هل أتي الإسلام بجديد : إنسانية واحدة كريمة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هل أتي الإسلام بجديد : إنسانية واحدة كريمة

بقلم:الشيخ سعيد حوى

مقدمة

الداعية سعيد حوى


... جاء محمد رسول الله - r - ونظرة الناس بعضهم إلى بعض ما يلي

... أ – في الهند :

... لم يعرف في تاريخ أمة من الأمم نظام طبقي أشد قسوة ، وأعظم فصلاً بين طبقة وطبقة ، وأشد استهانة بشرف الإنسان من النظام الذي اعترفت به الهند دينياً ومدنياً وخضعت له آلافاً من السنين ولا تزال ، وقد بدت طلائع التفاوت الطبقي في آخر العهد الويدي ، بتأثير الحرف والصنائع وتوارثها ، أو بحكم المحافظة على خصائص السلالة الآرية المحتلة ونجابتها . وقبل ميلاد المسيح بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية ، ووضع فيها مرسوم جديد للمجتمع الهندي . وألف فيه قانون مدني وسياسي اتفق عليه في البلاد ، وأصبح قانوناً رسمياً ومرجعاً دينياً في حياة البلاد ومدنيتها وهو المعروف الآن بـ " منوشاستر" .

... يقسم هذا القانون أهل البلاد إلى أربع طبقات متمايزة وهي :

... 1 – البراهمة طبقة الكهنة ورجال الدين .

... 2 – شترى : رجال الحرب .

... 3 – ويش : رجال الزراعة والتجارة .

... 4 – شودر : رجال الخدمة .

... ويقول " منو " مؤلف هذا القانون :

... " إن القادر المطلق قد خلق لمصلحة العالم البراهمة من فمه .

وشترى من سواعده . وويش من أفخاذه . والشودر من أرجله ، ووزع لهم فرائض وواجبات لصلاح العالم . فعلى البراهمة تعليم ويد ، أو تقديم النذور للآلهة ، وتعاطي الصدقات . وعلى الشترى حراسة الناس ، والتصدق وتقديم النذور ودراسة ويد ، والعزوف عن الشهوات , على ويش رعي السائمة ، والقيام بخدمتها ،وتلاوة ويد والتجارة والزراعة . وليس لشودر إلا خدمة هذه الطبقات الثلاثة .

... وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقاً فقد قال : إن البراهمة هم صفوة الله ، وهم ملوك الخلق ، وإن ما في العالم هو ملك لهم ، فإنهم أفضل الخلائق ، وسادة الأرض ، ولهم أن يأخذوا من مال عبيدهم شودر من غير جريرة ما شاؤوا ، لأن العبد لا يملك شيئاً ، وكل ماله لسيده ، وإن البرهمي الذي يحفظ رك ويد " الكتاب المقدس " هو رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله ، ولا يجوز للملك حتى في أشد ساعات الاضطراب والفاقة أن يجبي من البراهمة جباية ، أو يأخذ منهم إتاوة ، ولا يصح لبرهمي في بلاده أن يموت جوعاً ، وإن استحق برهمي القتل لم يجز للحاكم إلا أن يحلق رأسه ، أما غيره فيقتل .

... أما الشتري فإنهم وإن كانوا فوق الطبقتين " ويش وشودر " ولكنهم دون البراهمة بكثير .

يقول " منو " : إن البرهمي الذي هو في العاشرة من عمره يفوق الشتري الذي ناهز مائة كما يفوق الوالد ولده .

... أما شودر " المنبوذون " فكانوا في المجتمع الهندي – بنص هذا القانون المدني الديني – أحط من البهائم ، وأذل من الكلاب ، فيصرح القانون بأن من سعادة " شرودر " أن يقوموا بخدمة البراهمة وليس لهم أجر وثواب بغير ذلك ، وليس لهم أن يقتنوا مالاً ، أو يدخروا كنزاً ، فإن ذلك يؤذي البراهمة ، وإذا مد أحد من المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به ، فطعت يده ، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله ، وإذا هم أحد من المنبوذين أن يجالس برهمياً فعلى الملك أن يكوي إسته وينفيه من البلاد ، وأما إذا مسه بيده أو سبه فيقطع لسانه ، وإذا ادعى أن يعلمه سقي زيتاً فائراً ، وكفارة قتل الكلاب والقطة والضفدعة والوزغ والغراب والبومة ورجل من الطبقة المنبوذة سواء " .

... 2 – في فارس :

... وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي ، وكان الفرس ينظرون إليهم كآلهة ، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً يدعون أنه يجري في عروقهم ، فكانوا يكفرون لهم وينشدون الأناشيد بألوهيتهم ، ويرونهم فوق القانون ، وفوق الانتقاد ، وفوق البشر ولا يجري اسمهم على لسانهم ، ولا يجلس أحد في مجلسهم ، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل إنسان ، وليس لإنسان حق عليهم ، وأن ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم إنما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق .

... كما يعتقدون أن طبقة البيوتات الروحية والأشراف فوق العامة في طينتهم ، وفوق مستوى الناس في عقولهم ونفوسهم ، ويعطونهم سلطة لا حدّ لها ، ويخضعون له خضوعاً كاملاً يقول " آرتهرسين " :

... " كان المجتمع الإيراني مؤسساً على اعتبار الحرف والنسب ، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر ولا تصل بينها صلة ، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقاراً لأمير أو كبير ، وكان من قواعد السياسة الساسانية ، أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه ، ولا يستشرف لما فوقه .

ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها ، وكان ملوك إيران لا يولون وضيعاً وظيفة من وظائفهم ، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزاً واضحاً ، وكان لكل واحد مركز محدد في المجتمع .

... وكان في هذا التفاوت بين طبقات الأمة امتهان للإنسانية .

يظهر لك جلياً في مجالس الأمراء والأشراف ، حيث يقوم الناس على رؤوس الأمراء كأنهم جماد لا حراك بهم ، ويجلسون مزجر الكلب .

... ثم يبالغون في تمجيد القومية الفارسية ، ويرون أن لها فضلاً على سائر الأجناس والأمم ، وأن الله قد خصها بمواهب ومنح لم يشرك فيها أحداً ، وكانوا ينظرون إلى الأمم حولهم نظرة ازدراء وامتهان ، ويلقبونها بألقاب فيها الاحتقار والسخرية(1) .

... 3 – هذان مثلان يبينان لنا حال العالم في قضية الإنسان حين البعثة وليس هما كل شيء ، فاليونان والرومان كل واحدة منهما كانت ترى غيرها برابرة ، وهي وحدها نموذج الإنسان العالي ، وكنت ترى هذا الشعور بالأفضلية حتى على مستوى القبيلة ، حتى على مستوى الأسرة ، ولم يكن يخطر ببال قضية الإنسانية الواحدة ..

... 4 – وما لنا نذهب بعيداً فحتى الآن نرى :

... أن هتلر يعتبر الشعب الجرماني أعظم شعوب الدنيا ، وله حق سيادة العالم .

... والشعب الأمريكي لا يزال في الغالب يعامل السود معاملة احتقار وازدراء وامتهان ، ولا يعترف لأسود بحق لدرجة أن سينما البيض لا يدخلها سود .

ومطعم البيض لا يدخله سود ، ومدرسة البيض لا يدخلها سود .

... وفي جنوبي إفريقيا الأسود أحقر عند البيض من الكلب .

... بل أكثر من هذا بقيت الكنيسة النصرانية فترة طويلة في إفريقيا لا ترى أن الرجل الأسود أهل لأن يكون قسيساً ، وعند الشيوعيين تظهر الطبقية بشكل آخر : رأسمالية – بورجوازية – بروليتاريا .

... هذا بشكل عام ، فإذا ما نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى ، زاوية أن الإنسانية رجل وامرأة ، وكل منهما إنسان ، فإنك تجد ولا تزال مثل هذه الصور :

... في القرن السادس الميلادي كانت بعض المجامع الكنسية تبحث : هل المرأة إنسان أو حيوان ؟

... وكان العرب يئدون بناتهم حتى قال صعصعة بن ناجية :

... جاء الإسلام وقد فديت ثلاث مائة موءودة .

... وكان الهنود إذا مات الرجل حرموا على زوجته أن تتزوج وأهانوها ، حتى أصبحت عادة عندهم أن تحرق المرأة نفسها إذا مات زوجها لتتخلص مما يصيبها بعد موته ، وقد يحدث عندهم أن يخسر الرجل زوجته في القمار ، وفي كل مكان ليس للمرأة شخصيتها الحقوقية المستقلة .

... وحتى الآن تجد أن القانون الفرنسي لا يسمح للمرأة أن تتصرف بأموالها إلا بإذن زوجها ، والقانون الإنجليزي لا يسمح لها بتغيير اسمها إلا بإذن زوجها ، أما هو فحر ..

... وإذا نظرنا إلى الإنسانية من وجه آخر . وجه الأحرار والعبيد . فإننا نجد صوراً من البشاعة في معاملة الرقيق لا تتصور ، الرقيق ليس له حق حياة ولا كرامة ولا يوجد أصلاً بإنسانية .

... هذا كله كان وبعض منه كما رأينا لا يزال :


... فماذا فعل محمد رسول الله - r - بأمر من الله ووحي ؟ :

... لقد أعلن محمد رسول الله - r - وحقق عملياً إنسانية الإنسان ، ووحدة الإنسانية ، وكرامة الإنسان ، الرجل إنسان ، والمرأة إنسان ، والعبد إنسان ، والناس كلهم سواء في هذه الإنسانية ، فلا شعب أعلى من شعب ، ولا جنس أعظم من جنس .


... وفي ذلك يقول صاحب كتاب " هذا الدين " فيه :

... " من العصبية القبلية بل عصبية العشيرة بل عصبية البيت ، التي كانت تسود الجزيرة ، ومن عصبية البلد ، عصبية الوطن ، وعصبية اللون ، وعصبية الجنس ، التي كانت تسود وجه الأرض كله ...

... ومن هذه العصبيات الصغيرة التي لم تكن البشرية تتصور غيرها في ذلك الزمان ، جاء الإسلام ليقول للناس :

... إن هناك إنسانية واحدة ، ترجع إلى أصل واحد ، وتتجه إلى إله واحد . وأن اختلاف الأجناس والألوان ، واختلاف الرقعة والمكان ، واختلاف العشائر والآباء .. كل أولئك لم يكن ليتفرق الناس ويختصموا ، ويتحوصلوا وينعزلوا ، ولكن ليتعارفوا ويتآلفوا ، وتتوزع بينهم وظائف الخلافة في الأرض ، ويرجعوا بعد ذلك إلى الله الذي ذرأهم في الأرض واستخلفهم فيها .

... وقال لهم الله سبحانه في القرآن :

... {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات : 13 .

... {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} النساء : 1 .

... ولم تكن هذه مبادئ نظرية ولكنها كانت أوضاعاً عملية .

... لقد انساح الإسلام في رقعة من الأرض فسيحة ، تكاد تضم جميع الأجناس وجميع الألوان .. وذابت كلها في النظام الإسلامي . ولم تقف وراثة لون , ولا وراثة جنس ، ولا وراثة طبقة ، ولا وراثة بيت ، دون أن يعيش الجميع إخواناً ، ودون أن يبلغ كل فرد منهم ما تؤهله له استعداداته الشخصية ، وما تكفله له صفة الإنسان .

... واستقر هذا الخط العريض في الأرض ، بعد أن كان غريباً فيها أشد الغرابة ، ومستنكراً فيها كل الاستنكار – وحتى بعد انحسار المد الإسلامي – لم تستطع البشرية أن تتنكر له كل التنكر ، ولم تعد تستغربه كل الاستغراب .

... حقيقة : إنها لم تستطع أن تتمثله كما تمثلته الجماعة المسلمة ، ولم يستقر فيها استقراره في المجتمع الإسلامي .

... وحقيقة : إن عصبيات شتى صغيرة ما تزال تعيش ، عصبيات الأرض والوطن وعصبيات الجنس والقوم وعصبيات اللون واللسان .

... وحقيقة : إن الملونين في أمريكا وجنوب إفريقيا يؤلفون مشكلة حادة بارزة ، كما يؤلفون مشكلة ناعمة مستترة في أوروبا كلها .

... ولكن فكرة الإنسانية الواحدة ما تزال خطاً عريضاً في هتافات البشرية اليوم ، وما يزال هذا الخط الذي خطه الإسلام هو أصل التفكير البشري – من الناحية النظرية – وما تزال تلك العصبيات الصغيرة تبزغ وتختفي ، لأنها ليست أصلية ولا قويمة .

... وجاء الإسلام والكرامة الإنسانية وقْفٌ على طبقات معينة ، وعلى بيوت خاصة ، وعلى مقامات معروفة . أما الغثاء – غثاء الجماهير – فهو غثاء لا وزن له ولا كرامة ! غثاء !!!

... وقال الإسلام كلمته المدوية : إن كرامة الإنسان مستمدة من إنسانيته ذاتها ، لا من أي عرض آخر كالجنس ، أو اللون ، أو الطبقة أو الثروة أو المنصب إلى آخر هذه الأعراض العارضة الزائلة ... والحقوق الأصيلة للإنسان ، مستمدة إذن من تلك الإنسانية التي ترجع إلى أصل واحد كما أسلفنا .

... وقال لهم الله في القرآن الكريم :

... {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} الإسراء : 70 .

... {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة : 30 .

... {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} البقرة : 34 .

... {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} الجاثية : 13 .


... وعلم الناس منذئذ :

... أن الإنسان – بنوعه ، كريم على الله . وأن كرامته ذاتية أصيلة . لا تتبع جنسه ، ولا لونه ، ولا بلده ، ولا قومه ولا عشيرته ، ولا بيته . ولا عرضاً من هذه الأعراض الزائلة الرخيصة .

... إنما تتبع كونه إنساناً من هذا النوع الذي أفاض عليه ربه الكريم . ولم تكن هذه المبادئ نظرية ، إنما كانت واقعاً عملياً ، تمثل في حياة الجماعة المسلمة ، وانساحت به في أرجاء الأرض ، فعلمته للناس ، وأقرته في أوضاع حياتهم كذلك ، وعلمت جمهور الناس ... ذلك الغثاء .. أنه كريم ، وأن له حقوقاً ، هي حقوق الإنسان ، وأن له أن يحاسب حكامه وأمراءه ، وأن عليه ألا يقبل الذل والضيم والمهانة . وعلمت الحكام والأمراء ألا تكون لهم حقوق زائدة على حقوق الجماهير من الناس – وأنه ليس لهم أن يهينوا كرامة أحد ممن ليس بحاكم أو أمير .

... وكان هذا ميلاداً جديداً " للإنسان " ميلاداً أعظم من الميلاد الحسي ..

... فأي إنسانية لإنسان إذا لم تكن له حقوق الإنسان ، وكرامة الإنسان , وإذا لم تكن تلك الحقوق متعلقة بوجوده ذاته ، وبحقيقته التي لا تتخلف عنه في حال من الأحوال ؟


... بدأ أبو بكر t عهده بقوله :

... " لقد وُليت عليكم ولست بخيركم : فإن أحسنت فأعينوني . وإن أسأت فقوموني . أطيعوني ما أطعت الله ورسوله . فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " .

... وخطب عمر بن الخطاب t فقال يعلِّم الناس حقوقهم تجاه الأمراء :

... " يا أيها الناس . إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ، ولا ليأخذوا من أموالكم . ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم . فمن فعل به شيء من ذلك فليرفعه إلي . فوالذي نفس عمر بيده ، لأقصنه منه .. فوثب عمرو بن العاص فقال :

... " يا أمير المؤمنين ، أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته . إنك لتقتص منه ؟ " .

... قال عمر : " أي والذي نفس عمر بيده لأقصنه منه . وكيف لا أقص منه وقد رأيت رسول الله - r - يقص من نفسه . ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم ، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم " .


... وكتب عثمان t كتاباً إلى جميع الأمصار قال فيه :

... " إني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم قد سلطت الأمة على الأمر بالمعروف ؛ والنهي عن المنكر ، فلا يرفع علي شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته . وليس لي ولا لعمالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم . وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون . فمن ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم ، يأخذ حقه حيث كان مني أو من عمالي ، أو تصدقوا ، إن الله يجزي المتصدقين " .

... والمهم – كما أسلفنا – أن هذه لم تكن مجرد مبادئ نظرية أو مجرد كلمات تقال .

... فقد طبقت تطبيقاً واقعياً ، وسرت في أوساط الشعوب حتى اتخذت قاعدة للأوضاع العملية .

... " وحادثة ابن القبطي الذي سابق ابن عمرو بن العاص ، فاتح مصر وواليها ، فسبقه فضربه ابن عمرو ، فشكا أبوه إلى عمر بن الخطاب t عنه فأقصه منه في موسم الحج وعلى ملأ من الناس ... حادثة معروفة .

... وقد اعتاد الكتاب أن يقفوا فيها عند عدل عمر .. ولكن الحادثة أوسع دلالة على ذلك التيار التحرري الذي أطلقه الإسلام في ضمائر الناس وفي حياتهم .

... فمصر إذ ذاك بلد مفتوح ، وحديث عهد بالفتح الإسلامي . وهذا البقطي لم يزل على دينه فرداً من جماهير البلد المفتوحة . وعمرو بن العاص هو فاتح هذا الإقليم ، وأول أمير عليه من قبل الإسلام .. وحكام هذا الإقليم قِبل الفتح الإسلامي هم الرومان :

... أصحاب السياط التي تجلد ظهور شعوب المستعمرات ، ولعل ذلك القبطي كان ما يزال ظهره يحمل آثار سياط الرومان .

... ولكنّ المدّ التحرري الذي أطلقه الإسلام في أنحاء الأرض ، أنسى ذلك القبطي سياط الرومان وذلها ، وأطلقه إنساناً حراً كريماً ، يغضب لأن يضرب ابن الأمير ابنه بعد اشتراكهما في سباق . وهذه أخرى ، ثم تحمله هذه الغضبة لكرامة ابنه الجريحة على أن يركب من مصر إلى المدينة لا طيارة ولا سيارة ولا باخرة ولا قطاراً ، ولكن جملاً ، يخب به ويضع الأشهر الطوال كل ذلك ليشكو للخليفة .

... الخليفة الذي حرره يوم الفتح تحت راية الإسلام ، والذي علمه الكرامة بعد أن نسيها تحت وقع سياط الرومان .

... وهكذا ينبغي أن نفهم ، وأن ندرك عمق المد الإسلامي التحرري . فليست المسألة فقط أنّ عمر عادل ، وأن عدله لا تتطاول إليه الأعناق في جميع الأزمان .

... ولكن المسألة بعد ذلك أن عدل عمر المستمد من الإسلام ، ومنهجه ونظامه ، انطلق في الأرض تياراً جارفاً ومحرراً مكرماً للإنسان ... بصفته " الإنسان " .

... هذا المستوى الرفيع ، لم ترتفع إليه الإنسانية قط ... هذا صحيح ولكن هذا الخط العريض الذي خطه الإسلام ، في كرامة الإنسان وحريته وحقوقه تجاه حكامه وأمرائه ، قد ترك في حياة البشر آثاراً لا شك فيها . وبعض هذه الآثار هو الذي يدفع بالبشرية اليوم إلى إعلان " حقوق الإنسان " .

... وحقيقة إن هذا الإعلان لم يأخذ طريقه الواقعي في حياة البشرية .

... وحقيقة إن " الإنسان " ما يزال يلقى المهانة والإذلال والتعذيب والحرمان في شتى أنحاء الأرض .

... وحقيقة إن بعض المذاهب تجعل مقام الإنسان دون مقام الآلة ، وتقتل حرية الإنسان وكرامته وخصائصه العليا في سبيل الإنتاج ومضاعفة الدخل ، والتفوق في الأسواق .

... كل هذا صحيح .

... ولكن هذا الخط ما يزال قائماً في مدارك البشرية وتصوراتها ولم يعد غريباً عليها كما كان يوم جاءها الإسلام " .

... وهذه نماذج من توجيهات السيد الرسول - r - في هذا الباب نذكرها كأمثلة على هديه في بناء جوانب إنسانية الإنسان .

... أ – عن حذيفة : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان "(2) .

... ب – وعن عائشة رضي الله عنها " أن فتاة قالت – يعني للنبي - r- - إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة ، فأرسل النبي - r- إلى أبيها فجعل الأمر إليها فقالت : يا رسول الله إن أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء "(3) .


.. ج – عن معاوية بن سويد بن مقرن قال :

... لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال للخادم : امثل منه فعفا ثم قال : كنا بني مقرن على عهد رسول الله - r - ليس لنا خادم إلا واحدة فطلمها أحدنا فبلغ ذلك رسول الله - r - فقال : " اعتقوها فقيل له ليس لهم خادم غيرها فقال فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها "(4) .


... د – وعن المعرور بن سويد قال :

... رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك فقال : سمعت رسول الله - r- يقول : " هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه "(5) .

... هـ - وكان عمر t يقول : " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالاً"(6) .

... وسنرى إن شاء الله في الرسالة الثالثة " الإسلام " هذه المعاني بالتفصيل .

... هذه ثمرة من ثمرات محمد رسول الله - r - وهي ثمرة ما كانت لتكون لولا أنه رسول الله .

... إن بيئة الجزيرة العربية ما كانت لتنبع منها فكرة وحدة الإنسانية وكرامتها ، بل ما كانت لتخرج إنساناً له رسالة للبشرية عامة . فكل المقدمات ما كانت لتوحي بنتيجة من هذا النوع .


... يقول العقاد :

... ثم يستمع الناس إلى دعوة من أعماق جزيرة العرب تنادي بني الإنسان جميعاً إلى دين واحد وإله واحد وحق واحد :

... {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُو?اْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات : 13 .

... {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} سبأ : 28 .

... {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} الأنبياء : 107 .


... ويفصل رسول الدعوة آيات الكتاب الذي أُنزل إليه فيقول في تفسير هذه الآيات :

... " لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى " ولو لم يكن من سعة المسافات بين المقدمات ، وهذه النتيجة غير هذا الذي أجملناه لكان فيه الكفاية . لكن العجب منه يتضاعف ويتعاظم حين تأتي النتيجة من أعماق الجزيرة العربية حيث مشتجر الأنساب والأعراق على نحو لم يعرف له مثيل بين الأمم والعصبيات ، وبقية تبقى بعد ذلك لعجب فوق ذلك العجب المتضاعف المتعاظم فإن الرسول - r - الذي نادى بهذه المساواة بين الأصول والأمم ، لم يكن دون أحد من أبناء الجزيرة كلها حسباً ونسباً من أبويه الشريفين . بل كان من شرف الأبوة في الذؤابة التي يعترف بها الكافرون ، وهذا الرسول هو الذي يتعلم منه الناس أنهم إذا صلحوا واستقاموا {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} ( مطلع النور ) .

الشيخ سعيد حوى


الهوامش

(1) راجع ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين .

(2) أخرجه البزار وحسنه السيوطي .

(3) أخرجه أحمد .

(4) أخرجه مسلم .

(5) أخرجه البخاري ومسلم .

(6) أخرجه البخاري .

إسلاميات - براهبن سعيد حوي

مقالات مشابهة

- القرضاوي هل جاء الإسلام بجديد

- التوافق بين المادية والروحانية .

- عبد الله علوان، ردا على السائلين: هل أتى الإسلام بجديد

المصدر