البيعة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٦:١٤، ١٧ ديسمبر ٢٠١٠ بواسطة Helmy (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
البيعة



بقلم / محمد زيدان

مقدمه

البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ إذ إنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم بل وتسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد رسول الله، فهي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي وأداة إعلانه التزامه بالمنهج والشريعة والشورى وهي صيغة تمكين الأمة لا خضوعها، قبل الدولة، وبعدها.

والبيعة هي ميثاق الولاء للنظام السياسي الإسلامي أو الخلافة الإسلامية والالتزام بجماعة المسلمين والطاعة لإمامهم، فهي ميثاق إنساني لكنه يتأسس على رؤية عقيدية ويتضمن ثلاثة أطراف هي الخليفة نفسه والقائمون بالبيعة أي الأمة، والمبايع عليه وهو الشريعة، ولا تنتهي مسئولية الأمة بعقد البيعة بل تستمر في تحمل تبعة حفظ الدين وتطبيق الشريعة من خلال الشورى، والرقابة على الحاكم، ونصحه إذا حاد، وعزله إذا لزم الأمر واقتضت المصلحة العليا للبلاد والعباد.

وإذا كان الكثير من الكتابات القديمة والحديثة قد ركز عند دراسة البيعة على بعد "الطاعة"، أو الالتزام السياسي من جانب الرعية، وفصلت في شروط الخليفة وكيفية توليته وصلاحياته؛ فإن هناك من المحدثين من يرى أن البيعة حق وليست التزاما فحسب، فهي حق لكل مسلم، رجلا كان أو امرأة، لأنها الطريقة الشرعية الوحيدة لتنصيب رئيس الدولة، ولأن الأمة هي صاحبة السلطة والشأن في توليته وعزله، واقترح بعض أنصار هذا الرأي "صيغة" لبيعة الخليفة للأمة تقوم على الالتزام بالشريعة والعدل والشورى، وهي البيعة التي تمثل الوجه الآخر للالتزام السياسي، وهو التزام الحاكم، في مقابل الالتزام السياسي للأمة بالطاعة



البيعة في اللغة والاصطلاح

لغة: البيعة مصدر بايع بيعة ومبايعة، وهي الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة، والبيعة المبايعة والطاعة، وبايعه عليه -مبايعة- عاهده، وبايعته من البيع والبيعة جميعًا.

اصطلاحا: هي إعطاء العهد من المبايع على السمع والطاعة للإمام في غير معصية، في المنشط والمكره والعسر واليسر وعدم منازعته الأمر وتفويض الأمور إليه.


بعض الأقوال فى البيعه

ابن خلدون

أعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمور نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة وعند الشجرة.

وقد تلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعتي العقبة بعد الإقناع بالحسنى، والموعظة الحسنة للدخول في الإسلام، فلما قبل المسلمون، وأعلنوا الشهادة أخذ منهم البيعة وفق مبادئ محددة، وهذه البيعة لم تكن لشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإنما كانت الدعوة والبيعة لله وحده، ومع هذا فلم تتم المبايعة كتفويض من المسلمين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما كان في الطرف الآخر المقابل تعهده بالوقوف في صفهم والتناصر بين الطرفين، فهي أشبه برباط يوثق به طرفان ينشئ حقوقا، وواجبات لكلا الطرفين، يحكمه في الأمور كلها منهج الشرع الذي هو منطلقه وغايته.

قَالَ الْمَازِرِيّ : يَكْفِي فِي بَيْعَةِ الإِمَامِ أَنْ يَقَع مِنْ أَهْل الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَلا يَجِب الاسْتِيعَاب , وَلا يَلْزَم كُلّ أَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيَضَع يَدَهُ فِي يَدِهِ , بَلْ يَكْفِي اِلْتِزَامُ طَاعَتِهِ وَالانْقِيَادُ لَهُ بِأَنْ لا يُخَالِفَهُ وَلا يَشُقَّ الْعَصَا عَلَيْهِ اهـ نقلاً من فتح الباري .

الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :

أَمَّا الْبَيْعَة : فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَط لِصِحَّتِهَا مُبَايَعَة كُلّ النَّاس , وَلا كُلّ أَهْل الْحَلّ وَالْعِقْد , وَإِنَّمَا يُشْتَرَط مُبَايَعَة مَنْ تَيَسَّرَ إِجْمَاعهمْ مِنْ الْعُلَمَاء وَالرُّؤَسَاء وَوُجُوه النَّاس , . . . وَلا يَجِب عَلَى كُلّ وَاحِد أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الأَمَام فَيَضَع يَده فِي يَده وَيُبَايِعهُ , وَإِنَّمَا يَلْزَمهُ الانْقِيَادُ لَهُ , وَأَلا يُظْهِر خِلافًا , وَلا يَشُقّ الْعَصَا اهـ


البيعه فى القرأن والسنه

وقد وردت لفظة بايع في القرآن الكريم كما في سورة التوبة: الآية 111 قال تعالى: "فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ"، وفي سورة الفتح في الآية العاشرة: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ" وفي الآية 18: "لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ".

كما وردت لفظة البيعة في كثير من أحاديث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- كما في قوله في مسند الإمام أحمد: "من مات وقد نزع يده من بيعة كانت ميتته ميتة ضلالة"، وفي مسند الإمام أحمد أيضا أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يصافح النساء في البيعة، وفي صحيح البخاري في باب الجنائز "أخذ علينا النبي عند البيعة ألا ننوح".

وقوله صلى الله عليه وسلم : " ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" رواه مسلم (1844).

وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " رواه مسلم (1853).


مستويات البيعة

تنقسم إجراءات البيعة إلى مستويين متتابعين متلازمين :

1- بيعة الانعقاد: وبموجبها ينعقد للشخص المبايع السلطان ويكون له بها الولاية الكبرى دون غيره حسما للخلاف حول من يتولى أمر المسلمين، وهذه البيعة هي التي يقوم بها أهل الحل والعقد، ودلائل هذه البيعة واضحة تماما في انعقاد البيعة للخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم أجمعين- فقد كان أهل الاختيار يقومون باختيار الإمام ثم يبايعونه بيعة انعقاد أولية.

2- البيعة العامة أو بيعة الطاعة: وهي بيعة شعبية عامة للكافة من الأمة، أي بيعة سائر المسلمين للخليفة، وهذا ما تم بالنسبة للخلفاء الراشدين جميعا، فأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد أن بايعه أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، دُعِي المسلمون للبيعة العامة في المسجد، فصعد المنبر بعد أن أخبرهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- باختيارهم له، ومبايعتهم إياه، وأمرهم بمبايعته فبايعه المسلمون، وما حدث مع أبي بكر الصديق حدث مع كل الخلفاء الراشدين، وهي البيعة التي تمت تاريخيا في عاصمة الدولة ومركز الحكم ثم كان يطلب من كل وال من ولاة الأمصار أخذها للخليفة.


الفلسفة السياسية للبيعة

تقوم فلسفة البيعة على تمكين الأمة بالأساس لا تمكين الخليفة؛ فالبيعة هي الوجه الآخر للشورى، بل هي إحدى صورها، وهي ليست ممارسة قهرية بل اختيارية حرة، والالتزام الديني ببيعة وفق حديث "من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية"؛ يعني ببساطة أن البيعة وإدارة تولي السلطة ووجود إدارة سياسية في المجتمع الإسلامي تنظم شئونه وتدير مصالحه هو شرط التمدن الإسلامي وتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع، وبالتالي تعود الجاهلية، وهي لا تعني أن محض المبايعة يضمن عدم الوقوع في الجاهلية، فقد تبايع الأمة من ينتهي به الأمر لتعطيل الشرع ونقض مصالح الشعب والتحالف مع أعداء الإسلام ضد شعوب إسلامية أخرى؛ لذا يجب النظر للبيعة دوما باعتبارها فرعا عن أصل وهو الشورى، ومقيدة بمقاصد الشرع ومصالح الأمة، وإلا وجب الخروج واستبدال الحاكم وتأسيس نظام حكم آخر ببيعة جديدة وعقد سياسي جديد. وهناك حدود شرعية لتفعيل البيعة كآلية لانتقال السلطة سلميا ومدنيا في الفقه الإسلامي، وهو ما دفع أبو العباس القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى" لبيان الحالات الخمس لتفعيل البيعة كالتالي:

1- موت الخليفة من غير عهد بالخلافة لأحد بعده كما حدث مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو بتركها شورى في مجموعة معينة كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

2- خلع الخليفة لموجب يقتضي الخلع، كما هو موضح في كتب الفقه فتحتاج الأمة إلى مبايعة إمام يقوم بأمورها، ويتحمل أعباءها.

3- أن يأخذ الخليفة البيعة على الناس لولي عهده بالخلافة في حياته (لا يشترط أن يكون من أبنائه أو عصبيته) بأن يكون خليفة بعده درءا للنزاع بعده.

4- أن تؤخذ البيعة للخليفة المعهود إليه بعد وفاة العاهد.

5- أن يستشعر الخليفة خروج ناحية من النواحي أو مصر من الأمصار عن الطاعة فيوجه إليهم من يأخذ البيعة له عليهم مجددا لينقادوا لأمره، ويدخلوا في طاعته.


صور البيعة

للمتتبع في التاريخ الإسلامي من لدن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى بداية هذا القرن الميلادي حينما ألغيت الخلافة أن يدرك أن للبيعة عدة صور منها:

1- المصافحة والكلام: وهذه هي الصورة الغالبة في المرات التي بايع فيها الناس النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك بيعة الرضوان الشهيرة، والتي قال الله تعالى فيها: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ".

2- الكلام فقط: وهذه تكون عادة في مبايعة النساء، ومن به عاهة لا تمكنه من المصافحة كالمجذوم الذي قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ارجع فقد بايعتك" رواه النسائي ومسلم.

3- الكتابة: وأفضل مثال على هذه المبايعة ما كتبه النجاشي إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النجاشي، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته من الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى"... إلى أن قال: "وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأصحابك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين".


أنواع البيعة

تتنوع البيعة في شرعنا الحنيف بحسب الأمر المبايع عليه، وقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- البيعة من المسلمين على أمور مختلفة بحسب اللحظة السياسية وبحسب قدرة الفرد واستعداده، أهمها:

1- البيعة على الإسلام والتوحيد :

وهي أوجب وآكد أنواع البيعة، ولا شيء من أنواع البيعة نكثه كفر إلا هذه البيعة لأنها الحد الأدنى من الإسلام الذي يلزم على كل مسلم ومسلمة في الأمة؛ ولأنها أصل الأشياء كلها، وأكثر ما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يبايع عامة الناس عليه هو الإسلام، وذلك بأن يأتي الرجل الذي يريد الدخول في الإسلام فيسلم على النبي، ويضع يده في يده، ويتشهد الشهادتين، ويتعهد بالتزام الإسلام كله فيصير بذلك مسلما مبايعا للرسول.


2-البيعة على النصرة والمنعة :

وأوضح مثال عليها البيعة التي أخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- من وفد الأنصار في بيعة العقبة الثانية، وكان عددهم آنذاك ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، وبعد أن تلا الرسول الكريم القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم..."، فبايعه البراء بن معرور، وسائر الوفد على المنعة، والنصرة، ومنهن النساء، ووفت نسيبة بنت كعب وكانت ممن بايع على الجهاد ونصرة الرسول يوم أحد فصدقت ما عاهدت الله عليه.

وحين اكتمل الدين صارت هذه هي البيعة التي ابتاعها الله -سبحانه وتعالى- لنفسه من المؤمنين بأن اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة إذا هُددت دار الإسلام كما جاء ذلك في سورة التوبة (الآية 111): "إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"؛ فهذه البيعة في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة، وهي الجهاد في سبيل الله، وهى مستمرة لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ما دام أعداء الإسلام "لاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا"، وقد مدح الله -سبحانه وتعالى- نموذج المؤمنين في بيعة الرضوان لما بايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الموت، فكانوا السابقين الأولين قبل تأسيس الدولة ولزوم الجهاد وفرضه على كل المسلمين دفاعا عن الدين والأرض والعرض، وقد كان المسلمون ينشدون في غزوة الخندق:

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا


3- البيعة على الهجرة :

وكانت أول الأمر فرض عين على كل من أسلم، ثم انتهت بعد الفتح مصداقا لحديث رسول الله: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، أي أن الجهاد والدفاع عن الدولة يحل محل الهجرة حين لم يكن هناك كيان سياسي بل كيان اجتماعي مشتت ومحارَب، والمراد بالهجرة هنا الهجرة من مكة إلى المدينة، أما الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو من بلد يعم فيها الظلم لأرض الله الواسعة فهذه أحكامها مفصلة في كتب الفقه.

4- البيعة على السمع والطاعة :

وهذه هي التي تقصدها معظم الكتابات تأسيسا على الممارسة في عصور الملك المتتالية، وهي التي تتبادر للذهن إذا أطلقت كلمة البيعة دون تحديد، وهي التي كانت تعطي للخلفاء تاريخيا عند توليهم في ظل الدول والممالك، وأدلتها كثيرة أهمها الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"، وفي رواية: "وعلى أن نقول الحق أينما كنا، وألا نخاف في الله لومة لائم". ولا شك أن أداء تلك البيعة لنبي يأتيه الوحي لا يقاس على أدائها للذين أسسوا ملكا عضوضا أهدرت في ظله حقوق الناس من عدل في المال وشورى في الأمر، فكان السمع والطاعة مدخلا لتكريس الاستبداد وتهميش الأمة ونذير فرقة وتنافس على السلطة التي صارت مغنما في أحيان كثيرة، وإذا كانت قرون عديدة قد شهدت نهضة وبزوغ للحضارة الإسلامية فإن فقد الشورى والعدل كان ينذر "بزوال العمران" على المدى البعيد كما بين ابن خلدون في مقدمته. وقد اجتهدت الحركة الإسلامية المعاصرة، وأخذت بيعة على الطاعة لتوحيد الصفوف، وأضافت إليها السعي للعمل المنظم في سبيل إرجاع الخلافة الإسلامية، ولا شك أنه هدف يتطلع إليه الكثيرون، لكن تلك البيعة اقترنت بالعمل السياسي والتنظيمي السري، وأهدر في إطارها قيم الشورى والتمكين للجماعة وانحصرت السلطة في القيادات، ولنا عليها ملاحظات لا مجال لتفصيلها هنا.

ونشير أيضا إلى أن هناك من قسم البيعة تقسيما آخر؛ هو: البيعة العينية، والبيعة الكفائية بناء على درجة الالتزام والتكليف، وتمييزا بين درجات القدرة لأفراد الجماعة المسلمة بين الحد الأدنى والقدرة العليا؛ إذ توضح قراءة السيرة النبوية أنه كان هناك نوعان من البيعة:

بيعة عينية: واجبة على كل مسلم ومسلمة، وهي البيعة على العقيدة والأخلاق الاجتماعية والإسلامية، وقد أخذها الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل وبعد تأسيس الدولة ولم تختلف صيغتها، وسميت اصطلاحا "بيعة النساء" لورود نصها في القرآن في سورة الممتحنة في سياق الحديث عن مبايعة النساء لرسول الله، وهي البيعة التي ميزت الدولة الإسلامية عن مجتمع الجاهلية واعتبرها البعض دليل وجود التنظيم السياسي للمجتمع الإسلامي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية"(1)، وهي البيعة التي ترتبط بموضوعي "الإمامة" و"الخروج".

وتجدر الإشارة إلى أن صيغة النساء في "سورة الممتحنة" جاءت على مثل ما بايع عليه رسول الله أصحاب بيعة العقبة قبل الهجرة، وأن هذه الصيغة نزلت عام الحديبية، ويلاحظ أن اشتراط الرسول بعض الأمور الأخلاقية عند البيعة كعدم نياحة النساء أو عدم إتيان أمور معينة بالنسبة للرجال كان لاختلاف العادات ولمعرفة رسول الله بكل مبايع وطباعه، وهي أمور يضبطها العرف والقانون في الدولة الإسلامية ولا تعد بيعة على أمر خاص.

بيعة كفائية: واجبة على البعض دون بقية المسلمين وهي المرتبطة بالأمور الكفائية كالبيعة على الجهاد كما في بيعة الرضوان، وهي البيعة التي يدخل فيها في الخبرة الإسلامية أيضا البيعة على الولايات العامة للحاكم من قبل من تولى ولاية ما، أو ما يعرف بعهد الولاية.


شروط صحة البيعة

حاول الفقهاء أن يضعوا شروطا لصحة عقد البيعة استنبطوها من الأدلة الصحيحة لديهم، وانحصر فقههم حول واقع البيعة في العصور المختلفة؛ فكانوا يقصدون بها بيعة الإمام على السمع والطاعة، وهذه الشروط هي:

1- أن تجتمع في المأخوذ له البيعة شروط الإمامة، فلا تنعقد البيعة في حالة فقد واحد منها إلا مع الشوكة والغلبة، وهنا يكون الحديث عن بيعة المتغلب.

2- أن يكون المتولي لعقد البيعة (بيعة الانعقاد) أهل الحل والعقد قبل البيعة العامة؛ فلا عبرة لبيعة العامة إن لم يبايع أهل الحل والعقد، ففي تقديرهم ضمان التوازنات والتحالفات داخل النخبة السياسية شرط لاستقرار الأمر وعدم نقض البيعة والتنازع بعد البيعة، أي تأسيس البيعة على "شرعية واضحة" كما يقولون، وإن افترض هذا الرأي للحق الوعي بضرورة تمثيل أهل الحل والعقد للعامة، أو أن مخالفة العامة لرأي أهل الحل والعقد يعني أن النخبة عليها آنذاك تغيير توجهاتها وليس المصادرة على تحولات واختيارات الشعب.

3- أن يجيب المبايَع إلى البيعة، فلو امتنع لم تنعقد إمامته، ولم يجبر عليها إلا أن يكون لا يصلح أحد للإمامة إلا هو؛ فيجبر عليها بلا خلاف (حكي ذلك النووي).

4- أن تكون البيعة على كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولا، وعملا، وعلى أن تكون الطاعة ما دامت في الله، وفي غير معصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

5- ألا تعقد البيعة لأكثر من واحد؛ لأنه إذا ادعى أحد الخلافة مع وجود الخليفة وجب قتل الآخر، كما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم أنه قال: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"؛ أي التالي المنازع لمن تمت له البيعة بالفعل؛ لأن في هذا شقًّا لصف الجماعة وإثارة للفتنة .

6- الحرية الكاملة للمبايع في البيعة كما فعل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- في بيعة الخلفاء الراشدين، ولأن البيعة عقد مراضاة واختيار لا سبيل فيها إلى الإجبار والإكراه.

7- الإشهاد على المبايعة: وهذا شرط شرطه بعض العلماء لكي لا يدعي أحد أن الإمامة عقدت له سرا فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة، وهو ما يتم في العصر الحالي عبر النقل المباشر لسير العمليات الانتخابية إعلاميا، والإعلان عن سيرها بشفافية والرقابة الشعبية والقانونية التي ذكرناها آنفا، وإذا كان بعض العلماء قد قالوا: إنه لا يجب الإشهاد لأنه لا دليل على ذلك، نقول: إن هذا في ظل الواقع الحديث أصبح من الواجب لتكرار التزوير وتغيير إرادة الشعب في النظم الاستبدادية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهناك أدلة من فعل الصحابة في الإعلان والإشهاد على البيعة إبان الخلافة الراشدة تغنينا عن التوقف في هذا الموضوع.


حكم نكث البيعة

فرض الشرع على المسلم الوفاء بالعهد، سواء كان ذلك بين المسلمين بعضهم وبعض، أم مع غير المسلم من أهل الكتاب، بل وكذلك مع الكافر إذا استقام. فقد قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"، وقال تعالى: "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً"، وقال "فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"، والبيعة بما أنها عقد وعهد بين المسلمين وخليفتهم فإنها داخلة في هذه الآيات، وباختلاف أنواع البيعة يختلف أيضا حكم نكثها من جهة الطرف الذي نكث هل هو الحاكم، أم المحكوم، ومن جهة نوع البيعة التي نكثت:

1- فحكم من نكث البيعة على الإسلام الكفر، والارتداد باتفاق العلماء، وإن اختلفوا في عقوبته بحسب حاله وحال الأمة.

2- وحكم من نكث البيعة على النصرة أو الجهاد أو السمع والطاعة دون أن يصدر عنه ما ينافي أصل الإيمان فهو عاص مرتكب لكبيرة من الكبائر؛ لأنها نقض عهد، وقد توعد الله من نقض العهد، ولكنها تختلف حرمتها باختلاف موضوعها فأشدها حرمة نكث بيعة الإمام الشرعي على السمع والطاعة في غير معصية دون مبرر شرعي، وأما البيعة على النصرة والجهاد فهي تأتي في ظروف استثنائية؛ فلذلك نكثها أخف من نكث بيعة الإمام التي وردت فيها أحاديث كثيرة تحرم نكثها أشهرها ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع" (رواه مسلم)، كما أن في عدم الوفاء ببيعة الجهاد خيانة للأمة سواء أكان بعدم الخروج للجهاد إذا دعا داعي الجهاد، أم كان توليا يوم الزحف.

3- أما بيعة الهجرة فقد انقطعت بانقطاع الهجرة بعد فتح مكة الكبير، وهذا لا ينفي رأي الفقهاء بوجوب الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لكن دون بيعة، ولكن هناك جهاد ونية، وإن اختلف الحال بعد أن صار للمسلمين تواجد في الغرب وكفلت لهم حريات المواطنة وبقي عليهم السعي لأداء الواجبات وضمان الحقوق.


  • المصدر : إسلام اون لاين