وليد شلبي يكتب: البنا كما رأيته

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


وليد شلبي يكتب: البنا كما رأيته


مقدمة

قد يتعجب مَن يعرفني من هذا العنوان، كوني لم أرَ الإمام الشهيد- رحمه الله- لأني ولدتُ بعد استشهاده بسنوات عديدة، ولكني في الواقع رأيته وكأني أراه رأي العين وكأني عايشته معايشةً تامةً، وأظن أني أراه ماثلاً أمام عيني؛ وذلك من عدةِ مصادر قرأتها ودرستها وعايشتها حتى ارتسمت في مخيلتي صورة واضحة المعالم للإمام الشهيد تُوضِّح العديد من جوانب شخصية للإمام الشهيد، ومن هذه المصادر الكتب الكثيرة التي كُتبت عن الإمام الشهيد من الإخوان وغيرهم، والتي شرفتُ بقراءةِ العديد منها، وكذلك من خلال الرجال الذين عايشوا الإمام والتقوا به وتربوا على يديه.

رأيته

داعيةً حقيقيًّا: فهو بحقٍّ داعية من طرازٍ فريد، يُحسن عرض فكرته ويحسن كذلك مدها بالحياة بالتضحية من أجلها والعمل الدءوب من أجل نصرتها، حتى أصبحت دعوته هي حياته، وأصبح هو صاحب دعوة كما ينبغي أن يكون الداعية؛ يغلب مصلحة الدعوة والدعاة على مصالحه الشخصية، ويبذل ويُضحِّي ويخالط الناس ويصبر على أذاهم ولا يقول لهم إلا الحسنى، ولا يألو جهدًا في عرضِ الفكرة وتوصيلها وتحمل تبعاتها.

ربانيًّا

أخر صورة للإمام حسن البنا

فقد كان- يرحمه الله- يغلب الجانب الإيماني على ما سواه، وكان يركز على ترسيخ هذا المعنى في نفوس إخوانه ويربطهم به حتى لا تتوه المعالم الحقيقة للطريق في خضم الأعباء وكثرتها، ويذكر مَن كان يحضر دروس الثلاثاء أن الإمام كان يبدأ اللقاء- كل مرة- بخاطرة إيمانية ربانية قبل الحديث العام المستهدف من اللقاء، وكأنه بذلك يربطهم بالهدف الأسمى للدعوة، وهو إحسان الصلة بالله سبحانه وتعالى والتقرب إليه وابتغاء مثوبته.

يقول يرحمه الله: "وأولى ما يرفع نفسك إلى عليين وينفخ فيها روح النهوض مع العاملين، وأي شرفٍ أكبر وأي رافع إلى فضيلة أعظم من أن ترى نفسك ربانيًّا، بالله صلتك وإليه نسبتك، ولأمرٍ ما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: من الآية 79).

ثم تحدَّث عن أعظم مصادر القوة فقال: "وفي النسبة إلى الحق تبارك وتعالى معنى آخر يُدركه مَن التحق بهذه النسبة؛ ذلك هو الفيض الأعم من الإيمان، والثقة بالنجاح الذي يغمر قلبك فلا تخشى الناس جميعًا ولا ترهب العالم كله إن وقف أمامك يحاول أن ينال عقيدتك أو ينتقص من مبدأك: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173).

ولأمرٍ ما كان الواحد من أولئك القلائل المؤمنين بالله وثقته وتأييده يقف أمام الجحفل اللجب والجيش اللهام, فلا يرهب صولته ولا يخشى أذاه؛ لأنه لا يخشى أحدًا إلا الله، وأي شيءٍ أعظم من تلك القوة التي تنسكب من قلب الرجل المؤمن حين يجيش صدره بقول الله: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 160) (رسالة إلى أي شيءٍ ندعو الناس).

مجاهدًا

إذا كان بعض المؤرخين يعتبرون الإمام البنا شهيد فلسطين فإن هذا لم يأتِ من فراغ، ولكن لأنه عاش مجاهدًا باذلاً مضحيًّا بكل شيءٍ حتى نال الجائزة الكبرى بشهادته في سبيل الله، فلم يكن الإمام سوى مجاهدٍ يعشق الجهاد ويشم رائحة عبقه في كل خطوةٍ من خطواته على طريقِ الدعوة فعاش عيشةَ المجاهدين، وتخلَّق بخُلقهم، وعمل عملهم حتى رزقه الله الشهادة.

مفكرًا

على الرغم من اهتمام الإمام الشهيد بتكوين الرجال أكثر من تأليف الكتب والمراجع، إلا أنه كان من المفكرين والمُنظِّرين المميزين للدعوة والفكرة الإسلامية، فكانت كتاباته القليلة تحوي في طياتها الكثير من المعاني الكبيرة، ولعل أوضح مثال على ذلك الأصول العشرين التي ركَّز ووضَّح فيها فهم الإخوان المسلمين للإسلام، وقد أجمع مَن عاصروا كتابتها أنه راجع عشرات المراجع من أمهاتِ الكتب ليخرج بهذه الكلمات الجامعة لفهم صحيح الإسلام.

ولعل في طرح الإمام الشهيد لمفهوم شمولية الإسلام وإعادته لمحط الأنظار وبؤر الاهتمام من جديدٍ ما يؤكد مدى اطلاعه ورجاحةِ فكره وآرائه.

مربيًّا

لقد كان الإمام مربيًّا فريدًا، فكان كل مَن يراه ويسمعه ويقابله، يحبه ويرتبط به وكأنه يعرفه من سنوات عدة، فما بالك بمَن عايشهم وحضر معهم مناشطهم التربوية.. لقد كان- يرحمه الله- حريصًا كل الحرص على حضور المناشط الدعوية للإخوان بصورةٍ دائمة، فكان يحضر الكتائب والرحلات القمرية والجهادية وغيرها، ويُقوِّم المعوج، ويعالج المريض ويأد المشاكل في مهدها، فلم يكن الإمام يعيش في برجٍ عاجي بعيدًا عن إخوانه متعللاً بكثرةِ أعبائه الدعوية وارتباطاته وزياراته- وإن كان هو كذلك- ولكنه كان شديد الحرص على الوجود في وسطِ إخوانه في محاضنهم التربوية ليطلع على الصف عن قرب.

فعلى المربين الاقتداء بالإمام في كثرةِ اختلاطه بإخوانه ومعايشته لهم وعدم الانعزال عنهم وحل مشاكلهم عن قرب.

ولقد كان يُربي إخوانه على عددٍ من المقومات أجملها الدكتور يوسف القرضاوي:

1. امتلاك روح المبادرة والإقدام في الفكر والعمل

2. الحزم وعدم التردد

3. حسن التخاطب والاتصال مع الآخرين

4. القدرة على الإقناع

5. سرعة البديهة والتصرف بحكمة

6. المرونة الفكرية وسط الأفق

سياسيًّا فذًا

مَن يقرأ رسائل الإمام الشهيد يجد أنه كان على درايةٍ تامةٍ بقضايا وطنه وأمته، وكان يشرح قضايا الأمة وسبل العلاج الناجع، والتي تناولها في كثيرٍ من رسائله، ولعل منها "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي"، وكذلك لتبنيه لقضايا تحرير الأوطان في كثيرٍ من رسائله ما يُوحي بمدى متابعته لقضايا الأمة كلها.

وذكر الدكتور يوسف القرضاوي في بحثٍ له عن "التربية السياسية عند الإمام البنا" جوانب التربية السياسية فأجملها في العناصر الآتية: الربط بين الإسلام والسياسة وإيقاظ الوعي بوجوبِ تحرير الوطن الإسلامي وإيقاظ الوعي بوجوبِ إقامةِ الحكم الإسلامي وإقامة الأمة المسلمة وإيقاظ الوعي بوجوب الوحدة الإسلامية والترحيب بالنظام الدستوري وحماية الأقليات والأجانب.

يجمع ولا يفرق

ولعل هذا كان واضحًا جدًّا في إجماع كلِّ مَن قابله على احترامه وتقديره رغم اختلافهم معه فكريًّا، مثلاً كما قال طه حسين: "ليت كل أعدائي كحسن البنا"، فكل مَن عامله سواء اختلف أو اتفق معه فهو يحترمه، وهذا نتاج أسلوبه في التعامل مع الجميع والقائم على التجميع وعدم التفريق، ولعل في تبينه للقاعدة الذهبية لرشيد رضا "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"، وكذلك ذكره في الوصايا العشر "تجنب تجريح الهيئات والأشخاص" أكبر الأثر في تجميع الجميع حوله.

إلف مألوف، حب محبوب: لقد كان يملك شغاف القلوب ويأثر كل مَن يُسلِّم عليه، فضلاً عمَّن يجالسه ويعاشره، وما كان ذلك يتحقق إلا إذا شعر الناس بالحبِّ الحقيقي الذي يُحبه الإمام لهم ومدى إخلاصه لهم في هذا الحب وليس مجرَّد ابتسامة أو كلمات رقيقة وفقط، ولكنه شعور حقيقي نابع من قلبٍ كبيرٍ احتوى الجميع فاحتواه الجميع، بل وتعدَّى مَن عاشروه حتى انتقل لمَن سمع منهم عنه. فنجد مَن يتكلم عن الإمام ممن قابله يتكلم بحبٍ وشغف وكأنه يراه أمامه أو عايشه لسنوات عدة، وفي الحقيقة أنه التقاه لدقائق معدودة. ولكنه حب الله الذي يقذفه في القلوب ويألف بينها. ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)﴾ (الأنفال).

مكتشفًا للمواهب مقدمًا لإخوانه: لقد كان- يرحمه الله- مكتشفًا لمواهب إخوانه ساعيًا لإبراز واكتشاف ما في داخلهم من قدراتٍ وطاقاتٍ ودافعًا لهم في هذا الطريق، فقد كان يرحمه الله يربي إخوانه على أنهم قادة وزعماء، لذلك نجد في الجيل الذي ربَّاه الكثير من العلماء والمفكرين والقادة كان للإمام أكبر الأثر في تفجير طاقاتهم وتنميتها: القرضاوي، الغزالي، السيد سابق، الهضيبي، عبد القادر عودة، محمد فرغلي، التلمساني، أبو النصر، وغيرهم الكثير من العلماء والقادة العظام؛ بغض النظر عن مؤهلاتهم العلمية، ولكن بقدر ما يستطيع كل منهم في مجال كان يقدمه ويبرزه الإمام فيه.

ولعل هذا الأمر ما يفتقده بعضُ المربين الآن من عدم تقديمهم لإخوانهم، وبل ويتعدى الأمر ذلك في بعض الحالات لوضع العراقيل المصطنعة والمتكلفة لتقديم بعض الطاقات والكفاءات تحت دعاوى واهية ولا يمكن اعتمادها تحت أي مسمى؛ لذا وجب علينا أن نُدرك أنه من الأهميةِ بمكانٍ تقديم مَن يستحق التقديم؛ لأنه حق الدعوة قبل أن يكون حق للفرد.

قدوةً

لقد كان الإمام يُعطي من نفسه القدوة في كل شيء، وكان يتقدم إخوانه في كلِّ عملٍ ومنشطٍ، ولا يتأخَّر ولا يلتمس لنفسه الأعذار، وحتى حينما وضع مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق وضَّح فيها ضرورة اشتمالها على جميع الجوانب ليكون بالفعل قدوةً صالحةً لإخوانه ولمجتمعه، ولكل الدوائر المحيطة به: "قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظمًا في شئونه، نافعًا لغيره".

مجددًا

لقد كان- يرحمه الله- بشهادةِ الكثير من العلماء والمفكرين مجدد القرن العشرين، وهو الذي أحيى شمولية الإسلام في النفوس بعد أن اندثر بفعل عوامل عدة وحوَّلها إلى واقع ملموس.. يقول الإمام في الأصل الأول من الأصول العشرين: "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".

مهمومًا بدعوته

الإمام في غزة

ولعلنا ندرك ذلك مما ذكره الإمام في رسالة المؤتمر الخامس حين قال: "ولقد أخذت أفاتح كثيرًا من كبار القوم في وجوب النهوض والعمل وسلوك طريق الجد والتكوين، فكنتُ أجد التثبيط أحيانًا والتشجيع أحيانًا والتريث أحيانًا، ولكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية... وليت وجهي شطر الأصدقاء والإخوان ممن جمعني وإياهم عهد الطلب وصدق الود والشعور بالواجب، فوجدت استعدادًا حسنًا، وكان أسرعهم إلى مشاركتي عبء التفكير وأكثرهم اقتناعًا بوجوب العمل في إسراع وهمة، الإخوان الفضلاء: أحمد أفندي السكري، والأخ المفضال المرحوم الشيخ حامد عسكرية أسكنه الله فسيح جنته، والأخ الشيخ أحمد عبد الحميد وكثير غيرهم.

وكان عهد وكان موثق أن يعمل كل منا لهذه الغاية، حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة.

ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونُفكِّر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء، وكم كنا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة والخليون هاجعون يتسكعون بين المقاهي ويترددون على أندية الفساد والإتلاف، فإذا سألت أحدهم عمَّا يحمله على هذه الجلسة الفارغة المملة قال لك: أقتل الوقت، وما دري هذه المسكين أن مَن يقتل وقته إنما يقتل نفسه، فإنما الوقت هو الحياة. (رسالة المؤتمر الخامس بتصرف).

وندرك من ذلك مدى المثابرة والجهد الذي بذله الإمام في عرض فكرته وإعراض الكثيرين عنه والعقبات والصعوبات التي اعترضته ولكنه سعى جاهدًا في طريقه لأنه أدرك من أول يومٍ أنه صاحب دعوة فحملها وحمل همها حتى نصره الله.

رحم الله إمامنا الشهيد، وجعل مثواه الجنة، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته، اللهم آمين.