضح، وخطأ واضح، وشين مبين فنحن أحق بهذا العالم من الغربيين.

إن الأمر لجلل يعوزه كتب تؤلف ومجامع تحشد، وعلماء تنتقد أنا لست في كتابي هذا أثبت العالم الروحي فحسب، فقد سبقني إليه من نشروا الفكرة وأذاعوا أمره بين إخواني المصر يين .

(إنما الذي أدهشني ما عثرت عليه من المحاورات بين الأرواح الناطقة من عالم الغيب وبين الأحياء في المجامع العلمية وكيف كانت آراؤها وتعاليمها تذكرني كثيرًا بما طالعته في أمهات الكتب الإسلامية وما جاء عن السادة الصوفية؟

أليس من واجبي أن أنشر تلك المطابقات العجيب بين أممنا الإسلامية إن لحرام على أن أغمض العين ولا أنتهز الفرصة، فأذكر كل حادثة من حوادث العجائب الروحية بما يطابقها من كلام أئمتنا الإسلاميين مبينًا الكتاب والصفحة واسم المؤلف سيعجب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إذا جاءهم هذا النبأ الذي عنه يتساءلون: من ذا الذي كان يدور بخلده أن يهجس بخاطره أن ما جاء من نعيم القبر وعذابه في ديننا يعرض اليوم عرضًا عل المجامع الأروبية النفسية كمثل الحاكم الألماني بيللون الذي مات وعمره 79 سنة، وقد استغاثت روحه من اضطهاد يتيمين له، وحققوا فوجدوا ثبوت غدره باليتامى في دفاتر الحكومة في تلك الأقطار؟

أنا لست في كتاب الأرواح أسرد الحوادث المنقولة سبهللاً، ولكني أجد ذلك يطابق ما نص عليه الغزالي وغيره بطريق الكشف، وكيف قال: عن عذاب القبر على هذا الأسلوب؟

من وقف على أسرار دين الإسلام في أمهات الكتب العلمية عرف ما للذنوب القلبية من الحسد والكبرياء والطمع والجشع من الأثر في العذاب، وأن العلاقة متينة ثابتة مؤكدة بينهما عند الممات وكذلك ليس للمرء من كمال إلا بالأعمال العظيمة لبني الإنسان.. وفي الحديث من كتم علماء ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) أفليس من الواجب نشر هذا التفصيل لإخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ إن ذلك يأمر به الدين.

نعم لقد بزغ بزوغ الشمس للورى قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا) وثبت بالبراهين ويقين الصدق، قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

إليك أيها القارئ روضة فيحاء، وحديقة غناء، قطوفها دانية لا تسمع فيها لاغية، هي السر المصون والجوهر المكنون والكنز المدفون الذي اختبأ في شريعة الإسلام بهذا العلم ونشره ترى أمرا عجيبا كفى بنفسك اليوم عيك حسيبًا) فليتعاون الكتاب على نشره فإن فيه سلوه المخزونين، وإيقاظ الغافلين وتعليم الجاهلين، واتباع الإيمان باليقين، ورقي الأخلاق وتقليل النفاق وضعف الشقاق وذهاب الأحقاد، والوثوق بحياة جديدة، فلا يفزع الناس أشد الفزع من الممات، ويقل بكاء الباكيات، ويسهل احتمال النكبات، وأشد الأزمات علما بأنها طهارة للروح، وإنماء الأخلاق، ودروع سابغات، وأجنحة بها تطير إلى العلا (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) .

كيف كان مبدأ تفكير الشيخ طنطاوي في أمر الروح

لقد رأينا الشيخ طنطاوى في كتابه (التاج المرصع) مشككًا مرتابًا في نظام هذا العالم وقد بين لنا تشككه، وكيف كان يطلب الحقيقة بنفس؟ فما السبيل التي سلكها حتى عرف حقيقة الروح...؟

وهل كان الشك مبدأ أمره فيها

إنه يجيبنا عن ذلك في الصفحات 215 وما بعدها في كتباه الأرواح الطبعة الثالثة- بقوله:

(نعم لقد كان مبدأ أمري في مسألة الروح الشك المطلق بل الإنكار: ذلك أني كنت يوما واقفا في حقلنا بأرض (كفر عوض الله) بجانب نهر المسمى (ترعة كفر عوض الله) وكنت أزاول بعض العمل، فاعتراني دوران لضعف صحتي فجلست مدة، فلما أفقت مما غشي على نظرت في أمر الروح وقلت: يا ليت شعري إذا كنت الآن ما أزال حيا لم أفارق الجسم وتفرقت الأوصال وتناثرت الأعضاء؟

فهل يبقى لي عقل أو علم؟ وكنت إذ ذاك في زمان العطلة الأزهرية وكانت سني حوالي العشرين ثم بعد ذلك رجعت إلى الأزهر وأنا مكب على طلب العلوم اللسانية والشرعية، فذات ليلة رأيت وأنا نائم كأني في مقابر (قريتنا كفر عوض الله) وكأن قائلا يقول: انظر فنظرت في الجو فرأيت كأن هناك نورا أبيض مغمورًا في وسط الزرقة فقالت هذه هي الروح وكانت ليلة الخميس فلما استيقظت قمت مع رفاقي المجاورين للرياضة خارج القاهرة قاصدين بيت أحد أقاربنا، فلما جلست وجدت في الطاق كتابا فأخذته، فإذا هو كتاب تهذيب الأخلاق للشيخ أبي علي أحمد بن محمد المعروف بابن مسكوين المتوفي سنة 421ولم يكن لي عهد بهذا الكتاب ولا بغيره من الكتب الفلسفية فتصفحته فوجدته ابتدأه بالبرهان على وجود النفس، وأتى ببراهين أشبه بما تقدم ذكره عن أفلاطون وسقراط.

فمنها أننا لما وجدنا فينا شيئًا يضاد الجسم وأعراض الجسم ويباينها كل المباينة حكمنا أنه ليس جسمًا ولا جزءًا من جسم ولا عرضًا: ألا ترى أن الجسم المثلث لا يقبل التربيع إلا بعد زوال الصورة الأولى وهو التثليث وهكذا سائر الأشكال والأعراض ليس يقبل الجسم واحدا منها إلا إذا خلع الآخر والعقل نراه يقبل سائر الأشكال والألوان والمقادير فليس يتغير بل يقبلها كلها دفعة واحدة وهذه العلوم تزيد العقل قوة بخلاف الجسم فلا يقبل إلا لونا أو شكلاً ولا يجمع شكلين معًا وهذا هو التباين العظيم بين المادة والعقل.

ومنها أن القوى الجسمية لا تعرف العلوم إلا من الحواس فتشوقها بالملابسة والمشابكة كالشهوات البدنية ومحبة الانتقام والجسم يزداد بها قوة فهو يفرح بها فأما النفس فإنها كلما اقتربت من المادة ضعف إدراكها وكلما رجعت إلى ذاتها ازدادت قوة.

ومنها أن النفس تحرص على العلوم والأمور الإلهية ولا يتشوق شيء إلا ما ليس في طبعه ولا ينصرف عما يكمل ذاته ويقوم جوهره فالنفس بانصرافها عن الحواس عند التفكير لتكمل معارفها مخالفة أفعال البدن، فهي إذن جوهر مفارق للبدن.

ومنها أنها أخذت مبادئ للعلوم غير التي أخذتها عن الحواس، فإنها حكمت مثلا بأنه ليس بين طرفي النقيض واسطة وهذا لا تدركه الحواس.ط.

ومنها أن الحواس تدرك المحسوسات وحدها، وأما النفس فإنها تدرك أسباب الاتفاقات وأسباب الاختلافات وهي معقولاتها التي لا تستعين عليها بشيء من الجسم وهي تحكم على الحس أنه صادق أو كاذب: ألا ترى أن البصر يرى الكبير صغيرا والصغير كبيرًا كالشمس والإصبع الغائص في الماء فإن الأول أكبر بالبرهان والإصبع ليس حجمه الحقيقي ما يرى في الماء بل هو فيه أكبر مما هو عليه في النظر وأسباب ذلك مذكور في علم المناظر. هذا ملخص ما ذكره ابن مسكويه وقرأته في ذلك اليوم ولم أشأ أن أخرج مع المجاورين للرياضة بل بقيت أقرأ الكتاب بقية اليوم فهذا كان مبدأ نظري في النفس وبقائها واستكمالا لهذا الحديث يطيب لنا أن نورد هنا بعض ما كتب الأستاذ عبد اللطيف الدمياطي في كتابه الوساطة الروحية عن الشيخ طنطاوي نقلا عن الوسيط الروحي المرحوم الأستاذ حسن صالح أيوب وهو تلميذ الشيخ ونسيبه:

أما عن حياته الروحية فقد بدأت كما هي الحال مع الكثيرين ممن اختارهم الله لتأدية مهام سامية في هذا العالم بأزمة نفسية نتجت عن مرض جسمي، وقد اشتدت هذه الأزمة بالشيخ حتى بلغت به مرحلة اليأس، وعندئذ بدأ هذا الصراع الهائل الذي يحدث دئما للأرواح الكبيرة في مثل هذه الظروف: هذا الصراع الداخلي بين قوي الروح من جانب وقوى الجسد من الجانب الآخر.

وكان الشيخ في هذا الصراع هائجا لا يقر له قرار كان من ناحية يغمره اليأس حتى يغطي على جميع جوانب حياته: فالعالم بما فيه من المتاعب والمكدرات – مكروه بغيض والحياة بما فيها من هموم وآلام حمل ثقيل وهي بعد لا فائدة فيها ولا نفع وراءها، ومن الناحية الأخرى كان يقترب منه هذا الإشراق الإلهي فيضئ جوانب نفسه المرة بعد المرة، حتى إذا بلغ مبلغه إذ بالشيخ يفيق على هذه الفكرة الوضاءة القوية التي ملأت كيانه وحجبت عنه كل شيء آخر: الله.

يصحا النائم من غفوته إذن، وقد صحا بعد أن تغير تغيرًا كليًّا فأصبح ولا شأن له بهذا العالم وما فيه، وما الذي يعنيه من هذا العالم وقد وجد عالمه الحبيب المنشود؟

وهكذا أصبح لا يشغل نفسه إلا بالواجبات العملية والأسرية، فإذا ما انتهى منها التفت بكليته إلى ربه.

كان أول ما اتجه إليه فكر الشيخ أنه يقترب من الطبيعة وأن يتوافق هو وقوانينها، فحبب إليه الخروج إلى الخلاء، وهناك كان يكشف عن جسمه ليتشبع بالعناصر الطبيعية من شمس وهواء وأثير لتبعث في جسمه المادي والأثيري بالقوة والحياة بل لتزيد في قوته الروحية ثم رأى أن يقصر طعامه على النباتات، يتناول أكثر ما يتناوله منها طبيعيا غير مصنوع بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا فصام يومه وأحيا ليله، وأمضى في صيامه هذا ثلاثين حولا، هي الآخيرة من حياته لم يتخللها إفطاره إلا في المناسبات النادرة كعيد أو نحوه، وهكذا نرى أن الشيخ وقد تجلت له الحقيقة كان يعمل جاهدا في سبيل رقي الروحي مضحيًا في ذلك بلذائذه الدنيوية وراحته.

ولم يكن الرجل وقد أصبح عالما بالأصول الروحية يبغي من وراء رقيه هذا غرضًا شخصيًا، إذ إن الأنانية لا تتفق مع الاتجاه الروحي الصحيح، وإنما كان غرضه أن يصبح قادرا على أن يؤدي خدمة للناس، نعم كان يريد القيام برسالته، وهي نشر الروحية وتعاليمها.

وأفلح الشيخ، فقد تم له الاتصال فعلا، وكان الاتصال قويا وهل هناك من الاتصالات الروحية ما هي أقوى من الاتصال بالله؟ وربما استكثر بعض على الرجل هذه الدعوى وربما وجد الناس فيها تغاليًا ولكن لنرجع إلى المنطق: فالله يريد الخير لعباده وهذا الخير إنما هو في هدايتهم إلى الحق وإرشادهم إلى الصواب وهو تعالى في هذا يختار منهم من هيأ نفسه لحمل وسائل هذه الهداية وهذا الإرشاد ولن يكون جديرا بهذا الاختيار إلا رجل طهر جسمه ونفسه ووقف ينتظر هذا الاختيار فلئن كان الله قد اختار طنطاوي جوهري لتأدية رسالة روحية فإني ذلك لأن طنطاوي كان قدي أعد نفسه لهذا الاختيار فأصبح جديرا به والله يعلم حيث يجعل رسالته.

وبعد أن أعد الشيخ نفسه هذا الإعداد كان يختلي جل وقته بربه، ومن ثم يقوم بتدوين ما وصله عن طريق الإلهام، وهكذا قام بوضع كتبه المعروفة، نذكر منها: (الأرواح) و (أين الإنسان) و (التاج المرصع) و (أحلام في السياسة) وهو آخر مؤلفاته.

وكان من الطبيعي ألا يروق سلوك الشيخ باتجاهه الروحي بعض رجال الدين ولا سيما أن الشيخ نفسه كان أزهريا فكان منسوبا إليهم فخاصموه وقاطعوا كتبه وطبعًا لم يأبه الشيخ بهم، بل راح يؤدي رسالته الروحية في حزم وهدوء وكان هذا في الوقت الذي لم يكن فيه أحد يهتم بموضوع الروحية فكان الشيخ في هذا العصر الحديث رائد الروحية الأولى في مصر بل ربما كان رائدها في الشرق كله وليس في هذا مغالاة، فقد انتشرت كتبه وسادت تعاليمه في بلاد شرقية كثيرة، ووجد فيها حتى غير المسلمين من التعاليم السامية التي تدعو إلى رفعة الإنسان ما جذبهم إلى اعتناق الدين الإسلامي.

وهكذا نرى أن الشيخ بجهاده الروحي لم يخدم الفكرة الروحية فقط، وإنما خدم الدين الإسلامي أيضًا، إذا اعتنقه الكثير من الناس في تلك البلاد، وهذا ليس بغريب إذ إن التعاليم الروحية الحديثة تتفق تمام الاتفاق مع تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة.

وكان الشيخ جم النشاط وخصوصًا في مجال البحوث الروحية وكان يتبع بمزيد من الاهتمام خطوات الحركة الروحية الحديثة التي كانت قد ظهرت في الغرب، ثم لما ظهرت الحركة في مصر انضم إليها كعضو في الدائرة الروحية التي أنشأها الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير وظل متصلا بهذه الدائرة إلى أن انتقل إلى عالم الروح.

ولقد عاش الشيخ في هذا العالم يعمل في خدمة الروحية في تواضع وإخلاص فلما انتقل إلى عالم الروح لم يلبث أن أنضم بحكم تهيئه إلى جماعة الأرواح المرشدة ليواصل رسالته.

ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن روح الشيخ طنطاوى ما تزال مواظبة على الحضور الآن في الجلسات الروحية سواء كانت في الشرق أم في الغرب وهي روح مرشدة عظيمة لكثير من الوسطاء ومنهم بالأخص نجله الكريم الأستاذ جمال الدين طنطاوي وكثيرا ما يراه ذوو الجلاء البصري سواء في غرف الجلسات أم في خارجها ونخض بالذكر منهم صهره الأستاذ (حسن صالح) الذي كثيرا ما يراه سائرا بجواره أو متكلما معه سواء في الطريق أو في المنزل أوفي المصلحة التي يعمل فيها.

وللشيخ طنطاوي جوهري رسالة روحية جليلة هو آخذ في توصيلها من عالم الروح عن طريق وسطاء أعدوا أنفسهم لاستقبالهما كما سنبين فيما بعد.

ويقول الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير في حفل أقيم لذكرى الشيخ طنطاوي في قبة الغوري يوم 30 من يناير عام 1941، أي بعد مضي عام على انتقاله إلى عالم الروح.

نحن هنا الآن نحتفل كما جرت العادة بذكرى وفاة أستاذنا طنطاوي جوهري ولو أننا سايرنا الحق والواقع لوجب أن نقول: إننا إنما نحتفل بذكري ميلاده في عالم الروح عالم الخلود وجرى العرف أيضا أن نقول: إن فلانا حي بآثاره، وفاتنا أنه حي في الواقع بجسمه الأثيري (أي روحه) يتابع الحياة في عالم الروح، ويواصل البحث والدرس فالارتقاء هناك وقف عن العمل الصالح بالعلم الصالح والمضي في رشف منهله وطنطاوي جوهري قد ترك لنا في عالم المادة تراثا غنيا وأثرًا صالحًا، وقد أبى بعد انتقاله إلى عالم الروح إلا أنه يواصل البحث والدرس فاختار الطب كما علمت منه في هذا الأسبوع فقط، ورأى أن تدرس الإشعاعات المجهولة منا والتي تصلح لإبراء الأورام الخبيثة بنوع خاص.

ولقد جبل أستاذنا طنطاوي جوهري وهو في حياته المادية على ألا يترك ظاهرة تمر أمامه دون بحثها وتسخيرها إن استطاع للخدمة العامة، فلما انتقل إلى عالم الروح سار على نفس الدرب مسوقا بذلك الطابع الدقيق: حبه للعلم وتطوعه لخدمة الإنسانية.

ولنعد القهقرى إلى سنة 1910 حيث ظهر في سماء مصر مذنب هالى، وكنت إذ ذاك طالبا في المدرسة التوفيقية وجلست على مقهى في حي الخليفة بجوار القلعة معتزمًا السهر حتى أرى ذلك الجرم السماوي، وإذا بجواري شيخ وقور متواضع يسألني من أنت؟

ولماذا أنت هنا؟ فلما أنبأته أمري ورغبتي هش وبش ومضى يسامرنا سمر الأستاذ مع تلاميذه وما كان أشهاه سمرًا ثم إذا به بعد فترة يستأذن مسلمًا ومضى يسير منفردًا في فضاء ميدان قرة ميدان يرقب السماء وسألت عن محدثي بعد قيامه فقيل لي: إنه أستاذنا طنطاوي جوهري وأنه لابد ماضي ليرقب ذلك الجرم السماوي وذاك كان أول عهدي به ونعرف كلنا أنه لم يشأ أن يمر ذلك الحادث حادث ظهور ذلك الجرم السماوي وذاك كان أول عهدي به ونعرف كلنا أنه لم يشأ أن يمر ذلك الحادث حادث ظهور ذلك الجرم السماوي دون أن يخرج منه للمجتمع الإنساني بعبرة، فأخرج كتابه (أين الإنسان؟).

وقارن فيه بين نظام الكون ونظام الأمم، ودعا الإنسانية الحق مستخرجا السلام العام الذي يدعو إليه في النواميس الطبيعية والنظم الفلكية والفطر الإنسانية ونحا فيه منحى الداعية الروحي الصادق الأمين ومضى في تواليفه الكثيرة وهو بين ظهرانينا ينشر الروحية وتعاليمها القدسية لأن فيها كما يقول في مقدمة كتابه الأرواح: (سلوة المحزونين، وإيقاظ الغافلين، وتعليم الجاهلين، وإتباع الإيمان باليقين ورقي الأخلاق، وتقليل النفاق، وضعف الشقاق وذهاب الأحقاد، والوثوق بحياة جدية فلا يفزع الناس أشد الفزع من الممات ويقل بكاء الباكيات، ويسهل احتمال النكبات وأشد الأزمات علمًا بأنها طهارة للروح وإنما للأخلاق ودروع سابغات، وأجنحة بها نطير إلى العلا.

ثم دار الفلك دورته وإذا نحن بعد ذلك بما يزيد على ربع قرن م الزمان، وبدأت أنشر الدعوة إلى العلم الروحي الحديث بشكل عملي نقلت إلى العربية أحداث المؤلفات الروحية وأعمقها أثرًا، وألقيت كثيرا من المحاضرات في مختلف قاعات الخطابة وفي كلية العلوم بالجامعة، واستمع هو إلى معظمها وكان يريد على اعتراض المعترضين ثم شاركني في إنشاء دائرتنا الروحية وهي أول دائرة أنشئت في مصر.

بل في الشرق كله على غرار دوائر لندن الروحية وعلى أساس من العلم الروحي الحديث، وكان أبرز أعضاء الدائرة وقارًا وعلمًا وتقوى، وظل يعمل معي ويحضر الجلسات إلى أن أختاره الله لجواره فانتقل به من عالم المادة إلى عالم الروحي تتملكه باستمرار تلك الرغبة الجامحة في خدمة الإنسانية والدعوة إلى المحبة العامة، ولم تنقطع صلته بنا بعد انتقاله فكيرا ما يحضر جلساتنا ويراه وسطاء الجلاء البصري ويسلمون عليه، ورأيته بنفسي في حجرة التحضير رؤية خاطفة فإذا بطنطاوي جوهري المفقود موجود، وإذا بالعقل الفياض هو العقل الفياض وإذا بعواطفه الخيرة لا تزال متغلبة عليه، وكثيرا ما كان يرد على أسئلتنا إما بطريق وسيط الكتابة التلقائية وإما بالحروف النورية يراها الوسيط المختص، ويمليها حرفا حرفا في سرعة متناهية!

وقلت في الشهور الأخيرة زياراته لنا حتى إذا كانت جلسة الاثنين الماضي (27 من يناير سنة 1941) حضر، ورأيته كالمعتاد رؤية خاطفة في جبة سوداء ووافقني على ذلك أصحاب الجلاء البصري الذين أغبطهم على رؤيتهم إياه هو وصحبه من علية الأرواح رؤية مستمرة إلى أن ينصرف الجمع، وسألته بعد تبادل السلام أين كان طيلة هذه المدة؟ وقام أحد الوسطاء بإبلاغي حديثه.

قال: كنت أتعلم لأني أريد أن أخدم بني الإنسان.

فهللت وكبرت وقلت: (لابد أنك قد بلغت الغاية التي أردتها من متابعتك الدرس، فلما بلعتها عدت إلينا) قال: (نعم وقد تعلمت كيف أستخدم جهاز الإشعاعات الكونية وها هو ذا في يدي).

ووصف لي وسيط الجلاء البصري جهازًا أثيريا تنبثق منه جملة أنابيب، تخرج منها إشعاعات مختلفة الألوان، كل في دوره، وتستخدم في العلاج وفي كشف دقائق العلة مما لا تصل إليه الأشعة السينية المعروفة الآن ولا يفوتني أن أقول إن هذه الإشعاعات تومض أحيانا فيراها كل من في الحجرة من وسطاء وغير وسطاء، ويظهر الومض في السقف وفي الجو وفوق الأرض.

وأحيانا تشع يدا الوسيط المعالج حزمًا مومضة من هذه الأشعة الكونية الغريبة.

فيا عجبا كنا نظن الموت نهاية فإذا به في الواقع بداية وكنا فناء فإذا هو بقاء وأي بقاء! وهل أغرب من أن يشترك الميت الفاني في عرفنا في خدمة الحي الباقي وتخفيف آلامه تلك والله آية العلم الروحي الحديث الذي نادى به طنطاوي جوهري وأضرابه، والذي أنشأت له جامعة كمبردج العريقة تلميذة ودراسة، والذي لأجله ضمت جامعة لندن لمجلسها عضوًا من البحاث الروحيين.

إن هذا هو حال الشيخ طنطاوي جوهري ولم يمض على انتقاله إلى عالم الروح إلا عام واحد.

ولقد كان في حياته المادية كثير الإنتاج كثير العمل فكيف به وقد تحرر من قيود المادة في العوالم الروحية؟ إني لأنتظر منه الكثير والكثير جدا وسأذكره لوطال بنا الأجل في هذه الحياة الدنيا، ولقد صدق طنطاوي جوهري حيث يقول في آخر كتابه (أين الإنسان؟) ما يلي:

الناس غارقون: إما في غمرة الجهل أو بحر حيرة العلم كبرت على عقولهم نظامات العالم فتلقفوا كلمات الخارجين تلقف الجهال كلمات الدجال الذي يدعي فتح الكنوز بالأحلام والأوهام إن أكثر الناس واهمون في قضايا الإنسانية خاضعون لمن علت كلمته ولو كان مخدوعًا.

ولما كلفني سكرتير جماعة الإخوة الإسلامية إلقاء كلمة في حفل اليوم طلبت يوم الجمعة الماضي (24 من يناير سنة 1941إلى الروح الكبير الكريم سيلفر بيرش عميد جماعة الأرواح المتصلة بنا أن يسمح لأستاذنا طنطاوي وقد كان خدنه الروحي وملهمه منذ أكثر من ثلاثين سنة بأن يبعث إلينا برسالة منه وهو في عالم الروح لأتلوها على المجتمعين في يوم ذكراه الأولى فوعد خيرا ثم كانت جلسة الأمس (الأربعاء الموافق 29من يناير سنة 1941) فحضر الروح سيلفربيرش وروح طنطاوي جوهري والروح عبد اللطيف الطبيب الفارسي المشهور وجماعة أخرى من أرواح ذوي قرابتنا وغيرهم.

ورآهم وسطاء الجلاء البصري، وطلب إلينا روح عبد اللطيف بلسان وسيطه أن نستعد لتلقي رسالة طنطاوي جوهري بالحروف النورية، فأطفأنا النور الأبيض وأضأنا النور الأحمر وأعددنا العدة للكتابة، وفيما يلي نص ما تلقيناه بالحروف النورية حرفًا حرفًا: بيرش يتكلم:

أقدم لكم أستاذكم الكبير والروح الكريم طنطاوي جوهري.

ثم تنحى بيرش عن الكتاب، وبدأ طنطاوي جوهري يكتب رسالته بالحروف النورية قال:

(إخواني أقف اليوم بينكم خطيبا روحيا معربًا لكم عن سروري بكم، وسروري بهذا الحشد الكريم الذي أقمتموه في ذكراي الأولى.

وإني لمسرور ومسرور جدا، عندما أجد رجال الدين مصغين ومسرورين عند سماع رسالتي المقلة هذه من عالم الروح وأود أن تتضامنوا في الاطلاع ونشر العلم الحديث وما في هذا العلم وكما قال الله تعالى: (وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) فاعلموا أيها الإخوان أن عليكم عيونا من الله ترعاكم وتراكم.

(والآن أيها الإخوان وجب عليكم أن تتضامنوا جميعا وحبذا أنكم من رجال الدين فيكشف الله لكم عن هذا السر الإلهي الدفين وما فيه من الدين القويم.

(إخواني – التقوى تقربكم إلى الله، والصبر عند الشدائد وإغاثة الملهوف تجتمع في عنصر واحد.

سادتي كان بودي أن ألقي عليكم رسالتي مطولة عن هذه، ولكني أرى الوسيط قد تعب، فمن عمل صلحا فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.

وأكرر الثناء عليكم جميعا فقد ظهرتم ملبين في إقامة هذه الذكرى وإنني لأدعو الله لكم أن يوفقكم لما فيه خير وفلاح والذكرى تنفع المؤمنين والسلام) طنطاوي.

تلك هي رسالة أستاذنا طنطاوي تلاها عليكم الآن بلساني، وإني لأشعر به وبالروح سيلفر بيرش، وبجواري الآن ومعهم نخبة الأرواح الطاهرة يشاركوننا في الاحتفال بهذه الذكرى.

لقد قلت في حفلة الأربعين إننا قد نسمعكم صوت طنطاوي جوهري كما هو الحال في الغرب إذ تخطب الأرواح في المجتمعات بأصواتها المباشرة وتتجسد أمام الحاضرين، فتبدو كما كانت تبدو في حياتها المادية، ولكننا لم نصل بعد إلى النجاح في هذا النوع من التجارب وإن كنا ماضين فيه، ولعلنا مستطيعوه يوما، فتزدادوا إيمانا بأن الموت لا نهاية وبقاء لا فناء والسلام عليكم ورحمة الله.

وإلى هنا تنتهي الكلمة التي ألقاها المرحوم الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير في حفل الذكرى الأولى للشيخ طنطاوي جوهري يوم 30/ 1/ 1941 نقلناها هنا لما فيها من فائدة ومتعة.

وجدير بالذكر أننا ما زلنا ونحن الآن في عام 1976 على صلة بروح أستاذنا طنطاوي جوهري، وقل أن تعقد جلسة إلا يحضر فيها، ويراه أصحاب الجلاء البصري.

هارون الرشيد وطنطاوي جوهري

ولعل من أغرب ما حدث أن يتصل روح هارون الرشيد والشيخ طنطاوى في إحدى الجلسات التي كان يعقدها الأستاذ فهمي أبو الخير، وكان ذلك في سنة 1920 أي قبيل وفاة الشيخ طنطاوي بثماني عشرة سنة، ويطلب إليه أن يصحح خطأ تاريخيا وقع فيه المرحوم جورجي زيدان بصدد العباسة أخت الرشيد وقد كان ذلك بطريق الكتابة التلقائية.

وها هي ذي القصة من أولها كما سردها الشيخ طنطاوي في كتابه (الأرواح)؟

تحرك القلم في يد الوسيط، وكتب بخط كوفي جميل جدا، ما يلي:

(يا أستاذ طنطاوي:

(ولما رأيت السيف جلل جعفرًا أجز فقلت:

ونادى منادٍ للخليفة يا يحيي.

أسفت على الدنيا وعاتبت أهلها

عليها وقلت الآن لا تنفع الدنيا.

فقال: عوفيت يا أستاذ طنطاوى أنت عقلك كبير، ولكنك حسن النية، استمر في تأليفك ولكن أنا أريد منك أمرًا، فهل أنت فاعله؟ قلت: نعم فقال: بحق النبي، بحق القرآن ألا فعلته، فكاد يغشى علي والحاضرون دهشوا لهذه المفاجأة ولماذا اختار فلانا؟

فأكدت له أن أفعل ذلك فقال: والله إن جعفرًا مازني بأختي العباسة ولا زوجته إياها ولكنه رجل خانني فقتلته، فهل تعاهدني أن تسهر الليل وتجد بالنهار وتقرأ في الكتب وتبحث فيها حتى تؤلف كتابًا به تطفئ النار المتأججة في الشرق والغرب وتدفع الخطأ الذي نشره جورجي زيدان؟

فعاهدته على ذلك فقال له صاحب المنزل وهو يضحك: ما تقول في والد الشيخ طنطاوي فقال: أنا أعرفه وهو سعيد، ثم قال: تحب يا أستاذ طنطاوي أن أذكر لك اسم والدتك لأنك كنت تمتحن الأرواح فيها وذكر الحرف الأول من اسمها فقلت كفى.

فقال صاحب المنزل للوسيط وكان يحب الضحك كثيرا: لا تضع قلمك على الورقة لئلا يقلع عين الخليفة: فقال له: يا سيدي، أنا الآن روح من أرواح الله ولست خليفة، فقال: ما هذا؟ وهل لله أرواح؟ فقال الرشيد: يا حبيبي، تعلم اللغة العربية ثم كلمني. وبعد ذلك أخذ الرشيد يلاطف صاحب المنزل، فقال له، أنا لا أؤاخذك بقولك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا صدقا، إن أباك الآن في درجة عالية، وأمك صفتها كذا فقال: وما تقول في أخي أحمد؟

فقال: أما هذا فلا تسألني عنه، فقال صاحب المنزل: حقيقة أخي كان يرتكب الآثام ثم عطف ثانيا وقال: يا أستاذ طنطاوي تذكر وصيتي فقلـت: سأعمل بها، فكن مطمئنا. وانتهى الحديث.

وبعد ذلك بأيام حضر لصاحب المنزل وقال له: قل للأستاذ طنطاوي: لماذا لم يعمل بجد فيها أوصيته به؟ وبعد مدة قال: قل: للأستاذ طنطاوي أنا شاكر له فعله.

وبيانه بعد أن قمت من ذلك المجلس بحثت فوجدت في المكاتب كتابا اسمه (العباسة أخت هارون الرشيد) وما كنت اطلعت عليه قبل ذلك فاشتريته ودرسته، وبحثت في كتب التاريخ فوجدت الرواية خيالية والعلم يكذبها فألفت فعلا كتابًا هو الآن عندي اسمه (براءة العباسة أخت هارون الرشيد) ووضع لهذا الكتاب حسن أفندي حسين وهو كاتب مشهور بمصر - مقدمة ذكر هذه الحال كلها...).

ثم قال: (رأيت القول في هذه الحادثة صادف الحقيقة، فإني بحثت فرأيت جميع هذه القصة خيالية، ولم يحصل هذا من العباسة وهي لم تر جعفرا والمسألة كلها سياسية بحتة.

إن قدماء الفرس لما رأوا صولة العرب تدخلوا بينهم وقلبوا دولة الأمويين: ولما جاءت الدولة العباسية ولم ينالوا مرادهم أرادوا قلبها أيضا، ففتك بأبي مسلم الخراساني أبو جعفر المنصور وبجعفر البرمكي هارون الرشيدي لمقاصد سياسية، والكتاب قد شرح هذه النقطة شرحا وافيا مستمدًا في جميع المؤرخين قديمًا وحديثًا....)

تحقيق جديد

وهكذا كان الاتصال بعالم الروح سببا في تصحيح هذا الخطأ التاريخي الذي وقع فيه جورجي زيدان وكان كاتبًا في كبار الكتاب في مصر ، وكان كتاب (براءة العباسة) الذي صحح هذا الخطأ نتيجة لحضور الشيخ طنطاوي تلك الجلسات الروحية التي كانت تعقد بانتظام في (دائرة القاهرة الروحية).

وفي الحقيقة أن روح الشيخ طنطاوى ما تزال- كما قلنا- مواظبة على الحضور حتى اليوم في الجلسات الروحية، وبالأخص الجلسات التي تعقدها (الجمعية الإسلامية الروحية) بالقاهرة ويهيمن فيها أستاذنا طنطاوى على نجله الكريم الأستاذ جمال طنطاوي.

ولقد ظهرت روح الشيخ طنطاوى بعد انتقاله إلى العالم الآخر بخمسة أشهر، مع روح هارون الرشيد والعباسة، وجعفر البرمكي، في إحدى الجلسات التي يروي لنا تفاصيلها الأستاذ فهمي أبو الخير فيما يلي.

كان لابد وقد اتصلنا بعالم الأرواح أن نجري تحقيقا جديدًا وتم ذلك في جلسة كنا عقدناها في يوم السبت الموافق 11 من يونية سنة 1940 وحضر اثنان من وسطاء الغيبوبة واثنان من وسطاء الجلاء البصري ووسيط استدعاء الأرواح ووسيط الكتابة التلقائية.

ووقع الوسيط أبو سريع في الغيبوبة، وتكلم بفمه أولا الروح هوايت إيجل وهو روح معالج، ثم سلم وانصرف مخليا المكان للروح المسمى سيلفر بيرش، وما هي إلا لحظات حتى تكلم هذا الروح بلسان الوسيط بنبرة تخالف نبرات سابقه، وعرضنا عليه الأمر، فطلب إلينا عقد جلسة الكتابة التلقائية لأن الوسيط متعب، ومن ثم لا يمكن استمرار التواصل طويلاً بطريقة تفوهات الغيبوبة، وفعلاً أطفأنا النور الأحمر وأضأنا النور الأبيض المعتاد، وأعد وسيط الكتابة التلقائية وديع ميخائيل نفسه للكتابة وجلس أمامه وسيطا الجلاء البصري زكي وحسن، ووقف وراءه وسيط استدعاء الأرواح حامد أبو الخير، وتعاونت الأرواح والوسطاء وبدأ وسيط الكتابة التلقائية يكتب، فكتب ما يلي:سيلفر بيرش

السلام عليكم، لم أستطع مخاطبتكم طويلاً بفم الوسيط الواقع في الغيبوبة لتعبه، ولقد تقابلت بعد انصرافي وهارون الرشيد وكلمته في هذا الموضوع، فكان سروره لا يقدر، وسيحضر الآن ومعه طنطاوي، فاطلب منهما ما تريد.

روح هارون الرشيد: وبعد ذلك كتبت يد الوسيط ما يلي ووسيطا الجلاء البصري يريان (طنطاوي) ومعه هارون الرشيد يحف بهما وقار كبير:السلام عليكم – الرشيد


فقلت نحن مسرورون جدا لتشريفكم، ونود منكم كلمة بخصوص ما كنتم كلفتم أستاذنا (طنطاوي جوهري) القيام به وهو في عالمنا لكي نضمها إلى مقالنا.

قال: سرور عظيم وشكري جزيل أقدمه إلى حضراتكم على هذا كم كنت حزينا ومتألما جدا الألم مما كتب عن أختي العباسة بيد السيد جورجي زيدان ولذا حاولت الاتصال بأي طريق بمن يمكنه تصحيح الخطأ، وكان أن أسعدني الحظ وساقني إلى مقابلة السيد العظيم سيلفربيرش فدلني على وسيطه بالإلهام السيد العظيم طنطاوي، وجعلني أتصل به وتعاهدنا على تصحيح الخطأ الذي جاء برسالة السيد جورجي زيدان، فعاهدني على ذلك ولقد وفي بعهده، وكان من طبيعته الوفاء في عالمكم كما هو الآن في عالمنا ولقد زاد سروري جدا بسنوح تلك الفرصة التي ستعيد فيها يا سيد أحمد أبو الخير الإفصاح عن الخطأ في رسالة السيد جورجي زيدان وتعيد إلى العباسة انشراحها وسرورها، فتصحح تاريخها، وهي وإن كانت إنابتي في الشكر ستحضر بنفسها الآن وتقدم لكم الشكر. الرشيد).

روح العباسة أخت الرشيد: وكف وسيط الكتابة التلقائية عن الكتابة، وقال أحد صاحبي الجلاء البصري ووافقه صاحبه على ما قال: (أرى سيدة تسير الهوينى في عظمة الأميرات وقد أمسكت بيدها اليمنى ثوبها من فوق ركبتها ترفعه لأنه يتدلى على الأرض، والسيدة بدينة قصيرة سمراء في لباس خارجي أسود.

وعلى وجهها نقاب لا تظهر منه إلا عيناها ولما خلعت نقابها وملابسها الخارجية تبدت بملابس بيضاء ناصعة، وظهرت عيناها النجلاوان الواسعتان. وقال وسيط استدعاء الأرواح (هذا أول ظهور لها في الأرض بعد انتقالها).

وبدأ وسيط الكتابة التلقائية يكتب فكتب ما يلي:طنطاوي

(لم يترك لي السيد هارون ما أقوله لحضرتكم، وأنني لا أستحق كل ما جاء بكلمته بخصوصي، ولا يسعني إلا أن أقول لكم شكرًا ثم نجاحًا وسرورًا تاما يهبهما الله لكم عن قريب طنطاوي) ثم إذا بالوسيط يكتب:العباسة.

(تحيتي إليكم يا معشر الروحانيين كان ألمي شديدًا لما جاء برسالة السيد جورجي زيدان، ولقد كان تصحيح السيد طنطاوي بمثابة الحكم الابتدائي بالبراءة، وستجيء كلمتكم يا سيد أحمد أبو الخير وكأنها تأييد لحكم البراءة في الاستئناف فشكرا ثم شكرًا.ط.

وإليكم حادثة تثبت لكم البراءة، وقد تكون بمثابة النقض والإبرام يا سيد أحمد:

(لقد قيل للرشيد في يوم من الأيام: إن جعفرًا ذهب إلى دار العباسة ليقضي معها بعض الوقت يطفئ فيه ما يعانيه من نار الشوق والغرام، فجاء الرشيد بنفسه متخفيا في ثياب أحد الخدم كي يرى من بالدار؟

وإذا بالدار خاوية إلا مني ومن الخدم فخجل وكان ندمه شديدًا على تصديق ما سمع، وعاد ,لم يصدق بعد شيئًا .. .العباسة)

روح جورجي زيدان: ولما كف الوسيط عن الكتابة طلبنا (روح جورجي زيدان) فقيل لنا: إنه موجود، والتفت صاحبا الجلاء البصري إلى ركن آخر من أركان الحجرة وإذا بهما يريانه بملابسه الفرنجية عاري الرأس ثم اقترب من الوسيط، وإذا بهذا يمسك القلم ويكتب:

(إنني يا سادة أتقدم تقدم من يريد الاعتراف بخطأ كي يكفر أولا عنه ثم يبرئ ناسًا كانوا أفضل ما يكون، ولكن ساءت سيرتهم بما كان مني، فأستسمحكم الآن كما سبق أن استسمحت الرشيد وأخته عند انتقالي إلى عالم الروح... جورجي زيدان).

واسترخت يد وسيط الكتابة، وطلبنا روح جعفر ليقول لنا كلمة في الموضوع وهنا قال أحد صاحبي الجلاء البصري: أرى رجلا يمسك بيده ورقة).

وقال وسيط استدعاء الأرواح: تلك رسالة لدعوة جعفر :روح جعفر:

وحضر روح جعفر البرمكي يتقدمه اثنان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وبدا طويل الجسم طويل الشارب، كبير الرأس، ممتلئ البدن، قمحي اللون في سمرة، واسع العينين، عريض الحاجبين، واسع الجبهة على رأسه عمامة تشبه عمامات الهنود، وكتبت يد الوسيط:البرمكي

(إن قلت: ليلة سعيدة فغير كاف، وإن قلت: أنا أسعد حالا مني يوم كنت في عالمكم، وخاصة لحضوري الآن، فغير كاف أيضا وإنما أقول لكم: إنني مسرور جد السرور بظهور براءة من اتهمت معها بغير حق، تلك فرصة يندر أن تتاح مرة أخرى كي نظهر فيها جميعا براءة العباسة، ويعترف فيها المخطئ بخطئه، ثم نعود فنتصافح معًا كما تصافح القاتل والمقتول!

إني عاجز عن التعبير عن مقدار شكري – جزاكم الله خير ووهب لكم كل نجاح وجعلكم رسل الروحية في الشرق أجمع بعد أن قبرت فيه وقد كان مهدها ... البرمكي).

قلت: الحمد لله أن تصافحتم جميعا

قال: وسنتصافح أمامكم وبعد ذلك وصف صحب الجلاء البصري ما تم فقال: (أرى الشيخ (طنطاوي) يتقدم ويجمع بينهم، فتقدم جعفر وصافح هارون الرشيد أولا ثم انحنى أمام العباسة وأرى (جورجي زيدان) يتقدم ويصافح الرشيد، ثم هو ينحني أمام العباسة ثم يصافح (جعفرًا) وتقدم من طنطاوي مصافحا وكأنه يقول: (أنت السبب في إظهار الحقيقة في الأرض وفي عالم الروح).

ونقف بحديث هذه الجلسة عند هذا الحد، لننتقل إلى جلسة أخرى كان قد عقدها السيد الإمام الأستاذ رافع محمد رافع رئيس الجمعية الروحية الإسلامية) في 13 من يناير 1961.

وقع السيد جمال طنطاوي تحت هيمنة واعية من أبيه أستاذنا الشيخ طنطاوي وتفوه بحديث طويل لا مجال لنشره هنا، ولكننا نكتفي بالفقرات الأخيرة التي اختم بها الحديث:

(... لا أطلب لنفسي أكثر مما أطلب لإخواني إني أطلب لهم ما أطلب لنفسي من الله ومن ربي ومن شهودي ومن معتقدي وموجودي ومن أحديته معلومة لي فيها أعلم من فنائي فيه ومن واحديته معلومة لي، ومن بقائي به عبدًا له، ومن نطقي بما يريد بإرادته ومن فعلي لما يريد بحكمته وفناء وبقاء برسوله إلى بمعنى الفناء فيه والبقاء به وجهتي بما يريد برحمته لا حول لي والحول له، ولا قوة لي والقوة له، لا فعل لي والفعل له، ولا وجود لي والوجود له، لا وجه لي والوجه له...

هذا ما كان فعلي وعملي ودعوتي وهذا هو ما يقوم عليه اليوم بعثي وحركتي إن سميت لي حركة، وفعلي إن سمى لي فعل، قولي إن نسب لي قول.

إني في يومي أشبه ما أكون بأمسي وما قد أكون في غدي... في جوهر الأمر لا أزداد في الله إلا بما يزداد به الناس من وعي عنه وقيام به وبروح منه من روحه منه على أرواحهم، ونور من نوره على نور يتخلل أوانيهم وعلم من علمه يحل بكيانهم كتبًا له وإعلامًا عليه.

هذه هويتي وهذا مرتقاي لا مرتقى لي إلا أن أكون خادما لله بخدمة الناس خادمًا لله بخدمة عباده، خادمًا لله بخدمة إخواني، خادمًا لله بخدمة أحبابه ممن يحب من أحب ومن لا أحب ومني من كان معي في هذا وأنا منه وإني من حيث أنا فإنما أحب الناس جميعا أغفر لمسيئهم إساءته، وأسأل الله أن يغفر لي وله وأرتضي من المحسن إحسانه وأسأل الله أن يزيد لي وله، وأن يقبل مني ومنه.

(وأما أنا فحسبي أن أكون في خدمة الناس، وأن أرى الله راضيا عمن يرتضي من الناس بلا فرض مني بشفاعة ولكن بمحبة منه ولي ولهم، ففي محبته لهم أشعر بمحبته لي وإني في حبي لهم أشعر بحبي له.. أنا والناس، أنا من الناس، أنا من الناس والناس في .. أنا منهم وهم مني عبادًا له هذا ما أريد أن يبقى لي نعمة منه على لا تنقطع وعطاء منه غير مجذوذ لي ولهم.

هذا وعي يا أخي وهذا إدراكي، وما أحب أن يكون وعيك وإدراكك ووعي الناس وإدراكهم أني ما فرقت الناس في الأرض وما أحببت أن أفارق الناس في الأرض وما فارقت من عرفت ومن عرفني من الناس في عالم الروح أو في عالم الروح، ولا أحب أن أفارقهم في غدي أو أن أفارقهم في يومي إن أنسي بالله في أنسي بهم، ومعرفتي بهم.

إني أشهدهم بوعي وأشهدهم بمحبتي حتى لو كنت لا أرى لهم وجوها أو أعرف لهم أسماء فإن أحبهم جميعا ظهروا لي أو لم يظهروا تسموا عندي أو لم يتسموا انضموا إلي أو لم ينضموا رأيتهم في حاضري أو لم أرهم إني أرى ما أرى في حاضري أنه عين ما كنت أرى فيها لا أرى من قديمي وهم عين ما سوف أرى في قادمي وفي مواصلة حياتي في حيوات الناس في حيوات الإنسان في حياة الله قديمة قائمة متواصلة.

هذا ما أحب أن يعرفه إخواني من أهل الأرض وما أحب أن يعرفه إخواني من عوالم الروح، ومن عوالم الكواكب، ومن عوالم الإنسان، ومن عوالم النفوس، ومن عوالم العقول، ومن العوالم الحمراء أو السوداء، ويعرفوا به بدورهم لمواصلة أنفسهم.

إني لا أرى في نفسي إلا ما أصرح به، ولا أحب أن يكون لي إلا ما أرى إني لا أطمع من الله في مزيد مما أنا فيه إلا في مزيد من رحمته بالناس، وكرمه على الناس وتعريفه للناس وتعليمه للناس، وتحقيقه للناس، ففي هذا نعمتي وفي هذا رضاي، وفي هذا عطائي وإرضائي وفيه علمي عنه وتعارفي إليه.

هذا ما أقول وهذا ما فيه وبه أقوم، وهذا ما أعتقد وهذا ما أحب لنفسي ولإخواني أن يعرفوه وأن يعتقدوه وأن يحبوه وأن يكونوه في حاضرهم وفي قابلهم وأن يتعظوا بما يظهر الله لهم من آياته في أنفسهم وفي الآفاق وفي ماضيهم وفي ماضي الناس، وفي حاضرهم، وفي حاضر الناس وفي قابلهم وفي قابل الناس.

لا إله إلا الله.. هذا يقيني وكتابي وقيامي وعقيدتي، وإن صح أن تكون لي رسالة فرسالتي، وإن صح أن تكون لي دعوة- فدعوتي... وإن صح أن يكون لي أمر- فأمري .. وإن صح أن يكون لي مجاهدة فمجاهدتي .. وإن صح أن تكون لي استقامة- فطريقي واستقامتي..

(لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكل معه عباد.. وما العباد إلا وجوه، وما العباد إلا أسماؤه وصفاته وذكره المحدث من ذكره القديم كما تحدثت وأتحدث دائما..

إن الله لا نهائي بلا بداية، لا نهاية، لا إله إلا الله لا نهائي في قيامه.. لا إله إلا الله لا نهائي في صفاته، لا نهائي في ذاته، وفي خلقه، لا نهائي في حقه... لا نهائي في كرمه وجوده... هذه عقيدتنا في (لا إله إلا الله) يا أخي أراها في نفسي وأراها فيمن نتحاب معًا، وسواء أحببته كما أحببتك أو أحبني كما أحببتني فإنني إن أحببتك كنتك، وإن أحببتني كنتني... ومن أحب شيئا كانه في قانون الفطرة.

(إن الله في المحبة يوجد ما وجدت المحبة وما وجد الحب ومن يحب. (هذا ديننا يا أخي، وهذا يقيننا يا أخي، عله نحيا، وعليه نموت، وعليه نبعث، وعليه نبقى وبه نرقى، وبه نتجدد (لا إله إلا الله)...

وفي جلسة أخرى جاءت على لسان الوسيط كلمة قيمة كانت مقدمة للجزء الأول من مجموعات (ألواح ما بين قبر ومنبر) التي تصدر عن (الجمعية الإسلامية الروحية) بالقاهرة ضمن سلسلة نشر الثقافة الروحية ننقلها فيما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الذي جعلني قادرًا على أن أذكر المسلمين في كتاباتي وتآليفي أن الإسلام هو ديني العقل، وليس بدين الخوارق والمبالغات والأوهام.

والإسلام دين يقبل بالعقل، ولا يقبل أبدًا بغير ذلك.

العلم هو كل شيء في الحياة ما دام هذا العلم المقصود به وجه الله ومعرفة الله.

فيأيها القارئ الكريم، أقرأ هذه الكلمات، ولا تجعل من نفسك قاضيا على ما فيها من علم، ولا تجعل من نفسك عالما، فيمتنع عنك العلم، ويحتجب عنك النور!

أيها المسلم الكريم، أهدي إليك هذه الكلمات المبالغة التي خطها بفيض أنوار رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل للتقوى، ونبراس للإيمان، وإمام لليقين.

أقرأ ففيها حلاوة وجمال، يدرك لكل ذي قلب سليم الخير من ورائها، والحنان والحب يستمد منها

والله يهدي إليه من يشاء.

الروح الكاتب لهذه المقالة

أخوك: طنطاوي جوهري.

وهكذا نرى مما سلف أن للشيخ طنطاوى كما قلنا من قبل رسالة روحية جليلة هو آخذ في توصيلها من عالم الروح عن طريق وسطاء أعدوا أنفسهم لاستقبالها وبالأخص نجله الأستاذ المهندس السيد جمال الدين الذي سمعت منه عن لسان أبيه كلمة تعد من جوامع الكلم يحسن أن نختم بها هذا الفصل من الكتاب وهي : (كلنا نحب الحياة، ولكن ما الحياة؟ الحياة هي أن تعرف من الله عن الله ما تدرك به الله في نفسك!).

الفصل السابع الداعي إلى الإسلام العالمي

لقد كان الشيخ طنطاوي جوهري شأنه شأن المصلحين الرواد ي مطلع هذا القرن لم يقف عند الإصلاح الاجتماعي والإصلاح الديني بل امتد نشاطه إلى ميدان الوطنية فكان في كتاباته يخاطب كل عاقل يريد الحياة، والإصلاح الديني، بل امتد نشاطه إلى ميدان الوطنية فكان في كتاباته يخاطب كل عاقل يريد الحياة، ويدعو إلى الاطلاع على الحقائق من أي دين وأي نحلة من بلاد الشرق لأن بحثه عام للكائنات، ودعوته عامة كما يلحق الشرق بالأمم الغربية في المعارف والعلوم والمدنية والحضارة وكان يدعو إلى الإسلام العام الذي ألف من أجله كتابيه: (أين الإنسان؟) و (أحلام في السياسة وكيف يتحقق السلام العام؟).

وهذان الكتابان -وسبق أن تكلمنا عنهما في الفصل الثاني الخاص بمؤلفاته وآثاره المكتوبة- يستخرجان السلام العام على أساس الفطرة الإنسانية، وقد أوضح فيهما أن مدنية اليوم حيوانية، فدعا الناس إلى الإنسانية الحق التي يقوم فيها السلام على المحبة وتبادل المنافع.

وقد توجد بكتابيه هذين إلى فلاسفة الأمم وقادتها، فدعا الأولين لبحث هذا الموضوع، والآخرين للتعاون على العمل.. وكان لهما وقع عظيم في المحيط الدولي، وأثر كبير في نفوس دعاة السلام.

وتكلم المستشرقون كثيرًا من هذين الكتابين القيمين وأوفوهما حقهما من الثناء مما لا يدع لنا مزيدًا من القول.

ولعلنا لا نحتاج بعد ما شهد به هؤلاء الأعلام إلى القول بأن الشيخ (طنطاوى) كان بالحق داعية الشرق كله للسلام في هذه الآية وحسنا اعتقادًا بإيمانه بالسلام ما رد به على الأستاذ الدكتور زكي مبارك حين اتهمه بأنه مخدوع بتقديم كتابه للترغيب في السلام بين أهل الأرض وهم يعيشون في ظل القوة الجامحة، فرد الشيخ عليه قائلا: (إن لم يكن في هذا الكتاب إلا أن القوم يعرفون أن الإسلام. لا ينافي السلام فذلك كاف. إن القوم المدججين بالسلاح برًّا وبحرًا وجو ينادون (السلام السلام) في وقت إلقاء قذائفهم على الآمنين الوادعين، ونحن محرومون من تلك القوة أفلا يحق لنا أن نحاربهم في أقل الجهاديين؟

لا خيل عندك تهديها ولا مال: فليسعد النطق إن لم تسعد الحال).

ترشيحه لجائزة نوبل

تقدم الشيخ طنطاوي بنفسه إلى لجنة نوبل لنيل هذه الجائزة بالبرلمان النيرويجي فسألت عنه وزارة المعارف العمومية، فاهتمت الوزارة بترشيح الشيخ طنطاوي لنيل جائزة (نوبل) كأول مصر ي يرشح لهذه الجائزة. ولم تر الوزارة بدا من النظر في طلب الأستاذ وإحالة كتبه إلى عميد كلية العلوم (الدكتور مصطفى مشرفة) لفحصها وإبداء رأيه فيها، والكتب المقدمة هي:

1- أحلام في السياسة وكيف يتحقق السلام العام؟

2- أين الإنسان؟ وقد تقدم به إلى مؤتمر الأجناس العام سنة 1911.

3- صورة ما كتبه بعض عظماء ملوك الشرق، وجمعيات أوربا وعلمائها في هذين الكتابين.

4- أساس النظام الدولي، والموازنة بين آراء حكماء الشرق والغرب، وبين الرأي المصر ي الحديث.

5- نسخة منقولة من المجلة الشرقية بروما بتاريخ سنة 1911 للأستاذ سانتيلانة الدكتور في الفلسفة.

6- نسخة مما أرسله الأستاذ كريستيان جوب من لوكسنبرج مكتوبًا باللغة الفرنسية إلى المؤلف، وقال: إنه ملخص من كتاب (أحلام في السياسة).

وهذه الكتب والرسائل تتجه كلها اتجاهًا عاليا في الدعوة للسلام، ونصيب الإنسانية من السعادة إذا ما رفرف عليها علمه وسار فيها نظامه.

وكان من شروط التقدم لمثل هذه الجائزة أن يكون صاحب المؤلفات من أساتذة الجامعة أو أن يرشحه أحد الوزراء أو عضو في البرلمان أو أستاذ جامعي في الفلسفة أو التاريخ أو القانون أو السياسة ولقد تطوع لترشيح الأستاذ الدكتور مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم آنئذ، والدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان والرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين، فأخذت وزارة الخارجية بهذا الترشيح، وأرسلت مؤلفات الأستاذ إلى البرلمان النرويجي مشفوعة بتقرير عن جهوده في سبيل العلم والسلام وشهادات علماء انجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في قيمة مؤلفاته.

ولكن.. ولكن القدر عاجل أستاذنا فوقف كل شيء في هذا الصدد لأن جائزة نوبل لا تمنح إلا لعبقري يكون على قيد الحياة...

الفصل الثامن الشيخ طنطاوى في كتب المرخين وآثار الدارسين

كان لبعض العلماء والكتاب والدارسين في مصر والهند وباكستان وإيران وغيرها من بلاد أخرى عناية كبيرة بالشيخ طنطاوي جوهري وآثاره، يجب أن تذكر، فتشكر.

هذا عدا دراسات المستشرقين التي أفردنا لها فصلا خاصا.

ونورد فيما يلي أسماء الذين اتجهوا لدراسة شيخنا العظيم وبذلوا جهدًا مشكورًا سواء في التعريف به أو دراسة آثاره، أو الكتابة عنه:

1- الدكتور محمد حسين الذهبي، وزير الأوقاف وشئون الأزهر سابقا في كتابه (التفسير والمفسرون) وهو بحث تفصيلي عن نشأة التفسير وتطوره، وألوانه ومذاهبه، مع عرض شامل لأشهر المفسرين وتحليل كامل لأهم كتب التفسير، من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب أفراد المؤلف فصلا كاملا طويلا أتى فيه بالدوافع التي حملت الشيخ طنطاوي على كتابة تفسير الجواهر ومتى وكيف شرع في كتابة هذا التفسير وغرض المؤلف ن تفسيره، ومسلك المؤلف من تفسيره، وطريقة المؤلف في هذا التفسير، ونماذج من هذا التفسير؟

وختم الدكتور الذهبي دراسته في تفسير (الجواهر) بقوله:

هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه الترعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه، والكتاب –كما ترى- موسوعة علمية ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وصف به تفسير الفخر الرازي فقيل عنه:

(فيه كل شيء إلا التفسير) بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دل الكتاب على شيء فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيرًا ما يسبح في ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف في نواح شتى من العلم بعقله وقلبه، ليجلي للناس آيات الله في الآفاق وأنفسهم، ثم ليظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمنا لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث تحقيقا لقول الله تعالى في كتابه: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.

2- الدكتور محمد محمد حسين أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة الإسكندرية في كتابه:

الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر أبرز الدور الذي قام به الشيخ طنطاوى في مكافحة الكفر والإلحاد بأنه قد سلك إلى ذلك طريق العلوم الحديثة: من رياضة وفلك ونبات وحيوان وطبيعة وكيمياء وكل ما اكتشفه العقل البشري، ودعا المسلمين إلى تعلم هذه العلوم موقنا أن ذلك هو أقوى السبل وأقومها إلى إدراك إعجاز القرآن ومعرفته حق المعرفة، ورد الزائفين إلى هديه الذي لم يقدروه حق قدره والذي صرفتهم عنه هذه العلوم الحديثة نفسها، فهي خليقة أن تردهم إليه اليوم كما صرفتهم عنه بالأمس.

ويقول في موضوع آخر من الكتاب: وقد كانت ثقة الشيخ طنطاوى كبيرة بنهضة المسلمين واستعادتهم مجده:

عمارتهم الأرض، وإصلاحهم ما آل إليه أمرها من فساد واضطراب وكانت هذه الفكرة تنزل من نفسه منزلة اليقين الذي لا يخامره فيه شك وقد لازمته منذ فجر حياته العلمية إلى نهايتها يجدها القارئ مبثوثة في ثنايا كتبه جميعا وقد استغرق ما كتبه عن الشيخ طنطاوي في هذا الكتاب عشر صفحات من الحجم الكبير.

3- الأستاذ مصطفى محمد الحديدي الطير عضو لجنة تنسيق التفسير الوسيط بمجمع البحوث الإسلامية في كتابه (اتجاه التفسير في العصر الحديث) بسلسلة البحوث الإسلامية أفراد فصلا خاصا بتفسير (الجواهر) قال في مستهله:

(... وقد عرفت الشيخ طنطاوى شخصيا، فوجدت له دينا قيما وقلبا نقيا وحبا لدينه عارما، ووجدت فيه الرغبة القوية في توجيه المسلمين إلى الإيمان الراسخ بالله تعالى بالنظر في ملكوته وآثار نعمته ورحمته، ولقد كان هذا الشيخ، ورحمه الله، مغرما بتفسير القرآن الكريم على نمط علمي اختطه لنفسه، لم يسبقه إلى مثله ولم يقلده فيه أحد وكان تفسيره على هذا النمط مقصورًا على طلبته بدار العلوم أيام تدريسه لهم، ثم بدا له أن يتم تفسيره على هذا النمط وينشره بين الناس راجيا أن يفهموا به العلوم الكونية وأن يكون داعيا حثيثا للشبان الموحدين إلى درس العوالم العلوية والسفلية.

وفي رسالة منشورة في مجلة (عالم الروح) بالعدد السادس بتاريخ شهر أبريل 1956 جاء فيها: حضرة الأستاذ العلامة العالم الروحي الأكبر السيد أحمد فهمي أبو الخير مؤسس المدرسة الروحية الأولى بمصر.

(السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فقد قرأت في عدد (عالم الروح) الخامس من السنة التاسعة مقالكم الجليل في المغفور له العلامة الشيخ طنطاوي جوهري مؤلف كتاب (الأرواح) والرائد الروحي الأول بمصر، وفي هذا المقال أعطيتم الرجل حقه ووفيتموه مجده، وأدخلتم السرور على أحبابه وأحبابكم، حيث ذكرتم أنه يحضر جلساتكم الروحية وأنكم والوسطاء رأيتموه رأي العين وأنه حضر جلسة الاثنين 27/ 1/ 1941 وأنه كان يتعلم استخدام جهاز الإشعاعات الكونية، وذكرتم أن الوسطاء رأوا الجهاز في يديه، وبهذا الجهاز يكشف العلة ويعالج المريض، فاستولت على نفسي هذه الأنباء فأكبرتها وأكبرت ناشرها وترحمت على مصدرها.

وبهذه المناسبة أكتب إليكم طرفا مما عرفته عن الأستاذ جوهرى في آخر حياته، ومنه تبدو ناحية يجهلها الناس عنه، لأنه كان لا يحب الإعلان عن نفسه: ففي عام 1936 جاءه ستة من طلاب الجامعة المصرية مع نجله الضابط الهمام جمال، وكن وقتئذ طالبا، وكان هؤلاء الطلاب يريدون التحدث مع الشيخ في العقيدة الإسلامية رغبة في دعمها فدعاني الشيخ ودعا معي عالما آخر انتقل إلى الملأ الأعلى رحمه الله، وكان الغرض من دعوتنا التحدث مع هؤلاء الطلاب في حرية تامة حتى يصلوا من دينهم إلى ما يحبون مما يدعمه البرهان.

وانتهى الاجتماع (بنتائج) سارة مع هؤلاء الطلاب أدت إلى أنهم جاءونا في مثل تلك الليلة بإخوانهم لهم للغرض ذاته فنشأ درس الثلاثاء لهؤلاء الطلاب، وقد أتى هذا الدرس على مدى الأيام ثمرات جنية فيهم وفي غيرهم، حتى وجد في الجامعة رعيل إسلامي عظيم منه اليوم أساتذة في الجامعات وفي المعاهد العلمية المختلفة وموظفون في مصالح الدولة.

وقد أصيب الشيخ في آخر حياته بأمراض مختلفة لم ينفعه معها علاج الأطباء لتقدمه في السن فرأى برأيه الثاقب أن خير علاج لأمراضه أن يأكل طعامه كما خلقه الله دون أن يطهي بالوقود فكان يشرب لبن الضرع دون أن يغلي ويأكل الفاكهة والخضروات نيئة، وقد شفي بذلك من كل أمراضه، وهذه المعلومات حدثني بها حين كنا في حفلة لتكريم السيد عزمي القطان محافظ المدينة المنورة وقتئذ وذلك أنني رأيته يعف عن الشاي واللبن والحلوى، ويقتصر على تناول الفاكهة فلما سألته عن سر ذلك أخبرني بأمره الذي أسلفته، وكان حلو الحديث، جميع الفكر، واسع الأفق، طيب النفس، كريم الأخلاق.

وكان بيته كعبة لعلماء إيران، وكان أهم ما يعني به سفير دولتهم بعد تعيينه بمصر أن يزور منزل السيد طنطاوي جوهري صاحب تفسير الجواهر الذي له في بلادهم شهرة واسعة النطاق ليرى البحر الطامي ويسمع هديره شخصيا.

رحم الله الراحل الثاوي، وسما بروحه إلى ملأ الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وجزاكم عن إحيائكم لذكراه بهذا الفيض من الكشوف العجيبة أحسن الجزاء والسلام عليكم ورحمة الله.

مصطفى محمد الطير

أستاذ بالأزهر

4- المرحوم الأستاذ الشاعر علي الجمبلاطي، المستشار للغة العربية في وزارة التربية والتعليمي بمصر ، وقد ألف كتيبا بعنوان (ذكرى طنطاوي جوهري) في سلسلة (اخترنا للطالب) صدر في 7 فبراير سنة 1962 وكان غرضه من تأليف هذا الكتيب الصغير في حجمه الغزير في مادته وقيمته أن يقدم للنشء من أبناء هذا الجيل (سيرة فيلسوف الإسلام في العصر الحديث) الذي لم تشتهر في الشرق شخصية من المصر يين كما اشتهر، وقد قرظ تواليفه فلاسفة الأمم الناهضة: فرنسا وانجلترا وألمانيا وإيطاليا، ذلك العالم الديني الإسلامي الوطني، والعالم الاجتماعي العالمي، المغفور له الشيخ طنطاوي جوهري.

وللأستاذ الجمبلاطي أيضا مقال قيم بعنوان (أين الإنسان وجائزة نوبل؟) بجريدة أخبار اليوم بتاريخ 7 فبراير 1969.

5- الدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب في كتابه (اتجاهات التفسير في العصر الحديث) أفرد الفصل الثالث منه عن الاتجاه العلمي في تفسير القرآن، وذكر طائفة من المفسرين الذين سلكوا هذا المنهج من التفسير ومنهم الشيخ طنطاوي جوهري.

يقول الدكتور المحتسب في سياق حديثه عن الشيخ طنطاوى:

وسمى طنطاوي جوهري تفسيره (الجواهر في تفسير القرآن الكريم) لأنه جعل الجوهرة بدل الباب أو الفصل، والجواهر تتفرع عنها الماس الأولى والماسة الثانية وهكذا..

وطريقته في تفسير القرآن أن يبدأ بالتفسير اللفظي للآيات التي يعرض لها، ثم يتلوه بالشروح والإيضاحات والكشف أي أنه يشرع متوسعًا في الفنون العصرية المتنوعة.ط.

6- الدكتور علي عبد الجليل راضي الأستاذ بكلية العلوم جامعة عين شمس كتب مقالا في مجلة عالم الروح (العدد الثالث السنة الثانية عشرة بتاريخ يناير سنة 1959) أرخ فيه للشيخ طنطاوي ثم قال: ولقد بز جميع مماثليه في الذكاء وصفاء الروح مما جعله يتسم بمكارم الأخلاق وفيض المعلومات وعلى الصفات، وكانت الحقبة الأخيرة من حياته أبرز الحقبات، فقد شاءت نفسه المتواضعة أن يتتلمذ على يد أيدي تلاميذه من طلبة الجامعة في تعي اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة المختلفة من طبيعة وفلك وبيولوجيا وكيمياء إلى غير ذلك.ط.

ولقد أسعدني الحظ في أن أتعرف عليه وأنا طالب بالجامعة إذ دعاني لزيارته زميل عزيز هو الدكتور محمد جمال الدين الفندي أستاذ الأرصاد الجوية في جامعة القاهرة الآن، وكنا نصحبه مع فرقة من الزملاء الطلبة إلى ندواته أو إلى مسجد السيدة زينب لأداء الصلاة.

كانت أظهر صفة للشيخ هي التحرر الفكري وعدم التعصب الأعمى والقابلية لتفهم الديانات والأجناس الأخرى والمساعدة على الأخذ بيد المتأخرين بالرفق والكلمة الطيبة.

وبعد أن حلل بعض مؤلفاته ختم مقاله بقوله: (وقد عاش زاهدًا صائما معظم أيامه حتى انتقل إلى جوار ربه).

7- الدكتور رءوف عبيد وكيل كلية الحقوق بجامعة عين شمس في موسوعته الضخمة مفصل الإنسان روح لا جسد كتب عن الشيخ طنطاوي تعريفًا جميلا يليق بمكانته الكبيرة كرائد من رواد الروحية ومن أبرز أعضائها وكعالم مسلم مصري لم ينصفه معاصروه، وجهلوا قدره، بل حاربوه في مكانته العلمية، وكرجل دين من أصحاب التفاسير الدينية القيمة التي أهمها تفسير (الجواهر) وأنه قام بنفس الدور الذي قام به في الخارج ذوو الأذهان المتفتحة عندما عرفوا كيف يربطون بين الآراء الدينية وبين حقائق العلم الروحي الحديث. واستشهد الدكتور رءوف بكثير من آراء الشيخ طنطاوي في مواضع مختلفة من كتابه الضخم الذي يقع في ثلاثة أجزاء يحتوي كل منها على أكثر من ألف صفحة من الحجم الكبير.

8- الأستاذ محمد عبد الجواد في العدد الماسي من تقويم دار العلوم الذي أصدره لمناسبة مرور 75عامًا على المدرسة في نحو ألف صفحة (1872- 1947) كان موفقًا في تاريخ الشيخ طنطاوي كل التوفيق، ويحسن بنا هنا أن نورد فيما يلي بعض مقتطفات من ترجمته المسهبة للشيخ طنطاوي:

(عرفته مدرسًا بدار العلوم، فإذا به في درسه كالطائر في قفص يحاول أن يرد نفسه إلى حدود المنهج الدراسي، فلا يطاوعه علمه، ولا يساعده تبحره كان يقرر المسألة فيستشهد في شرحه بصغار الهوام والحشرات، ثم يحلق بك في أجواء من عالم الفلك والسموات، فلا يكاد ينتهي من درسه حتى تشعر كأنك قمت برحلة في طيارة شاهدت بها عالم السموات أو طفت بالبحار في باخرة شاهدت فيها عجائب البحار، أو طوفت بالحقول فتأملت فيها غرائب النبات، أو تنقلت بين السهول والجبال فأدركت عجائب الكائنات غير الناطقات مع عبارة تستهويك وألفاظ لا تملها.

وأمثلة من المشاهدات تحسبها عادية تمر بك كل يوم فلا تلقى لها بالا، ثم يفرغ من ملاحظته فإذا بك تحسبها مسألة عويصة، فيها من الدروس والحكم ما يستوقفك، ويستوحيك الفكر والتأمل والملاحظة والتعليل فتعلم أنك تعيش في عالم كله دروس، وكله مسائل علمية، وكله يسترعي النظر وكله يتطلب التأمل والفحص هذا هو الشيخ طنطاوي في شرحه المسائل، وفي تقديره الأبحاث العلمية أو تفسير الآيات القرآنية في دائرة الدرس المحدود المنهج، المحدود الزمن، المقيد بعدد من المستمعين.

9- الأستاذ عبد العزيز عطية (ناظر مدرسة المعلمين بالمنصور 1918) نشرت له كلمة بالصفحة 196 من تقويم دار العلوم الذي تقدم ذكره –بعنوان (الشيخ طنطاوي جوهري) نقلا عن (المرآة) جاء فيها:

(عرفناه شيخًا بعد أن أروي من معين العربي، وكوثر العلوم الشرعية، والفقه الأكبر، والنطق والفلسفات القديمة وكثير من العلوم الأخرى، حتى طار صيته في معمور الأرض، وقصده المعجبون بفضله من نواحي العالم يستمعون لآرائه وكان أكثر ميله متجهًا إلى الإصلاح الديني والاجتماعي، وكان أكبر همه أن يذيع في العالم رسالة السلام عن طريق تعاليم الإسلام.

وكثيرا ما جاهد وبذل من نفسه ووقته وعقله، وكثيرا ما جاد غير المسلمين في الإسلام ممن زاروه من بلاد نائية ولقد كان حاضر الذهن واضح الحجة، كثير الاستشهاد بالنصوص كثير الاطلاع، وأتي من فصل المقال ما يعز على كثير من أهل اللسن والفطنة.

وقد ترجم الكثير من كتبه ورسائله إلى لغات أوربا، وانتشرت في غربي آسيا وشرقي أوربا بخاصة لكثرة المسلمين هناك ولقد عاش فقيرًا ومات فقيرًا إلا من ذكر حسن، ونفع عام وإقرار بفضل وحسبه أن يغني بالذكر عن المال الذي لم يشأ أن يمسك وكانت حياته كلها كفاحًا حتى مات في ميدان الجهاد فلم يحس به إلا مجاهد تقده فلم يجده ولقد كان مفخرة من مفاخر دار العلوم، بل من مفاخر علماء الشرق سيضعه التاريخ في أول الصف. ولعل من تلاميذه من يحيون كحياة أستاذهم: ينهجون منهجه، ويفرغون لمصلحة دينهم ووطنهم اللهم فأفض عليه ورحمتك ورضوانك ما يرضيه وما ترضى به عنه).

10- الدكتور محمد رجب البيومي، الأستاذ بكلية اللغة العربية بالرياض، والذي خدم اللغة العربية وآدابها أجل خدمة بما نشره من كتب كثيرة ومقالات غزيرة في كثير من المجلات كتب عن الشيخ طنطاوي مقالين تحليليين بمجلة الحج التي تصدر بالسعودية.

وكتب أيضا مقالا في مجلة الأزهر (الجزء العاشر) السنة الأربعون، ذو الحجة 1388 فبراير 1969 مقالا طويلا بعنوان عالم عربي معاصر يضع نظرية للسلام) جاء فيه:

حين قام (جاجارين) رائد الفضاء الأول برحلته المثيرة أخذ يتحدث عما شاهده في الكواكب النازحة من غرائب وأعاجيب وقد طلعت بعض الصحف الإنجليزية على الناس ببعض أحاديثه مشفوعة بما تكهن به الكاتب الشهير (هـ. ج. ويلز) عن العوالم البعيدة ثم فسحت مجال المقارنة بين ما تخيله الكاتب الإنجليزي وما شاهده الرائد الروسي، ومن العجيب أنها ذكرت في نهاية الموازنة أن عالما عربيا كبيرا هو الشيخ طنطاوي جوهري قد رحل إلى الكواكب رحلة خيالية كرحلة ه. ج: ويلز، وقد سجلها بدوره في كتابه العظيم أين الإنسان؟

وقد غمرني شعور الفرح والزهو لتوفيق عالم إسلامي إلى إبراز حقائق طبيعية وفلكية تضارع ما سجله أعلام الفكر الحديث في الغرب، وهرعت من فوري إلى كتاب (أين الإنسان؟ ) وأخذت أطالع روائعه المدهشة، وأعجب لتساوق الأسلوب الأدبي مع الحقائق العلمية في نسق فني جميل، وأستمع مأخوذا للكاتب حين يقول منذ نصف قرن أو يزيد:

الأرض تجري أمامي جريًا حثيثا، وهي تتلألأ جمالا وحسنًا لما يسطع عليها من نور الشمس، وحجمها كبير ممتد، الأرض تجري بسرعة في الفضاء كأنها قلة المدفع إن قلة المدفع تجري عشرة أميال في الدقيقة والأرض تجري قدرها مائة مرة حول الشمس لتتم حركتها السنوية لعمرك لقد هالني المنظر حركات الأرض الثلاث تدور حول نفسها كهيئة النحلة في لعبة الأطفال، وهي بنفسها هيئتها مندفعة تجري حول الشمس أسرع من القلة مائة مرة وهذا المجموع الشمسي مسخر مسكين كأنه أرض تجري حول كوكب مجهول، أدهشني الأنوار، وغطت على عقلي عجائب الحركات، نظرت أسفل فإذا رحل تحيط به حلقاته الساطعة الجميلة، وهو يجري حول الشم كأرضنا ولقد تعجبت من الأنوار الساطعة البديعة البهية الدائرة حول المريخ، فهناك قمران جميلا طالعان، عجيب أمرهما وبهي نورهما ولما رأيت أقمار المشترى زاد تعجبي وما كنت أطن في العالم أقمارًا غير قمرنا.

وتمضي الرحلة على هذا النسق البديع، فتتحدث عن زحل وأورانوس ونبتون وأكثروس وغيرها مما لا يحيط به غير المتخصصين من الأفذاذ).

والمقال طويل نقف فيه إلى هذا الحد.

11- عطارد: بهذا التوقيع نشرت جريدة (الجمهورية) بتاريخ 29 من يناير 1956 مقالا بعنوان (طنطاوي جوهري العالم الروحي) هذا نصه:

عني الأب (جوم ييه) أحد رهبان الدومينكان منذ سنوات بدراسة حياة عالم مسلم مصر ي لم ينصفه معاصروه وجهلوا قدره، بل حاربوه في مكانته العلمية مع أنه لا يقل مكانة عن الرازي والزمخشري وابن سينا وابن خلدون، ذلك هو العلامة (طنطاوي جوهري) الذي أدخل لأول مرة في تاريخ البحث العلمي العربي –العلوم الحديثة في تفسير القرآن الكريم.

وقد حدثني عنه صديقنا الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بعين شمس فقال لي منفعلا أكتب عن لساني أنه يستحق من المجد أكثر مما يستحق الإمام محمد عبده لولا أن زملاءه وإخوانه جهلوه، وعجزوا عن نصرته عندما تقدمت الدوائر العلمية ترشحه لنيل جائزة نوبل كأول مصري يرشح لهذه الجائزة، وكان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما.

ومن المدهش أن العلامة طنطاوي جوهري هو أحد خريجي دار العلوم ومن ذلك الرعيل المجاهد الذي خرجته هذه الدار وقد ولد السيد طنطاوي طيب الله ثراه في قرية (كفر عوض الله) إحدى قرى مديرية الشرقية، وقد نشأ في هذه القرية المجاورة لشاطئ النيل فأكسبت روحه هذا الإشراق الذي دفعه إلى التفكير والبحث في ملكوت السماء والأرض.

ولقد عاش السيد حياة متواضعة بعيدة عن المظاهر والغرور، فقد كان يحمل في أعماقه قلب العالم المتواضع الزاهد الذي لا يطمع في غير رضوان اله فعكف على أبحاثه ودراساته فألف عددا من الدراسات العلمية التي تعد في نظر المفكرين الأوربيين اليومي من أمهات الأسانيد في دراسة الخطوط العلمية العامة للقرآن وهي مراجع وحيدة في الجامعات الأوربية ولم تلق هذه الأبحاث منذ إبان تأليفها تقدير الدوائر الفكرية في مصر التي كانت مشغولة بالصراع بين القديم والجديد، والتي لفتها الأهواء السياسية حتى قضي السيد طنطاوي منذ سنوات ولم يذكره ذاكر، ولم يعمل العاملون من أبناء دار العلوم على الاحتفال بآثاره وذكراه.

12- الأستاذ عبد المنعم البحقيري: كتب مقالا بعنوان (طنطاوي جوهري) في مجلة الوعي الإسلامي العدد 52 السنة الخامسة بتاريخ 15 يونية عام 1969 سرد فيه تاريخ حياة الشيخ طنطاوي وذكر آثاره التي خلفها، وكيف أنه استطاع أن يقدم صورة لتعاليم الإسلام السمحة حيث إنه خاطب المجموع الإنساني في دعوته إلى السلام والمحبة، وكيف أن الإسلام لم يؤيد العدوان مطلقا، بل أقره دفاعا عن المقدسات والشرف والكرامة الإنسانية وقدم هذه المبادئ العظيمة في كتابيه: (أين الإنسان؟) و (أحلام في السياسة).

13- الأستاذ عبد اللطيف الدمياطي: في كتابه الوساطة الروحية المطبوع في عام 1949 أفراد فصلا خاصا بالشيخ طنطاوي (ص57- 59) بدأه بموجز عن تاريخ حياته ثم أخذ يسرد الكثير عن حياته الروحية كيف بدأت؟ وكيف حمل لواء الوساطة في مصر بعد عبد الوهاب الشعراني الصوفي الكبير؟ وقال عنه فيما قال:

لقد أبعد الشيخ نفسه كل البعد عن الماديات وماله صلة بها، فلم يشأ أن يتكسب من كتبه، وإنما كان نشرها هو الغاية الأولى في حياته، أما ما يعود عليه من نفع مادي فلم يكن له أي أهمية عنده ابتغاء نشر الدعوة الروحية كذلك لم يكن الشيخ ميالا إلى الإعلان عن نفسه بهذه الطنطنة الجوفاء، فكان يعتزل الناس لا يقابل منهم أحدا إلا من سعي إليه في غرض علمي أو روحي وما عدا هذا فهو مختل بنفسه منصرف إلى ربه لا يعنيه من مظاهر الحياة البراقة وصورها الخادعة أي شيء.

وقد عقل الشيخ: فالروحية الحق وحب التظاهر أمران يختلفان كل الاختلاف والرجل الذي رائده حقا خدمة الروحية، بل الذي وصل إلى مكانة تؤهله لهذه الخدمة هو م لا يحفل بالطنطنة الجوفاء، ولا ينشد الفخر الكاذب، ولا يبغي العظمة الواهية، ولم نحفل بهذا كله إذا كنا ندعو إلى الالتفات إلى عالم فيه خير من هذا كله.

14- الأستاذ عبد العليم القباني: في كتابه (رواد الشعر السكندري) في العصر الحديث المنشور ضمن المكتبة الثقافية رقم 282- يقول:

وكان العالم الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري في هذه الفترة يعمل مدرسًا بمدرسة رأس التين الثانوية، وكان الشيخ يلقن تلاميذه بعض الأفكار الثورية في قصائد من نظمه، وهذه مقطوعة مما كان ينظمه وقتئذ: نشرها بمجلة جمعية الملاجئ العباسية مجموعة سنة 1951 وتلاحظ الأبيات الثلاثة الأخيرة منها حيث يلمز الملوك فيها بالقول الغامز حيث يقول:

من الناس من تلقاه يعطف خدعة

ولا يبذل المعروف إلا لظالم

ألا إنما هذي السجايا مواهب

وأوسعها في الخلق رحمة راحم

ألم تر أن الأرض تهتز بهجة

إذ ما كساها الحسن ودق الغمائم

وأن ليس موهوب بأوفر مغنمًا

من الواهب الآلاف عند العظائم

فقل لذوي التيجان فيها.. تبوءوا

عروش قلوب، لا عروش القوائم

فلا يغررن رب الأريكة ملكه

ولا الجحفل الجرار وسط الملاحم

لعمرك ما ذكر المليك ببطشه

ولكن صدى صوت الندى والمكارم

15- الأستاذ رجاء النقاش الكاتب والناقد المعروف: كتب مقالين في مجلة المصور المقال الأول بالعدد 2508 بتاريخ 3 من نوفمبر 1972 بعنوان (القرآن والفكر الجديد، تفسير للقرآن بالخرائط والصور (نشرنا جزءًا منه في الفصل الخاص بمنهج الشيخ طنطاوي في التفسير نرجو الرجوع إليه.

والمقال الآخر بالعدد 2511بتاريخ 24من نوفمبر 1972 بعنوان (حول تفسير القرآن، وأضواء جديدة على عالم كبير مجهول) جاء فيه:

كتبت في عدد سابق من المصور مقالا تحدثت فيه عن العالم الكبير الشيخ طنطاوي جوهري وتفسيره للقرآن الذي سماه (الجواهر) وهو التفسير الفريد الذي يقف متميزا بمنهجه الخاص اللامع بين جميع تفاسير القرآن منذ نزول القرآن إلى اليوم.

وقد قلت في مقالي: إن الشيخ طنطاوي هو أحد علماء الدين البارزين وواحد من المفكرين النابهين في هذا العصر برغم أنه لم يحظ بما يستحق من الدراسة والاهتمام لا في حياته ولا بعد وفاته.

وقد وصلتني بعد كتابة هذا المقال رسالة من الأستاذ أحمد عطية الله يلقي فيها أضواء جديدة على هذا العالم الجليل والمفكر الكبير، وأرجو أن تكون هذه المعلومات التي يقدمها الأستاذ أحمد عطية الله في رسالته حافزا جديدًا للانتباه إلى قيمة هذا المفكر ودوره العظيم وأن تكون حافزًا جديدًا لإعادة نشر كتابه (الجواهر في تفسير القرآن) حتى يقترب الجيل الجديد من القرآني من خلال هذا التفسير الذي يناسب القرن العشرين بل ما بعد القرن العشرين.

16- الأستاذ أحمد عطية الله: لما كانت رسالته التي أشرنا إليها ضمن مقال الأستاذ رجاء طويلة لا يسمح المقام هنا بنشرها كاملة نجتزئ منها ما يلي:

(... لم تكن الرياضيات والطبيعيات غريبة عن طالب دار العلوم في تلك الأيام، إذ كان المنهج يتضمن دراسة الحساب والهندسة والطبيعة والكيمياء والتاريخ الطبيعي والرسم تعويضا عما فاته من هذه الدراسات التي لم تكن معروفة في أروقة الأزهر حيث ينشأ طالب دار العلوم ولا شك أن هذه العلوم كانت لها جاذبية بالنسبة لصاحب الترجمة، وقد وضع ذلك في تفسيره (الجواهر) بعد ذلك الذي يقرر في ثناياه مثلا أن تعليم الكيمياء من الواجبات والفروض، بل امتد شغفه بالدراسات الطبيعية إلى العلم الطبيعي فتراه مثلا في عام 1930 يرفع مذكرة إلى الحكومة المصرية في أثناء غارات الجراد التي اجتاحت البلاد يقترح فيها جمع الجراد وبيضه لاستخراج زيت يقول إنه أجود زيت يصلح للطيارات.

ثم استخدام النفاية سمارا للماشية (تحت تأثير ما قرأه في بعض المجلات) داعما مذكرته بالأعداد والأرقام عن حصيلة مشروعة، كما امتد شغفه من الرياضيات والطبيعيات إلى الموسيقى باعتبار أنها من فروع الرياضيات وكان يقول: إن الموسيقى المسموعة باب من أبواب الموسيقى المعقولة، وأورد في تفسيره كثيرا من النوادر والحوادث الشخصية التي كانت الموسيقى حافز له فيها على ارتياد مواطن جديدة من النشاط الفكري بل إنه عزا توسعه في تفسيره وعنايته بتضمينه الكثير من حقائق العلوم الطبيعية إلى حادث من هذه الحوادث الفردية التي أدى فيها الفوتوغراف دورًا في تطوير أفكاره وشحذ عزيمته.

عرفت الشيخ طنطاوي جوهري في عام 1931 على إثر عودتي من البعثة بانجلترا التقينا في المطبعة الرحمانية بالخرنفش، وكانت من أنشط المطابع إنتاجًا في ذلك العهد وكنا نجتمع لمراجعة البروفات في كشك من خشب الصناديق مقام بفناء المطبعة وكان ثالثنا أستاذا بكلية الهندسة (عائدا من سويسرا) يطبع كتابا له عن آلات الديزل على حين كنت أطبع كتابي (بساط علم النفس) والشيخ يراجع طبعة جديدة لأحد مؤلفاته الإصلاحية وكان إذ ذاك في الحادية والستين من العمر ومع ذلك لم نكن نحس بفارق السن ولا بأننا في صحبة فقيه أزهري، بل كنا نستمتع بمجلسه إذ كان يبدو فتيا جم النشاط جامعًا بين علوم الدين والفلسفة والعلوم العصرية ملما بمظاهر الحضارة الغربية مع قدرة على قص النادر وضرب الأمثلة الطريفة الواقعية.

في عام 1938 التقيت أنا والشيخ طنطاوي في وزارة المعارف وصحبته إلى إدارة البعثات بها، إذ إنه جاء مستفسرا عن شروط التقدم للحصول على (جائزة نوبل) للسلام وكان يرى أنه جدير بها لمؤلفاته الكثيرة في هذا المضمار، ولاسيما أن بعضها أو فقرات منها قد ترجمت إلى اللغات الأوربية منها كتابه (أين الإنسان؟) وكان لا يعرف أن الترشيح لهذه الجائزة يتم بالهيئات والجماعات.

أجل الشيخ طنطاوي جوهري إلى المعاش في عام 1930 وحول هذا التاريخ أكمل تأليف تفسيره الجواهر الذي يقع في 26 جزءًا أو نحو 6500 صفحة كبيرة وكان قد أتم هذا التفسير أولا في 11 جزءًا ثم وقع له حادث أدت فيه الموسيقى دورًا حفزه على التوسع فيه بإضافات شملت مختلف العلوم الطبيعية ويصف نشأة تفكيره في وضع هذا التفسير وأسلوبه في التأليف بقوله: (بعد أن قطعت زمان الشباب وحل بساحتي المشيب وأنا أزاول مهنة التعليم في المدارس وتأليف الكتب وجاوزت الستين رأيت شباب نفسي لطلب العلم وحبه لا يزال غضا طري الإهاب قويا، فأخذت أكتب هذا التفسير، فأكببت على العمل سنتين كاملتين أو أزيد، وكنت أكتب في اليوم نحو 40أو 50 صفحة، ومتى كتبت العدد الأول الذي أقرره في نفسي أقوم للرياضة في الحقول حول القاهرة وأمشي نحو 6 كيلو مترات.

17- الدكتورة بنت الشاطئ: في كتابها (القرآن والتفسير العصري) (سلسلة أقرأ رقم 335 نوفمبر 1970) بالصفحة 39 تقول:

وقدم الشيخ طنطاوي جوهري تفسيره (الجواهر) فوجدت فيه الجماهير ما يريحها من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف).. وأحالت الدكتورة بنت الشاطئ القارئ لمزيد بيان للرجوع إلى كتاب (إنتاج المستشرقين) لنبي بن مالك.

18- عبد العزيز جادو: في كتابه (الروح والخلود بين العلم والفلسفة) (سلسلة أقرأ رقم 326) فبراير 1970) تأريخ وتعريف بالشيخ طنطاوي جوهري وريادته في الروحية الحديثة.

هذا ما أمكن العثور عليه من أقوال العلماء والكتاب والباحثين في مصر عن الشيخ طنطاوي جوهرين أما المجلات التي نوهت عنه فكثيرة منها (مجلة الجمعية الآسيوية الفرنسية نشرت في عددها الصادر في شهر يناير عام 1908 مقالا طويلا تشيد فيه بالشيخ طنطاوي وبكتابه (نظام العالم والأمم) ولقد نشرنا بعض ما جاء في هذا المقال في الفصل الخاص بمؤلفات الشيخ طنطاوي.

ومجلة الجمعية الملوكية الإنجليزية: كتبت عنه تقريظا لكتابه (نهضة الأمة وحياتها) في عددها الصادر في مارس عام 1910، ولقد فصلنا ذلك أيضا في الفصل الخاص بمؤلفاته.

- صحيفة دار العلوم العدد الرابع لسنة الخامسة.

- مجلة (الرسالة) العدد 298 بتاريخ 20من مارس 1939 السنة السابعة.

- جريدتا البلاغ والأهرام بتاريخ 3 من ذي الحجة سنة 1358هـ.

ولكن يكون القارئ على بصيرة من الأمر يحسن أن نورد كل ما استطعن معرفته من أمر أستاذنا مما وصل عنه في كتب التراجم:

1- خير الدين الزركلي: كتاب (الأعلام) الجزء الثالث الطبعة الثانية (طبعة بيروت) ص333- 334 وفيه ترجمة مركزة وثبت بأسماء كتبه.

2- زكي محمد مجاهد: كتاب (الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية) الجزء الثاني ص116- 117.

3- إلياس زخورا: كتاب تقويم مرآة العصر في تاريخ ورسوم أكابر مصر ) وبه ترجمة مفيدة للشيخ طنطاوي بالجزء الثاني ص225- 228 طبعة القاهرة.

4- سركيس: موسوعة (معجم المطبوعات).

الفصل التاسع الشيخ طنطاوي في نظر المستشرقين

وبجانب الأقلام العربية الكثيرة التي قدرت الشيخ طنطاوي حق قدره، وتناولته بالثناء كل الثناء كان ثمة مخلصون من عشاق الفكر الخالد في أوربا ممن عرفوا له مكانته، وفسحوا مجال النقد والتقريظ لحقائقه، في طليعتهم:

1- الأستاذ (سانتيلانه) المستشرق الإيطالي الشهير، الذي يقول في كتابه (صدى صوت المصريين في أوروبا) والذي نشر عام 1911 تقريبًا:

ليس من يجهل بمصر الشيخ (طنطاوي جوهري) هو ذلك الكاتب النحرير، والمحرر الشهير، ذلك الإنسان ذو العقل الكبير، بل أحد رؤساء الحركة السياسية والاجتماعية التي انتشرت في طبقات الشعب الإسلامي كافة تحت اسم الجامعة الوطنية.

2- والعلامة الشهير (مارغيلوس) مؤلف كتاب EARLY DEVELOPMENT OF MOHMEDANISM تحدث عن الشيخ طنطاوي بمجلة الجمعية الآسيوية الملكية عام 1937 فيمن تحدثوا من مشاهير النقاد وقد وازن موازن دقيقة بين الفيلسوف كانط الألماني والأستاذ طنطاوي جوهري المصري فقال: إن عنوان هذا الكتاب يذكرنا كتابين نشرهما العلامة كانط الألماني في السلام العام فإنه وإن كان عالما بالرياضة والفلك لم يستعملهما في السلام العام أما الشيخ طنطاوى جوهري فإنه أدخل فيه هذين العلمين، وأضاف إليهما علم النبات والكيمياء والتشريح وعلم النفس، فهذه العلوم كلها قد جعلها المؤلف وسيلة توصل إلى حل مشكلة السلام العام.

3- أما الأستاذ العلامة كريستيان جب، فقد حضر من لكسمبورج إلى مصر سنة 1938 ليلقى العالم الفيلسوف الشيخ (طنطاوى) ويتعرف عليه شخصيًا بعد ما عرفه من كتبه التي ترجم منها كتابيه (أين الإنسان؟) و (أحلام في الساسة) وقد نقلت جريدة المقطم حديثًا عنه بتاريخ 8 من يناير سنة 1938 أعلن فيه ذلك ولم يكتفي بهذا الحديث الصحفي بل ألقى محاضرة في جمعية الشبان المسلمين قال فيها:

إن كتاب (أين الإنسان؟) يبحث في أعقد المشكلات المالية بحثا عجزت أوربا إلى اليوم عن الإثبات بمثله وقال: (إني أعلن أن خير كتاب أخرج للناس في هذا الشأن هو كتاب (أين الإنسان؟) الذي يرسم للعالم بأسلوب فلسفي عميقي طريقه المستقيم إلى السلام الدائم الذي رسمه الله في قوله تعالى: (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) (الحجرات: 13).

4- دكتور ريتشارد هارتمان: أما الدكتور هارتمان فقد ذهب إلى الشيخ طنطاوي من أتباع الأستاذ الإمام محمد عبده ومن مدرسته، وقد أيد ما ذهب إليه بالموازنة بين آراء كل منهما في مصنفاتهما فقال:

لقد فصل الشيخ طنطاوي وأسهب في تفسير الآية (159) من السور الثانية التي تبين آيات الله في الكون وهي التي حركت همته إلى درس العلم الطبيعي، وهي نفسها إحدى الآيات الأساس التي أستند إليها الشيخ محمد عبده في الدعوة إلى معرفة الله من آثاره في الكون بدلا من الركون إلى الجدل النظري والمناقشات الكلامية ويردد الشيخ طنطاوي في تفسيره لهذه الآية جميع الصيغ التي ألفنا وجدها في تعاليم الأستاذ الإمام مثل قوله:

(الإسلام دين العقل والفهم لا التقليد، وإن العلم إذا أحسن فهمه يصبح أداة صالحة لفهم الدين ومثل مناهضته للمغالاة في تقديس الأولياء ومثل قوله: إن الاقتصار على اتباع مذهب واحد من مذاهب الفقه سبب للجمود والتأخر في الإسلام، وإن الاجتهاد هو خير حل لجميع العلل..).

ويقول: لو أراد الدكتور هارتمان التمادي في هذه الموازنة لوجدها واضحة في آراء الشيخ طنطاوي في كتابه نهضة الأمة وحياتها فقد كانت آراء كل منهما أقرب الآراء إلى آراء حجة الإسلامي الإمام الغزالي، وأنهما أحاطا باللباب الجوهري من أقوال الفلاسفة المسلمين ومباحثهما تدل على علم بآراء الفلاسفة المتأخرين من الأوربيين، وأن الإمام محمد عبده ترجم عن الفرنسية كتاب التربية الفيلسوف سبنسر، وكذلك فعل الشيخ طنطاوي حين ترجم كتاب التربية عن الإنجليزية للفيلسوف كانط وكلاهما تحدث عن إصلاح الأزهر.

ولقد حلل الدكتور هارتمان ثلاثة من كتب الشيخ طنطاوى هي: (التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم) و (جمال العالم) و (النظام والعالم) و قال: وتتميز كتبه الثلاثة ولاسيما ثانيها بحب الطبيعة حبا غير خفي، ونلحظ فيها أثر الكاتب الإنجليزي جون لوبوك الذي أشتهر بحبه للطبيعة، وأعظم ما يبدو أثره فيما كتبه الشيخ طنطاوي عن ملاذ الحياة وجمال الطبيعة وعجائب الكون.

5- العلامة الدكتور تشارلس آدمس: في كتابه (الإسلام والتجديد في مصر ) الذي ترجمه إلى العربية الأستاذ الكبير عباس محمود، وقدم له العلامة الأستاذ مصطفى عبد الرازق، وصدر عن لجنة دائرة المعارف الإسلامية في أبريل سنة 1935 ترجم للشيخ طنطاوي ككاتب له مؤلفات كثيرة في نصرة الدين والدفاع عنه، وأنه أحد تلاميذ الإمام الشيخ محمد عبده الذين عملوا على التوفيق بين المدنية الغربية والعلم الغربي وبين الحياة الاجتماعية والدينية في مصر، وجعلوا لكيان ذلك كله طابعًا إسلاميا صحيحًا.

ولا يفوتنا هنا أن ننوه بفقرة جاءت في هذا الكتاب يقول فيها المؤلف بعد أن انتهى من حديثه عن الشيخ محمد عبده: (... وحوالي ذلك العهد (1827) كان الشيخ طنطاوى الذي سافر فيما بعد لتدريس الأدب العربي في سان بطرسبورج قد بدأ يدرس مقامات الحريري، وهي طائفة من المقالات نالت حظا من الشهرة والتقدير وأنشئت سجعًا في القرن الثاني عشر الميلادي واشتهرت بصعوبة أسلوبها ووفرة مفرداتها وحريتها في التعبير عن بضع العواطف والأفكار، ولم تكن مثل هذه الموضوعات تدرس في الأزهر من قبل.

ومن المهم أن ننبه إلى الشيخ طنطاوى هذا الذي ذكره الدكتور آدمس في هذه الفقرة من كتابه ليس أستاذنا الشيخ طنطاوي جوهري وإنما هو الشيخ (محمد عياد الطنطاوي) الذي قام برحلة إلى روسيا في عهد رفاعة الطهطاوي أما أستاذنا طنطاوي فقد قضي حياته كلها في مصر، ولم يسافر إلى الخارج إلا في أوائل عام 1934 حيث سافر إلى الحجاز لقضاء فريضة الحج.

6- البارون كارا دي فون في كتابه القيم (مفكرو الإسلام) ذكر من هؤلاء المفكرين بمصر ثلاثة هم: رفاعة الطهطاوي، والإمام الشيخ (محمد عبده) والشيخ (طنطاوي جوهري) ولقد رأينا أن ننقل فيما يلي ما جاء عن الشيخ طنطاوى في هذا الكتاب مترجمًا عن النص الفرنسي من الصفحة 275 إلى الصفحة 284:

نقط الموضوع

(1) تفسير القرآن للشيخ طنطاوي جوهري .

(2) أسلوب البديع لا نظير له .

(3) التفسير روح جديدة مجددة لشباب الإسلام.

(4) كتاب الأستاذ الشيخ طنطاوى (أين الإنسان؟).

(5) موازنة أسلوبه الخيالي الفلسفي السياسي بأسلوب توماس موروس THOMAS MOROUS وكامبانيلا COMPANELLA وباسيفيكس pacifaques المعاصر هانرينر han-ryner من الأوربيين وابن الطفيل من الشرق.

(6) وموازنته بالفارابي والقزويني مع نضج فكره العصري.

(7) موازنة آرائه بآراء نيتشه الألماني وداروين الإنجليزي في نظام الأمم السياسي العام.

(8) كتابه فوق المستوى الفكري العام.

(9) أسلوبه يحدث في الشيوخ طرب الشباب وسحره يقلب الطبائع البشرية إلى الكمال.

(10) تنبأ الأستاذ في كتابه بالحرب الكبرى قبل وقوعها بأربع سنين.

(11) هذا الكتاب شرف لمصر والإسلام.

الشيخ طنطاوي جوهري المصري الجنس أبرز لنا كتبا كثيرة فلسفية دينية وهو روح قوية مفيدة يملك الذوق العلمي، ويشعر بنشاط قوي وحماسة بما في الأمم الإسلامية من النقص الشائن الذي حط من كرامتها في عيون أمم الغرب، ويجد في بث فكرته ونشاطه وحماسته بين معاصريه في أقطار الإسلام ليبرهن لهم أن اكتساب العلوم ليس مما يضاد الإسلام فحسب، بل إن العلوم مجددة لشباب الإسلام وتكسبه قوى جديدة، ويتبين من كلامه أنه رجل السلم والإنسانية الراغب في أن يرى المودة مشيدة الصروح بين الأمم، معتقدا أن الديانات تسعى لنشر هذه المودة العامة كما يظهر من ناحية أخرى أنه مخلص صادق أمين، وهذا الحكم استنتجناه من أسلوبه السهل المنتعش الحياة، العالي النادر الوجود وبالجملة فالأستاذ يتجلى في نفسي من كلامه بهيئة محبوبة ذات روح لطيفة وشخصية بارزة فسر القرآن بطريقة فريدة تستحق الاحترام والإجلال، شائقة جديدة، ومع ذلك لم يشذ فيها عن آراء المتقدمين.

وابتدأ بهذا التفسير وهو مدرس بدار العلوم، وكان يلقى على تلاميذه تفسير بعض الآيات.

وتلقفته جميع الأقطار الإسلامية وانتشر فيها أي انتشار والصفحات الأولى منه تريك حجة واضحة وآية ظاهرة وقوة قاهرة وتحث على مطالعة العلوم الطبيعية والمؤلف يضع موازنة بين العلوم الطبيعية التي شغلت أذهان مفكري الإسلام والعلوم الفقهية.

ويقول إن القرآن لم ينصح بمطالبة العلوم الطبيعة فقط، بل جعلها في المكاني الأعلى فوق العلوم الأخرى وفي القرآن كما يقول الأستاذ (150) آية تدل على العلوم الفقهية مع أن فيه (750) آية تدل على العلوم الطبيعة وهذا حساب غريب جدا ولكن هذا الحساب مزين بالجمال وهو خير مشجع لقرائه وهم يقسم العلوم قسمين: العلم الأول: وهو كل العلوم الطبيعية، علم الآفاق والأنفس بحسب هذه الآية (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) والعلم الآخر هو علم الفقه وجاء في القرآن الحمد لله رب العالمين .

وأيضا (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) وقال: فنحن معاشر المسلمين يجب علينا أن نقرأ عجائب المخلوقات كما نقرأ الفقه، وبهذه العلوم الكونية نعرف جلال الله تعالى وجماله فترتقي في الفنون والصناعة والزراعة والتجارة بهذا أدعو جميع الأمم الإسلامية الشرقية منها والغربية وإلا فلماذا يقول الله تعالى (ليظهره على الدين كله؟) .

وكيف لا يكون الإسلام فوق الأديان وهو الذي أوجب مطالعة العلوم الكونية مع أن الديانات الأخرى قصارى أمرها ألا تتعرض لنبذها؟

والعجب كل العجب أن الأستاذ لم يقتصر بمهارته الفائقة على الحث على مطالعة العلوم الطبيعية بل أيدها بالآيات القرآنية المقدسة وهو دائم الوثوب قوى الهجوم بديع الأسلوب يقول: (أنذر المسلمين إذا لم يعلموا بقولي أن تغشاهم غاشية من عذاب الله كما غشيت عادا وثمود وقد ابتدأت تظهر الدلائل وقد أدركها المسلمون وهو تلك الطيارات القاذفات القنابل على القرى والشيوخ والأطفال إن علوم الطبيعة محققة مكشوفة واضحة لا يعتريها اختلاف كالاختلاف في الأحكام الفقهية التي فرقت بين المسلمين ليفسر علماء الإسلام للمسلمين عجائب الشمس والقمر والزهر والثمر وعجائب المعادن والنباتات وحينئذ تكون المذاهب الإسلامية كلها تدرس علومًا متحدة فيرى السني والشيعي والزيدي أنهم جميعا متفقون في جميع علوم الكائنات التي هي الغذاء لنوع الإنساني ولا يكون اختلافهم إلا في علوم الشريعة التي هي كالدواء وما أقل الدواء بالنسبة للغذاء.

الإنسان لا يعيش إلا بالغذاء فلا يستغني عنه، أما الدواء فإنما يكون وقتا دون وقت أيها المسلمون اطلبوا علوم الغذاء وعلوم الدواء: أي العلوم الكونية والعلوم الشرعية وجميعها يطلبها القرآن وقد اعتنى بعلوم الغذاء أشد من عنايته بعلوم الدواء فمالي أراكم عما قدمه الله معرضين وعلى ما أخره الله عاكفين؟ قدم تربيته للعالمين ورحمته للمخلوقين على العبادة وهدايته الصراط المستقيم وساءني والله ما أرى من إعراض بعض العلماء بالدين عن عجائب الخلق، ولقد كنت أود أن أرى أولئك الذين نزحوا إلى أوربا بعلم الطبيعة ولعجائب مسارعين، ولكني رأيتهم منصرفين إلى الوظائف الوقتية والأعمال الإدارية، وما رأيت أحدًا منهم بالعلوم الكونية مغرمًا فتشبه في بلادنا العلماء الدينيون والشبان الذين هم للكون دارسون: فالأولون على أحكام الفقه مقتصرون وهؤلاء بالوظائف قانعون وكل حزب بما لديهم فرحون إلا قليل من الفريقين نالوا حظا عظيما قال الله تعالى: (وقليل ما هم) وقال: (وقليل من عبادي الشكور).

والشيخ طنطاوي لا يقتصر على الحث والتحريض بلا برهان بل يؤيد الوعظ بالبراهين ويضرب الأمثال إنه في السطور الأولى من الفاتحة وهي السورة الأولى من القرآن هجم هجومًا شديدًا وأظهر مقصوده من تفسير القرآن بوضوح تام وقد قام في ذلك مقام العلامة القزويني مؤلف عجائب المخلوقات ولكن الشيخ طنطاوي قزويني العصر الحاضر منه استمد علمه لا من القديم فتراه في تفسير البسملة التي هي أول الفاتحة يذكر عن العلامة الأستاذ ميلن إدوارد أن حيوانا يسمى (اكسيلوكوب) يعيش منفردا في فصل الربيع ومتى باض مات حالا فمن رحمة الله أن ألهم هذا الحيوان أن يبني بيتا قبل أن يبيض فيعمد ذلك الحيوان إلى قطعة من الخشب فيحفر فيها حفرة مستطيلة ثم يجلب طلع الأزهار وبعض الأوراق السكرية ويحشو بها ذلك السرداب، ثم يبيض على ذلك بيضه، ثم يأتي بنشارة الخشب ويجعلها عجينه ويجعل فيها سقفا لذلك السرداب والحكمة في ذلك أن هذه البيضة متى فقست وخرجت الدودة كفاها ذلك الطعام سنة، وهي المدة التي تستطيع تلك الدودة أن تحصل فيها قوتها ويشرح أيضا عجائب النباتات منتقيا منها النباتات المعروفة في مصر مثل القمح والذرة والنخل، ويجتهد أن يفهم القارئ بإيضاح تام ويستخدم في ذلك الطريقة العلمية الحديثة قال:

لقد توجهت إلى مدرسة الزراعة المصرية بالجيزة، فأروني حبة القمح مكبرة مجسمة إلى آخره.

... وقال عند كلامه عن الذرة في تفسيره (الحمد لله رب العالمين) إن المسلمين في أنحاء المعمورة يأكلون الذرة أو يشاهدون مزارعها وأكثرهم يجهلون كيف ربي الله الحبة الواحدة في المطر المسمى بالكوز عند العامة في بلادنا المصرية وهو مجمع الحب الذي يتكون حوله سطورًا منتظمة لو يعلم المسلمون كيفية تربية الله للحبة الواحدة لعجبوا من صنع ربهم ولفهموا كيف يربي العوالم كلها إن لكل عود من أعواد الذرة ذكورا في أعلاه وإناثا في وسطه، أما الذكور فهو ما يسميه العامة الكذاب وهو أغصان بعضها فيها طلع مخفي عن الناس ذلك الطلع ينزل على ذلك (المطر) الذي هو مجمع الحب .

وله خطوط طويلات حريرية حمر أو بيض، تلك الخيوط الدقيقة مثقوبة من أوسطها ثقبا لا يشعر به الناس فينزل الطلع من أعلى العود إلى تلك الخيوط التي يسميها العامة في مصر (شرابة) فيدخل ذلك الطلع في التجويف الذي في تلك الخيوط، ويسري حتى يصل إلى محل الأنثى في (المطر) أي محل الحب فتلقح تلك الأنثى فتخرج حبة واحدة بذلك التدبير فانظر وتعجب في ذلك (المطر) من حبة وكيف كان لكل حبة رحم مخصوص ولقح ينزل على ذلك الخيط حتى يصل في التجويف إلى الأم فتحمل بتلك الحبة ولقد ذكر هذا في كتاب جواهر العلوم وأوضحه أيما إيضاح.

هذا هو الأسلوب الذي جري عليه المؤلف في تفسيره فينظر القارئ كيف مزج العلوم الحديثة بالتفسير علما منه بأن ذلك مفيد جدا وهو وإن كان مغرما بذلك لم يترك ما سطره كبار الشعراء عند المسلمين بل أخذ يوازن بين كلامهم وسورة الفاتحة وفوق ذلك لم يدع القصص التاريخية بل أدخلها تفسره، فلا تعجب إذن من أن تفسيره ذو صيغة جميلة حديثة سامية عجيبة لم نسج على منوالها ناسج، فانظر ما قاله: تأمل قول زهرة لرستم قائد جيش الفرس إذ ذاك إنا لم نأتكم لطب الدنيا وإنما طلبتنا الآخرة فقال له رستم ما دين الإسلام قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال وأي شيء أيضا؟ قال إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم)

ثم قال المؤلف: ألست ترى أن هذه المحاورات والخطب تتقارب هي وما ذكرناه في فاتحة الكتاب من أن العبادة والحمد مختصان بالله عز وجل أولا ترى أن الإسلام كان له في الصدر الأول معنى غير الذي يفهمه المسلمون الآن؟ والأمة الإسلامية اليوم غير أولئك الذين كانوا في القرون الأولى وإلا فكيف يسمع منهم العدل والمساواة وألا يستبعد بعضهم بعضا وأنهم خلفاء الله في أرضه ليعطوا عباده الحرية؟ فالإسلام إذ ذاك مبني على الفهم والعلم والعقل فأما الآن فإنه مجرد مظاهر وأعمال فلا يصل إلى أعماق القلوب فلذلك انحطت الأمم الإسلامية اليوم وقد آن أن ترجع إلى عزها القديم ومجدها العظيم.

ولقد نشر الشيخ طنطاوي من قبل كتاب (أين الإنسان؟) المطبوع سنة 1911الذي قرظه الأستاذ سانتيلانه الإيطالي العالم الكبير في المجلة الشرقية بروما لسنتها الرابعة وللأستاذ كتب أخرى مثل (نظام العالم والأمم) و (نهضة الأمة وحياتها) وغيرها وكتاب (أين الإنسان؟) هذا وضعه المؤلف بهية رواية فلسفية سياسية، فهو في هذا يشبه الفارابي من حيث أصل الفكرة وابن الطفيل من حيث الأسلوب والنهج فجمع بين دقة الفكر وجمال الأسلوب.

والأستاذ في هذا الأسلوب يذكرنا بأساليب علمائنا وأدبائنا في أوربا أمثال توماس موروس Thomas morous وكامبانيلا campanella ومعاصرنا هانرينر han-ryner وصف الأستاذ الجامعي الإنسانية وصفا لا يشرفها بالكمال بل أظهر نقائصها وأبان سوء أفعالها وأخذ يسدي نصائح ويبدي حججا لالتئام الأمم واتحاد الدول، بل يطلب ما فوق ذلك وهو الحب والإخلاص العام والمثل الأعلى في ذلك ويتمنى كما تمنى الفارابي أن تكون الدول كلها مؤسسا نظامها على الحب العام وتبادل المنافع، ولكن دولنا الآن في الأمم الأرضية وإن كانت ارتقت الآن ارتقاء ماديا لم يؤسس بنيانها إلا على تبادل الحرب وتخريب المدن وقعقعة السلاح فأما تلك الأفكار اللذيذة والمحبة العامة فهي مغلوب عليها إن الأساس الذي بني عليه أمر الدول الآن هو ما سطره داروين الإنجليزي، وقفي على آثاره نيتشه الألماني من إبادة الضعفاء وغلبة الأقوياء!

إن للمؤلف خيالا ساميا غزير المعنى واسعًا فإنه بينما كان ينظر إلى السماء في ليلة من ليالي شهر ربيع سنة 1910 وهو يبحث في مذنب هالي الذي يرجع مرة بعد أخرى وأخذ يقول: يا ليت شعري إذا كانت هذه السماء الصافية جميلة بهجة النجوم منظمة فهل فيها سكان؟

وهل سكانها مثلنا في الظلم والقتال، أو هم في هناء وعدل كما نرى في نظام السموات وبينما هو مستغرق في تأملاته إذ وافته روح مشرقة النور بهية الطلعة في هيئة شاب جميل الطلعة حسن الشكل فأخذت هذه الروح تناقشه ثم اقترحت عليه أن يجول معها جولة في السموات العلا، فلبي طلبها بشوق عظيم وهذه الفكرة الخيالية تذكرنا بأحلام Pasteur suedous siudenborg ثم إن الروح أخذته وطارت به في ساحات الفلا إلى عوالم غير معلومة لنا حتى وصلت إلى كوكب سيار أبعد من نبتون لم يكتشفه الناس للآن، فرأى في ذلك الكوكب أربعة آلاف أمة وتعجب المؤلف من نظام هذه الأمم الكثيرة على هذا الكوكب وقد حضر من كل أمة نواب عنها، واجتمع أولئك جميعا في مجلس واحد عام يدبر الأمم كلها ولقد أدهشه ما رأى وما سمع من آراء وجد نشاط وعدل وصدق ووازن بينهم وبين جمعيات الأمم الأرضية الذين هم عن الصدق حائدون وعلى الحرب عاكفون وفي النزاع والجدال مجدون.

إن في الكتاب كثيرا من المحاورات العلمية السامية التي تسوق العقول الإنسانية إلى مجال البحث الدقيق والحكمة الشريفة: ومن هذه المحاورات ما سأذكره وذلك أن شيخًا كبيرًا من علماء هذا الكوكب أخذ يحاور الأستاذ محاورات لذيذة سارة شريفة، وهذا العالم اختصاصي في علوم الأرض والمريخ فسأل المؤلف قال: أمن الأرض أنت؟

فقال نعم قاله له: أي حيوان أنت؟

فقال: الإنسان قال: ماذا فعلتم بإنسانيتكم؟ فقال له: قد كشفنا عجائب الكون؟

وانفعنا مما حوت الأرض مما كشفناه، ألست ترى إلى البريد والطرق الحديدية والقطر الجارية والبرق الذي له سلك والذي لا سلك له وقد طرنا في الجو، وركبنا متن الماء، واستولينا على الطبيعة! فقال: يا عجبا لكم ما هذه إلا أمور حيوانية ترقى الأحوال الجسدية، أما تربية النفوس البشرية والجمعية الإنسانية والصدق في الأقوال والحب العام والإخلاص التام فأنتم عن ذلك كله معرضون وما هذا النجاح الذي وصلتم إليه في أرضكم إلا آلة للتخريب والتدمير فيا ليت شعري أي رقي هذا؟

إن هذا إلا رسوخ في الجهالة والضلال والنكال.

ومن عجب أن المؤلف قد طبع هذا الكتاب سنة 1910 وقد تكهن فيه بطريق حكمي شعري بما جرى بعد ذلك بأربع سنين وهو الحرب الكبرى.

إن مقصود هذا الكتاب كله وما فيه م المحاورات التصورية هوي نشر التعليم العام والحب بين الشعوب والأمم بحيث يمتزج بأغانيهم وأشعارهم وموسيقاهم حتى يكون ذلك إلهاما للأطفال في أول حياتهم وأن يكونوا محبين لجميع الأمم كارهين للحرب، ناظرين لجمال الطبيعة محترمين الجمعية الإنسانية أي احترام.

هذا الكتاب بما فيه من جمال العلم والحكمة يبعث في الشيوخ نشوة الشبان ويبعث في النفوس الإنسانية غراما وولوعا ويقلب الطبائع الإنسانية بما فيه من السحر الحلال وهو يدعو الأمم كلها أن تكون أسرة واحدة تامة النظام ويهيئ الأطفال في الأمم كلها لأن يكونوا على نسق الأمم التي زارها والنصيحة التي سمعها من أولئك العلماء.

فمثل هذا الكتاب المملوء حكمة وعلماء الغزير المادة السامي الفكرة الناتج من تفكير عميق وبحث يقل نظره يدعو دعوة حارة إلى سعادة الأمم أجمعين ويدعو أيضا بالحماسة الشديدة على التجديدي العام، وهو يشرف مصر والإسلام وجدير بالاحترام.

وقد قدم هذا السفر الجليل إلى مؤتمر الأجناس المنعقد في لندن في شهري يوليو وأغسطس سنة 1911 انتهى.

الفصل العاشر نهاية المطاف وفاة الشيخ طنطاوي

في صباح يوم الجمعة 3 من ذي الحجة سنة 1358هــ- 12 من يناير سنة 1940 انتقل إلى رضوان ربه المغفور له الشيخ طنطاوي جوهري بعد أن استطالت خدماته وتواصلت منذ فجر النهضة المصرية وكان من طبقة أبطال النهضة الحديثة وأقطاب التجديد وحملة لواء القلم وحماة الدين القويم في مصر بل في الشرق بل في العالم الإسلامي كله.

وقد كان رحمه الله يواصل جهاده الحافل في العمل على توحيد شعوب الإسلام تحت راية التوحيد ولم يقعد به مرضه الأخير عن هذه الدعوة حتى لزم الفراش وانتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى وقد بلغ من العمر الثامنة بعد السبعين.

وعندما تسامع المسلمون بنعيه أقبلوا من كل فج لتوديعه الوداع الأخير، وخضر ممثلو الجماعات والهيئات الإسلامية وفي طليعتها جماعة الإخوة الإسلامية المؤلفة من جميع الأقطار الإسلامية) التي كان الفقيد علما من أعلامها وركنا من أركانها وعلى رأسهم وكيل الجماعة وسكرتيرها للاشتراك في تشييعه إلى مرقده الأخير.

وبعد أن ووري جسده الطاهر تبادل الخطباء من جميع الهيئات المرائي التي أدمت القلوب، وأفاضت الدموع وكان من بينهم فضيلة الشيخ صاوي شعلان وكيله في قسم التحرير، إذ تقدم بتعزية الجماعة إلى أسرته وذكر مآثر الفقيد، وختم كلمته بأبيات شعر ارتجلها...

نعيه في الصحف

وقد نعته جميع الصحف العربية، ونكتفي هنا بالنعي الذي جاء بجريدة (المقطم) في مساء الجمعة 12 من يناير سنة 1940 وهذا نصه:

وفاة عالم فاضل

اختار الله إلى جواره في فجر اليوم عالمًا عاملا وأديبا ضليعا، ومربيا فاضلا، وكاتبا اجتماعيا كبيرا هو المرحوم الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري بعد ما أشرف على الثامنة والسبعين من عمره الحافل بشتى الجهود المشكورة في سبيل الدين والعلم والأدب.

وقد ترك رحمه الله عدة مؤلفات في فنون أدبية واجتماعية كثيرة تدل على ما كان له من واسع الاطلاع وعميق البحث ودقة الفهم، وهي صفات اشتهر بها طول خدمته في وزارة المعارف حتى انتقل إلى الدار الخالدة. وكان آخر مؤلفاته النفيسة كتبا ضمنها رأيه في السلام العالمي واشترك بها من بضعة أشهر في جائزة نوبل للسلام بعد ما أعجب بها بعض الكتاب الغربية فترجمها له.

رحمه الله رحمة واسعة، وعزى عنه العلماء والأدباء خير عزاء وألهم آله جميل الصبر والسلوان.

نعي جمعية الشبان المسلمين

ونشرت الصحف اليومية ما يلي:

تلقينا من المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين أنها تنعى إلى مصر والعالم الإسلامي أحد أعضائه البارزين، وهو المرحوم فضيلة الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري غادرنا بعد جهاد طويل في سبيل نصرة الإسلام وله تأثيره الكبير في ماضي الإسلام وحاضره فهو لا يكافح ويناضل في سمو مبادئ الإسلام وقواعده فحسب بل كافح وناضل عن القضية المصرية بما يشهد له به التاريخ أنه كان من أخلص أنصار القضية المصرية والعمل على استقلال البلاد استقلالا لا مرية فيه.

وقد خلف وراءه من الأناشيد الوطنية وزعيمها الأول مصطفى كامل باشا ما يشهد له بطول الباع وصحة النظر، وقوة الإيمان فيما كان يدعو له.

وليس المقام مقام سرد مآثر الفقيد، فذلك يطول شرحه، إنما هو نعي ذلك الراحل الجليل الذي لا يسعنا إزاء هذا الخطب الفادح الذي حل بالعالم الإسلامي إلا أن نسترجع ونقول إنا لله وإنا إليه راجعون. وهكذا كان ارتباع العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه..

وهكذا سكن القلب الكبير الذي طالما خفق بحب الإسلام والجهاد في سبيله...

وهكذا وقف الفكر الجوال الذي فكر في تعليم المسلمين وإصلاح أمورهم طويلا، وهدأت النفس الأبية الثائرة التي دأبت تدعو إلى تزكية عقول المسلمين ونفوسهم حقبا كثيرة، وكانت في شيخوختها كما قال المتنبي: وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أن ما في الوجه منه حراب

وهكذا تعطل القلم الجريء في التأليف عشرات السنين غير عاثر ولا وان..

ولكن هل مات الشيخ طنطاوي جوهري حقا؟ كلا إنه إنما انتقل من العالم المادي، عالم الفناء .. إلى العالم الروحي، عالم البقاء والخلود.. وسيظل اسمه مخلدا في الحياة الدنيا على مر الأيام بين العلماء العاملين المخلصين جزاه الله عن جهاده لمصلحة المسلمين وخدمة الإسلام، والدعوة للسلام بأضعاف ما أوفي وهو كثير. وسلام عليه في الخالدين إلى يوم الدين.

الباب الثاني النصوص ومقالات متناثرة

وللشيخ طنطاوي جوهري مقالات ومحاضرات كثيرة غزيرة عثرنا على بعض منها متناثرة هنا وهناك في عدة مجلات مختلفة: منها مجلة النشرة الاقتصادية المصرية التي كان يصدرها منصور صدقي بك سنة 1921 ومجلة المعرفة التي كان يصدرها الأستاذ عبد العزيز الإسلامبولي في الثلاثينات راينا أن نجمع شتاتها ونلم ما تفرق منها في وسمط واحد، ونفرد لها قسما خاصا من هذا الكتاب لتعم الفائدة، فنكون قد أدينا ما علينا من واجب لذلك الفيلسوف الكبير، ولست أشك أن عدد آخر من مقالات الشيخ طنطاوي ما زال في بطون الجرائد والمجلات ولعل باحثا فاضلا يتولى استقصاءها من بعدنا.

أمراضنا الاجتماعية

أيها السادة إن الأمم اليوم قد تنبهت من غفلتها وقامت من سباتها والعلم يعدو حثيثا بالأمم إلى العلا والإنسان اليوم غيره بالأمس هذه حركة فكرية عامة للتطور العام الاجتماعي الإنساني ومصر التي شهد لها التاريخ بالتقدم على سائر الأمم أجدر أن تدلي دلوها في الدلاء وأن تبحث مع ذوي الآراء في الأمور الهامة والمسائل العامة، وتحذو حذو الأمم الرافعة للعلم حتى لا يسلقنا خلفنا بألسنة حداد ويقول أبناؤنا لقد قصر آباؤنا الأولون ونام علماؤنا السابقون، فوجب علينا أن ننفي مجتمعنا من بعض المضار والمصائب التي من أهمها مسألة الخمر.

تحريم الدين للخمر

أيها السادة حرم القرآن الخمر تحريما قاطعا ولم يستثن حالا من الأحوال ولا أباحها لمرض ولا أجازها لهضم الطعام ولا رضيها لتقوية الشهوة عليه ولا لإكثار الدم في الجسم بل عمم التحريم فقال: (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ (المائدة: 90: 91)

التداوي به في الدين

اختلف الفقهاء في التداوي بها: فأباحه طائفة إذا لم يقم غيرها مقامها وقال آخرون: الخمر لا يتداوى بها واستدلوا بالحديث الشريف: (لم يجعل الله دواء أمتي فيما حرم عليها) ويقول القرآن: (فهل أنتم منتهون)

المدنية الحديثة والدين

هجمت المدنية الحديثة في الشرق، وأخذت تسرع في أسباب الرقي ففشت الخمر وعمت الأمصار والقرى، وشاعت بين الخاصة والعامة، وتبعها في ذلك أنواع الحشيش والكوكايين وغيرهما ويقول القرآن: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)

مطاردة المدنية الحديثة للأديان

كان أسلافنا يقيمون الحدود ويجلدون الشارب نحو أربعين جلدة، فكان ذلك مخففا من سطوة الخمرة ومانعًا لطغيانها، وكان لرجال الدين سطوة وبأس، وكان الملوك والحكام أقوى معضدين للفضيلة ومنع الخمر امتثالا لقوله تعالى (فهل أنتم منتهون).

جاءت المدنية الحديثة بخيلها ورجلها وشاركتنا في الأولاد والأموال، وهجمت علينا ولم يبق للدين سطوته، فانحسر عن المدن إلى القرى ثم انحاز إلى أطراف البلاد وهي تطارد الدين، ولكن المدنية بلا علم ضلال، والعلم الناقص وبال، والبلاهة كما قال الغزالي خير من الفطانة البتراء، والجهلاء أفضل من الأذكياء المغرورين: فإما الدين كله، وإما العلم كله، ونحن أخذنا من الديانات أسماءها ومن العلوم قشورها فخسرنا الصفقتين وربحنا الرزأين: وسبقنا المتدينون وفاقنا من الفرنجة العلماء العاملون، فويل ثم ويل لمن لا يدن له ولا علم أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا فحق علينا أن نبحث في موضوع الخمر بحثا علميا حتى نكون قد أتينا البيت من بابه ورجعنا الأمر إلى نصابه فالعلم اليوم هو السلاح الذي به يصول قائد الفضيلة، وبه يحارب النقيصة، فبهذا السلاح أقاتل معكم وبقوتكم وهمتكم جيوش الجهل بين أبناء أمتي المصرية المحبوبة، فلأقص عليكم أنباء ما عثرت عليه في هذا الموضوع مرتبا على مقتضى الترتيب الزماني وينحصر ذلك في أربعة مباحث وهي:

1- ما قاله علماء الاجتماع من أن الخمر تفني النسل وتستأصله.

2- ما قاله علماء التشريح من أنها تورث الجنون في الأقطار الجنوبية.ط.

3- أعمال الجمعيات المنتشرة لمنع الخمر وما جاء في خطبة رئيسها في مصر.

4- ما جاء في كتب الطب الأفرنجية وخصوصا الأمريكية وكيف منعوا التداوي بها.

المبحث الأول

قرأت في كتاب خواطر وسوانح في الإسلام تأليف الكونت هنري دي كستري الفرنسي المطبوع في سنة 1898 في صحيفة 135: (وعندي أن هجرة القبائل إلى الصحراء الكبرى جنوبا من الجزائر وهم باطل بالقول بإمكان مضايقتهم فينزحون عن البلاد شيئًا فشيئًا أما انقراض الأهالي بالتدريج بعد دخول التمدين الأوربي فنحن لا نصدقه إلا قليلا؟ فإن احتكاكهم بالمتمدينين ربما قلل من وسائل العيش عندهم ولكنه لا يؤثر في وجودهم بل لا يزالون يتناسلون أكثر من الأوربيين ونضيف إلى ذلك أن المسكرات التي استعملها بعض الفاتحين للتعجيل على بعض الأمم المغابرة لهم لا تؤثر عند أهالي الجزائر لكونهم يمقتونها مقتا شديدًا ولقد دهشت عند قراءة هذه الجملة وقلت ما قاله نصر بن سيار:

أرى خلل الرماد وميض نار

يوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعودين تذكو

وإن الحرب أولها كلام

فإن كانت أمية في سبات

فقل: قوموا قد حان القيام

وهنا غاية العجب كيف يقرأ قومي وهم غافلون أقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون؟ وكيف يقول ذلك الفرنسي العظيم: إن الخمر آخر سلاح تقتل به الأمم المستعمرة وبه فناء نسلم، وأهل بلادي في غفلة ساهون. ولطالما عرضت هذه الآراء على أهل العلم والأذكياء وأٌول ألم تقرأ أمتنا هذه المقالة أم قرءوا وهم لا ينتهون فالمسألة موت أو حياة.

المبحث الثاني

قال العلامة الإنجليزي بنتام في كتاب أصول الشرائع ترجمه المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا تحت عنوان الجرائم الشخصية: (النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الرجل كالأبله، وفي الأقاليم الجنوبية يصيره كالمجنون: ففي الأولى يكتفي بالمعاقبة على السكر كعمل وحشي وفي الأخرى يجب منع ذلك بطرق أشد لأنه شبيه بالتشرر ولقد حرمت ديانة محمد صلى الله عليه وسلم جميع المشروبات المسكرة، وهذه هي محاسنها) انتهى كلامه.

المبحث الثالث

منذ نحو ثماني سنين جاء إلى مصر رجل من أعضاء دار الندوة (البرلمان) للسويد والنرويج ذكر أنه رئيس جمعيات منع الخمر في العالم وأنه زار جميع دول أوربا والشرق كفرنسا وانجلترا وروسيا والصين واليابان، وأن كل الحكومات ساعدته وأن أعضاء الجمعية العاملين يبلغ عددهم ستمائة ألف رجل، وذكر أنه في أمريكا حرم خمسة وأربعون مليون الخمرة على أنفسهم (وكان ذلك قبل الآن وقد حرمت في هذه السنة تحريما عاما في هذه البلاد) وقال إن ولي العهد لبلاد السويد ربي على ألا يشرب الخمر، ونحن نفتخر بأنه أول ملك لا يشرب الخمر في أوربا فرد أحمد زكي باشا قائلا: هناك ثلثمائة مليون هم أعضاء عاملون في منع الخمر وهم المسلمون.

المبحث الرابع

كنت منذ بضع سنين عند طبيب نطاس مصري، فأراني كتابًا إنجليزيا مؤلفه أمريكي وقال: إن مؤلفه يقول فيه: إني لست أبحث في منع الخمر للسكر فهذا فرغ منه العلماء وإني بحثي اليوم في مضاره الطبية وإن التداوي به يجلب للإنسان أمراضا لا قبل له بها فإذن التداوي به ممنوع طبيا وليس فيه أدنى فائدة فقلت له لماذا لا ترفع صوتك بهذا في البلاد؟ فقال: إن إخواني الأطباء يسلقونني بألسنة حداد فقلت: أليس في أمريكا علماء محققون؟

فقال: بل ولكن لا يطاع لقصير أمر فلما دعيت للخطاب في هذا الموضوع طلبت منه الكتاب وهو يسمى كتاب اليد الطي تأليف الأستاذ كيلوج كتب تحت عنوان الاستعمال الطبي للخمر من صفحة 475إلى 504 فلأذكر لكم جملا منه وعليكم أيها الأطباء ترجمة الموضوع كله والرد عليه إن رأيتم خطأ علماء أمريكا وأوربا وإلا فساعدوا على منع كما منعته أعظم الأمم علما ومقاما وهي أمريكا قال المؤلف: من كان عنده أقل ريب أو ظل للشك في أن الخمر سم فليعتبر بما يكون عند وصوله للمعدة، فإن العشاء المخاطي يصير محتقنا ويخرج مقدارا من المخاط ليحمي نفسه، ونرى غدد المعدة وقواها الدافعة تسرع في إخراج ما وصل إليها بأسرع ما يكون أليس ذلك مزيلا لشك الشاكين وريب المرتابين في أن الخمر من أنواع السم؟

وقال الأستاذ (ليبج):إنه إذا اعتدل الإنسان في شربه قوي جسمه وأكسبه نشاطا، وقد نقض هذه القضية ثلاثة من علماء الكيمياء الفرنسي- لليمان والأستاذ بيرن والأستاذ دروي ثم الأستاذ ادوارد سميث الإنجليزي وقد برهن الثلاثة الأولون على بطلان ما تقدم بقولهم: إن الخمر تخرج من الجسم ولا أثر لها وزاد الأخير بقوله: إنه حلل الدم فلم يجد فيه أدنى شيء من العناصر التي يتركب منها الخمر وقال الدكتور ملر الأسكتلندي: الخمر لا يشفي شيئا وقال الدكتور هيجنو ثوم أمام الجمعية الطبية البريطانية: أنا لم أعلم مرضا قط شفي بالخمر وقال الدكتور جونسون الإنجليزي: إن الخمر ليس ضروريا البتة ليستعمل دواء وقال في إبطال قولهم إن الخمر غذاء وإنه يحفظ الجسم أو يقوي العضلات ما هذه القوة؟

إن هي إلا اسم آخر من أسماء السموم: كقولنا فلان نشوان طرب ثمل معناه مسموم، وبرهن على ذلك بقوله: إذا أدخلنا الخرم أو أي سم آخر من العقاقير السامة التي تعد بالمئات في الجسم فإن جميع الأعضاء تستعد للمقاومة والمدافعة لإخراجه من الجسم ومن هنا كان النشاط وقال في نقض قولهم إن الخمر تمنع المرض إن الناس يتعاطون الخمر لأمراض مختلفة فإذا كان ما يقولون حقا فأضرار الخمرة أشد من الأمراض فتكا بالأجسام فكيف بها إذا كانت لا تشفى نها شيئا فإن تجارب الأطباء السابقة تثبت أنه لا يترك أثرا في النسيج، والأثر الحقيقي إنما يكون في النسيج؟

وقال الدكتور سميث الإنجليزي ردا على الأستاذ ليبج: إن الخمر بسببها يخسر الجسم جزئا من الحرارة، فمن الضرر أن يتناول المريض شيئا من الخمر، فأثبت أنه لا يمنع فقد الحرارة، بل يزيد ذلك الفقد ومن العجيب أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أثبت ضرر الخمر في الحديث الصحيح فقد جاء في صحيح مسلم مع شرح الإمام النووي صحيفة 364 أن طارق بن سويد الجعفي سأل الني صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصفها فقال: إنني أصفها للدواء فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بدواء ولكنه داء!

أليس هذا الحديث الشريف مقتضى العلم الحديث؟ يقول الدكتور سميث: إن الخمرة تسبب للجسم خسارة جزء من الحرارة وقد منعت الدولة الأمريكية الخمر بتاتا بناء على أمر الأطباء وعلى الاكتشاف الحديث المنافي لآراء الدكتور ليبج، وهذا الكشف الحديث معجزة إسلامية وقد أثبت الدكتور باركس ثم السير جون هول (مفتش عموم الجيش البريطاني) والدكتور كارنتر والدكتور هنري مارتن وآخرون غيرهم أن الخمر لا يشفي المرض ولا ينفع الجسم وقال في إبطال قولهم إن الحب والفاكهة فيهما سم إن بعض الناس يقول إذا كان في الخمر ضرر فذلك ليس خاصا به إنه من الحب والحب فيه قليل من السم، فلم أكثر الأطباء من ذم الخمر مع أن السم عارم فيه وفيما أخذ منه؟ فأجاب عن ذلك بقوله: نعم إن الخمر من الحب ومن ذا يقول إن الحب فيه سم؟ إن الحب لم يكن سما إلا بعد إتلافهما.

فالحب لا سم فيه، وكذلك الفاكهة ولقد شاعت هذه النظرية بين الجمهور فهي كاذبة فهل تدس الطبيعة التي أعدت لنا لحياة السم في الدسم؟ كلا.. وقال في إبطال قولهم إن الشرب المعتدل لا يضر إن كلمة (إنتوكسيكيشن) مشتقة من كلمة لاتينية معناها السم، فالشرب المعتدل بصير عادة لا يتخلى الشارب عنها فهو يتجرع السم قل أو كثر فويل للشاربين وأبطل قولهم: إن الخمر الصافي لا يضر، فقال: (إن الخمر الصافي سم صاف).

فإذا احتج الشارب بأمثال هذا فقد ضل ضلالا مبينا لأنه ثبت أن الخمر سم سواء أكان نقيا أو مخلوطًا، فهو ضار للصحة مهلك للأبدان، ثم ذم الأطباء الذين يتعاطون الخمر والمسكرات فقال: إنه من موجبات الأسف المحزن ذلك المنظر الذي تتقطع له القلوب أسى أن يخضع العالم أمام جنود الشهوات والرذيلة المخزية، ومما هو جدير بالذكر أن أولئك الأطباء الذين لا ينصحون بشرب الخمر ويحضون عليه يصبحون هم أنفسهم مغرمين به عاكفين عليه فيكونون صرعى نصائحهم ومرمى سهامهم وقتلى علمهم وهم لا يشعرون أو ليس من النتائج الواضحة بالدلائل الساطعة أن أحكامهم في ذلك أوحت بها شهواتهم وقضت بها أوهامهم وهم عن العلم معرضون ألا ساء ما يصنعون وأخذ يبطل قول الشاربين إن الخمر يمحو الهم والكسل ويجعل الفقير الذي لا منزل له ولا صاحب يشعر بأنه ذو غنى أو ملك فأطال في ذلك .

وقال في الرد عليه: إن الإنسان إذا سكر حتى أصبح لا يشعر بما هو عليه وفقد الإحساس ونسي ما هو فيه من شقاء الحياة ومتاعبها لعاجز عن الاعتبار لتلك التجارب العالية الرفيعة القدر الشريفة المنزلة والشعور الشريف الذي تكون به البهجة العالية بالحياة الحقيقية وإن الفرار من الحق جبن وأبطل ما يدعيه الشاربون من قولهم: إن الخمر لا يضرنا ودحض حجة أولئك الذين يتعاطون المخدرات والمسكرات من الأفيون والخمر ونحوها وقال إنهم فريسة لها ويأتيهم الموت من حيث لا يعلمون وأخذ يدحض حجة أخرى للشاربين الذين يقولون: إن الخمر عادة إنسانية وطبيعية بشرية وكيف لا ونحن لا نرى أمة إلا شربت الخمر ولا جيلا إلا عاقرها ولا قبيلا إلا كرع منها؟

وها هم أولاء اليابانيون والصينيون والشرقيون والغربيون والنصارى واليهود والمجوس والبوذيون كل منهم بشربها، ومن ذا يقاوم الطبيعة، أو من ذا يقف في طريقه؟ فرد عليهم قائلا: أليس في هذه الأمم ضالون وفاسقون وكذابون ومنافقون ومخادعون ولصوص خائنون؟ فكيف يحتج الشارب بفريق السكارى مدعيا بأنه طبع في البشري أفلا نأسف لشيوعه ونأنف من وقوعه وتكاثره في بني الإنسان إنه من موجبات الحزن والأسف لا مما يحتج به للاعتذار ويصار إليه للتقليدي والاتباع.

هذه نبذة من آراء المؤلف كيلوج الأمريكي ولا ريب أن الحكومات لا تقطع أمرا حتى يثبته العلماء ويطلبه الشعب، ولولا أمثال مؤلف هذا الكتاب ما منعت أمريكا الخمر، ومصر أولى بذلك لأنها في أول نهضتها بين الأمم إسلامية ولأن الخمر ضرتها كثيرًا، ولي أمل في رجال الطب وعلماء الأمة أن ينصحوا للشعب بالإقلاع عن هذه العادة والله موفقنا إلى الإصلاح.

الفلسفة عند العرب

أيها السادة:

إن الأمم اليوم تجد ي التنقيب عما خلفه الأولون والبحث فيما أورثه الأقدمون ولقد رأينا بأعيننا أهل أوربا يكشفون ما خبأه الزمان الغابر وما دفنه الدهر الدائر في بطون الدفاتر وغضون المقابر والقصور المعطلة والبلاد المهدمة والأطلال الدارسة والدمن المهجورة والأجسام المقبورة وللحود المطمورة، وما كفاهم ذلك في آبائهم وآثار قدمائهم حتى جاسوا خلال الصين والهند والعراق، ونشروا خط أهل سبأ، ودرسوا علم الأشوريين والبابليين، وفسروا علومهم، وصوروا مدنهم، وترجموا لغاتهم، ونقبوا في البلاد المصر ية عن الآثار الهيروغليفية والعلوم اليونانية والنقوش والآيات الحكمية، واستخرجوا من النواويس وأجداث الملوك نفائس النقوش وغرائب الصور وبدائع العلوم ومالنا نذهب بعيدا فها هي ذي أمتنا المصر ية أخذت تجاري الأمم وتنافس الدول، فجمعت آثار قدمائنا من العرب والفراعنة في متحفين عجيبين وأخذت تجاري الأمم وتنافس الدول فجمعت آثار قدمائنا من العرب والفراعنة في متحفين عجيبين وأخذت تدرس اللغة العبرية في الجامعة المصر ية، ومن الشبان من أخذوا يتبارون في تقليد آبائنا في بعض الشمائل والمزايا وهم يجدون.

إذا ثبت ذلك فهل من المعقول أن ننبذ ما درسه الآباء وسطره القدماء في الكتب الفلسفية والعلوم العقلية والعجائب الحكمية؟ أو ليست العلوم تساوي النقوش القديمة والآثار البائدة؟ فإذا كنا نرى أمثال العلامة سيديو الفرنسي ومؤلف كتاب البطولة والأبطال ويدرسان علوم العرب ولغاتهم وآدابهم أفلسنا نحن أجدر أن نسابق العلماء ونقرأ ما خطه السلف ونحرص عليه حرص الشهم على كرائمه؟ وها هي ذي الجامعة المصر ية (قد أخذت تدرس فن الفلسفة العربية، ولقد علم حضراتكم أن هناك وكان ذلك مع حسن التفاهم والوصول إلى الحقائق الثابتة فعلى كل ذي علم أو رأي أن يبينه لإخوانه الوطنيين حتى يرتفع شأن الأمة ألا وإن كاتم العلم ملعون فحرام على امرئ أن يكتم علما حرصا على راحته أو ميلا إلى سلامته وفي الحديث الشريف (من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة وقال تعالى في ذم من كتم علما: (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) ومن أراد سعادة المجموع بما وهب له من قدرة كان ذلك خيرا وأعظم أجرًا.

وجاء في الشريعة الإسلامية أن العلوم والصناعات واجبة فرض كفاية، فإذا تركت الأمة علما أو صناعة عذبت في الدنيا بالذلة والهوان وفي الآخرة عذابا أليما إذا تقرر هذا فإني أعرض على حضراتكم بعض ما وقفت عليه من علوم قدمائنا، وأقص عليكم منه جميلا ولست أقصد أن العلوم العصرية كلها من القديمة ولا أن أذم الحديث بل أنا به مغرم، ولا أن أتعصب لمجد الآباء، كلا وإنما أريد تبيان الحقائق وإظهار بعض ما كمن من آرائهم في كتبهم وأبين ما عثرت عليه في المخترعات العصرية الثابتة عن قدمائنا كما أوضحه العلامة سيديو الفرنسي الذي قال: إن أكثر الكشف الحديث مأخوذ من كتب أسلافنا ولأبتدئ بتعريف الفلسفة ثم أقفي بعد ذلك بتقسيمها ثم أبين مسائل مما كشفه الفرنجة والعرب بها سابقون والمراد بالعرب كل من اتخذوا لغة العرب في دراساتهم من فرس وعرب وغيرهم من أهل الشرق.

تعريف الفلسفة وأقسامها

لقد كثرت الأقوال في المجالس الخاصة العامة في تعريف الفلسفة ولكل وجهة هو موليها ولقد ظن كثير من العقلاء أنها أمر مغلق، ومنهم من ظن أن التوسع في موضوع ما فلسفة، ومنهم من ظنها كثرة الجدل وإفحام الخصم، ومنهم من يراها أمرا لا أول له ولا آخر، أو كل من توغل في علم فهو فيلسوف وعلى هذه المعاني المتعارفة بين الناس لو أن أمرا رأى ذلك الرجل الذي يلعب في الأعراس وهو يقلب عمودًا أسفله مدبب وأعلاه معجم بهيئة مخروط وهو ثقيل وعظيم ويقلبه الرجل بكفيه تارة يقع على جبهته وثانيا على يديه وثالثا فوق أخمص قدمه والرجل يتلوى كأنه الخلبوص (أي العصفور الصغير) لو أن امرأ رأى هذا لقال عليه: إنه فيلسوف وكذلك لو سمع ما روي من أن صاحب القاموس الفيروزا بادي وهو في بلاد الروم قيل له معنى قول سيدنا علي كرم الله وجهه: الصق روانفك بالجيوب وخذ المزبرة بشناترك، وأجعل حندورتيك إلى قيهلي حتى لا أنغى نغية إلا أودعتها حماطة جلجلانك.

فأجاب الفيروزابادي: (الزق عضرطك بالصلة، وخذ المسطرة بأباخسك، وأجعل جحمتيك إلى أثعباني حتى لا أنيس نبسة إلا وعيتها في لمظة رباطك) فالإجابة والتفسير كالمفسر كلاهما مغمض لا يفهم فلو سمعها من يرى هذا الرأي لقال: هذه فلسفة أي كلام غريب ومعنى الكلام المتقدم: (الصق مقعدك بالأرض، وخذ القلم بأصابعك، وأجعل عينيك إلى وجهي حتى لا أنطق كلمة إلا وعيتها في حبة قلبك!).

وهذه لا يدعها الناس حتى يعرفوا تعريف الفلسفة يقول القدماء: الفلسفة هي معرفة حقائق الأشياء على ما هي عيه بقدر الطاقة البشرية، ويقال: إن أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة البشرية وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم والحقائق المذكورة تنقسم قسمين، علمية وعملية والعلوم العلمية هي الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات، والعلوم العملية ثلاثة أقسام: سياسية النفسي بعلم الأخلاق وسياسة المنزل بعلم تدبير المنزل وسياسة الأمة بالسياسة العامة فالعلوم الرياضية أولها الارتماطيقي والثاني الجو مطريا، والثالث الإسترونوميا، والرابع الموسيقي.

أما الارتماطيقي فهو علم العدد ومعرفة ماهياته وكيفية وكميته وخواصه، وبمعرفته يتدرج إلى سائل الرياضيات والطبيعيات إن علم العدد جذر العلوم ومبدأ المعارف، ويتفرع منع علم الحساب المفتوح الحساب العقلي وحساب التخت والميل وهو المتداول في المدارس عندنا والجبر وعلم الدرهم والدينار الذي يحل المسائل التي لا يحلها الجبر.

العلم الثاني: الهندسة وبيان ماهيتها وكمية موضوعاتها وأنواعها، وهي تبحث عن الخط والسطح والجسم. العلم الثالث: النجوم ومعرفة تركيب الأفلاك وصفة البروج وسير الكواكب.

العلم الرابع: الموسيقي وهو المدخل إلى علم صناعة التأليف والبيان، لأن النغم والألحان لها تأثير في نفوس المستمعين لها، كتأثير الأشربة والترياق في الأجسام الحيوانية وهذه العلوم لها فروع كثيرة كعلم البنكامات (آلات قياس الزمن كالساعات المعروفة) وعلم جر الأثقال.

وإنهم برهنوا على ثقل مائة ألف رطل بقوة خمسمائة رطل، وكذلك علم أنباط المياه، أي استخراجها من الأرض وعلم الآلات الحربية كالمجانيق وغيرها، وعلم المرايا المحرقة وعلم عقود الأبنية لتنضيد المساكن وشق الأنهار، وعلم المناظر لمعرفة أشكالها وأوضاعها وعلم مراكز الأثقال، وعلم المساحة. أما العلوم المنطقيات فهي خمسة:

أولها: إيساغوجي، وهي الألفاظ الستة التي تستعملها الفلاسفة في حججهم ومحاوراتهم ثانيا: المقولات العشرة وتسمى قاطيفورياس، وهي عشرة ألفاظ دالة على الأجناس العالية لا يخرج معنى من الموجودات عنها.

ثالثها: القضايا وتسمى بأريمينياس، وهي الكلام في العبارات وأدائها على حقها .

رابعا: القياس، وتسمى أنولوطيقا الأولى.

خامسا: البرهان ويسمى أنولوطيقا الثانية.

1- سماع الكيان يبحث في الهيولي والصورة والزمان والمكان والحركة.

2- السماء والعالم يبحث في أن هذا العالم كله كأنه حيوان واحد أو إنسان واحد له نفس واحدة وجميع أجزائه تستمد بعضها من بعض.

3- الكون والفساد وهو معرفة خواص الهواء والماء والتراب والنار وامتزاج بعضها ببعض.

4- الآثار العلوية وهو معرفة الآثار الناجمة من أشعة النيران الساقطة على الأرض بزوايا حادة وقائمة ومنفرجة وتلك الزوايا واقفة بين خطي السقوط والانعكاس وبهذه الزوايا واختلافاتها يختلف الحر والبرد وتكون السحب والأمطار والرعود والبروق والثلج والبرد والزلازل والبراكين والمغاور في باطن الأرض. 5- علم المعادن ويبحث في أشكالها وأصنافها وأن أدناها متصل بالتراب ضعيف التركيب وذلك كالحصى والملح وأعلاها الياقوت والذهب وإذا كان أدنى المعادن متصلا بالتراب فأعلاها هو الذهب متصلا بأول الثبات الأثري الكمأة وخضراء الدمن التي تخرج أول النهار بالفدوات وتبيس وقت الهجيرة فهذه أقرب إلى المعدن وتسمى نباتا معدنيا ويترقى النبات، عن هذه الدرجة إلى الشجر الذي كماله بتسعة أشياء: وهي العروق والجذوع، والأغصان، والفروع، والورق والزهر والثمر واللحاء، والصمغ، وعل هذا يرى أن شجر الطرفاء مثلا ينقصه الزهر والثمر والصمغ والحاء وأعلى الشجر النخل فإن جسمه نباتي ونفسه حيوانية ألا ترى أنه إذا قطع رأسه مات وأنه يتميز ذكره عن أنثاه؟

فأما النباتات الأخرى فإن قدماء الفلاسفة كانوا يقولون إن البذرة فيها التذكير والتأنيث ولكن لم نفهمها إلا في الكتب الحديثة لأنه وجد زهر الذكور وزهر الإناث ليلقح الأول الآخر وذلك إما في زهرة واحدة كما في القطن وإما في زهرتين كما في القرع وأمثاله، وفأما تمييز الذكور عن الإناث من الأشجار فلا نعرفه إلا في النخيل فلذلك قالوا: إن نفسه حيوانيه وجسمه نباتي، أما الكشوتي فهو نبات لا ورق له ولا عروق ضاربة في الأرض ولكنه يعيش على غيره كالحيوانات فهو كالنخل جسم نباتي ونفس حيوانية، وفي العلم الحديث في هذا كثير حتى عرفوا منه 33 نوعا تنحو هذا النحو.

وأعلى النبات متصل بأدنى الحيوان وهو الحلزون والدود الذي في الثمار وفي جوف الحيوان.

فالحلزون دودة في جوف أنوبة على شطوط الأنهار تنقبض إذا لامسها شيء ولا سمع لها ولا بصر، وهكذا الدود الذي في جوف الثمار والحيوان، وهذا يشارك النبات في الحس ويتميز عنه بالحركة الاختيارية ويقال له حيوان بناتي، وإنما قلنا: يشارك النبات في الحس لأن النبات يحس بالمواضع الندية فيمتد إليها ويتجافى عن المواضع اليابسة وإذا رأى ضوءا نزل من ثقب وهو تحت سقف عدل عن طريقه ومال إلى ذلك الضوء فهذا معنى قولنا: إن النبات له إحساس شارك الحيوان فيه، ويتميز عن الحيوان بالحركة الاختيارية، والحيوان يرتقي إلى ماله حاستان كالدود الذي على الأزهار والأشجار فإن له حاسة الذوق وغلا ماله ثلاث حواس وهو ما في جوف البحار العميقة فإنه يزيد حاسة الشم ولا مع له ولا بصر وما له أربع حواس فيزيد حاسة السمع وهو نوع يقال عنه الحلم يعيش في المواضع المظلمة ثم ما له خمسة حواس وهذا ما في البحار وهو السمك، وأما في التراب وهو الهوام.

وإما على وجه الأرض وهو الأنعام والبهائم والدواب والوحوش والسباع، وإما في الهواء وهي الحشرات والطيور والجوارح ومن الحيوان ما يترك أولاده في الفلوات كالحشرات التي تترك بيضها للطبيعة كالناموس والذباب وإما أن يحفظ بيضه كالطيور والجوارح وهما أعلى مما قبلهما وإما أن تتربى وأولادها في بطنها وهي ذوات اللبن كالأنعام والوحوش والقردة والإنسان.

وأعلى الحيوان القردة والفرس والفيل: فالقرد قارب الإنسان بصورته، والفرس بخلقه النفس والفيل بذكائه.ط

(وهذا مذهب داروين)

نحن لا يسعنا الإطالة في إيضاح هذه العلوم ولننقل الكلام إلى القسم الإلهي، العلم الأعلى والعلم الكلي علم ما وراء الطبيعة، وهو يبحث في الأمور العامة مثل الوجود والوحدة والقدم والحدوث، ومثل النظر في مبادئ العلوم كلها وتبين مقدماتها ومثل النظر في إثبات الإله الحق والدلالة على وحدته وتفرده بالربوبية.

وليس هذا العلم يبحث عن أمور غير مفهومة كما يظنه كثير من الناس.. بل هو يبحث عن العلوم العامة التي ليست لها خاصة بالرياضيات ولا بالطبيعيات فتقسيم العلوم مثلا ليس خاصا بأحدها أما الرياضي فهو يبحث عن مقادير الأشياء المتصلة وهي الهندسة والفلك والمقادير المنفصلة الحساب والموسيقى ثم الطبيعيات تبحث في تغييرات المادة: فعلم النبات والمعدن وغيرها إنما هو صور للمادة بتغيراتها أما العلوم التي لا تخص الرياضي ولا الطبيعي فمثل النظر في إثبات الجواهر المجردة من العقول والنفوس والملائكة وحقائقها ومثل أحوال النفس البشرية بعد مقارنتها الهياكل الإنسانية وحال المعاد.

هذه هي الأقسام العلمية أما العلوم فهي ثلاثة أقسام:

1- علم الأخلاق والبحث في القوى الثلاث: الشهوة والعقل، والغضب ثم العفة والشجاعة والحكمة والعدل ومعاشرة الأصدقاء وغير ذلك.

2- علم تدبير المنزل ومعاشرة الأهل والخدم وسياستهم ونظامهم وأنه يجب على رب الأسرة أن يسير معهم على نمط واحد ووتيرة واحدة لا يغيرها حتى لا يندم إذا تغيرت أخلاقهم إلى غير ذلك.

3- السياسة المدنية، وينظر هذا العلم في الجامعة الإنسانية كجامعة الجنس والدين والوطن واللغة والملك الجامع للأمة وكيف كانت هذه تنافي آراء أهل المدينة الفاضلة ثم النظر في أن سياسات الأمم مبنية على عقائدها، ثم بيان المدن الضالة والفاسقة والمنحرفة والجاهلية مما أوضحه الفارابي في كتابه كتبيان أن المدينة الفاضلة يرجع نظامها إلى نظام الجسم الإنساني مقيسًا عليه في الأعضاء الخادمة والمخدومة مع الإلمام بعلم التشريح هذه مقاصد علم الفلسفة العلمية والعملية ولقد قسموا العلوم فبلعت ثلثمائة علم مفرعة على هذه الأصول ونيفا.

الكشف الحديث الذي كان معروفا عند القدماء

وإذ فرغت من الفلسفة وفروعها فلأتكلم على ما عثرت عليه في كتب أسلافنا وظنته أمم الفرنجة كشفا حديثا والذي عثرت عليه أربع مسائل:

المسألة الأولى رقاص الساعة

يقولون إن المخترع له غاليليو المولود ببيزة سنة 1564 المتوفى سنة 1642 قال في قاموس لاروس: أن غاليليو حضر يوما في كنيسة ببيزة صلاة فقام فيها فاستوقف نظره المصباح المعلق في قبة الكنيسة ورآه يهتز ببطء ولاحظ أن الهزات وهي تتناقص في الاتساع مرة بعد مرة حافظة دائما لوقت واحد فكان ذلك سببا في كشفه ناموس توازن هزات الرقاص هذا هو الرأي السائد الآن في بلاد الشرق والغرب وقد كذب هذا القول العلامة سيديو الفرنسي في كتابه تاريخ العرب (صفحة 214) إذ أبان أن الحروب استمرت على الأمة المحمدية أكثر من مائتي سنة وانطفأت مصابيح العلم تقريبا إلا من مصر فصارت مركزا جديدًا للاشتغال بالعلوم والفنون زمن الفاطميين، واشتهر أبو الحسن عباس بن أبي عبد الرحمن بن حمد المشهور بابن يونس بن عبد الأعلى بأن كان متصرفا في سائر العلوم، فاخترع رقاص الساعة الدقاقة، ثم مات سنة 1007 ميلادية أقول: فيكون غاليليو مسبوقا بستة قرون وقال في صفحة 215: (ولقد تعجب أهل طيطلة من ساعته الدقاقة وذلك في نحو نصف القرن الثاني عشر الميلادي فكان اختراع ابن يونس لم يعرف في طليطلة إلا بعد مائة وخمسين سنة.

هذه قضية رقاص الساعة حققناها ولم يبقى لديكم شيء في أن أقول بعض مؤلفي الإنجليز والفرنسيس إن المخترع غليليو جاء الخبر بتكذيبه من علماء فرنسا وأن مصر في زمن الفاطميين كانت دار اختراع فاذكروها للأبناء لعلهم يعلمون.

المسألة الثانية دوران الأرض

جاء في قاموس لاروس وفي سائر الدوائر العلمية أن الكاشف لذلك كوبرنيكوس ومعه غاليليو وأنهما فتحا فتحا جديا للإنسانية وحركا الأرض بعد سكونها وأيقضاها من سنة الغفلة بعد نومها وهأنذا أسرد لكم تاريخ مسألة الأرض بأوجز عبارة فأقول:

كان فيثاغورس يعلم تلاميذه في مدرسة كروتونيا من بلاد إيطاليا على طريقة حركة الأرض وذلك قبل ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام بخسمائة سنة حتى جاء بطليموس قبل الميلاد بمائة واربعين سنة فاختار القول بسكون الأرض وحركة الشمس ودورانها عليها فاشتهرت في البلاد واتبعه ابن سينا و الفارابي وأمثالهما من علماء الإسلام كل ذلك في كتاب العلامة المرحوم عبد الله باشا فكري الناقل عن كتاب أسرار الملك والملكوت وشرحه المرسوم بأفكار الجبروت وهو باللغة التركية ومتنه بالعربية ثم ظهر كوبر نيكوس الذي مهر في العلوم الرياضية من سنة 1500 إلى سنة 1530 من الميلاد وهي سنة 973 هجرية فرجع إلى طريقة فيثاغورس فظهر أن دوران الأرض حول الشمس هي القديمة وتسميتها جديدة خطأ محض وجهل بتاريخ علم الهيئة. والطريقتان مذكوران مستفيضتان في الكتب الإسلامية .

وقد ذكرهما العلامة عضد الدين عبد الرحمن أحمد المتوفى سنة 756 من الهجرة في كتابه المسمى بالمواقف وأورد على طريقة دوران الأرض اعتراضات ثلاثة، ثم كر على تلك الاعتراضات بالنقض والرد وجرى معه على ذلك شارحه السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة 816 في شرحه، وكان فراغه من تأليفه سنة 807 فليراجعه من أراد وإليكم أيها الإخوان بعض ما قاله المصنف في متنه مع شارحه صفحة 147 في المقصد الثالث قال:

الحركة اليومية (حركة الشمس) لا توجد إنما تتخيل بسبب حركة الأرض، إذ يتبدل الوضع من الفلك دون أجزاء الأرض فيظن أن الأرض ساكنة والمتحرك هو الفلك بل ليس ثمة فلك أطلس: وذلك كراكب السفينة: فإن يرى السفينة ساكنة مع حركتها حيث لا يتبدل وضع أجزائها منه، وكذلك يرى القمر سائرا إلى الغيم حيث يسير الغيم إليه وهذا كله من غلط الحس.

انتهى ملخصا فها هو ذا عضد الدين قبل كوبرنيكوس بنحو 180 سنة فيكون هذا كشفا للأوربيين، لأنهم كادوا يقتلون كوبر نيكوس وغاليليو الذي أتبعه لكفرهما في نظر علماء الدين كما هو معلوم أما عضد الدين وأمثاله فكانت كتبهم تدرس في الشرق.

المسألة الثالثة مسألة الجاذبية

يزعم علماء الفرنجة أن الكاشف للجاذبية إنما هو إسحق نيوتن الإنجليزي وأنه رأى ثمرة سقطت من الشجرة على الأرض فأخذ يفكر في الجاذبية وهذا البحث سبقه فيه علماؤنا بقرون ألا ترى ما جاء في شرح العلامة محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606 هجرية على كتاب الإشارات لابن سينا صفحة 117 قال: قال ثابت بن قرة إن المدرة تعود إلى السفل لأن بينها وبين كلية الأرض مشابهة في كل الأعراض أعني البرودة والكثافة والشيء ينجذب إلى الأعظم وثابت بن قرة كان في أيام المطيع العباس المتوفى سنة 363ه وقال الشارح في صفحة 216 إنا إذا رمينا المدرة إلى فوق فإنها ترجع لأسفل فعلمنا أن فيها قوة تقضي الحصول في السفل حتى إنا لما رميناها إلى فوق أعادتها تلك القوة إلى السفل وقد أطال العلامة ابن سينا وشارحه في هذا الموضوع فظهر من هذا أن مسألة الجاذبية سبق بها علماء الشرق بقرون عدة فإن ثابت بن قرة سبق إسحق نيوتن بنحو ستة قرون والرازي سبقه بنحو ثلاثة قرون.

ومن العيب أنني بعد ما سطرت هذا قابلني صديقي عبد الحميد بك فهمي فأراني كتابا فرنسيا في تاريخ العرب ومغاربي إسبانيا فترجم لي منه ما لفظه في صفحة 175 جزء ثان لمؤلفه المشهور لويز فياردو.

وأخذا العلامة كيبلر الشهير معلوماته عن انكسار الضوء في الجوي بعد اطلاعه على ما ألفه أبو الحسن علي بن سهل المتوفى سنة 1038ميلاديه بمدينة القاهرة وهو شهير بما ألفه من الكتب في علم الضوء وما كتبه عن الشفق وربما كان إسحق نيوتن نفسه مدينا للعرب بمعرفة المعلومات الأولية لنظام العالم أكثر مما يدين لتفاحة قصره ولسترد إذ يظهر أن محمد بن موسى المذكور في المكتبة العربية قسم الفلسفة عندما كان يؤلف كتبه في حركة الإجرام السماوية وخواص الجذب كان أسبق منه إلى ولوج هذا الباب فتكلم عن هذا القانون العظيم المستنبط منه ما سواه وقال في صفحة 204 جزء ثان.

ومن الغرابة بمكان عظيم أن نبحث في كثير من الأشياء المختلفة فنجد أن العرب فيها كانوا نموذجا للفرنجة بأوروبا.

فمثلا في ابتداء القرن الثامن للميلاد رأينا عتبة بن الحجاج ينشئ طائفة من الجند أعدها لقطع دابر المفسدين في الأرض سماها بالكشافة وهنا يرد على اعتراضات الأول لقائل أن يقول إنك قد خالفت ما أجمع عليه الناس إنك تفخر بمجد الآباء ولا فخر لك إنه تعصب ديني أو جنسي إنه لغو الحديث ولا معنى لهذا البيان إن الكشف الذي جاء حديث قد استوفى المباحث وماضيه لا عبرة لنقصه وأنا أجيب عن هذه الاعتراضات أما الجواب عن الأول وهو أني خالفت الإجماع فأقول: قال العلامة سيديو الفرنسي في كتابه صفحة 232 وصفحة 233:

وظهر التمدين العربي المتسع به نطاق لسان العرب الذي أدخله مترجمو الكتب اليونانية في الاصطلاحات فسهل انطباقها على المعلومات التي عزا اختراع اكتشافاتهم إلى علماء منهم كانوا بالقرن الخامس عشر والقرن السادس عشر مع أن اختراع أكثر اكتشافاتهم إلى علماء منهم كانوا بالقرن الخامس عشر والقرن السادس عشر مع أن اختراع أكثرها إنما كان للعرب الذين اجتهدوا في تقدم العلوم وذكر لذلك عشرة أدلة: منها أن تلك الاكتشافات وجدت مكتوبة في كتب عربية بخط اليد التي ظفرنا بها فإذا أثبت سيديو من علماء الفرنجة أنهم وجدوا أكثر الاكتشافات بخط اليد في كتب عربية فلا عجب إذا وجدت أنا ثلاثة أو أربعة ومتى وجدت غيرها أبرزتها إلى أهل هذه البلاد المباركة الطيبة.

الثاني وهو الفخر بمجد الآباء أقول: لست أفتخر بالقدماء وإنما أريد الحقيقة ودفع الجهل وجواب الثالث أنه تعصب أني لست متعصبا دينيا ولا جنسيا فإن ثابت بن قرة كان مسيحيا، ولكنه شرقي ولم لا نعطي القوس باريها؟ ولم لا تنسب الحكمة إلى أهلها؟

وجواب الرابع وهو أنه لغو وأقول ليس ذلك لغوا فإن معرفة الحقائق هي العلم والعلم واجب ليس بلغو، وأما قول من قال إن المتأخر أستوفى ما تركه المتقدم فنسب إليه فهذا كلام الكسالي المخدوعين الذين لا يريدون أن يحققوا بدليل ما قاله سيديو، وهنا نحن أولاء نري الأمم ترسل رجالها لكشف القطبين ويضعون راية في مكان الكشف ليثبتوا لهم السبق: فلو أن أمة سكنته فيما بعد فرضا لكان السابق هو الأولى بالفضل. وما لنا نذهب بعيدا ونحن نرى أن كريتسوف كولمب كاشف أمريكا لم تسم البلاد باسمه فهلا جعل الاسم مركبا مزجيا كبعلبك ومعد يكرب أو يختصر فيقال كرتستوفه كولمبه لم يكن ذلك لأنه كان ممن صحبه رجل يقال له أمريكو من عظماء فلونسا فسافر من غير مشاورة كولمب،.

وخطر له أن يظهر أنه أول كاشف لأرض الدنيا الجديدة وأشاع في إيطاليا وكتب رحلته ليحتال بها على اكتساب الشهرة جعلها لطيفة مرغبا فيها وحكي الوقائع على وجه يستميل القارئ فاشتهرت البلاد باسم هذا الرجل كما هو الغالب إن الغاش يفلح ظاهرا ولكن البلاد وإن اشتهرت باسم صاحب الرحلة وهو أمريكو لم يكن له منها إلا اللفظ ورجع العلماء تلك الشهرة إلى الكاشف الحقيق وهو كولمب، والحق أحق أن يتبع مع أنه لم يعرف جميع أصقاعها وزاد غيره أضعافًا مضاعفة في الكشف فحجة القائلين إن المتوغل في الكشف أحق باسم المخترع حجة داحضة وكلام لغو ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون وإذا كان الحق يرجع لأهله في أوربا أفلا يرجع لأهله في الشرق؟

يقول الله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) ومن ثم فإني أوجه همم العلماء والفضلاء من أمتنا أن يبينوا للناس أولا أن أكثر الكشف منسوب كذبا للفرنجة ثانيا أن رقاص الساعة ودوران الأرض والجاذبية كانت معروفة عند أسلافنا ورجال المعارف الذين أشرف بالانتساب إليهم أولى بهذا التنبيه وأحق به وأهله.

سادتي... هل لكم أن أقص عليكم ثلاثة أنباء في الاكتشاف نبأ عن المرحوم علي باشا مبارك بنفسه، ونبآن عن أستاذنا المرحوم الشيخ حسن الطويل.

أما النبأ الأول فذلك هو الخاص ببحيرة فيكتوريا نيانزا وذلك أن المرحوم علي مبارك باشا ناظر المعارف العمومية كان كثير العناية بطلبة دار العلوم لأنه هو الذي أسس المدرسة، وبينما كنت جالسا في الفصل وقد كان يمتحنني أستاذي إسماعيل بك رأفت في الجغرافيا آخر السنة الأولى إذ دخل الوزير رحمة الله عليه فسألني عن منبع النيل قلت: بحيرة فيكتوريا نيانزا فقال: ألم يكشفها العرب؟ فقلت: كلا قال: بل كشفوها وعندي مساحتها بالحبة والدانق والقيراط في كتاب بخط اليد فقلت: إذن لماذا يقال: إن كاشفها الإنجليز؟ فقال: أمرونا فكتبنا!.

أما النبأ الثاني فذلك رسم المنحنيات: قال لنا أستاذنا المرحوم الشيخ حسن الطويل: جلست مع وزير المعارف علي باشا مبارك فأخذ يذم القدماء من المهندسين المسلمين ويقول إن كتبهم عقيمة سقيمة فقلت لماذا فقال: كانت عندي رسالة في فن رسم المنحنيات مخطوطة باليد ولما لم أفهمها وجاءني رجل فرنسي وأريتها إياه طلبها فأعطيتها إياه منذ عشر سنين، فأرسل اليوم هذا الكتاب الضخم في رسم المنحنيات بالفرنسية فقال: إن ما فيه هو مكبر ما في تلك الرسالة الصغيرة فقال أستاذنا الطويل: يا باشا، كانوا يؤلفون للمهندسين.

أما النبأ الثالث فهو الكتابة بالفضة على الزجاج، وذلك أننا ونحن في السنة الأولى من سي دار العلوم جاءنا رجل أفرنجي وأخذ يحضر عقاقير لإحداث آثار الفضة على الزجاج مدعيا أنه الكاشف له وحضرنا جميعا عمليته فلما كان اليوم الثاني أخبرنا المرحوم أستاذنا الشيخ حسن الطويل أنه أخذ الشيخ محمد الإبياري والأستاذ أحمد الأزهري بك وأراهما ليلا صاحبا له مصر يا يعرف هذه الصنعة عن أجداده ووصف لهم نفس العملية التي وصفها الإفرنجي وقال: إنه كان في زمن شبابه يكسب منها أكثر من هذا الزمان الذي كسدت فيه هذه الصناعة.

وعند ذلك قال لنا شيخنا في الدرس كيف يأخذ هذا الرجل سبعين جنيها من الحكومة مكافأة على عله وهو مبطل في دعواه وكيف تنطلي تلك الحيلة على وزير المعارف؟ وكيف يجهل الوزير الصناعة في بلاده؟

وكيف يجهل ذلك ناظر المدرسة إبراهيم بك مصطفى وهو ما أخذ الشهرة والبيكوية إلا بعلم الكيمياء؟

هذا وإني مستعد أن ألقي محاضرات عامة لطلبة المدارس العالية في علوم أسلافهم ألا وأن في البلاد من يريدون أن يصدوكم عما كنزه لكم آباؤكم ولن يكون هذا إلا وصمة في تاريخ بلادنا العزيزة المجيدة ولي أشد الرجاء من إخواني رجال المعارف أن يبينوا ما ظهر أن العرب كشفوه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

عن العددين 68 و 69 السنة الثانية من

النشرة الاقتصادية المصر ية بتاريخ

16و 23من مايو 1922.

مذهب السوفسطائية

قال اليعقوبي في تاريخه (ص166 ج 1) وتفسير هذا الاسم (السوفسطائية) باليونانية (المغالطة) وبالعربية التناقضية يقولون لا علم ولا معلوم إلخ وقد تعقبه الأستاذ سنتيلانه وخطأه فقال: السوفسطائية باليونانية معلمو الحكمة، أو طالبو الحكمة.

وصوب كلام الشريف المرتضى في الإتحاف (مجلد 9 ص 418) إذا قال: السوفسطائية طائفة من حكماء اليونان ينكرون حقائق الأشياء، ويزعمون أنه ليس ههنا ماهيات مختلفة، وحقائق متميزة فضلا على اتصافها بالوجود بل كلها أوهام لا أصل لها وسوفسطائية كلمة يونانية معناها طلب الحكمة انتهى كلام الشريف الذي نقله الأستاذ سنتيلانه ثم قال:

والحاصل أن السوفسطائية قوم اتخذوا الفلسفة حرفة، كانوا يجتازون المدن والأقطار يدعون القدرة على كل علم، وعلى تعليمه أيضا في أقرب وقت مع أنهم أجمعوا أنه لا علم في الحقيقة ولا حكمة وأن قصارى ما يدركه الإنسان من الوجود على فرض وجوده هو ما يدركه بحواسه الخمس ولما كان الإدراك الحسي مما يختلف بين الناس من إنسان لآخر بل في الإنسان الواحد باختلاف الأوقات والصحة والمرض ومع ذلك يتغير تغيرًا مستمرا لزم من ذلك أنه لا حق ولا باطل ولا خير ولا شر بل كان ذلك مما تواطأ الناس عليه ليستقيم به معاشهم ويكفي بعضهم شر بعض وهو نفس أمر ليس بموجود طباعا ثم قال: وبعد إجماعهم على هذه الأصول اختلفوا فذهب بروتاغورس إلى أنه ما ظهر لكل واحد حقا فهو حق بالنسبة إليه فقال إن الإنسان مقياس الأمور في وجودها وفي عدم وجودها أي ما رآه كل واحد موجودًا فهو عنده موجود.

وما رآه معدومًا فهو بالقياس إليه معدوم ولا يتعدى الحكم إلى غيره.

وذهبت طائفة أخرى من أتباع غورغياس إلى أنه لما كانت الأشياء في حكم التغيير الدائم كان الإنسان غير متمكن من إدراك الحق بوجه وغاية ما يقدر عليه أن يقتصر على ما يدركه في كل آن من ظاهر الأشياء لا يتعدى حكمه فيها إلى ما يدركه في آن آخر ولا يقول بوجود شيء البتة إذ حقيقة الأشياء على فرض وجودها معا لا طاقة للبشر عليها قال والمذهب الأول عند العرب يسمى مذهب العندية والمذهب الثاني العنادية قال: وقد ألحقوا بها مذهبا ثالثا ولكنه ليس من السوفسطائية في شيء وهو مذهب بيرون كان معاصرا للإسكندرية الرومي ذهب إلى الشك المطلق وهو الإمساك عن الجزم بشيء أحق هو أم باطل؟ ويسميه العرب بمذهب (اللا إرادية) .

وإليهم أشار نصير الدين الطوسي في حاشيته على المحصل (ص23) وذكر ما يقرب مما تقدم فلا تطيل فيه فهاهنا خرج أهل البحث من انحصار أفكارهم في الماء أو الهواء أو أجزاء المادة.

وبعبارة أخرى أن هذه الطبقة وهم السوفسطائية أشبه بالجنين خرج من بطن أمه: فإذا كان من قبلهم قد حبسوا في العناصر من ماء وهواء ونار وتراب أو في أجزاء تلك العناصر خرج هؤلاء من ذلك السجن المادي وقالوا: نحن لا نتقيد بقيد ما .

ثم قال: هذه هي فلسفة اليونان في أواخر دهرها الأول وهو منتصف القرن الرابع قبل المسيح: من التردد والارتباك بين مذاهب الطبيعيين، ومشاغبات السوفسطائية وأخذ يدحض هذا المذهب ومما قال .

وقد قيل: إن الشك يهدم نفسه وذكر حكاية (ديوجانس الكلي) أنه حضر مجلس بعض السوفسطائية فسمعه ينكر الحركة ويكثر البراهين على عدم وجودها فلم يجبه ديوجانس بحرف وأخذ يتمشى في المجلس ويضرب بعصاه الأرض إشعارا منه بأن مثل هذا القول المنكر للظاهر لا يحتاج في نقضه إلى بيان ثم نقل عن المتكلمين المسلمين في كتبهم أن هؤلاء الشاكين لا ينبغي مناظرتهم بل إحراقهم بالنار حتى يحسوها فيعرفوا ما كانوا ينكرون فيمكن التكلم معهم قاله الإمام الرازي في المحصل والشيخ التفتازاني في شرح العقيدة النسفية إن هنا ينتهي كلام الأستاذ سنتيلانه.

ثم إني هنا لابد لي أن أنقل لقراء المعرفة الصحيحة المعارف كلام الأستاذ سنتيلانه بنصه وفصه لأنه فيلسوف أوروبي ليكون ذلك زجرا لهؤلاء المتعلمين في الشرق الذين يرجع بعضهم من أوروبا وهم إما دهريون وإما طبيعيون وإما سوفسطائية وهم يجهلون ما عند أساتذتهم من العلم، فيرجعون وهم غافلون قال ما نصه بالحرف الواحد:

أما القول بالطبيعة وأن لا شيء غيرها لا يرضى العاقل المتبصر كأنه يقول: نعم لا أنازع في كون الطبيعة والحركة من أصل الموجودات وإنما توقفت في كيفية صدور الفعل منها فلو لم يكن هناك إلا مادة تتحرك نم الأبد إلى الأبد فمن أين حصل لهذا العالم النظام العجيب والترتيب الغريب الذي حارت فيه العقول وقصرت عن إدراكه الفحول؟ كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والمصادفة ومجرد البحث ليت شعري كيف بقيت على تآلفها وكيف تجددت على نمط واحد المرة بعد المرة وقد شهدت المعاينة بأن حركات أجزاء لا نهاية لها ولا محرك تفضي إلا إلى غاية الالتباس وعدم القياس؟

هذا لعمري كمثل من وضع حروف المعجم في ظرف أو صندوق ثم جعل يحركها يوما فيوما طمعا منه أنها تتألف من تلقاء نفسها فيتركب منها قصيدة بليغة أو رسالة عميقة في المنطق أو كتاب في الهندسة دقيق أليس هذا من السفه المبين؟

فإنه لو دام على تحريكها عميقة في المنطق أو كتاب في الهندسة دقيق أليس هذا من السفه المبين فإنه لو دام على تحريكها السنين والدهور ما حصل من كده إلا على حروف فكيف يتصور حدوث هذا الموجود بما هو عليه من الإتقان والإحكام وتطابق الأجزاء وعجيب مناسبة بعضها إلى بعض من حركات اتفاقية في خلاء لا نهاية له؟

قال أرسطو طاليس في كتاب سمع الكيان إن كل نظام يدل على وجود العقل وفضلا على هذا إن ما حصل اتفاقا لا يحصل إلا مرة واحدة ولا يتكرر ولا يسوغ بناء حكم عقلي عليه ولا يقبل القياسبخلاف ما شهدت به التجربة في عالمنا إلى الثبوب ولولا هذا ما أمكن إنشاء علم من العلوم الرياضية والطبيعية هذا وإذا فرضنا وجود مجرد الطبيعة ولا شيء سواها فمن أين هذه القوى العقلية التي يجدها كل واحد من نفسه وهي مع ما فيها من العجز والقصور من أظهر الشواهد على وجود ما يخالف مجرد المادة في هذا العالم ولا سبيل من المادة إلى الأفعال العقلية لما بينهما من المغابرة الأصلية فوجود مثل هذه القوى يستدعي وجود جوهر عقلي يجانسها ويماثلها ويكون مركزا لها ثم قال:

وهل من المحتمل أن ما نشعر به من تصور المعقولات والكشف عن الكيان وتفريق القضايا وتركيب القياسات لم يكن في نفس الأمر إلا من اضطكاك المادة بجزء آخر؟

وهل يسوغ في العقل أن ما تضمنته عقولنا من الأبحاث الدقيقة والمآخذ العميقة كالمنطق والرياضيات والإلهيات وما فتنت به القلوب من الشعر الرائق والمطرب من الألحان وسحر البيان أصله من تلك الأجزاء؟

هنالك سلم اليونانيون من هذه الحيرة فلا العناصر كالماء والهواء أصل الوجود ولا الجزء الذي لا يتجزأ ولا مذهب الشك أو العندية أو العنادية تغني فتيلا عن معرفة الحقائق.

عن مجلة المعرفة الجزء الثاني السنة الأولى

الصادرة في الأول من يونيه عام 1931

في الفلسفة العربية

جبلت النفوس على حب الاستطلاع وشغفت بالبحث عما تشاهده من مناظر بهجة ومحاسن باهرة، وشاقها ذلك القف المرفوع المزين بالنجوم المتلألئة المختلفة الأشكال الجميلة الألوان السارة للناظرين. ثم راعها ما على الأرض من زينة وجمال، ومن أنهار جاريات، وبحار واسعات ومعادن نافعات، ونبات متسق الأوراق بديع الأزهار، يانع الأثمار، زين الأرض بمحاسنه، وذوقها بأنيق بدائعه، وعاش به الإنسان والحيوان فكان منه غذائها ودواؤهما وبهجتهما، وأودعه من الغرام به والشهوة له ما ساقهما السعي والبحث عنه كل حين.

الحيوان مكتف بما لديه من غذاء حاضر وجلد قوي ووبر وشعر وصوف وأنياب محددة ومخالب قانصة وقوة جثمان وعدو سريع وإلهام يهدي إلى سبل المعاش.

أما الإنسان فإنه خلق عاريا كثير الحاجات، يسعى لغذائه وملبسه ومسكنه وتعليمه وسفره، فضعفه ظاهر، ووهنه حاضر.

لذلك اقتضت الحكمة أن يمتاز بالعقل فيسعى به لمآربه من الغذاء والدواء واللباس والمسكن والتعليم والتهذيب والمعاشرة ونظام الجمعية الإنسانية فما أكثر حاجة الإنسان وما أحوجه إلى العلم والمعرفة وما أقل حاجة الحيوان وما أحراه بالحرمان من معارف الإنسان.

إن النتائج تتبع المقدمات، والثمار على حسب النبات: فمن كفاءة غيره السعي والطب عاش خاملا ومات جاهلا، ومن قام بأمر نفسه وسعى لها سعيها أكسبها قوة وأنالها حرية كانت حرية بالإجلال والإعظام هذه هي المزية التي اختص بها الإنسان وبها سعادته ألا ترى أن كمال كل شيء فيما اختص به؟ فالفرس كماله في العدو السريع وأنه إذا عجز عن ذلك نزل إلى مرتبة الحمير وعومل معاملتها في الحمل والأعمال الخاصة بها هكذا السيف: كماله أن يكون صارما سريع القطع فإن نزل عن هذه الدرجة الرفيعة استعمل استعمال السكين ونبذه الشجعان وخرج من الميدان!

هكذا الإنسان: لم يمتز إلا بالعقل والعمل فإذا ما كان غافلا نزل إلى رتبة أدنى من الحيوان، أولئك كالأنعام بل هم أضل منها، لأنها كاملة في ذاتها لقيامها بما يناسبها فإذا انحط إليها الإنسان وشاركها في منازلها فهو في خسران مبين.

إن الفطرة الإنسانية شاهدة بما قلناه فإنه وإن نال الإنسان ما يبتغيه من المال وما يحب من الجاه ولا يفتأ يفرح بحلو الحديث وجمال العلم وتاريخ الفضلاء ويشتاق لذلك ويحرص عليه ولقد نرى أكثر الناس جهلا وأبعدهم عن العلم مجلسا إذا عيروا بالجهل عدوه إثما عظيما وناوءوا من عيرهم وشاكسوه ذلك لأ، فطرهم شاهدة أن كمالهم بالمعرفة ونقصهم بالجهل.

وترى الصبي يسأل أبويه عما حوله ليعرف أسباب الأشياء ومسبباتها كل ذلك شواهد ناقصة على ما قررناه وترى جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها من أي دين أو نحلة يجلون العظماء ويعظمون الحكماء وإن كانوا هم أنفسهم جاهلين لما ركز في طبائعهم ووقر في نفوسهم من شرف العلم وجماله واختصاصه بالإنسان.

تطابقت فطرة الإنسان وحاجته فكماله النفسي بالعلم وسعادته في الحياة بالعلم ونظر الإنسان فرأى في نفسه شهوات لأزمة وحاجات قائمة وعادات متراكمة فاحتال في تهذيبها وجد في تكميلها فكان علم الأخلاق ثم رأى زوجا وولدا وخدما فكانت سياسة المنزل ثم كان اجتماع أهل المدينة وكان لابد لهم من نظام وقوانين وأحكام فكانت سياسة المدنية.

قرأت الأمم العلوم الرياضية لتعرف السنين والحساب والمعاملات، ثم الطبيعة لتستخرج بها ما في الأرض من منافع ونظرت في العوالم فأقرت بالإه نظامها وحكيم أبدعها.

أهل المدنية كلما كانوا بالعلم مغرمين، وعلى الفضيلة عاكفين كملت مدنيتهم وازدادت سطوتهم وكلما غفلوا عن ذلك ساءت حالهم وبئس المصير.

وأقدم أمه عرفها التاريخي في الحكمة قدماء المصريين وهكذا السريانيون وقام على آثارهم الكلدانيون ثم الفرس واليونان وقد حمل الحكمة من هؤلاء أساطينها مثل سقراط وتلميذه أفلاطون وتلميذه أرسطو ولقد كان هذا أرسخهم في العلوم ولذلك يسمى المعلم الأول.

ولما أنقرض أمر اليونانيين وصار الأمر للقياصرة نالوا من حكمة اليونان حظا عظيما ونبغ فيهم نابغون مثل سنيكا وشيشرون ولما تنصروا وهجروا تلك العلوم بقيت كتبها في خزائنهم ثم جاء الإسلام وظهر أهله عليهم وامتد سلطانهم وعظمت شوكتهم ودانت لهم الأمم شرقا وغربا فاشرأبوا إلى ما نالته الأمم السابقة من روائع الحكمة وبدائع العلم والإحاطة بما في هذا الوجود على ما يقتضيه العمران ويتطلبه الملك وتعظم به الدول وكان خالد بن يزيد بن معاوية ويسمى حكيم آل مروان- رجلا فاضلا محبا للعوم فأحضر جماعة من الفلاسفة وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة وغيرها من اليوناني إلى العربي: وهذا أول نقل في الإسلام ولما نسخت الدولة العباسية الدولة الأموية ودانت لها البلاد واستتب الملك أرسل أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يرسل له كتب التعليم مترجمة فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات فقرأها المسلمون وفهموها وزادوا حرصا وشوقا إلى علوم الحكمة، كما روي منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال.

فلما كانت أيام المأمون وقد كان أشرب قلبه حب العلم وأغرم بالحكمة أرسل إلى ملك الروم في استخراج علوم اليونانيين واستنساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فترجموا منها الكثير وتلقاها النظار من أهل الإسلام بالقبول وعكفوا عليها ونبغوا في فنونها ولقد خالفوا المعلم الأول في كثير من المسائل وردوا عليه ودونوا في ذلك الدواوين وكثرت التأليف.

ثم إن العلماء الذين ترجموا الكتب للمأمون كحنين بن إسحاق وثابت بن قرة جاءت كتبهم متخالفة مخلوطة غير ملخصة ولا محررة، ولم توافق ترجمة واحد منهم الآخر، فبقيت إلى زمن منصور بن نوح الساماني فالتمس من أبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي المتوفى سنة 239هـ أن يجمع تلك التراجم ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة، فأجاب الفارابي وفعل كل ما تقتضيه وسمي كتابه بالتعليم الثاني فلذلك لقب بالعلم الثاني وبقي هذا في خزانة المنصور إلى زمن السلطان مسعود من حفدة منصور بن نوح.

وكانت تلك الخزانة بأصفهان وتسمى بصيوان الحكمة، وكان الشيخ أبو علي الحسين بن عبد الله ابن سينا الطبيب الفيلسوف المولود سنة 375 ه والمتوفى سنة 428ه (سنة 1036) وزير المسعود كان قد تقرب إليه بسبب الطب حتى استوزره وسلم إليه خزانة الكتب فأخذ الشيخ الحكمة من هذا الكتب ووجد بينها التعليم الثاني ولخص منها كتاب (الشفاء) ثم إن الخزانة أصابتها آفة فاحترقت، وقد اتهم بعض الناس الرئيس بأنه أحرق الكتب لئلا يطلع الناس على الحكمة التي نقل عنها وهذا باطل لما يرى في كتاب الشفاء من تصريحه بأنه تلخيص (التعليم الثاني).

ومن الحكماء في هذه الأمة أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف من أمراء بني كندة، وكان من المكرمين لدى الخلفاء من المأمون إلى المتوكل ولد سنة 240 في البصرة ثم سكن بغداد واشتغل بترجمة الكتب اليونانية إلى العربية وبتأليف كتب في الفلسفة والرياضيات والطب والهيئة والموسيقى وعدد مؤلفاته 265 وأكثرها ضائع الآن.

ومن المترجمون البطريق في أيام المنصور بن يحيي الذي نقل المجسطي وإقليدس للمأمون وحسين بن بهريق الذي فسر للمأمون عدة كتب، وكثير غيرهم: هؤلاء في المشرق أما في المغرب فكان القاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس، فهؤلاء نشروا كتبهم فارتقت الدولة واستبحر العمران حتى إذا تغير الزمان وقلب ظهر المجن وذهبت الدولة نادي ابن خلدون في مقدمته بالويل والثبور وقال: أيها الناس لا تغفلوا عن الصناعات والعلوم فقد ركدت ريح مدنيتكم وخر عليكم السقف من فوقكم فأصبحتم من الخامدين!

ولما افتتح الترك القسطنطينية وقد نالوا حظا وافرا من العلم حرم بعض علماء الدين كتب الحكمة على المسلمين فمالت شمس الحضارة هناك إلى الغرب ونادى عالمهم ملا كاتب جلبي المتوفى في القرن الحادي عشر الهجري بالويل والثبور وقال ما ملخصه: ولما حل أوان الانحطاط ركدت ريح العلوم، وتناقصت بسبب منع بعض المفتين من تدريس الفلسفة وسوقه إلى درس الهداية والأمل فاندرست العلوم بأسرها إلا قليلا من رسومها فكان المولى المذكور سببا لانقراض العلوم من الروم كما قال العلامة شهاب الدين الخفاجي في خبايا الزوايا وذلك من جملة أمارة انحطاط الدولة.

فانظر كيف شكا علماء العرب والترك قديما من الجهالة العمياء والداهية الدهماء الحالة بالأمم الإسلامية من ترك العلوم الفلسفية.

عن مجلة المعرفة الجزء الثالث السنة

الأولى – الأول من يوليو سنة 1931

من الشرق إلى الغرب

الإنسان نوع واحد من أب وأم فأصبح شعوبا وقبائل، فتكاثروا أفخاذا وعشائر لتزداد السعادة ويتم الهناء في الأمم والأفراد انتشروا في الأرض شرقا وغربا فكانوا شرقيين وغربيين الشرق أب والغرب ابنه، والأب يعطف على ابنه بدافع المحبة والولاء أما الديانات فكلها شرقية، إذ فيها البوذية والكونفوشيوسية، واليهودية، والنصرانية، والإسلام زحف من الغرب إلى الشرق اليونانيون والبطالسة والرومان من قبل وبعد ميلاد المسيح واقتسموا السلطة هم والفرس في الشرق الأدنى وهم غاصبون هنالك قال الأب لابنه: أيها الابن العزيز، لئن رميتني بحجر لأرمينك بالتمر.

لا تخرجن من دار أبيك إلا بعد أن أهديك الصراط المستقيم وهل ذلك غلا قول المسيح عليه السلام اعبدوا الله أيها الأبناء، وأفشوا في الأرض السلام لا سلاح لا قتال، لا جدال، كونوا عباد الله إخوانا؟

وهل سبب ذلك إلا أنه رآهم يعبدون غير الله؟

فاليونان والرومان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام والفرنسيون كانت تشبه عبادتهم عبادة أهل الهند الوثنيين والإنجليز كانوا يسجدون للصخور والحجارة ولمنابع المياه فأما أستوريا (النمسا) وبروسيا (ألمانيا) والروسيا وإسبانيا والبرتغال وهولندة والدانمارك والسويد والنرويج وسويسرا فإن دينهم القديم دين من ذكرناهم أولا حذو القذة بالقذة فلما رآهم على هذه الحال دعاهم إلى عبادة الله وإلى السلام فدخلوا في الدين المسيحي أفواجا: ففرنسا سنة 496 وإيطاليا سنة 500م، وانجلترا سنة 596م، ويقرب من هؤلاء في التاريخ الإسبانيون والنمساويون والبرتغال إلى آخر من ذكرنا ما عدا دولة الروسيا فإنها لم تدخل إلى في نحو القرن العاشر الميلادي ولكن لما دخلوا المسيحية لم يعملوا بما علمه المسيح من السلام العام .

إذ فقوا في الشرق وازداد ظلم الرومان للشرقيين فمم كان هذا؟ ظهر نبي عربي في صحراء قاحلة وقال كما قال المسيح:

أفشوا السلام، وأديموا الصيام، وصلوا بالليل والناس نيام- تدخلوا جنة ربكم بسلام. ودعاكم إلى الإسلام والسلام العام، واستعمل السيف عند الحاجة بشروط خاصة لأن المسيح قبله لم يخضد من شوكتهم، ولم يعملوا بنصائحه في السلام، ليتركوا الشرق للشرقيين الذين هم أساتذة لهم معلمون.

لم تمض على امتشاق الحسام الإسلامي عشرون سنة حتى عادت المياه إلى مجاريها وتركوا الشرق إل أهله إذن الإسلام قد أتم ما ابتدأته المسيحية بسلام أهل الأرض فسلام المسيح عقائد وسلام الإسلام عقائد وأعمال هنالك أخذ النور يمتد في الشرق والظلام يعم في الغرب واستبد البابوية الرومانيون وقتلوا وأحرقوا بالنار ألوف وأذلوا ملوكهم وأذاقوهم سوء العذاب قال المسيح لهم: طوبى للرحماء فإنهم يرحمون) (طوبى لصانعي السلام فإنهم أحباب الله يدعون) فخالفوا قوله:

ففي سنة 782م قبض شرلمان بإيعاذ إينوشسيون الحبر الروماني على أربعة آلاف سكسوني في مدينة (واردن) وضرب أعناقهم في يوم واحد لأنهم أبوا قبول العماد وفي سنة 1007م أحرق في مدينة أورليا جملة هراطقة وهم أحياء، وتبع ذلك كثير من القتل والإحراق في سنة 1124م وسنة 1155 م حتى عم الظلم والإهلاك والتدمير وأسس ديوان التفتيش في سنة 1182 م وصادق عليه البابا إينوشنسيوس الثالث وثبته البابا (غريغوريوس) وتسمل (دومينيكوس) ورهبان إدارته وسودوا صفحات التاريخ بإحراق وقتل الملايين من الناس.

هناك ساقتهم العناية الإلهية إلى الشرق كما ساقتهم في المرة الأولى التي فيها اعتنقوا دين المسيح، لأن في الشرق نورا إسلاميا متى أشرق على ربوعهم قل ذلك الظلام إن الله هو الذي رحمهم بانبعاث نفوس رجال الدين إلى إغرائهم على أهل الشرق بحجة المدافعة عن الأماكن المقدسة، فآثروا الحروب الصليبية ودام الصراع نحو 200 سنة، فرجعوا يحملون في صدورهم نور العلم والإصلاح، والحرية والإخاء بسبب معاشرة أهل الإسلام فلم يملكوا الأماكن المقدسة ولا بلاد الشرق ولكن ملكوا ناحية السيادة وانتزعوها من رجال الدين الذين أغروهم بمحاربة الشرقيين فكانت الهزيمة لأولئك الباباوات الذين هم في الحقيقة الجانون على الدين لا الشرقيون.

ورجال الدين أرادوا الانتقام من الشرق بلا حجة فأراد الله انتقاص سلطتهم بالعدل فكان الإغراء بالانتقام راجعا إليهم (إن ربي على صراط مستقيم).

فهل ظهر فيهم لوثر المصلح العظيم وفولتير وروسو، وأضرابهم إلا بعد اطلاعهم على كتب منقولة في تعاليم الإسلام (وأمرهم شورى بينهم) ألم يقل سديو الفرنسي في كتابه (تاريخ العرب) إن اللاتينيين استمدوا العلوم الفلكية الأولية من العرب فإن جوبرت الذي كان بابا رومية الملقب بسلوستور الثاني أدخل من سنة 970م إلى سنة 980م عند الإفرنج العلوم الرياضية التي كسبها عن عرب إسبانيا وادهيلارد الإنجليزي ساح من سنة 1110- 1120 في كل من إسبانيا ومصر وترجم مبادئ إقليدس من العربية بعد أن ترجمها العرب من اليونانية وهكذا سارت أمم أوربا وعلماؤها مثل الخواجا رودلف من أهل بروجس البلجيكية إذ ترجم مسائل بطليموس في الفلك وبتليون البولندي ترجم كتاب (الخازي) في علم (الضوء والمناظر) وهكذا كثير وكثير جدا.

هكذا هم أولاء اليوم رجعوا مرة ثالثة إلى الشرق بلا حجة إلا اهتضام حقوقه، وإذلال الشرقيين قبلوا مسيحيتنا منذ 14 قرنا، ففي نصفها الأول لم يحسنوا استعمالها فكانوا بها قوما مستعبدين، وأذلهم رجال الدين وفي نصفها الآخر أشرقت عليهم أنوار إسلاميتنا فساروا إلى الأمام نحن الآباء وهم الأبناء بعلومنا ودياناتنا ارتقوا فهل نصيب الأب من ابنه أن تكون الخيانة، والوصاية الجاهلة، والجشع الغشوم والاستبداد والاستعمار؟

أغضبتم الإنسانية أيها الغربيون (إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد) (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) وما مثلكم في ذلك إلا كمثل النمل، إذ تحارب جيوشه أنواعا أخرى منه، ويعيش الغالبون من ثمرات كد المغلوبين فينقرض الغالبون لكسلهم على مدى الزمان فأنتم في ذلك كالنمل أو كدولة الرومان.

ها نحن أولاء أخذنا نوازن بيننا أيام عظيمة ملكنا وبينكم في أيامنا هذه فألفينا عهودنا مع الضعفاء محفوظة فأما أنتم فلا عهد لكم مع الضعفاء.

فهاكم أيها الأبناء ما جاء في كتاب أشهر مشاهير الإسلام تحت عنوان جندي سابور .

روي الطبري أن أبا حبرة لما فرغ من السوس خرج من جنده حتى نزل على جني سابور وزر ابن عبد الله بن كلي فحاصرهم فأقاموا عليها يغادونهم ويراوحونهم القتال فلم يفاجئهم يوما إلا وأبواب البلد تفتح ثم خرج الناس وخرج من في الأسواق فأنبث أهلها، فحار المسلمون في ذلك وأرسلوا فسألوهم أن مالكم؟ قالوا رميتم إلينا بالأمان وأقررنا لكم بالجزية، على أن تمنعونا، فقال المسلمون:ما فعلنا فقال أهل جندي سابور ونحن ما كذبنا فسأل المسلمون فيما بينهم إذا عبد يسمى مكنيفا كان أصله منها هو الذي كتب لهم فقالوا: إنما هو عبد فقالوا: إنا لا نعرف حركم من عبدكم، فقد جاءنا أمان، فنحن عليه قد بلنا ولم نبدل فإن شئتم فاغدروا، فأمسكوا عنهم وكتبوا بذلك إلى عمر فكتب إليهم: (إن الله عظم الوفاء، فلا تكونوا أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شك أجيروهم وأوفوا لهم، فوفوا لهم وانصرفوا عنهم).

أليس هذا تاريخنا وتاريخكم، وفينا بعهد عبد لنا، ولم تفوا بعهود أقطاب سياستكم، إذن عالم الإنسان اليوم مجرم كذاب.

أيها الإخوة الغربيون الدهر قلب وتلك الأيام نداولها بين الناس والشرق هو الشرق وقديما هجمت عليكم أمم قبل التاريخ المسيحي فأهلكوا الحرث والنسل ثم أعادوا الكرة منذ نحو سبعة قرون ولا يزال أعقاب التتار في بلاد النمسا إلى الآن، وها هم أولاء التتار المسمون في قلب روسيا المسيحية أليس هؤلاء أمما شرقية حذار، حذار أيها الغربيون، إن فلاسفتكم، وكبار علمائكم- يعلمون أن عملكم عاقبته خسران لكم، ولكنكم لا تحبون الناصحين، لأن العامة يسوقون نوابكم إلى مزاولة الشهوات الحاضرة الزائلة، وأعينهم في غطاء، والجهل يطمس على أبصارهم فلا يدركون سر العواقب فهل ترضون أيها السواس أن تكونوا أسرى العامة تابعين لأهوائهم. ألا ساء ما تفعلون شر الشرق أبدى ناجذيه لكم آن وقت الحساب واستيقظ الشرق فهو كزرع دفن تحت الثلج ثم أرسلت الشمس أشعتها فذاب فأسرع الزرع في نمائه.

احذروا غضبة الشرقيين، اليابان والصين والهند والترك والفرس والعرب والأفغان مع هؤلاء روسيا كلهم متحفزون أفلا تنظروا فياليت شعري من ذا الذي يصد ناموس النشوء والارتقاء عن مجراه؟ ألكم قدرة على إيقاف الشمس عن مجراها، أو الهواء عن مسراه؟ إذا خطر لكم ذلك فأهون به خاطرا وما أضل هواه.

مجلة المعرفة الجزء الرابع، السنة

الأولى – الأول من أغسطس سنة 1931

القضاء والقدر

لهج الناس في كل زمان ومكان بذكر القضاء والقدر ويقولون: إن الله يقول إنا كل شيء خلقناه بقدر وإذا كان كذلك فلم العذاب؟ ولم العقاب والعتاب؟ ثم إنه رحمان رحيم، فأين الرحمة للمعذبين؟ وأين السعادة للمظلومين ولمن هم في عذاب الجحيم؟

هذه حال الإنسان على أي ملة كان وأي دين في مشارق الأرض ومغاربها حيرة لا حد لمداها، وأسئلة لا جواب عنها إلا من أناس صفت نفوسهم وعلت عقولهم فيكون نوع الإنسان أشبه بالعين.

هذه صورة منطبقة على أهل هذه الأرض أجمعين، فهاك أيها الذكي فاستمع ما ألقيه الساعة إليك بقلب صاف ونفس واعية، تدبر فإنه لهذا الداء دواء ولمرض الحيرة في القلب شفاء وكن من المستبصرين.

لأضرب لك أولا مثلا برجل مهندس عبقري في الهندسة عزم على أن يبني بيتا وهو بأنواع البيوت عليم ففكر في صرها بعقله وانتزع منها صورها في نفسه واصطفاها لمسكنه، ثم رسم ما اختاره وبناه وشاده على أحسن منوال وأجمل مثال وفي البيت فرش مرفوعة وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، وعلى حيطانه أنواع الصور المختلفة الأشكال، البديعة الجمال، ويحيط به بستان تقر به عيون الناظرين، ويسر بمرآه جمهور الزائرين فدخل البيت زائرون منهم العمياء ومنهم المبصرون ولما كان هذا المهندس كريم الشيم ترك للزائرين الحرية أن يدوروا في البيت كما يشاءون ويتفرجوا بفرشي ونمارقه وأشجاره وهم آمنون.

فانطلق أحد العميان في المنزل فاصطدم في أرض الحجرات والأرائك فخر على الأرض كالصريع وما كاد يقف حتى لطمته رجله في المرحاض فقعد زينا كئيبا وأخذ يقول: إن رب هذا البيت رجل عظيم ورحيم فكيف خاب ظني فيه؟ فأين الهندسة والنظام، وأين الكرم والرحمة للزائرين؟

ولم يزل كذلك حتى جاءه رجل مبصر، فأخذ يشرح له دقائق البيت وما فيه من الجمال وحسن الإتقان ففرح أشد الفرح وقال: هذا هو النظام وهذه هي الرحمة والإحسان.

هذا أيها الذكي هو المثل الذي ضربته لبيان هذا المقام.

إن علم المهندس بنظام البيوت واصطفاءه منها واحدا هو أجملها ضرب مثل للقضاء: فالقضاء راجع لما ثبت في العلم القديم للمكونات وإبراز البيت على ما قدوه المهندس في نفسه على أحسن منوال ضرب مثل للقدر لأنه راجع لظهور المخلوقات على ما سبق به العلم القديم.

والعميان ضرب مثل لجميع الجهلاء على أي دين كانوا، ولطائفة الملحدين والمتعلمين تعليما ناقصا في مدارس الشرق والغرب أجمعين.

والمبصرون ضرب مثل لأناس جادت قرائحهم وزكت نفوسهم واشتد شوقهم للعلم والبحث، فلم يكونوا كأولئك العميان يهرفون بمالا يعرفون.

فدرسوا هذه الدنيا دراسة متقنة من الرياضيات والفلك والطبيعيات وأدركوا بصفاء عقولهم جمالها وبهاءها ثم رجعوا إلى إخوانهم وأخذوا يخاطبونهم بما يفهمون ويكلمونهم بما يعقلون وسعدوا سعادة لا حد لمداها وكانوا من الفائزين وهؤلاء يقال لهم (يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) فإذا سمعوهم يتحدثون في القضاء والقدر يخاطبونهم قائلين: أيها الأعزاء ليس لامرئ أن يقصر في عمله محتجا بالقضاء فتلك حجة الكسالى الغافلين فإذا ما أتمه على حقيقة واجتاحته الجوائح فهنالك يقول: القضاء سلوة المنكوبين وراحة البائسين.

إن هذه المسألة ليست بنت اليوم، ألم تروا كيف يقول الله حكاية عن كفار العرب أيام النبوة: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) فرد الله عليهم مهددا بالوعيد فقال: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين).

ونقول: كما قامت حجة المهندس رب البيت على الأعمى: هكذا تقوم حجة الله على من يخوضون في القضاء والقدر وهم جاهلون.

إن الأمم التي فتحت على نفسها باب القضاء والقدر هي التي استعدت للفناء وباءت بالوبال ونسيت عقولها وعدتها حملا ثقيلا عليها لأنها على الشهوات عاكفون وفي غمرة الجهالة ساهون وكيف يفتحون هذا الباب وهم يجهلون؟ وأنى للعميان أن يدركوا محاسن الجمال في الفتيات والفتيان؟

إن المسلم الذي شغله القضاء والقدر وهو بعد لم يدرس نظام الدنيا وعلومها لحري به أن يبوء بالخسران فهذه الطائفة في الدين أشبه بأولئك الذين يجلسون في أماكن الشراب العامة ببلادنا المصر ية، ويدور كلامهم على سياسة الدول وأسرارها وهم يجهلون سياسة منازلهم وأمتهم فهم في ذلك مغرورون.

إن الناس ثلاث طبقات: عامة مصدقون، وحكماء محققون، ومتوسطون بين هذين مذبذبون متحيرون: فالفريقان الأولان مطمئنون والفريق الثالث جعلته حيرته مهازا يسوقه إلى البحث فإذا قصر فهو في ضلال مبين.

وكيف يخوض في القضاء والقدر من يجهل تشريح جسمه وبدائع تركيبه، وأن فيكل عين من عينيه سبع طبقات وثلاث رطوبات وهي الطبقات السبع: طبقة تسمى الشبكية وهي لا تزيد في سمكها على سمك ورقة الكتابة وهذه حدها فيها ثلاثة ملايين مخروط وثلاثون مليون أسطوانة وهذه كلها مبينة بالتصوير الشمسي واضحة وبهذه الملايين يكون الإحساس والنظر؟

بعد كتابة ما تقد في هذا المقال وجه إلى أحد الأصدقاء اعتراضا جاء فيه ما يأتي:

إن هناك فرقا بين المثلى والممثل له فإن المهندس رب البيت ليس مسئولا عن العمى فليس من حق الأعمى الذي حصل له الألم بشج رأسه أن يقول له: لم كنت أعمى؟ لأن المهندس لا سلطان له على عين الأعمى ولكن الممثل له غير ذلك فإن الذي أصبح متشككا متحيرا هو نفسه من صنع الله وإذن فالإشكال باق والمسألة على حالها والمثال لا يجدينا نفعا فأمن الحاضرون على كلامه وسكت قليلا ثم تبسمت وقلت: لا إشكال لا إشكال فقال الحاضرون أين أين البرهان .

فقلت: هناك أسرتان أسرة كبيرة وهي نوع الإنسان، وأسرة صغيرة وهي المعروفة ألستم ترون في الأسرة الصغيرة أن صاحب المنزل هو الذي يديره وأن الخدم لا اعتراض لهم عليه في الغالب وأن أطفاله لا يفقهون شيئا مما يفعل أبوهم إلا بالتدريج .

قالوا: نعم قلت: فهل وجود الأطفال مع جهلهم المطبق بنظام المنزل يعتبر عند العقلاء خللا وظلما؟ قالوا كلا بل الأطفال نعمة وعدم وجودهم يعتبر نقمة .

فقلت: إن العامة في العالم الإنساني يمثل لهم بالخدم لأنهم يعملون ولا يفكرون إلا قليلا وأما رب البيت فهو ضرب مثل بصانع العالم، وأما الأطفال فيمثل لهم بالطبقة الوسطى من المتعلمين الذين ارتقوا عن العامة قليلا وفكروا في نظام هذه الدنيا فهؤلاء أطفال الإنسانية والأطفال خلقوا ليجلسوا محل آبائهم والمتعلمون نصف تعليم هم حكماء الأمم، فهؤلاء إذا أحسوا بحيرة فهذه الحيرة نعمة لا نقمة لأنها تدفعهم إلى استيعاب العلوم، فإذا كسلوا وناموا كما هي الحال عند كثر من المتعلمين الحاليين فإنهم لا جرم يحيون حياة كلها اضطراب ويرجعون القهقري وتكون الشهوات سلوتهم الوحيدة وهذا هو السر في تأخر بعض أمم الشرق التي كثر العلم فيها ولكن لا استقلال لها لأن الرجال القائمين بأمرهم يبنون حياتهم على أساس علمي غير مكين فهل وجود أطفال الأمم خلل في النظام قالوا: كلا لأنهم يبحثون عن الحقائق كأطفالنا قلت: إذن العميان في مثل المهندس رب البيت ضرب مثل لهؤلاء باعتبار نقصهم وخلق الناقص المستعد للكمال حالا أو مآلا عدل وحكمة وكمال فقالوا: نعم فقلت: الحمد لله إذ عرفتم الحقيقة.

مجلة المعرفة الجزء السابع

السنة الأولى شهر نوفمبر عام 1931

ص 873- 875

في الخلافة الإسلامية

مبحث الخلافة الإسلامية مبحث مهم من المباحث العلمية الإسلامية وكل علم لا يعرف الناس أدوار تاريخه، إنما هو في دراستهم له وأحكامهم فيه أشبه شيء بمن يبني بيته على شفا جرف هار، أو بمن يستسمن ذا ورم وينفخ في غير ضرم!

إن الخلافة الإسلامية في الأعصر الغابرة قامت بدور عظيم مهم وشغلت أمم الإسلام قاطبة، وتفرقوا فيها فرقا شتى وأحزابا متباينة، وينشأ الناشئون من الأبناء على ما عودهم الآباء:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

وكل حزب بما لديه فرحون، وهل يتسنى لطفل تربى على مذهب خاص في أمر الخلافة أن يكفر في القرآن وفي الإجماع؟ بل يظل على عقيدته حافظا لطريقته لا يتعداها، جامدا عليها لا يتخطاها إن أكثر نوع الإنسان في الأرض مقلدون، جمدت القرائح وتعارضت الظنون ووقفت الحركة العلمية الاصطلاحية في جميع الشئون حتى إذا قرعت القارعة وأصابت الصاعقة، وأحاطت بنا الأمم وهم من كل حدب ينسلون أذاقونا سوء العذاب ونحن غافلون فتعالوا أيها المسلمون أنثر عليكم نبأ الخلافة وأبدي رأيا مجملا يقبل التفصيل والتحوير.

إن أمر الخلافة لن يستقر قراره ويتم الرأي فيه إلا بالبحث في أحوال الخلفاء والسابقين والوقوف على أعمالهم حتى تستنتج نتائج منها، ثم نعتبر بما فعله أسلافنا، ونبني على ذلك الأساس عملا بقوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وقوله تعالى (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهو لا يسمعون).

إن الخلافة إذا كانت مقيدة بالشورى موجهة للمصلحة العامة بإخلاص تصبح خدمة عامة لا ينتطح في أمرها عنزان، ولا يرثها الأبناء عن الآباء فإن كانت غير ذلك كانت أداة سوء تنقلب في أيدي الجهال وتأبى أن ينالها الأبطال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه أبو بكر فعمر فعثمان فعلي رضي الله عنه درسنا مجمل أخلاق الخلفاء الراشدين، فلم نجد أبا بكر وصي بها لابنه، واستنكر عمر قول من طلبها لابنه عبد الله ثم لم نر أحدا منهم استكثر من الأموال واتبع الشهوات ذلك شأني الخلافة في الإسلام إن أمر الخلافة شورى بين المسلمين (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم) هذا هو الصراط المستقيم.

مضى عصر الراشدين، وتولاها الأمويون وأولهم معاوية فاستبدوا بالأمر فقاومهم بنو هاشم ففتك بهم الأمويون فتكا ذريعا ثم اشتد العباسيون والعلويون في مقاومة الأمويين، وساعدهم شيعتهم الفارسيون وبطلبهم أبو مسلم الخراساني وأكثروا من موضوعات الأحاديث وما كاد الأمر يتم للعباسيين حتى قلبوا ظهر المجن للعلويين وفتكوا بهم فتكا ذريعًا، وقتل المنصور محمد بن عبد الله، وهو الخليفة الحقيقي صاحب البيعة الصحيحة.

هنالك أصبح الخليفة العباسي بعد تشريد الأمويين يقتل العلويين باليمن وأبناء عمه العباسين بالشمال ل كثيرا ما كانوا يقتلون شيعتهم غدرا كأبي مسلم الخراساني وجعفر البرمكي وغيرهما كثير ولقد تغالى العباسيون في إذلال العرب كما تغالى بنو أمية في إعلاء شأنهم على غيرهم وما قاله إبراهيم الإمام لا يرده مسلم (من ترددت في أمره فاقتله) وحرضه على قتل العرب فقتل منهم 600 ألف رجل غدرا وهم آمنون. مات الرشيد وخلفه الأمين والمأمون وأم الأول عربية وأم الآخر فارسية فنصر الفرس ابن أختهم وشردوا العرب كل مشرد وأذلوهم ومنعهم المعتصم العطاء ولما كانت أم المعتصم تركية من بلاد الصغد أصبح مغرما بالترك غير واثق بالعرب ولا بالفرس أجمعين.

هنالك أصبحت الخلافة في العباسيين اسما بلا مسمى وتنازع القواد من غير العرب الرياسة وصار الخلفاء آلات صماء في أيديهم فقتلوا منهم 38 من 59 وسملوا أعين بعضهم حتى زالت الدولة على أيدي التتار، وكل ما حصل للعباسيين تم نظيره في الأندلس وقد كانوا يستغيثون بجيرانهم من الأسبان على إخوانهم فيهلك الفريقان، فربما كانوا يقتلون المستجير بهم غدرا كما حصل لجندل بن حمود أمير أشبيلية إذ وعده البابا ودوق فينزيا وبعض دوقات أوربا أن يكون ملك الأندلس كلها إذا ساعدهم على فتح قرطبة، فبر بوعده لهم فقتلوه غدرا وخربوا أشبيلية، وهذه شذرة من تاريخ الخلافة وما يتبعها من الإمارات في الإسلام وكان ذلك كله عقابا على ترك الشورى المنصوص عليها في القرآن والذي أراه:

أولا: أنه يجب على كل أمة عربية أو غير عربية أن تمنح التعليم للذكور والإناث بقدر الإمكان.

ثانيا: يجتمع أمراء الإسلام المفوضون من أممهم في أمر الخلافة، لينتخبوا أميرا منهم لها، على شريطة ألا يبرم أمرا إلا بمشورتهم من صلح أو حر أو غيرهما كما يفعل الخلفاء.

ثالثا: أن يكون الانتخاب لسنين محدودة أو لمدة الحياة فإذا انتقضت المدة في الحال الأولى أو مات في الأخرى فلينتخبوا سواه بالشورى فإذا أعيد انتخابه في الحالة الأولى قلد ذلك.

رابعا: يجب أن يراعى في الخليفة أمران مهمان وهما: (1) أن يكون جيشه أقوى جيوش الأمراء

(2) – أن يكون أهل مملكته أعم من سائر الأمصار، ولا يكون للنسب فضل إلا في الترجيح إذا تعارض أميران واستوفيا ما ذكرناه ونستأنس للشرطين المذكورين بقوله تعالى (وزاده بسطة في العلم والجسم)

خامسا: كل أمير تسيطر عليه دولة أجنبية لا حق له في تولي أمر الخلافة لأن رأيه تابع لرأي من فوقه وهذا ضار بالمسلمين.

سادسا: إذا تعذر الاجتماع في هذا الزمان لضعف أو افتراق كلمة فليتربص المسلمون الوقت المناسب. فأما الخلافة الضعيفة التي يتولاها من لا يجوز هذه الثقة فما هي إلا شبكة صائدين وحيلة محتالين فهل المسلمون عقار يتناوله الأبناء عن الآباء؟ كلا إنهم خير أمة أخرجت للناس، وهم شهداء عليهم فليكونوا بالأولى لخلفائهم مصطفين ولهم مشيرين، وعلى أعمالهم شاهدين ولاعوجاجهم مقومين.

هذا ما أراه في شأن الخلافة وفوق كل ذي علم عليم.

مجلة المعرفة الجزء التاسع

السنة الأولى – الأول من يناير عام 1932

العلوم الرياضية عند قدماء المصر يين: هل هي خيالية من السحر

قرأت ما كتبه الأستاذ أحمد فؤاد الأهواني مدرس الفلسفة بالمدرسة الأميرية في مجلة (المعرفة) عدد شهر يونيو سنة 1932 تحت عنوان (فلسفة العلوم الرياضية) وقد راقني هذا المبحث الجليل وحفزني إلى كتابة هذا المقال:

إن معرفة تاريخ العلم لها أكبر الأثر في الأمم، وكل علم جهل تاريخه عند قارئه فهو أبتر لا يوري نارًا، ولا ينفع جارا، ولا يدفع عارًا، فلله در من يفتحون هذا الباب للأمة المصر ية كالأستاذ الأهواني ولكني لما قرأت في هذا المقال ما ملخصه: إن المصر يين أول من تكلموا عن الرياضة، بصفة وصفية علمية وإن رياضتهم كانت خالية خلو تاما من النظرة السحرية التي طغت على عقل الإنسان الأول كالأمة الإغريقية التي كانت مملوءة بالأفكار السحرية عن الأعداد أقول.

لما قرأت ذلك تذكرت أن أستاذنا المرحوم علي مبارك باشا مؤلف كتاب خواص الأعداد قد أثبت أن قدماء المصر يين كانوا يستعملون الأعداد في السحر فإذا كان الأستاذ الأهواني قد أثبتي أن قدماء المصر يين كانوا يستعملون الأعداد في السحر فإذا كان الأستاذ الأهواني قد أثبت ذلك عند غير قدماء المصر يين فها هو ذا مبارك باشا أكمل حلقة الأمم القديمة بالمصر يين ويقول: هم بالأعداد ساحرون كتابه (خواص الأعداد) المذكور مملوء بالجمال العلمي والمباحث العالية الشريفة، وقد قال في أول الكتاب: إن تلك المباحث أطلع عليها من الكتب الفرنسية وإن فيها كثيرا من خواص الأعداد وعلم الأوفاق وهذا بيت القصيد في مقالنا إنه يقول إن الجدول الوفقي عبارة عن مربع مقسم إلى عدة مربعات صغيرة متساوية تشتمل على حدود متوالية هندسية أو عددية من داخلها موضوعة على وجه بحيث يكون مجموع أعداد كل صف من الصفوف الأفقية أو الرأسية واحدا وكذلك فيما إذا جمعت أعداد كل صف من الصفوف المار بها قطر المربع الأكبر وفيما إذا كانت أعداد المربعات حدودا متوالية عددية، ومثاله هذا الجدول:

مسلسل 1 2 3 4 5
1 11 24 7 20 3
2 4 12 25 8 16
3 17 5 13 21 9
4 10 18 1 14 22
5 23 6 19 2 15

هذا جدول وفقي مركب من خانات فردية عددها 25، وما في داخلها من الأعداد هو 1، 2، 3، 4، 5وهكذا إلى 25، موضوع على الوجه المذكور في التعريف بحيث لو جمع كل صف من صفوفه الرأسية أو الأفقية أو الصفين المار بهما قطرا لمربع الأكبر لكان حاصل جمعه مساويا حاصل جمع أي صف من تلك الصفوف التي مجموع كل منها 65 وخاصية هذا الجدول الوفقي الفردي هي أن حاصل جمع أيصف من صفوفه أو صف أو قطر من قطريه مساو حاصل ضرب جذر عدد الخانات وهو 25 ف عدد 13 الذي هو وسط المتوالية والذي في مربع تقاطع قطري هذا الجدول أي في الخانة الوسطى منه فإن جذر 25 هو 5 وبضربها في 3 يتحصل 65 وهو مجموع أي صف كما سبق وهكذا أخذ المؤلف يضع أوفاقا على هذا النمط ثلاثية ورباعية وخماسية على تساعية إلى أن قال في صفحة 56 ما نصه:

هذه الجداول التي كان يعتني بها المصر يون ومن أخذ عنهم مثل فيثاغورس وجماعته إنما سميت بجداول الأوفاق لنسبهم لها إلى الكواكب السبعة فإنهم كانوا يجعلون الجداول المذكورة فيصور مختلفة وكانوا ينقشونها على صفائح من المعدن المؤتلف مع الكواكب وكانوا يجعلون جدول الوفق المذكور على شكل كثير الأضلاع منتظم مرسوم داخل دائرة عدد أضلاعه بقدر ما يشتمل عليه ضلع المربع من الوحدة كذا ومكتوب عليه أسماء الملائكة الموكلين بالكواكب ومرسومة عليه أيضا فيما بين أضلاع الشكل ومحيط الدائرة إشارات منطقة البروج، وكانوا يزعمون أنه ينفع من يحمله معه.

وكيفية انتساب تلك الجداول إلى الكواكب هي أنهم كانوا يجعلون لزحل المربع المنقسم إلى تسع خانات جذر عددها 3، ومجموع أعداد صفه 15، وإلى المشترى المربع المكون من 16 خانة وضلعه 5 ومجموع أرقام صفحة 65 خانة، وإلى الشمس المربع المكون من36 خانة وضلعه 6 ومجموع أعداد صفه 111 وغلى الزهرة المربع المشتمل على 49 خانة وضلعه 7 ومجموع أعداد صفه 175 وإلى عطارد المربع المشتمل على 64 خانة وضلعه 8 ومجموع أعداد صفه 260 وإلى القمر المربع المشتمل على 81 خانة وضلعه 9 ومجموع أعداد صفه 369.

وأخيرا كانوا يجعلون للمادة الأولى المربع المشتمل على أربع خانات وضلعه 2، ولله الواحد الأحد المربع المكون من خانة واحده وضلعه واحد، بحيث إنه لو ضرب في نفسه لا يتغير أبدا ثم أخذ يبين أن هذه الأوفاق التي كانت موضوعة لسحر عند هذه الأمم أصبحت الآن موضوعة لورق لعب الميسر عند الأوربيين وأطال في ذلك بما لا محصل لذكره.

هذا ما أردت أن أبينه لقراء المعرفة من هذا الكتاب الجليل المنقول عن الفرنسية ومنه نتبين أن المصر يين أصابهم ما أصابهم من أصاب غيرهم من جعل الأوفاق البديعة الجميلة الدالة على جمال العقل الإنساني قد استهوت عقول أمم وأمم إلى التنزل بهذا الجمال البديع من أفقه العالي ومقامه السامي في مناطق العقل الإنساني إلى دركات الجهل والاستجداء وطلب المعونة من الكواكب تارة عند قدماء المصر يين وغيرهم من الجن وغيرهم عند كثير من رعاع المتعلمين في الديار الإسلامية.

إن عدوي التطور سريعة سرت من الأمم القديمة إلى الأمم الحديثة وقد حلت هذه الجهالة بساحة الأم الإسلامية وسرت إليها ألم تر إلى الباطنية في العصور الأولى قبل ظهور حسن بن الصباح قلعة الموت هناك كيف كانوا يجعلون للأوفاق المذكورة سلطانا على تابعيهم.

ويقولون إن المثلث الذي تراه أمامك له اثر فعال في وضع الحامل وغير ذلك؟ وقام أبو حامد الغزالي وفند آرائهم في إنكار بعض فضائل الشريعة الإسلامية واحتج عليهم بأن هذا المثل على ما تزعمون وتقولون إنه نافع فما المناسبة بين هذه الأعداد وين وضع الحامل؟ وإذا كنتم تجهلون ذلك الذي تزعمونه باطلا فكيف تعرفون المناسبة بين الصلاة وبين نجاة الروح يوم القيام؟ (انظر شكل المثلث في كتابه الرد على الباطنية)

المسلسل 1 2 3
1 2 9 4
2 7 5 3
3 6 1 8

إن هذه الخرافات التي حلت بساحة عقول الأمم القديمة كالمصر يين حلت بساحة الأمم الإسلامية ولا تزال عالقة بأذهان صغار المتعلمين إلى الآن وكتبها التي تداولها الناس منتشرة انتشارا مزعجا موقفه عقول كثير من صغار المتعلمين فيجب محوها من أمم الإسلام كشمس المعارف الكبرى للبوني وغيرها.

هذا ما كان عند الفاطميين كما قلنا أيام حسن بن الصباح في القرني الخامس الهجري أما هو فإنه حرم العلم على الخواص وأمرهم باتباعه وهو وخلفائه ومنهم أغاممنون بالهند اليوم ويتبعه ثلاثة ملايين من النفوس .. إذن فالقدماء استعملوا طريقتين في تحذير الأمم:

الطريقة الأولى: طريقة السحر المتقدم التي تجعل الإنسان متكلا على شيء خيالي فيعيش خاضعا لرئيسه بلا عقل ولا هدى ولا كتاب منير.

الطريقة الأخرى: أن يقول المتبوعون للتابعين لا تقرءوا العلم، وإن العلم حجاب بين الله والناس. والطريقتان معًا لا تزالان في أمم الإسلام إلى الآن وكم من كتب سحرية خيالية نسبت إلى الدين والدين منها براء، وما هي إلا عبادة الصابئين (عباد الكواكب) مزجت بآيات القرآن وكم من شيوخ صغار النفوس يزهدون الناس في العلم ويقولون إنه حجاب.

وإنما أفضت القول في هذا المقام لتعلم أن معرفة تاريخ العلوم هو الذي يخرج الأمم من الظلمات إلى النور فلولا ما اطلعنا عليه من تاريخ العلوم الرياضية الآن لم نعرف من أين جاءت هذه الخرافات في الكتب السحرية التي شاعت في كل زمان؟ فإذا كان تاريخ العلوم الرياضية قد أثبت أنها دخلتها خرافة السحر وربطت عقولا وعقولا فإنا نقول: وهذه الخرافة ها هي ذي الآن تودي بكثير من صغار المتعلمين فيجب على الأمم الإسلام إزالة هذه الخرافة التي أدخلها قوم قبلنا في الآيات القرآنية وجعلوا لها حسابا وأوفاقا فبعد أن كان قدماء المصر يين يتقربون بها للكواكب أخذها بعض قدمائنا ومزجوها بآيات القرآن فظن ضعفاء المسلمين أن هذا دين وما هو بدين إن هو إلا ضياع للشبيبة والسبب في ذلك نشر تلك الكتب فيجب تحريم طبعها ونشرها بين المسلمين.

تذكرة: حدثني أحد باعة الكتب فقال: كثيرا ما يرد لنا الشباب متأنقا لابسًا أحسن الملابس فيأخذ كتاب شمس المعارف الكبرى للبوني) فلا يمضي عامان حتى يرجع كالأبله ضعيف العقل مختل الشعور

مجلة المعرفة الجزء الثالث السنة الثانية يوليو سنة 1932

مذهب داروين عند العرب

حضرات الدكاترة المحترمين محرري المقتطف الأغر:

أهدي لكم أجل تحية وتكريم وبعد فقد اطلعت في مجلتكم الصادرة في هذا الشهر على ما أجبتم به عن سؤال جاءكم من طرابلس الشام قال لكم فيه السائل: إنه رأى في صفحة 39 من كتاب (نظام العالم) ما يأتي: إن العرب ربطوا ما بين الحيوان والإنسان بالقرد وغيره من بعض الحيوانات ولم يربطهما داروين إلا بالقرد وحده وإن داروين حصر بحثه في قوس من دائرة الوجود فأجبتم بقولكم: (كلام غير صحيح) والظاهر أن صاحبه لم يقرأ كتابا من كتب داروين ولو قرأ فصلا واحدا من كتبه ما قال شيئا من ذلك ولا نظن أن العرب قالوا شيئا في هذا الموضوع لم نطلع عليه ثم ضربتم مثلا مطولا قلتم في آخره فما قولكم فيمن يقول قولا أو يرتئي رأيا ولا يؤيده بدليل نظري ولا عملي ثم يدعي أنه سبق العالمين الذين يقضون العمر في البحث والتدقيق إلخ؟ فلما أن راجعت الكتاب في صفحة 39 لم أجد شيئا مما ذكره حضرة السائل وفيها ما نصه:

القسم الخامس في ترتيب الحيوانات ترتيبا إجماليا وكيف كانت درجات بعضها فوق بعض وترتيب النبات وشرح دائرة الوجود التي ذكرها الأقدمون والمناسبة بينها وبين مذهب داروين؟

هذا ما رأيناه في تلك الصفحة من كتاب الزهرة الذي جعلناه مقدمة للكتاب فكأن السائل لم يقرأ كتاب نظام العالم والأمم ولو أنه قرأ وطالع الفصول التي شرحنا فيها مذهب العرب ومذهب داروين في نحو 80 صفة لم يوجه لكم مثل هذا السؤال ولعلم إذ ذاك أننا لخصنا ما ذكره العلامة لويس بخنر الألماني فيشرح مذهب داروين على سبيل الإيجاز مقارنين بينه وبين ما رآه المعتزلة وفلاسفة الإسلام إن في هذا لبلاغة لحضرة السائل.

إن لنا معكم لقولا آخر فاسمحوا لنا أن نناقشكم ما كتبتموه بالحجة والبرهان فإننا والحمد لله لسنا ممن يقول بلا بينة كما أنكم ممن تقدرون الحقائق قدرها وللحرية في مباحثهم قدم راسخة ومنهج واضح وإذن نقول إن السائل التقط بعض ألفاظ سؤاله من مواضع أخرى غير ما ذكره فجاءت محرفة الكلمة عن مواضعها مشوهة لا تسر الناظرين فعلى أن أوجز لكم ما أطلنا به هناك فأقول:

إننا ذكرنا أن العرب جعلوا دائرة الوجود سلسلة واحدة وهي الأثير والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والإنسان والملك وهي درجات بعضها فوق بعض فتناول بحثهم العناصر والمعدن وشمل أقسام العالم واتصل اتصلا مناسبا عجيبا بل يجاوزوا ذلك فجعلوا وجود كل فلك مما قبله وليست المعادن مركبات عند الإفرنج كما كانت عند العرب وأكثر مبحث داروين إنما هو في النبات والحيوان وقد أتى فيهما بالعجائب والغرائب وإن مذهب النشوء يعم المادة وما ينتج منها من شموس وأقمار وكواكب وقد تكفل بالبحث في ذلك دي لا بلاس ونيوتن وغيرهما من الفلاسفة العظام ولم يقل أحد إن داروين كان يشرح في الأجرام السماوية كما ينظر في طبائع العالم العضوي ولئن ذكر شيئا من ذلك فرضا إنما على سبيل الاستطراد فإذا قلنا إن بحثه خاص بالحيوان والنبات لم نقل شيئا إدا ولم نبخس الرجل حقه!

إننا أطلقنا العنان للقارئ ولم نرد أن نصوغ عقله صوغا تقليديا ولا نحط به إلى دركات الجهالة وإنما شأننا أن نبسط الأقوال ونشرح براهينها ولا نضيق على القارئ الخناق كي يصطفي ما يشاء. غير أن التقليد في العقائد كلها دينية أو علمية يئول بالأمم والأفراد إلى التقهقر والسقوط في الهاوية إننا جعلنا الكلام في مقامين الأول مقام اليقين والآخر مقام الشك.

فأما اليقين ففي اتساق هذه السلسلة الحيوانية والنباتية وتنظيمها وتناسقها وتلازم حلقاتها لأنه مما يدعو الناس إلى البحث عن حقائق الحيوان والنبات وعجائبها وغرائبها فإن النفوس البشرية تعشق كل كمال وجمال وتبحث عن حسنة وبهجة فيؤدي ذلك إلى بهجة العقول بحقائق خواصها ومنافعها وارتقاء أعمال الحياة العادية والسياسية وهذا غاية علم العلماء وحكمة الحكماء. وأما الشك ففي تعيين الطريق المؤدي لهذا التناسق والانتظام والجمال والتوقف عن القطع بالتولد الذاتي أو غيره.

ولسنا بدعا فيما قلنا بل من العجيب أن داروين في آخر كتابه قال ما نصه: إن المشابهة وأسبابا غيرها كثيرة تدعونا ضرورة للاعتقاد بأن عالم النبات والحيوان ناجمان من أصل واحد وأن لا فاصل بين العالمين ثم استدرك على نفسه فقال: إني أرى فيما يظهر لي أن الكائنات العضوية التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة أزلية نفخ الخالق فيها نسمة الحياة على أساس هذه النتيجة المتشابهة فالتسليم بها وعدمه غير جوهريين.

وهذا بلا ريب قول حكيم قطع باليقين وتوقف في الشك إن هذا العالم الحكيم أهل للإجلال، فإنه جعل الجوهر هو المشابهة الداعية للعلم والتفقه في علم الحيوان والنبات، وصغر من شأن ذلك العرض وهول الاشتقاق وعدمه فبمشابهة هذه العوالم تدعو إلى التحقيق بمعارفها ومن وقف نفسه على التبجح والاشتقاق وعدمه فقد سفهها واستمسك بمقال الخيال.

وكثير من الناس يجهلون أنواع الحيوان ولا يفهمون من النبات إلا أوراقه ثم يقولون: نعرف مذهب داروين كذب محض وخطأ فاضح.

ألا فليقرءوا وليفهموا كما أراد الرجل الحكيم أليس من العجيب أن يكون ما سلكناه سبيلا في كتابنا عما قاله العلامة داروين من أن المقلدين لأرباب المذاهب في كل دين وأمة يقطعون بما فرضه كتابنا عما قاله العلامة داروين من أن المقلدين لأرباب المذاهب ف كل دين وأمة يقطعون بما فرضه الأولون ويستيقنون بما شك فيه الذاهبون؟

ولذلك قام بعده شارحه الأستاذ برن مترجم داروين وندد بهذا القول وشنع عليه وأوسعه ذما وتقريعا وقال: ليس لنا إلا أن نتوسع بمذهب التسلسل الذي وضعه داروين حتى آخره ونجعل العالم العضوي مشتقا من صورة واحدة بسيطة جدا إن لكل مذهب سورة وحدة تتقد في نفوس متبعيه مدة من الزمان ثم تخف حدتها بل تخبو نارها على توالي السنين شان كل كائن حي .

أليس سورة الأستاذ برن أخذت تهن وتخمد نارها في مقالاته في مجلة المقتطف في الجزء الحادي عشر المجلد الثالث والثلاثين تحت عنوان مواضع الوهن في المادة إذ نقل ما قاله ديكارت وليبنتز إنه طعن مذهب النشوء الطبيعي طعنة نجلاء فأصاب مقاتله في جواهره الفردة وفي مادته وقوته وفي تغيره من البسيط إلى المركب وفي أن الحياة والفعل مظهران من مظاهر بقاء القوة ولقد أوهن هذا المذهب الطبيعي الشهير (هومبولت) حين وزن (السيارات) وقاس كثافتها فوجد أن أثقالها تناسب الرأي السديمي على خط مستقيم .

وقال العلامة (تنول) إن أتعابي في تقرير هذا المبدأ ذهبت أدراج الرياح فإني لم أجد للتولد الذاتي من أثر بل وجدت كل تجربة تناقصه وبمثل ما صرح (تنول) صرح غيره من كبار الحكماء مثل هكسلي وسبنسر وبرتون وغيرهم وكلهم مجمعون على أن العلم ينفي التوليد الذاتي وينقض أقوال دعاته إلخ وجاء فيه أيضا ما نصه: ولقد رأيت الباحث المستجد كالنحلة تحط على أي زهرة عرضت لها: تارة يعجب بالمادية وطورا بالإلهية ومن ين هذه وتلك كالقار في الخصم الهائج تتقاذفه الأمواج وتلاطمه اللجج وقد فقد الدفة، فاستسلم للعوامل تذهب به حيث شاءت فإذا تعمق في البحث قليلا وجد أن أتعابه ذهبت سدى وتحقق أن العقل البشري لا يستطيع الوصول إلى علة العلل هذا قول يشف عن حكمة في نفس قائله وهو عين ما ارتضاه داروين لنفسه.

فيا حرات الدكاترة إذ كنا قضينا على آثار داروين والعلام ليبنتز والفيلسوف هومبولت وتنول وهكسلي وبرتون واختططنا لأنفسنا ما أقره رجال المقتطف أنفسهم وقلنا لأبنائنا فكروا وافقهوا وقارنوا فذلك مفتاح الرقي الفكري وباب الحربة العقلية أفيكون قولنا إذ ذاك بلا حجة ولا برهان؟

وإني أجل رجال المقتطف الأجلاء عن الإقرار على ما كتبوه في جوب السائل بعد ما بينا خطأ السؤال وما سلكناه في هذا المنهج المبين ونعتذر عما فرط من حضراتهم في الجواب لأن أعمالهم العظيمة لا تسمح لهم بقراءة كتابي وهنا أوقفنا اليراع في مضمار البحث في آراء الإفرنج خوف السامة والملل ثم عقدنا الآراء العرب فصلا آخر نذكره بعد هذا فنقول:

آراء العرب فيما ذهب إليه داروين:

إن ما ضربتم من الأمثال في جوابكم عند المقارنة فيما ذهب إليه العرب وما بحث فيه داروين وإن بحث الثاني نسبته إلى الأولين هائلة عظيمة كنسبة من فكر في قناطر أمريكا الحديدية ولم يصنعها ومن فكر فصنع فحاز القناطير المقنطر من الذهب والفضة مع أن الأول ليس عنده إلا الخيال يدلنا على أنكم صورتمونا بصورة من يغط الرجل حقه ولا يجعل للآخر فضلا في مباحثه وحاشى الله أن أبخس الباحث المتأخر حقه .

كما أني لا أنسى للمتقدم سبقه ومن أظلم ممن يبخسون الناس أشيائهم فينسيهم ذكاء المتأخرين فضل المتقدمين أو تقدم الأولين مباحث الآخرين إننا قصرنا بحثه على النبات والحيوان والإنسان وهذا المقدار على تشعب مسالكه وتكثر فروعة جزء من دائرة العالم كله المسماة عند العرب بدائرة الوجود وهي التي أتم بحثها لا بلاس وغيره من العلماء الأوربيين المتأخرين فليس ذلك مانعا من فضله ودقة بحثه فلكل أمة قسط من العلم وحظ من الفضيلة. أما قولكم ولا نظن أن العرب قالوا شيئا في هذا الموضوع لم نطلع عليه تشيرون إلى ما قلنا من أن الرابطة بين الإنسان والحيوان هي القرد عند داروين وهي القرد وغيره من حيوانات أخرى عند العرب وأشرتم إلى أن العرب لم يزدوا على أمة الرومان واليونان شيئا .

فإنا نقول: لسنا الآن في حاجة للكلام في رفع شأن أمة العرب فقد قام به من هو أغزر علمافي التاريخ وأعلى كعبا وأكثر تمدينا وهو العلامة سديو الفيلسوف الفرنسي فلقد أثبت أنهم زادوا على الأمم السابقة في مباحث كثيرة واكتشفوا واخترعوا على أن هذا البحث لا يغنينا فلنحصر كلامنا فيما توخيناه وسقنا الكلام له: إنا لو شئنا لكتبنا مجلدا ضخما فيما قاله العرب فيما نحن بسبيله من تشابه العالم العضوي من النبات والحيوان ولكنا نقول كانت هذه المسألة شائعة بين أرباب العلم حتى ذكرها الفخر الرازي في تفسره في سورة الروم .

فذكر تشابه هذه العوالم واتصال بعضها ببعض وأشار بالرد على مذهب الاشتقاق وفي هذا دلالة على وجود هذا المذهب فيما بينهم حتى احتاج للرد في تلك العصور السحيقة وهاكم فصلا وجيزا من فصول إخوان الصفا لتعجبوا من تشابه الأقوال بين المتقدمين والمتأخرين وإن اختلفت في بعض الوجوه ولتستبينوا صحة ما نقلناه عنهم قال ما نصه بالحرف الواحد:

وأعلم أن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات وآخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان كما أن أول مرتبة النباتية متصل بآخر مرتبة المعدنية وأول مرتبة المعدنية متصل بالتراب والماء كما بينا من قبل فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط وهو الحلزون وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة وتنبسط يمنة ويسرة تتطلب مادة يتغذى جسمها بها فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه وإذا أحست بخشونة وصلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها ومفسد لهيكلها وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا الحس واللمس فقط .

وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار: ليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها ألا تعطي حيونا عضوا لا يحتاج إليه وإلا كان وبالا عليه في حفظه وبقائه في هذا النوع كحيوان نباتي لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات ويقوم على ساقه قائما وهو من أجل أنه يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوان، ومن أجل أنه ليس له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية وتلك الحاسة أيضا قد يشارك بها النبات:

وذلك أن النبات له حس اللمس فقط، والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية وامتناعه عن إرساله نحو الصخور واليابس أيضا فإنه متى اتفق منبته في مضيق مال وعدل عنه طالبا للفسحة والسعة كأنه فوقه سقفا يمنعه من الذهاب علوا وإن كان له ثقب من جانب مال إلى نحو تلك الناحية حتى إذا طال طلع من هناك فهذه الأفعال تدل على أنه له حسا وتمييزا بقدر الحاجة وأما حس الألم فليس للنبات وذلك أنه لم يلق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألما ولم تجعل له حيلة الدفع كما جعلت للحيوان وذلك أن الحيوان لما جعلت له أن يحس بالألم جعلت له أيضا حيلة الدفع: إما بالفرار والذهاب والهرب وإما بالتحرز وإما بالممانعة فقد بانت بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوانية مما يلي النبات فنريد أن نبين كيفية مرتبة الحيوان فيما يلي رتبة الإنسان فنقول:

إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان ليست من وجه واحد ولكن من عدة وجوه وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدة للفضل وينبوعا للمناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع: فمنها ما قارب رتبة الإنسان بصورة جسده مثل القرد ومنها ما قارب بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومثل الفيل في ذكائه وكالببغاء ولهزار ونحوه من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات ومنها النمل اللطيف الصناعات إلى ما شاكل هذه الأجناس وذلك أنه ما من حيوان تستعمله الناس ويأنس بهم إلا ولنفسه قرب من نفس الإنسان أما القرد فلقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية وذلك مشاهد منه متعارف بين الناس وأما الفرس الكريم فإنه بلغ من كرم أخلاقه أن صار مركبا للملوك وذلك أنه ربما بلغ من أدبه أنه لا يبول ولا يروث ما دام بحضرة الملك أو حاملا له وله أيضا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح كالرجال الشجعان كما وصف الشاعر فقال:

وإذا شكا مهري إلى جراحه

عند اختلاف الطعن قلت له: أقدما

لما رآني لست أقبل عذره

عض الشكيم على اللجام وهمهما!

وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكاء ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي هذا ما أردنا نقله من كلام فلاسفة الإسلام لنستبين السبيل وليقف الناس على نبذة من آراء الأولين ومباحث الآخرين في هذا الموضوع وليعلم فضلاء محرر المقطف الأغر أن ما ذكرناه عن العرب قد أوضحوه في كتبهم بأوسع ما بينا.

نصوصه مختارة من بعض كتبه

ويحسن بنا بهذه المناسبة أن نورد فيما يلي نماذج متفقة من بعض كتبه مما قد يتضح به النهج الذي سار عليه الشيخ طنطاوي في التأليف ويوضح أسلوبه ويبين منهجه.

ولا تفوتنا الإشارة إلى أن من العسير حقا أن نلم بما سنورده من مقتطفات من كتبه إلمامة كاملة بمحتوياتها.

من كتاب (ميزان الجواهر)

أقسام الحب:

أعلم أن الحب أربعة أقسام:

الأول: مذموم وهو الحب الشهواني السافل الذي اشترك فيه الحيوان والإنسان فمن تولع به دل على نقص فطرته، وهو مستفيض في الطبقة السفلى من الناس ذلك مبلغهم من العلم

الثاني: حب الناس بعضهم بعضا للكمال والآداب وهو مستفيض بين ذوي النفوس العالية والأخلاق الكريمة والأدباء والظرفاء ومتى اعترته الشهوة صار من الطبقة السفلة كما تنزل الفرس عن مرتبة الجياد إلى درجة الحمير بضعفها عن الكر والفر.

الثالث: أن تحب جميع العوالم للبحث عن حقائقها حتى كأنها عاشق لكل ما تراه لتبحث عن حقيقته وهذا عشق العلما والعارفين.

الرابعة: محبة مدبر هذا الكون.

وأعلم أن كل درجة ن هذه الدرجات أعلى مما قبلها ومقدمة لما بعدها إلا الأولى فإنها قد تعد فسقًا وفجورا مردية إلى جهنم وبئس المصير اللهم إنا نسألك أخلاقًا عالية ونفوسًا صافية حتى نصل إليك فالحب لا يمكن إلا مع تهذيب الأخلاق وكلما تهذبت النفس وصفت سعي الإنسان في نفع أمته لحبه لها ولذلك ترى أهل الكمال يحرصون على منافع أممهم حبا وشفقة مع بحثهم عن الحقائق الكونية ثم يغلب على نفوسهم حب ربهم: قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام (رب قد آتيتني من الملك علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) (يوسف: 101).

فالملك إشارة إلى نفع أبناء الجنس وتعليم التأويل إشارة إلى التمكن في العلم، وما بعده إشارة إلى ولوع النفس بالرب سبحانه وتعالى وأما المرتبة السفلى فهي منعدمة عنده عليه السلام بالعفة التي مدح بها في أول السورة فأفهم النكت القرآنية العجيبة.

ولما كانت البغضاء منافية لمقصود الشرائع الإلهية ورد قوله تعالى ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) (فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين) وقوله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) وقوله عليه الصلاة والسلام لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه) ولكن مع هذا كله يجب على العاقل الاحتراس من الأعداء وأهل الشر والخداع وأن يكون على حد وسط بلا إفراط ولا تفريط فلا يصادق أحدا إلا بعد تجربته وإذا أحب أو أبغض ليعتدل كما قيل:

أحب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما والمقصود الاعتدال على حال التوازن في جميع الأطوار كما هو حال الكواكب المذكورة فكأن البغضاء التي أشار إليها الله تعالى بقوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) سوط أدب الله به عباده فيقفون موقف الاعتدال ككواكب السماء.

ألا فاستقم في كل أمرك واقتصد

فلذلك نهج للصراط قويم

ولا تك فيه مفرطا أو مفرطا

كلا طرفي كل الأمور ذميم

فبقوة التنافر والتجاذب تم نظام الحياة ومن كل شي خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (ففروا إلى الله إني لكم منه نذر مبين) وهنا نكت يفهمها أولو الألباب ولنشر إلى طرف منها فنقول:

اعلم أنه لو كانت الحياة الدنيا ليس فيها إلا أسباب الوفاق التام لا مناع ولا مشاحن ولا مقاطع ولا مدابر لكانت دار سعادة إذ الحب هو المطلوب وهو لذة الروح التامة وحينئذ لا يحب الإنسان الانتقال منها إلى دار الآخرة فمن رحمته أن أدخل التنافر مع المحبة والمنع مع الإعطاء والفقر مع الغنى والذل مع العز لئلا يركن العاقل إلى دنياه، فلذلك أعقبه بقوله: (ففروا إلى الله) واخرجوا من هذا التنازع فيا لها من سياسة إلهية كاد يحوم حولها الإسكندر في شغله ملوك الطوائف بعضهم ببعض ليفروا غليه وبعضهم لبعض مبغضون فمن لم يزهد في الدنيا بعقله فالحوادث تبغضه فيها رحمة من الله بخلقه والمقصود أن النعيم في الدنيا وللذة ليسا مقصودين (ثم لتسألن يومئذ عن النعم) .

وقال عليه الصلاة والسلام: أن روح القدس نفث في روعي: أحبب ما أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزى به جاء هذا في الأحياء فالدنيا كلها لا ترى فيها إلا جذبا وتنافرا تشهد بذل الكهرباء يعرفها من درس الطيعة وهكذا الموت والحياة والحزن والفرح والخير والشر والظلمة والنور، والعلم والجهل والبل والمنع، وكل هذه متناقضات والعقل والشرع حاكما بين تنافر الأخلاق فالفرار إلى الله بالعلم واستعمال العقل وفهم الشرع حتى يحكم العقل ويحكم الله وهو خير الحاكمين ولهذه الآية وجه آخر عجي فراجعه في كتاب جواهر العلوم. جوهرة فريدة:

ما أجمل الحكمة وألذ العلم كم من قارئ يقرأ القرآني ولا يعقل ما فيه من الحكم ولا يذوق حلاوة لطائف معانيه: تأمل في مدارك الإنسان التي لا تصل العلم إليها إلا بها وهي ست العقل والحواس الخمس تجد بينها تفاضلا وهي درجات بعضها فوق بعض: فما كان منها أبعد مرمى بحيث يدرك ما بعد عنا فهو أشرف وما كان منها مقصورا على إدراك القريب أو الملاصق فهو أدنى مرتبة وأقل شرفا:فالقسم الأول هو العقل والبصر والسمع والآخر هو الشم واللمس والذوق وقد ذكرناها الآن مرتبة باعتبار درجاتها من الأعلى إلى الأدنى فكانت نعم الله على الإنسان في القسم الأولى أعظم ومطالبته بالشكر عليها أكبر ولذلك خضت بالذكر في تلك الآيات المتقدمة فافهم نكن القرآن وإشاراته ولنرجع إلى ما كنا بصدده فنقول:

وكم من نواميس في طي الخفاء عن البشر لم يطالعوا عليها وسيأتي لك هذا إن شاء الله عند ذكر قوى الإنسان وعلومه إن قوة العقل تقف عند حدها كما تقف قوة البصر عند حد معلوم، وكما لا نعرف العين الأصوات ولا الأذن الألوان كذلك العقل لا يعرف ما ليس تحت طاقته وما لا يلزم العالم الإنساني في معاده أو معاشه وإلا تشوشت عليه حياته واختلت أحواله وساء مصيره قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسه السموات والأرض) وتصوير الحشر بما ذكر من النجمة وأنها هي أرض الحشر والجنة والنار تخيل فاسد نشأ عن فهم عامي كيف ذلك وقدي تضافرت الكتب السماوية ودلت الدلائل العقلية وقامت الحجج اليقينية على أن عالم الآخرة أوسع من السموات والأرض وما بينهما وما جواب هذا المتخيل إذا سئل عن تلك النجمة كيف يحصل فيها النعيم المقيم مع ما ورد أن بعض أهل الجنة من المؤمنين يأخذ قدر الدنيا عشر مرات مع أنه آخرهم دخولا؟

انظره في الشمائل للترمذي وإذا كان هذا حال أقل أهل الجنة فكيف بالصالحين الأبرار؟

بل كيف يكون حال العلماء العارفين؟ وكيف الأنبياء والمرسلين؟ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا وكم ورد في سعة الجنة ونعيمها مما لا يتناهى حتى ورد تقديرها لعموم الخلق بأعظم ما يتخيلونه من عالم المساحة ولا مساحة أوسع من السموات والأرض فقال تعالى: (وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) مع أنها أجل وأوسع وأعظم من ذلك فإني النجمة التي هي ذرة صغيرة من عالم السموات؟ بل أين السموات والأرض وما بينهما (والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا ألوا الألباب) ولأمسك عنان القلم عن الخوض في عباب هذا البحر ففي الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. تعليق:

أحب أن استرعي النظر إلى ما سبق كان ردا على بعض علماء الفلك الذين يتصورون أن قيام الساعة عبارة عن اصطدام نجم مع الأرض فتتزلزل عظمة وتخرج أثقالها ويقول الإنسان ما له ويقع كل ما عليها في تلك النجمة وهي العالم الأخروي الذي يكون فيه الحساب والعقاب والجنة والنار وهي تكون أوسع من أرضنا طبعا..

من كتاب التاج المرصع الجوهرة الرابعة عشرة: تربية الوجدان في الإسلام

لقد ترك الشرقيون الطريقة التي أشار إليها القرآن الشريف واتبعها الإفرنج، كما درسته في كتب الغربيين وكلتاهما ناقصة والطريقة المثلى أن يؤخذ النشء بدرس الأشياء في صغرها على شريطة أن يذكروا ربهم عند درسها وفهمها ليكون ذلك داعيا لتربية حبة في القلوب وخشيته في النفوس فلا تمر قاعدة أو عجيبة أو قانون طبيعي أن نظرة فلكية إلا يقرن بجلالة من سنها ويذكر من رسمها فيشب الفتى دارسا للعلوم محبا لمبدع الكائنات .

كما طلب نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: كل شيء لا يبدأ فيه بسم الله فهو أبتر أو أجذم أو أقطع ولا معنى لذلك إلا تذكر أن هذا المخلوق الذي أزاوله أو آكله أو أدرسه أو أفكر فيه إنما هو أثر من آثار جلاله مذكر لنعمائه .

ولذلك ترى كل سورة في القرآن الشريف بدئت ببسم الله الرحمن الرحيم تدريبا على ذلك وتعليما وتنويها بانتهاج هذه الخطة اللهم إلا سورة التوبة .

ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول (اذكروا الله عند كل حجر وشجر) ومعناه ملاحة مبدع الشجر والحجر عند رؤيته أو درسه وتذكر أنه خلقه .

وعلى هذا تنمو في المرء قوة الدين والوجدان وحب صانع العالم فيها به ويعمل له ويراعي عباده، وهذا بعينه هو ما قرره العلامة سبنسر الإنجليزي إذ أبان أن التعليم لا يجدي بمجرد البرهان بل بتربية الوجدان بالمحادثة والتذكير وترى هذه طريقة القرآن والإسلام لا المسلمين إذ يذكر محاسن العالم وجماله ويذكر بالشمس وغروبها وشروقها والكواكب وغرائبها إلى غير ذلك.

أما تعليم الشرقيين المسلمين فإنما يأخذون فيه الناشئة بالكلام العرضي والتطوح بهم فيما يرجع إلى القضايا التي تحوم حول فلسفة اليونان ردا على قوم واراهم التراب وانقرضوا في الغابرين وذهبوا مع أمس الدابر وترهم يناقشونهم في قبورهم ويتنازعون في برازخهم ويذرون ما خلق لهم ربهم مما أبدع وأحكم ولم يعلموا أن علماء الغرب برعوا حتى قاربوا دينهم القويم وصراطهم المستقيم فأحاط بنا الفقر والصغار والذل والشنار واحتلتنا الأعداء وأحاطوا بنا من كل جانب .

أما الغربيون فقد ورثوا الأرض بما أوتوا من العلم الناقص ولكن مدنيتهم ذاهبة إلى الزوال بما عصوا ربهم ولم يبنوا العلم على أساس متين أما وربك لو أنهم اعتقدوا أن هذه العلوم عبادات وأنها كالصلوات والقربان وأنها نفسها الدين حقيقة كما سأذكر لك بمئات من الأدلة لكان مدنيتهم أثبت المدنيات فكانت المعاصي تزول والشرور تقل وخوف الله يلازم النفوس ملازمة الخيال للذهن والتصور للعقل (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

الجوهرة الثالثة والعشرون: (الأقسام مفاتيح العلوم)

العم أن الله أقسم بأشياء مما خلق وعمد إلى ما جمل شكله وعظم نفعه وبهر حسابه فعدده في أقسامه ولعمري أن النوع البشري لن يقسم إلا بمعظم لديه أو بمسيطر عليه يقول الولد وحق والدي وتقول الرعية رأس فلان الحاكم والجندي بقسم بشرف الجندية ويقسم الوزراء بالملوك ونسمع الرجل يحلف بعينيه لما يرى من منفعتهما وزينتهما وقد اقسم الله بأشياء عددها، وصنوفا من نعم أبدعها كالشمس والقمر والكواكب.

لم يكن ذلك لخوفه منها فإنه الخالق لن يهاب ما خلق ولن يحتاج لما ذرأ وأبدع أقسم بها إذ رأى نوع الإنسان يقسم بما عظم نفعه وعز عليه فاسترعاهم وأيقظهم إلى ما ذرأ ونبههم إلى مصنوعاته ليعرفوها فلم يرد أن يعبدوها إذ لا إلا الله فالإقسام بها يرجع إلى عزتها وشرفها ولم يكن ذلك لتحريضهم على الحصول عليها بوجودها في حوزتها فذلك مستحيل فرجع الأمر على العلم وفات الإنسان أن يملك هذه العوالم ويسيطر عليها إذ لا سلطان إلا لواحد هو الله فكان المقصود من الإقسام في حقهم أن يعرفوا جلالة ما صنع ويتبعوا حركات الأفلاك وعلوم الضوء وحسابه والمشارق والمغارب ويشرحوا تلك الأجسام ويلاحظوا حركاتها وسكناتها لترقى نفوسهم إلى علوها وشرفها .

فتراه عز شأنه أقسم عشرين قسما بالأجرام العلوية وخواصها وأضواءها ومواقعها تراه أقسم بالفجر والفلق وهو الصبح والشمس والضحا والنهار والعصر والليل إذا يغشي يغطي المخلوقات كأنه ملاءة منشورة عليهم، والليل إذ يسرى يسر حول الكرة الأرضية تابعا النهار والنهار يتبعه وأقسم بالليالي العشر في أول كل شهر عربي لغلبة ظلامها على ضوئها، وأقسم بالنجم إذا هوى تنبيها على مغارب النجوم وإيقاظا لها وأقسم بمواقع النجوم وأماكنها التي فيها ودوائرها ثم أعقبه بقوله: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) فإذا أقسم وعظم القسم فهل يكون ذلك إلا لاسترعاء النفوس إليها لتعرف مواقعها وقياسها وأبعادها وحركاتها وسكناتها وقال (أقسم برب المشارق والمغارب) ي محل الشروق والغروب وأقسم بالشفق وبالليل وبما وسق والليل أي جمع وأقسم بالقمر وبالسماء ذات البروج تنبيها لمعرفتها لتعرف السنون والشهور والأيام وأقسم بالسماء ووصفها بأنها ذات الحبك أي طرق النجم وبالقمر إذا اتسق أي امتلأ بالنور وأقسم بالسماء وبمن بناها وأقسم بالنازعات غرقا وهي النجوم التي ترمي شهبا عن دوائرها المشبهات القوس فكأن النجم إنسان .

والدائرة قوس والشهاب الساقط سهم وذكر أنها نشيطات في سيرها مسرعات فيه تتم دوراتها كالشمس في سنة والقمر في شهر فقال (والناشطات نشطا فالسابحات سبحا فالسابقات سبقا) أي النجوم التي تسبق غيرها وتتم دورتها سريعا فالمدبرات أمرا وهي هذه النجوم إذ بها يتم تدبير العالم فذكر هذه الكواكب والعوالم ومواقعها ليحرض السامعين على البحث عنها فيعرفوا الفلك والميقات وحساب الكواكب وأبعادها وأجرامها وتحليلها وأعدادها بقدر الاستطاعة ويبحثوا عن الضوء في الطبيعة ثم إنه تعالى أقسم بذكر أشياء أخرى مما تحت الفلك وأحاط بالكرة الأرضية فأقسم بالرياح الذاريات وبالجبال فقال: (والذاريات ذروا فالحاملات وقرأ) أي الرياح التي تحمل السحاب وتذرو الأشياء وأقسم بالأرض وما طحاها فالأرض مفهومة وطحوها دحيها تسويتها وإتقانها وأقسم بالجبل فقال (وطور سينين) وبالنبات فقال (والتين والزيتون) وبالبلد الذي خرج منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال (وهذا البلد الأمين) .

وأقسم بالخيل فقال (والعاديات ضبحا) أي الخيل التي تعدو وهي تضبح في الجري ضبحا وأقسم بكل من يحس وكل من يحس فكأنه أقسم بكل محسوس وبكل ما يحس به وكأنه أقسم بالناطق والصامت فقال: (وشاهد ومشهود) وأقسم بيوم القيامة وبيوم الجزاء ويوم الميعاد الذي سيجازي فيه الناس وأقسم بالكتب المسطرة المنثورة وهي ما يقرؤه الناس وأقسم بالبحر ثم عمم القسم بكل ما خلق فقال: (أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) فكأنه أقسم بكل شيء إذا العالم قسمان: ما يبصر ومالا يصبر وجاء بتعميم آخر فأقسم بالشفع والوتر ولا ريب أن العدد إما شفع أو وتر هذه نحو عشرين قسما أحاط بها الأرض والهواء والسحاب والجبال والنبات والحيوان وخصص الإنسان منه فقال (وولدا وما ولد) أي أقسم بآدم وأولاده وغيرهم وخصص ذلك بعد فقال (ونفس وما سواها) فأقسم بالنفوس وتسويتها فتراه أقسم بأمهات العالم كلها وأخيرا أقسم بكل ما خلق مما نشاهد وما لا نشاهد.

تفيد هذه الأقسام بالعلويات وهي تبلغ العشرين وبالسفليات وهي تبلغ العشريني أيضا أن الله أمر عباده وأوجب عليهم النظر في العلويات والسفليات بالتساوي وفي الحساب والهندسة والطبيعة والكيمياء وعلم العمران والنفس وجميع العلوم إذ لم تخرج في البحث عما ذكر في تلك الأقسام التي أقسم بها مبدعها وكأن الأمة التي جهلت ما أقسم به وأعرضت عنه ولم توفه حقه في النظر قد أعرضت عما أقبل عليه مبدعها وزاورت عما أراده خالقها.

جعلنا هذه الأقسام مفاتيح العلوم لأنه ذكر جواهر الأشياء فيها ليتسرعي إليها العقول ويحرض على البحث عليها العلماء والأمم ولم نقل إنها العلوم لأن الآيات التي سنذكرها قريبا سنعطي كل جوهرة من هذه الجواهر قسطه منها ونوفيه نصيبه غير منقوص فإذا طالعت أيها القارئ ما سأقص عليك من كتاب الله تعالى والآيات الوارد في الحض على العلوم فستعجب كل العجب ولتجدن أن الدين دين العلوم والحكم دين العمران والنظام، دين المدنية الحق دين ري النفوس دين ارتقاء نوع الإنسان دين بقي كنزا مخفيا لك يكتشفه علماء العصر المفكرون دين خيم عليه عناكب النسيان، وأحاط به سور الهجران وأضحى في خبر كان اللهم إلا جزءا قليلا من عباداته ومعاملاته التي تكفي حياة الضرورة وإني لأرجو أن يكون كتابنا هذا كاشفا عن محيا جلاله مظهرا جمال بهائه، مسفرا عن كنه معانيه، باسطا شارحا مبينا وإني أستعين بمسبب الأسباب مدبر الخلائق القادر الحكيم أن يلهمني الصواب ويوفقني كما ألهمني أنه سيجيبني إنه لطيف بعباده رءوف رحيم.

من كتاب جمال العالم الحيوانات أمم أمثالنا

ومن هنا فلنفهم قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحية إلا أمم أمثالكم) فيكون لها تدبير كتدبيركم وهندسة وأحكام كلها معلومة ولولا هذا الحساب لاختل النظام وفسدت الأحكام.

ولولا أننا كتبنا هذه النظامات عندنا ما بقي لها وجود لحظة واحدة وكيف يبقى مالا نظام له ولا ترتيب بل لو أخللنا واحدة لسرى الخلل إلى الجميع إذ الكون كله كساعة واحدة ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون.

أعلم أن الحيوانات الكبيرة قادرة على حمل الأثقال ومعاناة المشقات والصعوبات وأما الحيوانات الصغيرة فإنها ممتازة في الأحكام في العمل كالنمل في بيوتها والنحل في مساكنها وأعمالها والعنكبوت في نسجها والأرضة في بنائها من الغبار المجتمع مع الندى مساكن محكمة والجراد ودود القز، فكل هذه ذات حكمة وصنع متقن يعجز عنه الإنسان فقامت دقة الصنعة مقام القوة والصبر على الأعمال فهذه قسمة محكمة: عظم الجثة مع الأعمال وصغر الجثة مع الحكمة إن ربكم لرءوف رحيم (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم): فتأمل تر الجمل والفرس والحمار والشاة والأرنب لا قدرة لها على الحكم والصناعات والهندسة والرونق واختصت الحيوانات الضعيفة بذلك ليظهر عدل مبدع الكون وحكمته ولن تعرف حكمة الخالق إلا بالنظر في هذه الأشياء الجميلة وهذا ما ينبغي أن يتفق المال في تحصيله ولذا ترى القرآن يذكر هذه الحيوانات الضعيفة لينبه العقول إليها ويصرفها إلى وجهتها وترى إنه ذكر سورة النحل والنمل والعنكبوت لذلك.

ثم إن هذه الحيوانات كلها يأكل بعضها بعضا لا فرق بين كبير وصغير ليظهر العدل في الموت كما ظهر في الحياة والعدم كما ظهر في الوجود: وذلك أن العصافير والقنابر والخطاطيف وأمثالها تأكل الجراد والنمل والذباب والبق وما شاكلها وثم إن البواشق والشواهين وما شاكلها تصطاد العصافير والقنابر وتأكلها ثم إن البزاة والصقور والنسور تصطادها وتأكلها ثم إنها إذا ماتت أكلها صغارها من النمل والذباب والديدان وهكذا بنو آدم فإننا نأكل جميع الحيوانات الطيبة اللحم فإذا متنا أكلنا الدود وهكذا شأن هذا الكون كله كأنه دائرة أولها آخرها وصلاح شيء فساد آخر، وما فساد إلا بإصلاح وفي الحقيقة لا فساد معقول. الألم واللذة للجسم والروح وكيف تشابه وضعهما؟

ولما كان بقاء الشخص لا يكفي جئ له بسوطين آخرين ولا يريان وهما ألم شهوة الاقتران ولذة الفرح فهما سوطان كذينك ولو عدم هذان السوطان ما تولد الناس ولفنوا في نصف قرن.

فانظر كيف قهر الحيوان والإنسان على بقاء الشخص والنوع ولذلك يشير قوله عليه الصلاة والسلام: (من تزوج فقط حفظ نصف دينه) وهذا بقاء النوع فليتق الله في النصف الآخر) وهو بقاء الشخص ويكون بالأغذية المشوق لها بذينك السوطين إلى أجل مسمى وهو الموت وبالأخلاق الحسنة والعلوم والشرائع وذلك هو البقاء السرمدي وله سوطان آخران وهما النار نظير الجوع والجنة نظير الشبع هنا فانظر يكف اتحد فعل الله في جميع الأحوال وجعل في كل نوع رغبة ورهبة فهذه سياسة عجيبة جدا وهذا المقام مقام عال ولا يتصور ما تكلمنا فيه الآن إلا أكابر العلماء المتفكرين بل الحكماء لأن هذا أمر دقيق جدا وقس على هذا المرض فإن فيه رغبة لذة الشفاء ورهبة الألم، ولولاهما لفني الجسم وترك الإنسان نفسه.

والحق يقال: إن الله علم ضعف الإنسان فلم يتركه بلا آلام ولذات وإلا فني ومات ولم يعش وسوط الله الذي يضرب به يناسب جلاله وهو مجرد عن المادة فسوطه يكون خفيا وإن كان في المادة فكل سوط يناسبه وحينئذ ظهر لك يا أخي مقارنة هذا بسم الحيات أما قولك فلا يوافقك فإني أمنعه وإني متيقن أن كثيرا لا يفهمون مثل هذا فلا يوافقون لقصورهم عن فهمه.

أطوار الإنسان: لا فرق بين زيد وعمرو إلا بما تعلم عنهما:

إذا لقيت ملكا وأنت تجهله لم يعظم عندك، فإن علمت أنه هو عظمته فهذا مرجعه العلم فما تلاقي حبيبك أو ابنك وأنت لا تدري لأحوال عارضة فلا تحلهما المحل اللائق بهما فإذا علمت عملت وأحببت وزاد شغفك وولعك فالإعظام أساسه العلم ومن عجب أنك ترى الإنسان تارة نباتا وأخرى حيوانا وهو جماد ثم إنسان وملك يشارك الجماد في الثقل والخفة وانجذابه نحو الأرض وهو نبات يتغذى ويدل ويموت وليس ما يصنع ن الفرح والولائم وما يحمل من المشاق في تحصيل الأقوات فيجوب القفار ويعبر البحار إلا بما هو نبات وليس للعروس من زينة وبهجة ورقاق الثياب والسندس والإستبرق والحلي والرياش والفراش إلا ما سبقته به الزهرة من الجمال والأصباغ والرقة والبهجة وحسن الشكل والزينة بأن إلقاح الذكور للإناث كما تراه مفصلا في كتبنا. ومن عجب أن يفرح الناس ويفتخروا بالولائم والأفراح وهم لم يصنعوا إلا ما شاركوا به الأزهار في النبات. ولئن ضربوا بالدفوف وغني لهم الموسيقار لقد سبقتم أنواع النحل والحشرات وهن يغنين في زفاف ذكور الأزهار لإناثها والعكس أليس هذا من العجب؟

الإنسان يلتذ بالطعام والشراب ويفرح بالغلبة والسطو والقهر ولصولجان والملك ولم يقل عن الأسد والنمر وسائر السباع والكلاب فإنها اختصت بتلك الغلبة.

وهو ملك إذ ينظر في أمر الأمة ويسره ارتقاء يكون علمه وعلمه عاما نافعًا ويحيط علما بالعالم على مقدار طاقة البشر فهو ملك بعلمه وعمله العامين حيوان كاسر بصفة الغلبة وخنزير أو غزال أو شاة بلذات المطاعم ونحوها وهو نبات ربما ويموت وجماد بثقله وخواص الأجسام العامة.

وأعجب أمره إذ يجمع بينهما وقت واحدا إذا أكل وه ويفكر في الحكمة ويأمر بما ينفع العموم.

من كتاب أين الإنسان؟

الفصل الرابع: فضائل الإنسان

وهنا أخذتني الغيرة وذهبت سكرة الحق وجاءت فكرة التعصب للجنس والنخوة والحمية فقلت في نفسي يا للعار ويا للشنار روح من الأرواح تجلت لك ساعة من الزمان فتشرح لها حال الإنسان فيذمنا عند العوالم الأخرى ويا عار الأمم الأرضية إذا رجع صديقي الوجدان إلى كوكب المريخ أو المشتري أو ركب متن مذنب هيلي وساح في النظامات الفلكية العالية وربما قابل علماء أورانوس ونبتون وربما ركب كوكبا آخر، فصعد إلى المجرة التي فيها ما لا يتناهي من الملايين النجمية فيخبرهم بأخلاق الأمم الحاضرة وما فيها من زور وبهتان وجهل فاضح أو أكون أنا السبب في نشر هذه الأخبار في عوالم السماء عن أرضنا فوالله لأذكرن محاسن الإنسان كما ذكرت مساوية وأنشر فضائله كما أذعت نقائصه، ولأذيعن الخير كما أذعت الشر كل هذا خطر لي وأنا ساكت فدنوت إليه فوجدته يتبسم فقلت له: أيها الملك الطاهر والصديق الخالص إن الإنسان وإن أساء قد أسن وإن ضل قد هدى ألا ترى أن منا الأنبياء و المرسلين والحكماء والعلماء الصالحين والأولياء وفينا صفة الرحمة فمن منا لا يخرج لمصيبة حلت بأخيه الإنسان من المصر يين والشرقيين لم يجزع لحوادث زلازل الطليان وقد اختلف القومان وبعد المكان وتباين الدينان؟

ولقد آنست قوما من فقراء الروم يطلبون الإحسان والمعونة أمام كنيسة رومية في شارع الحمزاوي بالقاهرة فبكيت ورحمت وآنست مرة غلاما روميا يبكي وقد ضل الطريق، فسألته فكلمني بلغته فلم أفهم فجزعت ولم يسكن ألمي إلا بعد أن أسلمته لرجل من بني جنسه فعرفه، أنه ضل طريق المدرسة وإنا ليسرنا شعر شعرائهم وعلم كبرائهم كما يفرحهم علمنا ورقينا ويسوءهم جهلنا وضعفنا وإن غطت الشهوات على العقول وزاحم الطمع الرحمة والشدة اللين والشر والخير فالإنسان مركب من الخير والشر والصالح والطالح والطيب الرديء هكذا كان وهكذا سيكون فلما انقضى الحديث ودعني ذلك الصديق الحميم، وانصرف ومعه الفؤاد، وقال: إن شاء الله يكن الاجتماع في الليلة القادمة فأغمضت عيني واستيقظت في الصباح، وأنا جذل فرح بما وعيت فقيدته في ورقة وأنا لا أدري أحقيقة ذلك أم خيال؟ وعجبت كما سيعجب القارئون.

الفصل الخامس: أين الحكمة في المادة والعقل

فقلت ما الحكمة في فوائد المادة إذا لم نعقلها؟

وما الفائدة في عجائب العقول البشرية إذا جهلوها؟

فقال: إن هذه المادة كلوح منقوش سطورا فالحيوان يقرأن جزءا وأنتم تقرءون سطرا وسائر السطور يقرؤها قوم آخرون في عالم آخر أما عقول النوع البشري فإنها مستمدة من العقل العام المحيط بالعالم الفائض من علم الله عز وجل وهذا العقل يحيط علما بالمادة وعجائبها والعقول البشرية تطلع قليلا قليلا على ما أودعه من الحكم ولئن ذبل نبات أو مات حيوان بلا فائدة ترونها إن هناك فوائد تجهلونها ومتى تحلل إلى عناصره وكر راجعا إلى مادته لم يعدم خواصه وإنما هي كامنة فلا معدوم في هذا الوجود وإنه لا عدم البتة ليس يعدم إلا المظاهر

أما الحقائق فإنها كامنة راسخة فالمادة فيها كل نبات وحيوان وهكذا عقول نوع الإنسان إنها تحفظ عناصر السعادة وإنما يعوزها الاستخراج والإنماء فمن نظر إلى زنجي وإفرنجي قال لأول وهلة إن الأول ن التراب والآخر من معدن الذهب وضل عن هذا الزاعم فإن البذرة متحدة واختلفت المظاهر بالتعهد والتربية وما الإفرنجي إلا من أولئك البرابرة التتريين قوم جاءوا من آسيا وأحاطوا دولة الرومان ثم غلبتهم وورثتهم علومهم ولغاتهم وقوانينهم المتوحشون أسرع قبولا للمدنية .

وأقوى أجساما وترى الأرض التي بقيت بورا أمدا طويلا أنضر زرعا وأغزر شجرا من الأرض التي أنهكها الزرع والحصاد، فكيف يهرف فريق من العلماء بقولهم متوحشون ومتمدينون، ويحكمون جهلا على فريق أنهم لا يرتقون وهم كانوا مثلهم في غابر الأزمان فعقولكم البشرية لا تزال خاوية من الحكمة واقفة في أول الطريق ولكنها على باب الهداية إذ بدأتم تكشفون أسرار الخليقة وستعتقون العقول من الرق، وتستخرجون كنوز الأرض النباتية والناموسية فهي الكافلة بنجاحكم والكافية لإسعادكم وإزالة العوائق المخترعة ولتعلموا أنكم نوع واحد وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.

البستان والسماء

ثم قال ما أجهلكم بالجمال، وما أبعدكم عن الحكمة وما أقربكم للجاهلين خبرني رعاك الله: لو أن امرأ منكم خير بين النظر في السماء وجمالها وبين التمتع بالنظر في البساتين وأزهارها فأي المنظرين أجمل لديه؟ فقلت: البساتين فقال: أتدري لماذا استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ قلت: كلا قال: لأنكم لا تعرفون النعم إلا بامتناعها ولا تحبون إلا ما كنتم عنه مبعدين ثم نظر نظرة في السماء والنجوم وأنشأ ما ترجمته من الإنجليزية:

أضيء يأيها النجم الصغير

فشأنك في غرابته كبير

فوق رءوسنا أبدًا تسير

كمثل الماس رصع في السماء

إذا ما الشمس غابت في دجاها

وبل النبت في الدنيا نداها

ترينا الضوء يلمع في رباها

أضيء يا نجم في غسق الدجاء

ظهرت بموكب وسط السماء

وتزجي النور منك على البناء

بناظرك المصوغ من السناء

فلا تخبو بغير سنا ذكاء

تضيء الأرض من أعلى سماها

وتهدي من يسافر في فناها

فماذا أنت يا باهي سناها؟

أضيء فالله خصك بالضياء

الحكومات:

ولكم نظمت لكم الحكومات لتحفظ أمنكم وترفع شأنكم وترتقي فتقكم فظننتم في الملوك مثل ما كنتم تظنون في الأصنام وانقدتم انقياد العمياء وخضعتم للظالمين فأف لهذا الإنسان! جهل الناس عجائب الرموز وحكمة الظلمة والنور والظل والحر جهلوا مزية الديانات ووقفوا عند ظاهر الكلمات.

ومن جهل هذه الكائنات وضل عن هذه المخلوقات فأحر به أن يجهل سر نظام الحكومات! ألا فليعم التعليم والتعقل في أنحاء الكرة الأرضية.

ألا فليعقل الناس ما حولهم إن حياتهم اليوم عار وألف عار أزيلوا ما لديكم من النظامات العتيقة الفاسدة واستبدلوا خيرا منها فالعلم عجيب والله سميع قريب ونظام هذا العالم بديع والعقل الإنساني شريف رفيع.

الحكمة الثالثة عشرة: الكهربا

لمع ضوء برقي تحت عجلة الكهرباء ضحا في حمارة القيظ فأشرق وأضاء سناها الأزرق المحمر بشكل عجيب جميل فقلت: الحياة أعمال ومشاق العقول تضىء وتسعد.

الناس اليوم في عداوة وعذاب أليم من الحرب والضرب فإذا أضاءت عقولهم كما أضاءت هذه الكهربا والكهربا في سائر الأجسام المادية.

إن الأرواح الإنسانية فيها كهرباء المحبة والمودة والجاذبية الإنسانية فإذا اكتشفت تلك الكهربا أضاءت للناس وأسعدتهم وبدلت بالعداوة المحبة وبالمشقة السهولة، وحملت عنهم مشاق الحروب والأذى والنفقات العظيمة كما حملت الكهرباء عن الناس أثقالهم وأدارت آلاتهم وحملت أمتعتهم وخاطت ملابسهم وأضاءت منازلهم. وإذا كانت المادة حاوية لهذه المحبة الكهربية أفلا تحمل القلوب ما هو أجل وأبهى وأبهر من أنواع الجمال والعشق والمودة الناجمة عنها السعادات؟

من كتاب جواهر العلوم

ويسألونك عن الروح قل الروح من أمري ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا قد أجمع علماء اليونان وأوروبا على أن علم النفس إنما يكون بعد الرياضيات والطبيعيات وهاك آخر ما وصل إليه البحث إلى وقتنا هذا من ترتيب العلوم بحيث إن المتأخر لا يفهم إلا بعد المتقدم (1)- العلوم الرياضية

2- العلوم الفلكية 3- العلوم الطبيعية

4- علم الكيمياء 5- علم وظائف الأعضاء

6- علم النفس والمنطق 7- علم الاقتصاد السياسي

8- علم تكوين الشعوب 9- علم تمييز الجمال

10- علم ما وراء الطبيعة ويدخل العقائد ومعرفة الخالق والروح وأما علم النفس فإنما هو ظواهرها لا حقيقتها 11- علم الأخلاق

12- علم الحقوق 13 – العلوم السياسية.

فأنت أيها الأخ ترى من هذا الجدول أن علم الروح في المرتبة العاشرة مع العلم الإلهي العبر عنه بما وراء الطبيعة أو الفلسفة الأولى أو العلم الأعلى والمخطب بهذا هو يهود جزيرة العرب ولا ريب أنهم أبعد الناس عن هذا العلوم فلا يمكنهم فهم الرياضيات العليا فضلا على الروح فلذلك قال: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أي ولا يفهم الروح إلا من درس علوما كثيرة وما أعجب قوله: (من أمر ربي) إذ علم الروح وعلم الألوهية في الدرجة العاشرة.

وأما آيات الأنفس فإن للإنسان جسما وروحا أما الجسم فأظهرته أشعة رنتجن التي هي عبارة عن أضواء شرر الكهرباء المنحصرة في آلات تسلط على الجسم فتكشف الأعضاء من الداخل وتظهر الدورة الدموية من وراء الجلد واللحم والقلب والعروق كأن هذه الأجسام شفافة لا تحجب ما وراءها مما يدهش العقل ويحار فيه الفكر اللبيب مصدقا لقوله في هذه الآية: (وفي أنفسكم) ومعلوم أن في للظرفية: أي الآيات المظروفة في نفوس النوع البشري والمراد بها هنا ما يشمل الجسم.

وأما الروح فقد ظهرت عجائب بالتنويم المغناطيسي الذي تناقلته الإفرنج عن الهنود.

قالت جمال: كيف تبقى الروح بعد الموت مع أننا نرى الجسم متفرق الأجزاء قد أكله الدود وتناثر لحمه وبليت محاسنه وذهب رونقه على أننا نرى الأطباء يخدرون المرضى فلا يحسون بألم ومعلوم أن الموت اشد من التخدير بتلك الأجزاء الطبية؟ فإذا كان بالتخدير لا يحس بالألم ولا بالسرور فما بالك بالموت.

فقال إبراهيم: أيتها الفتاة إن للروح بقاء بعد الموت وما مثل الروح في الجسم إلا كثمل الماء في الإناء أو السراج في الزجاجة التي كأنها كوكب دري فكما أن الماء إذا كان في الإناء أعطى صفاته من حيث الشكل واللون فيحمر لاحمراره ويصفر لاصفراره ويخضر لاخضراره كذلك الروح ما دامت في الجسم تعطي حكمة وتتأثر بتأثره فتتخدر بالتخدير وتضعف بالضعف حتى إن المريض نراه سيء الخلق لانحراف مزاجه وضعف قواه البدنية والخلق من صفات الروح لا الجسم فها هنا تأثرت الروح بالجسم وهكذا حال السكران وأقوى من ذلك كله المادة التي تشمم للمريض وهي الكلوروفورم فإنها خلاصة مواد متخمرة وبعبارة أخرى خلاصة خمر فلا جرم إذا كان تأثرها اشد وهذا كله لحكم الجسم على الروح كما حكم الزجاجة على الماء فيه فأعطى كثيرا من أحكامه وصفاته.

وكما أن الزجاجة إذا انكسرت رجع الماء إلى حاله الأولى: فهكذا الروح إذا فارقت الجسم رجعت إلى عالمها متحملة بأنوارها أو ظلماتها بل مثل الروح في الجسم كمثل المصباح في الزجاجة فإذا لونت الزجاجة بأي لون خرج ضوء الزجاجة على ذلك اللون نفسه من أحمر أو أخضر أو غيرهما فإذا كسرت الزجاجة بقي النور بشكله الأصلي فالروح إذا فارقت الجسم رجعت إلى عالمها فإما إلى جنة وإما إلى نار.

الرسالة الكيالية الطاهرة

إن خير ما نختم به هذا الكتاب تلك الرسائل المتبادلة بين الشيخ طنطاوي جوهري والأستاذ الحسيب النسيب الشيخ طاهر ملا الكيالي الرفاعي رئيس العلماء بناحية إدلب من أعمال حلب الشهباء ونقيب السادة ولقد وقعت في يدنا تلك الرسالة مخطوطة، إذ لم تتح لها فرصة النشر من قبل فرأينا لطرافتها وفائدتها أن نعرض بعضها فيما يلي مقدمين لمن وافانا بها ولأسرته الكريمة أجزل الشكر....

الرسالة الأولى

باسمك يا منعم..........

وكان فضل الله عليك عظيما...

سيدي حكيم العصر وبهجة الدهر أبقاك الله تعالى عونا وغيثا ليزيل عنا عبثا بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شرفت بمطالعة كتباكم نظام العالم وأمم الجامع حقائق الحكم الشارح قول القائل:

ما الكون غير صحيفة الأقدار

خطت ليتلوها ذوو الأبصار

كم من عظات ضمت مسطورها

إن كنت جالها فأين القارئ

والرامز لما روى عن المزني أنه قال: لما وافي الشافعي مصر قلت في نفسي إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فلس غيره فصرت إليه وهو في مسجد مصر فلما جثوت بين يديه قلت: إنه هجس من ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحد لا يعلم علمك فما الذي عندك؟ فغضب ثم قال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم قال: هذا الموضع الذي غرق فيه فرعون أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ فقلت: لا فقال: هل تكلم فيه الصحابة؟

قلت لا قال: أتدري كم نجوم السماء؟ قلت: لا قال: وكوكب منها تعرف جنسه وطلوعه وأفوله مم خلق؟ قلت لا فقال شيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه فتتكلم في علم خالقه ثم سألني عن مسالة في الوضوء فأخطأت فيها ففرعها على أربعة أوجه، فلم أجب في شيء منه فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه وتتكلم على علم الخالق؟ إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله تعالى وإلى قوله (وإلهكم إله واحد) والآية بعدها فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلم على علم ما لم يبلغه عقلك قال: فتبت .

فإنك أيها السيد الجليل قد أوضحت بكتابك هذا البرهان بدلالة الصفة على الصانع والدنيا على الآخرة والآيات القرآنية على الآيات الكونية وجمعت بين المتفرقات والفت بين المختلفات فجزاك الله عن الأمة المحمدية خير جزاء ولولا عجزي لضعف البصر لفضلت إقدامي على رأسي للسعي إليك والشرف بالمثول بين يديك فأنبت هذه عني راجيا إتحافي بآثارك الشريفة وعلومك المنيفة ودعواتك اللطيفة وعلى مولاي السلام في البدء والختام.

16 من ذي القعدة عام 1337

نقيب السادة بإدلب

وخادم علمائها آل ملا الكيالى

طاهر ملا الكيالى

ملحوظة: سيدي إن بيتنا الكيالي ذكره السيد الزبيدي في شرح القاموس في آخر مادة (ك ي ل) وأن السيد شعيب الكيالي الذي هو عمنا شيخه.. فلنا بأفضل مصر كم رحم آمل دوام مواصلتها.

الرد على الرسالة الأولى

القاهرة في الأول من المحرم عام 1238 الموافق 26 من سبتمبر عام 1919 سليل المجد والشرف ورب الفضل والأدب خير الأماجد كابرا عن كابر الأستاذ طاهر نقيب الشرفاء وسيد العلماء.

تحية وسلاما وإجلالا وإعظامًا وشوقًا وتهياما أما بعد فأهلا وسهلا بمناط الجلال ومحتد الكمال وزينة الجمل وفخر العرب في أشرف نسب وصلت رسالة السيد حفظة الله فكانت قرة عين مزيلة الغين مذهبة الرين ومبعدة الأين جالبة الأنس والبهجة برياضة السرور الأرجة فقرأتها مرتين وأرجعت البصر كرتين وآنست فيها آيات الحكمة ودلائل العلم فكانت أحاديث سعد.

فيا سعد خبرنا بأخبار من مضى

فأنت خير بالأحاديث يا سعد

وقد جاء في الكتاب أنكم قرأتم نظام العالم والأمم فوقع لديكم موقع القبول فقلت إنما يعرف الفضل من الناس ذووه والحكمة أدرى بأهلها والقلوب أعلم بأمثالها إن الله ملائكة يسوقون الأشكال إلى أشكالها وليس بالألف المرء إلا ما عرف والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وفي هذا الوجود آيات وفي قلوب هذا الإنسان بينات ولله في الخلق دلالات والعلم كالمطر لا يخرج النبت إلا حيث يطيب بلدا والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وعشاق العلم متجاورون وإن تباعدت الديار متحدون وإن اختلفت الأطوار إن أقرب البعدين بعد الدارين وأبعد الدارين بعد القلبين ثم عسى أن تتصل المكاتبات بيننا لأن ذلك أدعى إلى انتشار العلم في سائر البقاع وقد ورد الخطاب مؤرخا ب11 من ذي القعدة ووافي مصر في أواخر شهر ذي الحجة هذا وتقبل مني التحية والسلام والإجلال والإعظام.

المحب المخلص طنطاوي جوهري

المدرس بالمدرسة الخديوية بمصر .

الرسالة الثانية

باسمك يا حكيم

ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرًا

سيدي الأستاذ الكبير سلام عليكم بقدر شوقي إليكم وبعد فقد ازدانت الديار وتنورت البصائر والأبصار وانشرحت الصدور وتعطرت المحافل بورود جواب سيد الجوهري ونشر خطابه العبهري وإفادت إهداء كتاب الأرواح الذي أقيمت له قبل وصوله الأفراح المشير لما رواه من حديث الأرواح وسر مواصلة الرسوم مع تباعد الحدود.

ولو كانت الأقطار طوع إرادتي

وكان زماني مسعدي ومعيني

لكنت على شط الديار وبعدها

مكان الذي قد سطرته يميني.

لأطوف حول كعبة اللطائف ومشعر المعارف ومني الضيف وقبلة الصلاة هذا وإني بحمده تعالى مشغوف بنشر عرف نظام العالم والأمم وفي الدروس والنوادي الخاصة والعامة لأنه حدق انطبعت فيها المحاسن وحديقة أكلها دائم وسلسبيلها غراس وقد أحسنتم كل الإحسان في حكاية سيدنا إدريس مع إبليس فمحوتم نقطة الغين عن العين وجعلتموها مبصرة وأحكمتم التسديد في سد يأجوج ومأجوج فلله دركم وما أحكم سدكم وقد كنت معجبا بما ذكره العلامة الألوسي في تفسيره روح المعاني في قصة السيد في رحلة صفوة الاعتبار فإنه أحكم في أفواه الطاغين الرد وحين رأيت تحقيقكم في النظام زدت سرورا فجزاكم الله خيرا وقد نور قلوب السلف بتنوير أقوالهم.

فلو رآكم الفخر لافتخر بتقديركم تفسيره أو الأستاذ ابن رشد لازداد رشدا أو العلامة ابن خلدون لتمنى أن يكون في رياض مجالسكم مخلدا أو حجة الإسلام لنحا محجتكم ونسج غزله على منوالكم وقد بعثتم الهمم لمطالعة كتابه الذي قال فيه السيد العيدروسي من لم يطالع الأحياء لا يعد من الأحياء ومن لم يقرأ الأحياء ليس حيا.

ولو عاش الأموات ما أوصوا الأحياء إلا بما في الأحياء أو الإمام الشافعي لسر بنشركم أقوال رسالته التي هي أول مصنف في أصول الفقه: قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي كتبت إلى الشافعي رضي الله عنه وهو شاب أن يضع لي كتابا فيه معاني القرآن ويجمع مقبولا الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ من المنسوخ من القرآن والسنة فوضع لي كتاب الرسالة فما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.

قال الذهبي وكان عبد الرحمن بن مهدي من كبار العلماء قال فيه أحمد بن حنبل عبد الرحمن ابن مهدي إمام وقال يحي بن سعيد القطان حين عرض عليه الرسالة للشافعي ما رأيت أعقل ولا أفقه منه وأنا أدعو له في دبر كل صلاة لما فتح الله عز وجل عليه من العلم ووفقه للسداد إليه.

وقال عبد الرحمن بن مهدي لما قرأ كتاب الرسالة ما ظننت أن يكون في هذه الأمة اليوم مثل هذا الرجل أو أن الله خلق مثل هذا الرجل.

قال الربيع: رأيت الشافعي رضي الله عنه في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أنا في الفردوس الأعلى فقلت: بماذا فقال: في كتاب صنعته وسميته كتاب الرسالة.

ولو سمع الشعراني ثناء كم على العلا وابن رشد لرجع عما قاله من التحذير من مطالعة كتبه وجدير بمن يلقي سيادتكم أن ينشد:

ولقيت كل الفاضلين كأنما

رد الإله نفوسهم والأعصرا

وقد وافاني الجواب المستطاب يوم عاشروا فكان عيدا أكبر يوما أزهر وسرعة سيرة وبطء خطابي برهان ظاهر على عجز الفقير طاهر وعلى التفاوتي بين الهمتين والتباين بين العزيمتين وأما تأخر كتاب الأرواح في البريد للآن فلأنه إن يكن كتابا في الاسم فإن الله سبحانه يبقيكم عالما لهذا العالم وأبا ثانيا لنبي آدم والسلام.

21من المحرم عام 1238

طاهر ملا الكيالي الرفاعي

باسمك يا حافظ

فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين

سيدي الأستاذ الأوحد المفضال حرسك مولاك وبعين عنايته رعاك سلاما وبعد فقد وافاني الكتاب الباهي الباهر المؤرخ في 1 من ربيع الأول المبشر بسلامتكم التي بها سلامة الفضل والحكمة العالية ومعه الكتب الكريمة ومضمونه يومئ إلى استحسان ما في أين الإنسان؟ على ما في صحيفة 103 من جمال العالم وهذا التناقض الظاهري برهان على أن العقل محتاج لميزان به يعرف صحيح الفكر من غيره كما قاله الإمام الغزالي وغيره حظره لما عليه الأشعرية من أن التحسين والتقبيح شرعيان لا عقليان لأن العقل قاصر عن إدراك جميع ما أتى به الشرع.

ولذا قال السيد جمال الدين الأفغاني في الآستانة سنة 1310 ه: إن النحو توجب مراعاته اتفاق الناس مع اختلاف ألسنتهم ومذاهبهم على رفع الفاعل ونصب المفعول مثلا وأنا لم أرى للمنطق فائدة فإن المناطق منهم السني كالرازي والشيعي الطوسي والمعتزلي كالجبائي وغيرهم لم يجمعهم المنطق على مذهب واحد فكيف تكون مراعاته عاصمة للذهن عن الخطأ في الفكر .

فقلت له: لو كان أرسطو حيا ما وسعه إلا أتباعك في هذه الآلة وأما ما ذكرته فهو غير دار كما لا يخفى فإن الطبيب عليه بذل العناية بما يوافق القواعد الطبية وليس عليه حفظ الحياة على أن الخطأ قد يكون اشتباه المشهورات الظنية باليقينات فإن أكل اللحم عند البراهمة قبيح وعند غيرهم حسن فهذا من المشهورات لكنه عند الفريقين صار من اليقينيات فاستحسن ذلك أقول وممن أطنب في تحريمه السيوطي في كتابه وعقوده والعارف النابلسي في شرح الطريقة وعلله بأنه يقوي الجزء العقلي على الجزء الإيماني فيضعفه أو يذهب بالكلية ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

وقد قال الشيخ رسلان: الناس تائهون عن الحق بالعقل صحيفة 338 جزء أول وما ذكرت ذلك إلا لما أرى من هؤلاء الزاعمين أنهم أنصار الإنسانية فإنهم باتباعهم لأهوائهم التي تأمرهم بها أخلاقهم ونبذهم لما جاء به الأنبياء عليهم السلام استحكمت فيهم الهمجية والوحشية وقد قال الجد ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون إن انتظار العالم إنما يتم بالشرائع فلو عطلت والعياذ بالله تعالى كان تعطيلها الناس على ما يفي الحرث والنسل ويخرب العالم أما عند خفاجي وغيره .

فإن الشرع العيسوي يقول: من ضربك على خدك الأيمن فأرد له الخد الشمال .

وأمر الشرع المحمدي بالعدل والإحسان إلى كل إنسان بل حيوان ونص على البر والإقساط بخصوص المخالفين في الدين فقال: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين والآن جاءنا متحدثو الغرب يشوهون وجه الإنسانية ويوقعون الخلاف بين العناصر المتجاور وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. وأملي دوام تبشيري عن أحوالكم السارة

مخلصكم طاهر الكيالي.

8من ربيع الآخر عام 1338

حاشية : يلثم أذيالكم الطاهرة ويطلب حسن رضاكم ودوام توجيهاتكم ودعواتكم الفاخرة من إدلب من أعمال حلب.

سامي بن طاره الكيالي.

وهنا نبدأ:

1-الرسالة الكيالية الطاهرية

حيا الله الطلعة الطاهرة شمس العزة الكيالية وبدر الشريعة الإسلامية وزين العلماء وفخ الكبراء فلقد أرانا من آياته العجب العجاب وطفقت تدخل العلوم عليه من كل باب وأشرفت عليه شمس المعارف فنال منها التالد والطارف وغني لمدين لآياته مغتبط بكتاباته وكأني حينما رميت بالدواة والقرطاس ونبذت محادثة الجلاس وآنست بوحدتي ولزم غرفتي قيض الله له الرسائل الطاهرية والبينات الكيالية، لتنير ما بطن وتبرز ما كمن:

وهيج وجدي بعد ما كان نائمًا

براد الضحا مشغوفة بالترنم

فلو قيل مبكاها بكيت صبابة

بسعدي شفيت النفس قبل التندم

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا

بكاها فقلت: الفضل للمتقدم

فلقد ورد في كتاب السيد المؤرخ في 8 من ربيع الآخر سنة 1338أن ما جاء في كتاب جمال العالم يناقض ما في كتاب أين الإنسان على ما في صفحة 103 من جمال العالم وهذا التناقض الظاهري برهان على أن العقل محتاج لميزان به يعرف صحيح الفكر من غيره كما قال الإمام الغزالي وغيره ثم خطره لما عليه الأشعرية من أن القبيح والتحسين شرعيان لا عقليان لأن العقل قاصر عن إدراك جميع ما أتى به الشرع أقول ما ألطف جعل السيد التناقض ظاهريا يريد أن يحثنا على تبيان حقيقته وباطنه حتى لا نخالف أهل التحقيقيه ولا نبعد عن الحق في مكان سحيق فلذلك ألفت هذه الرسالة وأسميها الرسالة الكيالية الطاهرية ليقابل لفظها معناها وما في مدلولها مبناها وكما أن الماء طهارة من الخبائث الجسمية كذلك الحجة طهاة من خبائث الزيغ العقلية ولأقدم مقدمة فأقول:

2-القول في تقسيم الحكمة، وفي الخير والشر

إن قارئ الحكمة عليه أن يقدم المنطق لئلا يضل السبيل ويحيد عن الصراط المستقيم، والحكمة قسمان: علمية وعملية والعلمية فيها الرياضة والطبيعي والعلم الإلهي والعلمي يشمل أدب الإنسان في نفسه وسياسيته مع أهل منزله وسياسته مع أمته والعلم الإلهي في الحكمة يضاهي علم التوحيد في الشريعة وكل يمجد الله وثبت له جميل الأفعال وشريف الصفات وأبهج الأخلاق جل جلاله وعز ماله وبهر سلطانه فترى أهل الحكمة يقولون في كتاب الإشارات لابن سينا إن هذا العالم منظم حسن جميل بهج سائر على النهج الأتم ولو لم يكن كذلك لكان كله شرا والشر لا يكون من العاقل فكيف بمن هو واهب العقول ومبدع الأصول؟ .

ويقولون: إن الأشياء لا تعدو الخير المحض والشر المحض وما يتركب منهما ولا رابع لها بمقتضى القسمة العقلية أما الشر المحض فالحكمة لا ترضاه والعلم يأباه والوجود لا يحويه والله لا يأبه به والخير المحض وهو عالم الأرواح لا مرية في وجوده ولا نزاع في بقائه وأما ما غلب خيره على شره كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس فإن حكمة الحكيم توجب وجوده ومن العبث والخطل أن يظل معدوما وجلت حكمة الحكيم أن تضن بما غلبت خيراته وعمت بركاته ولهذا وضعنا كتاب جمال العالم تثبيتا للعقائد وتبيينا لحكمة الله جل جلاله فلقد يحار العقلاء في هذا العالم لم خلق الله الحيات والعقارب وذرأ الذئاب والثعالب.

وسلط النمور والأسود على الخرفان والأرانب ولم ظلم الحاكمون وجار الظالمون وبطش الباطشون وأغار الأقوياء على الضعفاء وغلبت الروم في أدنى الأرض ثم من بعد غلبهم يغلبون؟ ولم كان النظام الحيواني والإنساني مغموار في حمأة الرذائل وإن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ولم كان كل ما تمتعنا به نفحة من عذاب جهنم حتى نهي الله نبيه أن يمد عينيه إلى ما متع به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا وقال: ولا يعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بما في الدنيا فصار أعظم النعم في الحياة عذابا وأهم المبرات في الدنيا خيالا.

غير مجد في ملتي واعتقادي

نوح باك ولا ترنم شاد

وشبيه صوت النعى إذا قيـ

س بصوت البشير في كل ناد

أبكت تلكم الحمامة أم غنت

على فرع غصنها المياد

فكان مدار كتاب جمال العالم القضاء والقدر ليكون الإيمان باليقين ولا جرم أم مسألة الحرب بالقنا والسيف والمدافع الجبلية والمناطيد الهوائية والعمارات البحرية والمركبات الكيميائية يحار العاقل فيها ولا يدري ماذا يقول فيها؟ وإذا كان الله قد أنزل في كتابه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) وورد في الحديث أن الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها يشير إلى امرأة في السبي كانت ترضع كل طفل لا مرضع له إذا كانت هذه صفات الرحمن الرحيم وفي بني آدم الذين استمدت رحمتهم من رحمته من لو أمكنه أن يسع البرايا لفعل فكيف تكون إذن صفات من براه وصوره؟

ولا جرم أنه ليس يمكن أن يكون الوصف في المخلوق أجل ولا مماثلا له في الخالق وإذا كانت هذه كله ثابتة نقلا وعقلا فكيف يتصور أن يكون هناك ظلم على الأرض وقوة وشدة فكان لابد في كتاب جمال العالم من الحكمة الإلهية العالية فلقد استبان فيه الحكمة وأنها لا تخرج عن دائرة الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء.

3-ضرب أمثال لما تقدم

الطب فللطبيب أن يقطع العضو من المريض ليدرأ عنه المرض ويزيل عنه الداء ويجلب إليه الشفاء أو كمثل الأب الذي يرغب في تعليم ولده وإن كانت الأم تأبي ذلك وتود لو يبقى أبنها في بيتها ملازما لها حبا له وغراما به فمثل الناس كمثل الأم يظنون الحرب نقمة وهي من الله نعمة بها يتنافسون ويجدون ويجتهدون ويستفيقون من غفلتهم بل الأم التي سكنت واستنامت واطمأنت وغفلت واستقرت على فراش الراحة الوثير تالف الذل.

فإذا أوقد الله نار الحرب بينهم وبين غيرهم نشطوا من عقالهم وقاموا يصلحون ما أفسده الدهر وظلوا في أعمالهم مجدين أولئك هم المفلحون وقد يكون المرض والفقر للأفراد داعيا حثيثا لاستئناف سعادتهم ونبذ شقاوتهم وذهاب فقرهم فكل مرض وفقر وحرب وحاجة تدعو حثيثا إلى مزاولة الأعمال والمبادرة إلى المحافظة على الصحة والمال والعمل والاستقامة والدوام في الرقي الاجتماعي فما مثل الله مع المرض ومع الفقراء ومع بعض الأمم الضعيفة إلا كمثل الأب البار المشفق الرحيم العاقل الحكيم الذي أرسل ابنه إلى المدرسة وأنساه الراحة وألزمه المكتب ولعمرك إن الألم لا يكون إلا على مقدار الحاجة: ألا ترى كيف كان ظاهر الجسد بوضع الإحساس والشعور والحواس الخمس وفقدت الأعضاء الباطنة أكثر الإحساس ولم يكن للنبات ألم لأنه لم يعط قدرة على دفعه مع أن له من الإحساس والشعور ما به يعيش؟ وما مثل الناس في نظرتهم إلا كمثل الأم لا ترضي بارحة ابنها بديلا لقصر نظرها وقلة عقلها ولقد قال أرسطو طاليس للإسكندر في رسالة:

إياك وأن تنيم الأمة على بساط الراحة فتهلك حرثهم ونسلهم ولكم من أمة أهلكت لا أمنت واطمأنت فإن الناس لا يحملون الراحة ولكنهم أقدر على احتمال الشدائد إنهم عند الشدائد لقادرون وهم عند الراحة هالكون.

إننا في كتاب جمال العالم ننحو هذا النحو من العلم ونقول إن الحرب نعمة بل إنها باب من أبواب الرحمة الإلهية الواردة في الحديث الشريف إن لله مائة رحمة ادخر تسعا وتسعينا منها لعباده المؤمنين في الآخر وألتق منها واحدة في الدنيا فيها تتزاحم الخلق حتى إن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خيفة أن يصيبه أو كما قال هذا الذي نحونا في كتاب جمال العالم.

4-كتاب أين الإنسان

أما في كتاب أين الإنسان فإنا قد نظرنا نظرة في العالم الإنساني فألفيناه على هذا الحال لم يزل كالصبي في زمن المراهقة كما قال كاتب أمريكي فهو لا يزال يتخبط في بحور الظلام وخبائث الأوهام يتراكض هو والصبيان فيرجع وقد انكسرت ساقه أو جدعت أنفه أو شرخ رأسه أو فقئت عينه أو كسرت سنه فهو أبدا دائم العراك ضعيف الإدراك قليل الأدب كثير النصب والتعب ووجدت أن هذه الحال ليست هي الغاية القصوى ولا الآية الكبرى فلو أنها استبدل بها خير منها لكان أهدى سبيلا وأقوم قيلا وأقرب مثلا وأعلى منارا فلكم انقرضت من الوجود أنواع من الحيوان وجاء على آثارها ما هو أنفع للإنسان وكم من علوم انقرضت وظهرت ي أثرها علوم ولقد رأيت رأس حيوان في المتاحف المصرية التقطوه من بقايا الآثار التي عثروا عليها في الفيوم إذ هي كالقبة الكبيرة .

ويقولون: إن متاحف العالم كله ليس فيها نظير هذا الحيوان الذي ليس له نظير في الأرض اليوم فإذا ما انقرض هذا الحيوان كما هو الواقع وكان غيره أصلح فهل تقول: إن وجوده لم يكن لحكمة أو تقول: إن حكمة وجوده كحكمة خلق نوع يخلفه في الوجود فهكذا هنا تقول: إذا كانت الحروب القائمة والجيوش الجرارة والمناطيد الهوائية والمدافع والجنود والسيوف والبنود لحكمة ارتقاء الإنسان فلا مانع يصدنا عن القول بأن هناك نظامًا أعلى ومقاما أرقى.

وذلك بأن نهذب الطريقة وتكون الحقيقة وتوجه الحرب للمطامع الحيوانية بل للسعادة الإنسانية كما فعلت الرسل الكرام وإذا كان الناس اعتادوا أن يجعلوا الحرب للطعام كالأنعام فهل ارتقوا إلى ما هو أشرف بأن العز عصبة قوية من الأمم جميعا ومن حسن النية وإخلاص الطويلة جعل الحرب محصورة في دائرة مقفلة وإدارة مخصوصة ذلك خير وأحسن تأويلا وإذا نحن أحببنا لعب الطفل وأبحناه بل أوحيناه وجعلناه شعار القوى والنبل والنباهة وحرمنا حصر حركاته ونسبنا إليها كل ضعف وهزال فيه فإن تعليمه الأدب لتنظيم حركاته والثبات في أعماله من أشرف المطالب وأقوم المسالك.

فهكذا لعب الإنسان بالحرب بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، فإذا أبصر رشده وعمل جهده في نبذ تلك النزعات وتعلم الأدب وأخذ يلم شعثه ويقضي على ما كان من السيئات فقد استبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى كما استبدل حركات الطفل الجنين باللعب وكما نذر آلات الحرث والحلج القديمة ونستبدل بها خيرا منها وهي تلك الآلات التجارية للحرث والطحن والبناء والنسيج وما أشبه.

5-عجائب الله في العقول والوحي

وإجمال ما فصل هنا وإزالة التناقض في الكتابين وتفصيل الكتاب لمن أرادوا تفصيلا هو أن عجائب الله عز وجل كما تكون في الشرائع والديانات تكون على ألسنة العلماء وقلوب المفكرين قل كل من عند الله فإن ثبت أن الوحي المنزل على الأنبياء والحكمة المنزلة على الكتاب بتوفيق إلهي وروح سماوي بل النفوس الشريرة البشرية يتنزل على أفئدتها الوسواس من الأنفس المفارقة المشاركة لها في الملأ الأعلى وذلك كله من العجيب العجاب والاستعداد البشري الغريب الذي يتراءى كلوح لها في الملا الأعلى وذلك كله من العجب العجاب والاستعداد البشر الغريب الذي يتراءى كلوح يقبل كل ما يقابله من الصور فيظهرها ويجليها فالنفوس تقبل ما تناسبها من العقول وتنشر ما استعدت له من العلوم ولقد تجلى لي عند تأليف كتابي جمال العالم هذا الإنسان وهو دور مراهقته فأيدنا حربه وأبنا سر الله فيه وفصلناه تفصيلا فلما أن مضى نحو عشر سنين تبدي لي العالم بشكل مرجف وهيئة مزعجة ورأيت أن هذا النظام وإن كان مشمولا بالحكمة مرموقا بعين الرحمة مغروسا في أرض الفضل الإلهي فوقه ما هو خير منه وأبقى وأشرف وأعلى فألفت كتاب أين الإنسان؟

ولم أكن إذ ذاك يصدد الذي يظهر الحكمة الإلهية في العلم الإلهي ولا الذي يريد تثبيت العقائد وتفصيل الحقائق وإزالة الصدأ عن الأذهان، فلذلك كنا قد فرغنا منه وانتقلنا إلى الحكمة العملية كما أسلفنا ولا جرم أن الحكمة العملية موضعها نفوس الناس من حيث أخلاقها وآدابها ونظامها فرأيت أن أضع لهم أحسن نظام وأجمل أسلوب بحسب طاقتي البشرية وفكرتي الإنسانية وفوق كل ذي علم عليم.

هذا بياني في هذا المقام عسى أن تقبله الأفهام.

6-القرآن والعلوم

ولقد ورد في القرآن ما يكاد يتبين للناظر فيه أنه مشكل متناقض فإذا ألقيت عليه أشعة الشمس العملية جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ألم تقرأ قوله تعالى: (إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) قوله (يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم فأمر عليهم الصلاة والسلام أولا وبالحرب آخرا ولا تناقض لتباين الحالين وتباعد الأمرين الضعف والقوة ولقد ذم الله المال ولكن مدحه صلى الله عليه وسلم كما في البخاري فقالت: نعم عون المؤمن إذا ما أعطى منه الفقير والمسكين وابن السبيل) أو كما قال: فالذم باعتبار والمدح باعتبار آخر.

وقال تعالى في صفة الذات العلية (ليس كمثله شيء) وقال يد الله فوق أيديهم ودل الفصل على نفي الجسمية عنه تعالى: فسر العلماء حال اليد إلى التنزيه وأولوها بالقدرة وإرجاع ما في النقل إلى العقل إذا استحال والنقل إذا قام البرهان القطعي على نقيضه أول ليوافق العقلي، والشرائع ما عرف صدقها إلا بعقولنا فإذا نبذت تلك الشرائع المعقولات فقد نقضت أصلها وهو العقل وما لا أس له فمهدوم ومالا أصل له فضائع فيخر شفق العقائد فوقها وينهار بناؤها على عروشها ولما كانت هذه حال الشرائع السماوية وإنها لابد لها من عقول مرشدة ونفوس نيرة وآراء صائبة وعلوم مرشدة لتبين ما نزل للناس بالوحي وكان الاختلاف فيها واقعا لاعتياص الدلائل وتنافر الظواهر عند الذين لا يعلمون نزل قوله تعالى (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين)

كان القرآن بنص الآية سببا لضلال قوم لا يعقلون ونورًا لقوم يفقهون فإذا سمعوا آيات اللين في موضعها وإذا قرءوا آيات الشدة أثبتوها في مكانها ولو أن الناس فسروا الدين ولم يعقلوا أساسه لضلوا سواء السبيل ولذلك نقلت في كتابي التاج المرصع عن الإمام الغزالي أن من يأخذ العلم من ظواهر الكتاب والدين ينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين، لأنه يقف عند الظواهر ولا يقفوا أثر الحقائق فيكون في شك مبين ويكون الضلال والوبال فأما المفكرون والحكماء فإنهم يجعلون لكل مقام مقالا إذ يتشبثون ويثبتون الحقائق ويبنون المواطن ثم يجعلون لكل آية محملا (فلآية السيف حال ولآية السلم حال).