الإخوان المسلمون بين التاريخ والمستقبل

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٨:١٢، ٢٦ ديسمبر ٢٠١٢ بواسطة Ahmed s (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون بين التاريخ والمستقبل


الإخوان-المسلمين-بين-التاريخ-والمستقبل.غلاف.jpg


د. وحيد عبد المجيد

كيف كانت الجماعة .. وكيف تكون؟

الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع

مقدمة

لم تثر جماعة أو حركة أو حزب في مصر والعالم العربي عموما جدلا مثل ذلك الذي أثارته جماعة " الإخوان المسلمين " على مدي أكثر من 80 عاما وما زالت تثيره ولم تنتشر جماعة و حركة إسلامية أو غير إسلامية في معظم بلاد العالم العربي وبعض البلاد لأخي في العالم الإسلامي فضلا عن أوروبا والولايات المتحدة إلا جماعة "الإخوان المسلمين" التي بدأت في التمدد خارج موطنها الأصلي في مصر بعد سنوات قليلة على تأسيسها عام 1928.

ولم تدخل جماعة أو حركة أو حزب في صراع ضد عشرات الحكومات المتوالية إلا جماعة "الإخوان المسلمين" لتي كان الصدام هو القاعدة والتعاون استثناء في علاقاتها مع الحكومات التي تولت الحكم في مصر في العصر الملكي وخصوصا منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي ثم على ثلاثة عهود في إطار النظام الجمهوري منذ عام 1954 .

ولم تحظ حركة أو جماعة أو حزب بمثل ما لقيته جماعة "الإخوان المسلمين" من اهتمام أكاديمي وبحثي فما صدر عنها من كتب ودراسات في هذا الإطار يفوق غيرها ربما باستثناء حزب الوفد الذي وجد اهتماما مساويا لها غير أنه في الوقت الذي انحسر الاهتمام بهذا الحزب في العقود الأخيرة ما زالت العناية بدراسة جماعة الإخوان المسلمين في ازدياد .

ومع ذلك فقليلة هي الكتابات التي تجمع المعرفة الصحيحة بها والنظرة الموضوعية إليها وسط فيض لا ينتهي من الكتب ولأبحاث والدراسات فضلا عن المقالات التي لا تعد ولا تحصي وخصوصا منذ أن بدأ ما أطلق عليه "الإحياء الإسلامي" في منتصف سبعينات القرن الماضي .

فعلي مدي عدة عقود كان الإسلام السياسي إحدي أكثر الظواهر إثارة للجدل في عالمنا وكثر المهتمون به كتابة وبحثا وتنوعت دوافعهم وتباينت مقاصدهم بينما قل المعنيون حقا منهم بفهم هذه الظاهرة وتحليلها ووضعها في سياقها التاريخي والموضوعي ولم يكن المتطفلون في هذا المجال بغير معرفة أقل ضررا من الذين اقتحموه بدون الحد الأدنى من الموضوعية وبما يفوق الحد الأقصى من الذاتية والانحياز في كثير من الأحيان .

وأدي ذلك إلى شيوع معرفة غير صحيحة وانتشار خلط غير صحي بين مفاهيم وأفكار كما بين تيارات واتجاهات مختلفة تعج بها خريطة الحركات والجماعات الإسلامية في مصر وبلاد أخري .

وربما يكون مفيدا في مجل التقديم لهذا الكتاب وقبل أن نبدأ زيارتنا الجديدة هذه إلى جماعة "الإخوان المسلمين" أن نميز بينها وغيرها مما يدخل ضمن تيار الإسلام السياسي من ناحية وتيارين رئيسيين آخرين على الخريطة هما التيار الراديكالي الذي يقوم على الجهاد وقد جعل مرادفا للعنف المسلح المنفلت من كل قيد والتيار السلفي التقليدي .

وتمثل هذه التيارات الثلاثة اتجاهات معرفية مختلفة ومتعارضة وليس هذا أمرا غريبا ولا هو قاصر على الحركات الإسلامية فقد رأينا مثل هذا التعارض بين التيارات الماركسية المختلفة بل حتى الليبرالية والمحافظة.

لقد كان التيار السلفي هو الأسبق تاريخيا في مصر " الحديثة " بالمقارنة مع الإخوان وجماعات العنف وتأثر في نسخته المعاصرة بالفكر الوهابي وكان أهم ما ميز هذا التيار حتي وقت قريب عزوفه عن العمل السياسي المباشر قبل أن يتجه بعض أطيافه إلى مراجعة هذا الموقف في السنوات الأخيرة .

ولعل هذا هو أهم أسباب تجاهله وعدم الالتفات لأهميته فهذا التيار لم ينشغل بالسياسة وإنما ركز على (إصلاح العقيدة والعبادة) كأساس للإصلاح الشامل وهو يعني بتنقية الإسلام مما يعتبره بدعا وخرافات لحقت به و يسعي للعودة إلى (إسلام السلف الصالح)

لكنه أكثر التيارات الإسلامية محافظة وجمودا فهو يقف عند ظاهر النصوص ويرفض التأويل وإعمال العقل وبالتالي يتوقف عند مفهوم الإسلام كما كان في عصر البداوة والبساطة ويسقط من تراث الأمة كل العلوم والاجتهادات العقلية والفلسفية ويعتبرها من البدع التي طرأت على الإسلام .

وتعود جذور هذا التيار إلى العصر العباسي حين ظهر في مواجهة النزعة العقلية في الإسلام ولكن الدعوة الوهابية هي التي أحيته ونشرته في كثير من البلاد المسلمة وتكونت حلقات ثم جمعيات تؤمن بالأفكار السلفية في هذه البلاد ومنها مصر .

كما تغلغل هذا الفكر في الأزهر الذي حفل تاريخه منذ القرن الماضي بالصراع بين التيار السلفي والتيار الإصلاحي العقلاني الذي أطلقه الإمام محمد عبده وجاء أول تعبير مؤسسي مستقل عن التيار السلفي عند تأسيس الجمعية الشرعية عام 1912 .

ويتسم هذا التيار في مصر بموقفه السلبي من العقل والعقلانية ولذلك فهو يغرس التعصب في نفوس قطاعات من الشباب وحين تتوفر ظروف سياسية واجتماعية وثقافية معينة يزداد هذا التعصب ويؤدي أحيانا إلى تهيئة بعض الشباب للارتباط بجماعات العنف ويساعد على ذلك وجود قدر من التماثل في الركائز المعرفية للسفليين وجماعات العنف فعلي سبيل المثال هناك تماثل في تكفير مرتكبي الكبائر بعكس "الإخوان المسلمين" الذين لا يقبلون التكفير .

فأهم ما يميز تيار "الإخوان" هو منظوره الوسع الذي يشمل كل مناحي الحياة ويتجاوز النهج السلفي الضيق ويؤمن بالعمل السلمي التدريجي ورغم أن مؤسس هذا التيار الشيخ حسن البنا اعتبر السلفية مصدرا من مصادر دعوته فقد انتقد بشكل ضمني نهجا غالبا في أو ساط السلفيين عندما شرح طبيعة دعوته بقوله (لقد فهو بعض الناس خطأ أن الإسلام قاصر على ضروب من العبادات والروحانيات لكننا نفهم الإسلام فهما فسيحا ينظم شئون الدنيا والآخرة)

وقد انخرط الإخوان المسلمون في العمل السياسي منذ البداية ودخلوا معركة بقوة منذ النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي ورغم دعوتهم إلى دولة إسلامية لم يكفروا نظام الحكم في أى وقت وهذا هو جوهر خلافهم مع جماعات العنف إلى جانب الخلاف حول أدوات التغيير .

إن تيار "الإخوان" لا يؤمن بالتغيير من أعلي لكنه لجأ إلى العنف في أربعينات القرن الماضي لمواجهة الاحتلال البريطاني وتحت تأثير القضية الفلسطينية من ناحية والتأكيد قوته في الداخل من ناحية ثانية غير أن قيادته عجزت عن السيطرة على اتجاه هذا العنف الذي استخدم ضد خصوم سياسيين ولتصفية حسابات داخل الجماعة نفسها ولكنه ظل ينبذ العنف منذ عودته إلى الساحة السياسية في أوائل السبعينيات ولذلك اختلف مع الجماعات الراد يكالية التي يمثل العنف جزءا لا يتجزأ من فكرها فالعنف هو جوهر مفهوم هذه الجماعات للجهاد الديني .

أما مفهوم تيار "الإخوان" للجهاد فهو أوسع كثيرا لأنه يؤمن بالتغيير من أسفل ويغلب على نشاطه أسلوب العمل المجتمعي القاعدي ..

وهنا يتداخل مجال نشاط تيار "الإخوان" مع مجال نشاط التيار السلفي فقد نافس "الإخوان" السلفيين في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية التي تنطلق من المساجد ومن جمعيات اجتماعية ولكن نشاطات "الإخوان" لم تحقق الانتشار الذي تتمتع به الجمعيات السلفية

فهناك إذن تداخل وتنافس لا يمنع التعاون في بعض الأحيان بين أنشطة "الإخوان" والسلفيين على المستوي المجتمعي القاعدي لكن التنافس لا يتحول إلى صدام رغم حدوث احتكاكات أحيانا لأن الطلب كبير على الخدمات الاجتماعية التي انسحبت منها الدولة غير أن الانفصال يحدث في المستوي المجتمعي الأكثر تطورا حيث ينشط "الإخوان" بعكس السلفيين في النقابات المهنية .

أما الراديكاليون أنصار العنف فهم لا يعملون في المجتمع إلا في نطاق ضيق للغاية لأنهم يؤمنون بأن التغيير لا يتحقق إلا من القمة (السمكة تفسد من رأسه) ومع ذلك فهم يستثمرون نشاط السلفيين المجتمعي عندما يستقطبون بعض الشباب الذين تهيئهم السلفية للتعصب , فهناك تقاطع بين السلفيين والعنفيين في بعض الركائز المعفية مثل تكفير مرتكب الكبيرة .

أما "الإخوان" فهم مع التقليد الإسلامي الغالب الذي يعتبر مرتكب الكبيرة عاصيا ولا يختلف "الإخوان" في ممارستهم للسياسة عن أى تيار آخر حديث فهم يشاركون في الانتخابات ويعملون من خلال البرلمان كلما كان ذلك متاح ويتعرضون لهذا السبب لهجوم حاد من جماعات العنف فهم لا يرفضون الديمقراطية ويؤكدون التزامهم بالتعددية ولكن الشكوك واسعة في مدي التزامهم بها إذا وصلوا للحكم .

فهل يمكن أن تكون دروس تاريخهم المديد الحافل بالمحن معينة لهم على تلمس طريق إلى المستقبل يضع حدا للشكوك العميقة في نواياهم ويمكن الآخرين من بناء الثقة المفقودة في العلاقات معهم .

السؤال كبير ومعقد وفي هذا الكتاب محاولة أولي للإجابة عبر زيارة بحثية جديدة إلى تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" سعيا إلى استشراف ما قد يأتي به المستقبل من تطورات وما ينبغي عليها أن تفعله إذا أرادت أن تكون عنصرا من عناصر بناء مستقبل أفضل لوطن ديمقراطي وليس عاملا من عوامل إعاقة الطريق إلى هذا المستقبل .

د. وحيد عبد المجيد القاهرة 14 سبتمبر 2010

نشأة جماعة الإخوان المسلمين وتطورها 1928-1954

لم ينقطع الجدل الذي أثارته جماعة "الإخوان المسلمين" منذ نهاية عشرينات القرن الماضي إلا ليعود مجددا ولم يختلف الناس على زعيم من الزعماء المصريين الذين قاموا بأدوار بارزة في القرن العشرين بمقدار ما اختلفوا على مؤسسها حسن البنا .

وصف البنا "الإخوان المسلمين" الذين صنع رعليهم الأول على يديه بقوله (لسنا حزبا سياسيا وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا ولسنا جمعية خيرية إصلاحية وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا ولسنا فرقا رياضية وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أعلي وسائلنا.

لسنا شيئا من هذه التشكيلات فإنها جميعا تخلقها غاية موضوعية محدودة لمدة محدودة .. ولكننا فكرة وعقيدة ونظام ومنهاج) وارتبط ذلك بنظرته إلى الإسلام الذي اعتبره (عبادة وقيادة ودين ودولة وروحانية وعمل وصلاة وجهاد وطاعة وحكم ومصحف وسيف)

كان في الجماعة التي أسسها ما يربطها بالصوفية التي انضم حسن البنا في شبابه الباكر إلى إحدى طرقها (الطريقة الحصافية نسبة إلى شيخها الأول حسنين الحصفي) وروي في (مذكرات الدعوة والداعية) كيف أنه رأي الإخوان الحصافيين يذكرون الله تعالي عقب صلاة العشاء من كل ليلة فاجتذبته حلقة الذكر (بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانياتها الفياضة) وتأثر بكتاب حول شيخ هذه الطريقة هو (المنهل الصافي في منقب حسنين الحصافي)

ومما يلفت الانتباه في ذلك أنه أرجع تأثره بهذا الشيخ تحديدا إلى أن دعوته تأسست على العلم والتعليم والفقه والعبادة وليس على الذكر فقط وكانت قراءته في مرحلة صباه تلك حين كان طالبا في مدرسة المعلمين مركزة في الصوفية (الأنوار المحمدية للنبهاني ومختصر المواهب اللدنية للقسطلاني ونور اليقين في سيرة سيد المرسلين للخضري)

وبالرغم من أن هذه النزعة الصوفية لديه توارت بعد ذلك فقد بقي معه منها الأجواء الروحية التي سعي إلى خلقها في العلاقة بينه وبين أعضاء الجماعة ونجح في ذلك.

وقد أمن البنا مبكرا جدا بأن الفكرة لا تغني عن القوة بالنسبة إلى دعوة أو حركة تهدف إلى التغيير الجذري وكان لديه اعتقاد جرف في أن القوة هي أساس الإسلام ولكنها ليست قوة العقيدة والإيمان فقط فما هذه القوة الإيمانية إلا درجة أولي تأتي بعده عنده قوة الوحدة والارتباط ثم ما أسماه قوة الساعد والسلاح ..

وقد سبقت الإشارة إلى أن مفهومه للإسلام قم على أسس من بينها "المصحف والسيف " فقد حرص على أن يكون النشاط الرياضي أحد أهم مكونات عملية تنشئة أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" ولذلك أنأ فرق الرحلات منذ تأسيس الجماعة في الإسماعيلية ثم فرق الجوالة بعد انتقاله إلي القاهرة عام 1922؛

حيث أقام في حارة عبد الله بك بشارع اليكنية في حي الخيامية بالقاهرة الفاطمية قبل أن ينتقل إلى منزل آخر في السبتية قرب محطة مصر (محطة السكك الحديد) إلى أن استقر في حي الحلمية قرب لمركز العام للجماعة عندما أقيم في ذلك الحي فقطن البنا منزلا فيه كان يقع في 15 شارع سنجر الخازن وسرعان ما أصبحت جوالة "الإخوان المسلمين" هي أقوي فرق الحركة الكشفية الوطنية (الحكومية) التي ألحقت بها رسميا في بداية أربعينات القرن الماضي .

أولا:الإخوان المسلمون بين الدين والسياسة

في جماعة "الإخوان المسلمين" امتزجت الدعوة الدينية بالفكرة السياسية منذ اليوم الأول لتأسيسها بخلاف اعتقاد شائع في أنها نشأت جمعية دينية ثم تحولت إلى العمل السياسي عام 1938.

فلم يكن ذلك العام نقطة تحول من الديني إلى السياسي بل انعطافه انخرطت بمقتضاها الجماعة في معترك السياسة الذي ذهبت فيه إلي أبعد مدي ولم تكتف بوسائله السلمية بل أضافت إليها أدوات عنفية ..

فالتقسيم الزمن الصارم إلى مرحلتين متمايزتين قبل عام 1938 وبعده لا أساس له في شخصية حسن البنا وسيرته ولا في نظرته إلى الجماعة التي قم بتأسيسها عام 1928 وسجلها كجمعية في وزارة الشؤون الاجتماعية فكانت الدعوة الدينية عنده جزءا لا يتجزأ مما اعتبره مهمته التاريخية التي كانت سياسية قلبا وقالبا ..

كان البنا واحدا من كثر صدمهم إلغاء الخلافة الإسلامية وخلطوا بين هذه الخلافة من حيث كونها نوعا من الحكم ينشأ ويزول ويتغير والإسلام الثابت المطلق الذي لا دين بعده واختلط لديه الجزع لإلغاء الخلافة بالفزع مما بلدا له خطرا يهدد الإسلام ويفرض العمل لإنقاذه وتداخل في ذهنه ما أسماه الانقلاب الكمالي على الخلافة العثمانية وانتشار ما اعتبره (موجة علمانية مضادة للدين عبر الجامعة والأحزاب والجرائد والمجلات)

فكانت الخلافة التي هي نظام للحكم وليس مبدأ دينيا عنده هي:

(رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بها والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام وبيان أحكام لإمامة وتفعيل ما يتعلق بها لا تدع مجالا للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم)

كان ذلك في رسالة المؤتمر العام الخامس للجماعة الذي رأي كثير من مؤرخي "الإخوان المسلمين" أنه نقطة التحول إلى العمل السياسي غير أن هذا المؤتمر لم يكن أكثر من إعلان دخول المعترك السياسي والإفصاح عن الغاية السياسية العليا للجماعة

وهي أن (الإخوان المسلمين يتجهون في جميع خطواتهم وآمالهم نحو الحكومة الإسلامية بعد مضي فترة تنتشر فيها مبادئهم وتسود) وأن

(الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد.والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع فالإسلام حكم وتنفيذ كما هو تشريع وتعليم كما هو قانون وقضاء ولا ينفك واحد منها عن الآخر)

وكان البنا دقيقا في تحديده عام 1938 بأنه عام بدء الكفاح السياسي وليس العمل السياسي في مجمله وذلك في افتتاحية العدد الأول من "مجلة النذير" الذي تحدث فيه عن (اتجاه الإخوان المسلمين الوطني وابتداء اشتراكهم في الكفاح السياسي في الداخل والخارج).

أما السياسة من حيث ارتباطها بالدين عنده فقد كانت جزء من تفكيره منذ تأسيس الجماعة في الإسماعيلية في مارس 1928 حين طلب إلى ستة أشخاص كانوا هم الأكثر بدروسه وخطبه الدينية أن يبايعوه (حافظ عبد الحميد . وأحمد الحصري وفؤاد إبراهيم وعبد الرحمن حسب الله وإسماعيل نمر , وزكي المغربي)

ومن الطبيعي بالنسبة إلى جماعة صغيرة محدودة أن تعمل بشكل تدريجي لتحقيق أهدافها المبكرة التي لا تحدها حدود لم تكن أهداف حسن البنا صغيرة وكبرت بل الجماعة التي اعتمد عليها لتحقيق هذه الأهداف التي كانت كبيرة منذ البداية.

ولأن الجماعة كانت في مهدها صغيرة فالحكمة تتطلب أن تكون حركتها تدريجية تبدأ بالوعظ الديني لإقامة مسجد ومواجهة التحلل الأخلاقي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتتوسع تدريجيا من الإسماعيلية إلى ما حولها:

أبو صوير وبور سعيد والسويس مرورا بالقاهرة التي انتقل إليه البنا عام 1932 ومنها إلى باقي أنحاء البلاد ولكن توسعها لم يكن جغرافيا فقط بل في مجالات الناشط أيضا من الدعوة الدينية والإرشاد لأخلاقي إلى العمل الخيري وأشكال شتي من الرعاية الاجتماعية وصولا إلى العمل السياسي المباشر الذي بدأت إرهاصاته في المؤتمر العام الثالث الذي عقد في مارس 1935 وقدم فيه نائب المرشد العام أحمد السكري ورقة تحت عنوان (إلى أى مدي وصل الإخوان المسلمون وماذا يعوزهم)

وكان تأييد الجماعة لثورة 1936 الفلسطينية كشفا ان توجهها السياسي لا يقتصر على مصر بل لا يقف عند حدود فلسطين التي ساهمت قضيتها في تعزيز دور "الإخوان" فقد حقق لهم دعمهم لنضال الشعب الفلسطيني ضد الاستيطان اليهودي شعبية سريعة وسهلة وعزز حضور زعيمهم الإقليمي حين بادر بالاتصال ببعض حكام البلاد العربية الإسلامية وكانت هذه هي بداية تعزيز صلاته ببعض أقطاب السياسية المصرية الذين لعبوا أدوارا مهمة في تاريخ الجماعة مثل على ماهر وعبد الرحمن عزام وغيرهما.

وعندما عقد المؤتمر العام الخامس في مايو 1938 كانت الجماعة قد توسعت من كيان بدأ متناهي الصغر محصورا في مدينة الإسماعيلية إلى تنظيم كبير منتشر في عشرات المدن والبلدات وصار له وفقا لتعبير حسن البنا (دار في كل مكان ودعوة على كل لسان)

وبعد أن بدأت الجماعة في غرفة مجهولة مستأجرة في دار لتحفيظ القرآن الكريم في الإسماعيلية أصبح مركزها العام علما من برز أعلام البلاد على نحو جعل ميدان الحلمية الذي كان يطل عليه أحد أهم الميادين والشارع الذي يوجد فيه (شارع أحمد بك عمر رقم 13) مشهورا لدي القاصي والداني .

وكانت لكوادر جماعة "الإخوان المسلمين" طريقة بسيطة للغاية في تجنيد الشباب نجد أمثلة تدل عليها في كتابات عدد من قادتها الذين رووا رحلتهم معها من الألف إلى الياء ومن أبرزهم حمد عادل كمال صاحب التاريخ الحافل مع الجماعة ونظامها الخاص (التنظيم السري)

ونلخص هنا روايته للطريقة التي حبذ هو بها لدلالتها البالغة على بساطة منهج الإخوان المسلمين في التجنيد الأمر الذي ساعدهم على الانتشار والتوسع كان أحمد عادل كمال في نهاية مرحلة التعليم الثانوي عام 1942 عندما قادته ذات يوم مصادفة إلى "شعبة الإخوان المسلمين"

في الظاهر كان عائد إلى منزله ذات يوم فصادف ثلاثة من جيرانه الشبان يلح اثنان منهم على الثالث أن يأخذهما إلى السينما على نفقته لمناسبة سارة تخصه فوفق وألحوا أن يكون هو (أحمد عادل كمال) معهم وفي طريقهم مروا بشارع السكاكيني سمعوا آذان المغرب ينطلق من أحد البيوت فاستأذن صاحبهم الذي وافق على أن يدعوهم إلى السينما لكي يصلي ويعود

والواضح في الرواية أن صاحبهم هذا (عبد المعز عبد الله) لم يكن يصلي بانتظام مثله في ذلك مثلهم وإنما فكر في الصلاة شكرا لله على نجاحه الذي دعاهم أو طلبوا إليه هم أن يدعوهم إلى السينما في مناسبته ولكنه غاب في الداخل إلى أن أصابهم الضجر قبل أن يخرج إليهم شاب دعاهم إلى الدخول وألحوا حتى قبلوا فوجدوا للمنزل فناء كبيرا فيه ملاعب لكرة السلة والمصارعة والملاكمة ومكان للجوالة وآخر للصلاة وثالث للجلوس؛

وكان صاحبهم جالسا على دكة خشبية أمام شخص يلقي درسا أو موعظة ولفت انتباه الداخلين لافتات معلقة على الجدران توضح دعوة "الإخوان المسلمين" وعندما التحقوا بزميلهم فتح الواعظ حديثا معهم استهدف مد جسور وخلق ألفة مع شرح بسيط لمبادئ الجماعة في جوانيها الدينية العامة التي يمكن ن يقبلها أى مسلم وطلب إليهم أن يتركوا بيانا بأسمائهم وعناوينهم وانصرفوا إلى حال سبيلهم .

دون أن يأخذوا ما سمعوا مآخذ الجد غير أنه بعد أيام تلقي (أحمد عادل كمال) خطابا من شعبة الإخوان المسلمين في الظاهر للسؤال عنه والتعبير عن الانشغال لغيابه ومطالبته بأن يزورهم و أن تقوم لجنة الزيارات في الشعبة بزيارته للإطمئان عليه.

ولما كان صاحبنا هذا عازفا عن الزيارات المنزلية كما روي فقد رأي أن يزورهم حتى لا يزوروه وعندما ذهب وجد هذه المرة نحو أربعين طالبا أترابا في اسمهم يتلقون محاضرة تفيض حماسا وروحانية وتدور حول إعادة مجد الإسلام فكان لحديث المحاضرة أثر قوي وصفه هو بقوله وعيت كل كلمة فغاصت إلى أغوار قلبي وأعماق نفسي حتى أنني اعتبر تلك الليلة هي موضع التحول الحقيقي في اتجاهي كله.

وثمة رواية أخري لا تقل دلالة على بساطة الطريقة التي اتبعها الإخوان في التجنيد للجماعة وراويتها هذه المرة هو المرشد العام الثالث عمر التلمساني وهي عن كيفية تجنيده هو شخصيا في بداية عام 1933 كان في بلدته في شبين القناطر صبح يوم جمعة حين زاره شابان أحدهما ناظر محطة قطار الدلتا في محاجر و زعبل والثاني معاون سلخانة في شبين القناطر؛

وتحدثا معه بشأن أحوال المسلمين الذين يحتاجون إلى من يساعدهم في الاقتراب من دينهم الذي ابتعدوا عنه فلما قال لهما ن هذا لا يرضيه ولكنه لا يملك شيئا أكد له أنه ليس بمفرده وأن (هناك هيئة إسلامية شاملة اسمها جماعة الإخوان المسلمين ويرأسها مدرس ابتدائي اسمه حسن البنا وسوف نحدد لك موعدا لتقابله)

ويقول التلمساني

أن حديثهما اجج العاطفة الدينية في نفسه فمال إلى الرضا وعلم منهما أنهما يؤديان مهمة في كل يوم جمعة بعد صلاة الفجر إذ يجوبان قري وعزب شبين القناطر يبحثان عن رجل يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض فيعرضان عليه الدعوة فإذا أقبل صار نوا ة لشعبة من شعب الجماعة في موقعه.

وقد قصدنا الاسترسال في هاتين القصتين بخلاف الإيجاز الشديد في تقديمنا للجماعة نشأة وتطورا لأنه يساهم في الإجابة على سؤال شائع عن سر انتشار هذه الجماعة وقدرتها الفائقة على التجنيد وبالتالي عن الطرق التي تتبعها في الاقتراب من الشباب وجذبهم إلى صفوفها .

وكانت هذه البسطة هي السمة الأساسية في رسائل حسن البنا التي اعتمدت عليها الجماعة في الاتصال الجماهيري فهي رسائل شديدة البساطة فيها من الوعظ والتلقين والتنظيم أكثر بكثير مما فيها من الفكر فلم يكن البنا مفكرا أو فقيها ولم يدع هو ذلك .

كان يفضل إعداد الرجال بدلا من تأليف الكتب ولكنه لم يكن مجرد واعظ متميز شديد التأثير كان قائدا بالسليقة توفرت لديه منذ البداية موهبة الزعامة قبل أن يصقل قدراته ويراكم خبراته فيها ولعل أهم آيات قيادته غير العادية (الكاريزماتية) أنه جمع بين التأثير الفائق والتنظيم الدقيق ولذلك بني على يديه جماعة ملأت الأرض لم يكن فيه أى شئ غير عادي ولكن تأثيره هو الذي لم يكن عاديا .

لم يكن طويل القامة ولا قصيرها ولكنه كان إلى القصر أقرب ولم يكن رفيعا ولا سمينا ,لكنه كان ممتلئا ولم يكن أبيض ناصعا ولا أسمر بين أسمرة.. كان وسطا بين هذا وذاك. وكان كثيف اللحية خفيف الشعر واسع العينين حاد النظرات ..

وهذا تكوين جسدي عادي ولذلك لم يكن سحره في مظهره بل في جوهره كان خطيبا لا يشق له غبار غير أن أهم ما ميزه هو طريقته في الحديث التي تعتمد على البساطة والسلاسة ورفع الكلفة وعلى الإيقاع الذي يرتفع بالمستمع إلى سماء الروحانية ويعيده إلى أرض الواقع؛

ثم يحلق به مجددا وهكذا على نحو يشعر كل من يسمعه بأنه يخاطبه شخصيا بالرغم من الاختلاف الشديد بين المستمعين بيئة وعمرا وعملا ولذلك كان حديثه الأسبوعي في المركز العام (حديث الثلاثاء) درسا في فن الخطابة ومعني القيادة في آن معا ويلفت الانتباه هنا إصراره على تسمية هذا الحديث "عاطفة الثلاثاء" ورفضه القول أنه محاصرة .

وبهذه القدرة القيادية أقام حسن البنا تنظيما فرض نفسه على السياسة المصرية منذ أن بدأ ينشط في هذا المجال في منتصف ثلاثينات القرن الماضي حين فتحت أمامه ثورة 1936 الفلسطينية بابا واسعا للعمل السياسي الذي تجاوز حدود مصر على النحو الذي سنعود إليه بشئ من التفصيل في جزء نخصصه لانتقال الجماعة من الداخل إلى الخارج .

ولأن السياسة هي فن الممكن ولأن هذا الممكن هو أمر نسبي فقد خاض الإخوان المسلمون معارك سياسية في كل اتجاه منذ أن وجههم حسن البنا في هذا الاتجاه عبر افتتاحية العدد الأول من "مجلة النذير" في مايو 1938

التي قال لهم فيها:

(إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزبا ولا هيئة كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك.. أما اليوم ستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه خصومة شديدة أن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا مقاليد الإسلام منهاجا يسيرون عليه ويعملون له .. فإما ولاء وإما عداء)

غير أن الأمر لم يكن كذلك (أبيض أو أسود) في كل الأحوال كانت سياسة "الإخوان" رمادية في كثير من الأحيان واعتمدت المناورة سبيلا في غير قليل منها كانت مساندة الملك الجديدة (فاروق الأول) عند تنصيبه مدخلا وجده "الإخوان " مناسبا لإعلان وجودهم وقدرتهم على التأثير مع رهان يصعب تبين مدي جديته على إمكان تحويل الرموز الدينية التي أضيفت إلى مراسم التنصيب إلى وقائع

كانت سياسة "الإخوان" عملية (براجماتية) في مجملها ونازعة إلى المساومة طوال الوقت فيما عدا الأصول الدينية والقضية الوطنية إلا قليلا لم يكن للجماعة أصدقاء سياسيون دائمون ولا أعداء مستمرون باستثناء حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية في تلك المرحلة فما كان ممكنا لهذه الجماعة أن تحقيق غاياتها إلا عن طريق جذب قطاع يعتد به من الجمهور الذي يؤيد الوفد ولذلك كان الصراع بينهما وجوديا بدرجة وليس سياسيا .

ومن هنا كان قلق زعيم الوفد رئيس الوزراء مصطفي النحاس عندما أرد حسن البنا و16 من كوادر "الإخوان" دخول الانتخابات مجلس النواب عام 1942 ولذلك لجأ النحاس إلى مساومة حسن البنا وانتجت هذه المساومة صفقة تنزل الإخوان بمقتضاها عن الترشيح في مقابل الحصول على تسهيلات كانوا في أشد الحاجة إليها .

فلم يكن لديهم مجلة او صحيفة في ذلك الوقت بعد أن فقدت الجماعة أولي مجلاتها "النذير" بسبب الانشقاق الكبير الذي كان صاحب امتيازها (محمود أبو زيد المحامي) أحد أنصاره وسنعود إلى قصة هذا الانشقاق لأهميتها البالغة قسم آخر في هذا الكتاب ولذلك حصل البنا على تصريح لإصدار "مجلة الإخوان المسلمين" ضمن ما جناه من تسهيلات بموجب الصفقة التي تنازل بمقتضاها عن خوض انتخابات 1942.

فلم يكن موقف النحاس على هذا النحو مبدئيا استهدف منع اختلاط السياسية بالدين بخلاف ما ذهب إليه كثير من المؤرخين بل مصلحيا إن لم يخل من تمسك بالمبادئ في هامش من هوامشه ولكن ليس في قلبه .

غير أن الإخوان المسلمين قدروا للنحاس موقفه هذا وتفاهمه معهم علي الانسحاب من الانتخابات بدلا من أن يلجأ إلى تزويرها ضدهم وقد أدركوا ذلك عندما خاضوا انتخابات 1944 في عهد حكومة أحمد ماهر بخمسة مرشحين أسقطوا جميعهم (حسن البنا في الإسماعيلية وأحمد السكري في المحمودية بحيرة وصالح عشماوي في مصر القديمة وعبد الحكيم عابدين في الفيوم و محمد حامد أبو النصر في منفلوط)

بالإضافة إلى أحمد حسن الباقوري الذي لم يكن من مرشحي الإخوان ولكنهم أعطوه أصواتهم في دائرة الخليفة القاهرية وقد أسقط البنا في الإعادة بعد أن خاص جولة ثانية ضد منافسه

ثانيا:من العمل السلمي إلى العنف

لم يكن إعلان دخول المعترك السياسي عام 1938 بعد ن دخلته الجماعة فعلا عام 1936 من باب الثورة الفلسطينية تحو في مسارها على النحو الذي سبق توضيحه فالتحول الحقيق الذي حدث في هذا المسار ارتبط بتأسيس النظام الخاص الذي يسميه آخرون من غير "الإخوان" التنظيم السري .

وكان هذا النظام سريا فعلا وقد بدأت إرهاصاته خلال التحرك الواسع الذي قامت به الجماعة لدعم الثورة الفلسطينية وما تضمنه من جع تبرعات ثم شراء سلاح لإرساله إلى المجاهدين في إطار تلك الثورة .

وبالرغم من تباين عدد من الروايات بشأن تاريخ إنشاء النظام الخاص فالراجح أن ذلك كان عام 1940 عندما أسند حسن البنا مهمة تأسيسه إلى مجموعة من أقرب القريبين إليه ضمت صالح عشماوي ومحمود عبد الحليم وحسين كمال الدين وحامد شريت وعبد العزيز أحمد

أما التباين بين هذه الرواية وروايات أخري تعيد بداية التنظيم إلى عام 1937 و عام 1938 فهو يعتبر خلافا في التفاصيل لا يعتد به كثيرا خصوصا في ظل وجود شوهد على أن إرهاصات تأسيسه عود فعلا إلى ما قبل عام 1940 بعامين أو ثلاثة ولكن هذا يختلف جوهريا عن الروايات التي تذهب إلى أن النظام الخاص نشأ مع تأسيس الجماعة بدءا بفرق الرحلات التي أقامها حسن البنا في الإسماعيلية وقال عنها (كادت تلازم أول شعبها وجودا وقد ألفت بنفسي أول فرقة وكنت أزاول تدريبها بشخصي على بعض التمرينات الرياضية التي كنا نزاولها بالمدارس)

وفي خلفية هذه الروايات أن العنف كان جزءا من تكوين جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها وأصلا من أصول فكرتها ووفقا لذلك كانت فرق الجوالة هي المرحلة الثانية في مسار العنف الإخواني وصولا إلى النظام الخاص .

وليس هنا مجال مناقشة ما إذا كان العنف كامنا في الفكرة التي قامت عليها جماعة "الإخوان المسلمين" أم أنه كان وليد ظرف موضوعي أدي إليه في مرحلة معينة فهذه قضية تتطلب الإحاطة بها عملا يخصص لها كاملا ويسبر أغوارها ويزن لأمور بميزان دقيق .

ولكن ما يمكن قوله بإطمئنان هنا هو أن العنف بالمعني العام الواسع لصيق بأية حركة سياسية أو اجتماعية أو دينية تؤمن بأهمية القوة بمعناها الذي لا يقف عند القوة المسلحة سواء شملها أو لم يشملها أو لم يشملها والأكيد ن القوة كانت موضع اهتمام حسن البنا منذ البداية كما سبقت الإشارة ..

ولكن الحدي عن النظام الخاص لجماعة "الإخوان" ينصرف إلى القوة العسكرية والعنف المسلح بالتحديد وهذا هو ما لم يكن للجماعة سبق عهد به قبل أربعينات القرن الماضي وتأسيس النظام الخاص .

ولم تكن هناك صلة لنظام الجوالة بهذا العنف المسلح بدليل ن جوالة "الإخوان المسلمين" كانت جزءا من الحركة الكشفية الوطنية التابعة للدولة من أواخر الثلاثينات إلى بداية عام 1953 وعندما قامت ثورة 1952 وقرر مجلس قيادة الثورة إعادة تنظيم حركة الكشافة الوطنية عين عبد الحكيم عابدين رئيس جوالة "الإخوان" سكرتيرا عاما لهذه الحركة.

والمثبت تاريخيا أن النشاط الرئيسي لجوالة "الإخوان المسلمين" كان في ميادين الخدمة العامة التي أعطتها الجماعة أهمية قصوى منذ البداية فكانت هي أداة هذه الجماعة في الأعمال الخيرية والخدمات الصحية وعندما رأت قيادة الجماعة إقامة نظام للكتائب في إطار الجوالة عام 1937 كان هذا معلنا ووجه حسن البنا رسالتين من رسائله إلى أعضاء هذه الكتائب وهما " المنهج " و" التعاليم " وقد تصدر عنوان فرعي (مني إلى إخوان الكتائب) "رسالة التعاليم"

وكان الهدف من إنشاء نظام الكتائب هو مواجهة مجموعات "القمصان الزرق" الطلابية التي أنشأها حزب الوفد في ذلك الوقت للسيطرة على الجامعة ووضع حد لانتشار "الإخوان المسلمين" فيها واختار لها هذا الاسم نسبة إلى أحد الألقاب التي كان يعتز بها وهو "حزب الجلالبيب الزرقاء" أى حزب الفلاحين .

وقد فشل نظام الكتائب اختفي منذ أواخر 1938 قبل عامين على تأسيس النظام الخاص السري المسلح وكان طبيعيا أن يبحث قادة النظام الخاص في فرق الجوالة عن شبان مناسبين للإلحتاق به ولكن هذا لا يعني بالضرورة وجود ارتباط عضوي أو تنظيمي بينهما وقد ظلت فرق الجوالة جزءا لا يتجزأ من بنية جماعة "الإخوان المسلمين" وقسما من أقسامها بخلاف النظام الخاص الذي كان سريا .

وكان الهدف الذي حدده حسن البنا للنظام الخاص هو مواجهة الاحتلال البريطاني في مصر ومساعدة المجاهدين في فلسطين ولذلك فعندما بدأ النظام الخاص في شراء أسلحة وتخزينها في مطلع أربعينات القرن الماضي لم يخف البنا ذلك عن بعض معارفه خارج الجماعة بالرغم من عدم إطلاع أعضائها على ذلك بمن فيهم معظم قادتها الذين لم يبلغهم بتأسيس النظام الخاص

وكان من بين الذين أطلعهم على ذلك الضابط أنور السادات الذي كان معروفا بنشاطه ضد الاحتلال فقد كتب السادات أنه كان مع البنا ذات يوم حين دخل عليه متطوع يحمل في يديه صندوقين مغلقين ولما رآه أى السادات أجفل ولكن البنا أمره أن يفتحهما وكان فيها عشرات المسدسات ..

وأيا كان الأمر فقد نقل النظام الخاص نشاط "الإخوان المسلمين" إلى مرحلة جديدة وخصوصا في الفترة من 1944 إلى 1948 .

وكان اغتيال رئيس الوزراء وزعيم الحزب السعدي أحمد ماهر في 24 1948 1945 هو العمل العنيف الكبري الأول الذي وجهت فيه أصابع الإتهام إلى "الإخوان المسلمين" وبالرغم من أن التحقيقات أظهرت أن القاتل محمود العيسوي كان من أعضاء الحزب الوطني لا "الإخوان المسلمين" فثمة خلاف تاريخي لم يحسم حتى الآن عما إذا كان لهم دور في اغتيال أحمد ماهر .

وبالرغم من ضعف الإسناد التاريخي لا تخلو وجهة حجج من دفعوا بانتماء قاتل أحمد ماهر إلى "الإخوان المسلمين" أو على الأقل ارتباطه بهم فكان البعض يجمع في ذلك الوقت بين عضوية حزب سياسي والانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين ولم يكن هذا مقصورا على الحزب الوطني كما لم يكن الحزب الوطني حتى ذلك الوقت ثوريا بخلاف ما كان عليه عندما أسسه مصطفي كامل عام 1907.

ومع ذلك فليس هناك ارتباط محتوم بين الطريقة التي يمكن أن يفكر بها عضو في حزب ما في لحظة معينة وموقف هذا الحزب أو اتجاهاته ولذلك سيظل السؤال عما إذا كان لجماعة "الإخوان المسلمين" أو نظامها الخاص يد في اغتيال أحمد ماهر بلا إجابة.

ولكن عنف النظام الخاص أصبح سافرا بعد ذلك وكان تفاقم الوضع في فلسطين عاملا مساعدا على التوسع في التدريب العسكري تحت شعار الإعداد للجهاد في سبيل القضية ولأن فلسطين كانت هي القضية الأساسية التي تم تدرب معظم أعضاء النظام الخاص من أجلها كان ضروريا اتخاذ شركات ومصالح يهودية في داخل مصر هدفا للعنف المسلح إلى جانب مساعدة "الهيئة العربية العليا" هناك في الحصول على أسلحة ..

وبدأ الإعداد جديا لتنفيذ عمليات مسلحة في مصر عند إسناد قيادة النظام الخاص إلى عبد الرحمن السندي يعد تعيين أصلح عشماوي نائبا للمرشد العام إثر خروج أحمد السكري الذي تولي هذا المنصب من 1928 خلال إحدى أكبر الأزمات داخل الجماعة والتي ستعود لاحقا بشئ من التفصيل .

وكان تصاعد العنف المسلح تدريجيا وبدأ ذلك خارج القاهرة عندما حدث صدام في يوليو 1946 بين أنصار في الجماعة وخصومها في بور سعيد استخدمت فيه القنابل وأسفر عن قتل أحد هؤلاء الخصوم وإصابة آخرين وفي 10 ديسمبر من العام نفسه ضبط بعض أفراد الجماعة في الإسماعيلية يقومون بتجارب لصنع قنابل ومفرقعات ..

وقد وقع أول حادث من هذا النوع فيالقاهرة في يونيو 1947 عندما انفجرت قنابل وحدثت هجمات في عدة أماكن بما في ذلك اعتداء أعضاء في الجماعة على مأمور قسم الخليفة في 29 من الشهر نفسه

وكان عام 1948 هو عام العنف المسلح في تاريخ "الإخوان المسلمين" ولكن العملية التي أثارت أكبر مقدار من العنف وأدت إلى بدء العد التنازلي لحل الجماعة هي اغتيال القاضي أحمد الخازندار في 22 مارس 1948 انتقاما منه بسبب الحكم الذي أصدره في إحدى قضايا الإخوان وهي قضية الشبان الذين ألقوا قنابل على بعض جنود الإنجليز ومصالحهم في الإسكندرية في 22 نوفمبر 1947 إذ حكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة .

وتركزت أعمال العنف بعد ذلك ضد هداف يهودية فقد حدث انفجاران في حارة اليهود في 10 يونيو 1948 وثالث في الممر الواقع بين محلات " آركو" و"شيكوريل " أمام سينما مترو في 20 يوليو ورابع في محل "داود عدس" للأقمشة في شارع عماد الدين في 28 يوليو وخامس في محلات "بنزايون" في شاعر قصر النيل في أول أغسطس

وسادس في محلات " جاتينيو " بشارع محمد فريد في اليوم نفسه وسابع في مبني شركة أراضي في المعادي في 3 أغسطس وثامن في حارة اليهود في 22 سبتمبر وتاسع في مخزن محلات شيكولوريل في حلمية الزيتون في 29 سبتمبر

وعاشر في شركة الإعلانات الشرقية في 22 نوفمبر وكان هذا لأخير من القوة إلى الحد لذي أدي إلى تدمير أو تصدع جميع المنازل والحوانيت في المنطقة .

غير أن العملية التي هزت البلاد والعباد في لذلك الوقت هي عملية اغتيال حكمدارالقاهرة اللواء سليم زكي في 4 ديسمبر 1948 بقنبلة ألقيت عله من سطح كلية طب قصر العيني فلم يمض أربعة أيام عليها حتى كان رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي قد اصدر [[الإخوان من النشأة إلي الحل|قرار حل جماعة "الإخوان المسلمين" في الثامن من الشهر نفسه بعد أن كان قد قرر في 28 أكتوبر 1948 حل شعبتي الجماعة في الإسماعيلية وبور سعيد وحظر إنشاء غيرها .

ولم يمض عشرون يوما على قرار حل الجماعة حتى كان النظام الخاص قد انتقم من النقراشي اغتيالا بالرصاص في بهو وزارة الداخلية صباح 28 ديسمبر 1948.

وعندئذ بلغت دائرة العنف أعل مبلغ لها بعد أن صارتالقاهرة غارقة في الدماء ومع ذلك قررت قيادة النظام الخاص مواصلة العنف بالرغم من المحاولات التي بذلها حسن البنا للسيطرة على الموقف واضطراره إلى إصدار بيان تهم فيه من اغتالوا النقراشي وغيره من الأبرياء بأنهم (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين)

ففي 13 يناير 1949 حاولت مجموعة من أعضاء "النظام الخاص" نسف مقر محكمة الاستئناف التي نقلت إليها وثائق وأوراق تتضمن معلومات تفصيلية عن هذا النظم وأعضائه عثر عليها في سيارة جيب كانت سلطات الأمن قد ضبطتها بالمصادفة خلال محاولة مجموعة أخري في النظام الخاص نقلها من مكان إلى آخر في 15 نوفمبر .

ودفع حسن البنا حياته ثمن لدائرة العنف التي لم يتصور الذي يمكن أن تبلغه عندما قرر انتهاج هذا الطريق وإنشاء النظام الخاص عام 1940 فقد اغتيل البنا في 12 1948 1949 أمام مقر جمعية الشبان المسلمين في شارع نازلي (رمسيس) بوسطالقاهرة انتقاما لقتل النقراشي؛

بالرغم من أن المؤشرات كلها تفيد أنه لم يعرف شيئا عن هذه العملية إلا بعد تنفيذها ولم تكن هذه هي العملية المسلحة الوحيدة التي حدثت بمنأي عنه فكان البنا قد عجز عن السيطرة على النظام الخاص بعد أن ترك دوره يتوسع ونفوذ قيادته يستفحل وامتهان خلال العامين السابقين على اغتياله بأحداث جسام دلت على أن الأمور تفلت من بين يديه .

فلم يكن جموع قيادة النظام الخاص وحده الذي يفترض أن ينبهه إلى ذلك بل ما أدي إليه هذا الجموع من انفلات دفع زعيم طلاب الإخوان المسلمين مصطفي مؤمن عام 1947 إلى تشكيل مجموعتين مسلحتين تابعتين له للاستعانة بهما في السيطرة على الأوضاع في الجامعة عند الحاجة أى أنه أسس نظاما خاصا تابعا له وقد تكررت هذه الحالة إذ نشأت عدة مجموعات مسلحة من هذا النوع تمكن النظام الخاص المعتمد في الجماعة من تصفيتها .

ويعني ذلك أن اختلالا بنائيا حدث في الجماعة في ذلك الوقت وأن انفلات قيادة النظام الخاص ربما كان نتيجة لهذا الاختلال وليس سببا له أو قل إن جموع هذه القيادة أدي إلى مفاقمة إرهاصات اختلال هيكلي كان قد بدأ في الظهور وذهبت به إلى أبعد مدي..

ولذلك فقد بولغ كثير في تحميل عبد الرحمن السندي رئيس النظام الخاص المسؤولية كاملة غير منقوصة عن الاختلال الذي أصاب الجماعة في ذلك الوقت واعتباره المصدر الأول وربما الوحيد لهذا الاختلال وساهم في ذلك الهجوم الحاد الذي شنه ضده صلاح شادي في كتابين كان من أهدافهما الأساسية الإجهاز على ما بقي من صورة طيبة للسندي لدي بعض أعضاء الجماعة .

ولكن الاختلال الذي دب في صفوف الجماعة عندما تشتت جهدها بين دورها الأساسي الدعوي والسياسي بالرسائل السلمية والوظيفة التي أنيطت بالنظام الخاص كان هو العامل الرئيسي الذي أدي إلى طغيان نفوذ السندي وتباعه وتقليص سلطة المرشد العام ولم تستطع الجماعة معالجة ذلك الاختلال بالرغم من هول الصدمتين اللتين وقعتا على رأسها خلال شهرين فقط وهما حلها ثم اغتيال حسن البنا .

وبالرغم من أنها استعادت وضعها القانوني عام 1951 بحكم قضائي ألغي قرار حلها فقد مضت في اتجاه قادها إلى صدمة جديدة أكثر حين اصطدمت مع ثورة 1952.

ثالثا:في مواجهة ثورة 1952 نهاية مرحلة

أنهي الصدام الذي حدث بين "الإخوان المسلمين" وثورة يوليو 1952 مرحلة في تاريخ الجماعة حظيت فيها بالمشروعية وتحركت في مجال الدعوة الدينية والعمل السياسي والناشط الاجتماعي والرياضي قبل أن تنزل تحت الأرض وتلجأ إلى العمل السري هربا من يد ثقيلة سعت إلى الإجهاز عليها واستئصالها بالقوة.

ولذلك كثيرا ما أثير السؤال عما إذا كان ذلك الصدام الذي حدث بين الجماعة والثورة محتوما أم أنه كانت هناك فرصة لتجنبه وإيجاد صيغة ما لعلاقة غير عدائية بين فريقين اتفقا على ضرورة تغيير الوضع الذي كان قائما في مطلع خسمينات القرن الماضي ولكنهما اختلفا على اتجاه هذا التغيير ووجهته .

وبالرغم من تباين الروايات المتعلقة بتاريخ بداية العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والضباط الأحرار فقد كان هناك عاملان رئيسان فرضا إقامة هذه العلاقة أولهما أن "الإخوان" اخترقوا الجيش واجتذبوا عدد يعتد به من الضباط إما كمنتمين أو كمتعاطفين في الوقت نفسه الذي بدأت حركة الضباط الأحرار تخذ شكلها التنظيمي .

وثانيهما أن جماعة "الإخوان" كانت هي الأكبر والأهم من بين قوي التغيير في تلك الفترة وهي القوي التي شملت أيضا حركة مصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية والمثبت تاريخيا أن عددا من قادة الضباط الأحرار اتصلوا بهذه القوي بل انضموا إلى بعضها في البداية إلى أن اتخذوا قرارا بالاستقلال عن أى حركة سياسية وقد روي جمال عبد الناصر انه انضم إلى مصر الفتاة ثم تركها وانه اتصل بعد ذلك بجماعة "الإخوان" دون أن ينضم إليها .

وما أن قامت الثورة حتى ظهر واضحا وجود علاقة خاصة جدا تربطها بجماعة "الإخوان" فقد تم استثناء هذه الجماعة من قرار حل الأحزاب السياسية في 16 يناير 1953 بالرغم من أن نشاطها السياسي كان واضحا جليا كما بادرت قيادة الثورة بفتح ملف اغتيال حسن البنا وإحالته على القضاء مجددا مما أدي إلى إدانة أربعة من ضباط لأمن في العهد السابق .

فلم يكن ممكنا إلا أن يحدث تعاون قوي بين الجماعة السياسية الأكبر وسط قوي التغيير وبين التنظيم العسكري الذي يبحث عن وسيلة لهذا التغيير وبالرغم من وجود خلافات وسعة في الروايات التي تحكي قصة هذا الاتصال في أربعينات وأوائل خمسينات القرن الماضي يبدو ثمة خيط ممتد فيها أو على الأقل في معظمها ويقودنا هذا الخيط إلى استخلاص أن العلاقة بين جماعتي "الإخوان المسلمين" والثورة كان محكوما عليها بأن تمضي نحو الصدام لأنها قامت في أساسها على محاولة كل منهما استخدام الآخر من أجل تحقيق أهدافه.

لقد وجد "الإخوان" في تنظيم الضباط الأحرار الذراع العسكرية التي يمكن أن تحملهم إلى السلطة بينما رأي أهم قادة هذا التنظيم في جماعة "الإخوان" قاعدة شعبية يمكنهم الاعتماد عليها في الأيام الأولي إلى ن تدين لهم السيطرة الكاملة .

وهذا النوع من العلاقات يقود بالضرورة إلى ما يطلق عليه مباراة صفرية إذ يستحيل أن يحقق كل من الطرفين هدفه لأن نجاح احدهما يتوقف على فشل لآخر إنها تلك العلاقة التي لابد أن تنتهي إلى رابح وخاسر وأن يكون كل من الربح والخسارة صافيا تقريبا فكان سعي كل منهما إلى استخدام لآخر مطية هو جوهر المشكلة بينهما .

ويعني ذلك أن الصدام كان كامنا في طبيعة العلاقة بينهما من حيث جوهرها وليس في أحداث وقعت وعكرت صفوها ويختلف استنتاجنا هذا عن الاتجاه الشائع في تحليل الصدام الذي حدث بين الثورة والجماعة سواء من يرجعونه إلى تبدل أولويات كل منهما بعد إنهاء النظام القديم و من يعيدونه إلى خلافات محددة على كيفية التعامل مع الاحتلال البريطاني الذي كان جاثما على صدر البلاد بمنطقة قناة السويس أو على الإصلاح الزراعي أو على إشتراك "الإخوان" في الحكومة أو حتى على موقع الشريعة الإسلامية في النظام السياسي الجديد..

فتبدل الأولويات أو بالأحرى تغيرها هو أمر طبيعي تماما عندما يختلف الوضع تماما بعد نجاح الثورة واستيلاء الضباط الأحرار على السلطة أما الخلافات العلنية التي حدثت خلال الشهور التالية للثورة قبل أن يقع الصدم النهائي فلم تكن إلا إعراضا للمشكلة وكان أهمها خلافان على الحد لأقصي للملكية الزراعية واتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصر .

فقد قررت الثورة أن يكون الحد الأقصى للملكية الزراعية مائتي فدان بينما طالبت جماعة "الإخوان" بزيادة هذا الحد إلى خمسمائة فدان ولا يمكن لمثل هذا الخلاف أن يقود إلى صدام كسر عظم إلا إذ كان وراءه نزاع أعمق ..

وإذا كانت معارضة "الإخوان" اتفاقية الجلاء تعبيرا عن رفضهم ما حوته من تنازلات إلا أن ما كان متصورا أن تبلغ ما بلغته من حدة إلا بعد أن أصبح الصدام النهائي قدما لا محالة وقد وقع فعلا في أكتوبر 1954 بعد أربعة شهور فقط على اتفاقية الجلاء .

فكن الخلاف بين "الإخوان" والثورة على شروط جلاء القوات البريطانية عن مصر قائما منذ نهاية العام 1952 ولكن هذا الخلاف لم يمنع التشاور بينهما من وقت إلى آخر خصوصا بعد أن اتجهت السفارة البريطانية لدي القاهرة إلى استطلاع رأي "الإخوان" في مستقبل مفاوضات الجلاء اعتبار من 1948 1953

فقد التقي عدد من قادة "الإخوان" المستشار الشرقي لهذه السفارة مرات عدة ولكن بعد أن أبلغوا جمال عبد الناصر وحصلوا على إذن منه ولذلك كان ضروريا أن يجري حوار بين الثورة "والإخوان" في شأن الشروط التي يمكن قبولها في مقابل جلاء القوت البريطانية وقد أظهر هذا الحوار خلافات واضحة ولكن أثرها لم يظهر إلا مع بدء العد التنازلي باتجاه الصدام بين الطرفين ..

والطريف أن الثورة التي تبنت موقفا أقل تشددا مقارنة مع "الإخوان" تجاه الإنجليز اتهمتهم بإجراء اتصالات مع السفارة البريطانية بالرغم من أنها تمت بمعرفة عبد الناصر فعندما اقتربت العلاقة من لحظة الصدام النهائي اتجهت قيادة الثورة إلى ممارسة أقوي ضغط على "الإخوان" منذ يوليو 1952 فقررت في يناير 1954 حل جماعتهم التي سبق ن استثنتها من قرار حل الأحزاب السياسية في يناير 1953 وكانت الاتصالات مع السفارة البريطانية أحد أسباب قرار الحل وقد وضع هذا السبب على نحو يشكك في وطنية "الإخوان"

غير أن هذه الأسباب المعلنة وغيرها للخلاف بين الثورة و"الإخوان" كانت بمثابة العرض الظاهرة للمشكلة التي نجد جذورها في سعي كل من الطرفين إلى استخدام الآخر .

وقد سبقت هذه المشكلة وقوع الثورة ونجاحها فبالرغم من اختلاف الروايات في كثير من تفاصيل العلاقة بين "الإخوان" وقادة الضباط الأحرار في السنوات السابقة على الثورة يظل هناك خيط يقودنا إلى استخلاص أن عبد الناصر حرص على أن يعطي "الإخوان" الذين كان على اتصال معهم انطباعا بن في إمكانهم الاعتماد على تنظيمه لتحقيق هدفهم في إقامة دولة إسلامية كما لم يكن "الإخوان" أقل حرصا على أن تبلغه رسالة مفادها أن ما يعنيهم هو تطبيق مبادئهم .

فكان كل من الطرفين يناور في علاقته مع الآخر وكان كلاهم يدرك أن ذلك على نحو خلق توترا من وقت إلى آخر ولكن لم يكن ثمة خيار أمام أى منهما إلا المحافظة على هذه العلاقة .

وعندما استولي الضباط الأحرار على السلطة كان طبيعي أن تزداد الضغوط المتبادلة ون تأخذ مناورات كل من الطرفين شكلا جديدا ولكن طابع العلاقة اختلف بحكم ن أحد طرفيها صار في مركز أقوي ولأن اللعب أصبح "على المكشوف "..

فحتي 22 يوليو كان كلاهما يريدان التغيير غير انه اعتبارا من ذلك اليوم صار لضباط في موقع اقوي بالرغم من أن السلطة لم تكن قد دانت لهم بشكل كامل فالبرغم من ان قيادة الثورة ظلت في حجة إلى دعم "الإخوان" كانت تعرف أن هذه الحاجة مؤقتة إلى أن يستقر الوضع تحت سيطرتها وفي المقابل كانت حاجة "الإخوان" إلى الثورة أطول مدي حتى في حال نجاحهم في اختراقها من داخلهم ولذلك كانت فرصة الثورة في إدارة العلاقة مع الإخوان لمصلحتها أكبر من فرص هؤلاء في استخدام الثورة لتحقيق أهدافهم .

ويبدو أن هذا هو ما أدركه المرشد العام الثاني حسن الهضيبي مبكرا ومعه بعض قادة الصف لأول بينما لم يكن قادة آخرون وكثير من قواعد الجماعة يدركون ميزان القوي على هذا النحو ولعل هذا يفسر تردد الهضيبي في إصدار بيان التأييد الذي طلبه عبد الناصر؛

فلم يصدر إلا في 28 يوليو وفي صيغة تنطوي على دعم مشروط فلم يتضمن البيان تأييدا صريحا وإن تحدث عن (الحركة المباركة التي قام بها جيش مصر العظيم) وعندما أهاب لـ "الإخوان" أن يشدوا أزرها ربط ذلك بأن (تبلغ مداها من الإصلاح) دون أن يحدد المقصود به ولكنه أشار في النهضة المباركة من خطوات الإصلاح الشامل.

والأرجح ن التباين في إدراك حقيق ميزان القوي أتاح لعبد الناصر أن يخترق الجمعة ويقسم صفوفها ويتلاعب بقيادة جهازها السري الأمر الذي اضعف مركزها وفي المقابل لم تقطن قيادة "الإخوان" إلى أهمية اختراق التنظيم السياسية للثورة (هيئة التحرير) فرفضت بإصرار انضمام الإخوان إليه رغم دعوتهم إلى العمل من خلاله .

فقد أصدر المرشد العام الثاني بيانا رفض فيه انضمام أى عضو في الجماعة إلي "هيئة التحرير" وهدد بأن كل من ينضم إليها يعد مفصولا بل وافق على أن يعمل فريق الجوالة في مواجهة التنظيم الشبابي لهيئة التحرير بعد أن كان هناك اتفاق على انضمام أعضاء هذا الفريق إلى الحركة الكشفية الوطنية

وربما خشيت قيادة " الإخوان" أن يذوب أعضاء الجماعة في التنظيم السياسي للثورة بدلا من أن ينجحوا في اختراقه وهذا تخوف مشروع ولكن في الظروف العادية أما في أوقات الأزمات التي تقترن بمراحل تحول لابد أن يكون القائد الذي يدير الأزمة مستعدا لقبول قدر من المخاطرة إذ كان الهدف المنشود كبيرا وهذا جزء من مهارات المناورة السياسية التي لم تتوفر لقيادة "الإخوان" في الوقت الذي دبت الخلافات في صفوف الجماعة .

فكان أخطر ما عانت منه جماعة "الإخوان" في تلك الفترة هو الخلاف على كيفية التعاطي مع الثورة وهذا خلاف أظهر مدي الضرر الذي يصيب أى هيئة سياسية عندما تطغي المصالح الشخصية لبعض قادتها ..

وقد أصاب جماعة "الإخوان" هذا الضرر منذ أزمة المشاركة في حكومة محمد نجيب (سبتمبر 1952 يونيو 1953) فقد أظهر عبد الناصر براعته في المناورة عندما عرض على " الإخوان " المشاركة في هذه الحكومة لتحقيق أحد هدفين فإنما أن يشتري سكوتهم و أن يخلق أزمة في داخلهم؛

وقد تحقق له الهدف الثاني الذي كان هو لأهم بالنسبة إليه إذ حدث خلاف على الوزيرين اللذين يمثلا "الإخوان" وعندما حاول مكتب الإرشاد الخروج من الأزمة عبر إصدار قرار بعدم المشاركة كان السيف قد سبق واستجاب الشيخ حسن الباقوري إلى نداء السلطة مما أدي إلى استقالته من الجماعة ..

وهكذا بدا عبد الناصر أكثر براعة من "الإخوان" وأوفر قدرة على المناورة في لحظة تحول عميق شملا من بين ما شمله أساليب إدارة العلاقة بينها وبين الثورة فالاتصالات التي كانت سرية صرت في العلن والمناورات التي كانت في الخفاء غدا معظمها ظاهرا والمطالب المتبادلة التي كانت ضمنية غالبا أصبحت صريحة في معظم الأحوال .

وهنا أيضا تعجل "الإخوان" في كشف أوراقهم عندما طالبوا بتطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذ إجراءات لأسلمة المجتمع فلما لجأت الثورة إلى المناورة بأن هذا التغيير يحتاج إلى وقت وإعداد طلبت جماعة "الإخوان" تكوين لجنة منهم والجيش تعرض عليها القوانين والقرارات قبل إصدارها فلم يوفر "الإخوان" جهدا في تأكيد مخاوف الثورة من أنهم يريدون فرض سيطرتهم أو وصايتهم الأمر الذي دفعها وعلى رأسها جمال عبد الناصر إلى الاستعداد للصدام والدفع في اتجاهه يوما بعد يوم .

وبد في نهاية العام 1953 أن عبد الناصر أكثر سيطرة على رقعة الشطرنج لأن تحركاته و نقلاته كانت أوفر دفة وإحكاما فما أن حل العام 1954 حتى قام بنقلة هجومية قوية عبر قرار حل جماعة الإخوان التي جاءت نقلتها المضادة خاطئة عمدت الجماعة إلى تدعيم علاقاته مع محمد نجيب الذي كان الوحيد في مجلس قيادة الثورة الذي أعترض على قرار الحل.

وكان نجيب يتجه إلى خوض جولة حاسمة في الصراع ضد عبد الناصر وإذ خسر نجيب تلك الجولة ظهر مدي خطأ وقوف الإخوان وراءه .. ولكن خطأهم في الواقع كان أبعد من الرهان على "الفرس" الخاسر لأنهم لم يتمكنوا من نيل ثقته قبل أن يخسر وهذا هو ما كشفه نجيب في مذاكرته موضحا أنه رفض الشروط التي قدموها ورأي فيها (محاولة للسيطرة على الحكم دون أن يتحملوا المسؤولية)

فمثلما فعلوا مع عبد الناصر تعجلوا في كشف أوراقهم أمام نجيب الأمر الذي يدعم الاعتقاد في ضعف قدرتهم على المناورة في تلك الفترة وتفاقم أثر هذا الضعف في ظل العجز عن حل الخلاف الداخلي الذي وصل في سبتمبر 1954 إلى حد انقسام الجماعة مجموعتين اقترحت إحداهما عقد مصالحة مع الثورة فيم رفضت الأخري التي أيدها المرشد العام هذا الطرح وعموما كان الوقت قد فات فبخروج عبد الناصر منتصرا على محمد نجيب والضباط الديمقراطيين في أزمة مارس 1954 صار مسيطرا على رقعة الشطرنج .

وعندئذ أصبحت نهاية لعبته مع جماعة "الإخوان" وشيكة ولم تمض عدة أشهر حتى جاءت هذه النهاية شديدة الدرامية في 26 أكتوبر 1954 بعد محاولة اغتياله خلال إلقائه خطابا جماهيريا في ميدان المنشية في الإسكندرية فيما عرف باسم "المؤامرة الكبرى" التي تم على أثرها حل جماعة "الإخوان" ومثول قادتها أمام محكمة استثنائية نظرت القضية في شهر واحد وأصدرت أحكامها بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة في حق 14 من أبرزهم ..

الإخوان المسلمون بين السمع والطاعة والحوار والشورى 19281954

قامت العلاقة بين أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" وقيادتها ممثلة في المرشد العام منذ تأسيسها عام 1928 على مبدأ السمع والطاعة المتضمن في البيعة وفقا للقسم الذي يقسمه عضو الجماعة؛

وينص هذا القسم على:

(أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة "الإخوان المسلمين" والجهاد في سبيلها والقيام بشرائط عضويتها والثقة التامة بقيادتها والسمع والطاعة في المنشط والمكره وأقسم بالله العظيم على ذلك وأبايع عليه والله على ما أقول وكيل)

ولذلك يسود اعتقاد في أن تنظيم الجماعة يعمل بشكل آلي (أوتوماتيك) لا مجل فيه لنقاش أو حوار أو اختلاف في الرأي غير أن هذه الصورة ليست واقعية تماما ولا يمكن أن تكون كذلك في ى تنظيم بما في ذلك التنظيمات التي توصف بأنها حديدية فأعضاء وكوادر أى تنظيم هم بشر من دم ولحم وليسو آلات يمكن تحريكهم عبر ريموت كونترول

وقد عرف تنظيم "الإخوان المسلمين" منذ تأسيسه أنواعا شتي من التفاعلات بين قادته وأعضائه وفي أوساط قيادته وقد يكون صعبا فهم سلوك هذا التنظيم وآليات عمله بدون الإلمام بالاتجاهات الرئيسية في التفاعلات التي حدثت داخله في المرحلة التي تمتع فيها "الإخوان" بالمشروعية في إطار جمعية مسجلة رسميا وفق القانون المصري في الفترة من 1928 إلى 1954 باستثناء السنوات التي تم حل هذه الجمعية فيها من 1948 إلى 1951 .

أولا: البناء التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين

قام الهيكل التنظيمي الرسمي للجماعة على مستويين رئيسيين هما الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد بالإضافة إلى المركز العام الذي لا يعد مستوي مستقلا بذاته وإنما يمكن اعتباره ملتقي البناء الرأسي مع البناء الأفقي للجماعة .

ووفق لأول لائحة لجماعة الإخوان تعتبر الهيئة التأسيسية السلطة العليا وهي تقوم مقام الجمعية العمومية أو المؤتمر العام وقد حل محلها بعد ذلك مجلس الشورى وتتكون من "الإخوان" الذين سبقوا بالعمل للدعوة

وكانت مهمتها الإشراف العام على سير الدعوة ورسم الخطوط الرئيسية لسياسة الجماعة واختيار أعضاء مكتب الإرشاد وتراوح عدد أعضائها بين 100,150 عضوا أما مكتب الإرشاد فكان وما زال يشرف على أعمال الجماعة ويضع سياستها ويعمل على تنفيذ هذه السياسة وتصدر قراراته بالأغلبية المطلقة وإذا تساوت الأصوات يعتبر صوت المرشد العام مرجحا ..

وكان المركز العام نقطة التقاء البناء الرأسي للجماعة ببنائها الأفقي الذي لم يتبلور إلا مع نهاية الثلاثينات فحتى بداية الحرب العالمية الثانية لم تكن هناك سوي شعب متناثرة في بعض الأقاليم تتلقي تعليماتهم من المركز العام الذي تفرعت عنه مكاتب إدارية في 19 محافظة هيالقاهرة والإسكندرية والقنال والسويس والشرقية والغربية والفؤادية والمنوفية والبحيرة والقليوبية والجيزة والفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا وأسوان والبحر الأحمر .

وتفرعت عن المكتب الإداري مناطق هي نفسها تقريبا المناطق المقسمة إليها التفريعات الإدارية الرسمية (300 منطقة) في ذلك الوقت وقسمت المناطق إلى شعب حيث تعتبر الشعبة هي الوحدة الأساسية لتنظيم الجماعة وتتباين التقديرات حول العدد الذي بلغته هذه الشعب عقب الحرب العالمية الثانية حيث تتراوح هذه التقديرات بين ألف وألف وخمسمائة وألفين وكانت شؤون المكتب الإداري تدار عن طريق مجلس يتكون من رئيس يعينه مكتب الإرشاد ونائب وسكرتير وأمين صندوق يتم انتخابهم إلى جانب عضو خامس يمثل مكتب الإرشاد ويكون رأيه استشاري فلا يشترك في التصويت على القرارات .

وكما كانت شؤون مكتب المنطقة تدار عن طريق مجلس يتكون من رئيس يعينه مكتب الإرشاد ويكون رئيسا للشعبة الأساسية في هذه المنطقة بالإضافة إلى جميع رؤساء الشعب فيها أما الشعبة وهي الوحدة الأساسية للجماعة فيشرف عليها مجلس إدارة تنتخبه لجمعية العمومية لأعضاء الشعبة المقيدين وكان المركز العام يعين رئيس الشعبة كما كان من حق هذا المركز رفض مجلس الإدارة الذي تنتخبه الشعبة أو رفض حد أعضائه .

وكنت الجمعية العمومية للشعبة تعقد اجتماعات سنوية في شهر محرم ويتوفر النصاب القانوني بحضور نصف الأعضاء وتصدر القرارات بالأغلبية المطلقة ويجب إخطار مكتب الإرشاد العام بموعد الاجتماع قبل اانعقاده بعشرة أيام ويرسل إليه جدول أعمال الاجتماع ويجوز لمكتب الإرشاد إيفاد ممثل عنه لحضور هذا الاجتماع ويجب اعتماد قرارات الجمعية من المرشد العام قبل تنفيذه .

وتتمتع الشعبة بقدر معقول من الاستقلال طالما أنها تلتزم بسياسة الجماعة وقد شبهها ريتشارد ميتشل أحد أبرز الرواد في دراسة تنظيم "الإخوان المسلمين" بأنها " مركز عام مصغر ووصف حد قادة الجماعة المناقشات في اجتماع مجلس إدارة الشعبة من وجهة نظره بأنها " تشبه برلمان يتجلي فيه النظام والديمقراطية بأجمل معانيهما فيدلي كل برأيه متوخيا المصلحة العامة مهتديا بأضواء الفكرة الإسلامية وتتلافح الآراء ويخرجون منها بالرأي الذي ينتهون إليه سواء بالإجماع أو بالأغلبية .

وقد بدأت الجماعة عام 1943 في الأخذ بنظام الأسر بسبب اتساع نطاق العضوية وتقوم فكرة هذا النظام على تجميع الأعضاء النشطين في كل شعبة وتقسيمهم إلى أسر لا تزيد كل منها عن عشرة أفراد وتنتخب كل أسرة نقيب يقوم بتمثيلها أمام قيادة الشعبة؛

وتعتبر لأسرة وحدة متكاملة مسئولة بشكل جماعي عما تكلف به وكان على كل أربع أسر تكوين عشيرة يرأسها نقيب الأسرة الأولي من أسر هذه العشيرة وتشكل كل خمسة عشائر رهطا وكل خمس رهائط كتيبة وقد أحل نظام الأسر الجماعة كلها إلى شبكة متصلة الحلقات ومتماسكة وسري أحد المؤرخين أن هذه الأسر كانت أقوي جهاز سياسي منظم في مصر .

وكان نظام الأسر هذا عائقا أمام بناء الديمقراطية على مستوي الشعب فرغم أن الأسرة كانت تتمتع بقدر من الاستقلال التنظيمي النسبي إلا أن هذا النظم أضعف التفاعل على مستوي الشعبة وأتاح فرصة أكبر للقيادة المركزية للسيطرة عليها؛

ولكي تكتمل صورة التنظيم "الإخواني" في ذلك الوقت لابد من التنويه بالهيئة الفنية والأقسام الرئيسية فكانت الهيئة الفنية تشمل ست لجان تتبع مكتب الإرشاد مباشرة (مالية وسياسية وقانونية وإحصاء وخدمات وفتوي)

أما الأقسام الرئيسية فكان عملها في مجالات نشر الدعوة والعمال والفلاحين والجوالة والأسر والطلبة والتربية البدنية والاتصال بالعالم الإسلامي والمهن والأخوات المسلمات وكان لكل من هذه اللجان والأقسام فرع في كل مكتب إداري وعلى هذا النحو يجوز القول إن جماعة "الإخوان" كانت أكثر ديمقراطية في بنائها الأفقي منه في بنائه الرأسي فقد أخذت الشعب والمناطق والمكاتب الإدارية بأسلوب الانتخاب باستثناء الرئيس الذي تختاره القيادة المركزية؛

ومعني ذلك أن أغلبية مجالس إداراتها كانت منتخبة أما على المستوي الرأسي فكانت القيادة المركزية للجماعة مغلفة فبالرغم من أن مكتب الإرشاد كان ينتخب من الهيئة التأسيسية إلا أن هذه الهيئة لا تختار بالانتخاب من قواعد الجماعة بالرغم من توفر قدر من الممارسة الديمقراطية التي كانت تتيح إمكانية للأخذ بأسلوب الانتخاب؛

فكان هناك تصعيد للقيادات من الشعب إلى المناطق فالمكاتب الإدارية ولكن الحلقة لا تكتمل حيث لا تقوم هذه المكاتب بانتخاب ممثلين لها في الهيئة التأسيسية التي كانت مغلقة على نفسها تختار هي أعضاءها بعد أن قام المرشد العام الأول باختيارها .

وكان هذا حائلا بالطبع دون أن يأتي مكتب الإرشاد معبرا عن إرادة الجماعة بالفعل ومع ذلك فهو الذي يضع سياسة الجماعة وينفذها ويلزم التنظيم بأكمله بها وكان تركيب مكتب الإرشاد يعبر عن مدي هامشية التنظيم الأفقي للجماعة؛

حيث لم يزد ممثلوا الأقاليم خارجالقاهرة على ربع عدد أعضاء المكتب ومعني لذلك أن التنظيم الأفقي الذي كان أكثر ديموقراطية بقي محدود التأثير على ناشط الجماعة وخاضعا للقيادة المركزية التي استأثرت بهم السلطات والاختصاصات التي تركزت بدورها بين يدي المرشد العام الذي يتولي منصبه مدي الحياة دون منافسة .

وبالرغم من أن قانون "الإخوان" لم يمنحه منفردا سلطات بخلاف التي قررها لمكتب الإرشاد إلا أن الفترة التي سبقت إصدار ذلك القانون شهدت عملية متصلة هيمن بمقتضاها حسن البنا على الجماعة من خلال قيامه ببنائها ويمكن الإشارة إلى دليلين يدعمان هذا الاستخلاص أولهما ما حدث في المؤتمر الثالث للجماعة عام 1933 والذي حدد لأول مرة هيئاتها وترك للمرشد العام تحديد مهمة كل هيئة؛

ووضع البنيان الذي يوضح تلك المهام ومعني لذلك أن المؤتمر منح المرشد كل سلطته وأعطاه الهيمنة على أجهزة التنظيم التي اقتصر دور المؤتمر على إعلانها دون تحديد طريقة تشكيلها أو وظائفها وأدوارها وثانيهما أن المرشد العام الأول هو الذي كان يختار الهيئة التأسيسية فعندما تكونت هذه الهيئة لأول مرة عام 1941 اختار حسن البنا أعضاءها المائة في لذلك الوقت وسنعود إلى دور الهيئة التأسيسية في موضع لاحق في هذا الفصل .

وكان المرشد العام هو الذي يتحكم في إضافة أعضاء جدد إليها وفقا لما يفهم من رواية للمرشد العام الثالث عمر التلمساني رواها في معرض حديثه عن فراسة حسن البنا وهي تتلخص في أنه أمهل شابين لا معين بالجماعة طلبا الانضمام إلى هذه الهيئة وألحا في لذلك وقاما بتوسيط الكثيرين لكنهما لم يحظيا بأمنيتهما لأنه أدرك ما فيهما من طموح قد لا يكون خيرا للجماعة؛

ومعني ذلك أن موافقة المرشد كانت رزمة لضم أى عضو إلى الهيئة التأسيسية التي يعتبرها قانون الجماعة أعلي سلطة الأمر الذي أتاح له السيطرة عليها وفي هذا الإطار تبلور نمط قيادي في الجماعة يتسم بالشخصية والفردية وتركيز السلطة في يد واحدة فعمل المرشد الأول من البداية على تعويد أعضاء الجماعة على الامتثال لزعامته من خلال البيعة على السمع والطاعة .

ومع ذلك فقد ذهب بعض قادة الجماعة إلى أن المرشد العام الأول لم يكن ذا سلطة مطلقة فقد روي الأستاذ صالح عشماوي مثلا ن المرشد ألزم نفسه بقرارات مكتب الإرشاد رغم اعتقاده الشخصي بأن الشورى ليست ملزمة له كما قدم الأستاذ عبد الله السمان شهادة تفيد أن المرشد العام الأول لم ينفرد باتخاذ أى قرار ملزم .

وذلك في معرض رده على أحد التقييمات التي اعتبرها مبالغا فيها لمدي سلطاته فقد ذهب ذلك التقييم المبالغ فيه فعلا إلى حد القول بأن "الناكص" عن البيعة للمرشد مهدد بالخروج من ثياب المسلم وهو أمر تنفيه وقائع الانشقاقات التي تعرضت لها الجماعة كما سيتضح لاحقا في هذا الفصل فالثابت أن المرشد العام الأول لم يحكم على أى من المنشقين بالخروج على الإسلام ..

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الهتاف بحياة المرشد العام لم يكن معروف في جماعة الإخوان على عكس الأحزاب السياسية في ذلك الوقت وحتى الآن وتوجد شهادة بأن حسن البنا نهي عن لذلك عندما قام أحد لأعضاء ليهتف بحياته في مؤتمر طلاب "الإخوان" بالقاهرة عام 1938 وبأنه رفض أن يهتف به أو يصفق له؛

ومع ذلك فالملاحظ أنه كان هناك نوع آخر من التمجيد للمرشد يتخذ شكل الشعر حيث كان بعض شعراء الجماعة ينظمون قصائد تنطوي أجزاء منها على تمجيد المرشد ولعل هذا ما كان يعنيه أحد المؤرخين في نقده للمرشد العام الأول عندما تحدث عن "الولاء الصوفي له الذي يصعب بيان حجمه ومغزاه كتابة وهو الوصف الذي رفضه احد كتاب الجماعة وقدم بديلا له مفاده أن زعامة البنا" تقوم مقام المربي الذي يربي الروح والعقل ويصقل الوجدان والنفس ولا يوجد هنا فرق في الجوهر بين الصياغتين .

والواقع أنه بسبب الطبيعة الدينية لفكر هذه الجمعة ينبغي أن نأخذ في الاعتبار وجود جانب روحي في العلاقة بين زعيمها وأعضائها وبالرغم من أن هذا الجانب يخرج عن نطاق التحليل العلمي فمن الصعب تجنب تأثيراته على الممارسة الديمقراطية داخل الجماعة حي يساعد على توفر رضاء عام عن القيادة ويحد من الحاجة إلى التقييم الدوري لها؛

وقد تحدث بعض قادة الجماعة عن هذا الجانب فعلا كما فعل سيد قطب في حديثه عن "البناء لروحي" للجماعة الذي " يجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظام "

كما عبر التلمساني عن هذا المعني بقوله:

"كان كل أخ يحب البنا وكان هو يحبهم جميعا فحبه لهم أكبر من حبهم له جميعا" الأمر الذي جعل كل أخر يشعر بأنه أقرب إلى قلب المرشد من سائر "الإخوان" كما أوضح التلمساني أن لماحية البنا كانت عاملا مساعدا له حيث بدا وكأنه ينتقل إلى دخيلة من يحدثه وكان يتحسس ميول "الإخوان" أين تتجه فيراعيهم في تعامله معهم."
وقد عرفت جماعة الإخوان المسلمين على عكس معظم الأحزاب السياسية في تلك الفترة أسلوب الانتخاب في اختيار قادتها ولكن مع وضع قيود عليه أتاحت للمرشد العام الأول سلطات واسعة فبالرغم من أن مكتب الإرشاد أصبح منتخبا منذ تشكيل الهيئة التأسيسية في أوائل الأربعنيات؛

فقد نص قانون الجماعة على أن يكون ثلاثة أرباع أعضائه منالقاهرة والربع فقط من الأقاليم وكان نظام الحصص هذا يتيح للمرشد إمكانية التأثير على عملية انتخاب مكتب الإرشاد بتدعيم الأشخاص الذين يثق بهم شخصيا من خلال معرفته بهم.

ثانيا:عملية اتخاذ القرار في جماعة الإخوان المسلمين

سعي مؤسس الجماعة ومرشدها الأول حسن البنا إلى اتباع أسلوب التوافق في اتخاذ القرارات المهمة لكي تصدر هذه القرارات بالإجماع وليس بالأغلبية بقدر الإمكان ويفرض هذا الأسلوب بطابعه طريقة معينة تقوم على الاتصال الشخصي بالأعضاء لإقناعهم بالقرار المراد إصداره .

وهذا أسلوب يلجأ إليه في العدة رؤساء التنظيمات والأحزاب الذين يتمتعون بمكانة كبيرة ليس فقط بين الأعضاء ولكن أيضا على المستوي القيادي في هذه التنيظمات.

وكان كاتب السطور شهد على أحد نمذج هذا الأسلوب في حزب الوفد الجديد إذ سعي مؤسسه فؤاد سراج الدين إلى اتخاذ القرارات الأساسية عبر التوافق أو على الأقل بدون معارضة تذكر معتمدا على أسلوب الاتصال الشخص للضغط على بعض أعضاء الهيئة العليا أو إحرج بعض آخر في الوقت الذي كان مجرد قيامه بهذا الاتصال مصدرا لبهجة فريق ثالث من قادة الحزب وحبورهم.

والواضح أنه من الصعب حدوث ذلك في أى تنظيم إلا إذا كانت هناك قوة مهيمنة عليه ذات نفوذ معنوي هائل يتيح لها التأثير على الأعضاء وكان المرشد العام الأول لجماعة "الإخوان" يتحكم في القرارات المتعلقة بعضوية الهيئة التأسيسية فضلا عن رؤساء المكاتب الإداية والمناطق والشعب وينفي أحد قادة الجماعة أن يكون دور المرشد العام في هذا المجال اعتداء على حق الهيئة التأسيسية في اختيار من تريد وما تريد ..

ويفسر ذلك بأن من حقه وهو الذي يباشر كل المسؤوليات بنفسه وبمن حوله من القيادات ن يقدم إلى الهيئة تقريرا عن كل فرد منهم ومدي بلائه في الدعوة أو تقصيره في حقها كما ن من حقه أن يستعين بمن يشاء من الإخوان خارج نطاق هيئات الجماعة.

ولم تكن سيطرة المرشد العام الأول على القرارات المتعلقة بالتجنيد للمستويات العليا للجماعة محصورة في عهد حسن البنا وإنما امتدت إلى عهد الهضيبي الذي استعان بمجموعة من "الإخوان" من خارج مكتب الإرشاد الذي كان قائما عند توليه منصبه وهي مجموعة يصفها أحد أفرادها بأنها كانت موضع ثقته واطمئنانه .

ورغم أن المرشد العام الأول كان يسعي لأن تصد القرارات بالإجماع فلم يكن بمقدوره دائما أن يحقق ذلك وبالتالي كان يضطر لإصدار بعض القرارات ضد موقف الأغلبية ومن أمثلة ذلك التراجع عن خوض انتخابات مجلس النواب عام 1942.

فقد طلب منه رئيس الوفد والحكومة مصطفي النحاس التنازل وهدده بحل الجماعة وأغراه برفع القيود التي فرضتها حكومة حسين سري السابقة عليها وإعادة فتح مقرات الشعب التي أغلقت .

فرأي البنا أن المكاسب الأكيدة التي يمكن أن يحققها من التراجع عن ترشي نفسه و16 من أعضاء الجماعة في انتخابات مجلس النوب تفوق ى مكسب محتمل يمك أن يترتب على الإصرار على خوض هذه الانتخابات .

ولكنه لم يستطع إقناع مكتب الإرشاد الذي رفض التنازل ومع ذلك اتخذ هو القرار وقام بتنفيذه تحت شعار الحرص على استمرار الجماعة ويصف أحد قادة الجماعة ذلك القراربأنه كان أحد المواقف القليلة التي جاء فيها قرار المرشد العام صدمة لمشاعر "الإخوان" لأنهم شعروا بأنه أضاع فرصة لو تمسكوا بها لأفادت الدعوة أعظم فائدة .

ومع ذلك يظل بالإمكان القول إن المرشد العام الأول كان قادرا في معظم الأحوال على إقناع قيادة "الإخوان" باالقرار الذي يريده ومن أمثلة ذلك قرار تعديل النظام الأساسي للجماعة فقد عقد حسن البنا اجتماعا للهيئة التأسيسية في 8 سبتمبر 1945 وتمكن من احتواء التحفظات التي كانت قائمة لدي بعض أعضائها تجاه هذا التعديل .

وهناك أيضا قرار تأييد وزارة إسماعيل صدقي عام 1946 والذي صدر عن الهيئة التأسيسية بعد ان تبناه البنا عقب اتصال صدقي به والملاحظ ان البنا كان حريصا على توفير الإجماع لهذا القرار بصفة خاصة إلى حد أنه جمع الهيئة التأسيسية مرتين إحداهما عقب اتصال صدقي به والأخري بعد لقائهما الذي عرض البنا خلاله مطلب " الإخوان " التي تم الاتفاق عليها في الاجتماع الأول للهيئة وقبل صدقي بعضها وقررت الهيئة في النهاية أن يكون " الإخوان " وراء هذه الوزارة ما سارت في الطريق الذي حدوده لها .

ولكن المثبت تاريخيا أن المرشد الثاني للجماعة حسن الهضيبي لم يتمتع بهذه القدرة خاصة بعد أن ازدادت الانقسامات في صفوف الجماعة عشية ثورة 1952 وبعدها

فمع واخر عام 1951 ظهرت مؤشرات على أنه لم يعد قادرا على التأثير ليس على بعض قادة الجماعة القدامي فقط بل أيضا على مجموعات من الشباب واتضح ذلك عندما اكتف بتوجيه نقد غير مباشر لاجتماع عقدته مجموعة من شباب "الإخوان" إثر إلغاء معاهدة 1936؛

وصدرت عنه قرارات تجرم العودة للمفاوضات وتحرم التعاون مع الإنجليز وتدين القوانين المقيدة للحريات فقد صرح الهضيبي بأن أعمال العنف لا تؤدي لإخراج الإنجليز من البلاد وبأن الكفاح العملي قد يأخذ صورا مختلفة غير مقاطعتهم مؤكدا أنه لا قيمة لقرارات تصدر من غير المركز العام لجماعة الإخوان

وظهرت محدودية تأثير الهضيبي على عملية اتخاذ القرار بوضوح أكثر عقب ثورة 1952 وخاصة عندما طرحت فكرة مشاركة "الإخوان" في الحكم فثمة ما يرجح أن قرار الجماعة بعد المشاركة في وزارة محمد نجيب في 7 سبتمبر 1952 كان خالفا لرغبته إذ كان قد وافق على مشاركة الجماعة فيها ورشح بالفعل ثلاثة من "الإخوان" هم أحمد حسن الباقوري وحسن العشماوي ومنير الدلة ولكن مكتب الإرشاد رفض ذلك وخاصة بعد أن اعترض مجلس قيادة الثورة على اثنين هما العشماوي ودلة .

كما ظهر ذلك عندما عجز عن إقناع الأغلبية في الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد بأن تعلن الجماعة عن نفسها دينية عقب صدور قانون تنظيم لأحزاب في سبتمبر 1952 حيث أصرت هذه الأغلبية على التمسك بإعلان الجماعة هيئة سياسية على أساس أن هذا اقرب إلى فكر "الإخوان" وفهمهم للإسلام وهو أنه لا يفرق بين الدولة والدين وكان رد فعل الهضيبي هو أن لزم منزله وهدد بالإستقالة ما لم تعدل الهيئة التأسيسية عن قرارها .

ثالثا:المؤتمرات العامة لجماعة الإخوان

بدأت التجربة التنظيمية لجماعة "الإخوان المسلمين" بدور فردي للمرشد العام الأول حسن البنا الذي شكل حوله نخبة أخذت في تأسيس الجماعة حتى انعقد مؤتمرها العام الأول في مايو 1932 وتلته خمسة مؤتمرات في ديسمبر 1932 ومارس 1935 ومارس 1936 ويناير 1939 ويناير 1941.

وكانت المشاركة في هذه المؤتمرات محصورة في الأعضاء العاملين والمجاهدين الذين يمثلون أعلي مراتب العضوية في الجماعة حيث كانت هناك حينئذ مرتبتان أخريان أدني مستوي هما الأخ المساعد والأخ المنتسب فعندما ينضم عضو جديد إلى الجماعة يبدأ كأخ مساعد وإذا ثبت حسن أدائه للواجبات وتمكنه من مبادئ الجماعة والمواظبة على حضور الإجتماعات والالتزام يصير أخا منتسبا؛

قبل أن يرتقي إلى أخ عامل عندما يثبت قدرته على دراسة العقيدة والعلوم القرآنية والمشاركة في الأنشطة والانخراط التام في الحركة وتدريبها البدني وهناك مرتبة رابعة هي المجاهد كانت مقصورة على حفنة قليلة من الذين يعكفون على كريس نفسهم للجماعة لكن لائحة عام 1945 اختصرت هذه المستويات الأربعة إلى مستويين فحسب هما عضو تحت الاختبار وعضو عامل ..

ومعني ذلك أن أسلوب اختيار أعضاء المؤتمر العام كان أسلوبا نخبويا وليس ديموقراطيا حيث لم يقم على حق قواعد الجماعة في انتخاب مندوبين لها الى هذا المؤتمر ومع ذلك كان أداء هذه المؤتمرات يتسم بطبع ديمقراطي بدرجة ما من حيث حرية المناقشة فحسب حيث لم يكن من صلاحياته انتخاب المستويات القيادية للجماعة ..

ولذلك كنت مناقشاته تغلب عليها القضايا العامة أكثر من الأمور التنظيمية فمثلا ركزت مناقشات المؤتمر العام الأول على بحث الناشط الذي تمارسه البعثات التبشيية المسيحية وكيفية مواجهته وركزت مناقشات المؤتمر العام الثاني على مسائل التثقيف والدعوة غير أنه منذ المؤتمر العام الثالث بدأت مناقشة القضايا التنظيمية؛

حيث نوقشت ضوابط العضوية كما تم وضع حجر الأساس لبناء تنظيم الجوالة وتضمنت قرارات ذلك المؤتمر إلزام العامل بالتخلي عن أية صلة بأية هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة الدعوة أو إذا تلقي توجيه بذلك كما شهد ذلك المؤتمر حوارا حول منهج الجماعة في العمل حيث اكد بعض الأعضاء رفضهم للمنهج المتأني والحذر الذي تتبعه وطالبوا بالعمل المباد لكن البنا رفض ذلك المطلب مؤكدا أن الطريق طويل وشاق .

ولم يكن المؤتمر العام الرابع ذا أهمية حيث خصص للإحتفال بتويج الملك فاروق بينما عاد المؤتمر العام الخامس لمناقشة القضايا التنظيمية حيث اهتم ببحث اللائحة الداخلية للجماعة .

ويري أحد قادة الجماعة أن المؤتمر العام الخامس كان أول مؤتمر انطبقت عليه خصائص المؤتمرات العامة بالمعني الدقيق من حيث تمثيل المشاركين فيه لمختلف الأقاليم بعد أن أصبحت للجماعة فروع في معظم أنحاء مصر ..

وكان المؤتمر العام السادس هو آخر هذه السلسلة من المؤتمرات وتركزت مناقشاته حول الاوضاع الاقتصادية ودور الشركات الأجنبية في السيطرة على الاقتصاد المصري .

وباستكمال تشكيل الهيئة التأسيسية للجماعة حلت محل المؤتمر العام و "أغنت عن عقد المؤتمرات العامة" وفقا لتعبير أحد قادة الجماعة الذي يفسر ذلك التحول بأن تلك المؤتمرات كانت تكلف الكثير من الجهد والمال سواء بالنسبة للمركز العام أو للأعضاء الذين يحضرون من اقاليهم؛

كما كانت طبيعتها لا تتيح فرصة كافية لمناقشة ما يعرض من تقارير عن الماضي أو مقترحات للمستقبل ولكنه أضاف سببا آخر هو أن هذه المؤتمرات لم تعد صالحة بعد أن كثرت الشعب وازداد عدد "الإخوان" في كل مكان بحيث تضيق بمندوبيهم الأمكنة مهما اتسع نطاقها .

والمرجح أن هذا هو السبب الأهم إذا مددناه على استقامته فتزايد عدد "الإخوان" يعني أن المؤتمر العام لم يعد يستوعب جميع "الإخوان" العاملين والمجاهدين وبالتالي كان من الضروري لاختيار من بينهم الأمر الذي كان يفرض اللجوء إلى الانتخاب؛

وهو ما لم تكن قيادة الجماعة تحبذه إلا في إطار معين ومحدد كما سبق توضيحه ولذلك كانت فكرة الهيئة التأسيسية حلا مناسبا يحافظ على الشكل الديمقراطي بدرجة ما وعلى استمرار قبضة المرشد على الجماعة في الوقت نفسه .

ونصت لائحة الجماعة حينئذ على أن الهيئة التأسيسية هي الهيئة العليا للدعوة التي يناط بها رسم الخطوط الرئيسية لسياسة الجماعة وتجتمع مرة كل عام ولكن للمرشد العام أو مكتب الإرشاد دعوتها في أى وقت لعرض مسائل جوهرية عليها؛

كما يمكن لما لا يقل عن 30 من أعضائها دعوتها للإجتماع وتكونت لأول مرة عام 1941 من مائة عضو اختارهم المرشد على أساس ثلاثة معايير أن يكونوا من السباقين في الدعوة ومن ذوي الكفاءات أو التضحيات البارزة وأن يكونوا ممثلين لمحافظات القطر ما أمكن وهي التي تنتخب مكتب الإرشاد ولجنة العضوية من بين أعضائها ..

ولم يزد أعضائها حتى أوائل الخمسينات عن 150 عضوا حيث كان يتم إسقاط العضوية عن عشرة أعضاء واختيار من يحل محلهم كل عام وكان جدول أعماله يتضمن البنود التقليدية لأى مؤتمر عام حزبي مثل مناقشة تقري المرشد العام عن النشاط وتقرير المراجع عن حسابات العام المنصرم وميزانية العام التالي واختيار اعضاء جدد محل الأعضاء العشرة الذن تسقط عضويتهم .

ولا توفر بيانات حول مدي ديموقراطية المناقشات دخل هذه الهيئة حتى يمكن مقارنتها بالمؤتمرات العامة السابقة عليها لكن الواضح أن أسلوب تشكيلها لم يكن أكثر ديموقراطية من تلك المؤتمرات فالمعايير الثلاثة التي تشكلت بناء عليها في البداية حددت الإطار الذي تعمل فيه وبالرغم من الاعتماد على أسلوب الانتخاب في تجديد عشرة أعضاء كل عام إلا أنه لم يكن انتخابا حرا ولا انتخابا من أسفل إلى أعلي وإنما انتخاب داخلي في الهيئة نفسها على أساس ترشيحات يقدمها المرشد العام ..

ومنذ تشكيل هذه الهيئة لم تعقد مؤتمرات عامة للجماعة وإنما عقد مؤتمر ذو طبيعة خاصة في سبتمبر 1945 إثر صدور القانون 49 لعام 1945 بشأن تنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية حيث دعي رؤساء المناطق والشعب في جميع أنحاء مصر للإجتماع لإقرار بعض التعديلات على قانون الجماعة وحضره 3500 عضوا .

وهكذا يمكن القول بأن جماعة الإخوان عرفت صيغة المؤتمر العام بالمعني الحدي نسبيا ولكن بتشكيلين مختلفين كان كلاهما أفضل حالا من الأحزاب السياسية في ذلك الوقت بخلاف الحزب الوطني إذ لم يتوفر فيهما ذلك القدر من الممارسة الديمقراطية الذي عفه المؤتمر العام لهذا الوطني في سنواته الأولي .

رابعا:إدارة الخلافات داخل جماعة الإخوان المسلمين

اتسمت عملية إدارة الخلافات دخل الجماعة في تلك المرحلة بدور مسيطر لزعيمها (المرشد العام) حسن البنا ولكن هذه السيطرة لم تكن أمرا فريدا في الأحزاب والتنظيمات السياسية في مصر في ذلك الوقت؛

وحتى الآن فلم يكن حسن البنا أكر هيمنة على الجماعة من سعد زغلول ومصطفي النحاس في حزب الوفد مثلا ولكن الدور المهيمن للمرشد العام لم يتسم بالاستمرارية التي عرفها الوفد حيث ترك رحيل البنا فراغا واضحا على هذا الصعيد لم تكن الجماعة بتكيبها مستعدة له مما أدي إلى تعرضها لانقسام حاد في أوائل الخمسينات .

إدارة الخلافات في عهد حسن البنا:

الشائع في الكتابات التاريخية عن جماعة الإخوان أن المرشد العام الأول أحكم سيطرته عليها وعمد إلى إقصاء معارضيه كلما تجمع في مواجهته اتجاه معارض وهناك بالفعل ما يدعم هذا الحكم لكن دون أن يعني ذلك مصادرته لكل رأي مخالف؛
فهناك أيضا ما يدعم ما ذهب إليه أحد قادة الجماعة من قبول البنا لجواز تعدد الصواب في بعض المسائل بأن يكون فريقا الخلاف كل على رأي فمن الجائز القول أن البنا كان يقبل التعدد في بعض الأمور الصغيرة بينما كان حاسما إزاء الخلافات التي تمس قضايا جوهرية وخاصة التي تتعلق بزعامته ولذلك تعرضت الجماعة في عهده لثلاثة انشقاقات رئيسية .

(أ) الانشقاق الأول:

كان هذا الانشقاق نتيجة لأول خلاف كبير داخل الجماعة عندما نقل البنا من الإسماعيلية إلىالقاهرة عام 1932 وظهرت الحاجة لاختيار من يحل محله .
فكان الخلاف حول أسلوب هذا الاختيار والذي وصفه البنا بأنه (مظهر جديد وغريب على أوضاع " الإخوان " التي لم تعرف إلا الوحدة الكاملة) والمشكلة في تحليل هذا الانشقاق أنه لا يوجد مصدر يمكن الحصول منه على رواية المنشقين لوقائع الخلاف التي اجتهد بعض خصوم الجماعة ممن تناولوا تلك الفترة في روايتها وفقا لتقديرهم ومن ثم فالرواية الوحيدة المتاحة من جانب أطراف الخلاف هي رواية البنا التي يبدو منها أنه كان مدعوما بأغلبية تؤيد مرشحه الذي فاز في اقتراعين متتالين شكك المعارضون في أولهما لتغيب البعض عنه؛
فتم الإعلان عن الاجتماع الثاني على أوسع نطاق ولما فاز مرشحه لجأوا إلى أسلوب رأي فيه تجاوزا لكل القواعد التنظيمية إذ قدموا بلاغا ضده إلى النيابة والملاحظ في روايه أنها لا توضح الطابع التنظيمي للإجتماعيين اللذين تحدث عنهما حيث لم يكن البناء التنظيمي للجماعة قد تبلور في ذلك الوقت المبكر؛
فهل كان اجتماعا لجميع أعضاء الجماعة بالإسماعيلية أم لممثلين لهم كما لا يتضح من هذه الرواية كيفية إجراء الاقتراع والوسائل التي لجأ إليها البنا للحصول على الأغلبية لمرشحه وللتعامل مع معارضيه وما إذا كان قد استخدم القوة في مواجهتهم حيث يذهب أحد المؤرخين الذين تناولوا ذلك الخلاف إلى أن أنصار البنا اعتدوا على معارضيه بالضرب .

(ب) الانشقاق الثاني 38 -1940

حدث هذا الانشقاق نتيجة للخلاف حول أساليب عمل الجماعة فقد انتقد عدد من قادتها على راسهم أحمد رفعت الأساليب المعمول بها في ذلك الوقت مركزين على مجاملة الحكومة والتعامل معها بأساليب ملتوية بدلا من مواجهتها بالحقيقة وعدم اتخاذ إجراء في شأن إلزام المرأة بحدود الإسلام والوقوف عند حد الدعاية في مساعدة مجاهدي فلسطين
إضافة إلى طريقة استخدم التبرعات التي تجمعها الجماعة بغرض دعمهم والتي كان بعضها يذهب لدعم شعب الجماعة كما شملت الانتقادات العلاقة الودية التي ربطت بين البنا وعلى ماهر واتهام أحمد السكري نائب المرشد العام بأنه مهندس هذه العلاقة وطالب الناقدون (بالالتزام الصارم بالقيم الإسلامية) بغض النظر عن الاعتبارات السياسية المعقدة والخلاص الروحي لمصر بالقوة إذا لزم الأمر ..
وعلى هذا النحو لا تستقيم رواية أحد المؤرخين بأن الخلاف كان على اتجاه الجماعة للعمل السياسي أو قصر نشاطها على شئون الدين والبر وهي الرواية التي اعتمد عليها صانعوا مسلسل "الجماعة" الذي أنتج عام 2010 وعرض في عدد كبير من القنوات التلفزيونية في العام نفسه؛
وأثار جدلا واسعا فلم يقدرو مغزي ذلك الخلاف وأهميته التاريخية وتداعياته على مسار الجماعة فقد كان الاتجاهان متعارضين حول أساليب العمل السياسي نفسه كما كان الخلاف مركبا ينطوي على أكثر من جانب بحي لا يمكن قصره على علاقة البنا مع على ماهر كما ذهب مؤرخ آخر .
وثمة ما يدل على أن المعارضين لأساليب البنا في العمل كانوا في مركز قوة حيث أقر أحد أنصاره بأن (دعوة أحمد رفعت كانت تلقي من كثير من " الإخوان " آذانا صاغية واستجابة سريعة) وأدي ذلك وفقا لرواية نفسها إلى تعطيل الاجتماعات والدروس وتطور الهجوم على المرشد العام .
ومعني ذلك أن البنا لم يوجه ذلك التيار من خلال الحوار بدليل تعطيل الاجتماعات والدروس وإنما لجأ إلى أسلوب ذي طابع تآمري بصفة أحد أنصاره تفصيلا ويتلخص في انقطاع البنا عن المركز العام وحصر أنصاره الذين احتفظوا بإيمانهم ودعوتهم وقيادتهم وفقا للرواية والاتفاق معهم على خطة لتكثيف ذهابهم إلى ذلك المركز وتنفيذ مقاطعة تامة لمجموعة المعارضة مما أدي إلى عزلهم واضطرار الكثيرين من أنصارهم إلى التراجع بحيث لم يبق مع أحمد رفعت غير نفر قليل ..
لكن هذه الرواية تختلف في بعض تفاصيلها مع رواية قيادي آخر من أنصار البنا أيضا وخاصة فيما يتعلق بنهاية ذلك الخلاف وكيفية حدوث الانشقاق فتشير هذه الرواية إلى سفر أحمد رفعت في نهاية الأمر إلى فلسطين للإنضمام إلى المجاهدين ولا تذكر أنه تم التفهم في النهاية على انسحاب المعارضين من الجماعة مقابل التنازل لهم عن "مجلة النذير " التي كان صاحب امتيازها محمود أبو زيد المحامي منضما إليهم وإعطائهم ما بقي من مال في صندوق الجماعة وخرجوا بالفعل لتأسيس "جماعة شباب سيدنا محمد"
والواضح أن البنا أدار ذلك الخلاف بأسلوب بعيدا عن الديمقراطية فقد عزف عن الحوار مع معارضيه وبني خطته على دفعهم للإنشقاق الذي يعد خسارة لأى حزب أو جماعة سياسية سعيا للمحافظة على زعامته دون خدس ونتيجة لذلك ظلت للخلافات تداعيات على مدي أكث من ثلاث سنوات حدثت خلالها عدة انشقاقات للإنضمام إلى الجماعة الجديدة ..
والملاحظ أن قضية الشوري كانت في مقدمة القضايا التي أثارتها هذه المجموعة في خلافها مع المرشد العام كما ورد في الوثيقة التي نشرتها في 1948 1940 فقد أشارت الوثيقة إلى أن المرشد لا يؤمن بالشوري في الدعوي التي يري أن ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلى الجميع أن يطيع؛
وأوضحت أنهم خالفوه في الرأي وحاولوا التفاهم معه كثيرا (فأبي إلا أن يكون رأيه الفصل ولو كان في ذلك إقصاء للمخلصين من الإخوان المسلمين) وتضمن رد البنا على هذه النقطة إنه لم يقل هذا بل نكر أن يتحكم فرد تأثر بدعايته 17 فردا من افراد أسرة في بقية ألف من الأفراد قال لهم (لقد أبيتم إلا أن أنزل على آراء بعضكم ولو خالف ذلك آراء الجميع من الإخوان)

(ت) الانشقاق الثالث 46 -1947:

اتسم هذا الانشقاق بالتعقيد الشديد في ملابساته وقد ارتبطت مقدماته بما اعتبره البعض حماية من المرشد العام لصهره السكرتير العام عندما اتهم في أخلاقه وتداخل ذلك مع التنافس على المناصب الرئيسية في الجماعة .
وتعود بداية اتهام السكرتير عبد الحكيم عابدين إلى أواخر عام 1945 عندما نقل أربعة من أعضاء مكتب الإرشاد إلى المرشد العام (أمين إسماعيل و د. محمد سليمان وسالم غيث ومحمد شريف) أنه يستغل مركزه لانتهاك حرمة بيوت وأعراض بعض "الإخوان"
وتم تكليف الوكيل العام د. إبراهيم حسن بإجراء تحقيق سري غير رسمي لكن النبأ انتشر مما اضطر البنا إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق كان أعضاؤها كلهم باستثناء واحد فقط من مكتب الإرشاد مثل أحمد السكري ود. إبراهيم حسن وحسين عبد الرازق وصالح عشماوي وأمين إسماعيل .
وقدمت هذه اللجنة تقريرا إلى مكتب الإرشاد فقرر الأغلبية فصل عابدين وعرض الأمر على الهيئة التأسيسية وفقا لقنون الجماعة ولكن المرشد العام تمكن من التأثير عليها فقررت تشكيل لجنة تحقيق جديدة قدمت تقريرا يبرئ عابدين ثم صوتت الهيئة إيجابيا على هذا التقرير وكان أعضاء اللجنة الثانية كلهم من خارج مكتب الإرشاد باستثناء الوكيل العام د. إبراهيم حسن ولكنها ضمت أعضاء مرموقين في الجماعة مثل محمد فرغلي وطاهر الخشاب .
وفي مقابل ذلك وعد البنا بإبعاد عابدين عن الأنشطة الرئيسية لفترة ثم يطلب إليه الاستقالة غير أنه قدم عابدين استقالته كان المرشد قد أثر على مكتب الإرشاد في اتجاه رفضها مما أدي إلى استقالة الوكيل العام د. إبراهيم حسن في أبريل 1947 والواضح أن المرشد العام أدار هذا الخلاف بأسلوب التدخل وتوجيه الأحداث بدلا من ترك الأمر للإجراءات القانونية والمرجح أن البنا ربط بين إدانة عابدين المقرب منه وبين اهتزاز صورته ومن ثم التأثير على زعامته للجماعة ..
ولكن ثمة ما يتيح إمكانية للربط بين هذه الأزمة والخلاف الذي انفجر بين البنا و نائبه أحمد السكري في الوقت نفسه فقد سعي السكري الذي كان يتطلع لتدعيم نفوذه في الخلاف بين البنا والسكري ظل محصورا في نطاق ضيق حتى انفجر فجأة خلال أزمة عابدين حيث قام البنا بإحالة السكري إلى الهيئة التأسيسية لمساءلته في موضوعات تتصل بعلاقته بالوفد وتختلف المصادر حول ما دار في اجتماع الهيئة وطبيعة قرارها وهل كان فصلا للسكري أم مصالحة أعقبتها استقالته وانضمامه للوفد؛
ولكن ما حدث في النهاية هو أن الجماعة فقدت أحد أبرز قادتها النابهين الذين كان وجودهم ضروريا للمحافظة على توازنها الذي كان خروجه عنها أحد العوامل التي أدت إلى اختلالها في الفترة التالية كما أن الحملة التي شنها السكري على البنا نالت من هيبته في داخل الجماعة وخارجها؛
ولكن السؤال الذي لم يجد إجابة بعد في شأن العلاقة بين أزمتي عابدين والسكري هو ما إذا كان للثاني دور مستتر في إثارة الاتهامات التي تعرض لها الأول الذي كان يعتبر منافسه الوحيد وتزداد أهمية السؤال إذا نظرنا إلى موقف الذين أصروا على فصل عابدين من الجماعة على خلفية الاتهامات التي تعرض لها إذ اتجهوا إلى التحالف مع السكري بشكل مكشوف عندما فشلت محاولات إبعاد عابدين ثم خرجوا معه من الجماعة وعلى رأسهم حسين عبد الرازق وكمال عبد النبي .
وعموما فالمغزي المهم لهذا الانشقاق رغم غياب المعرفة ببعض جوانبه التي ما زالت مخيفة أنه نتج عن هيمنة المرشد العام من ناحية وعدم الأخذ بأسلوب الانتخاب في ملء المناصب الرئيسية بالجماعة مما أدي إلى مسارات غير صحية للتنافس على هذه المناصب والاعتماد على أساليب كيدية وتآمرية من ناحية ثانية وكان لهذا الانشقاق بصفة خاصة آثار وخيمة على الجماعة لأنه أسفر عن خروج اثنن من ابرز قادتها هما إبراهيم حسن وأحمد السكري؛
مما اثر على جهازها التنظيمي في اتجاه تعزيز دور الجهاز السري الذي برز بعد ذلك ليساهم في أخطر انقسام واجهته الجماعة إثر ثورة 1952 فقد اختار البنا رئيس هذا الجهاز صالح عشماوي نائبا له وانتقلت قيادة الجهاز إلى عبد الرحمن السندي الذي أخذ جموده الجماعة إلى صدان عنيف أدي إلى حلها في 8 ديسمبر 1948 .

(2) إدارة الخلافات بعد حسن البنا:

كان رحيل المرشد العام الأول حسن البنا في 1948 1949 مصدرا لخلاف كبير داخل الجماعة حول خلافته .
وبالرغم من أن غيابه أزال أهم قيد على الإدارة الديمقراطية للخلافات لم تكن هناك قواعد معروفة ومقبولة لهذا النوع من الإدارة في الوقت الذي تعاظم دور الجهاز السري والنظام الخاص ومن هنا أصبح الانقسام سمة العلاقة بين قادة الجماعة ليصل إلي ذروته عقب ثورة 1952.

(أ) الخلاف حول خلافة المرشد العام الأول

أدي رحيل البنا إلى ظهور الخلافات التي كانت كامنة وحال وجوده دون تفجرها فظهرت وقد امتزج فيها ما هو سياسي بما هو شخصي .
ويمكن القول بأنه كان هناك أكثر من مستوي للخلافات في ذلك الوقت أولها الخلاف بين مكتب الإرشاد إجمالا والجهاز السري وثانيهما الخلاف بين الجهاز السري وأقارب البنا وعلى راسهم أخوه عبد الرحمن وثالثها التنافس بين لأعضاء البارزين في مكتب الإرشاد نفسه وقد تعارضت الروايات في هذا الموضوع حينا وتعاطفت حينا آخر .
وقد انسحب الأقارب من المعركة سريعا لعدم وجود أساس يستندون إليه في دعواهم بالرغم من أن هناك من يري أن عواطف بعض "الإخوان" تعلقت بشقيق المرشد العام (عبد الرحمن البنا) الذي كان يشبهه في طريقه الحديث والحركه؛
ولكن قيادة الجهاز السري ظلت على اقتناعها بحقها في ترشيح المرشد العام الجديد بحجة أن هذا الجهاز هو الذي يتحمل أصعب المواقف وكان مرشحها المفضل صالح عشماوي غير أنه أمكن إقناع قيادة الجهاز بالتنازل عن موقفها وترك الأمر للإتصالات بين أعضاء مكتب الإرشاد والجمعية التأسيسية .
وأظهرت تلك الاتصالات أن أحدا من قادة الجماعة البارزين لا يمكن أن يحظي بتوافق عليه . ولذلك كان التوافق على حسن الهضيبي مخرج من ذلك المأزق أو حلا مؤقتا يقبله بعض الطامحين وذلك على نحو يشبهه أحد المؤرخين بما كان يحدث بين أفراد المماليك عندما يلتقون على تعيين السلاطين الضعفاء أو الصبية من أبناء السلاطين السابقين في التاريخ الوسيط؛
وتم التفاهم في النهاية على اختيار حسن الهضيبي القادم من خارج البناء التنظيمي للجماعة وكان الهضيبي قريبا من حسن البنا في سنواته العشر الأخيرة ولكنه لم ينضم إلى الجماعة بسبب طبيعة عمله قاضي في محكمة النقض وقد عارض الهضيبي في البداية لتخوفه من الخلافات القائمة وقال إنه لا يستطيع تسلم قيادة دعوة أقرب معاونيه فيها متفرقوا القلوب والأهواء .
وقد استمرت الخلافات بالفعل بعد توليه منصب المرشد العام الذي ظل شاغرا منذ مقتل البنا في 12 1948 1949 حتى 19 أكتوبر 1950 فقد استعان الهضيبي بمجموعة من "الإخوان" مقربة إليه في الوقت الذي أبقي على مكتب الإرشاد القائم مما أوجد هيكلا قياديا غير رسمي أطلق عليه البعض مجموعة الروضة لأن أكثرهم كان يقطن في حي الروضة معه وأصر على تعيين عبد القادر عودة وكيلا للتخلص من صالح عشماوي والباقوري أبرز المتنافسين على القيادة؛
وهكذا فبالرغم من ضعفه النجم عن قدومه من خارج الهيكل التنظيمي للجماعة فقد اتجه لإدارة الخلافات بأسلوب غير ديموقراطي رغم أن ظروف الجماعة في تلك اللحظة كانت تتيح له فرصة مناسبة للإدارة الديمقراطية لهذه الخلافات ..
وأدي هذا الأسلوب إلى دخوله طرفا جديدا في الخلافات حيث برزت دعوة إلى مقرطة الجماعة وتعديل نظامها وخاصة بعد أن قام بحل بعض الشعب التي انتقدته ورفض الاعتراف "بمجلة الدعوة" التي يشرف عليها صالح عشماوي كصوت رسمي معبر عن الجماعة؛
وقد نجحت الدعوة إلى المقرطة في إحداث تغيير جزئي ندما تم تحديد فترة عضوية مكتب الإرشاد بثلاث سنوات ولكنها لم تنجح في الواقع إلا لأن المرشد الجديد رآها في مصلحته لأنه تتيح له إعادة صياغة تركيب هذا المكتب بشكل طبيعي دون الدخول في صدام مع قادة الجماعة وكان هذا التغيير أقل من أن يوفر الإطار الديموقراطي الذي يساعد على حل الخلافات بين قادة الجماعة سلما ويعصمها من الانقسام .

(ب) انقسام الجماعة:

قامت ثورة 1952 بينما الخلافات بين قادة الجماعة على أشدها وكان من الطبيعي ن توجد الثورة أوضاعا تدفع إلى تفاعلات صراعية جديدة ومن ثم تعميق الانقسام داخل الجماعة ..
فكن أول خلاف جديد حول الموقف من الزعيم جمال عبد الناصر حيث برزت ثلاثة اتجاهات واضحة الأول يري عدم تعليق آمال عليه ويمثله الهضيبي والثاني يراهن عليه ويري أنه سيطبق الشريعة في النهاية ويمثله بعض قادة المستوي التنظيمي الوسيط أساسا والثالث يطلب فرصة للتحقق من موقفه ويمثله عبد القادر عودة وكيل الجماعة ..
واحدي دلالات هذا الخلاف أن الانقسام بدأ يطول معسكر الهضيبي نفسه حيث اختلف مع الوكيل الجديد الذي أتي به ولأن الأسلوب الديمقراطي في التعامل مع الخلافات لم يكن واردا فقد لجأ الهضيبي للإستعانة بخميس حميدة وتعيينه في منصب نائب المرشد وارتبط ذلك بالخلاف على مشاركة "الإخوان" في حكومة الثورة .
والذي أثير بمناسبة دخول عضو مكتب الإرشاد أحمد حسن الباقوري وزرة محمد نجيب التي شكلت في 7 سبتمبر 1952 فقد قرر مكتب الإرشاد رفض المشاركة في الحكومة مما أدي إلى استقالة الباقوري من الجماعة كلها وليس فقط من المكتب وكان الهضيبي هو الذي أصر على أن يغادر الجماعة كلها ولم يكتف باستقالته من مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية .
كما برز خلاف بين قادة الجماعة عقب صدور قرار تنظيم الأحزاب السياسية في سبتمبر 1952 حول ما إذا كانت الجماعة حزبا سياسيا أم جمعية دينية فقد قررت الهيئة التأسيسية تسجيلها كحزب سياسي على خلاف رأي الهضيبي الذي اعلن استقالته قبل أن يتم إقناعه بسحبها من منطلق أن صراعا حادا سينفجر على خلافته وقد يؤدي بالجماعة ..
لكن الخلاف الأخطر الذي برز في تلك الفترة كان حول دور الجهاز السري والذي وصل إلى حد مطالبة الهضيبي بالغائه بعد أن رفض قائده عبد الرحمن السندي الأمر الصادر له بتقديم كشف بأسماء أعضائه ومهماته .
ورفض السندي حل الجهاز فاتجه الهضيبي للتلويح بلاستقالة يضا قبل أن يتم الاتفاق على إحالة الخلاف إلى لجنة خاصة من كبار الأعضاء قامت بتعيين قائدين آخرين للجهاز بين نوفمبر 1952 ونوفمبر 1953 .
ولكن أحد ا منهما لم يستطع التخلص من نفوذ السندي على أعضاء الجهاز ولم يتمكن الهضيبي من إبعد السندي عن قيادة الجهاز إلا بعد أن تأكدت علاقته مع عبد الناصر مما كان يخالف سياسة الجماعة الرامية إلى توجيه الثورة وليس الخضوع لها فاتجه قدامي "الإخوان" للتحالف مع المرشد السنوي لهذا السبب .
ولكن السندي لقي بثقله إلى جانب خصوم الهضيبي في خلافات خري وشن حملة عليه وإزاء ذلك كان على الهضيبي السعي لكسب تأييد المواليين للسندي ومحولة تدعيم مركزه من خلال إجراء انتخابات مكتب الإرشاد في 8 أكتوبر 1952 التي حقق فيها فوزا كبيرا إذ أصبح لديه أغلبية وتم تثبيت خميس حميدة نائبا له وتعيين عمر التلمساني سكرتيرا مساعدا .
وتعرض الهضيبي وأنصاره لاتهام بالتدخل السافر في هذه الانتخابات التي وصفت من جانب خصومه بأنها زائفة وبعيدة عن التمثيل الحقيقي للقوي داخل الجماعة وأصبح النزاع بين الهضيبي والسندي هو المصدر الرئيسي للإنقسام الذي قاد إلى أخطر صدام عرفته الجماعة عندما قام أنصار السندي باغتيال الرجل الثاني في الجهاز سيد فايز ردا على تعاونه مع الهضيبي .
وعندئذ قام مكتب الإرشاد بفصل السندي وثلاثة آخرين مما أدي إلى تصاعد الصراع إلى حد احتلال معارضي الهضيبي للمركز العام ولجوء كل من الطرفين إلى عبد الناصر للمساعدة على رأب الصدع فقام بترتيب هدنة بينهما وظل النظاع محتدما بالرغم من رجحان كفة الهضيبي لبعض الوقت .
وواصل المرشد العام الثاني أسلوبه غير الديمقراطي في إدارة الخلافات عبر القيام بتصفيت شملت صالح عشماوي الذي أكد أنه فصل دون محاكمة داخلية فيما أكد المسؤول عن لجنة تحقيق العضوية والمناصر للهضيبي أن اللجنة حققت وقررت فصله هو ومحمد الغزالي وأحمد جلال
وقام الهضيبي بإعادة تكوين الجهاز السري بقيادة جديدة موالية له على رأسها يوسف طلعت مع السعي إلى دفع نشاطه فياتجاه العلانية ولكن الخلافات داخل قيادة الجماعة ظلت قائمة إلى أن جائت حداث مارس 1954 قادت إلى بروز ثلاث مجموعات .
الأولي: مجموعة عبد الرحمن البنا وعابدين التي حظيت بدعم من المنشقين على الجماعة وكانت جاهزة لتأييد مجلس قيادة الثورة .
الثانية: مجموعة الهضيبي الرافضة لأى تفهم مع هذا المجلس ..
الثالثة: مجموعة خميس حميدة التي أسمت نفسها "المحايدون" وسعت إلى التوفيق بين المجموعتين السابقتين ولكن الأحداث سبقتها حيث وقع حادث المنشية في أكتوبر 1954 وما تلاه من إجراءات ضد الجماعة شملت قرار حلها الذي ما زال ساريا حتى اليوم.

انطلاق الإخوان المسلمين من مصر إلى الخارج

لم تمض سنوات قليلة على تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" عام 1929 حتى كان طموح مؤسسها المرشد العام حسن البنا في أن يكون لها امتداد في بلاد مسلمة خي قد دفعه إلى اتخاذ الخطوة الأولي في هذا الاتجاه وهي إرسال دعاة من أعضاء الجماعة إلى بعض هذه البلاد بدءا بالأردن .

وكانت هذه هي بداية انتشار دعوة "الإخوان المسلمين" ومن ثم تنظيمهم في البلاد الأقرب إلى مصر جغرافيا والأوثق صلة بها ثقافيا وهي بلاد المشرق العربي والسودان ثم بلاد الخليج .

ونظرا لأهمية "التأسيس الدولي" لجماعة "الإخوان المسلمين" في فهم طابعها ومنطقها والعوامل المنظمة لحركتها نلقي في هذا الفصل ضوءا غير كثيف على بداية تجاوزها حدود مصر ونناقش قضية تدويلها انطلاقا من افتراض أن انتشارها في العالم لم يحدث أثرا كبيرا في اتجاه تنظيماتها في البلاد المختلفة نحو الداخل في المقام الأول بما يعينه ذلك من أن ما يجمع هذه التنظيمات على امتداد العالم العربي خصوصا والعالم في مجمله عموما هو أقل بكثير مما يفصل بينهما .

فالجامع الرئيسي في حركة "الإخوان" هو فكرة عامة وانتماء فضفاض وشعور بالتضامن والتساند وحلم في رفع الراية المشتركة في مساء بلاد الأمة على امتدادها

أما الفاصل الأساسي بين تنظيمات "الإخوان " فهو السياسة بمتغيراتها وتحولاتها وتقلباتها والمؤثرات الداخلية التي تختلف من بلد إلى آخر والقضايا التي يتعين التعامل معها على تنوعها وتباينها من حالة إلى غيرها .

ولذلك لم يحدث في أى وقت ن كانت هناك سياسة عامة ومواقف مشتركة لتنظيمات "الإخوان" ناهيك عن أن تكون موحدة تجاه القضايا المختلفة ربما باستثناء الموقف العام تجاه قضية فلسطين على سبيل الحصر وهذا استثناء لا يعول عليه لأن المشتركت فيه جمعت الكثير من القوي والتيارات السياسية والفكرية وليس فقط تنظيمات "الإخوان".

غير أن التباين بين تنظيمات "الإخوان" لم يقف عند غياب المشتركت السياسية فقد أدي الاختلاف في بعض الحالات إلى تناقض في الاتجاهات وإلى صدام في المواقف وصولا إلى اتهامات متبادلة على نحو يثير التساؤل عن مغزي وربما جدوي المشتركات العامة بينها وعن سلامة الاعتقاد في أن عبارة "الإخوان المسلمين" ما زالت تحمل معني وجود حركة واحدة حتى بأكبر قدر من العمومية.

ويثير ذلك قضية أبعد من التنظيم الدولي لـ "الإخوان المسلمين" الذي أنشئ رسميا في يوليو 1982 وإن سبقته أطر أخري مثل (المكتب التنفيذي للإخوان في الدول العربية) ولا يمكن فهم حرص التنظيم الدولي على الابتعاد عن القضايا الأكثر إثارة للخلاف بين أعضائه بدون الإلمام بتجربة المكتب التنفيذي للإخوان في الدول العربية في ستينات القرن الماضي والذي لم يستمر سوي لأقل من عقد من الزمن ..

وتفيد الروايات المتوفرة عن تلك التجربة أنه شهدت خلافا بين تنظيمات الإخوان حول دور المكتب التنفيذي وهل هو إطار قيادي يتخذ قرارات ملزمة أم إطار للتنسيق والتعاون فيم يتم الاتفاق عليه فقط.

ومن أهم الروايات رواية د. عبد الله أبو عزة التي جاء فيها أن إخوان الأردن والكويت فقط هم الذين حملوا راية الإلزام والإلتزام بينما أصرت التنظيمات الأخرى كلها على الاكتفاء بالتنسيق ويقول أن هذه القضية من أهم القضايا التي واجهت المكتب التنفيذي وتكرر بحثها في دورات متعددة .

وقد انفرط المكتب التنفيذي حسب روايته في عام 1969 لأسباب يعزوها إلى ضعف قيادته وخصوصا رئيسه عصام العطار (مراقب إخوان سوريا حينئذ) والضعف العام لحركة "الإخوان" من حيث بنيانها الفكري والتنظيمي مما أدي وفق خبرته الشخصية إلى ما أسماه (الخلل الذي اعتور بنيه الحركة والذي كان من أهم مظاهره اختلاف المفاهيم من قطر إلى قطر وعدم وجود مفهوم موحد أو مفاهيم موحدة بين فراد الإخوان داخل القطر الواحد) وهذا هو ما أورده نصا ضمن خطاب استقالته من المكتب في اجتماع عقد في العاصمة الأردنية في آخر 1968.

ولم يتغير هذا الوضع كثيرا بعد ذلك بالرغم من تطورات كثيرة حدثت في حركة "الإخوان" في عدد متزايد من البلاد العربية وفي الظروف التي يعملون فيها ولذلك لم يحاول التنظيم الدولي القيام بدور فاعل في العلاقة بين أعضائه إلا في حدود ما يتيسر له كما لم يتطلع إلى أن تكون له سلطة على تنظيمات "الإخوان" التي تنضوي تحت رايته .

وظل النمط العام للممارسة في هذا التنظيم الدول هو الاستماع إلى تقارير عن أوضاع التنظيمات القطرية وتوجيه النصح إلى تنظيم أو آخر وتقديم مساعدات لتنظيمات أقل قدرة من غيرها .

واستندت هذه الممارسة إلى حرص على تماسك التنظيم الدولي وحذر من أن تؤدي محاولة إلزام هذا التنظيم القطري أو ذاك بموقف معين أو سياسة محددة إلى تمرده و تفاقهم خلافات في داخله .

غير أن العامل الأهم وراء اقتصادر دور التنظيم العالمي على المتابعة العامة هو غياب منهج شامل ورؤية كلية سواء سياسية أو فقهية تجوز الشعارات العامة .

ولذلك لا يزيد دور هذا التنظيم الدولي على رابطة عامة معنوية الأمر الذي لا يجيز اعتباره تنظيما إلا على سبيل المجز فقد تفرقت السبل بتنظيمات الإخوان القطرية في ممارستها لأدوارها بالرغم من أن نشأة معظمها لم تخل من طابع مركزي مرده إلى دور التنظيم الأم وقيادته المصرية في تأسيس الكثير منها اعتبار من السنوات الأولي في عقد الثلاثينات من القرن الماضي .

أولا:الانتشار في المحيط العربي

(1) إلى الأردن وفلسطين
اتجهت قيادة "الإخوان" أول ما اتجهت خارج مصر إلى الأردن ووفقا لرواية المراقب العام السابق للجماعة في الأردن عبد الرحمن خليفة تعود البداية إلى العام 1934 إذ (كان الدعاة يأتون من مصر وكان عبد اللطيف أبو قورة وهو كبير الإخوان في السن يستقبل دعاة الجماعة ومن مصر وكنا معه)
وكان أبرز هؤلاء الزائرين عبد الحكيم صهر الإمام حسن البنا مؤسس الجماعة وهو الذي قام بالدور الرئيسي في وضع ركيزة تنظيم "الإخوان" في شرق الأردن , وكان هذا التنظيم في بدايته في النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي اقرب إلى تيار ينادي بالإصلاح الديني وظل كذلك لعدة سنوات قبل أن يباشر أول نشاط سياسي متفاعلا مع قضية فلسطين.
وثمة ما يدل على أن زيارات قادة "الإخوان" شملت فلسطين أيضا في ذلك الوقت فيروي أحد قادة "الإخوان" الفلسطينيين أن أول بعثة زارت فلسطين كانت في أغسطس 1935 وضمت عبد الحكيم عابدين أيضا ومحمد أسعد الحكيم؛
ولكن سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا هو الذي قام بالدور الأكبر في تأسيس التنظيم الفلسطيني بعد ذلك ومعه كامل الشريف الذي كان مسؤولا عن نشاط "الإخوان" في العريش وكان قريبا إلى البنا وإلى كبار رجالات قطاع غزة في آن معا .
ووفقا لرواية عبد الرحمن خليفة أيضا كان عبد اللطيف أبو قورة أول رئيس لتنظيم "الإخوان المسلمين" في الأردن وكان معه يوسف البرقاوي وجميل البرقاوي وممدوح العدايرة وأحمد الخطيب ومفلح سعد فضلا عن خليفة .
وقد اتاح لهم الأمير عبد الله الأول مجالا واسعا للعمل الدعوي سعيا إلى الاستفادة من هذا العمل في بناء المجتمع الأردني وقد اعتاد عبد الله الأول أن يستقبل زعماء "الإخوان" وأن يحضر احتفالاتهم في بعض المناسبات الدينية ووصل اهتمام بدورهم إلى حد أنه عرض على عبد الحكيم عابدين الإقامة في الأردن وتفيد روايات غير موثقة أن الأمير عرض عليه أيضا رئاسة الحكومة ولكنه اعتذر ..
وقد سجل تنظيم "الإخوان المسلمين" في الأردن وفق قانون الجمعيات الخيرية والأندية الرياضية مثلما كانت الحال في مصر عند تأسيس الجماعة ولمن المراقب الثاني للتنظيم عبد الرحمن خليفة روي أنه قدم مذكرة في العام 1953
حين اختير مراقبا عاما إلى رئيس الوزراء توفيق أبو الهدي أبلغه فيها أن
(دعوة الإخوان المسلمين هي دعوة إسلامية وليست ناديا رياضيا وإن كانت تربية الجسم تجري إلى جانب تربية الروح والفكر وهي ليست جمعية خيرية وإن كان فعل الخير جزءا من أعمالها وهي ليست جمعية دينية أو جمعية سياسية وإن كنا نؤمن بأن الدولة جزء من الإسلام وإنما هي دعوة إسلامية عامة تشمل جميع نوحي التربية للجسم والفكر والروح ولذلك أصبح تسجيلها بموجب قانون الجمعيات الخيرية والأندية الرياضية لا يتناسب مع اتساع اغراضها وحتى لا تخفي على المسؤولين حقيقة أغراضها نرجوا اعتبارها جماعة تدعو للإسلام بشكله الواسع الذي يتناول جميع النواحي)
وقبل ذلك كان وجود "الإخوان" قد امتد إلى الضفة الغربية وكذلك قطاع غزة أيضا وكان افتتاح أول فرع لـ "الإخوان" في القدس في العام 1945 وتبعته فروع أخري في عدة مدن فلسطينية ويقدر أحد الباحثين عدد فروع "الإخوان" في شرق الأردن وفلسطين في العام 1947 بخمسة وعشرين فرعا تراوح مجموع أعضائها بين 12 , 20 ألف عضو .
وليس هناك ما يدعم هذه الرواية خصوصا أنها لا تأخذ في الاعتبار ن تنظيمي الأردن وفلسطين اتحادا في العام 1946 وفق رواية الرجل الاذي تولي قيادة إخوان الأردن بعد ذلك في العام 1953 فهو يقول إن مجلس إدارة الإخوان المسلمين في الأردن والقدس اتحدا في العام 1946 وبسبب الوضع الجيو سياسي كان من الطبيعي أن يحدث تداخل بين حركة "الإخوان" في كل من الأردن وفلسطين .
وقد أدت مشاركة "الإخوان" الأردنيين والفلسطينيين في حرب 1948 إلى اكتسابهم رصيدا وسمعة طيبة بين الناس .
ولكن هناك من يري أنه بعد انتهاء تلك الحرب ركز "الإخوان" في الأردن وكذلك "الإخوان" في الضفة الغربية على تدعيم وجودهم عبر التركيز على قضايا محلية أكثر مما اهتموا بموجهة إسرائيل إذ اعتبروا أن بناء الإنسان والمجتمع الإسلاميين هو الطريق لتحرير فلسطين .
أما "الإخوان" في قطاع غزة فكانوا أكثر حرص على ممارسة أنشطة تتعلق بالقضية الفلسطينية رغم الملاحقات التي تعرضو لها من الإدارة المصرية التي آل إليها القطاع بعد حرب 1948.
وقد أدي الفصل بين الضفة التي ضمها الأمير عبد الله لإنشاء المملكة الأردنية الهاشمية وغزة التي أصبحت تحت إداة مصر إلى نشوء تنظيم مستقل في القطاع بينما أصبح "إخوان " الضفة جزءا من التنظيم الأردني الذي تنامت علاقته الطيبة مع النظام الهاشمي بفعل ازدياد المشكلات التي واجهت التنظيم الأم في مصر وامتدادها إلى التنظيم الفلسطيني في قطاع غزة ..
فقد هبت العاصفة على هذا التنظيم في العام 1954 حين انقلبت قيادة ثورة يوليو 1952 على "الإخوان" في مصر فانتهي "شهر العسل" القصير الذي عاشه "الإخوان" في قطاع غزة عقب قيام تلك الثورة وانتعش دورهم خلاله حيث زاد عدد أعضائهم وأصبح مكتبهم الإداري يضم سبع شعب في الشجاعية والرمالي والقصيرات والبريج ودير البلح وخان يونس ورفح ..
ولعب المستشار المأمون الهضيبي الذي صار مرشدا عاما بعد ذلك بعقود دور مهما في دعم التنظيم الفلسطيني في ذلك الوقت كان الهضيبي في منتصف خمسينات القرن الماضي عضوا في المحكمة العليا في غزة حين هبت العاصفة على "الإخوان" هناك فسعي قدر جهده إلى مساعدتهم في الحد من الخسائر التي ترتبت على تبدل علاقاتهم مع الادارة المصرية في القطاع ..
ما تنظيم الإخوان في غزة فقد ظل مستقلا عن الإخوان في الأردن ومرتبطا برباط وثيق مع القيادة العامة للجماعة في مصر .
وقام تنظيم "الإخوان" في غزة بتوسيع نطاقه ليضم الإخوان الفلسطينيين في دول أخري وكان هؤلاء منضمين في لذك الوقت لتنظيمات الإخوان في الدول التي يقيمون فيها وكانت البداية بإنشاء فرع لطلاب غزة الذين يدرسون في مصر .
وفي 1960 اكتملت فكرة تجميع "الإخوان" الفلسطينين في مختلف دول المنطقة في تنظيم واحد وعقد اجتماع لهذا الغرض بالقاهرة في العام نفسه ولكن اتفاقا حدث على ترك "الإخوان" الفلسطينيين في الضفة الغربية ضمن حركة "الإخوان" الأردنية على أساس أنهم يعتبرون موطنين أردنيين من الناحية القانونية وقيل مسؤولو التنظيم الفلسطيني ذلك رغم عدم رضائهم في لذك الوقت عن علاقة حركة " الإخوان الأردنيين بالنظام الهاشمي" .
وكان الدافع الرئيسي وراء إنشاء تنظيم جامع لـ "الإخوان الفلسطينيين" هو التخوف من تأثيرا عملية تأسيس حركة " فتح " الفلسطينية التي بدأت في أواخر الخسمينات فقد تعرضوا لمحاولات استهدفت جذبهم للإنضمام إلى تلك الحركة خاصة وأن بعض الفلسطينين المنشقين على "الإخوان" قموا بدور بارز في تأسيسها؛
وبذلك تكرس استقلال حركة الإخوان "الفلسطينية" عن الأردنية وانضم إليها عدد كبير من "الإخوان" في الضفة الغربية بعد 1967 لكنه ظل استقلالا نسبيا حيث كان هناك قدر من التداخل بين الحركتين وظل بعض "إخوان" الضفة الغربية يعملون ضمن حركة "الإخوان" الأردنية .
أما أول تنظيم إسلامي ينشأ خارج إطار حركة "الإخوان" في الأردن وفلسطين فكان حزب التحرير الإسلامي ولم يكن هذا الحزب انشقاقا عن الإخوان بأى حال بخلاف ما ذهب إليه بعض الدارسين وقد أسسه عام 1952 تقي الدين النبهاني وهو ينتسب إلى عشيرة النبهانيين الذين سكنوا قرية إجزم جنوبي حيف وقد تأثر النبهاني جوهريا بجده الشيخ يوسف الذي كان من كبار علماء الدين ورجال القضاء الشرعي ودارت أهم مؤلفاته حول التصدي (للتيارات الداعلية إلى إعادة تفسير القرآن وفق الأذواق العصرية)
ووجه انتقادات حادة لبعض المصلحين الإسلاميين مثل الشيخ محمد عبده وأخذ الحزب بهذا المنهج السلفي والمحافظ واعتبر نفسه (حزب سياسي السياسة عمله والإسلام مبدأه فهو يعمل بين الأمة ومعها لتكون إعادة الإسلام إلى الحياة والدولة قضية مصيرية وليقودها إلى إقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله)
وقد حظرت وزارة الداخلية الأردنية نشاطه ورفضت طلب تأسيسه ولذلك تنقل مؤسسه بين الأردن وسوريا ولبنان حيث كان له بعض الأنصار في هذه الدول إضافة إلى تونس وليبيا وكان تركيزه الشديد على قضية الخلافة أحد مصادر خلافه مع "الإخوان المسلمين"؛
على الأقل فيما يتعلق بالأولويات فقد اعتبر الخلافة شرطا لزما بينما لم يعطها "الإخوان" المنزلة نفسها ودعا إلى دولة إسلامية واحدة موحدة وليس دولة اتحادية يحكمها الخليفة في إطار مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده في خمسينات القرن الماضي .
ورغم اتفاقه مع الإخوان في العمل السلمي غير العنيف فقد أعطي اهتمام خاصا للعمل في صفوف الجيش وأضفي عليه ذلك انقلابيا دون أن يمتد إلى ممارسة العنف بمعني أعمال الاغتيالات والتفجير وما إلى لذلك وقد فشلت محاولات عدة للتقريب بينه وبين "الإخوان المسلمين" في الفترة 53 -1956؛
وهذا يدعم الاعتقاد في أنه لم ينش نتيجة انشقاق عن "الإخوان" بعكس ما يتردد في بعض المصادر فقد تعرف النبهاني على حسن البنا قبيل وفاته ولكن نقل عنه أنه لم يجد فيه ما يسعي إليه رغم تقديره له وكان يري في الإخوان (جماعة إسلامية ملتزمة لكن ينقصا تدريس الفكر السياسي الإسلامي) .
ويؤكد قيادي سبق في حزب التحرير عدم صحة رواية أن كل أو معظم من دخل هذا الحزب في بداياته كانوا من "الإخوان" ويفسر ذلك بأن الموقف العدائي الذي شحن به أعضاء "الإخوان" ضد حزب التحرير حال دون انضمام أى منهم له بل وأدي لذك إلى اعتداء بعض "الإخوان" على بعض الشباب من حزب التحرير .
ولم يؤثر ظهور حركات إسلامية أخري على الدور الرئيسي لـ " الإخوان المسلمين " في الأردن وفلسطين بما في منظمة الجهاد الإسلامي الفلسطيني التي ظهرت في بداية ثمانينات القرن الماضي متأثرة بالثورة الإيرانية .
وقد شهد كل من حركتي "الإخوان" الأردنية والفلسطينية تطورا تنظيميا كبيرا في أواخر ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي فقد تم تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كامتداد لحركة " الإخوان " الفلسطينية عام 1988 وكان هذا ذروة التحول في موقف "الإخوان" الفلسطينيين الذين توقفوا عن ممارسة المقاومة المسلحة منذ 1948؛
فقد ركزوا على الأمور الدينية والاجتماعية حتي السبعينات ثم مارسوا نشاطا سياسيا بالتزامن مع المد الأصولي في المنطقة حتى تأسيس "حماس" وقد سبق الإعلان عن هذا التأسيس مباشرة صدور بيان عن الإخوان في 14 ديسمبر 1987 يدعو الشعب الفلسطيني للوقوف في وجه الاحتلال واعتبرته حماس بعد ذلك بمثابة بيانها الأول.
وهنالك اعتقاد في أنه حدث خلاف بين "الإخوان" في البداية حول تأسيس "حماس" فكان معظم مؤيدي تأسيسها من الأجيال الجديدة التي حبذت الانخراط في الانتفاضة والمشاركة بقوة في مقاومة الاحتلال وكان بعض الحرس القديم مترددين في البداية وحذرين غير أنه عندما أصبحت الانتفاضة حقيقة واقعة زال التفاوت في المواقف وأصبحت "حماس" تحظي بمصداقية كبيرة مما جعل اسمها هو الأكثر تداولا وأخذ الناس يستخدمون كلمتي "حماس و"الإخوان" للإشارة إلى الشئ نفسه رغم أن حماس ضمت شبابا إسلاميا ليس مرتبطا بـ "الإخوان المسلمين" ارتباطا كاملا .
وكان إنشاء حزب جبهة العمل الإسلامي هو أهم تطو تنظيمي بالنسبة لحركة الإخوان الأردنية وقد حصل هذا الحزب على الترخيص القانوني في 18 ديسمبر 1992 ورغم أنه يضم عناصر إسلامية مستقلة إلا أن غالبية قادته وأعضائه من " الإخوان المسلمين " الأمر الذي يجعله حزب "الإخوان" في الأردن وهو لا يلغي وجود جماعة "الإخوان" ولا يحل محل منظماتها الاجتماعية والدينية وإنما يعمل إلى جانبها وعندما استقال بعض المستقلين منه في بداية 1993 احتجاجا على هيمنة " الإخوان عليه قالوا في بيان لهم أنهم يتركونه ليكون وجها آخر لجماعة الإخوان المسلمين "
غير أن المشكلة الأكثر أهمية بالنسبة إلى "الإخوان المسلمين" في الأردن هي مستقبل العلاقة مع حركة "حماس" بسبب التداخل الذي حدث بين تنظيمي "الإخوان" الأردني والفلسطيني منذ البداية وتواصل في ظروف جعلت هذه العلاقة شديدة التعقيد ..
ومن أكثر جوانبها تعقيد أن الكثير من أضعاء جماعة "الإخوان المسلمين" الأردنية وأنصارها ينتمون إلى أصول فلسطينية وإذا كان أعضاء الجماعة كلهم وفي فروعها كافة وليس في الأردن فقط يقفون مع "حماس" لدورها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي فالوضع في أوساط " إخوان " الأردن أو بعضهم على الأقل يختلف .
وفالأمر بالنسبة إلى بعض هؤلاء الذين ينتمون إلى أصل فلسطينية وإلى أصل شرق أردني أيضا يتجاوز الموقف "الإخواني" العام المؤيد لحرمة "حماس" الأمر الذي يخلق علاقة معقدة بين تنظيمين مستقلين تنظيميا ولكنهما متداخلان سياسيا وعاطفيا على نحو قد لا نجد له مثيلا في العلاقة بين أى من مكونات التنظيم الدولي لـ"الإخوان المسلمين "
وهذا يفسر الحرج الشديد الذي أصاب "إخوان" الأردن عندما وجهت الحكومة الأردنية في 19 أبريل 2006 اتهاما لحركة "حماس" بتخزين أسلحة في الأردن
ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي يثار فيها الجدل حول قيام أعضاء في "حماس" بإدخال أسلحة لاستخدامها في عمليات فدائية ضد إسرائيل عبر الحدود الأردنية حدث ذلك من قبل في العام 1991 .
وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولي تلفظ أنفاسها بعد حرب الخليج الثانية وحاول بعض كوزدر "حماس" إطالة أمدها عبر عمل عسكري لم تكن ظروفه الموضوعية مهيأة في داخل الأراضي المحتلة فحاولوا أن يجربوا إمكاناته عبر الساحة الأردنية للمرة الأولي منذ معارك أيلول الأسود 1970 التي أخرجت المقاومة الفلسطينية المسلحة من هذه الساحة.
ولكن أجهزة الأمن الأردنية ضبط الأسلحة ومهربيها في شرق العاصمة ومنطقة الأغوار وكان من بين المتهمين "إخوان" أردنيون . غير ن قيادة "إخوان" الأردن نجحت في احتواء الأزمة مع الحكومة وتعهدت قيادة "حماس" بعدم تكرار ما حدث وأصدر الملك حسين عفوا عاما عن المتهمين .
كانت هذه هي المرة الأولي التي يظهر فيها أن جناحا في حركة "حماس" اخترق تنظيم "الإخوان" لأردني ولذلك سعت قيادة هذا التنظيم إلى ضبط العلاقة مع حركة "حماس" ومع ذلك هناك ما يدل على أن هذا الاختراق من جانبا متشددين في "حماس" ازداد في السنوات التالية؛
واستثمر القائمون به وجود خلافات داخل "إخوان" الأردن الذين يصنفهم العارفون بهم إلى ثلاثة اتجاهات حمائمي ووسطي ومتشدد وأدي ذلك إلى انزعاج قيادة إخوان " الأردن " فلجأت إلى التنظيم لدولي لـ "الإخوان المسلمين" الذي أخفق في معالجة المشكلة وجاءت أزمة 2006 فجددت الجدل حول تعقيدات العلاقة بين هذه الحركة وإخوان الأردن

(2) إلى سوريا ولبنان

لا يوجد تاريخ معلوم متفق عليه لنشأة " الإخوان" في سوريا غير أن الدراسة الأهم في هذا المجال والتي كتبها المستشرق الألماني يوهانس رايستر تعيد ظهورهم هناك إلى العام 1934 من خلال رابطة صغيرة حملت اسم (شباب محمد) تشكلت في حمص بقيادة أبو السعود عبد السلام .
والأرجح أن هذه الرابطة كانت هي البذرة الأولي في سوريا لتنظيم "إخواني" مستقل عن جمعيات إسلامية عدة كانت قائمة واستفاد منها "الإخوان" في بداية عملهم وخصوصا الجمعية الغراء التي تعود نشأتها إلى بداية العشرينات وجمعية الهداية الإسلامية المعروفة منذ العام 1930 وجمعية التمدن الإسلامية (1932) وجمعية العلماء (1934) وغيرها .
وهناك ما يدل على أن وجود "الإخوان" في فلسطين أتاح لهم مفاتيح استخدموها في طريقهم للتغلغل في سوريا من خلال علاقاتهم مع بعض كبار رجال الدين الفلسطينيين وفي مقدمتهم مفتي القدس الحاج أمين الحسيني وقد توصل رايستر في دراسته إلى شواهد تفيد ن الحسيني ساعد "الإخوان" في إقامة علاقات مع بعض الجمعيات الإسلامية السورية السابق ذكرها وخصوصا جمعية الهداية الإسلامية في دمشق .
غير أن العمل الإخواني اتجه منذ البداية إلى التمايز فبعد إنشاء رابطة (شباب محمد) في حمص في العام 1934 شهدت حلب تأسيس جمعية (دار الأرقم) برئاسة محمد بهاء الدين الأميري وتحولت هذه الجمعية في وقت لاحق إلى (دار الشبان المسلمين) في حلب والتي تم دمجها في جمعية (شباب محمد) في وقت ما بين شتاء 1945 وصيف 1946 تحت اسم (الإخوان المسلمين) وكانت هذه هي المرة الأولي التي يظهر فيها اسم "الإخوان" صراحة في سوريا ونتخب مصطفي السباعي مراقبا عاما للإخوان في سوريا ولبنان .
وقد عرف تنظيم الإخوان السوري منذ البداية باجتهاده الخاص في مسألة النظام الاقتصادي الاجتماعي فكان السباعي إسهام متميز بشأن الإشتراكية في الإسلام وكان هذا أول مؤشر واضح على قوة تأثير العوامل الداخلية على تنظيمات الإخوان مقارنة بالقواسم المشتركة فيها من ناحية ودور القيادة العامة للجماعة في مصر من ناحية أخري ..
فلم يكن لإسهام مصطفي السباعي المتميز هذا علاقة بكتابات سيد قطب عن العدالة الاجتماعية في الإسلام فضلا عن أن قطب كان خارج تنظيم "الإخوان" المصري في ذلك الوقت وهذا بالإضافة إلى أن السباعي ذهب إلى دي أبعد وربما بكثير من قطب من اجتهاده واقترب من الإشتراكية الماركسية ولكن بهدف تجاوزها وطرح بديل طرح عنها وليس الإقرار بسلامتها.
وهنا تحديدا تظهر قوة تأثير الوضع الداخلي إذ كان الشيوعيون السوريون حينئذ هم الأقوي على المستوي العربي كما أن اتجاه حزب البعث إلى الإشتراكية أعطي اليسار العلماني صدارة الساحة السياسية السورية وظهرت قوة هذا التأثير ومدي تميز الاجتهاد "الإخواني" السوري أيضا في زيارة مصطفي السباعي إلى روسيا وحديثه عن الإشتراكية الإسلامية سعيا إلى مواجهة نفوذ الشيوعيين والاشتراكيين السوريين .
وكانت هذه فترة انتعاش قصيرة لـ "الإخوان" في سوريا فقد شاركوا فيالحياة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى قررت حكومة حسني الزعيم الانقلابية حل تنظيمهم في مايو 1949 قبل أن يعاد الترخيص لهم في أواخر العام نفسه مع باقي الأحزاب والجمعيات ويشاركوا في حكومة خالد العظم التي شكلت في مايو 1950 وحتى حل البرلمان في شتاء 1951 .
وكانت معركتهم الرئيسية في ذلك الوقت هي تعديل الدستور السوري ليتضمن أن الإسلام دين الدولة وهي القضية التي كانت قد حسمت في مصر خلال إعداد دستور 1923 قبل ظهور " الإخوان" أصلا .
ولم يكن للنص على أن دين الدولة هو الإسلام في الدستور المصري أى مغزى سياسي في حينه فقد اقترح خلال مناقشات اللجنة التي اعدت مشروع الدستور ووفق عليه أعضاؤها الثلاثون جميعهم دون اعتراض وقد فسر الفقيه القانوني المصري د. عبد الحميد متولي ما فعلته لجنة الثلاثين التي ا‘دت دستور 1923 المصري بأنه كان (تحية كريمة من المشرع الدستوري إلى دين الأغلبية)
ولذلك انطلق الإخوان في مصر من نقطة أكثر تقدما بالنسبة إليهم مقارنة بنظرائهم في سوريا الذين شغلتهم هذه القضية وجعلوها إحدي أهم معاركتهم السياسية والبرلمانية في أواخر أربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي وكانت حجتهم في هذه المعركة أن القرآن الكريم هو احد المصادر الشرعية المعترف بها دوليا في رأيهم تأسيسا على اعتراف محكمة العدل الدولية في لاهاي به وكانت حجة خصومهم هي أن سوريا بلد متعدد الأديان ,وأن النص على دين للدولة يعني أن اصحاب الأديان الأخري هم في وضع أدني .
غير أن عهد المعارك الديمقراطية في سوريا كان قصيرا فقد دخل هذا البلد في داومة الانقلابات والانقلابات المضادة التي خلقت حالة من عدم الاستقرار تراوح خلالها "الإخوان" بين السرية والعلنية إلى أن بدأت محنتهم في عهد حكومة الوحدة المصرية السورية ولم تنته بعدها بل ازدادت حدة عندما انفرد حزب البعث بالسلطة واحتكرها تماما في العام 1966؛
وأدي ضيق أفق قيادة الإخوان في سوريا في أواخر سبعينات القرن الماضي إلى تورطهم في صدام أخذ يتصاعد ويأخذ طابعا دمويا راح ضحيته آلاف الأبرياء ثم في تحالف لا عقلاني مع النظام العراقي ضد النظام السوري ارتكبوا خلاله اخطاء كبري .
وقد دفعوا ثمن ذلك كله غاليا إلى حد أن أصبحت سوريا هي البدا الوحيد الذي يوجد فيه قانون يعاقب من يثبت انتماءه (مجرد الانتماء) إلى "الإخوان" سواء أتي فعلا مضادا للنظام أو لم يأت وبعقوبات رهيبة تصل إلى حد الإعدام .

(3) التمدد جنوب الوادي:

كان عبد الحكيم عابدين أيضا هو الذي تحرك جنوبا في اتجاه السودان مثلما تحرك في الشمال الشرقي نحو بلاد الشام وكانت الزيارة التي قام بها إلى الخرطوم في العام 1946 وصحبه فيها جمال الدين السنهوري هي نقطة التحول نحو تأطير العمل "الإخواني" في السودان فبعدها بأقل من عامين وفي العام 1948 قررت قيادة "الإخوان" فيالقاهرة تعيين على طالب الله مراقبا عام لتنظيم السودان؛
غير أن المحنة الأولي التي تعرض لها "الإخوان" في مصر في ذلك الوقت إثر قرار حكومة النقراشي بحلها أربكت التنظيم الناشئ في السودان فرفضت السلطات هناك طلب تسجيل "الإخوان" تحت هذا الإسم مما دفع مقدمته إلى إعادة الكرة مع تغيير الإسم إلى حزب التحرير الإسلامي دون أن تكون هناك أيى علاقة مع الحزب المتطرف الذي نشأ في الأردن وحمل ذلك الاسم على نحو ما سبق توضيحه .
وبالرغم من صعوبة الظروف التي نشأ فيها ذلك الحزب فقد خاض الطلاب المنتامون إليه صراعا ضاريا في كلية الخرطوم ضد الحركة الشيوعية إلى أن تمكن من السيطرة على اتحاد الطلاب في العام 1951 .
ولم يمض وقت طويل حتى دب أول خلاف كبير في صفوف حزب التحرير الإسلامي "الإخواني" سفر عن انشقاق بكر كرار الذي أسس "الجماعة الإسلامية" واستبعاد المراقب العام على طالب الله في العام 1953 الذي شهد تغيير اسم الحزب أو إعادته إلى أصله تحت اسم "الإخوان المسلمين" دون إعلان عن ذلك؛
وأختير محمد الخير عبد القادر سكرتيرا عاما في هيئته السياسية التي ضمت قياديين أبرزهم رشيد الطاهر (الذي خلف عبد القادر في سكرتارته العامة 1955) صادق عبد الماجد وياسين عمر الإمام ومرغني النصري ومرسي حامد آخرون .
وتبني "إخوان" السودان مبدأ الاستقلال عن بريطانيا ومصر في آن معا واقترن الحصول على الاستقلال في أول يناير 1956 بإعلان تنظيم "الإخوان" للمرة الأولي ولكنه عاد إلى العمل السري عقب انقلاب الفريق إبراهيم عبود 1958.
وشارك "الإخوان" في النضال الوطني الديمقراطي ضد حكومة عبود العسكرية وكان لهم دور مهم في إسقاطها عبر انتفاضة أكتوبر 1964 التي برز فيها دور د. حسن الترابي الأمر الذي فتح أمامه الطريق لقيادة حركة الإخوان في السودان فكان الترابي أستاذا في جامعة الخرطوم ثم عميدا لكلية القنون فيها غندما اقتحم الأمن الحرم الجامعي لاعتقال قادة الاحتجاجات الطلابية مما أدي إلى قتل أحدهم ونقله إلى مشرحة الخرطوم التي تجمهر الطلاب حولها وانضم إليهم عدد كبير من الناس .
وعندئذ أقبل الترابي على النعش وأمر بحمله للصلاة عليه في ميدان المولد وتحولت الصلاة إلى مظاهرة كبر تحركت إلى القصر الجمهوري وكانت هي نقطة التحول الرئيسية نحو إرغام عبود على التنازل عن السلطة .وأسس "الإخوان" بعد نجاح انتفاضة 1964 (جبهة الميثاق) مع عناصر إسلامية أخري .
وكانت هذه هي المرة الأولي التي يظهر فيها دورهم على مسرح الأحداث بشكل بارز وفقا لتقدير المسؤول على المكتب التنفيذي لـ " الإخوان " في الدول العربية في ذلك الوقت وحصلو على خمسة مقاعد في انتخابات أبريل 1965 مقابل 75 لحزب الأمة و 54 للحزب الاتحادي و16 مقعدا للشيوعيين كما مثلوا بوزير واحد في حكومة سر الختم خليفة .
ولكن بالرغم من خطابهم الحافل بالاهتمام بمسألة الديمقراطية والذي لم يلق ترحيبا في صفوف تنظيمات "إخوانية خري" لم يكن سلوكهم الفعلي ديمقراطيا في المحكات الكاشفة لحقيقة المواقف .
ومن ذلك مثلا تصعيدهم الشديد ضد الشيوعيين ردا على تهجم طالب شيوعي على الإسلام وقيادتهم حملة شعواء ضدهم قادت إلى إقصاء ثمانية نواب شيوعيين من البرلمان فكان استخدام العنف ضد الشيوعيين ومهاجمة مقراتهم والإصرار على طردهم من برلمان انتخبهم جزء من الشعب فيه وفق الدستور عدوانا على هذا الدستور .
ومع ذلك كن أحد أهم ما ميز "إخوان السودان" في تلك المرحلة اتجاههم العملي (البراجماتي) وسعيهم إلى المشاركة في السلطة بأية وسيلة إلى الحد الذي عرضهم إلى انتقادات في المكتب التنفيذي للإخوان في الدول العربية .
فرد الترابي على المنتقدين في أحد اجتماعات هذا المكتب بقوله (والله يا إخواني لو صح لينا نص أو حتي ربع وزير مش حنرفض)
غير أن هذه (البراجماتية) لم تحصنهم فيما يبدو إزاء اتخاذ موقف بالغ التشدد ضد انقلاب جعفر النميري في 1969 وإساءة تقدير الموقف على نحو دفعهم إلى السير وراء زعيم الأنصار حينئذ الهادي المهدي والتورط في مقاومة مسلحة ضد النظم العسكري الأمر الذي أدخلهم في محنة كبري .
فقد تعرضوا إلى مطاردات عاتية وألقي بعدد كبير منهم في السجون وهرب آخرون من السودان وفي ثنايا ذلك سحب بساط العمل السياسي الإسلامي من تحت أقدامهم لصالح الأطر الجديدة التي اتجه الترابي إلى تجربتها وصولا إلى (الجبهة الإسلامية القومية) التي خططت لانقلاب عمر البشير 1989 .

(4) الانتشارفي منطقة الخليج:

ارتبط انتشار "الإخوان المسلمين" على نطاق وسع في منطقة الخليج العربي بهرب بعض قادتهم والكثير من كوادرهم من مصر إلى هذه المنطقة عقب الصدام الذي حدث بينهم وبين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1954.
ولذلك يري البعض أن ما تعرض له الإخوان في مصر حينئذ هو مما يقال عنه (رب ضارة نافعة) من زاوية انتشار دعوتهم في العالم العربي وخصوصا في الخليج ومن ذلك ما ذهب إليه د. عبد الله النفيس من أن (حملة عبد الناصر القمعية ضد الإخوان المسلمين في مصر عام 1954 كان لها ترددات سياسية في العالمين العربي والإسلامي لصالح الإخوان)
غير أن هذه كانت الانتشار على نطاق واسع ما بداية وجود الإخوان في منطقة الخليج فتعود إلى ما قبل ذلك بسنوات حسين بذرت البذور الأولي عن طريق بعض المدرسين المصريين المنتمين إلى هذا التيار كما حدث مثلا في البحرين حين ذهب إليها عبد الرحمن الجودر وعدد من المدرسين المصريين في أواخر الأربعينات .
وربما تكون البحرين حالة خاصة بين بلاد الخليج فيما يتعلق بأثر الصدام بين عبد الناصر والإخوان المصريين أو قل إنها قد تكون استثناء بشكل ما من قاعدة أن هذام الصدام ساهم في انتشار الإخوان في بلاد الخليج العربي فقد كان للصدم الذي حدث عام 1954 أثره الإيجابي على انتشار الإخوان في السعودية وقطر بالدرجة الأولي وفي الكويت أيضا ولم يعدم هذا الأثر في البحرين أيضا حيث وصل إليها بعض (الإخوان) الهاربين من مصر .
ولكن وضع "الإخوان" في البحرين تأثر سلبا بالصدام مع عبد الناصر بسبب شعبيته الكاسحة هناك خصوصا وأن حركة المعارضة الرئيسية للنظام هناك كانت شديدة التأثر باتجاهات الزعيم المصري القومية ومواقفه الأمر الذي دي إلى عزل "الإخوان" عن التيار الرئيسي في الحياة السياسية حينئذ وجعلهم في صف الحكومة بصورة تلقائية ووضعهم موضع اتهام من الهيئة التنفيذية العليا التي كانت تقود المعارضة بأنهم (عملاء للنظام والإنجليز)
وازدادت الفجوة بين قوي المعارضة و"الإخوان" عندما انضم إليهم حد رجال الأسرة الحاكمة وهو الشيخ عيسي بن حمد آل خليفة الذي آمن بدعوتهم ورأس النادي الثقافي الذي وافق النظم على تأسيسه لهم وهو (نادي الإصلاح) غير أن " إخوان " البحرين أخذوا فيتجاوز عزلتهم تدريجيا وجذب عناصر جديدة من الطلبة والشباب و خصوصا بعد هزيمة 1967 .
ومع الوقت تحول اقترابهم من نظام الحكم الى نعمة بعد أن كان نقمة عليهم بخلاف الحال في دول خليجية ري رحب حكامها ب"الإخوان" الوافدين من مصر وخصوصا السعودية وقطر ففي السعودية اقترب بعض الإخوان المصريين من دوائر السلطة الدينية والسياسية؛
ويمكن الإشارة على سبيل المثال إلى تعيين الشيخ عبد الرزاق عفيفي ضمن هيئة كبار العلماء الشرعيين لفترة طويلة وإلى الدور الذي لعبه مناع القطان في كواليس صناعة القرار والذي تجاوز دور المستشار السياسي وكانت السعودية بالنسبة إلى الإخوان عموم والإخوان المصريين خصوصا موقعا لمؤتمرات سنوية خلال موسم الحج من كل عام تقريبا .
ولكن علاقة "الإخوان" المصريين بالسعودية أخذت في التراجع تدريجيا منذ الغزو العراقي للكويت حين سعي مكتب الإرشاد العام إلى موقف وسطي اعتبره إخون الكويت والعراق مؤيد للنظام العراقي كما سيرد لاحقا؛
ولم ترض عنه السعودية التي أزعجها أكثر موقف بعض تنظيمات "الإخوان" التي أيدت الغزو صراحة وخصوصا تنظيم "الإخوان" في الأردن وقد بلغ هذا التراجع ذروته عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 في إطار مساعي المملكة إل تبرئة نفسها من تهمة المساهمة في خلق الأجواء التي أدت إلى التطرف؛
ومن ثم الإرهاب وذهب بعض هذه المساعي في اتجاه محاولة إلقاء اللوم على حركة "الإخوان المسلمين" والإسلام السياسي عموما لتبرئة الحركة الوهابية والإسلام السلفي بوجه أم غير أنه ربما يكون السبب الآخر للتحول في موقف القيادة السعودية تجاه "الإخوان" أكثر أهمية،
وهو ما تردد عن أنهم خرقوا واحدا من ا÷م بنود اتفاقهم معها والذي يقضي بتامتنعهم عن إقامة تنظيمات لهم تضم أفرادا سعوديين في داخل المملكة وكان هذا هو الاستثناء الوحيد الذي ألزم "الإخوان" أنفسهم به في عموم العالم الإسلامي وغير الإسلامي أيضا .
وإذا صح أن (السعودية كانت تملك من الوقائع والأدلة ما يشير إلى أن الإخوان خرقوا ذلك الاتفاق فهذا يكفي لتفسير حدة الهجوم الذي شنه عليهم وزير داخليتها الأمير نايف بن عبد العزيز واتهامه لهم بـ (خيانة العهد وإنكار الجميل) ضمن قائمة اتهامات شملت (إفساد الأمة واستخدام الدين لتحقيق مآرب سياسية صغيرة) وصولا إلى القول بأن (الإخوان هم أصل البلاء في العالم الإسلامي)
وربما تكون حدة الهجوم على هذا النحو مؤشر إلى أن الأمر تجاوز سعي السعودية إلى توجيه أصابع الاتهام نحو حركة "الإخوان" بدلا من الحركة الوهابية خصوصا في ظل ما تبين من أن "الإخوان" تحركوا لإنشاء تنظيمات للمرأة في بعض المدن السعودية خصوص مكة والمدينة لاستثمار موسم الحج في تجنيد النساء لدعوتهم بالتزامن مع اهتمامهم المتزايد بدور المرأة في حركتهم في بعض البلاد الأخري وفي مقدمتها مصر .
وبخلاف السعودية التي أنشأ "الإخوان" المصريون فيها تنظيما لهم اقتصرت عضويته عليهم لفترة طويلة وكان هو المكون الرئيسي في تنظيم "إخوان" مصر في الخارج في خمسينات وستينات القرن الماضي تم تأسيس تنظيمين "إخوانيين" في الكويت وقطر
وقد استقبل الشيخ على بن عبد الله آل ثان حاكم قطر الإخوان المصريين الذين ذهبوا إلى الدوحة بترحاب شديد وقربهم من دوائر السلطة وفي مقدمتهم عبد البديع صقر ويوسف القرضاوي وأحمد العسال وعبد المنعم عبد الستار .
فكانت لهم دروس وحلقات في المساجد ومحاضرات عامة ودور كبير في إنشاء وزارة التربية والتعليم وصياغ المناهج التربوية والتعليمية واختيار أعضاء هيئات التدريب في مختلف المراحل وتولي عبد البديع صقر منصب مدير المعارف في الدولة وحافظوا على دورهم المتميز هذا بالرغم من التنافس الذي حدث بينهم وتحول إلى حرب في بعض الأحيان مما أدي إلى إطاحة أحد الإخوان السوريين (عبد الرحمن عطيه) من منصب مدير التربية .
وقد أثر "الإخوان" المصريون في عشرات من القطريين الذين التفوا حولهم في إطار فكري في البداية ثم أسسو تنظيما لهم في العام 1975 وكان عددهم حوالي مائة شاب انضم إليهم في بدية الثمانينات آخرون من الخريجين الجدد الذين درسوا في الخارج ..
ويبدو ن أحد الأسباب الهامة التي دفعت إلى تأسيس تنظيم لـ "الإخوان" في بلد صغير مثل قطر هو الخوف من قدرة أنصار حركة "فتح" الفلسطينية على استقطاب بعض عناصر الإخوان وضمهم إلى صفوفها .
غير أن تنظيم الإخوان في قطر اتسم منذ البداية بما أسماه النفيسي (رصانة وجدية) في طرح أسئلة عن مغزى العمل التنظيمي ومستقبله وقرر أعضاءه في النهاية إجراء دراسة توصلوا في ضوئها عام 1999 إلى حل التنظيم وتبليغ التنظيم الدولي للإخوان بهذا القرار ..
أما تنظيما الكويت والبحرين فقد واصلا نشاطهما وتنامي دورهما بالرغم من الأزمة التي حدثت بين إخوان الكويت ومعظم "إخوانهم" في البلاد الأخري إثر الغزو العراقي عام 1990 وهو ما سنعود إليه لاحقا .
وقد أصبح الإخوان الآن جزءا أساسيا ف يالحالة السياسية الكويتية إلى جانب السلفيين والشيعة وكذلك الأمر بالنسبة إلى إخوان البحرين حيث يوجد قدر لموس من التقارب في الخيطة الاجتماعية للبلدين .
ونجح إخوان البحرين في الحفاظ على علاقات قوية مع السلفيين بالرغم من التحولات السلبية التي طرأت على العلاقة بين قيادة "الإخوان" في مصر ومركز السلفية الإسلامية في السعودية وخاض الإخوان جمعية المنبر الوطني الإسلامي والسلفيون (جمعية الأصالة) الانتخابات النيابية عام 2006 ضمن قائمة وحدة ولكن ليس على أساس برنامج موحد لمواجهة الحركة الشيعية التي تتصدر المشهد الإسلامي السياسي في البحرين .

ثانيا:إدارة العلاقات بين تنظيمات الإخوان

العلاقة المرتبكة

(أ) الموقف من الكفاح المسلح عقب هزيمة 1967

لم يطرح "الإخوان" على أنفسهم قضية العمل المسلح ضد إسرائيل منذ أن شاركوا في حرب 1948 وحتى 1967 تساوي في ذلك التنظيمان الفلسطيني والأردني واللذان كان هناك الكثير من التداخل بينهما وتنظيمات البلاد الأخري ..
غير أن الوضع اختلف عقب هزيمة 1967 حين اكتسبت المقاومة الفلسطينية المسلحة أهمية خاصة في نظر قطاعات متزايدة من الشعوب العربية واخذ الحديث عن هذه المقاومة باعتبارها "أنيل ظاهرة عربية " ينشر في ذلك الوقت ..
ولذلك كن لزام على الإخوان أن يواجهوا السؤال عن موقفهم من هذه المقاومة ودورهم فيها وكان الموقف الذي تبنه التنظيمات الفلسطيني والأردني في ذلك الوقت مؤداه ن الأولوية لبناء الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي وأن هذا هو طريق المقاومة الحقيقية والسبيل إلى تحرير فلسطين كاملة وهذا هو الموقف الذي تبناه الإخوان الفلسطينيون والأردنيون بعد حرب 1948 حين نأوا بأنفسهم عن دعاوي المواجهة العسكرية والكفاح المسلح فالمقاومة المسلحة وفق هذا الموقف تصبح عدمية ما لم تتوفر مقوماتها الإسلامية .
ولم يتغير هذا الموقف عندما تعرض إلى تحد في الميدان من حركة "فتح" وجناحها العسكري الأول "العاصفة" الذي أعلن الكفاح المسلح في أول ينير 1965 .
غير أن هذا التحدي لم يؤثر في موقف الإخوان حتى بعد أن شارك بعض كوادرهم في تأسيس "فتح" وتولوا قيادتها مثل سليم الزعنون وخليل الوزير وكمال عدوان وصلاح خلف ورفيق النتشة ومحمود عباس .
وقد انتقد الإخوان الفلسطينيون والأردنيون مشروع "فتح" على أساس أنه يقوم على افتراضي وهمي لا يمكن تحقيقه لأن الدول العربية لا تسمح بالتحرك العسكري الفلسطيني .
ومع ذلك كان الإخوان الفلسطينيون أكثر إيجابية في نظرتهم إلى حركة " فتح " مقارنة بالأردنيين الذين تعاملوا معها باستخفاف شديد مصحوب بالتندر عليها ومن ذلك مثلا قولهم إنها تستأجر بعض المدربين لإطلاق بعض الطلقات النارية أو نسف أنبوب مياه ثم تعمل من الحبة قبة .
وقد ظل إخوان الضفة الغربية جزءا من التنظيم الأردني حتى 1967 كما أن بعض أهم قادة هذا التنظيم هم من أصل فلسطيني وبعض أبرز قادة التنظيم الفلسطيني يقيمون في الأردن ويحملون جنسية أردنية ولكن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك خلافات بين التنظيمين فقد كان لـ "الإخوان" الفلسطينيين ملاحظات معظم الوقت على العلاقة الوثيقة بين إخوانهم الأردنيين والنظام الهاشمي وهي علاقة تكن مريحة لكثير منهم مما أدي إلى عدم اطمئنانهم لأداء قيادة " إخوان الأردن " في بعض الأحين .
وأكثر من ذلك هناك من يري أن "إخوان" الأردن توجسوا في البداية من إنشاء تنظيم إخواني فلسطيني مستقل خوفا من أن يتخذ موقفا متشددا ضد الملك حسين مما يؤثر سلبا على علاقتهم الودية معه .
وبالرغم من أن الظروف اختلفت بعد هزيمة 1968 وأخذت المقاومة المسلحة تكتسب شعبية متزايدة فقد ظل "الإخوان" الفلسطينيون على تحفظهم تجاها وحافظوا على مبدأهم لقائل إن فعلية هذه المقاومة تتوقف على تحويل المجتمعات العربية في اتجاه إسلامي كما جادلوا بأن القوي المسيطرة على الساحة العربية وعلى ساحة العمل الفدائي نفسه معادية لـالإخوان لن تسمح لهم بأى دور .
ولكن لم تمض عدة أشهر بعد حرب 1967 حتى أعاد "الإخوان" الأردنيون النظر في موقفهم جزئيا خشية تعرضهم لعزلة تامة .
فقد ازدحمت الأردن بدءا من أوائل العام 1968 بمنظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة من كل لون وخوفا من أن يكون مآلهم إلى هامش أو زاوية ضيقة فكر "الإخوان" ألردنيون في فتح معسكر للتدريب وأيدهم في ذلك "الإخوان" في مصر معظم "الإخوان" السوريون وكان أول كبير وواضح ومتبلور بين تنظيمات "الإخوان" يفرض نفسه على الإطار الجامع لتلك التنظيمات في ذلك الوقت وهو المكتب التنفيذي للإخوان في الدول العربية .
ووجه "الإخوان" الفلسطينيون نقدا شديدا إلى إخوانهم الأردنيين واتهمومهم بالتراجع عن موقف مبدئي خوفا على أمنهم الذاتي وليس إيمانا بأن ساعة الجهاد قد حانت .
وكان رأي ممثل التنظيم الفلسطيني في المكتب التنفيذي للإخوان هو أن إخوان الأردن كانو متوجسين من التنظيمات الفلسطينية المسلحة وأنصارها من الشيوعيين والبعثيين والناصريين وخشوا أن يكون مصيرهم التصفية الجسدية ولكنهم استنكفوا الاعتراف بذلك وإعلان مخاوفهم ورفعوا راية الدعوة إلى إنشاء قوة إخوانية فدائية في الأردن .
وفضلا عن الخلاف الذي آثاره الموقف من هذه القوة بين تنظيمات "الإخوان" على نحو كشف افتقارهم إلى رؤية مشتركة واضحة وتصور متكامل فقد حدث انقسام في داخل بعض هذه التنظيمات وخصوصا التنظيم السوري ..
فقد تبني المراقب العام " الإخوان " سوري في ذلك الوقت عصام العطار والذي كان مقيما في الخارج موقفا مختلفا عن الاتجاه الرئيسي لتنظيمه والذي شهر "الإخوان" الفلسطينيين تحفظهم على إنشاء قوة إخوانية مسلحة .
وكان منطق العطار هو أنه يريد الموازنة بين موقف "الإخوان" السوريين والحاجة إلى موقف إخواني موحد ولكن حين عقد اجتماع المكتب التنفيذي للإخوان في عمان بالأردن في بداية 1969 انحاز العطار بشكل حاسم إلى مؤيدي إقامة معسكر فدائي في الأردن؛
وبذلك أصبح هذا الموقف يحظي بأغلبية واضحة بعد انضمام تنظيمي لبنان والعراق إلى التنظيمات العربية والأردنية والكويتية والسودانية واتخذ العطار موقفا في الاتجاه نفسه يختلف مع الميل العام في التنظيم السوري بدعوي أن له دالة على إخوانه في سوريا تحملهم على الاستجابة لطلبه .
غير أن موقف العطار هذا خلق انقساما حادا في التنظيم السوري إذ تخذ مجلس شوري التنظيم موقفا قويا ضد خطة الإعداد للعمل "الإخواني" المسلح وأرسل وفدا لمقابلة العطار في بيروت وإبلاغه ضرورة الالتزام بهذا الموقف .
وتفاقم الموقف في التنظيم السوري دون أن يكون للمكتب التنفيذي أى دور في معالجته مثلما لم يكن له أى تأثير في معالجة الخلاف بين تنظيمات "الإخوان" كما لو أن هذا المكتب كان مجرد ساحة يلتقي فيها ممثلو هذه التنظيمات ويعقدوا ندوات للنقاش .
وأصر مجلس شوري "الإخوان السوريين" على منع مشاركة أى سوري له علاقة بالتنظيم في معسكر الأردن الذي تولي قيادته د. إسحق الفرحان (أول أمين عام لحزب لألأجبهة العمل الإسلامي الذي أسسه إخوان الأردن بعد أكثر من عشرين عاما)
ولم تنته لأزمة التي خلقها ذلك الخلاف في داخل التنظيم السوري باستقالة عصام العطار ومغادرته إلى ألمانيا فقد خلقت انقساما ذا طابع جهوي إذ انحاز إليه تنظيم "الإخوان" في دمشق في مواجهة "إخوان" حلب الذين قادوا المعارضة ضده وأدي ذلك الانقسام إلى مهاترات لا حدود لها واتهامات متبادلة بالحملة استمرت لأكثر من عامين .
وهكذا أظهرت أزمة الخلاف على إقامة معسكر وإخوني للتدريب على المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي مدي هشاشة العلاقة بين تنظيمات الإخوان وفي داخل بعضها أيضا ولم يمض وقت طويل حتى تبين أن القضية التي أحدثت كل هذه الأزمة مفتعلة وأن "إخوان" الأردن الذين تبنوا خطة إقامة المعسكر الفدائي غير جادين مثلما تهمهم إخوانهم الفلسطينيون وآخرون معهم فما أن نشبت زمة الحرب الأهلية في العام 1970 حتى أنهي " إخوان " الأردن المعسكر وطووا خيامهم وارتحلوا محاولين في البداية عدم التورط في الصدام بين الجيش الأردني والمقاومة .
ومع ذلك لم يسلموا من تهمة الخيانة التي رماهم بها كثير من قادة التنظيمت الفلسطينية خصوصا مع انتقال د. اسحق الفرحان من قيادة معسكر "الإخوان" الفدائي إلى منصب وزاري ففسرت منظمات المقاومة الفلسطينية ذلك باعتباره تواطؤ ومكافأة لـ " الإخوان" الذين اضطرت قيدتهم في الأردن إلى فصل د. الفرحان لبعض الوقت وإعلان أنه قبل المنصب الوزاري دون استشارة قيادة التنظيم وموفقتها .
وهكذ لم يكن إنشاء معسكر فدائي للتدريب والإعداد للمقاومة تغيرا في وقف إخوان " الأردن" ولا في الموقف الإخواني العام الذي أعطي الأولوية القصوي لبناء الإنسان والمجتمع على أسس إسلامية وأرجأ المقاومة المسلحة وتجنب بلورة استراتيجية جهادية تقليدية مكتفيا بطرح المبادئ العا مة وتأكيد الحتمية الإسلامية المستقبلية التي تبدأ بالعودة الذاتية للإسلام عبر أساليب الدعوة والتربية ..
ولم يحدث التحول في موقف حركتي الإخوان الأردنية والفلسطينية باتجاه إعلان الجهاد إلا مع تفجر الانتفاضة في آخر 1987 فقد أكدت هذه الانتفاضة إمكانية استنهاض الشعب الفلسطيني لمواجهة شاملة قبل إيجاد المجتمع الإسلامي الصالح .
كما أن الأجيال الجديد من "الإخوان" صبحت أقل استعداد لقبول فكرة تأجيل الجهاد حتى تتوفر شروطه الإسلامية .
وكان إنشاء حركة "حماس" ذروة هذا التحول وقد سبق تأسيسها اجتماع "إخواني" في 9 ديسمبر 1987 حضره الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإبراهيم اليازودي وصلاح شحادة وعيسي النشار ومحمد شمعة وعبد الفتاح دخان .
وفي 14 من الشهر نفسه أصدر "الإخوان" بيانا في قطاع غزة دعوة فيه الشعب للوقوف في وجه الاحتلال الإسرائيلي واعتبرت "حماس" فيما بعد هذا البيان بمثابة النداء الأول الصادر عنها وقام أقطاب "الإخوان" في غزة بالتنسيق مع نظرائهم في الضفة وكلف الشيخ ياسين أحد قادة "الإخوان" في غزة وهم جميل همامي (من خطباء المسجد الأقصي) العمل مع "إخوان" له لإنشاء فرع لحركة "حماس" في الضفة.
وشكل همامي حلقة الوصل بين ياسين وقيادة "حماس" في الضفة وكذلك بينه وبين قيادة " الإخوان " الأردنيين الذين تولوا توفير دعم مالي للإنتفاضة .
وهكذا يبدوا أن تأسيس "حماس" حدث عبر خطوات بدأت في غزة وانتقلت إلى الضفة حيث تلقفها شبان من "الإخوان" كانوا متحمسين للإنخراط في المقاومة بلا تردد بخلاف شيوخ "الإخوان" الذين اتسمت مواقفهم في البداية بالحذر ولكنهم لم يلبثوا أن حسموا مرهم حين صارت الانتفاضة حقيقة واثقة وقد صدر ميثاق "حماس" في أغسطس 1988 لينص في مادته الثانية على أنها

جناح من الموقف المعهود "الإخواني" من أسس القضية الفلسطينية كالتالي:

  • أن الهدف هو رفع راية الله على كل شبر من أرض فلسطينية (المادة 6)
  • أن أرض فلسطين أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ولا يصح التنازل عن جزء منها (المادة11)
  • أن الوطنية جزء من العقيدة الدينية (المادة12)
  • أن الحلول السلمية تتعارض مع عقيدة الحركة لأنها تقود إلى التفريط في جزء من الأرض وهو يعني تفريطا في جزء من الدين (المادة 13)
والجديد في هذا الميثاق هو إعلان الجهاد الفوري وهو ما تم تبريره بأن (الفكرة نضجت والبذرة نمت في أرض الواقع بعيدا عن العاطفة المؤقتة والتسرع المذموم ولذلك انطلقت حماس لتأدية دورها مجاهدة في سبيل ربها)
ومع ذلك فقد ظل الميثاق يؤكد على أن (الجهاد يتطلب نشر الوعي الإسلامي في أوساط الجماهير محليا وعربيا وإسلاميا) وخصص المادتين 15,16 لإيضاح ذلك.
وتزامن هذا مع تحول في موقف حركة "الإخوان" الأردنية وكان أوضح تعبير عنه في البيان الذي صدر عنها بمناسبة مؤتمر مدريد وجاء فيه أنه (لا يجوز لأحد من حكام العرب والمسلمين أن يتنازل عن شبر واحد من أرض فلسطين والقاعدة الفقهيه هي أنه إذا وطأ شبرا من ديار المسلمين أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة)
وعلى هذا النحو توافقت حركتا "الإخوان" ومختلف الحركات الإسلامية الأردنية والفلسطينية على رفض عملية التسوية واتفقت على الإلتزام بمبدأ عدم مفاوضة اليهود ومواصلة الجهاد على كل المستويات واعتبرت أن مؤتمر مدريد يقود إلى تصفية القضية الفلسطينية وتثبيت الوجود الصهيوني الباطل وإطلاق يده في الهيمنة على المنطقة وإنشاء إسرائيل الكبري .
لكنها تباينت في أسلوب التعبير عن هذا الموقف فقد بادر الإخوان في الأردن بتنظيم مسيرة احتجاج يوم انعقاد مؤتمر مدريد الذي تم إعلانه يوم حداد وشاركت فيها قوي أردنية أخري ..
أما "حماس" فقد أعلنت عزمها على مقاتلة إسرائيل جيشا ومستوطنين ودعت إلى إضراب شمل في الأرض المحتلة وحرصت على التنسيق مع المنظمات الفلسطينية المعارضة.
وظلت هذه الحركات تتخذ موقف الرفض تجاه المفاوضات العربية الإسرائيلية مع الدعوة لوقفها أو الانسحاب منها وهاجمت جماعة الإخوان في الأردن الاتفاق بين الوفدين الأردني والإسرائيلي على جدول أعمال المفوضات في أول نوفمبر 1992 واعتبرته إعلانا لمبادئ صلح مع إسرائيل وتمهيدا لتطبيع كامل معها وتراجعا عن ثوابت أردنية مثل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967 والالتزام بتحرير القدس وطالبوا بسحب الوفد الأردني ومحاسبه على تجاوز هذه الثوابت ..

وفي الوقت نفسه كانت "حماس" تطالب في بيان مشترك مع الجبهة الشعبية بسحب الوفد الفلسطيني من واشنطن وتتهم ما أسمته (فريق مدريد وواشنطن) بالإذعان للضغوط الأمريكية والصهيونية وتؤكد على تصعيد الكفاح المسلح ضد إسرائيل.

(2) الموقف تجاه الصراع بن الإخوان والنظام في سوريا:

لم تكن االانتقادات التي تعرض لها "إخوان" سوري من "إخوانهم" في بلاد عربية أخري وخصوصا الأردن بسبب حوارهم مع نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام لدي انشقاقه عن النظام السوري في منتصف العام 2004 مجرد تعبير عن اختلاف في تقدير موقف طارئ أو تباين في النظر إلى مسألة عابرة .
فهذه الانتقادت التي رد عليها بحدة المرشد العام لـ " الإخوان" في سوريا في ذلك الوقت على صدر الدين البيانوني تدل على غياب رؤية مشتركة بين تنظيمات الإخوان بشأن أوضاع المنطقة في لحظة تحول تاريخي تمر فيها وبخصوص كيفية التعامل مع هذه الأوضاع وفيما يتعلق بمستقبل المنطقة .
فقد ارتبطت الملاسنات بين إخوان سوريا والأردن بقضية لها علاقة وثيقة بالموقف تجاه المشروع الأمريكي في المنطقة ولا تقتصر دلالة تلك الملاسنات على خلاف بشأن طريقة التعامل مع هذا المشروع وإنما تشر كذلك إلى تعارض بدرجة ما في فهم طبيعته .
ويرجع ذلك إلى اختلاف ظروف كل تنظيم ومشكلاته وبالتالي أولوياته فـ "الإخوان" السوريون الذين طالت محنتهم بحثوا عن أى سبيل للضغط على النظام الحاكم في دمشق وإذ تعذر إنتاج هذا الضغط داخليا واشتد في الوقت نفسه الإحباط وتتراكم الأعباء يصبح السع إلى استجلاب الضغط الغائب داخليا من الخارج واردا .
وهذا مر لم يستطع أن يستوعبه "إخوان" الأردن الذين لم يجربوا في تاريخهم المحن التي توالت على إخوانهم في بلاد أخري ولذلك فعندما اتجه المراقب العام لـ "الإخوان" في سوريا على صدر الدين البيانوني إلى فتح حوار مع عبد الحليم خدام الذي شاع اعتقاد في أن انشقاقه على النظام في دمشق حدث بترتيب مع الأمريكيين شن بعض قادة إخوان الأردن هجوما حادا على موقف الإخوان السوريين؛
فبدأوا بمعارضة الحوار مع النائب السابق للرئيس السوري وانتهوا إلى أن مثل هذا الحوار يخدم المصالح الأمريكية وأنه بالتالي (مرفوض جملة وتفصيلا) و"الإخوان" في الأردن لا يعترفون بنتائجه أو ما سيتمخض عنه من قرارات غير حد تعبير النائب على أبو سكر أحد قادة "إخوان" الأردن ورئيس هيئة حزبهم (جبهة العمل الإسلامي) في مجلس النواب ..
وحذر إخوان "الأردن" من (عقد تحالفات لصالح الإدارة الأمريكية) ورد مراقب "إخوان" سوريا في أربع نقاط رئيسية الأولي هي أن (إخوان الأردن لا يعرفون الشأن السوري أكثر منا) والثانية هي أنه (لو كان هؤلاء عانوا جزءا بسيطا من الاعتقال والتعذيب والاستبداد الذي تعرضنا له لكانوا أكثر قدرة على محاكاة الوضع)
والثالثة هي أن (إخوان الأردن كانوا يأتون إلى دمشق ويفاوضون السيد خدام حسين كان في السلطة والآن يرفضون ذلك بعد ن انحاز إلى المعارضة بالرغم من إعلاه أنه ضد التدخل الأجنبي) والرابعة هي أن (الاتهام بخدمة المصالح الأمريكية يبعد عن الحقيقة)
وجاء حوار البيانوني خدام هذا في إطار التحول التاريخي الذي حدث في اتجاه "إخوان" سوريا من العمل السري المسلح ضد النظم في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضى إلى النضال السلمي الديموقراطي والتوافق مع قوي المعارضة الأخري ..
وبلغ هذ التحول ذروته لدي إعلان (المشروع السياسي لسوريا المستقبل) في ديسمبر 2004 والذي مهد لمشاركة الإخوان في إصدار (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي) في نوفمبر 2005 إلى جنب تنظيمات وشخصيات قومية وليبرالية ويسارية .
وشمل هذا التحول في اتجاه "إخوان" سوريا إعادة صوغ موقفهم تجاه الصراع مع إسرائيل وإعلان استعدادهم للتفاوض معها إذا وصلوا إلى السلطة ورد البيانوني على انتقادات تعرض لها أيضا بسبب هذا الموقف قائلا:(إذا قادت المحدثات إلى الانسحاب من الجولان المحتلة ومنحت الفلسطينيين حقوقهم فأين الخط في ذلك)
وقد لعب علي صدر الدين البيانوني دورا كبيرا في دعم هذا التحول منذ توليه منصب المراقب العام في العام 1996.
وبالرغم من أنه تحول ينسجم مع الاتجه العام لتنظيمات "الإخوان" منذ ثمانينات القرن العشرين إلى العمل السلمي الديموقراطي بما في ذلك اتجاه التنظيم الأمر في مصر وقيادته فقد اتسمت العلاقة بين البيانوني وهذه القيادة بالفتور
ولذلك فعندما نتخب محمد رياض شقفة مراقبا عاما في يوليو 2010 بدل البيانوني كان هناك عتقاد واسع في أن القيادة المحافظة لـ "الإخوان المسلمين" في مصر دعمت هذا التغيير وفضلا عن تكريس الاتجاه المحافظ في الجماعة الأمر سيطرته أدي إلى ترسيخ النفور من البيانوني؛
فقد ساهم في ذلك أيضا النفوذ الذي يتمتع به التنظيمان الأردني والفلسطيني (حركة حماس بالأساس) لدي القيادة العامة لـ الإخوان في مصر وهما تنظيمات ربطتهما بالنظم في دمشق علاقة طيبة وإن تفاوت مداها في الوقت الذي نجح البيانوني في استعادة دور إخوان سوريا وتشكيل تحلف معارض واسع ضد هذا النظام.
وبالرغم من أن قيادة الإخوان فيالقاهرة لم تتخذ موقفا نقديا علنيا ضد البيانوني والاتجاه الذي يؤيده في التنظيم السوري فهناك ما يفيد أن هذه القيادة لم ترتح إلى إعاد انتخابه مراقبا للمرة الثالثة في أغسطس 2006 في ذورة الخلاف الذي أثاره الحوار الذي فتحه مع عبد الحليم خدام .
فالبرغم من أن البيانوني طلب عشية الانتخابات التي أجريت في اجتماع لمجلس شوري " إخوان " سوريا عقد في لندن إعفائه وانتخاب مراقب عام جديد فقد صوت المجلس لصالح إعادة انتخابه وفشل منافسه محمد فاروق طيفور المعروف بأنه على علاقة وثيقة مع مكتب الإرشاد العام فيالقاهرة في إثبات وجود له؛
ولعل هذا يفسر الاعتقاد في أن دعما تلقاه الاتجاه المحافظ المعارض للبيانوني في التنظيم السوري من القيادة العامة في مصر وتنظيمات إخونية أخري ساهم في صعود هذا الاتجاه إلى القيادة وتولي أحد قادته (محمد رياض شقفة) منصب المراقب العام في يوليو 2010 وإذ صح ذلك تكون هذه إحدي الحالات القليلة التي ارتبط فيها تطور في أحد تنظيمات إخوان بتأثير القيادة العامة في مصر .
غير أنه في كل الأحوال فقد ثبت أن تنظيمات "الإخوان" تفتقد إلى قنوات للحوار الجاد وآليات لحل الخلافات التي يمكن أن تتفاقم وتسئ إلى الحركة في مجملها ومن اللافتللإنتباه في أزمة الخلاف بين "إخوان" سوريا وإخوانهم خصوصا في الأردن أن التنظيم الأردني كان قد لعب دورا مشهودا في السعي إلى اى نوع من المصالحة بين "الإخوان" والنظام في دمشق وعندما فشل هذا الدور لأسباب تعود إلى سياسة النظام أكثر مما ترجع إلى موقف "الإخوان" ارتبكت العلاقة بين التنظيمين في سورية والأردن وأربكت غيرها أيضا .
وهذا بدوره مؤشر قوي على ضعف هيكلي في بنية الحركة الإخوانية بوجه عام فقد عجزت الوساطة الإخوانية الأردنية التي لعب الدور الأكبر فيها د. اسحق الفرحان 96 -1997 عن تجسير الفجوة الهائلة بين موقفي الطرفين فقد أصر النظام السوي على أن يعلن " الإخوان" ندمهم وتوبتهم وهذا شرط وضعه الرئيس حافظ الأسد وطبقه على خصومه جميعهم بمن فيهم زملائه السابقين في القيادة الذين انقلب عليهم في نوفمبر 1970 وألقي بهم في السجون حيث مات فيها من رفضو ذلك الشرط مل صلاح جديد ونر الدين الأتاسي .
وبينما قبل "إخوان" سوريا أن يعودو بموجب عفو عام من الرئيس وان يعلنوا تعهدهم بعدم العودة إلى العنف فقد صمموا في المقابل على أن يكون ذلك من خلال إعلان سياسي وليس عبر طلب استرحام كما أصرو على أن يكون لهم حزب سياسي و جمعية اجتماعية معترف بها ون يستقبلهم النظام في إطار إصلاح سياسي ..
وكان البيانوني مؤيدا بقوة لوساطة "إخوان" الأردن التي جاءت بعد أشهر على توليه منصب المراقب العام لـ "الإخوان" في سوريا للمرة الأولي في العام 1996 غير أنه ما كان لهذه الوساطة أن تنجح لأسباب موضوعية فلم يكن هناك تكفؤ بين النظام و" الإخوان " فقد انتهت المواجهة الدموية الطويلة بينهما بانتصار حاسم للنظم وضربة قاصمة لهم ولذلك أصر الرئيس حافظ الأسد على أن الطريق إلى عودتهم هو إعلان الندم والتوبة بوضوح لا لبس فيه وأن هذه العودة ستكون لهم كأفراد وليس تنظيما من أى نوع.
وهذا هو ما كان الأسد قد أبلغه إلى إخوان سوري عبر وسطاء سبقوا إخوان الأردن.ولم يأخذ النظام السوري في اعتباره أهمية التحول الذي حدث في اتجاه "الإخوان" أو على الأقل في موقف قيادتهم لأن طبيعة التنظيم "الإخواني" المغلق تجعل من الصعب توقع حقيقة المواقف في قواعده وحتى في مستوياته الوسيطة في ظل نمط تنشئة تقليدي لا يربي القواعد على الانفتاح والحوار وإعمال العقل والتسمح والتنافس السلمي وقد لا تبدو فيه الحدود فاصلة بما يكفي بين الجهاد ضد عداء الأمة ومغتصبي حقوقها والجهاد من أجل بناء الأمة.
غير أن البون بات شاسعا بين ما كنت عليه قيادة "الإخوان" في سبعينات وبداية ثمانينات القرن العشرين وما آلت إليه في نهاية هذا القرن ومطلع القرن الحادي والعشرين
فكانت قيادة السعبينات قد عجزت عن ضبط حركة تنظيم "الإخوان" مما أدي إلى ازدياد المؤمنين بضرورة الجهد المسلح ثم أخفقت في إدارة الأزمة الداخلية التي ترتبت على ذلك فنتج عنها خروج مجموعات من الشبان الذن نفذوا عشرات الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وزرع القنابل والعبوات النسفة فاشتد الاضطراب خصوصا أن بعضهم كانوا ضباطا وجنود في الجيش وأجهزة الأمن ..
وعندما خشيت قيادة "الإخوان" في العام 1979 ما يمكن ن يؤول إليه الوضع وأبدت استعدادا للتفاهم مع النظام والتعاون في موجهة من اعتبرتهم خارجين على صفوف الجماعة كان الوقت قد مضي لأن حركة هؤلاء الذين ملأوا البلاد عنفا انفلتت ولم يعد ممكنا وضع حد لها .
ولذلك فقبل أن يتم تفعيل التعاون بين النظام والإخوان وقعت مذبحة مدرسة المدفعية في حلب في يونيو 1979 فكان أن شن الأمن حملة مكثفة شملت قادة الإخوان مما أدي إلى تفاقم الموقف إذ انضم عدد غير معروف من شبان الإخوان إلى مجموعة من المنشقين كانوا قد أسسوا تنظيما صغيرا عنيفا (الطليعة المقاتل) ومع تصاعد الاضطراب والضربات لأمنية العشوائية قررت قيادة إخوان سوريا النزول إلى ساحة العنف وتبين أن تنظيم الإخوان يضم مجموعات مسلحة ومدربة جيدا تم إعدادها مسبقا منذ بداية السبعينات لمواجهة مسلحة آتية ضد النظام .
وتواصل التصعيد المتبادل كما هو معروف للكثيرين إلى أن بلغ الذروة عند محاولة "الإخوان" الاستيلاء على مدينة حماة وعزلها في مطلع العام 1982 وتدخل الجيش للقضاء على التمرد بعد أربعة أسابيع من القتال الضاري الذي راح ضحيته آلاف المدنيين الأبرياء .
وحين يكتب تاريخ هذه المرحلة بشكل تفصيلي فالأرجح أنه سيتضح الأثر الفادح الذي ترتب على لجوء قيادة " إخوان " سوريا إلى العراق وتحولها لبعض الوقت إلى أداة في صراع بعثي عبثي في غيبة أى دور لقيادة "الإخوان" العامة في مصر وتنظيماتهم الأخري علما بأن التيار الغالب حينئذ بين "إخوان" سوريا ارتكب ذلك الخطأ في الوقت الذي كانت الاتصالات جارية على قدم وساق لتأسيس التنظيم الدولي الذي أعلن بالفعل في 29 يوليو 1982.
فقد وقفت تنظيمات "الإخوان" متفرجة على إخوان سوريا وهم يضعون أنفسهم وقودا في صراع بين دولتين لا ناقة لهم فيه ولا جمل إلا الأمل الواهم في أن يساعدهم النظام العراقي على إسقاط النظام في دمشق ..
وكان هذا طريقا مسدودا لا رجاء فيه وحين بدأ إدراك هذا الخطأ تم إبعاد عدنان سعد الدين المراقب العام الذي يتحمل المقدار الأكبر من المسؤولية عن تلك الكارثة وتنصيبد حسن هويدي الذي سعي إلى فتح أى قنوات مع النظام السوي اعتبارا من العام 1987 بمعاونة نائبه على البيانوني الذي خلفه بعد ذلك في العام 1996
وكل منهما معروف علي أنه رجل حوار كما أنهما كانا قد عارض التورط في الصدام المسلح ضد النظام وغادر سوري عندما تصاعدت المواجهة في العام 1979 ورفضا المشاركة في قيادة العمل المسلح غير أن جهودهما باءت بالفشل ولن تحظ بدعم يذك من قيادة "الإخوان" العامة في مصر وتنظيماتهم الأخري في الوقت الذي كان التنظيم السوري مثقلا بآثار الانقسام الدخلي وبمواقف وتحركات أعضائه الذين ظلوا مصرين على التعاون مع النظام العراقي أو بالأحري الارتهان له .
ولم يكن المراقب العام هويدي قادرا على حسم اتجاه "إخوان" سوريا بعيدا عن تأثير النظام العراقي وأنصاره المقيمين في بغداد والمتحالفين معها الذين دفعوا نحو خطا آخر عندما وقفوا إلي جانب العماد ميشال عون ضد سوريا في لحظة حاسمة في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية .
ولما كان مكتب الإرشاد العام وتنظيمات "الإخوان المختلفة" وقفت متفرجة على محنة "إخوان" سوريا ونزق قيادتهم التي أخذتهم إلى الكارثة في السبعينات وأوائل الثمانينات وتركتهم للنظام العراقي الذي تلاعب بهم فقد كان هذا دليلا تجريبيا على وجود خلل عميق في العلاقة بين هذه التنظيمات؛
ولأن كان هذا الخلل أعمق حين ترك التنظيم السوري يرتكب أخطاء لا يمكن إلا أن تنعكس على التنظيمات الأخري فهو لا يخلو من عمق وخطر أيضا عندما يتدخل أحد هذه التنظيمات في شؤون آخ منها بشكل عشوائي يثير الاستفزاز في غياب قنوات محدودة ومقننة للتشاور والتداول وتبادل النصح وفي ظل افتقاد آليات موضع توفق للتعامل مع قضايا أو مشكلات تخص أحد التنظيمات ولكنها تؤثر بشكل مباشر على حركة "الإخوان" في مجملها.

(3) الموقف من أزمة الغزو العراقي للكويت

فاجأ الرئيس العراقي السابق صدام حسين "الإخوان المسلمين" بغزو الكويت وقعت المفاجأة على رؤوس "الإخوان" السوريين وقع الصاعقة كانوا ينتظرون أو بالأحري يتخيلون أن يتحرك صوب دمشق لإسقاط نظام الأسد عبر تدخل متعدد الجوانب وليس عسكريا بالضرورة فإذا به يتحرك ليس فقط لإسقاط نظام آل الصباح ولكن أيضا لإلغاء الكويت من خريطة دون العالم .
غير أن المفاجأة لم تقتصر على "الإخوان" السوريين وإلا لهان أمرها وقل أثرها كانت المفاجأة من القوة إلى الحد الذي أربك "الإخوان" في كل مكان وقيادتهم في مصر فمن بين ضحايا غزوة صدام حسين "الإخوان المسلمين" في الكويت؛
ولم يكن ممكنا إلا بالمنطق ولا بالعقل ولا بسلامة الفطرة ولا بى معيار إلا أن يقف إخوان الكويت ضد غزوة اقتلعتهم مثلما فعلت في غيرهم من الكويتيين فالمسألة ليست تدخلا لإسقاط نظام و إحداث تغير سياسي بحيث يمكن لـ "إخوان" الكويت أن يناقشوا مع إخوانهم في بلاد أخري كيفية صوغ موقف مشترك .
كانت المسألة اقتلاعا وإلغاء مما لا يمكن لأى كويتي إلا أن يرفضه أيا كان نوع العلاقة بين انتمائه الوطني وارتباطه بفكرة أممية وحركة دولية النشط وتنظيم يعتبر الإسلام وطنه.
وترتيبا على ذلك لم يكن ممكنا لـ "إخوان" الكويت أن يتحملوا المواقف التي اتخذها إخوانهم في كل مكان لأنها على تنوعها ظلت بعيدة عن رفض إلغائهم مع وطنهم بشكل واضح وكان طبيعيا أن يشعروا بأن إخوانهم "باعوهم"
فلم يكن في المواقف التي اتخذتها تنظيمات "الإخوان" ما يمكن ن يلبي الحد الأدني مما تصور "إخوان" الكويت أنه حق لهم على إخوانهم فقد عجزوا عن فهم كيف يكون الترحيب الضمني بالغزو العراقي لبلدهم دعما للإسلام كما لم يفهموا كيف يمكن الجمع بين رفض هذا الغزو ثم الانشغال بالتعبئة ضد من تحركوا لإنهاء الاحتلال الذي ترتب عليه .
فالبرغم من تباين الموقف التي اتخذتها تنظيمت الإخوان تجاه غزو الكويت ففي الإمكان تصنيفها في ثلاثة اتجاهات رئيسية:أولها أدان الغزو بشدة وحسم وكاد أن يقتصر على "إخوان" الكويت والعراق والثاني حاول تبني موقف وسطي أو متوازن والثالث وقف مع النظام العراقي في النهاية من منطلق مواجهة الهجمة الغربية ..
والملاحظ أن هذا التباين لم يحل دون مشاركة الاتجاهين الثاني والثالث مع حركات إسلامية خري في جولة على دول الخليج أعقبت الغزو مباشرة غير أنه كان ملحوظا أيضا أن الاتجاه الأقرب إلى الوقوف مع النظام العراقي كان هو الغالب في وفد الحركات الإسلامية وخصوصا بعد أن منعت السلطات المصرية سفر المرشد العام في ذلك الوقت محمد حامد أبو النصر فتولي رئاسة الوفد مراقب إخوان الأردن محمد عبد الرحمن خليفة الأكثر اقترابا من النظام العراقي .
وفي غياب المرشد العام أو من ينوب عنه من قيادة الإخوان في مصر وفي ظل حضور قوي الحزب العمل (الأكثر اقترابا من الموقف العراقي) ممثلا بأمينه العام حينئذ عادل حسين تحت رئاسة مراقب "إخوان" الأردن جنح وفد الحركات الإسلامية نحو موقف النظام العراقي بأكثر مما حفظ على الوسطية التي حاول مكتب الإرشاد العام ومعظم تنظيمات "الإخوان" المحافظة عليها .
فقد خلا البيان الصادر عن الوفد من أى تعبير عن رفض الغزو العراقي للكويت بشكل مباشر اكتفاء بإشارته إلى (ما حل بالأمة الإسلامية من خلال زمة الخليج من فتنة بين المسلمين وتفريق صفهم وتآمر دولي رهيب لم يسبق له مثيل على أرض الأمة وثرواتها ومقدساتها مما يأباه الإسلام)
وإشارة أخري إلى أن (الإسلام حظر على أبنائه التدابر والتقاتل وبسط القوة فيما بينهم) واقتصر البيان على إعطاء "دروس" في مبادئ الإسلام بدءا من إصلاح ذات البين وأداء النصح ووصولا إلى الجهاد لرد العدوان .
وقد استفز ذلك البيان إخوان الكويت الذين ردوا منتقدين اعتبار الغزو اقتتالا يوجب على المسلمين إرسال وفود للصلح على نحو أعلنه بعد ذلك د. إسماعيل الشطي موضحا موقف إخوانه:

قائلا:

(إننا لم نكن في مرحلة اقتتال حتى يرسل التنظيم الدولي وفدا للمصالحة لقد بغي علينا وغدر بنا وما حدث ينطبق عليه قوله تعالي (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي) فلماذا الوساطة إذن وبين من ومن ؟ بين القاتل والضحية ؟ إن تشكيل هذا الوفد كان اللبنة الأولي التي شارك بها التنظيم الدولي في تعمية الجماهير المسلمة)
ولذلك لم يساعد وجود ممثلين لاتجاهين متباينين في عمل مشترك على هذا النحو دون استمرار الخلاف وانقسام الإخوان إلى ثلاثة اتجاهات :
(أ) الموقف الرافض للغزو بوضوح وحسم:
تبني هذا الموقف "إخوان" الكويت المقتلعون مع أبناء شعبهم و"إخوان " العراق الذين سبق أن عانوا تحت وطأة قهر نظام صدام ومذابحه .

وقد بني " إخوان" الكويت موقفهم على ما يلي:

  1. إن الغزو العراقي بغي وعدوان آثم لا يجوز لمسلم السكوت عليه أو التغاضي عن إدانته .
  2. رفض كل ما ترتب على الغزو من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها
  3. أن القوي الصليبية خصم تاريخي للإسلام وقد حذرنا الله منها ولكن النظام العراقي أشد خصومة للإسلام وأكثر حرب على أهله وأنه هو المتسبب في مجئ القوات الأجنبية إلى المنطقة .
  4. إدانة كافة التيارات والجماعات والأحزاب والشخصيات التي أيدت العدوان العراقي على الكويت وشعبها واستنكار موقف الذين لم ينكروا هذا العدوان أو صمتوا دون مبرر شرعي .
  5. وفضلا عن هذا النقد العام الذي يشمل مختلف تنظيمات " الإخوان" الأخري فيما عدا إخوان العراق فقد انتقد د. إسماعيل الشطي حد أبرز قادة "إخوان" الكويت موقف مكتب الإرشاد العام في رسالة وجهها إلى المرشد العام بدأها بإبداء تقديره (لاستجابتكم لمطلبنا بإصدار بين حول العدوان العراقي على الشعب الكويتي منذ اليوم الأول للغزو والذي أعلنتم فيه استنكار هذا الغزو وطالبتم شعوب العالم الإسلامي وقادته ببذل المساعي ليسحب العراق قواته) ولكنه لم يلبث أن واجهه بأن (موقفكم في النهاية انحاز للباغي بحجة أن أعداء الإسلام جاءوا لمحاربة الباغي)!
وبعد ن انتقد الشطي لجوء قيادة "الإخوان" إلى الوساطة بدلا من مقاتلة الباغي زاد على ذلك أن هذه الوساطة تحولت بسرعة إلى واسطة لدعم النظام العراقي معبرا عن دهشة لمن لا يفهم ن خطورة قوات الحزب الكافر في العراق أشد على الإسلام من خطورة القوات الأجنبية واستغرابه أن يعلن
"إخوان مسلمون" (إعجابهم التوجهات الإسلامية لسفاح العراق) ويشيدوا (بصمود من انتهك المحرمات كافة بالكويت) ويصفوا (أبناءنا المقاتلين عن شرفهم وأعراضهم وحرماتهم بقوت تحالف البغي والعدوان لمجرد أن أعداء الإسلام قرروا مساندتنا هي قتال الباغي)
سائلا المرشد العام:
(هل وجود الكفر الأمريكي على ضفاف الخليج يبرر لكم مساندة الكفر الصدامي أم أن الكفر إذا كان عربيا تنحاز إليه الشريعة الإسلامية وهل تسقط جريمة البغي لمجرد أن أهل الكتاب قرروا مقاتلة الباغي)

ومذكرا إياه:

(لقد طالبناكم ن تدينوا النظام العراقي على جرائمه ضد الشعب الكويتي وهذا واجب إسلامي تحثه عليكم مبادئ الشريعة وطالبناكم علي أقل تقدير أن يكون تأييدكم للجانب الإنساني كما طالبنا أن يتجاوز تأييدكم مجرد إصدار بيانات إلى تحريك الشارع لنصرة الحق؛
ولكن كما قال مندوبكم في مؤتمر طلابي بالشارقة م إحنا طلعنا بيانات بشأن الكويت هو التأييد يبقي إزاي ؟ إن التأييد الذي كنا نطالبكم به ونحن أهل حق هو كتأييدكم للعراق عندما حركتم الشارع وخرجتم بمظاهرات وعقدتم مؤتمرات وجمعتم التيارات الإسلامية كلها لتأييد العراق أم أن دماء الميسورين لا حرمة لها).

كما هاجم الشطي الموقف " الإخواني " لأنه (ساهم في حجب الأنظار عن مأساة أهل الكويت) واكتفي بالبيان الذي وقع عليه " الإخوان" مع تيارات إسلامية أخري وصدر في 17/2/1991

(مرددا المقولات العراقية ومنحازا بشكل واضح للنظام الباغي ومصورا ضرب هذا النظام وكأنه ضرب للإسلام وفي هذا استخدام خاطئ للمشاعر الإسلامية ..
لقد كان إعلام "الإخوان المسلمين" يركز على القوات الأجنبية وخطورتها ويصرف الأنظار عن مأساة الكويت ووجوب تحريرها وعن عداوة نظام الحزب العراقي للإسلام وخطورته على الدعوة الإسلامية وإذا كنت في شك من ذلك يا فضيلة المرشد فأين "الإخوان" العراقيون)

وعلى ذكر "إخوان" العراق الذين كانوا قد اكتووا بنار نظام صدام قبل دخولهم في الكويت فقد بادروا بتحديد موقفهم في بيان صدر بعيد الغزو أدان نظام صدام جملة وتفصيلا إذ بدأ بوصف نظام الحكم في العراق بأنه علماني .

وحزب البعث بأنه كافر لا نعلم عنه تدينا ولا احترام لشعائر الإسلام حتى لم يعد لهما في نفوس العراقيين سوي الكره وانتظار يوم الخلاص .

وحدد "إخوان" العراق موقفهم تجاه الغزو انطلاقا من أنه يحمل مفاسد أهمها:

  1. إلحاق الضرر البالغ بالعلاقة بين أبناء الأمة الواحدة .
  2. إتلاف الأنفس والأموال وترويع الآمنين وتشريدهم .
  3. إيجاد مبرر لدول الغرب وجيوشه للتدخل بحجة حماية المصالح وإعطاء ذريعة لإيران للقيام بغزو مماثل في حالة نجاح العراق في ضم الكويت .
  4. ضم الكويت إلى العراق يلحق الأذى بكل ما كان لذلك البلد من تقاليد خيرة وعطاء للعمل الإسلامي في الداخل والخارج.
  5. إيذاء مئات الألوف من العراقيين وغيرهم ممن كانوا ينعمون بأمن وسلام في الكويت فأصبحوا في ظل سيطرة العراق عليها غير آمنين وخصوصا المعارضين العراقيين الذين كانوا يجدون في أرض الكويت ملجأ لهم.
  6. إن صدام يحاول أن يلعب بالورقة الإسلامية ومع "الإخوان" على وجه الخصوص وهو بذلك يريد أن يدمر الصحوة بمخطط بعثي كافر رهيب وإننا نحذر إخواننا الذين يغازلهم صدام من أن ينزلقوا في هذا المخطط ويقعوا في حبائله وأن يصدقونا عندما نقول لهم ألا يأمنوا هذا الخبيث الذي لا أمان له ولا إيمان ونأسف للتجاوب الذي جري معه آملين أن يوقف الأمر عند هذا الحد وكفي .
  7. إن ما بلغنا من تأييد بعض تنظيمات "الإخوان" للعراق على أساس إخراج الأجنبي من المنطقة أمر مؤسف لأنه لا يحمل في ثناياه الوعي بالقضية وحسن المعالجة لها فالأجنبي برد دخوله بغزو البعثيين الكويت والكلام عن دخول الأجانب وإغفال الغزوة ويعوزه الإنصاف وحسن المعالجة كذلك فإنه مؤذ لأنه سجل موقفا "إخوانيا" يضر بأوضاع "الإخوان" في كل الخليج وأنتم تعلمون أثر مثل هذا الموقف على مجمل دعوة "الإخوان" العالمية وسوف تتطور هذه الآثار نحو الأسوأ ما دام "الإخوان" على هذه الصورة من التجزئة .

(ب) الموقف الوسطي الساعي إلى التوازن:

تبني مكتب الإرشاد العام هذا الموقف الذي تقرب منه معظم تنظيمات "الإخوان" والذي بدأ معتدلا بالقياس إلى موقف " إخوان " الأردن وسوريا الذين جمحوا في دفاعهم عن النظام العراقي ولكن ذلك الموقف الوسطي لم يلق قبولا لدي "إخوان" الكويت الذين ردوا بتجميد عضويتهم في التنظيم الدولي وكذلك "إخوان" العراق عل النحو الذي سبقت الإشارة إليه .
وكان أول تعبير عن ذلك الموقف في بيان صدر بتوقيع المرشد العام لـ "الإخوان" في 2/8/1990 استنكر الغزو العسكري العراقي وحذر من أن يستغل العدو الصهيوني هذا الغزو لتحقيق مآربه وأهاب بقادة العراق أن يعيدوا النظر فيما أقدموا عليه بعد أن أجمعت الأمة الإسلامية بل العالم كله على استنكاره
كما أهاب بكل شعوب وقادة الأمة أن يبادروا ببذل مساعيهم ونفوذهم لدي دولة العراق لتسحب قواتها من الكويت وتمتنع عن التدخل في شئونها غير أن وصول القوات الأجنبية إلى منطقة الخليج وبدء البناء العسكري الذي استهدف شن الحرب التي أطلق عليها (حزب تحرير الكويت) جعل ذلك الموقف الوسطي يميل تدريجيا باتجاه إعطاء الأولوية للخطر المترتب على مجئ تلك القوات الأمر الذي أدي إلى التراجع عن الاهتمام بخطر الغزو العراقي للكويت .

(ج) الموقف المؤيد فعليا للنظام العراقي:

تبني هذا الموقف "إخوان" الأردن وسوريا وأمريكا الشمالية واقترب منه في البداية "إخوان" فلسطين وحركة "حماس" قبل أن يحاولا الاقتراب من الموقف الوسطي بعد ذلك .
فقد ركز أول بيان صدر عن " إخوان " الأردن على فكرة الاستعانة بالمجتمع الدولي فحذر منها معتبرا أن ما حدث لا يتم حله إلا بين العرب وهاجم تجميد أرصدة العراق وتجنب الإشارة إلى غزو الكويت واحتلالها حيث استخدم تعبير (دخول القوات العراقية للأراضي الكويتية).
وازداد التأييد للعراق بعد نشوب الحرب التي تم تصويرها على أنها "الحرب الحاسمة بين قوي الإسلام والكفر " أو " حرب صليبية ثامنة " وناشد "إخوان " الأردن جميع الشعوب العربية والإسلامية للمشاركة في معركة المصير ومناصرة إخوانهم في العراق وفلسطين
كما وجهوا نفس المناشدة للحركات الإسلامية الأخرى مما يدل على تمايز موقفهم عنها وإلى القيادة العامة للجماعة (رسالة مفتوحة إلى المرشد العام للإخوان في 21 /1/91) للمطالبة بدور أكثر إيجابية إلى جانب العراق .
وبصفة عامة كان موقف "إخوان" الأردن هو الأكثر تأييدا للعراق بالمقارنة مع كل تنظيمات "الإخوان" باستثناء "إخوان" سوريا وأمريكا الشمالية أما موقف "الإخوان" الفلسطينيين وحماس فقد اقترب في النهاية من موقف القيادة العامة لـ "الإخوان" ولكنه مر بمرحلتين مرحلة تغليب الموقف ضد التدخل الأجنبي ثم مرحلة التوازن النسبي والنظر إلى الغزو العراقي على أنه لا يقل خطورة عن هذا التدخل؛
فقد أصدرت "حماس" في البداية بيانا ساده عداء حاد للغرب على أساس أن (الحشود الغربية في الخليج ليست لتركيع العراق وحده .وإنما لتركيع الأمة كلها) ودعا إلى تسوية الأزمة في الإطار العربي الإسلامي واستمرت هذه المرحلة حتى آخر أغسطس 1990
وصدر خلالها بيان آخر حث العراق على ضرب تل أبيب بصواريخه إذا اعتدت أمريكا عليه لكن البيان الصادر في أول سبتمبر اتسم بقدر من التوازن ودعا إلى انسحاب متزامن للقوات العراقية من الكويت والقوات الأجنبية من المنطقة وتميز بالتعاطف مع محنة الشعب الكويتي : (إننا هنا في فلسطين ندرك أكثر من غيرنا مرارة فقدان الوطن وآلام التشرد والشتات) لكنه دعا أيضا إلى حل الخلافات في إطار عربي إسلامي يتيح دراسة مطالب العراق .
وربما يجوز القول إن موقف "إخوان" الأردن كان أقرب إلى موقف حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني منه لى "حماس" فقد تشددت حركة الجهاد في دعمها للعراق رغم ارتباطها بإيران وصاغت هذا الموقف في إطار جهادي معتبرة أن (بغداد أصبحت في موقع يتيح لها قيادة الجهاد ضد الاستعمار الغربي الذي يقف وراء الاحتلال الصهيوني لفلسطين)
كما طالبت إيران:
(بإعلان الحرب علي أمريكا ومساندة العراق ووضع إمكاناتها تحت تصرف الشعب العراقي المسلم)
وإذا كان موقف "الإخوان" في الأردن بدا أقرب على هذا النحو إلى موقف الجهاد الإسلامي منه إلى "الإخوان" الفلسطينيين و" حماس " فقد يجوز تفسير هذا الاختلاف بين "الإخوان" الأردنيين والفلسطينيين بعاملين الأول هو حرص الإخوان الفلسطينيين على عدم القطعية مع الكويت إدراكا لأهميتها بالنسبة للعمالة الفلسطينية ولأن جزءا مهما من تمويلهم يأتي من التنظيم الدولي لـ "الإخوان" الذي كان " إخوان" الخليج أهم مصدر لتمويله والثاني هو أن "إخوان" الأردن كانوا من بين القوي السياسية الأردنية التي نجح نظام صدام في إقامة علاقات وثيقة معها قبل الأزمة .
وكان موقف "إخوان" سوريا هو الأكثر انسجاما مع "إخوان" الأردن في بيانهم الصادر في 15 /8/1990 فلم يكتف "إخوان" سوريا بعدم إدانة الغزو العراقي بل أدانوا من يدينونه باعتبار الوقوف ضده التحاقا (بحملة مسعورة لا تستهدف العراق وحده بل الكيان العربي والإسلامي)
وانفرد "إخوان" سوريا بمطالبة الحكومات العربية والمسلمة (بإعلان فريضة الجهاد من أجل حماية العراق والأردن) وفي هذا الموقف ما فيه من دلالات تنطبق بأن ما يجمع تنظيمات "الإخوان المسلمين" لا يكفي لاعتبارهم حركة واحدة إلا على مستوي الشعار العام بل شديد العمومية.

السياسة الرسمية تجاه الإخوان المسلمين 1971-2010 الصدام المتجدد

تحولت السياسة الرسمية تجاه "الإخوان" تحولا جوهريا في بداية سبعينات القرن الماضي مقارنة بما كانت عليه منذ عام 1954 حين استهدفت هذه السياسة استئصالهم سياسيا واجتماعيا .

ولكن فشل سياسة الاستئصال وتغير اتجاهات نظام الحكم وأولوياته في عهد الرئيس الراحل أنور السادات أدي إلى تحول باتجاه احتواء "الإخوان المسلمين" والاعتماد عليهم بشكل غير مباشر في سياسته لتقليص دور قوي اليسار على أساس أن انتشارهم في المجتمع هو على حساب هذه القوي ..

أولا:اتجاهات السياسة الرسمية تجاه الإخوان في سبعينات وثمانينات القرن العشرين

كانت السياسة الرسمية تجاه "الإخوان" في ثمانينات القرن العشرين أو العقد الأول في عهد الرئيس حسني مبارك امتداد معدلا لهذه السياسة في السبعينات ولكنها شهدت تحولا كبيرا مع بداية التسعينات .

ففي أوائل السبعينات أنهي الرئيس الراحل أنور السادات سياسة المواجهة الشاملة ضد "الإخوان" التي استمرت منذ 1954 وتم الإفراج عن المسجونين والمعتقلين منهم وأتيحت لهم حرية حركة ثم استأنفوا إصدار احدي مطبوعاتهم (مجلة الدعوة) عام 1976 ولكن الحظر ظل قائما على جمعيتهم التي تم حلها عام 1954 ورفض نظام الحكم إعادة الشرعية لها ووقفت هيئة قضايا الحكومة خصما عنيدا ضدهم في الدعوة القضائية التي رفعوها لاستعادة الجمعية .

وعلى هذا النحو اتبع نظام الحكم سياسة مزدوجة تجاه "الإخوان" قامت على ركيزتين الأولي هي الاحتواء مع أشكال دنيا وغير مباشرة غالبا من التعاون والثانية حرمانهم من حق التنظيم وعدم إضفاء شرعة قانونية عليهم وبالتالي وضع سقف لحركتهم ..

ويمكن تفسير تلك الازدواجية بعاملين:

أولهما عدم الثقة الموروثة منذ 1954 والقلق من الشعبية التي يتمتع بها "الإخوان" ولذلك تضمن قانون تنظيم الأحزاب السياسية عندما صدر عام 1977 حظر تأسيس أحزاب على أساس ديني
وثانيهما السعي للاستفادة من دور "الإخوان" في دعم عملية التحول عن السياسات الناصرية الاشتراكية وإيجاد توازن مع القوي اليسارية المؤيدة لهذه السياسات ومن هنا كان الاهتمام باحتواء "الإخوان" وإتاحة مقدار من حرية الحركة لهم ولغيرهم من التيارات الإسلامية .

وهناك اعتقاد شائع في أن نظام الحكم اعتمد على "الإخوان" السبعينات ودعمهم إلى آخر مدي بهدف ضرب اليسار ومن ذلك مثل القول بأن (الإخوان لقوا مساندة مباشرة من النظام وصلت إلى إمدادهم بالسلاح في صدامهم مع التيارات الأخرى)

ولكن هذا الاعتقاد ينطوي على كثير من المبالغة فقد اتسمت السياسة الرسمية تجاههم بازدواجية خلقت نوعا من التوازن بين إتاحة حرية حركة نسبية لهم وبين الاحتفاظ بمقتضيات الحذر تجاههم وفي إطار حرية الحركة التي أتيحت لهم أسهموا بدور في مواجهة اليسار غير أنه لا يوجد دليل على أنهم قاموا بهذا الدور نتيجة تكليف من السلطات أو حتى من خلال تنسيق منتظم معها وقد أنكر هذا التنسيق أحد الذين يعتقد أنهم قاموا بدور في التقريب بين السادات والإخوان وهو د. كمال أبو المجد الذي تولي موقعا مهما في منظمة الشباب في بداية السبعينات ثم وزارة الإعلام عام 1974 .

وإذا كان الاعتقاد الشائع في أن نظام الرئيس الراحل أنور السادات دفع "الإخوان" لمواجهة اليسار يركز على ما حدث في بعض الجامعات في الفترة (72 -1975)

فالأرجح أن أصحابه يخلطون بين "الإخوان" وجماعات دينية أخري فالثابت أن الجماعة الدينية التي قامت بهذا الدور في جامعة القاهرة حملت اسم " جماعة شباب الإسلام " ولذلك يفيد هنا أن نعود إلى شهادة وائل عثمان أبرز مؤسسي هذه الجماعة .

وأهم ما يستفاد من هذه الشهادة هو أن "جماعة شباب الإسلام" في كلية الهندسة جامعة القاهرة لم تكن لها علاقة بالجمعيات الدينية في باقي كليات الجامعة وهذه الجمعيات هي التي ارتبط بعضها بعد ذلك بتيار "الإخوان " من ناحية وتيار إسلامي راديكالي تطور بعد ذلك في اتجاه العنف من ناحية أخري وكانت "جماعة شباب الإسلام" هي التي نجح النظام من خلال تنظيمه السياسي (الاتحاد الاشتراكي)

في السيطرة عليها واعترف مؤسسها بذلك نادما بقوله (أدركت أن جماعة شباب الإسلام انقادت بتهور وراء من أرادوا استغلالها لكتم الأصوات الشيوعية ثم الاستدارة سريعا لتحجيمها)

ولم تكن هذه الجماعة جزءا من تيار "الإخوان" بشهادة قادة يساريين في الجامعة في ذلك الوقت فقد أكد أحدهم أن السلطة أوحت إلى بعض الطلاب بأن الحركة الطلابية عام 1972 معادية للدين وسعت لبناء تنظيم يرتدي ثوب الإسلام وأوضح قيادي آخر أن " جماعة شباب الإسلام" لم تكن جزءا من الحركة الإسلامية لأنها كانت مصنوعة داخل الجامعة ولم يكن التيار الإسلامي قد بدأ في النزول إلى الجامعة .

ومع ذلك فهناك ما يدل على أن النظام أتاح في سبعينات القرن الماضي حرية حركة لـ "الإخوان" وكذلك لجماعات دينية أخري بعضها سلفي وبعضها كان نواة لجماعات العنف .

وأكثر من ذلك فقد أتاحت السلطات فرصة لبعض جماعات مارست العنف في فترة لاحقة بهدف تحجيم "الإخوان" والمثال الأكثر شهرة هنا هو الفرصة التي يعتقد أنه أتاحها في البداية لجماعة المسلمين التي يطلق عليها إعلاميا "جماعة التكفير والهجرة" للتحرك وتجنيد الشباب حتى لا يذهبوا إلى "الإخوان" وعاد النظام عندما تفاقمت ظاهرة العنف في أواخر السبعينات للاعتماد على "الإخوان" في مواجهة التطرف الديني

فقد اعتمد على المرشد العام لجماعة "الإخوان" في ذلك الوقت عمر التلمساني وبعض قادتهم في محاولة لوقف تنامي جماعات العنف وأكد ذلك النبوي إسماعيل الذي تولي منصب وزير الداخلية من أكتوبر 1977 إلى 1982 ضمن روايته لأحداث اعتقالات سبتمبر 1981 فقد روي أنه أعترض على اعتقال التلمساني

وقال للسادات أن

(التلمساني رجل معتدل كان يذهب للجامعات لإحباط أى مؤتمرات أو ندوات تنظمها جماعات دينية متطرفة للإثارة والتصعيد وكان يتحدث ويفند آرائهم لدرجة أنه كان يتعرض أحيانا للإهانة منهم وهذه تصرفات يستحق عليها الشكر وليس الاعتقال .
ولكنه فسر إصرار السادات على اعتقاله مع بعض قادة "الإخوان" بأنه كان يهدف إلى إحداث توازن مع الإجراءات التي اتخذت ضد البابا شنودة وبعض رموز الكنيسة القبطية.

ودلالة ذلك أن الشق الخاص باحتواء "الإخوان" والتعاون المحدود معهم لم يكن مرتبطا فقط بموقف نظام الحكم في تلك المرحلة ضد اليسار فقد كان جزءا من سياسة تتضمن في جانبها الآخر الحذر تجاه "الإخوان" ووضع سقف لحركتهم بشكل عام

وفي اللحظات التي يستند فيها الخلاف معهم بشكل خاص ومن أهم تلك اللحظات في السبعينات لحظة زيارة السادات للقدس وما تلاها من توقيع اتفاق الإطار في كامب ديفيد في سبتمبر 1978 ثم معاهدة السلام مع إسرائيل في مارس 1979 فقد تبني "الإخوان" موقفا متشددا من عملية السلام مثل معظم الأحزاب والقوي السياسية في ذلك الوقت .

لكن الثابت أن تشدد "الإخوان" في تلك القضية لم يمنع قيادتهم من القيام بدور في مواجهة التطرف الديني بالتعاون مع النظام كما جاء الغزو السوفييتي لأفغانستان ليخلق تقاربا بين موقفي النظام "والإخوان" ويقلل من حدة الخلاف بينهما حول عملية السلام؛

وهنا أيضا أتاح النظام لهم حرية حركة في الدعوة للجهاد في أفغانستان سواء بالتبرع أو التطوع لكن الملاحظ أنهم لم يرسلوا أعضائهم لأفغانستان إلا في أعمال تتعلق بالإغاثة أو في مهام خاصة بالوساطة بين فصائل المجاهدين .

وقد استمرت السياسة الرسمية المزدوجة تجاه "الإخوان" في ثمانينات القرن الماضي لكن الحذر تجاههم ازداد إلى أن أنهي التعاون المحدود معهم كما انتهي الرهان الرسمي على دورهم لموازنة تيارات أخري بل تنامت المخاوف تدريجيا من هذا الدور

ويمكن تفسير ذلك بثلاثة عوامل أولها أن اغتيال السادات أظهر مخاطر الحركات الإسلامية عموما وأثر ذلك على الموقف الرسمي تجاه "الإخوان" ولكن هذا الموقف لم يتصاعد في اتجاه المواجهة إلا بعد أكثر من عشر سنوات وثانيها اتجاه النظام في بداية الثمانينات للتهدئة مع الجميع بما في ذلك قوي اليسار التي أخذ ضعفها يظهر بدءا من الانتخابات البرلمانية عام 1984 وثالثها أن ازدياد نشاط "الإخوان" في المجتمع وفي النقابات المهنية أظهرهم قوة سياسية قادرة على اكتساب قاعدة شعبية متزايدة وأدي ذلك إلى تنامي المخاوف منهم تدريجيا .

ويبدو أن العامل الثالث كان الأكثر تأثيرا على تطور السياسة الرسمية تجاه "الإخوان" منذ 1984 ففي ذلك العام فازت قائمة "الإخوان المسلمين" بالمقاعد الستة في انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء وبعدها ازداد نفوذهم بسرعة في أهم النقابات المهنية مثل المهندسين والصيادلة والعلميين ثم المحامين عام 1992

كما شارك "الإخوان" في الانتخابات البرلمانية عام 1984 من خلال قائمة حزب الوفد ووصل ثمانية منهم إلى البرلمان للمرة الأولي في مصر.ودخلوا في تحالف مع حزبي العمل والأحرار في انتخابات 1987 ووصل 35 منهم إلى البرلمان من بين 60 نائبا لهذا التحالف فكانوا أكبر كتلة معارضة في ذلك البرلمان .

وبذلك شهد عقد الثمانينات أوسع انخراط لـ "الإخوان" في الحياة السياسية والمجتمع المدني من خلال علاقاتهم ببعض الأحزاب ووجودهم في البرلمان وتغلغهم في النقابات الرئيسية رغم استمرار حرمانهم من الشرعية القانونية وانتهاء أشكال التعاون المحدود التي أقامها النظام معهم في السبعينات ومع ذلك بقوا قادرين على توسيع نطاق حركتهم السياسية والتنظيمية من الناحية الفعلية كما كان الحال في العقد السابق .

ويمكن القول بأن هذه السياسة الرسمية تجاههم دعمت اتجاههم للعمل من خلال الأطر الشرعية وأدي ذلك إلى قطعية بينهم وبين الحركات الإسلامية المتطرفة التي ترفض العمل السلمي والتباعد بينهم وبين السلفيين الذين لا يعملون بالسياسة المباشرة كما أن هذا الاتجاه دعم التطلع إلى إعادة تأكيد طابعهم كحركة سياسية إلى جانب دورها الدعوي وتوفير إمكانية التدريب على الممارسة الديموقراطية واكتساب فضائل الحوار والتنافس السلمي والمساومة السياسية .

وكانت تجربتهم في النقابات المهنية ثرية فقد أتاحت لهم فرصا لإدارة نقابات كبيرة والتعامل مع أعضائها مسلمين وأقباطا والتفاعل مع مشاكل نقابية وقضايا عامة كما بدئوا في تعلم معني تداول السلطة بشكل جزئي على المستوي النقابي من خلال دخول انتخابات دورية يفوزون في بعضها ويخسرون في البعض الآخر أو قد يفوزون ثم يخسرون في انتخابات تالية كما حدث في نقابة الأطباء البيطريين مثلا فقد فازوا بأغلبية مقاعد هذه النقابة في 1986 ثم خسروا هذه الأغلبية في 1988.

كما أن دخولهم الانتخابات البرلمانية في 1984-1987 جعلهم يتصرفون كحزب سياسي من الناحية الفعلية وأصبحت فكرة تحولهم إلى حزب سياسي أو تشكيل حزب يعبر عنهم واردة لدي قطاع من قادتهم على الأقل رغم أن السياسة الرسمية لم تشجعهم على هذا ففي ظل حرص هذه السياسة على إبطاء التطور باتجاه تنافس سياسي حر لم يكن ممكنا المغامرة بفتح الباب أمام "الإخوان" فقد كرست القيود الماثلة في طبيعة نظام الحكم التعددي المقيد ضعف الأحزاب والقوي السياسة الأخرى .

ولذلك بدت غير قادرة على منافسة الإخوان كما اتضح في النقابات المهنية وحتى في الانتخابات البرلمانية عام 1987 تصدر "الإخوان" قوي المعارضة التي وصلت للبرلمان ويمكن تفسير تفوقهم النسبي رغم أنهم يعملون في ظل القيود نفسها

أولهما:أنهم يقدمون رسالة أكثر شعبية وأسهل في الوصول للمواطنين الذين يستطيعون استيعابها أكثر من أية رسالة أخري ليبرالية أو يسارية أو غيرها
وثانيهما: أنهم أكثر إصرارا واستعدادا لبذل الجهد وأكثر تنظيما ويضيف البعض أنهم أكثر تمويلا .

ففي واقع الأمر تميز "الإخوان" بأنهم لم يبدأوا من نقطة البداية نفسها التي تبدأ منها الأحزاب والقوي الأخرى فهم يسبقون بعدة نقاط ولذلك لا يكون تأثير القيود متساويا بالنسبة للجميع وحتى امتلاك أحزاب المعارضة الرسمية صحفا لم يتح لها تفوقا على "الإخوان" فلدي "الإخوان" مساجد أهلية تمثل أدوات اتصال لا تقل فاعلية عن الصحف بل تزيد أما الحزب الحاكم فقد عاني من ركود شديد وضعف تنظيمي وافتقد رسالة سياسية واضحة واعتمد بشدة على الجهاز الإداري للدولة .

ولذلك أدي نشاط "الإخوان" في المجتمع السياسي والنقابات المهنية إلى إظهار تفوقهم النسبي وبالتالي ازدياد المخاوف منهم ولم تقتصر هذه المخاوف على نظام الحكم وإنما امتدت إلى بعض أحزاب وقوي المعارضة وقطاعات واسعة من المثقفين العلمانيين وساعد على ذلك تردد وتباطؤ "الإخوان" في إيضاح موقفهم من الديمقراطية وإعلان التزامهم بها فأصبح من السهل اتهامهم بأنهم يرمون لاستخدام التعددية كوسيلة للوصول إلى السلطة وإقامة دولة دينية شمولية .

وهكذا وصلت السياسة الرسمية تجاه "الإخوان" مع نهاية ثمانينات القرن الماضي إلى مفترق طرق فقد أتاحت لهم المشاركة فعليا في الحياة السياسية ولكنها أدت في الوقت نفسه إلى ازدياد المخاوف منهم ودعم هذه المخاوف غياب حوار جدي يسهم في وضع حد للاستقطاب العلماني الإسلامي في الحياة السياسية والثقافية .

ثانيا:السياسة الرسمية تجاه الإخوان 1990-2005

أدت أحداث الجزائر بعد إلغاء انتخابات ديسمبر 1991 التي اكتسحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FES) جولتها الأولي إلى تفاقم المخاوف من الحركات الإسلامية في مصر وساهم تدهور الوضع في الجزائر في التحول الذي حدث في السياسة الرسمية تجاه "الإخوان" نحو الاستبعاد بدلا من الإدماج ونحو المواجهة بدلا من الاحتواء؛

وحظي هذا التحول بتأييد ضمني من بعض أحزاب المعارضة الرسمية وقطاع من المثقفين العلمانيين وأسهم في هذا التحول أيضا تصاعد العنف عامي 1992-1993 نتيجة لعوامل أحدها ارتباك السياسة الرسمية تجاه الجماعات المتطرفة في الثمانينات .

غير أنه كان لتأثير تدهور الوضع في الجزائر أهمية خاصة فكان الدرس الذي استخلصه الدوائر الرسمية في مصر هو أن هذا التدهور حدث بسبب مشاركة حركات إسلامية في العملية السياسية ولكن التدهور حدث في الجزائر لسبب آخر هو غياب برنامج تدريجي للتحول الديمقراطي يتضمن جانبين

أولهما: حوار جدي للتفاهم على مقومات وقواعد اللعبة الديمقراطية والتزام الحركة الإسلامية بها فقد جاء اختلال الجزائر نتيجة غياب هذا التفاهم وبالتالي عدم التزام جبهة الإنقاذ بأى قواعد للعبة مما جعل التيار المتشدد فيها يمثل خطرا على الديمقراطية
وثانيهما: إزالة القيود على الأحزاب والقوي الأخرى .

وقد أثر غياب هاتين الركيزتين في مصر على القراءة الرسمية لتجربة الجزائر بالرغم من أن الانقسام حول طبيعة الدولة في مصر أقل حدة كما أن "الإخوان" في مصر كانوا أكثر اعتدالا من جبهة الإنقاذ في الجزائر التي هيمن عليها حينئذ تيار سلفي متشدد (تيار على بلحاج)

غير أن ثمة عاملين أظهرا الانقسام في مصر أكبر من حجمه الحقيقي في ذلك الوقت:

أولهما:غياب الحوار الجدي
وثانيهما: هيمنة المتشددين من أصحاب المشروعين الإسلامي والمدني العلماني على الخطاب العام.

ولذلك سادت هذا الخطاب اتهامات متبادلة على حساب البحث عن قواسم مشتركة وقد كان هذا الخطاب أقل حدة وانتشارا معظم سنوات الثمانينات لأن السياسة الرسمية كانت أقل تشدد تجاه "الإخوان" ولذلك كانت الإدانة النمطية والاتهامات الحادة الموجهة ضد "الإخوان" والمماثلة بينهم وبين جماعات العنف مقصورة على العلمانيين المتشددين .

غير أنه مع بداية التسعينات تحولت السياسة الرسمية في اتجاه التضييق على "الإخوان" وتوجيه ضربات انتقامية ضدهم واتهامهم بالإرهاب أدي ذلك إلى دفع "الإخوان" لإيضاح موقفهم أكثر من أى وقت مضي فقد حرصوا على إدانة الإرهاب الذي تمارسه جماعات العنف بشكل منتظم

كما بدأوا يتقدمون نسبيا باتجاه إيضاح موقفهم من الديمقراطية فأصدروا عامي 1993-1994 عدة بيانات تحمل إدانة قاطعة للإرهاب كما أصدروا وثيقتين في فبراير 1994 وعدة بيانات تحمل إدانة قاطعة للإرهاب كما أصدروا وثيقتين في فبراير 1994 ومارس 1995 توحيان باقتراب غير مسبوق وإن ل يكن حاسما من مقومات الديمقراطية .

ولكن استمرار كثير من الغيوم في موقف "الإخوان" واتخاذهم خطوة إلى الأمام وأخري إلى الوراء ساهم إلى جانب درس الجزائر في عدم تجاوب السياسة الرسمية مع هذا التطور في موقفهم ولذلك لم يكن العامل الإقليمي المتعلق بازدياد المخاوف من الحركات الإسلامية في المنطقة وحده هو الذي أدي إلى تغيير السياسة الرسمية نحو المواجهة مع "الإخوان"؛

كما كان للعامل الدولي تأثيره أيضا ولكن بدرجة أقل نتيجة ميل الولايات المتحدة إلى إجراء اتصالات مع بعض الحركات الإسلامية ومنها "الإخوان" في مصر فقد أدي ذلك إلى اعتقاد في أن واشنطن لا تمانع في أن يصل الإسلاميون للسلطة وأسهم بعض الأحزاب والمثقفين العلمانيين في تغزية هذا الاعتقاد .

وفي هذا السياق اتجهت السياسة الرسمية تجاه الإخوان إلى التضييق والمواجهة المحسوبة اعتمادا على ثلاث أدوات هي:

(أ)التشريع:

كان الاستخدام الأكثر أهمية لأداة التشريع في فبراير 1993 بهدف تفويض نفوذ "الإخوان" في النقابات المهنية فقد أصدر البرلمان قانونا موحدا لهذه النقابات (القانون 100 لعام 1993) لإعادة تنظيم الانتخابات فيها وكانت الفكرة وراء هذا القانون هي أن "الإخوان" يفوزون اعتمادا على أقلية منظمة تستمد نفوذها من ضآلة المشاركة في الانتخابات النقابية
ولذلك اشترط القانون الجديد حضور نصف الأعضاء لتكون الانتخابات صحيحة ثم حضور الثلث في المرة التالية فإذا لم تتوفر نسبة الثلث تؤجل الانتخابات ستة أشهر وتدير النقابة خلالها لجنة من القضاة مع أربعة من أكبر أعضاء النقابة سنا كما أدخل القانون آلية للإشراف القضائي على الانتخابات مع توسع نطاق هذا الإشراف ليشمل "الهيئات القضائية" التي تضم النيابة العامة والإدارية وهيئة قضايا الحكومة .
ولم تستطع مجالس النقابات المهنية تنظيم معارضة قوية لهذا القانون لأن معظم الأحزاب السياسية لم تتحمس لرفضه فقد وجدت لها مصلحة في تقويض نفوذ "الإخوان" في النقابات ومنذ ذلك الوقت حدث ارتباك في بعض النقابات بشأن تطبيق القانون الجديد؛
واشتد التوتر في نقابة المهندسين التي كان مقررا إجراء انتخاباتها في 26 فبراير 1993 أى بعد أيام على إصدار القانون ودب خلاف بين مجلسها "الإخواني" واللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات حول صلاحيات كل منهما في العملية الانتخابية فقد أصرت اللجنة على أن يكون إشرافها شاملا كل مراحل هذه العملية منذ إعداد جداول الناخبين وحتى إعلان النتائج وأصر مجلس النقابة على حقه في إعداد الجداول وأدي ذلك إلى تأجيل الانتخابات عدة مرات .
وكان الوضع في نقابة المهندسين هو الدافع الرئيسي وراء قيام البرلمان بإدخال تعديل على القانون في فبراير 1995 وأهم ما جاء به هذا التعديل هو تأكيد الإشراف الكامل للجنة القضائية على جميع مراحل العملية الانتخابية .
ولكن هذا القانون وتعديله لم يؤديا بكل ما اقترن بهما من توتر إلى إسقاط "الإخوان" في النقابات التي يسيطرون عليها عن طريق الانتخابات فبدلا من إجراء انتخابات نقابة المهندسين تم الاستيلاء عليها تنفيذا لحكم قضائي غير نهائي بفرض الحراسة عليها؛
وبالعكس أدي إجراء انتخابات نقابة الصحفيين في مارس 1995 وفقا للقانون الجديد إلى نجاح "الإخوان" في مضاعفة تمثيلهم في مجلس هذه النقابة التي لم يكن لهم تاريخيا تمثيل فيها ولكن انتخاب أعضاء المجلس بالكامل بعد إلغاء التجديد النصفي بموجب هذا القانون أتاح فرصة أفضل لهم وأصبح لهم عضوان في مجلس نقابة الصحفيين بدلا من عضو واحد.

(ب) الخطاب الرسمي

أصبح هذا الخطاب يركز على ثلاثة جوانب أولها إيجاد علاقة بين الإخوان والإرهاب من جانبين اتهامهم بأنهم أصل الإرهاب وبالتالي يتحملون المسؤولية عنه حتى لو لم يقوموا به والإيحاء بأن بعض قادتهم يدعمون الإرهاب واعتمد الخطاب الرسمي في ذلك على اتهامات مرسلة حتى أول أبريل 1995 عندما بدأ الاعتماد على اتهامات ساقتها أجهزة الأمن لبعض عناصر "الإخوان" فقد تم اتهام بعض أعضاء لجنة الإغاثة في نقابة الأطباء وهم من "الإخوان" بتسفير بعض الشباب للخارج لتدريبهم على استخدام الأسلحة .
وثانيها اتهام مجالس النقابات المهنية التي يسيطر عليها "الإخوان" بالفساد وخاصة نقابتا المهندسين والمحامين وتم الاستناد في ذلك على تقارير للجهاز المركزي للمحاسبات أشارت إلى بعض مخالفات إدارية ومالية مع تضخيمها إعلاميا وقامت مجلتا " روز اليوسف " و" المصور " الأسبوعيتان بالدور الأكبر في هذا المجال وأسهم في ذلك أيضا بعض أعضاء النقابتين في إطار خلافهم مع مجلس نقابة المهندسين أو مع " الإخوان " من أعضاء مجلس نقابة المحامين .
وثالثها اتهام "الإخوان" بتسييس النقابات والسعي لاحتكارها من خلال حشد مؤيديهم في ظل عدم مشاركة أغلبية الأعضاء وكان هذا الاتهام وراء صدور القانون 100 الذي سبقت الإشارة إليه ودعم رئيس الجمهورية هذا الاتجاه في خطابه بمناسبة عيد العمال أول مايو 1995 إذ قال (إننا ننبه إلى خطورة أن يصبح العمل النقابي حكرا على فئة محدودة تتمكن بوسائل غير ديمقراطية من الاستحواذ على مجالس هذه النقابات في غيبة جموع المهنيين)
وأعقب هذا الخطاب تحرك جهاز الأمن لتنفيذ حكم قضائي كان قد صدر في 23 فبراير 1995 بفرض الحراسة على نقابة المهندسين وقام بالاستيلاء على مبني النقابة رغم وجود استشكالات في تنفيذ الحكم ورغم تنازل صاحب دعوي الحراسة الذي صدر الحكم باسمه (د. عبد المحسن حمودة) الذي رفض تسليم النقابة لحارس من غير أعضائها.

(ج) الضربات الأمنية:

اتجه جهاز الأمن منذ 1992 إلى توجيه ضربات انتقائية ضد "الإخوان" وكانت البداية باعتقال عدد من قادتهم في [[قضية سلسبيل|قضية شركة سلسبيل] لأنظمة الكمبيوتر وهي شركة تجارية مملوكة لعدد من عناصر "الإخوان" وتم اتهام القائمين عليها بأنها تمثل الجناح المعلوماتي للتنظيم العالمي لـ "الإخوان" وأنها تشارك في مؤامرة لقلب نظام الحكم.
وتواصلت الضربات الأمنية المحدودة واتسع نطاقها في بداية 1995 عندما تم القبض على 27 شخصا منهم عناصر قيادية إخوانية مثل عصام العريان وإبراهيم الزعفراني ووجهت إليهم للمرة الأولي منذ ستينات القرن الماضي تهمة الانضمام إلى جماعة سرية غير مباشرة تسعي لتغيير النظام القائم .
وهكذا تكامل استخدام الأدوات التشريعية والأمنية مع خطاب سياسي عدائي تجاه "الإخوان" ليصنع ملامح سياسة المواجهة معهم منذ بداية تسعينات القرن الماضي .
ويصعب تصور أن تؤدي هذه السياسة إلى تقويض ركائز "الإخوان" السياسية والمجتمعية لكنها يمكن أن تساهم في إرباك حركتهم وتشتيتها ووضعهم في موقف دفاعي .
وبدا أن هذا هو أقصي ما يمكن فعله لصعوبة توجيه ضربة شاملة استئصاليه لهم لأسباب داخلية وإقليمية ودولية ففي الداخل يمكن أن تؤدي ضربة شاملة ضد "الإخوان" إلى مزيد من الاحتقان السياسي كما كان واضحا حينئذ أن ضربة استئصالية يصعب أن تلقي قبولا من معظم الأحزاب الرسمية إلا إذا ارتبطت الأحزاب وبالتالي تتمكن من موازنة قوة " الإخوان" دون حاجة لضربهم أمنيا .
وإقليميا أنت هناك أوضاع في ذلك الوقت تجعل من الصعب استئصال "الإخوان" ومنها مثلا حاجة السلطة الفلسطينية للاتصال بهم من حين لآخر للوساطة بينها وبين حركة "حماس" وقد ظل هذا الاتصال قائما بمعرفة جهات رسمية حتى مع اشتداد الحملة ضد "الإخوان" ودوليا أصبحت مصر موضوعة تحت مجهر الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان وهذا يجعل من الصعب شن حملة أمنية شاملة على "الإخوان" لما له من تأثير سلبي على صورتها .
وهكذا فعلي مدي ما يقرب من ثمانين عاما هي عمر حركة "الإخوان المسلمين" منذ نشأتها في مصر عام 1928 كان الصراع هو الطابع الغالب على علاقتها مع الدولة من بين أشكال متعددة أخذها هذا الصراع وما زال تكرر لجوء الدولة إلى شن حملات أمنية ضد "الإخوان" متفاوتة في حجمها ومتباينة في تداعياتها منذ أن قررت الحكومة في ديسمبر 1948 حل جماعتهم التي كانت مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية .
وكان تفاوت هذه الحملات مؤشرا على تباين اتجاه نظام الحكم وسياسته تجاههم من مرحلة إلى أخري فقد تراوحت هذه السياسة بين محاولة الاستئصال التي كانت هي هدف نظام الحكم منذ العام 1954 وخصوصا بعد "حادث المنشية" الذي اتهم فيه "الإخوان" بتدبير عملية إطلاق الرصاص على الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والسعي إلي الإدماج الجزئي بدأ من أوائل سبعينات القرن الماضي؛
ثم تصعيد المواجهة في مطلع العقد الأخير في القرن نفسه وصولا إلى شكل من أشكال سياسة الإقصاء بعد الانتخابات البرلمانية 2005 التي حصلوا فيها على 88 مقعدا وتحديدا عندما قامت سلطات الأمن في نهاية عام 2006 بأوسع حملة اعتقالات في صفوف قادتهم منذ سبتمبر 1981 بسبب العرض الرياضي القتالي الذي قام بع طلابهم في جامعة الأزهر .
وتواكبت هذه الاعتقالات مع مراجعة السياسة الرسمية تجاه حرية الحركة التي أتيحت لهم منذ مطلع سبعينات القرن الماضي ووفرت لهم إمكانات التمتع بمزايا الوجود العلني وفوائد العمل السري في آن معا.
فلم ينقصهم شئ تقريبا من مظاهر الوجود العلني ومما يتوفر للأحزاب السياسية المسجلة ونعموا فوق ذلك .بتجنب مغارم المشروعية القانونية التي عانت وتعاني منه الأحزاب وخصوصا الصراعات التي لا تنتهي على المناصب والمواقع الحزبية فالحالة الفريدة التي يمل في ظلها "الإخوان" لم تخلق مجالا لصراع بين قادتهم وكوادرهم إلا فيما قل بخلاف الأحزاب السياسية التي صار هذا الصراع الداخلي هو شغلها الشاغل .
كما أن العمل السري تحت السطح الذي يتحرك فوقه قادتهم وبعض كوادرهم أتاح لهم حرية حركة بمنأي عن أى رقابة أو مساءلة من أجهزة الدولة سواء فيما يتعلق بتنظيمهم أو بمصادر تمويلهم أو علاقاتهم الخارجية .
وكان استمرار هذا الوضع لسنوات طويلة موحيا لكثير من المراقبين بأن المكاسب التي حصل عليها "الإخوان" باتت من المسلمات إلى أن تصاعدت المواجهة ضدهم عقب العرض الرياضي القتالي الذي قام به طلابهم في جامعة الأزهر في ديسمبر 2006.
وكان هذا العرض نقطة تحول أساسية في السياسة الرسمية تجاههم إلى حد جعل صانعي مسلسل "الجماعة" الذي عرض في رمضان عام 1431 هجرية (أغسطسسبتمبر 2010) يتخذونه مدخلا بل محورا لهذا العمل
فقد طالت الحملة الأمنية التي أعقبته المستوي الأعلى لقيادة "الإخوان" وصولا إلى أهم نواب المرشد العام (خيرت الشاطر) وعدد من أبرز قادتهم وكوادرهم مدشنة مرحلة جديدة في الصراع لها سماتها المميزة.

(1) صراع في غياب طرف ثالث

تكتسب المرحلة التي بدأت عام 2006 في تاريخ الصراع بين النظام السياسي المصري و"الإخوان المسلمين " طابعها المميز من أن هذا الصراع أخذ يتصاعد على مدي سنوات في غياب طرف ثالث في الوسط بينهما بسبب ضعف أحزاب المعارضة المشروعة وهشاشة الحركات الاحتجاجية المحرومة بدورها مثل "الإخوان" من المشروعية القانونية .
ومن أكثر المداخل شيوعا متابعة التطور السياسي الذي يحدث في داخل بلد أو آخر هو أداء اللاعبين الرئيسيين وهؤلاء هم في الغالب النخبة السياسية والثقافية في الحكم والمعارضة وخصوصا في البلاد التي تمر في مرحلة نضال من أجل الديموقراطية ففي مثل هذه المرحلة تظل مشاركة الجمهور محدودة ويتوقف ازدياد هذه المشاركة على التفاعلات السياسية الجديدة وبالتالي على أداء الحكم والمعارضة .
وينطبق ذلك على مصر كما على غيرها ولكن أحد أهم محددات آفاق هذه المرحلة في مصر يتعلق بالمساحة الواسعة الفارغة بين النظام السياسي وحكومته وحزبه في جانب و "الإخوان المسلمين" في الجانب الآخر .
فالأحزاب التي بدأ تأسيسها في منتصف سبعينات القرن الماضي صارت أقرب إلى هياكل عظيمة فقد أصابتها أنيميا حادة أو قل أنها مصابة بحالة جفاف جماهيري
أما حركات التغيير الجديدة التي نجحت في تحريك الساحة السياسية بشكل ضعيف في مطلع العام 2005 فقد عانت من المشاكل المعتادة التي تقترن بحركات الرفض السياسي والاجتماعي مضافا إليها انصراف الناس وعزوفهم عن المشاركة من ناحية وأمراض النخبة السياسية والثقافية من ناحية أخري
وأهم هذه الأمراض احتكار الحقيقة والنزعة الشخصانية التي تجعل الزعماء في كل حركة أكثر من الأعضاء والعجز عن الحوار وتقديس الشعارات وافتقاد القدرة على العمل المشترك فهذه نخبة تتناسل حركاتها من بعضها البعض وتتكاثر بطريقة "الدكاكين" الصغيرة التي تزداد صغرا ولذلك فهي كثرة ضعف لا قوة .
ولم تستطع هذه الحركات مثلها مثل الأحزاب أن تشغل حيزا يذكر في المساحة الواسعة الفارغة ولم تتمكن من استثمار نقطة الضعف الأساسية لدي "الإخوان" وهي ضمور العقل السياسي على نحو يجعل الجسد الكبير في حالة حركة عشوائية ومرتبكة
كما عجزت عن استغلال الأخطاء التي تضعف قدرة الحكومة والحزب الحاكم على قيادة عملية سياسية تنقل مصر إلى الديمقراطية بشكل آمن وسلس وقد تسابق في صنع هذه الأخطاء فريقان أحدهما لا يمتلك خبرة في مجال السياسة التنافسية لأنه تعود على العمل في ظل تنظيم واحد أو حزب مهيمن يحتكر اللعبة السياسية والثاني لا خبرة سياسية لديه لأنه لم يعمل بالسياسة من قبل إذ جاء أهم عناصره من خلفية العمل الاقتصادي الحر "البزنس" والعمل الأكاديمي . وهؤلاء الذين جاءوا من الجامعات لم تكن لهم صلة بالنشاطات السياسية فيها .
وهكذا ظلت المعارضة غير الإسلامية بجديدها وقديمها في حالة ارتباك إزاء "الإخوان" كما حدث مثلا عندما أطلقوا مبادرة لتكوين ما أطلق عليه "التحالف الوطني من أجل الإصلاح" وقد بدأت هذه المبادرة بدعوة وجهها مركز بحثي على علاقة مع "الإخوان" لعقد ثلاث حلقات نقاش للحوار حول بناء تحالف إصلاحي واسع النطاق وأسفرت هذه المبادرة عن عقد اجتماع في 30 يونيو 2005 أعلن فيه نائب المرشد العام للإخوان في ذلك الوقت د. محمد حبيب تأسيس هذا التحالف .
وبالرغم من أن الطريقة التي طرحت بها هذه المبادرة بدت مرتبكة فقد أربكت بعض الأحزاب وحركات التغيير الجديد التي ذهب قياديون فيها إلى الاجتماع من دون أن يكون واضحا هل يمثلون أحزابهم وحركاتهم أم أشخاصهم وبعد أن تحدث بعضهم على نحو فهم منه أنهم ممثلون للأطر التي ينتمون إليها عادوا فأوضحوا أنهم ذهبوا بصفاتهم الشخصية وترتب على ذلك موت التحالف الذي سعي إليه "الإخوان" لحظة مولده بل قبل أن يولد ولذلك وفي غياب طرف ثالث كثيرا ما يحضر السؤال عن مستقبل مصر في خيارين إما مصر الديموقراطية أو مصر الأصولية الإخوانية .
ومما ينطوي على دلالة مهمة في هذا المجال ما طرحه الأديب الراحل صاحب "نوبل" نجيب محفوظ عشية رحيله في هذا المجال ففي حفلة صغيرة أقيمت في مناسبة بلوغ الأديب المصري جمال الغيطاني الستين في 9 مايو 2005 سئل محفوظ عن تصوره لمصر في الفترة المقبلة في ضوء التطورات المتسارعة فيها فأجاب بعد لحظات تأمل: " يبدو أن مصر تريد أن تجرب حكم الإخوان المسلمين "
وفي هذه الإجابة لم يعبر أدباء العرب في هذا العصر عن تصور يجول في خاطره فحسب بل أراد أن يتبعه إلى ما يمكن أن يحدث في حال أدي التباطؤ في الإصلاح الديمقراطي إلى أزمة سياسية تفتح الباب أمام تغيير جذري وربما كان في خلفية هذا التصور التحذير ما كان يحدث في ذلك الوقت على صعيد اتجاه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى مراجعة نظرتهما السابقة إلى الحركات الإسلامية في العالم العربي وخصوصا من زاوية إمكان وصولها إلى السلطة قبل أن يحدث تراجع عن هذه المراجعة بعد ذلك بقليل؛
وليس محفوظ وحده هو الذي تصور إمكان إقامة "حكم إخواني" في مصر فهناك من يشاطرونه الاعتقاد في أن هذا السيناريو قد يكون واردا نتيجة الجمود السياسي الذي يثير مخاوف من حدوث التغيير خارج أطر النظام السياسي على نحو قد يفتح الباب أمام المجهول .
فإذا كان هذا المجهول نوعا من الفراغ السياسي فالافتراض الذي يميل إليه كثير من المعنيين والمراقبين هو أن "الإخوان المسلمين" أقدر من غيرهم بحكم تفوقهم التنظيمي على ملء هذا الفراغ .
غير أن هناك من يعتقد في أن هذا الحكم يمكن أن يأتي عبر انتخابات حرة أيضا ولكن هذا الاعتقاد ينطوي على خرافة لأنه قد يعني أن مصر القادمة هي أصولية أو " إخوانية في كل الأحوال سواء تحقق إصلاح جدي أم لم يتحقق .

(2) الإخوان والعنف:جناة أم ضحايا

كان استعراض القوة الذي قام به عدد من طلاب "الإخوان" في جامعة الأزهر في ديسمبر 2006 مخيفا كما رآه البعض ومؤلما وفق ما نظر إليه بعض آخر ولكنه لم يكن مفاجئا إلا لمن استخفوا بالآثار التي يمكن أن تترتب على العلاقة الشائكة بين سلطة الدولة وجماعة "الإخوان المسلمين"
أما المشهد فكان مكانه جامعة الأزهر وزمانه اليوم الخامس من ديسمبر 2006 وإبطاله عشرات من طلاب هذه الجامعة ينتمون إلى جماعة "الإخوان" ظهر هؤلاء الطلاب في الحرم الجامعي وأمام مكتب نائب رئيس الجامعة مرتدين ملابس سوداء شبه عسكرية وأقنعة مخيفة لا يبدو من خلفها إلا عيون تشع غضبا وتتقد نارا وقاموا باستعراض مهاراتهم القتالية في فنون (الكاراتية والكونغفو) على وقع أناشيد وأغتيان "جهادية" تنبعث من أجهزة "دي جي" مرتفعة الصوت .
فيا له من مشهد مرعب فعلا وكيف لا يثار الرعب حين تلجأ الجماعة الأكبر على الإطلاق في الساحة السياسية المصرية إلى استعراض قدرتها على ممارسة العنف المدني على الأقل ضد خصومها جهارا نهارا؟ وأى رعب أكثر من أن يكون استعراض هذه القدرة في المكان الذي يفترض أن يتعلم فيه الطلاب القدرة على التفكير وليس على العنف ويستوعبوا من خلاله تقاليد الحوار والحل السلمي للخلافات وليس فنون الضرب وحسم الخلافات بالقوة .
غير أن هذا المشهد لم يأت من فراغ وإبطاله لم يهبطوا فجأة من كوكب آخر فهم من أبناء مصر نشأوا في بيئة سياسية اجتماعية معينة وما فعلوه نتج عن مقدمات فهو حصار مر ينتج عن تراكمات وليس نبتا شيطانيا إلا جذور له.
ولذلك فهم لم يكن مشهدا مدهشا أو مثيرا للإستغراب كان المدهش حقا هو أن بعض من ساهموا في الوصول إليه تعاملوا معه بالطريقة نفسها التي أنتجته فهم مع بعض الاستثناءات بدأوا بإثارة الأسئلة الأمنية بدلا من طرح الأسئلة السياسية وفي مقدمتها السؤال عن طبيعة البيئة السياسية التي أنتجت ذلك المشهد.
ومن الأسئلة الأمنية التي طرحت في هذا السياق السؤال مثلا عن كيفية دخول أولئك الطلاب إلى حرم الجامعة بملابسهم وأدواتهم وأجهزتهم التي استخدموها في استعراض القوة أو عن دور الحرس الجامعي الذي كان غائبا أو عن المواقع التي تم فيها تدريب أبطال المشهد على الألعاب الرياضية القتالية التي أظهروا إجادتهم لها فضلا عن السؤال الذي يتكرر في كل مناسبة تبدو فيها قوة الإسلام السياسي في الجامعات المصري وهو كيف تغلغل أعضاء "الجماعة المحظورة" في الجامعات إلى هذا الحد؟
ومن شأن هذا النوع من الأسئلة أن يقود إلى إجابات تصب في مجري المعالجة الأمنية لقضية سياسية وتحث على تشديد الحملات على "الإخوان" بالرغم من أن التجربة التاريخية أثبتت أن هذه الحملات تقويهم ولا تضعفهم ففضلا عن ضعف تأثير الحملات الأمنية على تنظيم كبر حجمه وتوسع نشاطه ثبت أن اعتقال أعضائه يؤدي إلى ازدياد التعاطف معهم في دوائر متزايدة في المجتمع ولذلك أصبح الإصرار على البعد الأمني مدخلا رئيسيا للتعامل مع "الإخوان" يعني تقديم خدمة مجانية لهم أكثر مما يؤدي إلى فرض حصار حقيقي عليهم .
كان المشهد المخيف في جامعة الأزهر في أحد أبعاده نتيجة مواصلة التضييق على الطلاب المسيسين أى المنتمين إلى اتجاهات سياسية مختلفة ولم يستمع أصحاب القرار في هذا المجال إلى صوت العقل الذي ظل يناديهم لسنوات طويلة مخدرا من الأثر المترتاب على حظ النشاط السياسي في داخل الجامعات.
كما لم يلحظوا أن استمرار هذا الحظر يصب في مصلحة تيار "الإخوان" الذي ينشط في أوساط الطلاب اعتمادا على نشاط ديني واجتماعي يستحيل منعه .
وكأن من أصروا على حظر النشاط الحزبي عملوا من حيث لم يقصدوا لمصلحة "الإخوان" عبر تفريغ الجامعة من أى نشاط يمكن أن يمثل منافسة لهم بما في ذلك نشاط يمكن أن يقوم به الحزب الوطني أيضا فكان أن تنامي وجودهم في الجامعات عاما بعد عام بينما تضاءل حضور أى تيار سياسي آخر ولم يجد الطلاب الراغبون في ممارسة نشاط غير ترفيهي إلا نشاطات زملائهم "الإخوان" الذين عملوا كخلايا نحل لا تفتر .
ومع ازدياد حضور طلاب "الإخوان" واشتداد عودهم أصبحوا قادرين على الفوز في الانتخابات الطلابية في كثير من الكليات في مختلف جامعات مصر وبدلا من أن ينته أصحاب القرار الذين أفزعهم وجود "الإخوان" القوي إلى السبب الذي أدي إلى ذلك اتجهوا إلى التضييق عليهم وحرمان معظم مرشحيهم من خوض الانتخابات الطلابية بشكل متعسف .
ومع تكرار شطب مرشحيهم عاما جامعيا بعد الآخر في الوقت الذي كان عددهم يزداد لجأوا في العام الجامعي الذي بدأ في خريف 2006 إلى التحدي عبر تأسيس ما أطلق عليه اتحادات طلابية موازنة غير مشروعة وأجريت انتخابات لهذه الاتحادات خارج إطار القانون في عدد من الجامعات وبدعم ومساعدة عشرات الأساتذة الجامعيين المعارضين من "الإخوان" وغيرهم .
وهذه كلها مشاهد سبقت مشهد استعراض القوة المخيف وقادت إليه في تتابع مثير فبعد مشهد الانتخابات غير المشروعة جاء مشهد تال أدي بشكل مباشر إلى المشهد المخيف وهو قيام إدارة جامعة الأزهر بفصل ستة طلاب بتهمة لصق منشورات علي مكتب نائب رئيس الجامعة تتضمن هجوما عليه؛
إضافة إلى تهم أخري مثل (ممارسة أنشطة غير طلابية في الحرم الجامعي وتعطيل الدارسة وفرض السطوة على طلاب آخرين وتحويل الجامعة إلى وكر للتآمر) فتحرك زملاء لهم من طلاب "الإخوان" لمساندتهم عبر تنظيم اعتصام كان مشهد استعراض القوة جزءا منه .
فهذا إذن مشهد يأتي في سياق سياسي محدد ولذلك فهو يتطلب معالجة سياسية وليس المزيد من المعالجات الأمنية التي تمثل كلمة " المحظورة " المفتاح السحري لها ولازدياد قوة "الإخوان" المحجوبة جماعتهم عن المشروعية في آن معا .
فقد أصبح قمع "الإخوان" وانتشارهم وجهين لعملة واحدة فكلما ازداد التضييق عليهم كسبوا المزيد من المتعاطفين معهم خصوصا وأن هذا التضييق لا يمكن إلا أن يكون جزئيا محدود النتائج إذا كان له أثر أصلا في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات وكان وجود 88 نائبا من أعضائهم في برلمان 2005-2010 دليلا على ذلك وقد أصر هؤلاء في كل مناسبة وحتى بدون مناسبة على أن يؤكدوا تحت قبة البرلمان أنهم ينتمون إلى هذه الجماعة ويعبرون عن مواقفها ويتحدثون باسمها ويتحدون التصنيف الرسمي لهم في مجلس الشعب باعتبارهم مستقلين .
فقد فتح لهم الانسداد السياسي أبوابا غير منظورة يصعب سدها وفعل ذلك الانسداد فعله في الأحزاب المشروعة التي ضعفت بما في ذلك الحزب الوطني الحاكم الذي اعتمد لفترة طويلة على أجهزة الدولة الإدارية والأمنية لضمان أغلبيته البرلمانية الكبيرة .
وأصبحت أحزاب المعارضة المشروعة عاجزة عن استثمار رغبة سلطة الدولة في تدعيم دورها بأمل الحد من نفوذ "الإخوان" المتزايد في المجتمع فقد أدركت هذه السلطة في وقت متأخر أهمية إعطاء الأحزاب المعارضة مساحة للحركة ولذلك تبدو هذه الأحزاب وقد أصابها كساح بسبب حبسها لفترة طويلة في ساحة شديدة الضيق وسد الأبواب أمامها فلما بدأ فتح بعض هذه الأبواب لم تقو على الحركة .
ولذلك أصبح الاستقطاب المتزايد بين نظام حكم يمتلك كل أدوات السلطة وحركة إسلامية تستحوذ على تعاطف المجتمع مصدر خطر كبير في الوقت الذي ثبت أن الاعتماد على الضربات الأمنية لا يمكن أن يكون حلا لمشكلة معقدة متعددة الأبعاد ولا أن يقوض تنظيما اكتسب قدرة كبيرة على التعايش مع الملاحظات والمطاردات؛
كما أن تنامي حجمه يضع سقفا لما يمكن أن يترتب على حملة أمنية ضده مهما توسعت لقد هيأ الاعتماد المفرط على الأدوات الأمنية الأرض للإسلام السياسي الأصولي في بلاد عدة في العالم العربي وليس في مصر فقط لأن السياسات العامة فيها لم تحقق نجاحا يذكر في ترشيح المواطنة وبناء دولة القانون وكفالة الحريات وضمان الحقوق ولا في تقديم نموذج اقتصادي كفؤ يوفر فرص عمل ويخلق وظائف متزايدة ولا في تطوير التعليم وفتح نوافذ للنجاح وتحسين الرعاية الصحية ولا في إعطاء الأجيال الجديدة أملا في مستقبل أفضل عب مؤشرات ملموسة في الواقع .
ولذلك تتحمل هذه السياسات المسؤولية الأولي عن ازدياد نفوذ "الإخوان" في البلاد التي حدث فيها ذلك فلم تقدم هذه النظم إلى شعوبها ما يغنيها عن البحث عن أمل ما لدي "الإخوان" ولا هي تركت الأحزاب السياسية المشروعة تعمل بحرية لمنافسة "الإخوان" على الجمهور الذي يضطر إلى الرهان عليهم .
ويحفل التاريخ بما يؤكد أن الحملات الأمنية على "الإخوان" تستدر عطفا عليهم أكثر مما تقوض قدرتهم على الحركة وأن جسمهم المدرب على تلقي الصدمات يستطع استيعاب ضربات أقوي مما يتعرضون له في الحملة الراهنة .
وهناك سابقتان تاريخيتان في هذا المجال إحداهما قصيرة زمنيا في أواخر أربعينات القرن الماض1ي عندما قررت حكومة محمود فهمي النقراشي حل جماعتهم في 8 ديسمبر 1948 والثانية طويلة ممتدة منذ أن قرر مجلس قيادة الثورة حل هذه الجماعة للمرة الثانية في العام 1954 وحتى أخرجهم الرئيس الراحل أنور السادات من السجون في مطلع السبعينات؛
وكانت الحملة عليهم في عقدي الخمسينات والستينات عنيفة استخدم منفذوها أشد أساليب البطش والتنكيل وأكثرها قسوة على نحو بدا معه أن تنظيم "الإخوان" الأم لن تقوم له قائمة ومع ذلك عاد هذا التنظيم أقوي مما كان وازدادت قدرته على التغلغل في المجتمع نتيجة تراكم الغضب الناجم عن توسع البطالة والفقر والشعور بالفساد.

(3) " الإخوان"... جسم كبير وعقل صغير !

إذا كانت السياسة الرسمية تجاه "الإخوان" ساهمت من حيث لم تقصد في خلق تعاطف معهم فقد قصروا هم في مساعدة أنفسهم عندما أعطوا الأولوية القصوى لجسم تنظيمهم دون عقله وترتب على ذلك ضعف في التنظير والتخطيط ومن ثم وقوع في براثن العشوائية وعجز عن المبادرة وركون إلى رد الفعل وأدي ذلك إلى تكرار ارتكاب أخطاء كبيرة وعدم استيعاب الدروس .
وكان استعراض القوة في ديسمبر 2006 الذي أتاح شن حملة واسعة عليهم أحد هذه الأخطاء المتكررة بأشكال مختلفة منذ أربعينات القرن الماضي ففي منتصف ذلك العقد (الخامس في القرن العشرين) كان نفوذ الجناح المسلح لجماعة "الإخوان المسلمين" قد تنامي إلى حد أنه بات يشكل مركز القوة الرئيسي في داخلها فقد تكون من عناصر منتقاة بعناية امتلك كثير منهم مهارات خاصة الأمر الذي جعل إخوان (النظام الخاص) متميزين علي باقي أعضاء الجماعة الذي ن كان بعض عناصر هذا النظام يسمونهم (إخوان الميدان العام)
كان حسن البنا مؤسس الجماعة ومرشدها العام الأول قد أنشأ هذا الجناح أو "النظام الخاص" عام 1940 لمواجهة الاحتلال البريطاني ودعم نضال الشعب الفلسطيني ضد التغلغل الصهيوني المتزايد حينئذ كما سبق ذكره غير أنه تحول تدريجيا باتجاه التصدي لبعض خصوم الجماعة معتمدا أسلوب الاغتيال بمبادرة من قادته وليس بتوجيه من المرشد العام أو مكتب الإرشاد في الأغلب الأعم.
ولكن هذا لم يعف الجماعة في مجملها من المسؤولية عن الاغتيالات التي قام بها "النظام الخاص" كما أنه لم يحل دون تحمل الجماعة كلها تبعات ذلك الانحراف عن المنهج السلمي الذي قامت على أساسه فكان التورط في جرائم اغتيال هزت مصر حينئذ هو الطريق إلى المحنة التي تعرض لها "الإخوان" في مصر بدأت تلك المحنة عام 1948 بالحملة الأولي عليها والتي يمكن أن نطلق عليها الحملة الصغرى مقارنة بالحملة الكبرى التي امتدت من 1954 إلى بداية سبعينات القرن الماضي .
في الحملة الصغرى تم حل الجماعة لما يقرب من ثلاثة أعوام (من ديسمبر 1948 حتى صدر حكم قضائي لمصلحة الجماعة في سبتمبر 1951 وعززه حكم أكثر حسما في يونيو 1952 قضي ببطلان الأمر العسكري رقم 63 لعام 1948 بحلها)
كما شملت هذه الحملة اغتيال مرشدها المؤسس حسن البنا في فبراير 1949 كما سبق شرحه وبالرغم من أن تلك الحملة انتهت بإلغاء قرار الحل واستعادة المشروعية القانونية كانت قيادة الجماعة قد فقدت السيطرة على "النظام الخاص" على نحو أدي إلى تفاقم أزمتها التي دخلت مرحلة الخطر بسبب الارتباك الشديد الذي شاب علاقتها مع قيادة ثورة يوليو 1952 .
فكانت الحملة الكبرى التي أعقبت محاول اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الإسكندرية في أكتوبر 1954.ولم تقتصر تلك الحملة على حل الجماعة مرة أخري وإنما شملت إعدام عدد من أبرز قادتاها وملاحقة الآخرين وصولا إلى أعضاء قاعدين أيضا ..
واحتاج الأمر إلى عقدين كاملين تقريبا لتجاوز تلك المحنة التي كان هولها كفيلا بأن يدفع إلى استيعاب دروسها وهذا هو ما بدا بالفعل عندما أعادت جماعة "الإخوان" رسم توجهاتها وسعت إلى الاندماج في الحياة السياسية والاقتراب من أساليب العمل الديموقراطي واعتماد سبيل التنافس السلمي ولم يحل بينها وذلك أنها لم تستعد مشروعيتها القانونية فقد شاركت في الانتخابات البرلمانية والنقابية منذ ثمانينات القرن الماضي بشكل منتظم وأصبح لديها نخبة من المهنيين قادوا العمل في أهم النقابات المهنية وأعطوا صورة إيجابية لها .
وقد حقق "الإخوان" هذا التقدم في ظروف صعبة نجمت وما زالت عن العلاقة الملتبسة بينهم وبين سلطة الدولة التي تصر على عدم الاعتراف بجماعتهم ولكنها تتعامل معهم فعليا على أساس أنهم قوة لا يمكن إغفالها أو الاستهانة بها .
كما بدا أن "الإخوان" حريصون على الاستماع إلى مخاوف الخائفين من غموض موقفهم تجاه قضايا شائكة مثل قضية العلاقة بين الدولة والدين والتي ظلت تنتج معارك سياسية وثقافية لا تنتهي وقضية المواطنة وبالتالي موقع أقباط مصر في المجتمع وليس فقط في النظام السياسي غير أنهم لم يبدوا اهتماما مماثلا بالتداعيات التي يمكن أن تترتب علي عدم تغيير أنماط التنشئة في داخل تنظيمهم ونوع الثقافة السائدة لدي كوادرهم في المستويات القاعدية والوسيطة .
ولم ينتبه قادة "الإخوان" الأكثر انفتاحا إلى مثالب هذه الفجوة التي يمكن أن تصبح مصدر خطر قد يعرض الجماعة إلى محنة جديدة ولم يحفلوا بمؤشرات أولية كان يفترض أن تقلقهم مثل السلوك الذي سلكه كثير من أعضاء الجماعة القاعدين خلال الانتخابات البرلمانية عام 2005؛
فقد خرجت أعداد كبيرة منهم لمساندة مرشحي الجماعة في أكثر من مائة دائرة انتخابية وأظهروا قوة تنظيمهم وشديد انضباطهم وبدا كثير منهم مخيفين لعدم إدراكهم الفرق بين جهاد يتعلق بتنافس سلمي في معركة انتخابية ضد خصوم سياسيين والجهاد ضد أعداء الأمة وبالرغم من أنهم لم يلجأوا إلى رد عنيف على التضييق الذي حدث لبعض مرشحيهم في المرحلة الأخيرة من الانتخابات فقد اتبعوا أساليب أعطت انطباعا بأن العنف كامن يمكن أن يظهر في أى لحظة.
فعلي سبيل المثال كان مشهد الكتل المتراصة من شباب "الإخوان" أمام بعض اللجان الانتخابية في الدوائر التي خاض مرشحون لهم الانتخابات فيها موحيا ومنذرا بالخطر كما كان سلوكهم أثناء فرز الأصوات الانتخابية في بعض هذه الدوائر مثيرا لقلق شديد عندما أحاطوا بالمقرات التي حدث فيها هذا الفرز وأخذوا يرددون أدعية دينية بصوت جهوري على نحو لا يصح أن يحدث في أى مناسبة سياسية .
ولم تهتم قيادة "الإخوان" بمثل هذا المؤشرات التي دلت على أن الميل إلى العنف كامن في بنية المستويات القاعدية للجماعة ولم يكن استعراض القوة الذي قام به بعض أعضائها من طلاب جامعة الأزهر في الخامس من ديسمبر 2006 إلا نتيجة وجود هذا الميل الذي يظهر في سلوك فعلي حين لا تكون هناك تعليمات مشددة من القيادة بضبط النفس .
وآثار هذا الاستعراض ردود فعل حادة ضد "الإخوان" لم يكن كلها من صنع الدعاية الرسمية التي انطلقت لتوظيف هذه السقطة لشن حملة سياسية منظمة عليهم فجزء كبير من ردود الفعل الغاضبة كان تعبير طبيعيا عن القلق الكامن بدوره من تنامي قوة "الإخوان" وانتشارهم المتزايد وتغلغلهم في المجتمع .
وكان بعضها من جانب أصدقاء لجماعة "الإخوان" أصابهم ما حدث بإحباط وهم الذين كانوا يعتقدوا أن هذه الجماعة استوعبت دروس المحنة التاريخية التي تعرضت لها من قبل أو أنها لم تعد في حاجة إلى استخدام القوة لأن الظرف الموضوعي يوفر لها فرصا متوالية لتحقيق مكاسب سياسية سهلة .
وبالرغم من أن قيادة "الإخوان" قدمت ما يشبه الاعتذار عما حدث وقال أكثر من قيادي فيها ما معناه أنهم وجهوا عتابا لمن فعلوا ذلك إلا أنهم قللوا من أهمية ما حدث على نحو يدل على أنهم لا يدركون جيدا حجم الخطر الذي ينطوي عليه استمرار الفجوة الواسعة بين إعلانهم قبول التعددية واحترامهم الرأي الآخر من ناحية وطريقة التنشئة التي تقوم على الأحادية ونوع التثقيف الذي يتلقاه أعضاء المستويات القاعدية من ناحية أخري .
وليس من الحكمة التلكؤ في إدراك الخطر إلى أن يجد مرشد "الإخوان" نفسه مضطرا إلى التبرؤ من مثل هؤلاء الطلاب الذين قاموا باستعراض القوة وإعلان أنهم (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين) مثلما قافل مؤسس الجماعة عن بعض عناصر "النظام الخاص" تعليقا على اغتيالات نفذوها وتبرئة للجماعة من دماء أريقت دون وجه حق .
ويثير ذلك التساؤل عن العوامل التي تحول دون استيعاب "الإخوان" لدروس المواجهات السابقة التي تعرضت فيها جماعتهم لمحنة والانشقاقات التي تعرضت لها هذه الجماعة حين أن عملها علنيا ومشروعا .
والأكيد أن مشكلة "الإخوان" الأولي هي في غموض مواقفهم تجاه المسألة الديمقراطية وقضايا شائكة مثل قضية العلاقة بين الدولة والدين والتي ظلت تنتج معارك سياسية وثقافية واجتماعية لا تنتهي وقضية المواطنة وبالتالي موقع المسيحيين في المجتمع والنظام السياسي غير أن ما لا يقل أهمية عنها جمود تنظيم "الإخوان" أيضا فقد أدي استمرار هذا الجمود إلى ثبات أنماط التنشئة السائدة داخل هذا التنظيم .
ومن شأن هذه الأنماط أن تنتج ثقافة عالية يمكن أن تدفع إلى العنف في أى لحظة كما حدث في الاستعراض الذي قام به عدد من طلاب "الإخوان" لإظهار قوتهم واستعدادهم للانقضاض على الخصوم السياسيين جسديا وليس فكريا فكان ذلك الاستعراض نتيجة وجود ميل إلى العنف يعود في أحد أهم جوانبه إلى خلل في التنظيم .
ولذلك لا يفيد "الإخوان" كثيرا أن يعيدوا تأكيد أنهم يؤمنون بالعمل السلمي ويرفضون العنف أو أن يذكروا بمواقفهم خلال سنوات تصاعد الإرهاب في أواخر ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي ولا أن يعيدوا نشر بيانات سبق لهم أن أصدروها فأكثر ما يحتاجون إليه هو الشروع بشكل فوري في تغيير أنماط التنشئة في تنظيمهم كجزء من مراجعة موقفهم تجاه المسألة الديموقراطية باتجاه تحريره من كل ما يحول دون انسجامه مع متطلبات هذه المسألة وبصفة خاصة الموقف تجاه المرأة والأقباط والعلاقة بين الدولة والدين ومن هنا تكون البداية الجديدة لدور "الإخوان" وعلاقتهم مع النظام السياسي ومع مختلف أطاف العملية السياسية في مصر .

مشروع برنامج حزب الإخوان المسلمين بين النوايا والأفكار

ليس غريبا أن أول مشروع طرحه "الإخوان المسلمون" عام 2007 لبرنامج حزبهم الذي لم يقرروا تأسيسه بعد أثار جدلا واسعا .

كان هذا هو أول برنامج يقدمه "الإخوان" منذ العام 1953 عندما بدئوا في إعداد برنامج مقتضب لم يسعفهم الوقت ولا أتاحت الظروف فرصة لاستكماله بسبب التدهور السريع الذي حدث في علاقاتهم مع ثورة 1952 وصولا إلى اتهامهم بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر وشن حملة أمنية واسعة ضدهم .

ولذلك كان هناك شوق عارم إلى معرفة رؤية "الإخوان" والمستقبل في صورة متكاملة وليس عبر الشذرات التي كانت تتناثر هنا وهناك وفي وثيقة واحدة وليس في تصريحات وبيانات لم تخل من تعارض بينها في بعض القضايا لفترة طويلة .

وفضلا عن الاهتمام الواسع بالمشروع شهد الجدل الذي آثاره انتقادات حادة لبعض ما جاء فيه وهجوما شديد تجاوزه إلى الطعن في أهداف الجماعة ونواياها.

ولكن بالرغم من أن بعض ما ورد في مشروع البرنامج بدا صادما بالفعل حتى بالنسبة إلى بعض من حاولوا على مدي سنوات طويلة فهم منهج جماعة الإخوان وتفهمه وحرصوا على التواصل معها وشاركوا بعض قادتها وكوادرها في نشاطات مشتركة تقتضي الموضوعية تسجيل ملاحظتين أوليتين قبل مناقشة المشروع وتحليل الخطاب الذي ينطوي عليه وتحديد أوجه القصور الأساسية فيه .

الملاحظة الأول أن ما طرحه "الإخوان" كان مشروعا مقترحا لبرنامج كما أسماه المرشد العام في ذلك الوقت السيد محمد مهدي عاكف في الخطاب الذي أرسله إلى من رأس فائدة في الرأي والمشورة معهم طالبا آراءهم ومقترحاتهم قائلا (إننا نطرح عليكم هذا المشروع المقترح لبرنامج للإصلاح آملين في أن ينال بعض عنايتكم وأن تصلنا آراؤكم ومقترحاتكم حوله في أقرب وقت ممكن) انطلاقا مما قاله أنه حرص من جانبه على (تعاون أهل الرأي والفكر من أبناء الأمة لتحقيق النهضة الشاملة)

وهذا توجه إيجابي ينطوي على انفتاح تجاه الآخر خصوصا إذا عرفنا أن معظم من طلب منهم الرأي والمشورة إنما يصدرون عن موقف فكري وسياسي يختلف مع منه "الإخوان" وتوجهاتهم.

فالمطروح إذن لم يكن برنامجا نهائيا بل مشروع برنامج وفق ما أسماه المرشد العام وقراءة أولي لهذا البرنامج حسب ما وضع على غلافه كالتالي (برنامج الحزب:القراءة الأولي)

أما الملاحظة الثانية فهي أن إقدام "الإخوان" على إعلان برنامجهم كان خطوة إيجابية بغض النظر عن أى اختلاف أو اتفاق وبمنأي عما يمثله من تقدم أو تراجع مقارنة ببعض المواقف التي تبنوها أو عبروا عنها في السنوات الماضية .

فأن تكون أفكار "الإخوان" على المائدة لهو أفضل من أن تخفي تحتها أو بعيدا عنها وأن تكون هذه الأفكار مطروحة بشكل واضح لهم خير من أن يحجبها الضباب .

والآن وفي ضوء ذلك يمكن مناقشة القضيتين الأكثر إثارة للجدل وللغضب أيضا في معظم ردود الفعل على مشروع برنامج "الإخوان" لعام 2007 وهما طبيعة الدولة

وعلاقتها بالدين وموقع الأقباط والنساء فيها وهما بالفعل قضيتان حاكمتان يتوقف عليهما مدي استعداد "الإخوان" للاندماج في نظام سياسي ديمقراطي يتطلع إليه الكثير من النخب السياسية أو الثقافية والإعلامية في مصر والتوافق مع الأحزاب والقوي الأخرى على مقومات أساسية لهذا النظام الذي يعتبرونه هم هدفا أساسيا بل وضعوه وبصيغة يمكن أن تمثل قاسما مشتركا بين مختلف دعاة التحول الديموقراطي هي (تحقيق الإصلاح السياسي والدستوري وإطلاق الحريات العامة وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقا للدستور الذي يقره الشعب بحرية وشفافية واعتبار الأمة مصدر السلطات ..الخ)

أولا:طبيعة الدولة وقضية المرجعية الدينية

استأثرت هذه القضية بمقدار كبير من ردود الفعل الغاضبة على مشروع وبرنامج "الإخوان" وانصب الغضب على ما اعتبره الغاضبون دولة دينية يسعي إليها "الإخوان" فعليا من خلال المرجعية الدينية التي تحدث عنها بعض قادتهم من قبل ولكنها لم تتبلور إلا في هذا المشروع في صورة هيئة من كبار علماء الدين في الأمة وذهب بعض الناقدين إلى أن المرجعية الدينية التي حددها مشروع البرنامج في هيئة من كبار علماء الدين لا تختلف في جوهرها عما هو معمول به في إيران في ظل مرجعية "ولاية الفقيه" التي تجسدها هيئتان من كبار العلماء أيضا هما (مجلس تشخيص مصلحة النظام) و(مجلس الخبراء) .

ويحسن أن نقرأ النص الوارد في المشروع كما هو أولا لأن معظم الانتقادات التي اعتبرته بمثابة تأسيس لدولة دينية اعتبرها بعض "الإخوان" وأنصارهم غير دقيقة أو تنطوي على مبالغة بينما ذهب بعض آخر منهم إلى وجود التباس في الصياغة أدي إلى نوع من سوء الفهم .

وقد جاء النص كالتالي:

(تطبق مرجعية الشريعة الإسلامية بالطريقة التي تتوافق عليها الأمة من خلال الأغلبية البرلمانية في السلطة التشريعية المنتخبة انتخابا حرا بنزاهة وشفافية حقيقية دون تدليس ولا تزوير ولا إكراه بالتدخل الأمني المباشر أو المستتر والتي تتم تحت رقابة المؤسسات الدينية داخلية وخارجية وبعيدا عن هيمنة السلطة التنفيذية .
ويجب على السلطة التشريعية أن تطلب رأي هيئة من كبار علماء الدين في الأمة على أن تكون منتخبة أيضا انتخابا حرا ومباشرا من علماء الدين ومستقلة استقلالا تاما وحقيقيا عن السلطة التنفيذية في كل شؤونها الفنية والمالية والإدارية ويعاونها لجان ومستشارون من ذوي الخبرة وأهل العلم الأكفاء في سائر التخصصات العلمية الدنيوية الموثوق بجديتهم وأمانتهم.
ويسري ذلك على رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العام في الظروف المحيطة بالموضوع ويكون للسلطة التشريعية في غير الأحكام الشرعية القطعية المستندة إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة القرار النهائي بالتصويت بالأغلبية المطلقة على رأي الهيئة ولها أن تراجع الهيئة الدينية بإبداء وجهة نظرها فيما تراه أقرب إلى تحقيق المصلحة العامة قبل قرارها النهائي ويتم بقانون تحديد مواصفات علماء الدين الذين يحق لهم انتخاب هيئة كبار العلماء والشروط التي ينبغي أن تتوافر في أعضاء الهيئة).

وقد تعرض هذا الجزء في مشروع البرنامج الذي ورد في الفصل الثالث الخاص بالسياسات والاستراتيجيات ضمن الباب الأول المخصص لعرض مبادئ وتوجهات الحزب لأكبر مقدار من الانتقادات التي انضم إليها الكتاب الإسلاميون القريبون "من الإخوان" مثل فهمي هويدي الذي رأي أن هذا الجزء وراءه فكرة ساذجة حجبت نقاطا إيجابية في المشروع .

أما سذاجة فكرة إيجاد هيئة لكبار العلماء فتعود في رأيه إلى أنها لا لزوم لها في الدولة الإسلامية المفترضة لأن عملية إعداد القوانين في أى دولة ديمقراطية تمر بقنوات ولجان تتحقق من صوابها من جوانب عدة داخل البرلمان أو مجلس الدولة (يقصد القضاء الإداري في مصر) ولا حاجة لتأسيس كيان جديد من خارج تلك المؤسسات للقيام بمهمة عدم تعارض القوانين مع الشريعة .

ولكنه مع ذلك اختلف مع من ركزوا هجومهم على هذا الجزء من البرنامج على أساس أن قرار هيئة كبار علماء الدين ملزم أو أنها مرجعية عليا ودفع بأن المشروع واضح في أن رأي الهيئة استشاري .

وقد دفع بذلك أيضا ولكن دون أى نقد لمشروع البرنامج د. رفيق حبيب المسيحي الإنجيلي الذي كان قد شارك في تأسيس حزب الوسط الإسلامي ثم تركه وأصبح قريبا من جماعة "الإخوان" وبات يقوم بدور في محاولة سد الفراغ في التنظير الذي تعاني منه فقد رد حبيب على الانتقادات الموجهة ضد دور هيئة كبار علماء الدين بأن هذه الفقرة في المشروع

(ترتبط بتحديد دور كل طرف في عملية التشريع وفي عملية تطبيق الشريعة الإسلامية بأن جعلت للعلماء الرأي الاستشاري وجعلت للمجلس النيابي السلطة الوحيدة المطلقة في التشريع وأعطت المحكمة الدستورية العليا سلطة الحكم بمدي مطابقة القوانين للدستور بما فيها المادة الخاصة بمبادئ الشريعة الإسلامية)

وفسر حبيب

(المعني الذي وصل إلى المحلل والمراقب) على حد تعبيره وهو اعتبار هذه الهيئة سلطة دينية عليا بأنه نتيجة (عدم دقة في الصياغة فضلا عن الخطاب السياسي الملتبس لجماعة الإخوان أى الخطابات والحوارات التي لم يجد المستقبل لها رابطا واحدا يجمعها مما جعل المحلل يري أن هناك خطابا ما وراء الكلمات المعلنة)

غير أن هذا الدفع لا يبدو دقيقا لأن النص الذي أوردناه حرفيا يقطع بأن رأي هيئة كبار علماء الدين ملزم في القضايا التي يوجد بشأنها أحكام شرعية قطعية ويعرف كل من يتابع أدبيات الإسلام السياسي أنها تنطوي على اختلاف في توسيع أو تضييق نطاق هذا النوع من القضايا وفي كيفية تنزيل الأحكام الشرعية القطعية على هذه القضايا وأن هذا الاختلاف قائم حتى في داخل جماعة "الإخوان المسلمين" نفسها .

ولذلك فالمشكلة هنا هي أن مدي دور الهيئة الدينية يتوقف على التيار الذي يمتلك النفوذ الأكبر في هذه الجماعة حال وصولها إلى السلطة وإذا كان لنا أن نحتكم إلى التجارب السابقة نجد أن الغلبة تكون دائما للأجنحة والمجموعات الأكثر تشددا. وقد حدث ذلك بين آيات الله في إيران الشيعية وفي حركتي "طالبان" وحماس في أفغانستان وفلسطين السنيتين .

ولذلك فالطريقة التي صيغ بها دور الهيئة الدينية في الدولة والنظام السياسي لابد أن تثير مخاوف كل من يتطلع إلى مستقبل تستعيد فيه الشعوب في بلادنا الإسلامية حقها في أن تكون هي وليس حفنة من علماء الدين مصدر السلطة.

ولا يفيد كثيرا في تبديد هذه المخاوف المنهج الذي لجأ إليه بعض أنصار "الإخوان" لتفسير دور هيئة كبار علماء الدين بطريقة تقلل دورها وتجعله استشاريا وتعيد التذكير بأن مفهوم السلطة الدينية لا وجود له لدي أهل السنة والجماعة ولا داخل هياكل جماعة "الإخوان المسلمين" نفسها والتي لا تعطي للفقهاء في داخلها أى سلطة على قرارها .

كما أن الدفع بأن المحكمة الدستورية العليا تظل هي الحكم النهائي لا أساس له في مشروع البرنامج فقد أشار المشروع إلى هذه المحكمة في فقرة أخري غير تلك التي جعلت الهيئة الدينية هي الحكم النهائي في القضايا التي توجد بشأنها أحكام شرعية قطعية ولا توجد علاقة مباشرة بين الفقرتين على نحو يجيز مدولاية المحكمة الدستورية على قرارات الهيئة الدينية التي تمتلك حقا واضحا في إلغاء أى تشريع يريد المجلس النيابي إصداره إذا رأت أنه يتعارض مع ما تعتبره هي أحكاما قطعية .

ففي هذه الحالة لا مجال للحديث عن محكمة دستورية أو غيرها لأن الهيئة الدينية تعتبر المرجعية الأعلى وبالتالي السلطة النهائية في القضايا التي تري هي وليس غيرها أنها ترتبط بأحكام قطعية فالطعن أمام المحكمة الدستورية العليا وفقا للمشروع يكون على قوانين وقرارات صدرت في حين أن دور الهيئة الدينية يشمل منع إصدار قوانين وقرارات يريدها ممثلو الشعب أو الرئيس المنتخب من هذا الشعب وليس من بضع عشرات من علماء الدين؛

ثم كيف يمكن تصور أن تتصدي المحكمة الدستورية العليا فعليا لقانون أصرت الهيئة الدينية على إصداره بعد أن عدلت مشروعه الوارد إليها من المجلس النيابي وأن تصدر حكما يقول إن هذا القانون مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية في حين أن هيئة كبار علماء الدين هي التي أصدرته من الناحية الفعلية .

ومع ذلك ينبغي التنبيه إلى أن بعض السياسات العامة المتبعة تساعد على إستسهال وضع سلطة دينية فوق مؤسسا الدولة الدستورية فقد حدث توسع في استخدام الدين في دعم بعض السياسات وفي اللجوء إلى المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف) مما أدي إلى توسيع دورها وتدخلها في كل شأن وازدياد الميل إلى طلب رأيها فيما يصح ولا يصح أن تستشار فيه .

ولذلك لجا بعض المدافعين عن مشروع برنامج "الإخوان" إلى تذكير من انتقدوا إضفاء طبيعة دينية على الدولة بأن ما جاء في هذا المشروع هو امتداد محسن لما يحدث بالفعل على أساس أن الهيئة الدينية المشار إليها ستكون من علماء الأزهر (بالرغم من أن المشروع لم ينص على ذلك صراحة) وأنها ستكون منتخبة ومستقلة وبذلك يكون المشروع وفقا لهذا التفسير قد حقق إنجازا هو (استقلال الأزهر مما يؤدي إلى استقلال الرأي الديني عن رغبات السلطة التنفيذية)

وينطلق هذا التفسير من أن مشروع البرنامج:

(تبني الآلية الموجودة الآن بالفعل ففي الواقع الراهن يقوم مجلس الشعب بعرض القانون قبل إقراره على مجمع البحوث الإسلامية (بالأزهر) لأخذ الرأي وأحيانا تقوم الحكومة بعرض القانون الذي تقترحه على مجمع البحوث الإسلامية
وفي الواقع الحالي يكون القانون المقترح من جانب الحكومة غالبا هو ما يوافق عليه مجمع البحوث الإسلامية وهو ما يوافق عليه مجلس الشعب في نهاية الأمر وذلك بسبب أن مؤسسة الأزهر نفسها جزء من السلطة التنفيذية كما أن هذه السلطة تهيمن على مجلس الشعب من خلال الأغلبية)

وتهدف هذه المرافعة عن مشروع برنامج "الإخوان" إلى إثبات أنه لا يأتي بجديد نوعيا عما يحدث الآن بعد أن يبالغ في رسم العلاقة بين الحكومة والبرلمان من ناحية والأزهر من ناحية أخري وتكمن المبالغة في أن بعض مشروعات القوانين فقط وليست كلها هي التي يؤخذ رأي الأزهر من خلال مجمع البحوث الإسلامية فيها .

ومع ذلك فالتوسع الكمي الذي حدث في لجوء الحكومة إلى الدين واستخدامه لتبرير أو تنظيم بعض سياساتها أصبح منطلقا لتوسيع آخر نوعي هذه المرة على نحو يمكن أن يجعل الدولة دينية في المحصلة الأخيرة .

ثانيا:حظر تولي الأقباط والنساء رئاسة الدولة في النظام الرئاسي ورئاسة الوزراء في النظام البرلماني

استثني مشروع برنامج حزب "الإخوان المسلمين" رئاسة الدولة في النظام الرئاسي ورئاسة الحكومة في النظام البرلماني من مبدأين عامين أقرهما وأكدهما وهما مبدأ المواطنة ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص .

واتسم المشروع بالحسم القاطع في تعبيره عن هذا الاستبعاد وبمثله في تأكيد مبدأى المواطنة والمساواة فقد وضع كلا من القاعدة والاستثناء منها بالمقدار نفسه من القوة والصرامة على نحو يوحي بازدواج منهجي فكأنك أما ذهنيتين تؤمن كل منهما بفكرة تعارض الأخرى أشد التعارض .

وقد ورد التأكيد على المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص في الباب الأول من البرنامج والمعنون (مبادئ وتوجهات الحزب)

وبدأ بالمواطن باعتباره هدف التنمية الأول ثم ربط المساواة بالحرية والعدالة باعتبارها كلها منحا من الله للإنسان ولذلك فهي (حقوق أصلية لكل مواطن بغير تمييز بسبب المعتقد أو الجنس أو اللون) ولم يتحفظ هنا إلا على أن (تجوز حرية الفرد على حق من حقوق الآخرين أو حقوق الأمة المجمع عليها) مع إعادة تأكيد أن (تحقيق العدل والمساواة هو الهدف النهائي للديمقراطية في النظام السياسي الذي نطالب به)

والملاحظ في هذا الباب أنه تحدث عن الإنسان المصري عموما وليس عن الإنسان المسلم الأمر ينسجم مع تأكيد مبدأ المواطنة كما أكد في هذا السياق أن الشريعة الإسلامية أقرت

(حق غير المسلمين في الاحتكام إلى دياناتهم في أمور العقيدة والشعائر الدينية والأحوال الشخصية المتعلقة بالأسرة وهي الأحكام التي يوجد فيها فيها اختلاف عن أحكام الشريعة الإسلامية أما غير ذلك من أمور الحياة الدنيوية بكل أنواعها والنظام العام والآداب فتحكمها القاعدة الإسلامية التي تقرر أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم وهو ما يمثل أسمي قواعد العدل والإنصاف والمساواة بين المواطنين جميعا دون استثناء)

واتجه مشروع البرنامج في الباب الثاني (الدولة والنظام السياسي) إلى بلورة هذه القضية بوضوح أكبر وقوة أكثر في تكييفه لمسألة الدولة وطرحه لموضوع النظام السياسي .

فقد اعتبر مبدأ المواطنة الخصيصة الأولي بين الخصائص التي يقوم عليها (منهجنا الإسلامي لإصلاح الدولة) فالدولة وفقا للمشروع هي (دولة تقوم على مبدأ المواطنة)

وفي تفصيل هذا المبدأ أن:

(مصر دولة لكل المواطنين الذين يتمتعون بجنسيتها وجميع المواطنين يتمتعون بحقوق وواجبات متساوية يكفلها القانون وفق مبدأى المساواة وتكافؤ الفرص ..
ويجب أن تعزز النصوص القانونية معاملة كل المواطنين على قدم المساواة دون تمييز وعلى الدولة والمجتمع العمل على ضمان قيام الأوضاع الاجتماعية اللازمة لتحقيق الإنصاف وأن يمكن الأفراد من المشاركة بفاعلية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم وخاصة في القرارات السياسية)

وعاد المشروع ليؤكد هذا المعني في طرحه لما أسماه آليات الديمقراطية الحقيقة فقد أفرد بندا خاصا للمساواة وتكافؤ الفرص أشار فيه إلى:

(عدم التمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات على أساس الدين أو الجنس أو اللون كحق التملك والتنقل والتعلم والعمل وممارسة العمل السياسي والتعبير عن الرأي في ظل الحفاظ على القيم الأساسية للمجتمع والترشح للمجالس المحلية والنيابية وتولي كافة الوظائف القضائية والتنفيذية في كل المجالات وعلى جميع المستويات)

ولكن المشروع بالرغم من ذلك استثني الأقباط والنساء من رئاسة الدولة في النظام الرئاسي ورئاسة الحكومة في النظام البرلماني .

الاستثناء القبطي

يعود هذا الاستثناء الذي لا يتسق مع الإيمان بالمواطنة والمساواة إلى التناقض البنائي في مشروع برنامج يحاول الجمع بين دولة ديمقراطية تهفو إليها قلوب المواطنين جميعهم بمن فيهم كثير من أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" أنفسهم ودولة ذات مرجعية دينية ما زال "العقل الإخواني" أسيرا لها بسبب عدم قدرته على تقديم اجتهاد جديد في مسألة الدولة وعلاقاتها بالدين .

فليس ممكنا التحرر من هذا الأسر ما دامت فكرة الوظائف الدينية للدولة بصورتها التقليدية القديمة قابعة في "العقل الإخواني" العاجز حتى الآن عن ابتكار رؤية جديدة لهذه الوظائف لا تتعارض مع مبادئ بات هذا العقل مؤمنا بها أو غير قادر على التنكر لها .

فالاستثناء القبطي هنا مرده إلى أن للدولة وظائف دينية يفهمها "العقل الإخواني" على النحو الذي كانت عليه قبل أن يعرف البشر مبادئ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص .

والمشكلة هنا ليست في أن تكون للدولة وظائف دينية من عدمه وإنما في تكييف هذه الوظائف وطريقة أدائها فمن الطبيعي أن يكون لجماعة الإخوان المسلمين ما يميزها عن الاتجاهات والقوي السياسية والفكرية والأخرى التي تري أن الدولة لا تقوم بوظيفة دينية بشكل مباشر وإنما ترعي الأديان وتمكن المؤسسات الدينية من أداء وظائفها على أساس من الحرية والمساواة .

ولكن إذا كانت الدولة في عالم اليوم تختلف عما كانت عليه في مراحل سابقة فمن الطبيعي أيضا أن ينسحب ذلك على وظائفها عامة وعلى أدائها لهذه الوظائف بما في ذلك ما هو ديني منها بالنسبة لمن يؤمن بأن للدولة وظيفة أو وظائف دينية .

غير أن غياب هذا المعني عن "العقل الإخواني" أدي إلى استثناء ينطوي على تناقض في بنية مشروع البرنامج فلما كانت للدولة وظائف دينية من بينها وظيفة جهادية ينظر إليها "العقل الإخواني" كما لو أنها محصورة في شؤون الحرب والقتال على النحو الذي كانت عليه من قبل فلا يمكن أن يعهد بها إلى غير مسلم وفق ما ورد في البرنامج

وهو كالتالي

(للدولة وظائف دينية أساسية فهي مسئولة عن حماية وحراسة الدين والدولة الإسلامية يكون عليها حماية غير المسلم في عقيدته وعبادته ودور عبادته وغيرها ويكون عليها حراسة الإسلام وحماية شئونه والتأكيد من عدم وجود ما يعترض الممارسة الإسلامية من العبادة والدعوة والحج وغيرها
وتلك الوظائف الدينية تتمثل في رئيس الدولة أو رئيس الوزراء طبقا للنظام السياسي القائم عليه واجبات تتعارض مع عقيدة غير المسلم مما يجعل غير المسلم معفي من القيام بهذه المهمة طبقا للشريعة الإسلامية والتي لا تلزم غير المسلم بواجب يتعارض مع عقيدته
كما أن قرار الحرب يمثل قرار شرعيا أى يجب أن يقوم على المقاصد والأسس التي حددتها الشريعة الإسلامية مما يجعل رئيس الدولة أو رئيس الوزراء طبقا للنظام السياسي القائم إذا اتخذ بنفسه قرار الحرب مساءلا عن استيفاء الجانب الشرعي لقيام الحرب وهو بهذا يكون عليه واجب شرعي يلتزم بها)

وهذا موقف يغفل التغيير الجوهري الذي حدث في طبيعة الدولة في العصر الحديث مع نشأة وانتشار الديموقراطية وإذا كان مشروع البرنامج يلح على تحقيق .الديموقراطية فالمفترض أن يعني ذلك بداهة أنه لم يعد ثمة مجال على أى نحو لقياس رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة على الإمامة الكبرى فالدولة الديموقراطية هي دولة مؤسسات وليست دولة حاكم فرد ووظائف الدولة الديموقراطية موزعة على مؤسساتها وليست مركزة في مؤسسة واحدة ناهيك عن أن تكون محتكرة بين يدي حاكم أو إمام .

والتناقض الذي يبدو أن "العقل الإخواني" ما زال غير قادر على حله يعود إلى موقع الدين في دولة ديمقراطية حديثة ينطق بها مشروع البرنامج في كل موضع من مواضعه إلا قليلا ويؤمن بأن هذه دولة مؤسسات لا يحكمها حاكم فرد حيث أنها تقوم على

(تداول السلطة وحق الشعب في تقرير شئونه واختيار نوابه وحكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وضمان التزامهم فيما يصدر عنهم من قرارات أو تصرفات لتسيير الشئون العامة برأي الشعب مباشرة أو عن طريق نوابه حتى لا يستبد بالأمر فرد أو ينفرد به حزب أو تستأثر به فئة)

فالعقل "الإخواني" الذي يؤمن بأن الدولة يجب أن تكون ديمقراطية على هذا النحو يفكر في الوقت نفسه بطريقة الدولة في عصر ما قبل الديمقراطية حين كان خليفة المسلمين حاكما فردا مطلقا وكذلك ولاته العاملون في كل مكان امتدت إليه الدولة الإسلامية

ويغفل "العقل الإخواني" صانع هذا المشروع اجتهادات مهمة مثل اجتهاد المستشار طارق البشري في مسألة الولاية التي اشترط لها الفقهاء قديما الإسلام والذكورة إذ يري (إن الولاية في ذلك الزمان كانت فردية فاشترطت هذه الشروط أما الآن فأصبحت الولاية مؤسسة وبالتالي انفصلت عن الأفراد وهذه المؤسسة منظمة بالدستور والقانون وفي مستويات مختلفة من اتخاذ القرار وبالتالي يجوز لأي شخص أن يكون في أى موقع لأن الولايات صارت مؤسسة وليست فردية)

وهناك أيضا اجتهاد د. محمد سليم العوا في الانتقال من مفهوم الذمة إلى مفهوم المواطنة إذ يري أن الذمة عقد وليس وضعا وأن العقد يرتبط بأطرافه وشروطه فإذا تغير أطرافه أو شروطه يتغير العقد ..

وحيث أن المسلمين الأوائل عدلوا في عقد الذمة وأسقطوا الجزية عن أهل الكتاب الذين قاتلوا في الجيش وأن عقد الذمة الذي كان قائما عقدته الدول الإسلامية الأول مع أهل الذمة الذين كانوا في ذلك الوقت فقد تغيرت الأوضاع وسقطت هذه الدولة في العصر الحديث وعقد أهل البلاد عقدا جديدا هو الدستور الذي بني الحقوق والواجبات على فكرة المواطنة .

الاستثناء المتعلق بالمرأة

استثني مشروع البرنامج النساء أيضا من رئاسة الدولة في النظام الرئاسي ورئاسة الحكومة في النظام البرلماني.فالمشروع يجيز أن تتولي المرأة (كافة الوظائف الإدارية في الدولة ما عدا رئاسة الدولة) وهو يرجع هذا الاستثناء تارة إلى ما يعتبره اتفاق الفقهاء على عدم جواز تولي المرأة رئاسة الدولة وتارة أخري إلى اشتراط عدم تعارض ممارسة المرأة كافة حقوقها مع القيم الأساسية للمجتمع .

وينطوي مشروع البرنامج هنا على تناقض في بنيته مماثل لذلك الذي يظهر في موقفه تجاه الأقباط واستبعادهم من رئاسة الدولة (أو الحكومة في النظام البرلماني) وبالمخالفة أيضا لما نص عليه صراحة من رفض الإقصاء والاستبعاد فقد دعا إلى (توسيع قاعدة المشاركة لكل القوي وإشراك كل الفئات وجميع الراغبين في المشاركة وذلك من خلال إستراتيجية الدمج والإدخال بديلا عن الإقصاء والاستبعاد)

هذا موقف ثابت لجماعة "الإخوان المسلمين" لم يتغير في أى وقت بخلاف ما أخذه عليها بعض ناقدي برنامج حزبها هذا ممن اعتقدوا أنها تراجعت عن تقدم كانت قد أحرزته بشأن قضية المرأة .

والحال أن هذا التقدم الذي كان قد حدث بالفعل في العقد الماضي أتاح الاقتراب أكثر من حقوق المرأة المتعارف عليها في العصر الراهن والإقرار بحقها في الانتخاب وفي عضوية المجالس النيابية وفي تولي الوظائف العامة .

وجاء ذلك في كتيب نشرته الجماعة عام 1994 باسمها وتحت شعارها من خلال أحد أذرعها في ذلك الوقت وهو (المركز الإسلامي للدراسات والبحوث) تحت عنوان مزدوج هو (المرأة المسلمة في المجتمع المسلم) (الشورى وتعدد الأحزاب)

وقد تضمن ذلك الكتيب ما أطلق عليه في مقدمته:

(ورقتين تتضمنان موجزا لأهم الأسس الفقهية للمبادئ إلي تقرها جماعة الإخوان المسلمين بشأن وضع المرأة في المجتمع وأهم حقوقها وواجباتها وكذا بشان تعدد الأحزاب وقد رأينا في الظروف الحالية ما يدعو لإحاطة الناس بها والتأكيد عليها)

وبعد أن أسهبت الورقة الأولي في تبيان مكانة المرأة في الإسلام أوضحت أن حقوقها تشمل المشاركة في انتخاب أعضاء المجالس النيابية وما يماثلها بل اعتبرت أن هذه المشاركة واجب عليها أيضا لأن (إحجام المرأة عن المشاركة في الانتخابات يضعف فرصة فوز المرشحين الإسلاميين)

كما أكدت الورقة حق المرأة في تولي مهام عضوية المجالس النيابية وما يماثلها أما بخصوص الوظائف العامة فقد جزمت الورقة بوضوح بأن (الولايات العامة المتفق على عدم جواز أن تليها المرأة هي الإمامة الكبرى ويقاس على ذلك رئاسة الدولة ولذلك يعد الموقف الذي تبناه "الإخوان" في القراءة الأولي لبرنامج حزبهم تجاه المرأة استمرار لهذا الطرح وليس تغييرا فيه؛

ولذلك لا يؤخذ عليهم هنا تراجع ما وإنما عدم قدرة على التقدم والأخذ باجتهادات حديثة مثل اجتهاد د. محمد سليم العوا الذي يري أن الاعتراض على الولاية السياسية للمرأة عملا بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)

يقوم على خطأ لأن

(الولاية العامة التي ليس فوقها ولاية وهي الخلافة لم تعد موجودة الآن ولا يتوقع أن توجد في المستقبل المنظور فالحكام اليوم جزء من مؤسسة والحكم نفسه جزء من مؤسسات عدة تتوزع بينها السلطات والصلاحيات التي كان يجمعها في يده الحاكم الفرد ..ولا بأس من حيث الأهلية والكفاءة أن تتولي المرأة بعض هذه السلطات ولو كانت رئاسة الدولة لأن أيا من تلك السلطات بما فيها الرئاسة نفسها لا تمثل "الأمر" الذي يدل الحديث على عدم فلاح من يولونه امرأة)

ويتعارض هذا الموقف وكذلك الاستثناء القبطي من ناحية أخري مع تأكيد البرنامج على أولوية (التوافق الديمقراطي حول القواعد الأساسية للنظام السياسي) واعتبار (التوافق المجتمعي مقدما على التنافس السياسي والوصول إلى الحد الأدنى أو الحد الضروري من توافق أو إجماع الأمة على نظامها السياسي ودستورها مقدم على التنافس القائم على أغلبية ومعارضة)

فهذا الميل التوافقي الذي ينطوي على رقي تفتقد برامج الأحزاب والقوي الأخرى في مصر مثله يتعارض مع هذه النزعة الانفرادية التي أدت إلى فرض استثنائيين خطيرين على الحق في المواطنة والمساواة بدون حوار أو تشاور أو توافق واستنادا إلى تفسير ديني مختلف عليه .

ثالثا:أزمة فكر ..ومشكلة برنامج

لم تقنع التفسيرات التي قدمها أنصار "الإخوان" لما ورد في مشروع البرنامج بشأن المرجعية الدينية والموقف من الأقباط والنساء من يخشون أن يكون هذا المشروع مؤديا إلى دولة دينية بخلاف ما يقصده أصحابه وهو (دولة مدنية ذات مرجعية دينية) ومن هنا أهمية المراجعة التي وعد بعض قادة "الإخوان" بإجرائها في النص الخاص بالمرجعية الدينية ودور هيئة كبار علماء الدين إذا طرح المشروع لقراءة ثانية .

ويمكن لهذه المراجعة إذا أجيت بالجدية اللازم أن تقلل على الأقل المخاوف من التحول إلى دولة دينية خصوصا في ظل حظر تولي الأقباط رئاستها .

ويحسن أن تكون مراجعة هذا النص مدخلا لتطوير صياغة مشروع البرنامج إجمالا فما دام هذا مشروع برنامج لحزب سياسي يعبر عن "الإخوان"وليس للجماعة نفسها فالمفترض أن تكون روحه سياسيه أكثر منها دعويه

فقد لاحظ غير قليل ممن ناقشوا هذا المشروع أهمية الفصل أو على الأقل التمييز بين السياسي والدعوي في عمل "الإخوان" ودورهم بل أرجع أحدهم الخلل في بنية الجماعة نفسها وليس فقط في المشروع إلى التداخل بين المجالس الديني الدعوي والمجال السياسي منذ أن وصف الإمام حسن البنا هذه الجماعة بأنها ليست (جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة لأغراض محدودة المقصد وإنما روح جديدة تسري في قلب هذه الأمة ..)

والمشكلة الأزلية التي يعاني منها "الإخوان" وفق هذا الطرح هي أنه ما زال هناك اعتقاد في أن التكوين الدعوي والديني للجماعة يصلح لصياغة أفكارها السياسية والإستراتيجية وهو ما اتضح فشله الذريع مع برنامج الحزب الذي عكس تخبطا شاملا وعجزا حتى عن التعبير السياسي عن أفكار الجماعة وأصبح من الصعب تصور مستقبل سياسي لعضو الجماعة من خلال (الرؤية الدعوة التي تعتبر علاقاته بالسياسة مكملة لهذه الرؤية أو وظيفة شرعية مثلها مثل دوره في النشاط الاجتماعي والخيري).

ويتفق مع هذا الطرح مع اختلاف في الرؤية رأي مذهب إلى وجود تيارين داخل "الإخوان" أحدهم متمرس بالعمل السياسي والآخر منشغل بالدعوة أحدها إصلاحي منفتح والآخر محافظ ومنغلق ووفقا لهذا الرأي (يبدو أن كفة التيار الثاني هي الأرجح في دائرة القرار)

وثمة رأي آخ في هذا السياق الخاص بالدعوة والسياسة ذهب إلى أن مشروع البرنامج أظهر أن مواقف الجماعة ما زالت على تأرجحها وضبابيتها مدللا على ذلك بشواهد من أهمها عدم تطرق واضعي المشروع إلى ما يسميه (جوهر وشكل الرابطة المستقبلية بين البرنامج والحزب) وتجاهل (أفكار نوقشت من قبل داخل دوائر الإخوان وخصوصا الكتلة البرلمانية حول أهمية تنظيم العلاقة بين المكون الديني الدعوي والمكون السياسي بالفصل الوظيفي بين الجماعة والحزب)

غير أنه إذا أردنا تشخيصا موضوعيا لمشكلة "الإخوان" الأهم والأكبر في اللحظة الراهنة انطلاقا مما ورد في المشروع بشأن العلاقة بين الدولة والدين وقد تجسدت في علاقة بين المجلس النيابي وهيئة كبار علماء الدين فعلينا أن نبحث عنها في المنهج؛

وبالتالي في الفكر فأزمة "الإخوان" الأهم هي في عجز فكرهم السياسي وعدم قدرته على أن يسعفهم بما يعبر عن رغبتهم في التطور فالمشكلة ليست في أنهم يضمرون غير ما يعلنون بخلاف ما يعتقده من يظنون فيهم الظنون المشكلة هي في أزمة العقل الأصولي السني حين يتصدي لمسألة الدولة والنظام السياسي دون أن يمتلك الأدوات اللازمة للتوفيق الخلاق بين ما لا يستطيع أن يتجاهله؛

وما لا يقدر على تجاوزه فلا هو قادر على تجاهل ضرورات السياسة العصرية وأسسها الديموقراطية ولا في إمكانه أن يتجاوز موروثات دولة (أو بالأحرى دول ودويلات وإمارات) الخلافة في مرحلة ما قبل الديموقراطية ويجوز أن نلخص جوهر أزمة "الإخوان" على هذا النحو وبقدر من الاختزال في العجز عن بلورة صيغة توفق (ولا توافق) بين سيادة الأمة التي تقوم عليها أى دولة حديثة وسيادة الشريعة بالمعني الموروث الذي أصابه الجمود لفترة طويلة بسبب غياب الاجتهاد .

وهذا هو المصدر الأول الذي سنناقشه بتفصيل أكثر في الجزء التالي في هذا الكتاب لارتباك "الإخوان" في تعاملهم مع قضية الدولة والسلطة والحكم على مدي نحو ثمانية عقود فهم مرتبكون بين مبدأ الحكم للشعب ومبدأ الحاكمية لله ... يتقدمون خطوة إلى الأمام ويعودون أخري إلى الوراء لأسباب أهمها عدم القدرة على الارتقاء إلى المستوي الذي تتطلبه مواجهة معضلة كبري على هذا النحو .

فقد تعاملت جماعة "الإخوان" معها بطريقة أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق الخلاف الذي ينتج عنه مركب جديد يجمع بين مبدأى الحكم للشعب والحاكمية لله ولكن انطلاقا من أن السيادة النهائية هي للأمة صاحبة الحق في اختيار حكامها ومساءلتهم ومحاسبتهم وانتخاب من ينوبون عنها ويستمدون سلطتهم منها وليس من أى هيئة أو جهة غيرها .

كان هذا وما زال هو جوهر أزمة الجماعة ومصدر ارتباكها وعنوان عجزها عن التكيف والاندماج . ومن هنا كان الخوف الذي أثاره مشروع برنامج "الإخوان" من أن يؤدي ضعف القدرة على الاجتهاد الخلاق في قضايا الدولة والسلطة إلى الوقوع في أسر الدولة الدينية.

ولا مخرج من هذا المأزق الكبير إلا إعطاء أولوية قصوى لبلورة رؤية للعلاقة بين الدولة والدين تقوم على توفيق خلاق بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة فما يجعل النظام السياسي ديمقراطيا من عدمه ليس التفاصيل الكثيرة التي حواها المشروع وإنما المبادئ التي يقوم عليها وفي مقدمتها مبدأ سيادة الأمة فهذا المبدأ هو الذي يجعل السلطة النهائية هي للهيئات المنتخبة من كل أصحاب حق الاقتراع وليس فقط من بضع عشرات أو مئات من علماء الدين .

نحو المستقبل:الإخوان المسلمون والعقدة الديمقراطية

أولا:عقدة المرجعية الأحادية

كانت المسألة الديمقراطية عقدة أساسية بالنسبة إلى تيار "الإخوان المسلمين" منذ تأسيس تنظيمه الأم في مصر.وما زالت هذه العقدة مستمرة بالرغم من التقدم الذي حققه بعض تنظيمات "الإخوان" في بلاد عدة ومن بينها مصر وربما يجوز القول إن شيئا من التفكيك حدث في هذه العقدة من حيث المبدأ كما هي الحال على مستوي تفاصيل المسألة الديمقراطية .

ولكن مصدرها الرئيسي الذي يعود إلى قضية المرجعية ما زال مستعصيا على التفكيك . فالإصرار على مرجعية أحادية للنظام السياسي لا ينسجم مع أحد أهم مقومات الديمقراطية التعددية التنافسية المفتوحة سواء كانت هذه المرجعية فكرية أيديولوجية فلسفية أو دينية .

فأحد الفروق الأساسية بين النظام الديمقراطي والنظام الشمولي هو أن الأول متحرر من المرجعيات إلا ما يتوافق عليه المجتمع بحرية كاملة من مبادئ دستورية عبر حوا وطني عام يقود إلى صيغة يقبلها جميع الأطراف والفئات السياسية والاجتماعية .

وهذا هو جوهر المعضلة التي تواجه "الإخوان المسلمين" وغيرهم من تيارات الإسلام السياسي حين يحدث تقدم في موقفها تجاه المسألة الديمقراطية وقد حدث هذا التقدم فعلا فالنظام السياسي عند "الإخوان المسلمين" هو نظام ديمقراطي بالمعني الإجرائي الذي يفهمه كل من يؤمن بالديمقراطية نظام يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطات الأمر الذي يجيب بشكل واضح على سؤال طالما أربك حركات أصولية خطابها السياسي باتجاه قبول الديموقراطية ولكن بصورة غامضة وهو:أين إذن موضع مفهوم "الحاكمية لله" في هذا الإطار؟

فالخطاب السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين" يقول إن المواطنة وليس الدين هي أساس العلاقة بين النظام السياسي والشعب وأنها تؤيد التداول السلمي للسلطة بما يعني ضمنيا أنها لن تحتكر الحكم إذا فازت في الانتخابات بالرغم من أن الكثير من الأحزاب والتيارات الأخرى لديها شك عميق في ذلك.

فالسيناريو الذي أطلق عليه في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 " فخ الانتخابات لمرة واحدة" يخلق خوفا من وصول حركة إسلامية إلى السلطة وفي انتخابات حرة فتنفرد بالحكم وعندئذ تصبح هذه الانتخابات هي الأولي والأخيرة .

فالتقدم الذي حدث في موقف "الإخوان المسلمين" وتيارات إسلامية أخري باتجاه المسألة الديمقراطية يظل محصورا في الجوانب الإجرائية في النظام السياسي وبمنأي عن الأساس الذي يقوم عليه فالقول بأن هذا النظام ديمقراطي بمرجعية إسلامية ينطوي على تناقض في بنيته وهذا تناقض يخالف الأساس الذي يقوم عليه النظام الديموقراطي من حيث أنه يستمد وصفه هذا (الديموقراطي) من كونه يقوم على حرية الاختيار بين أحزاب وقوي وحركات لكل منها أو لبعضها مرجعيات وليس على الارتهان لمرجعية واحدة .

وهذا كله فضلا عن أن هذا التكييف للنظام السياسي (نظام ديمقراطي بمرجعية إسلامية) يصطدمن بمشكلة ممتدة في الفكر الإسلامي السني عبر الزمن وهي عدم وضوح مفهوم المرجعية أصلا.

فهذا مفهوم غامض ليس له أصل واضح في الفكر الإسلامي السني بينما يتعارض مدلوله في الفكر الشيعي تعارضا مباشرا بل كاملا مع المفهوم الديمقراطي فالمرجعية في الفكر الشيعي تعبر عن معني شمولي يفترض أن يكون بعيدا عما يقصده القائلون بالديمقراطية في إطار مرجعية إسلامية .

وقد رأينا كيف عملت آليات النظام السياسي الإيراني باتجاه إقصاء القوي الوطنية غير الأصولية التي لعبت أدوارا مقدرة في الثورة على النظام الشاهنشاهي , ثم في تهميش الاتجاهات الإصلاحية الإسلامية في داخل السلطة التي باتت أحادية مغلقة .

غير أن ما يعنينا هنا ليس هو طابع السياسي الإيراني الذي يمكن أن يختلف عليه المختلفون بل التطبيق المحدد لمفهوم المرجعية الدينية والدور الذي تلعبه في التشريع وهذا هو بيت القصيد بالنسبة إلى ما يطرحه القائلون بنظام ديمقراطي في إطار مرجعية دينية .

فهم يقولون إن البرلمان المنتخب من الشعب هو الذي سيشرع في إطار الاجتهادات التي يطرحها علماء الدين (المرجعية) وهذا طرح قريب مما جري عليه العمل في إيران من حيث الآليات وطريقة إدارة العلاقة بين المشرع والمجتهد وليس من زاوية نوع المرجعية وأصولها .

فقد فرضت الآليات المتبعة في إيران أن تكون سلطة التشريع الحقيقية بين يدي المراجع من علماء الدين وليس في البرلمان المنتخب فالإقرار بوجود مرجعية خارج البرلمان يمنحها بالضرورة وفي كل الأحوال سلطة مراقبة أداء هذا البرلمان وما يصدر عنه في ضوء القاعدة العامة التي طبقت في إيران ويتبناها بعض الإسلاميين العرب وفي ضمان الانسجام بين القوانين التي يتم سنها والشريعة الإسلامية؛

غير أن المشكلة ليست فقط في الموضع الحقيقي لسلطة التشريع ولكن أيضا في العملية التشريعية نفسها فهناك خلاف بين علماء الدين المسلمين في كل مكان على معيار انسجام التشريع مع الشريعة فهل المعيار هو التطابق التام أم عدم التعارض أو عدم التمايز أو عدم المغايرة ؟

وفي تجربة إيران من حيث الآليات لا الفكرة مرة أخري هيمن في البداية رأي أنصار التطابق وأدي ذلك إلى مآزق حرجة من بينها مثلا الصعوبة التي وجدها علماء مجلس صيانة الدستور لسنوات متوالية في الموافقة على الميزانية العامة للدولة لأنهم لم يستطيعوا الاتفاق على أن الضرائب تتطابق مع الشريعة .

وأدي ذلك مع الوقت إلى تدعيم مركز القائلين بأن المهم هو ألا تكون القوانين مغايرة للشريعة كما أصبح الاجتهاد القائل إن هناك حالات تستدعي ترجيح المصلحة على الشرع مقبولا في الممارسة .

ومع ذلك يظل هناك خلاف بين علماء الدين الذين يريد "الإخوان المسلمون" مكانا مرجعيا لهم في مؤسسات النظام السياسي الأمر الذي أوقعهم في المآزق الذي أنتج فكرة هيئة العلماء التي وردت في مشروع برنامجهم الذي سبقت مناقشته وليس هذا هو المأزق الأول ولا هو الأكثر خطرا في تاريخ جماعة " الإخوان المسلمين " في مصر؛

فقد كان إصرارهم على مرجعية لا يملكون رؤية واضحة لهم أحد أهم أسباب الصدام الذي حدث بينهم وقيادة ثورة يوليو 1952 فقد طلبوا أن تعرض التشريعات والقرارات الرئيسية على لجنة تضم أعضاء من الجماعة والجيش فأدرك الزعيم جمال عبد الناصر أنهم يريدون وضع الثورة ومجلس قيادتها تحت وصايتهم .

ومع ذلك لم يستوعب "الإخوان المسلمون" الدرس وظلوا مصريين على مرجعية دينية في غياب القدرة على تنظيرها وبلورة رؤية واضحة لها يمكن أن تقنع غيرهم بأنها لن تكون المعبر الذي يقود إلى دولة دينية من الناحية الفعلية .

ولمساعدتهم في السعي إلى بلورة رؤية قد تساعد في حل العقدة التي ما زالت مستعصية ربما يكون عليهم أن يبدأوا بالتفكير في عدد من الأسئلة التي يمكن أن تسهم الإجابة عليها في إحراز شئ من التقدم وهي:كيف يمكن تجسيد مفهوم المرجعية في الواقع عمليا ونظاميا؟ ومن يعبر عنها؟ وكيف ...؟

وأية صورة ستكون عليها ..وكيف يتم اختيار أعضائها..وهل سيراعي فيهم أن يكونوا متفقين أو متجانسين ..وفي صيغة أكثر وضوحا بافتراض أن هناك أكثر من حزب أصولي هل يمكن تصور أن يكون لكل حزب من هذا النوع علماؤه الذين يملون مرجعيته التي تختلف مع مرجعية الحزب الأصولي الآخر ثم يأتي كل من هذه الأحزاب بعلمائه ليكونوا مرجعة للنظام السياسي في حال فوزه بالغالبية؟

وفي حال مصر على وجه التحديد كيف ستكون علاقة هذه المرجعية بالأزهر وعلمائه وهل فكر "الإخوان" وغيهم من الإسلاميين الذين يطرحون فكرة النظام الديمقراطي ذي المرجعية الدينية في موقع الأزهر في الإطار الذي يتصورنه أم أن هذا الإطار ما زال محض خطوط عامة لم يحدث تفكير في كيفية تطبيقها؛

ثم كيف ستسير العلاقة بين المرجعية على تشريع أصدره هذا المجلس نهائيا وما الذي يبقي من مبدأ السيادة للشعب الذي تمتنع الديمقراطية في غيابه ثم ماذا لو اختلفت المرجعية على تشريع ما فرأي بعض علمائها أنه لا يخرج على مبادئ الشريعة فيما رأي بعض آخر أنه يحل حراما أو يحم حلالا؟

وليست هذه إلا عينه من أسئلة كثيرة يثيرها مفهوم النظام الديمقراطي في إطار مرجعية إسلامية بما وضح فيه وما غمض فالواضح فيه يتعارض مع أهم مقومات الديمقراطية التي تمتنع حين تحضر المرجعية الأحادية التي تقترن بالنظام الشمولي أما الملتبس فيه فهو يعود إلى عدم قدرة أصحابه على تقديمه في صياغة تنسجم مع مقومات الديمقراطية أو على الأقل لا تتعارض معها تعارضا جوهريا .

والمعضلة هنا هي أنه لا توجد دلالة محددة وواضحة لمفهوم المرجعية في الفكر السني وقد رأينا المرجعية الشيعية في التطبيق سلطة دينية عليا تمتلك الحق في مراجعة كل ما يقوم به غيرها بينما لا تسأل هي أو تراجع فليست هناك صيغة أخي معروفة للمرجعية يوضح كيفية تجسيد هذه المرجعية بطريقة لا تجعلها سلطة دينية متعالية تراجع كل ما يصدر عن المؤسسات الدستورية في الدولة والمجتمع لتجيزه أو تهده .

والحال أن مجرد وجود هيئة ما فوق المؤسسات الدستورية يؤدي إلى دولة دينية حتى إذا كان نظامها السياسي مكتمل الأركان من الناحية الإجرائية وحتى إذا لم يكن أعضاء هذه الهيئة من رجال الدين فحكم هؤلاء ليس شرطا للدولة الدينية لأن العبرة بدورهم والصلاحيات المخولة لهم وطبيعة سلطتهم فالعبرة ليست بمن يحكم بل بكيف يحكم .

وإلى أن يتمكن "الإخوان المسلمين" من حل هذه العقدة المحورية ستظل مواقفهم تجاه المسألة الديمقراطية متعثرة بالرغم من حرص قيادتهم على اتخاذ خطوات إلى الأمام بشأنها منذ منتصف العقد الأخير في القرن الماضي عندما أصدروا الوثيقة المعنونة (موجز عن الشوري في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم عام 1994)

كانت هذه خطوة مهمة إلى الأمام في موقف "الإخوان" تجاه المسألة الديمقراطية ولكنها لم تكن مكتملة أو قل أنها تعثرت في عقدة المرجعية وأدي ذلك إلى إضعاف مفعول التقدم الذي عبرت عنه الوثيقة تجاه تأكيد القبول بالتعدد الحزبي وتداول السلطة عبر انتخابات دورية؛

تقول الوثيقة:

(إننا نؤمن بتعدد الأحزاب في المجتمع الإسلامي وأنه لا حاجة لأن تضع الدولة من جانبها قيودا على تكوين ونشاط الأحزاب.. وما دامت الشريعة الإسلامية هي الدستور الأسمي وهي القانون الذي يطبقه قضاء مستقل ... فإن في ذلك ما يكفي لضمان سلامة المجتمع واستقامته على الطريق السوي واتخاذ الإجراء الشرعي المناسب تجاه من يخرج على المبادئ الأساسية التي لا خلاف فيها من علماء وفقهاء المسلمين والتي تعتبر المقومات الأساسية للمجتمع)

ويعني ذلك أن هناك مرجعية عليا لابد أن تلتزم بها الأحزاب والجماعات السياسية كلها وليست جماعة "الإخوان" فقط ويتعرض من يخرج عليها "للإجراء الشرعي" بحيث لا يبقي في الساحة السياسية غير أحزاب تنتمي إلى مرجعية واحدة هي التي تؤطر التعددية وهذا نزوع احتكاري يتعارض مع التقاليد الديمقراطية التي تجعل تحديد المقومات الأساسية للعملية السياسية هنا باتفاق مختلف الأحزاب والتيارات وتفاهمها بحيث تكون هذه المقومات حصيلة القواسم المشتركة بينها وعندئذ يتحقق التراضي العام الذي لا يمكن الوصول إليه عبر حوار جدي يشارك فيها الجميع ويلتزمون بنتائجه التي تمثل مقومات العملية السياسية .

وحين يحتكر تيار واحد وضع هذه المقومات فهو يعطي لنفسه حق الفرز من الناحية الفعلية وبالتالي تحديد من يسمح له بالبقاء في الساحة السياسية ولا يقود ذلك إلا لنوع من التعددية المقيدة في أفضل الأحوال ضمن إطار نظام سلطوي بشكل آخر ولكن السلطوية قد تصبح في هذه الحالة أكثر صرامة وقسوة كونها تستند إلى مرجعية يضفي أصحابها عليها قداسة دينية؛

ولذا فعندما تمضي وثيقة (موجز عن الشوري في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم) لتأكيد تداول السلطة سيكون هذا التداول قد فقد جانبا رئيسيا من مغزاه القائم على التنافس الحر فتقول الوثيقة (إننا نري أن قبول تعدد الأحزاب على النحو الذي أسلفناه يتضمن قبول تداول السلطة عن طريق انتخابات دورية)

فهذا التداول ليس مفتوحا في إطار مقومات يتشارك الجميع في صوغها وإنما مقيد بمرجعية تيار واحد الأمر الذي يتعارض مع إقرار الوثيقة نفسها بأن (الخلاف والتعدد طبيعة من طبائع البشر وواقع ملموس في الحياة لا يجوز إنكاره) فالإقرار بالتعدد والذي هو بالفعل أصل من أصول الإسلام لا ينسجم مع تكبيله بمرجعية عليا

وعلى من يعترف بقيمة التعدد على هذا النحو أن يقبل بتعدد المرجعيات كبداية لحوار يقود لالتزام المتعددين باحترام المبادئ العام للإسلام وعدم المساس بالمقدسات وفارق جوهري في الواقع بين احترام هذه المبادئ والمقدسات وبين فرض مرجعية مستمدة من أيديولوجية أصولية هي موضع خلاف بين تيار الإخوان وتيارات ليبرالية أو اشتراكية أو قومية بل بين ذلك التيار وغيره من التيارات الأصولية .

فهناك خلافات حادة بين هذه التيارات حتى داخل البلد الواحد حول قضية المرجعية وكثير هي الأدلة على ذلك ومن بينها مثلا الخلاف الكبير بين "الإخوان المسلمين" وأيمن الظواهري الذي قاد تنظيم "الجهاد" في مصر لفترة قبل أن يشارك في تأسيس "القاعدة" خذ مثلا الوثيقة التي أعدها الظواهري تحت عنوان (نصح الأمة في اجتناب دخول مجلس الأمة)

فقد تضمنت قائمة اتهامات لتيار "الإخوان" وصلت إلى مطالبتهم بالعودة لمرجعية الجهاد بدعوي أنها المرجعية الإسلامية الصحيحة ورد أحد قادة تيار "الإخوان" على تلك الوثيقة ردا يخالف ما يطالب به هذا التيار في وثيقة (موجز عن الشوري في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم) حيث جعل أى حوار مع تنظيم "الجهاد" مشروطا بقبوله (ألا يكون اجتهاده هو الاجتهاد الوحيد الذي يجب أن يسود الأمة) الأمر الذي يعني الدعوة إلى تعدد المرجعيات .

ولذلك فالمطلوب من تيار "الإخوان" تعميم هذه الدعوة التي وجهها إلى الظواهري عبر القبول بتعدد المرجعيات بالمعني الواسع لا المرجعيات الأصولية فحسب وهذا هو الوضع الطبيعي حيث لا يستطيع أى تيار أصولي أو غيره الزعم بأنه المرجع وتتساوي في ذلك التيارات الأصولية مع غيها فالاعتراف المتبادل بتعدد المرجعيات خطوة ضرورية باتجاه الديموقراطية

بحيث يطرح كل تيار اجتهاده النابع من مرجعيته وقد صيغ في برامج وسياسات محددة لا شعارات ومقولات عامة غامضة باعتباره واجتهادا بشريا قد يصيب وقد يخطئ أما خلط أية مرجعية بجوه العقيدة الإسلامية سواء كانت مرجعية "الإخوان" أو غيرها فهو يتعارض مع حقيقة التعدد في طبائع البشر وأفكارهم واجتهاداتهم والت كان للإسلام فضل تأكيدها والحث على احترامها .

وإذا كان بعض الفقهاء الشيعة أدركوا العقدة المتضمنة في قضية المرجعية وهم الذين تعتبر هذه القضية ذات طابع عقيدي بالنسبة إليهم فعلي الإسلاميين السنة أن يحذوا حذوهم .

ومن أبرز هؤلاء الفقهاء الذين راجعوا قضية المرجعية بالرغم من محوريتها لدي الشيعة الفقيه الراحل السيد محمد حسن فضل الله في ورقته إلى (المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي) في الخرطوم عام 1993 فقد قدم إسهاما مهما لم يأخذ حقه من الاهتمام انطلاقا من التمييز بين ما أسماه (النظام الديمقراطي كإطار للحكم لا يلتزم بفكر معين لأن الأكثرية هي التي تحدد الصورة داخل هذا الإطار وتمنحها شرعيتها وبين النظام الملتزم فكريا الذي تتحرك مفرداته لتلتقي بالإطار فيكون العنوان الكبير للنظام هو الإطار والصورة معا)

واعتبر النظام الإسلامي مل الاشتراكي أو الماركسي نموذجا للنظام الملتزم فكريا وبالتالي (عليه تحديد موقع فكره من الأفكار الأخر) وعلى الرغم من أنه لم يصل إلى طرح تصور محدد لنظام ديمقراطي يتولي تيار أصولي السلطة فيه ولم يقدم رؤية لكيفية المحافظة على حرية الأفكار الأخرى في نظام إسلامي أى للعلاقة بين الإطار والصورة إلا أنه تناول بقدر كبير من الموضوعية جوهر المشكلة التي تواجه بعض "الإخوان المسلمين" وغيرهم في موقفهم من الديمقراطية وهي قضية المرجعية .

كما دعا التيارات الإسلامية إلى تناول قضية حرية التيارات الأخرى بشكل منفتح ولذلك يمثل إسهامه هذا حثا على التعاطي مع المشكلة بأفق متحرر خاصة وأنه أعلى من شأن مبدأ الحرية وبدا قريبا من التأكيد على أن في التمسك به مصلحة للأصوليين الذين يصلون للحكم من منظور أن المكاسب التي يحصلون عليها من منح الحرية تفوق تلك التي تترتب على تقييدها ودعاهم إلى (التدقيق في تجربة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية التي كانت تابعة له في مسألة إدارة الحريات وبلورة النتائج السلبية التي نجمت عنها)

ولعل أهم ما ينطوي عليه هذا الطرح الذي صدر عن فقيه بارز هو أنه يتجاوز المفهوم الشيعي السائد لقضية المرجعية في الوقت الذي ما زال تيار "الإخوان المسلمين" متأثرا بجوهر هذا المفهوم وهو الخلط بين المرجعية الإلهية والمرجعيات البشرية فمثلما تتعارض نظرية ولاية الفقيه مع الديمقراطية؛

كذلك لا ينسجن توجه هذا التيار بشأن قضية المرجعية مع متطلبات النظام الديمقراطي ولا مجال التطور جوهري في موقف هذا التيار من الديمقراطية واستكمال التقدم الجزئي الذي حدث بدءا من وثيقة (موجز من الشوري في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم)

إلا بمراجعة هذا التوجه والإقرار بتعدد المرجعيات بوصفها اجتهادات إنسانية يتنافس أصحابها في السعي لتحقيق المنافع ودرء المفاسد ... ويكون الحكم عليها للشعب من خلال التنافس الذي يأخذ صورة انتخابات دورية في إطار تفاهم وطني عام على مقومات أساسية تمثل القواسم الجامعة المشتركة بين مختلف المرجعيات .

وعندئذ يكون الدستور الذي يجمع هذه القواسم المشتركة وليس غيره هو مرجعية النظام السياسي بغض النظر عمن يصل إلى الحكم ومن يترك السلطة فإذا وصل إلى الحكم تيار ما ذو مرجعية إسلامية وأراد أن يغير السياسات العامة أو بعضها وفقا لهذه المرجعية كما يراها هو عليه أن يسعي إلى ذلك من خلال الدستور والنظام القانوني .

ويتطلب ذلك أن تكون المحكمة الدستورية العليا هي الجهة الوحيدة التي تفصل فيما إذا كان قانون ما ينسجم مع الشريعة أو يتمايز عنها أو يتعارض معها ولهذا يحسن أن تعاد صياغة المادة 175 من الدستور عند تعديله أو تغييره ضمن توافق وطني عام على القواسم المشتركة الجامعة بحيث تنص بوضوح وحسم على أن المحكمة الدستورية العليا هي وحدها ودون غيرها التي تفصل في ذلك وعلى سبيل الحصر .

وقد رأينا لدي مناقشة مشروع برنامج "الإخوان المسلمين" كيف أن عقدة المرجعية الأحادية أنتجت توجها في هذا البرنامج آثار خوفا عميقا ليس لدي خصومهم الأكثر حدة فقط بل في أوساط من يأملون في تطورهم على نحو دمجهم في الحياة السياسية أيضا .

وأظهر الجدل الذي حدث حول ذلك المشروع مدي ارتباط "الإخوان المسلمين" في طرحهم لقضية المرجعية فقد حاول المرشد العام في ذلك الوقت السيد مهدي عاكف أن يجتهد فيها فجاء كلامه مثيرا لمزيد من المخاوف عندما قال أن المرجعية يمكن أن تأخذ صيغة كيان داخل الوزارات وهيئات الدولة لمراجعة ما تقوم به للتأكد من مطابقة الشريعة الإسلامية .

ولجأ بعض قادة الجماعة إلى إنكار قال ذلك أو نفي علمهم بهذا الكلام الذي يجسد المرجعية بطريقة تجعلها سلطة عليا فوق سلطات الدولة وتفاعلات المجتمع .

وربما يعني ذلك أن إحدى أكبر مشاكل جماعة "الإخوان المسلمين" هي ضعف قدرتها على التصدي لمسألة الدولة والنظام السياسي بدون امتلاك الأدوات اللازمة لتوفيق الخلاف بين ما لا تستطيع أن تتجاهله وما لا تقدر حتى الآن على تجاوزه فلا هي قادرة على تجاهل ضرورات السياسة العصرية وأسسها الديمقراطية ولا في إمكانها أن تتجاوز موروثات دولة أو بالأحرى دول وإمارات ودويلات الخلافة في مرحلة ما قبل الدولة الوطنية في العالم الإسلامي .

إنها مشكلة العجز عن بلورة صيغة توفق ولا تلفق بين سيادة الأمة التي تقوم عليها الدولة الوطنية في هذا العصر وسيادة الشريعة بالمعني الموروث الذي أصابه الجمود لفترة طويلة بسبب غياب الاجتهاد وبسبب هذا العجز تبدو الجماعة مرتبكة بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة وبين الحكم للشعب والحاكمية لله فتتقدم خطوة إلى الأمام وتعود أخري إلى الوراء لأسباب أهمها أنها لم تعط اهتماما يذكر للاجتهاد الذي تتطلبه معالجة مشكلة كبري على هذا النحو.

فقد تعاملت مع قضية الدول والنظام السياسي والحكم بطريقة أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق الخلاق الذي ينتجه عنه "مركب جديد" يجمع بين مبدأي الحكم للشعب والحاكمية لله ولكي يكون هذا التوفيق المبتغي منسجما مع مقومات الديمقراطية لابد أن يقوم على أن السيادة النهائية هي للأمة صاحبة الحق في اختيار نوع دولتها ونظامها السياسي وفي انتخاب حكامها بحرية ومساءلتهم ومحاسبتهم وكذلك انتخاب من ينوبون عنها ويستمدون سلطتهم منها ولا يخضعون لأى جهة غير منتخبة .

كان هذا وما زال هو مصدر أزمة جماعة "الإخوان المسلمون" كما أنه أحد أهم أسباب اضطراب علاقاتها مع الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى وكثير من المثقفين في المجتمع ومن أهم العوامل التي تؤدي إلى الخوف منها .

ثانيا:معضلات العلاقة بين الإخوان والتيارات الأخرى

لم يستطيع "الإخوان المسلمون" تبديد المخاوف من مشروعهم السياسي أو الحد منها لأنها مخاوف حقيقية وليست فقط من صنع الذين استخدموا الأصولية الإسلامية "فزاعة" من أجل أهداف يتوخونها وإذا كان "الأقباط" في مقدمة الخائفين فهم ليسوا وحدهم فهو ليس قبطيا فحسب د. ميلاد حنا الذي نطق فزعا يوم حصول "الإخوان" على 88 مقعدا في مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية عام 2005؛

حين قال أنه في اليوم الذي يحصل "الإخوان المسلمون" على الغالبية سيغادر الأقباط الأغنياء مصر ليبقي فقراؤهم فقط وقد يغير بعضهم دينه وتمني أن يموت قبل أن يأتي هذا اليوم فقائل هذا الكلام هو مثقف علماني اتجاها ورؤية مثلما هو مسيحي دينا ويشاركه علمانيون ليبراليون ويساريون وناصريون يدينون بالإسلام خوفه بأشكال مختلفة ودرجات متباينة؛

ولكن جميعهم يخافون على مصر الخوف يشمل قطاعا يعتد به النساء وخصوصا الأجيال الجديدة ومن الخائفات كثير يرتدين الحجاب ولكنهن تفعلن ذلك بإرادتهم وماخوفهن إلا من التدخل في حياتهن ووضع رقباء عليهم فالذين يدعون النساء الآن إلى ارتداء الحجاب بالحسني قد يفعلون ذلك غدا بالإكراه عندما يمتلكون القوة .

ومن الطبيعي أن يكون المثقفون في صدارة الخائفين على المقدار المتاح الآن من حرية التفكير والتعبير والإبداع خصوصا وأن تجربتهم مع بعض نواب "الإخوان" في البرلمان مريرة فقد مارس بعضهم رقابة على العقل والإبداع أكثر مما راقبوا السلطة التنفيذية وأجهزتها.ويعني ذلك أن مساحة الخوف من احتمال صعود "الإخوان" أوسع من أن يمكن حصرها في الأقباط ..

وتشمل هذه المساحة تيارات سياسية أخي يوفر التباس مواقف جماعة "الإخوان المسلمين" تجاه المسألة الديمقراطية فرصة لقادة بعضها الذين لا يريدون التعاون معها لأسباب تتعلق بحساباتهم ومصالحهم في المقام الأول كما تدفع آخرين يخافون فعلا هذا الالتباس وآثاره المستقبلية إلى المحافظة على مسافة بمنأي عنهم .

ولذلك أصبح متعذرا ما كان ممكنا بل بدا طبيعيا حتى منتصف العقد الأول في القرن الحادي والعشرين حين كان "الإخوان المسلمون" طرفا أساسيا في مختلف أشكال التنسيق والتعاون بين أحزاب وقوي المعارضة .

وساهمت مواقفهم المترددة في التنسيق مع هذه الأحزاب والقوي عشية الانتخابات البرلمانية التي أجريت في نهاية عام 2005 والتي انتهت باختيارهم العمل منفردين سعيا إلى الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد في ازدياد القلق منهم وتوسع الفجوة معهم .

فقد تعارض تطلعهم لأن يكونوا قوة كبيرة داخل البرلمان وازدياد عدد مرشحيهم من حوالي 70 مرشحا في انتخابات 2000 إلى نحو 130 مرشحا في انتخابات 2005 مع محاولة تأسيس تحالف انتخابي معارض .

وجد "الإخوان" أنفسهم في موقف صعب بين خيارين يرغبون في كليهما ولكنهم لا يستطيعون جمعهما الخيار الأول هو أن يركزوا في سعيهم إلى زيادة تمثيلهم في البرلمان وتأكيد نفوذهم في الشارع السياسي عبر إظهار قوتهم الانتخابية وتطلب ذلك الخيار عدم التفريط في أى دائرة انتخابية يوجد بينهم مرشح قادر على الفوز فيها..

حتى إذا تعارض ذلك مع ضرورات التنسيق الانتخابي مع أحزاب وقوي المعارضة الأخرى والخيار الثاني هو أن ينضموا إلى تحالف المعارضة في ظل ميزان قوي يعطيهم قيادته من الناحية الفعلية فعندما يؤسس تخالف لأسباب انتخابية في المقام الأول يصبح الطرف الأكبر حجما والأقوى تنظيما هو مركز الثقل فيه .

ولكن في مقابل هذا المكسب كان الالتحاق بالتحالف يفرض عليهم التضحية بعدد من المقاعد التي يمكنهم حصدها والتنازل عن الترشح في بعض الدوائر لأطراف أخري في التحالف فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها أى تحالف انتخابي هو الإخلاء المتبادل للدوائر بحيث لا يتنافس مرشحان ضمن هذا التحالف في الدائرة نفسها ولكن هذه القاعدة قد يصعب تفعيلها إلا إذا كانت أوزان أطراف التحالف متقاربة أما حين تتفاوتا هذه الأوزان ويكون التفاوت شديدا يعمل الإخلاء المتبادل في غير مصلحة الطرف الأقوى أى "الإخوان" في هذه الحال .

ولكن إذا كان في الالتحاق بالتحالف خسارة عدد من المقاعد ففي رفضه خسارة سياسية لأنه يوسع الفجوة بين "الإخوان" وباقي أحزاب وجماعات المعارضة ويزيد بالتالي أزمة عدم الثقة فضلا عن أنه يحرمهم من حماية نسبية يوفرها لهم وجودهم مع أحزاب المعارضة في تحالف يخوض الانتخابات بلائحة مرشحين واحدة .

وإذا تأملنا الخيارين نجد أن أولهما كان يحمل مكسبا أكبر في الانتخابات ولكنه ينطوي على خسارة أكبر أيضا على مدي زمني أطول أم الخيار الثاني الذي حرم "الإخوان" من كسب انتخابي أكبر فقد كان كفيلا بأن يوفر لهم فرصة غير مسبوقة لتدعيم مركزهم في الملعب السياسي .

ولكن "الإخوان" لم يجروا حساب المكسب والخسارة بهذه الطريقة التي يفترض أن يتبعها السياسي الرشيد الذي لا يركض وراء المكسب السريع إذا كانت كلفته عالية فيما بعد ... اختاروا عدم الالتحاق بتحالف انتخابي لم يكن له معني بدورهم مع وعود مرشحيهم الذين ينافسون رموزا للمعارضة ولذلك ازدادت أزمة عدم الثقة بينهم ومعظم قوي المعارضة .

وقد حسم "الإخوان" موقفهم لمصلحة الخيار الذي حقق لهم كسبا انتخابيا كبيرا ولكنه مؤقت فضلا عن أثره السلبي في مفاقمة أزمة الثقة المفقودة أو المحدودة لم تكن الأحزاب المأزومة حتى النخاع في وضع يمكنها من إعلان فشل جهود التحالف أى إضافة إخفاق جديد إلى سجل لا يتحمل المزيد ولذلك فضلت أن تهرب إلى الأمام .

ولقد حاولت هذه الأحزاب المتهافتة أن تغطي أزماتها من خلال تحالف مع "الإخوان" يقويها انتخابيا ولما فشلت في ذلاك لم يعد لديها سبيل لتغطية هذه الأزمات إلا الدخان الكثيف الذي أطلقته وأسسته عشية انتخابات 2005 البرلمانية "الجبهة الوطنية للتغيير السياسي والدستوري".

ولكن المأزق الذي وضع فيه "الإخوان" هذه الأحزاب لا يقارن بالخسارة التي يتكبدونها من جراء رفضهم التحالف الانتخابي فقد خسروا فرصة كانت سانحة لاكتساب ثقة أحزاب وقوي المعارضة وهذه خسارة لم يعوضها حرصهم على التنسيق مع أشخاص ينتمون غلى معظم الأحزاب في دوائر لم يكن لهم مرشحون فيها وكان هذا هو المعيار الرئيسي لتحديد مرشحي المعارضة الذين نسقوا معهم إضافة إلى موقف هؤلاء تجاه الجماعة وعلاقتهم معها .

وهكذا كان خيار الكسب التكتكي أو الفوز السريع غالبا لديهم على النحو الذي ظهر أيضا في الانتخابات الرئاسية لعام 2005 حين أرادوا استثمار تسابق تصف المرشحين في هذه الانتخابات عليهم سعيا إلى دعمهم فقد اعتمدوا تكتيك الغموض التصويتي عبر إعلان قيادتهم عدم تأييد مرشح بعينه الأمر الذي أبقي المزاد بين هؤلاء المرشحين مفتوحا حتى يوم الانتخاب .

غير أن هذا المكسب التكتيكي كان ينطوي على خسارة كبيرة لأنه أضعف ثقة بعض الأحزاب والجماعات السياسية في إمكان بناء علاقة مستقيمة مع "الإخوان"

ثالثا:بين الإخوان المسلمين في مصر والعدالة والتنمية في تركيا

فتن حزب العدالة والتنمية التركي الكثير ممن يتمنون وجود تيار إسلامي سياسي ذي توجه ديمقراطي في مصر وبلاد عربية أخري كما حظي بتقدير وإعجاب في الغرب بوجه عام وفي الولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة .

غير أن المقارنة بين جماعة "الإخوان المسلمين" وحزب العدالة والتنمية لا يمكن أن تكون منتجة ما لم تشمل إدراك الفرق بين مصر وتركيا ومع ذلك يبدو الحزب التركي ذو الخلفية الإسلامية متفوقا على الجماعة المصرية ذات المرجعية الإسلامية لأسباب يعنينا منها هنا أنه أكثر قدرة على الاجتهاد والتوفيق الخلاق بين ما لا يمكنه تجنبه وما لا يستطيع أن يقبله .

فإذا كان لحزب العدالة والتنمية من دلالة بالنسبة إلى حال "جماعة الإخوان المسلمين" فأهمها هو في القدرة على الاجتهاد والتنظير والتجديد وتكمن هنا إحدى أهم مشاكل جماعة "الإخوان المسلمين" في تاريخها وفي حاضرها وهي مشكلة ضعف القدرة على الاجتهاد والتنظير .

وهذه مشكلة مزمنة عاشت مع جماعة "الإخوان المسلمين" على مدي تاريخها وما زالت تضعف قدرتها على طرح رؤية واضحة للمستقبل كانت الاختلافات التي ضربت الجماعة قدرتها الاجتهادية والتنظيرية كان اللجوء إلى العنف في غياب رؤية واضحة للعلاقة بينه وبين الخط الأساسي للجماعة وهو العمل السلمي نتيجة عوامل من بينها هشاشة تلك القدرة التنظيرية .

وربما لو أن الجماعة كانت أفضل حالا على مستوي الاجتهاد والتنظير لاستطاعت معالجة الاختلافات التي اقترنت بتنامي نفوذ النظام الخاص الذي أتاح السلاح لقيادته قوة في داخلها وليس فقط في مواجهة الآخرين .

وقد انعكست تلك القوة نفوذا وسلطة أخلا بموازين القوي في داخل الجماعة الأمر الذي أفقدها أهم ما ينبغي أن تحافظ عليه أية جماعة بشرية حريصة على تماسكها بدءا من التكوينات الاجتماعية والسياسية الصغيرة ووصولا إلى الدولة وهو أن يكون مركز واحد لإصدار القرار .

هذا ما حدث في التاريخ ويمكن أن يحدث ما لا يقل خطرا عنه في المستقبل إذا ظل ضعف القدرة على الاجتهاد والتنظير عائقا أمام بلورة موقف مستقيم تجاه المسألة الديمقراطية وقضايا أخري وهناك في تركيا تجربة معقولة وإن لم تكن رائعة يمكنهم الاستفادة منها بدءا باستيعاب دروسها .

وصحيح أن حزب العدالة والتنمية الذي يمثل التيار الإسلامي الأقوى في تركيا الآن ليس مثالا يحتذي به على صعيد المسألة الديمقراطية من حيث المطلق ولكنه يمكن أن يكون كذلك بالنسبة إلى جماعة "الإخوان المسلمين" التي ما زالت متأخرة عنه بمسافة كبيرة.

فنحن إزاء حزب إسلامي سياسي لا مثيل له حتى الآن في منهجه المعتدل ونزعته العملية وميله إلى المرونة في كثير من الأحيان كما أن موقفه تجاه قضايا الحريات العامة والشخصية مشهود بالرغم من تأييده حجاب المرأة وعمله الدائب من أجل توسيع انتشاره دون أن يمنعه ذلك من احترام النساء غير المحجبات وترشيح عدد منهن على قوائمه الانتخابية .

ولذلك فهو يحظي بترحيب واسع في الغرب وليس فقط في العالم العربي إذ ينظر إليه كثير من الأوساط الغربية المعنية بالمنطقة عموما والإسلام السياسي فيها خصوصا باعتباره حزبا إسلاميا نموذجيا أو بوصفه نموذجا لما يطلق عليه "الإسلام الليبرالي" ويصل انبهار بعض الدوائر السياسية ومراكز التفكير ووسائل الإعلام في أمريكا وأوروبا بهذا الحزب إلى حد الرهان على إمكان تعميمه في المنطقة .

غير أن هناك فرقا ينبغي ألا يغيب بين أن يكون حزب العدالة والتنمية أكثر ديمقراطية من أى حزب إسلامي آخر فيما نعف حتى الآن وبين أن يكون حزبا ديمقراطيا نموذجيا لا تأتيه الشمولية ولا الأحادية من بين يديه ولا من خلفه

فأن يكون هذا الحزب أكثر ديمقراطية من غيرها فهذا مما لا شك فيه اليوم ولكن لكي تكون ديمقراطية كاملة غير قابلة للإنتكاس أو الارتداد فهذا يقتضي إيمانا لا لبس فيه بأن دكتاتورية الأغلبية لا تختلف من حيث المبدأ عن الاستبداد الفردي أو طغيان قلة حاكمة ..

وليس هناك ما يدل على أن حزب العدالة والتنمية يؤمن بديمقراطية غير قابلة للتحول إلى دكتاتورية الأغلبية بالممارسة لأن رؤيته لعملية الانتخابات في النظام الديمقراطي يمكن أن تفضي إلى مثل هذه الدكتاتورية .

فقد ظهر في أكثر من مناسبة أن هذا الحزب يؤمن بأن حصوله على الأغلبية يجيز له أن يحتكر السلطة ما استطاع إلى ذلك سبيلا وبأن التفويض الانتخابي هو تقويض مطلق وليس نسبيا ويعني ذلك أنه لا يحترم اثنين من أهم مبادئ العملية الديمقراطية بل المبدأين اللذين لا تكون هذه العملية ديمقراطية حقا في غيابهما وهما التوافق الوطني على القضايا الكبرى ونسبية التفويض الانتخابي ومحدوديته زمنيا وموضوعيا .

ويقضي المبدأ الأول بأن تكون معالجة القضايا الكبرى خصوصا تلك التي يوجد انقسام عميق بشأنها عبر توافق وطني عام يقوم على حلول وسط وليس من خلال موقف أو برنامج الحزب الحاصل على الأغلبية .

وقد كشف حزب العدالة والتنمية نفوره من هذا المبدأ عندما أصر على أن يكون رئيس الجمهورية من بين قادته إلى جانب الوزراء ورفض الحل الوسط الذي يقضي بالتفاهم على شخصية توافقية تكون موضع رضاء من مختلف أو معظم الأحزاب .فجوهر الممارسة الديمقراطية هو قبول الأخر مهما كان الخلاف معه والحوار والتفاهم جنبا إلى جنب التنافس السلمي .

وقد ظهر في أكثر من مناسبة أيضا أن زعيم الحزب رجب طيب أردوغان لدية مشكلة مع هذا المبدأ عندما هدد صراحة بأنه سيعتزل الحياة السياسية إذا لم يحصل حزبه على أصوات كافية تتيح له أن يحكم منفردا أى أنه يرفض المشاركة في حكومة ائتلافية .

وهذا موقف شمولي وليس ديمقراطي فضلا عنه انه لا يخلو من تعال على الأحزاب والقوي الأخرى .أما المبدأ الثاني فهو أن التفويض الانتخابي تفويض نسبي وليس مطلقا وجزئي وليس شاملا ومحدود وليس كاملا لأنه إذا لم يكن كذلك أنتج سلطة مطلقة تناقض طبيعة الممارسة الديمقراطية .

وليس هناك ما يدل على أن الحزب التركي يؤمن بذلك رغم خطابه المعتدل وحرصه على عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع المؤسسة العلمانية وحين يرفض أردوغان فكرة الحكومة الائتلافية ويصر على احتكار مواقع السلطة كلها بدون توافق وطني فهذا يعني أنه يعتبر التفويض الانتخابي مطلقا وليس نسبيا .

وهو هنا يبدو كما لو أنه يؤمن فعليا بمبدأ البيعة وليس الانتخاب الديمقراطي ولذلك فإذا كانت الطبقات الشعبية والفئات الدنيا تؤيده في معظمها فجزء كبير من الطبقة الوسطي يخشاه ويخاف على مستقبل تركيا من توجهاته التي ما زال بينها وبين الديمقراطية الكاملة مسافة غير قصيرة ولكنها ليست طويلة للغاية .

غير أن المسافة التي تفصله عن جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر تبدو أطول ولذلك قد يكون تطور هذه الجماعة في اتجاه يقصر المسافة التي تفصلها عن الحزب التركي الذي يعتبر أكثر أحزاب الإسلام السياسي ديمقراطية نقلة كبيرة في موقفها تفتح طريقا جديدا أما المستقبل مستقبلها ومستقبل التطور الديمقراطي في مصر أيضا .

(1) صراع في غياب طرف ثالث

تكتسب المرحلة التي بدأت عام 2006 في تاريخ الصراع بين النظام السياسي المصري و"الإخوان المسلمين" طابعها المميز من أن هذا الصراع أخذ يتصاعد على مدي سنوات في غياب طرف ثالث في الوسط بينهما بسبب ضعف أحزاب المعارضة المشروعة وهشاشة الحركات الاحتجاجية المحرومة بدورها مثل "الإخوان" من المشروعية القانونية .
ومن أكثر المداخل شيوعا متابعة التطور السياسي الذي يحدث في داخل بلد أو آخر هو أداء اللاعبين الرئيسيين وهؤلاء هم في الغالب النخبة السياسية والثقافية في الحكم والمعارضة وخصوصا في البلاد التي تمر في مرحلة نضال من أجل الديموقراطية ففي مثل هذه المرحلة تظل مشاركة الجمهور محدودة ويتوقف ازدياد هذه المشاركة على التفاعلات السياسية الجديدة وبالتالي على أداء الحكم والمعارضة .
وينطبق ذلك على مصر كما على غيرها ولكن أحد أهم محددات آفاق هذه المرحلة في مصر يتعلق بالمساحة الواسعة الفارغة بين النظام السياسي وحكومته وحزبه في جانب و"الإخوان المسلمين" في الجانب الآخر .
فالأحزاب التي بدأ تأسيسها في منتصف سبعينات القرن الماضي صارت أقرب إلى هياكل عظيمة فقد أصابتها أنيميا حادة أو قل أنها مصابة بحالة جفاف جماهيري
أما حركات التغيير الجديدة التي نجحت في تحريك الساحة السياسية بشكل ضعيف في مطلع العام 2005 فقد عانت من المشاكل المعتادة التي تقترن بحركات الرفض السياسي والاجتماعي مضافا إليها انصراف الناس وعزوفهم عن المشاركة من ناحية وأمراض النخبة السياسية والثقافية من ناحية أخري؛
وأهم هذه الأمراض احتكار الحقيقة والنزعة الشخصانية التي تجعل الزعماء في كل حركة أكثر من الأعضاء والعجز عن الحوار وتقديس الشعارات وافتقاد القدرة على العمل المشترك فهذه نخبة تتناسل حركاتها من بعضها البعض وتتكاثر بطريقة "الدكاكين" الصغيرة التي تزداد صغرا ولذلك فهي كثرة ضعف لا قوة .
ولم تستطع هذه الحركات مثلها مثل الأحزاب أن تشغل حيزا يذكر في المساحة الواسعة الفارغة ولم تتمكن من استثمار نقطة الضعف الأساسية لدي "الإخوان" وهي ضمور العقل السياسي على نحو يجعل الجسد الكبير في حالة حركة عشوائية ومرتبكة
كما عجزت عن استغلال الأخطاء التي تضعف قدرة الحكومة والحزب الحاكم على قيادة عملية سياسية تنقل مصر إلى الديمقراطية بشكل آمن وسلس وقد تسابق في صنع هذه الأخطاء فريقان أحدهما لا يمتلك خبرة في مجال السياسة التنافسية لأنه تعود على العمل في ظل تنظيم واحد أو حزب مهيمن يحتكر اللعبة السياسية والثاني لا خبرة سياسية لديه لأنه لم يعمل بالسياسة من قبل إذ جاء أهم عناصره من خلفية العمل الاقتصادي الحر " البزنس " والعمل الأكاديمي . وهؤلاء الذين جاءوا من الجامعات لم تكن لهم صلة بالنشاطات السياسية فيها .
وهكذا ظلت المعارضة غير الإسلامية بجديدها وقديمها في حالة ارتباك إزاء "الإخوان" كما حدث مثلا عندما أطلقوا مبادرة لتكوين ما أطلق عليه "التحالف الوطني من أجل الإصلاح" وقد بدأت هذه المبادرة بدعوة وجهها مركز بحثي على علاقة مع "الإخوان" لعقد ثلاث حلقات نقاش للحوار حول بناء تحالف إصلاحي واسع النطاق وأسفرت هذه المبادرة عن عقد اجتماع في 30 يونيو 2005 أعلن فيه نائب المرشد العام للإخوان في ذلك الوقت د. محمد حبيب تأسيس هذا التحالف .
وبالرغم من أن الطريقة التي طرحت بها هذه المبادرة بدت مرتبكة فقد أربكت بعض الأحزاب وحركات التغيير الجديد التي ذهب قياديون فيها إلى الاجتماع من دون أن يكون واضحا هل يمثلون أحزابهم وحركاتهم أم أشخاصهم وبعد أن تحدث بعضهم على نحو فهم منه أنهم ممثلون للأطر التي ينتمون إليها عادوا فأوضحوا أنهم ذهبوا بصفاتهم الشخصية؛
وترتب على ذلك موت التحالف الذي سعي إليه "الإخوان" لحظة مولده بل قبل أن يولد ولذلك وفي غياب طرف ثالث كثيرا ما يحضر السؤال عن مستقبل مصر في خيارين إما مصر الديموقراطية أو مصر الأصولية الإخوانية .
ومما ينطوي على دلالة مهمة في هذا المجال ما طرحه الأديب الراحل صاحب "نوبل" نجيب محفوظ عشية رحيله في هذا المجال ففي حفلة صغيرة أقيمت في مناسبة بلوغ الأديب المصري جمال الغيطاني الستين في 9 مايو 2005 سئل محفوظ عن تصوره لمصر في الفترة المقبلة في ضوء التطورات المتسارعة فيها فأجاب بعد لحظات تأمل:" يبدو أن مصر تريد أن تجرب حكم الإخوان المسلمين"
وفي هذه الإجابة لم يعبر أدباء العرب في هذا العصر عن تصور يجول في خاطره فحسب بل أراد أن يتبعه إلى ما يمكن أن يحدث في حال أدي التباطؤ في الإصلاح الديمقراطي إلى أزمة سياسية تفتح الباب أمام تغيير جذري وربما كان في خلفية هذا التصور التحذير ما كان يحدث في ذلك الوقت على صعيد اتجاه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى مراجعة نظرتهما السابقة إلى الحركات الإسلامية في العالم العربي وخصوصا من زاوية إمكان وصولها إلى السلطة قبل أن يحدث تراجع عن هذه المراجعة بعد ذلك بقليل؛
وليس محفوظ وحده هو الذي تصور إمكان إقامة "حكم إخواني" في مصر فهناك من يشاطرونه الاعتقاد في أن هذا السيناريو قد يكون واردا نتيجة الجمود السياسي الذي يثير مخاوف من حدوث التغيير خارج أطر النظام السياسي على نحو قد يفتح الباب أمام المجهول .
فإذا كان هذا المجهول نوعا من الفراغ السياسي فالافتراض الذي يميل إليه كثير من المعنيين والمراقبين هو أن "الإخوان المسلمين" أقدر من غيرهم بحكم تفوقهم التنظيمي على ملء هذا الفراغ .
غير أن هناك من يعتقد في أن هذا الحكم يمكن أن يأتي عبر انتخابات حرة أيضا ولكن هذا الاعتقاد ينطوي على خرافة لأنه قد يعني أن مصر القادمة هي أصولية أو "إخوانية" في كل الأحوال سواء تحقق إصلاح جدي أم لم يتحقق .

(2) الإخوان والعنف:جناة أم ضحايا

كان استعراض القوة الذي قام به عدد من طلاب "الإخوان" في جامعة الأزهر في ديسمبر 2006 مخيفا كما رآه البعض ومؤلما وفق ما نظر إليه بعض آخر ولكنه لم يكن مفاجئا إلا لمن استخفوا بالآثار التي يمكن أن تترتب على العلاقة الشائكة بين سلطة الدولة وجماعة "الإخوان المسلمين"
أما المشهد فكان مكانه جامعة الأزهر وزمانه اليوم الخامس من ديسمبر 2006 وإبطاله عشرات من طلاب هذه الجامعة ينتمون إلى جماعة "الإخوان" ظهر هؤلاء الطلاب في الحرم الجامعي وأمام مكتب نائب رئيس الجامعة مرتدين ملابس سوداء شبه عسكرية وأقنعة مخيفة لا يبدو من خلفها إلا عيون تشع غضبا وتتقد نارا وقاموا باستعراض مهاراتهم القتالية في فنون (الكاراتية والكونغفو) على وقع أناشيد وأغتيان " جهادية" تنبعث من أجهزة "دي جي" مرتفعة الصوت .
فيا له من مشهد مرعب فعلا وكيف لا يثار الرعب حين تلجأ الجماعة الأكبر على الإطلاق في الساحة السياسية المصرية إلى استعراض قدرتها على ممارسة العنف المدني على الأقل ضد خصومها جهارا نهارا ؟ وأى رعب أكثر من أن يكون استعراض هذه القدرة في المكان الذي يفترض أن يتعلم فيه الطلاب القدرة على التفكير وليس على العنف ويستوعبوا من خلاله تقاليد الحوار والحل السلمي للخلافات وليس فنون الضرب وحسم الخلافات بالقوة .
غير أن هذا المشهد لم يأت من فراغ وإبطاله لم يهبطوا فجأة من كوكب آخر فهم من أبناء مصر نشأوا في بيئة سياسية اجتماعية معينة وما فعلوه نتج عن مقدمات فهو حصار مر ينتج عن تراكمات وليس نبتا شيطانيا إلا جذور له.
ولذلك فهم لم يكن مشهدا مدهشا أو مثيرا للإستغراب كان المدهش حقا هو أن بعض من ساهموا في الوصول إليه تعاملوا معه بالطريقة نفسها التي أنتجته فهم مع بعض الاستثناءات بدأوا بإثارة الأسئلة الأمنية بدلا من طرح الأسئلة السياسية وفي مقدمتها السؤال عن طبيعة البيئة السياسية التي أنتجت ذلك المشهد.
ومن الأسئلة الأمنية التي طرحت في هذا السياق السؤال مثلا عن كيفية دخول أولئك الطلاب إلى حرم الجامعة بملابسهم وأدواتهم وأجهزتهم التي استخدموها في استعراض القوة أو عن دور الحرس الجامعي الذي كان غائبا أو عن المواقع التي تم فيها تدريب أبطال المشهد على الألعاب الرياضية القتالية التي أظهروا إجادتهم لها فضلا عن السؤال الذي يتكرر في كل مناسبة تبدو فيها قوة الإسلام السياسي في الجامعات المصري وهو كيف تغلغل أعضاء "الجماعة المحظورة" في الجامعات إلى هذا الحد؟
ومن شأن هذا النوع من الأسئلة أن يقود إلى إجابات تصب في مجري المعالجة الأمنية لقضية سياسية وتحث على تشديد الحملات على "الإخوان" بالرغم من أن التجربة التاريخية أثبتت أن هذه الحملات تقويهم ولا تضعفهم ففضلا عن ضعف تأثير الحملات الأمنية على تنظيم كبر حجمه وتوسع نشاطه ثبت أن اعتقال أعضائه يؤدي إلى ازدياد التعاطف معهم في دوائر متزايدة في المجتمع ولذلك أصبح الإصرار على البعد الأمني مدخلا رئيسيا للتعامل مع "الإخوان" يعني تقديم خدمة مجانية لهم أكثر مما يؤدي إلى فرض حصار حقيقي عليهم .
كان المشهد المخيف في جامعة الأزهر في أحد أبعاده نتيجة مواصلة التضييق على الطلاب المسيسين أى المنتمين إلى اتجاهات سياسية مختلفة ولم يستمع أصحاب القرار في هذا المجال إلى صوت العقل الذي ظل يناديهم لسنوات طويلة مخدرا من الأثر المترتاب على حظ النشاط السياسي في داخل الجامعات.
كما لم يلحظوا أن استمرار هذا الحظر يصب في مصلحة تيار "الإخوان" الذي ينشط في أوساط الطلاب اعتمادا على نشاط ديني واجتماعي يستحيل منعه .
وكأن من أصروا على حظر النشاط الحزبي عملوا من حيث لم يقصدوا لمصلحة "الإخوان" عبر تفريغ الجامعة من أى نشاط يمكن أن يمثل منافسة لهم بما في ذلك نشاط يمكن أن يقوم به الحزب الوطني أيضا فكان أن تنامي وجودهم في الجامعات عاما بعد عام بينما تضاءل حضور أى تيار سياسي آخر ولم يجد الطلاب الراغبون في ممارسة نشاط غير ترفيهي إلا نشاطات زملائهم "الإخوان" الذين عملوا كخلايا نحل لا تفتر .
ومع ازدياد حضور طلاب "الإخوان" واشتداد عودهم أصبحوا قادرين على الفوز في الانتخابات الطلابية في كثير من الكليات في مختلف جامعات مصر وبدلا من أن ينته أصحاب القرار الذين أفزعهم وجود "الإخوان" القوي إلى السبب الذي أدي إلى ذلك اتجهوا إلى التضييق عليهم وحرمان معظم مرشحيهم من خوض الانتخابات الطلابية بشكل متعسف .
ومع تكرار شطب مرشحيهم عاما جامعيا بعد الآخر في الوقت الذي كان عددهم يزداد لجأوا في العام الجامعي الذي بدأ في خريف 2006 إلى التحدي عبر تأسيس ما أطلق عليه اتحادات طلابية موازنة غير مشروعة وأجريت انتخابات لهذه الاتحادات خارج إطار القانون في عدد من الجامعات وبدعم ومساعدة عشرات الأساتذة الجامعيين المعارضين من "الإخوان" وغيرهم .
وهذه كلها مشاهد سبقت مشهد استعراض القوة المخيف وقادت إليه في تتابع مثير فبعد مشهد الانتخابات غير المشروعة جاء مشهد تال أدي بشكل مباشر إلى المشهد المخيف وهو قيام إدارة جامعة الأزهر بفصل ستة طلاب بتهمة لصق منشورات علي مكتب نائب رئيس الجامعة تتضمن هجوما عليه؛

إضافة إلى تهم أخري مثل (ممارسة أنشطة غير طلابية في الحرم الجامعي وتعطيل الدارسة وفرض السطوة على طلاب آخرين وتحويل الجامعة إلى وكر للتآمر) فتحرك زملاء لهم من طلاب "الإخوان" لمساندتهم عبر تنظيم اعتصام كان مشهد استعراض القوة جزءا منه .

فهذا إذن مشهد يأتي في سياق سياسي محدد ولذلك فهو يتطلب معالجة سياسية وليس المزيد من المعالجات الأمنية التي تمثل كلمة "المحظورة" المفتاح السحري لها ولازدياد قوة "الإخوان" المحجوبة جماعتهم عن المشروعية في آن معا .
فقد أصبح قمع "الإخوان" وانتشارهم وجهين لعملة واحدة فكلما ازداد التضييق عليهم كسبوا المزيد من المتعاطفين معهم خصوصا وأن هذا التضييق لا يمكن إلا أن يكون جزئيا محدود النتائج إذا كان له أثر أصلا في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات وكان وجود 88 نائبا من أعضائهم في برلمان 2005-2010 دليلا على ذلك وقد أصر هؤلاء في كل مناسبة وحتى بدون مناسبة على أن يؤكدوا تحت قبة البرلمان أنهم ينتمون إلى هذه الجماعة ويعبرون عن مواقفها ويتحدثون باسمها ويتحدون التصنيف الرسمي لهم في مجلس الشعب باعتبارهم مستقلين .
فقد فتح لهم الانسداد السياسي أبوابا غير منظورة يصعب سدها وفعل ذلك الانسداد فعله في الأحزاب المشروعة التي ضعفت بما في ذلك الحزب الوطني الحاكم الذي اعتمد لفترة طويلة على أجهزة الدولة الإدارية والأمنية لضمان أغلبيته البرلمانية الكبيرة .
وأصبحت أحزاب المعارضة المشروعة عاجزة عن استثمار رغبة سلطة الدولة في تدعيم دورها بأمل الحد من نفوذ "الإخوان" المتزايد في المجتمع فقد أدركت هذه السلطة في وقت متأخر أهمية إعطاء الأحزاب المعارضة مساحة للحركة ولذلك تبدو هذه الأحزاب وقد أصابها كساح بسبب حبسها لفترة طويلة في ساحة شديدة الضيق وسد الأبواب أمامها فلما بدأ فتح بعض هذه الأبواب لم تقو على الحركة .
ولذلك أصبح الاستقطاب المتزايد بين نظام حكم يمتلك كل أدوات السلطة وحركة إسلامية تستحوذ على تعاطف المجتمع مصدر خطر كبير في الوقت الذي ثبت أن الاعتماد على الضربات الأمنية لا يمكن أن يكون حلا لمشكلة معقدة متعددة الأبعاد ولا أن يقوض تنظيما اكتسب قدرة كبيرة على التعايش مع الملاحظات والمطاردات؛
كما أن تنامي حجمه يضع سقفا لما يمكن أن يترتب على حملة أمنية ضده مهما توسعت لقد هيأ الاعتماد المفرط على الأدوات الأمنية الأرض للإسلام السياسي الأصولي في بلاد عدة في العالم العربي وليس في مصر فقط لأن السياسات العامة فيها لم تحقق نجاحا يذكر في ترشيح المواطنة وبناء دولة القانون وكفالة الحريات وضمان الحقوق ولا في تقديم نموذج اقتصادي كفؤ يوفر فرص عمل ويخلق وظائف متزايدة ولا في تطوير التعليم وفتح نوافذ للنجاح وتحسين الرعاية الصحية ولا في إعطاء الأجيال الجديدة أملا في مستقبل أفضل عب مؤشرات ملموسة في الواقع .
ولذلك تتحمل هذه السياسات المسؤولية الأولي عن ازدياد نفوذ "الإخوان" في البلاد التي حدث فيها ذلك فلم تقدم هذه النظم إلى شعوبها ما يغنيها عن البحث عن أمل ما لدي "الإخوان" ولا هي تركت الأحزاب السياسية المشروعة تعمل بحرية لمنافسة "الإخوان" على الجمهور الذي يضطر إلى الرهان عليهم .
ويحفل التاريخ بما يؤكد أن الحملات الأمنية على "الإخوان" تستدر عطفا عليهم أكثر مما تقوض قدرتهم على الحركة وأن جسمهم المدرب على تلقي الصدمات يستطع استيعاب ضربات أقوي مما يتعرضون له في الحملة الراهنة .
وهناك سابقتان تاريخيتان في هذا المجال إحداهما قصيرة زمنيا في أواخر أربعينات القرن الماض1ي عندما قررت حكومة محمود فهمي النقراشي حل جماعتهم في 8 ديسمبر 1948 والثانية طويلة ممتدة منذ أن قرر مجلس قيادة الثورة حل هذه الجماعة للمرة الثانية في العام 1954 وحتى أخرجهم الرئيس الراحل أنور السادات من السجون في مطلع السبعينات؛

وكانت الحملة عليهم في عقدي الخمسينات والستينات عنيفة استخدم منفذوها أشد أساليب البطش والتنكيل وأكثرها قسوة على نحو بدا معه أن تنظيم "الإخوان" الأم لن تقوم له قائمة ومع ذلك عاد هذا التنظيم أقوي مما كان وازدادت قدرته على التغلغل في المجتمع نتيجة تراكم الغضب الناجم عن توسع البطالة والفقر والشعور بالفساد.

(3) "الإخوان"... جسم كبير وعقل صغير !

إذا كانت السياسة الرسمية تجاه "الإخوان" ساهمت من حيث لم تقصد في خلق تعاطف معهم فقد قصروا هم في مساعدة أنفسهم عندما أعطوا الأولوية القصوى لجسم تنظيمهم دون عقله وترتب على ذلك ضعف في التنظير والتخطيط ومن ثم وقوع في براثن العشوائية وعجز عن المبادرة وركون إلى رد الفعل وأدي ذلك إلى تكرار ارتكاب أخطاء كبيرة وعدم استيعاب الدروس .
وكان استعراض القوة في ديسمبر 2006 الذي أتاح شن حملة واسعة عليهم أحد هذه الأخطاء المتكررة بأشكال مختلفة منذ أربعينات القرن الماضي ففي منتصف ذلك العقد (الخامس في القرن العشرين) كان نفوذ الجناح المسلح لجماعة "الإخوان المسلمين" قد تنامي إلى حد أنه بات يشكل مركز القوة الرئيسي في داخلها فقد تكون من عناصر منتقاة بعناية امتلك كثير منهم مهارات خاصة الأمر الذي جعل إخوان (النظام الخاص) متميزين علي باقي أعضاء الجماعة الذي ن كان بعض عناصر هذا النظام يسمونهم (إخوان الميدان العام)
كان حسن البنا مؤسس الجماعة ومرشدها العام الأول قد أنشأ هذا الجناح أو "النظام الخاص" عام 1940 لمواجهة الاحتلال البريطاني ودعم نضال الشعب الفلسطيني ضد التغلغل الصهيوني المتزايد حينئذ كما سبق ذكره غير أنه تحول تدريجيا باتجاه التصدي لبعض خصوم الجماعة معتمدا أسلوب الاغتيال بمبادرة من قادته وليس بتوجيه من المرشد العام أو مكتب الإرشاد في الأغلب الأعم.
ولكن هذا لم يعف الجماعة في مجملها من المسؤولية عن الاغتيالات التي قام بها "النظام الخاص" كما أنه لم يحل دون تحمل الجماعة كلها تبعات ذلك الانحراف عن المنهج السلمي الذي قامت على أساسه فكان التورط في جرائم اغتيال هزت مصر حينئذ هو الطريق إلى المحنة التي تعرض لها "الإخوان" في مصر بدأت تلك المحنة عام 1948 بالحملة الأولي عليها والتي يمكن أن نطلق عليها الحملة الصغرى مقارنة بالحملة الكبرى التي امتدت من 1954 إلى بداية سبعينات القرن الماضي .
في الحملة الصغرى تم حل الجماعة لما يقرب من ثلاثة أعوام (من ديسمبر 1948 حتى صدر حكم قضائي لمصلحة الجماعة في سبتمبر 1951 وعززه حكم أكثر حسما في يونيو 1952 قضي ببطلان الأمر العسكري رقم 63 لعام 1948 بحلها)
كما شملت هذه الحملة اغتيال مرشدها المؤسس حسن البنا في فبراير 1949 كما سبق شرحه وبالرغم من أن تلك الحملة انتهت بإلغاء قرار الحل واستعادة المشروعية القانونية كانت قيادة الجماعة قد فقدت السيطرة على "النظام الخاص" على نحو أدي إلى تفاقم أزمتها التي دخلت مرحلة الخطر بسبب الارتباك الشديد الذي شاب علاقتها مع قيادة ثورة يوليو 1952 .
فكانت الحملة الكبرى التي أعقبت محاول اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الإسكندرية في أكتوبر 1954 . ولم تقتصر تلك الحملة على حل الجماعة مرة أخري وإنما شملت إعدام عدد من أبرز قادتاها وملاحقة الآخرين وصولا إلى أعضاء قاعدين أيضا ..
واحتاج الأمر إلى عقدين كاملين تقريبا لتجاوز تلك المحنة التي كان هولها كفيلا بأن يدفع إلى استيعاب دروسها وهذا هو ما بدا بالفعل عندما أعادت جماعة "الإخوان" رسم توجهاتها وسعت إلى الاندماج في الحياة السياسية والاقتراب من أساليب العمل الديموقراطي واعتماد سبيل التنافس السلمي ولم يحل بينها وذلك أنها لم تستعد مشروعيتها القانونية فقد شاركت في الانتخابات البرلمانية والنقابية منذ ثمانينات القرن الماضي بشكل منتظم وأصبح لديها نخبة من المهنيين قادوا العمل في أهم النقابات المهنية وأعطوا صورة إيجابية لها .
وقد حقق "الإخوان" هذا التقدم في ظروف صعبة نجمت وما زالت عن العلاقة الملتبسة بينهم وبين سلطة الدولة التي تصر على عدم الاعتراف بجماعتهم ولكنها تتعامل معهم فعليا على أساس أنهم قوة لا يمكن إغفالها أو الاستهانة بها .
كما بدا أن "الإخوان" حريصون على الاستماع إلى مخاوف الخائفين من غموض موقفهم تجاه قضايا شائكة مثل قضية العلاقة بين الدولة والدين والتي ظلت تنتج معارك سياسية وثقافية لا تنتهي وقضية المواطنة وبالتالي موقع أقباط مصر في المجتمع وليس فقط في النظام السياسي غير أنهم لم يبدوا اهتماما مماثلا بالتداعيات التي يمكن أن تترتب علي عدم تغيير أنماط التنشئة في داخل تنظيمهم ونوع الثقافة السائدة لدي كوادرهم في المستويات القاعدية والوسيطة .
ولم ينتبه قادة "الإخوان" الأكثر انفتاحا إلى مثالب هذه الفجوة التي يمكن أن تصبح مصدر خطر قد يعرض الجماعة إلى محنة جديدة ولم يحفلوا بمؤشرات أولية كان يفترض أن تقلقهم مثل السلوك الذي سلكه كثير من أعضاء الجماعة القاعدين خلال الانتخابات البرلمانية عام 2005؛
فقد خرجت أعداد كبيرة منهم لمساندة مرشحي الجماعة في أكثر من مائة دائرة انتخابية وأظهروا قوة تنظيمهم وشديد انضباطهم وبدا كثير منهم مخيفين لعدم إدراكهم الفرق بين جهاد يتعلق بتنافس سلمي في معركة انتخابية ضد خصوم سياسيين والجهاد ضد أعداء الأمة وبالرغم من أنهم لم يلجأوا إلى رد عنيف على التضييق الذي حدث لبعض مرشحيهم في المرحلة الأخيرة من الانتخابات فقد اتبعوا أساليب أعطت انطباعا بأن العنف كامن يمكن أن يظهر في أى لحظة.
فعلي سبيل المثال كان مشهد الكتل المتراصة من شباب "الإخوان" أمام بعض اللجان الانتخابية في الدوائر التي خاض مرشحون لهم الانتخابات فيها موحيا ومنذرا بالخطر كما كان سلوكهم أثناء فرز الأصوات الانتخابية في بعض هذه الدوائر مثيرا لقلق شديد عندما أحاطوا بالمقرات التي حدث فيها هذا الفرز وأخذوا يرددون أدعية دينية بصوت جهوري على نحو لا يصح أن يحدث في أى مناسبة سياسية .
ولم تهتم قيادة "الإخوان" بمثل هذا المؤشرات التي دلت على أن الميل إلى العنف كامن في بنية المستويات القاعدية للجماعة ولم يكن استعراض القوة الذي قام به بعض أعضائها من طلاب جامعة الأزهر في الخامس من ديسمبر 2006 إلا نتيجة وجود هذا الميل الذي يظهر في سلوك فعلي حين لا تكون هناك تعليمات مشددة من القيادة بضبط النفس .
وآثار هذا الاستعراض ردود فعل حادة ضد "الإخوان" لم يكن كلها من صنع الدعاية الرسمية التي انطلقت لتوظيف هذه السقطة لشن حملة سياسية منظمة عليهم فجزء كبير من ردود الفعل الغاضبة كان تعبير طبيعيا عن القلق الكامن بدوره من تنامي قوة "الإخوان" وانتشارهم المتزايد وتغلغلهم في المجتمع .
وكان بعضها من جانب أصدقاء لجماعة "الإخوان" أصابهم ما حدث بإحباط وهم الذين كانوا يعتقدوا أن هذه الجماعة استوعبت دروس المحنة التاريخية التي تعرضت لها من قبل أو أنها لم تعد في حاجة إلى استخدام القوة لأن الظرف الموضوعي يوفر لها فرصا متوالية لتحقيق مكاسب سياسية سهلة .
وبالرغم من أن قيادة "الإخوان" قدمت ما يشبه الاعتذار عما حدث وقال أكثر من قيادي فيها ما معناه أنهم وجهوا عتابا لمن فعلوا ذلك إلا أنهم قللوا من أهمية ما حدث على نحو يدل على أنهم لا يدركون جيدا حجم الخطر الذي ينطوي عليه استمرار الفجوة الواسعة بين إعلانهم قبول التعددية واحترامهم الرأي الآخر من ناحية وطريقة التنشئة التي تقوم على الأحادية ونوع التثقيف الذي يتلقاه أعضاء المستويات القاعدية من ناحية أخري .
وليس من الحكمة التلكؤ في إدراك الخطر إلى أن يجد مرشد "الإخوان" نفسه مضطرا إلى التبرؤ من مثل هؤلاء الطلاب الذين قاموا باستعراض القوة وإعلان أنهم (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين) مثلما قافل مؤسس الجماعة عن بعض عناصر "النظام الخاص" تعليقا على اغتيالات نفذوها وتبرئة للجماعة من دماء أريقت دون وجه حق .
ويثير ذلك التساؤل عن العوامل التي تحول دون استيعاب "الإخوان" لدروس المواجهات السابقة التي تعرضت فيها جماعتهم لمحنة والانشقاقات التي تعرضت لها هذه الجماعة حين أن عملها علنيا ومشروعا .
والأكيد أن مشكلة "الإخوان" الأولي هي في غموض مواقفهم تجاه المسألة الديمقراطية وقضايا شائكة مثل قضية العلاقة بين الدولة والدين والتي ظلت تنتج معارك سياسية وثقافية واجتماعية لا تنتهي وقضية المواطنة وبالتالي موقع المسيحيين في المجتمع والنظام السياسي غير أن ما لا يقل أهمية عنها جمود تنظيم "الإخوان" أيضا فقد أدي استمرار هذا الجمود إلى ثبات أنماط التنشئة السائدة داخل هذا التنظيم .
ومن شأن هذه الأنماط أن تنتج ثقافة عالية يمكن أن تدفع إلى العنف في أى لحظة كما حدث في الاستعراض الذي قام به عدد من طلاب "الإخوان" لإظهار قوتهم واستعدادهم للانقضاض على الخصوم السياسيين جسديا وليس فكريا فكان ذلك الاستعراض نتيجة وجود ميل إلى العنف يعود في أحد أهم جوانبه إلى خلل في التنظيم .
ولذلك لا يفيد "الإخوان" كثيرا أن يعيدوا تأكيد أنهم يؤمنون بالعمل السلمي ويرفضون العنف أو أن يذكروا بمواقفهم خلال سنوات تصاعد الإرهاب في أواخر ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي ولا أن يعيدوا نشر بيانات سبق لهم أن أصدروها فأكثر ما يحتاجون إليه هو الشروع بشكل فوري في تغيير أنماط التنشئة في تنظيمهم كجزء من مراجعة موقفهم تجاه المسألة الديموقراطية باتجاه تحريره من كل ما يحول دون انسجامه مع متطلبات هذه المسألة وبصفة خاصة الموقف تجاه المرأة والأقباط والعلاقة بين الدولة والدين ومن هنا تكون البداية الجديدة لدور "الإخوان" وعلاقتهم مع النظام السياسي ومع مختلف أطاف العملية السياسية في مصر .