هذه تجربتي وهذه شهادتي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هذه تجربتي وهذه شهادتي


بقلم : الأستاذ سعيد حوي

المقدمة

هذه تجربتي...
وهذه شهادتي

سعيد حوي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله
{ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}
مقدمة

الحمد لله... والصلاة والسلام على رسول الله وآله...

ليس هناك من شيء أهمني في حياتي كحال الأمة الإسلامية، بل مرت علي أطوار غلب علي التفكير في شأن الأمة في قيامي وقعودي حتى خشيت أن تصبح الأمة الإسلامية شاغلا لي عن الله عز وجل. وشاركت في أنواع من العمل الإسلامي المتاح، وانخرطت في أكثر من بيئة إسلامية، واندفعت حيث ظننت أن الحق ثمة، وكتبت حيث وجدت حاجة للكتابة في موضوع، وحيثما وصلت إلى نهاية مرحلة كنت أراجع نفسي كثيراً، وأعيش أثناء المراجعة فترات من القلق والحيرة والاضطراب أتكتم عليها لكني أبقى أبداً في عملية مراجعة حتى أطمئن لما أنا عليه: هل هو محل رضوان الله عز وجل؟ وهل ما أنا فيه هو الطريق الصحيح لخدمة هذه الأمة؟. وكنت على استعداد دائم إذا تبين لي الخطأ أن أعترف به مهما كلفني ذلك بل إنني أعتبر من الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين أن أكتم عن المسلمين خطئي إذا كان في ذلك تغرير بالمسلمين.


ابدأ كتابة هذه المذكرات وقد قاربت الخمسين، وقد انتهى القرن الرابع عشر الهجري وبدأ القرن الخامس عشر، ونرجو أن نكون على أبواب مرحلة جديدة قد خدمها ما سبقها. ولقد فكرت كثيرا في أن التزم الصمت بقية حياتي، وأن الزم نفسي بالعزلة التي أجبرني عليها المرض تاركا لتجربة القرن الرابع عشر أن تأخذ مداها، ولكن غلب علي أنني وجدت مصلحة في كتابة هذه المذكرات فآثرت الكتابة، وجعلت هذا الكتاب الجزء التاسع من سلسلة "في فقه الدعوة والبناء والعمل الإسلامي". ولئن أصبح أدب المذكرات جزءاً رئيسياً من أداب عصرنا، فقليلة هي المذكرات التي تستأهل النشر أو القراءة، ولولا أنني أعتبر هذه المذكرات مفيدة ولو لبعض الناس ما نشرتها، أسأل الله أن تكون خالصة لوجهه الكريم وألا يكون فيها حظ لنفسي، وأسأله نفعا خالصا لا ضرر فيها لأحد. والله الموفق.. وهو المستعان.

سعيد حوي


الباب الأول

من السنة الأولى حتى الثالثة عشرة

من السنة الأولى حتى الثالثة عشرة
(19351948 م)

ولدت في حماة سنة 1935 في حي فيها يسمى العيليات يقع على يمين الداخل إلى حماة من جهة دمشق، اسم الوالد محمد ديب حوا واسم الوالدة عربية ألطيش، يشتق اسم اسرتي من الفعل حوى يحوى فهو حوا وللاشعار بهذا الاشتقاق، فقد تعمدت أن أختم اسم الأسرة بالألف المقصورة وقد نبهني بعضهم إلى أن هذا غلط املائي فلا يصلح ههنا إلا الألف الممدودة، وبعض شيوخنا أجاز الوجهين، وهو الذي أخذت به. تصل أسرتي بنسب إلى أسرة أخرى في الحي هي أسرة برى ورواية الأسرتين تتضافر على أن ثلاثة اخوة أصولهم عربية وفدوا إلى حماة وقطنوا فيها ومنهم تفرعت الأسرتان. تتضافر روايتا كبار الأسرتين على أننا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حدثني حاج محمود برى – ولا زال حيا أثناء كتابة هذه السطور – أنه ورث في أوراق أسرته شجرة النسب وأن نسب الأسرة ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك رواية أسرتنا والجميع مجمعون على أن نسبينا واحد. وقد حدثني الوالد أننا ننتسب إلى قبيلة النعيم المشهورة وهي قبيلة ينتهي نسبها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو مشهور، لم تتح لي فرص التحقق من هذه الروايات والناس مصدقون بأنسابهم. وأما أسرة والدتي فتنتسب إلى عشيرة الموالي، وهي عشيرة مشهورة تسكن بادية الشام، كما حدثني بذلك ابن خالة لي نقلا عن والده. توفيت والدتي وأنا في السنة الثانية من عمري، ثم تزوج والدي من أسرتنا ثم اضطر لمغادرة البلد وأنا صغير بسبب شجار حدث في الحي توفي أحدهم رحمه الله، وقد اتهم به والدي الذي يضع دم القتيل في عنق طبيب متآمر، وقد لوحق الوالد ففر إلى الجزيرة السورية وبقي هناك حوالي أربع سنوات، تقمص خلالها شخصية تاجر، وعاش في أجواء قبيلة عنزة، ثم سلم نفسه للسلطة بعد مصالحة مع أسرة القتيل، بقي بعد ذلك في السجن حوالي سنة ثم اطلق سراحه، وعشت خلال هذه الفترة في كنف عمي وجدتي رحمهما الله.

كانت جدتي حازمة صارمة، لم تكن تسمح أن أغيب عنها وكانت حريصة على تعليمي فأدخلتني مدرسة ابتدائية، ولكن الفقر لم يكن يسمح بلباس مناسب فلا أعرف أنه كان أرث من ثيابي في المدرسة، حتى احتج المدير على رثاثتي وهدد بطردي فاستطاع أحد أقربائنا أن يأتيني بثوب عتيق ولكن لا بأس به فأنقذني ذلك من الطرد، كانت الأيام وقتذاك أيام حرب، فالحرب العالمية الثانية كانت في أوجها. خرج الوالد من السجن وأنا في الثامنة تقريبا، فأخرجني من المدرسة لأنه لا يستطيع الانفاق علي ثم أنه كان بحاجة أن أساعده على صغري في عمله في سوق الخضار كبائع بالجملة. ذكرياتي عما قبل الثامنة قليلة، حينا حي منعزل وجدتي كانت تفرض علي عزلة كاملة فلا خلطة مع أحد، كنت أفر كثيرا من المدرسة وأرفض الذهاب إليها أحيانا وكم شاهد الناس حدتي وهي تجرني إلى المدرسة غصبا عني، كنا فقراء نأكل خبز الشعير في الغالب، ولا نذوق الرز إلاّ في الأعياد، وكانت فقيرات الحي ومنهنّ زوجة والدي يعملن أثناء موسم الحصاد أما بالحصاد ليكسبن أجرا أو يلتقطن ما يهمله الحصادون وكانت سنة معتادة أن ما يتركه الحاصد يكون مباحا لمن يلتقطه. لا أتذكر أنني زرت والدي في السجن إلا مرة واحدة فجدتي كانت تجنبني هذه المواقف. أتذكر زيارة واحدة زرنا فيها والدي أثناء هروبه في الجزيرة، أخذني عمي، ويبدو أن ترتيبه مع الوالد أن أبقى عند الوالد لكني أحسست بالأمر وكنت متعلقا بعمي وجدتي فبكيت ولحقت بعمي فأرجعني عمي معه، ولا زلت أتذكر اسم القرية، كان اسمها "عين عيسى" ولا زلت أتذكر منظر السمك وهو يسبح في عينها. رجعنا من قرية عين عيسى في الجزيرة في سيارة شحن تحمل حبوبا وكنا نائمين على ظهرها، وعبرنا الفرات على زورق خشبي، ولقد أضعت حذائي أثناء النوم فعدوت بلا حذاء. مررنا في عودتنا بحلب ودخلنا بعض أسواقها وعرفت وقتذاك وأنا صغير كيف يحاول بعض التجار أن يغرروا بالمشترين فيدفعوا ناسا للتظاهر بالشراء ولا يريدونه. كنت أرى كل شيء عجيبا. عدنا إلى الجدة التي كانت تصبر علي كثيرا وتحبني كثيرا، ومع ذلك كانت تضربني كثيرا وخاصة من أجل المدرسة، ومن أجل اسكات صوت بكائي إذا رفضت أن تعطيني ما أريد. كنت كثير الطمع بها، كثير الحب لها، - رحمها الله - . عندما خرج الوالد من السجن وأخرجني من المدرسة بدأت أساعده في عمله كاتبا ومحاسبا ووزانا وحمالا، ومن قبل كنت أساعد عمي وكان خضريا وفاكهانيا.

كان والدي يبيع بالجملة ينزل عنده أصحاب البساتين والحقول انتاج بساتينهم وحقولهم فيبيعه لهم، كان دوره دور الوسيط بين المزارع وبائع المفرق وبسبب من ذلك تقوم دوائر من الأعمال والمحاسبات، ودفعني الوالد على صغر سني لاتقان ذلك كله محاسبة وجباية وتصرف في المال مع رقابة شديدة وأتقنت ذلك، لقد ركز على تعليمي الخط والحساب حتى صرت مضرب المثل في سرعة الحساب. وعودني الوالد على المطالعة حتى ولعت بها وكانت بداية ذلك عندما جاءني بقصة عنترة ثم بقصة سيف بن ذي يزن وبقية القصص الشعبية فولعت بالمطالعة ولعا شديدا، وكان استيعابي رفيعا حتى أنني في يوم من الأيام قرأت في كتاب المستطرف فحدثت عمي الأكبر عن بعض ما فيه فعجب من استيعابي ورغب إليّ أن أقص أمام بعض الناس فقصصت، فعلق أحدهم:

إن هذا الغلام سيأكل الفالوذج على موائد الملوك، ولم ترقني هذه الكلمة فلقد كانت همتي وقتذاك أكبر من ذلك، فلقد نما عندي بسبب مطالعتي نوع من الاحساسات الطموحة ندر أن توجد في بيئة كبيئتنا وبقيت هذه الاحساسات تنمو وتستفحل حتى دخلت جماعة الإخوان المسلمين بعد سنين، وعندئذ تحول طموحي إلى رغبة أن انجز الكثير دون أن يعرف أحد عني شيئا. لقد كنت أستشعر أنني أستطيع أن أفعل كل شيء وأن أتغلب على كل شيء وأن أحقق كل شيء، شهدت في السنة العاشرة ما حدث في حماة من صراعها مع الفرنسيين وما ترتب على ذلك من جلاء، شهدت الآلام وشهدت الأفراح وأتذكر ذلك جيداً. وأتذكر كيف نهب الناس بيوت الفرنسيين بعد هزيمتهم في حماة وكيف أن بعض أقاربي نهب صناديق ثقيلة وبعد جهد فتحها فوجد فيها سردينا، فكانت نكتة ضحك الناس منها لأنه لم يكن مألوفا في بيئتنا أكل السردين. وأتذكر كيف انتهب الناس سلاح الحملات التي وجهها الفرنسيون إلى حماة بعد انكسار هذه الحملات. وأتذكر الاستعراضات التي سبقت ولحقت الحملات، وكيف أن الناس جميعا نسوا خلافاتهم وأتذكر أن والدي شارك في المعركة مشاركة فعالة.

كانت بيئتنا جاهلة لكنها تهتم كثيرا بقضايا الشرف، وكانت فقيرة لكنها عفيفة، وكان أكثر حينا يعمل اما في البساتين واما في بيع الخضار وكان يقع على هؤلاء وهؤلاء ظلامات من الملاجين وحواشيهم والمتعاملين معهم وكان والدي وعمي يمثلان فتوة جيلهما، ولذلك وجدا أنفسهما في حلبة صراع كان من آثاره ما ذكرته من استشهاد أحد أبناء الحي على أثر ضربة من والدي وتوطؤ طبيب مع الخصوم غفر الله للجميع، وكان من آثار ذلك الوضع سقوط الكثيرين من أبناء الحي قتلى وكانت بعض الظلامات سببا في استجابة أهل حينا للحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني وكان والدي وعمي ممن شاركوا ابتداء في التمكين لهذا الحزب في حينا.

كانت أوضاع حينا تستدعي المنازعات والخصومات، ولقد سجن والدي ثلاث مرات بسبب هذه الأوضاع، سجن والدي سجنه الأول وأنا في السنة الثانية من عمري وتوفيت والدتي وهو سجين، وعمري سنة وأربعة أشهر، وسجن سجنه الثاني وأنا في السابعة من عمري، وسجن سجنه الثالث وأنا في العاشرة من عمري، وكان ذلك كله بسبب مواقف يعتبرها الناس عندنا شريفة وبطولية، والله يغفر لنا وله وللناس. خرج الوالد من سجنه الثاني وأنا في أواخر الثامنة وقد خرج من السجن وهو فقير، وأتذكر بعض الحديث الذي دار أمامي حول عمله، ثم حدث أن توجه نحو بيع الجملة "سوق الهال"، وبدأ عدد من أصحاب البساتين ينزلون عنده خضارهم وفاكهتهم، وبيع الجلمة يحتاج إلى حاسبة قوية وكتابة واضحة وإلى حركة صباحية نشطة وإلى جمع ثمن الخضار مساء، ولذلك ركز علي والدي أن يعلمني جدول الضرب وأن يحسن خطي، فمهرت بالضرب مهارة عجيبة مذهلة بحيث كنت أستطيع بسرعة دون الاستعانة بالكتابة أن أجمع أو أضرب أي رقم يحتاجه عملنا، ومع أن أهل مهنتنا كانوا مهرة في ذلك لكن لا أعرف أن أحدا كان يفوقني في سرعة استخراج أي نتيجة، وتحسن خطي فأصبح واضحا مقروءا حتى أن أبي صار يفاخر بي، وكنا نستيقظ مبكرين فنصلي ونقبل على استقبال الخضار والفواكه فنبيعها ونزينها ونسلمها لأهلها، وقد نساعدهم على تحميلها وينتهي علمنا هذا كله مبكرا حتى أنه نادرا ما يتجاوز علمنا الثامنة صباحا، وكان افطارنا في الصيف الخبز والفليفلة والطماطم والبقدونس، وكانت كمية الخبز التي آكلها كبيرة بعد ساعتين من العمل المجهد، وبعد الظهر كان والدي يرسلني لجمع الديون ولا أعرف أنني كنت أتأخر عن البيت إلى ما بعد المغرب، فذلك شيء محظور علي، وعندما تأخرت يوما إلى ما بعد المغرب فلم يحاسبني شعرت أنني أصبحت رجلا.

أعتبر والدي مربيا ناجحا فهو يمتلك قدرة عجيبة على غرس المعاني التي يريدها في نفوس أبنائه، كما أنه قادر على أن يحملهم على ما يريد. وحرص في هذه الفترة على أمور، أولا: أن ينمي عندي الحمية على العرض حتى إذا وجدت وأنا ابن العاشرة واحدة من أخواتي الصغيرات تلعب خارج البيت وكلهن أصغر مني كنت أضربهن تنفيذا لوصايا الوالد، وكان يقص علي من حوادث السجناء فهذا قتل أخته بسبب فضيحة، وهذا قتل أمه، لقد رباني على أن أهم شيء في الوجود هو المحافظة على العرض والشرف. ثانيا: نمى عندي عدم التفكير في المظاهر (الهندام لا قيمة له – اللباس الفاخر لا يساوي شيئا – العبرة في المخبر) وقد أثر هذا في حياتي ولا يزال يؤثر رغم قناعاتي بعد ذلك أن هذا يخضع للظروف. ثالثا: نمى عندي العفة عن أموال الناس، وهذا مهم لما أنا فيه فعندما ينزل أهل البساتين فواكههم يزوقونها فإذا ما أكل أحد الناس منها ساءهم ذلك فعودني ألا أمد يدي على شيء، كما غرس في نفسي حفظ الأمانة والعفة عن المال العام وأطلق لي أن أنفق ما أشاء على أي شيء أشاء لكن لا بد أن يكون ذلك وفق حساب دقيق، فلا بد أن أقدم كشف حساب وأن تكون حساباتي دقيقة، ولقد ضربني أكثر من مرة ضربا مبرحا لأنه وجد الخارج والداخل غير متطابقين على قلة الفوارق، لقد سلمني على صغر سني محاسبة أصحاب البساتين وأن أجمع الديون وأن أنفق على البيت وكان ذلك كبيرا على صغير في السن مثلي، ومع حرصي اليومي والأسبوعي على مطابقة الوارد للصادر كان يحدث عندي خلل بسبب بعض المصروفات التي لا أسجلها، ومع أن الأموال كثيرة والمعاملات كبيرة، فالفوارق تبقى دائما قليلة، ولكن مهما كانت قليلة فذلك يكلفني ضربا مبرحا.

مما أتذكره في هذه المرحلة دخول الاشتراكية الى حينا، وكان رائدها عندنا في حماة أكرم الحوراني. وحماة بلد متدين وهي على صلة في البادية السورية فهي محتكة بالقبائل العربية ثم هي عريقة في حضارتها فقد تكون من أقدم بلدان العالم ولذلك تجد هذا الاسم يذكر كثيرا في كتب العهد القديم، وحفريات حماة أوصلت إلى أزمنة سحيقة في القدم. ليس في حماة يهودي واحد مع أن في حماة قبرا يزعم أنه لداوود عليه السلام، وعندما حدث الفتح الاسلامي لم تقاوم حماة الفتح، وعلى مدى التاريخ الاسلامي كان لحماة وقفات صامدة سواء في الحروب الصليبية أو في مرحلة الاستعمار. توطنت حماة، عند الفتح الاسلامي القبائل القيسية حتى أصبحت كلمة قيسي ترادف كلمة الحموي وأشار الى ذلك الحريري في مقاماته. الهجرة الى حماة من القبائل والقرى والبلدان مستمرة لذلك تجد فيها اصولا عربية واصولا أخرى وخاصة الأكراد فبعض أسر حماة الشهيرة أصولها كردية. استمرت النصرانية في حماة بعد الفتح الاسلامي وفيها أكثر من مذهب مسيحي والصلات بين نصارى حماة ومسلميها قوية، وقد تأصلت في المدينة آداب في التعامل الاسلامي المسيحي، ويضرب نصارى حماة مثلا رفيعا على مراعاة مشاعر جيرانهم المسلمين، ويقابل المسلمون الأريحية بمثلها. ومن هذا كله وجدت لهذه المدينة خصائص وغلب على أهلها طابع وأصبحت هناك أخلاقية واحدة ينصهر فيها كل فرد في المدينة. فالتدين في البلد ظاهرة لا تتجاهل على تساهل في بعض السلوكيات، والمحافظة على العرض والشرف، والشجاعة والأنفة والنخوة، والتعلق بالأخلاق العربية. هذه الخصائص العامة جعلت حماة تستعصي على كثير من الأفكار السياسية ولذلك كان تأثر الحمويين بالفكر الشيوعي وبفكر الحزب القومي السوري الاجتماعي ضعيفا لبعد الأول عن الدين، ولبعد الثاني عن الدين والعروبة. قبلت حماة فكرة الكتلة الوطنية والتفت حولها لأنها أصبحت رمز الصراع مع الفرنسيين ولكن بعد انتهاء الصراع لم يبق لحماة تعلق بالحزبين الرئيسين اللذين تمخضت عنهما الكتلة الوطنية: حزب الشعب والحزب الوطني، وان كان قد بقي لبعض الحمويين تعلق بالشخص الذي ورث الكتلة الوطنية وهو رئيف الملقى نائب حماة وهو ممن كان له تأثيره في بعض المراحل في السياسة السورية من خلال بعض الوزارات التي استلمها. تأثر أكرم الحوراني في ابتداء حياته بفكر الحزب القومي السوري ثم رفضه وخرج عليه، وتبنى بعد ذلك الفكر القومي المطالب بالعدالة الاجتماعية وانبثق عن ذلك حزب الشباب الذي نادى بمحاربة الظلم المتمثل عندهم بسيطرة الأسر الغنية التي أطلقوا عليها اسم الاقطاعيين، وتمخض ذلك كله عن قيام الحزب العربي الاشتراكي الذي تميز بحركية قوية وبدهاء عريض، فرفع في الأوساط الفقيرة شعارات محببة واستعمل عددا من الأساليب الناجعة فسيطر على حماة وريفها وامتد نفوذه خارج حماة بقوة كبيرة، وأصبح لزعيمه من الشعبية ما لم يعرف في سورية إلا لعبد الناصر في مرحلة لاحقة. كان الشعار الذي طرحه هذا الحزب في حينا هو احياء العدالة العمرية ورفع الظلم ومحاربة الظالمين المعتدين فدخلت الاشتراكية الى حينا باسم الدين حتى أن صلاة الجماعة كانت تقام في مركز جمعيتهم وكان هناك ظلم يقع على أصناف من الناس في حينا من قبل بعض الأسر ومن قبل بعض ملاك البساتين. فرفع الحزب شعار الدفاع عن المظلومين وتبنى قضية المزارعين بألا يخرج المزارع من أرضه، وألا يؤخذ منه ما يزيد عن الأكر العادل وجمع أهل الفتوة في الحي لدفع أي اعتداء. وبعدد من التصرفات الجريئة، وبسبب من قوة الحركة والخدمة سيطر الحزب على حينا – وهو أكبر حي في حماة – سيطرة تامة، وكان لذلك دوره المؤثر على نجاحات الحزب السياسية.

وكان والدي وعمي ممن تحمسوا لهذا الحزب، وأصبح والدي مع مجموعة من فتوة الحي يشكلون قوة ضاربة ضاغطة للحزب في الحي كان لها دورها في حماية المستضعفين، وفي الوقت نفسه دخلت في مشكلات متعددة. وفي هذا الجو دخل الصراع مع فرنسا مرحلته الأخيرة وكانت معارك حماة سنة 1945 بمثابة جولة الختام التي انتهت بجلاء الفرنسيين عن حماة. لا زلت أتذكر بقوة تلك الأحداث ودور والدي الفعال فيها وحماية الله له – كما ذكرت من قبل – فقد ألقت طائرة فرنسية قنبلة أصابت الجانب الأسفل من جلابية الوالد ولم تجرحه، وفي آخر معركة بين الحمويين والفرنسيين رجع الوالد والجزء بين الثدي والكتف أصفر نتيجة لدفع البندقية عندما تطلق النار وقد ظنه جيرانه في المعركة أنه قد استشهد لانصباب عدد من قنابل المدفعية على المكان الذي يقاتل فيه. ولا زلت أتذكر دعوات جدتي الحارة وأمرها إياي أن أكرر قراءة آية الكرسي من المصحف وقد حفظتها يومذاك من كثرة تكرارها مع أنني لم أتكلف حفظها. ولا زلت أتذكر أن المدينة سيطر على أهلها تلاحم عجيب وحب غريب فلم تبق عداوة بين اثنين وضاعت نغمة أنا اشتراكي وأنت اقطاعي، وهكذا يوحد الجهاد الناس ضد المحتل إلا عميلا أو خائنا. واذكر أن الناس يومذاك قتلوا من تيقنوا أنه جاسوس للعدو، جلت فرنسا عن سوريا وعاد الصراع السياسي الى حماة، وعاد الى حينا. وحدثت حادثة قتل بها شجعان الحي على يد آخر من الحي نفسه ولكن ممن يعادون الحزب العربي الاشتراكي، ودخل على أثر ذلك والدي سجنه الثالث وإذا بي فجأة مسئول مع عامل عند الوالد عن ادارة أعمال الوالد، وأنا وقتذاك في سن الحادية عشرة. وبسبب من غياب رقابة الوالد قصرت في جمع الديون وتوسعت في الانفاق على نفسي واسرتي وبعض رفاقي فخفت السيولة المالية ظهر ذلك من تقصيري في الدفع الى الزبائن، فتدارك الأمر عامل الوالد وهو قريب لنا وأصبح بعد ذلك شريكا للوالد، وتولى هو نفسه جمع الديون ومحاسبة أصحاب العلاقة فأنقذ الوضع بسرعة، وبقي العمل قائما وجيدا ولم يؤثر سجن الوالد عليه، ودام سجن الوالد تسعة أشهر ثم خرج من السجن. نصح بعض الناس والدي وأقنعوه أن يدخلني في مدرسة ليلية لمتابعة دراستي فلعلي آخذ الشهادة الابتدائية، وكان عندنا في حماة مدرسة ليلية تقيمها جمعية سلفية تسمى دار الأنصار فألحقني الوالد بها، ولم يؤثر ذلك على خدمتي اياه واستمراري في متابعة أعماله. كنت أنا الصغير الوحيد بين الدارسين فالجميع كانوا كبارا، وكان يغلب علي الخجل والخوف فلم أكن أشارك أي مشاركة أثناء الدرس. فكان الزملاء الكبار وبعضهم من أصدقاء الوالد وان كانوا دونه في السن يعطون الوالد صورة قاتمة عن امكاناتي، وجاء الامتحان فأديته واذا بي من الناجحين والزملاء الكبار كانوا في الغالب من الراسبين.

عشقت المطالعة عشقا منقطع النظير على صغر سني – كما ذكرت من قبل – وكان الفضل في ذلك للوالد، فقد دفعني إلى المطالعة بأسلوب مباشر، وضع بين يدي وريقات من سيرة عنترة فقرأتها بشغف، أتاني بقصة سيف بن ذي يزن الشعبية فقرأتها بشغف، وكانت هذه البداية التي جعلتني أعشق المطالعة حتى لا أستطيع الصبر عنها فكنت أقرأ وأنا جالس وأنا سائر تعلقت ابتداء بالروايات البوليسية وبالروايات عامة، فأعطاني هذا قوة في الفهم وقوة في الانشاء، وكان لذلك دوره في نجاحي في الشهادة الابتدائية رغم انقطاعي عن الدراسة ثلاث سنين. لكن المطالعة من ناحية وتعب الوالد علي في الخط والحساب وتلاوة القرآن الكريم كل ذلك ساعدني.

ولتلاوتي القرآن قصة. فقد كان عندنا في الحي "شيخة" من قريباتنا كفيفة لكنها تحفظ القرآن وكان بعض أهل الحي يرسلون لها أبناءهم لتعلمهم القرآن، وقد أرسلتني جدتي لذلك، وبسرعة كبيرة تلوت عليها القرآن من أوله إلى آخره، ويوم ختمت القرآن كان ذلك يوم فرحة وسرور وابتهاج وكانت هناك آداب وعادات تقام عند الشيخة بهذه المناسبة. وذلك كله قبل أن أدرس الدراسة الابتدائية، لكني بعد ذلك أهملت قراءة القرآن فلما خرج والدي من السجن بعد تغربه اقرأني القرآن فتلعثمت فشدد علي حتى قويت قراءتي، وكان ذلك عاملا مساعدا.

(فصل) في دروس سياسية من المرحلة

كان العامل الحاسم في الصراع ضد الاستعمار هو الروح الدينية، ووحدة الكلمة في المواقف الحاسمة، ولم يكن القائمون على أمر الدين يفطنون بسرعة الى ما يجب أن تعالج به المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. وكان أكرم الحوراني ومن حوله سباقا الى ادراك المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وطرح حلول لها، وتعبئة الناس حولها، وحسن مخاطبة الناس من خلال ما يعرفون ويفهمون. والعمل السياسي يتطلب البحث عن مصلحة الانسان والعمل من أجلها، فاذا تخلف القائمون على أمر الدين عن التعرف على مشكلات الناس محاولين حلها وتقدم السياسيون، لذلك تراجع الدين وتقدم العمل السياسي، فاذا كان العمل السياسي غير مرتبط بالدين أدى ذلك الى نشوء صراع مستقبلي بين السياسة والدين، وهذا الذي حصل في سورية، وكانت بدايات ذلك في مرحلة مبكرة، فهذه السنوات التي ذكرتها كان العامل في أحداثها هو ما ذكرته. وقد نبت الحزب العربي الاشتراكي على أنغام مصالح بعض الناس. ومن ههنا تأصل عندي أهمية الخدمة العامة، ومراعاة المصلحة العامة، وأن ذينك شرطان لنجاح العمل السياسي الاسلامي. ومن خلال صلة الوالد بالحزب العربي الاشتراكي في هذه المرحلة رأيت الحركية والتخطيط، فقد كان أعضاء الحزب متحركين حركة هائلة على كل مستوى، وهذا أعطاهم تفوقا سيطروا فيه على حماة من خلال سهرهم على بعضهم وسهرهم على أمنهم، فكان من أفكاري الثابتة فيما بعد أن القيادة يجب أن تكون من خلال الحركة. ولقد شهدت من مظاهر التخطيط الحزبي في تلك المرحلة كيف أن أعضاء الحزب يقولون للوالد: ان ابنك سعيد هذا يجب أن يدخل في الكلية العربية على صغر سني. ولقد رأيت من مظاهر التخطيط الحزبي المدارسات المستمرة التي كانت تعقد عندنا في البيت لدراسة أمر الأصدقاء والخصوم. كما شهدت طرق التخطيط للسيطرة على الشارع وهي مقولة تقول: ( من سيطر على الشارع سيطر على الحكم)، وهذا صادق، ولكن عندما يقتل الشارع كله فكيف تتم السيطرة على الشارع. ونتيجة لمشاهداتي القليلة في وقت مبكر في حياتي عن أهمية رسم الخطط في الشؤون الصغيرة والكبيرة، كان لذلك تأثيره في مستقبل حياتي، اذ أصبحت فيما بعد لا أؤمن بعمل عام لا ينبثق عن خطة محكمة وليس لتنفيذه تخطيط سليم. ان الادراك المبكر لعمل حزبي يحقق تطلعات ومصالح ويمتلك فاعلية كبيرة، وخدمات كثيرة، وحسن خطاب، وحسن تخطيط سبقت فيه بعض الأحزاب العلمانية، فلما أراد الاسلاميون أن يفعلوا شيئا وجدوا قوى داخلية تعاكس، ووجدوا قوى خارجية تخطط ضدهم، وقد تتفق بعض مخططات الداخل مع بعض مخططات الخارج. والحقيقة أن العمل الحزبي الاسلامي المكافئ الايجابي قد تأخر ظهوره في سورية ولم تستطع الأصوات المفردة، أو المجموعات القليلة أو الجمعيات المحلية أن تفعل شيئا كثيرا، ولم تستطع الأحزاب الوطنية الديمقراطية أن تشكل الطموح لدى الشباب ولا الفاعلية، ولم تمتلك التخطيط المناسب مع أنها كانت تمتلك أكثرية برلمانية فاندحرت أخيرا.

(فصل) في أول دستور لسورية بعد الاستقلال

ولم أزل أتذكر خطبة نارية لأحد خطباء الجمعة يتحدث فيها عن الدستور وماذا يريد الاسلاميون فيه، وقد هيج الناس لدرجة أني وأنا الصغير حدثت نفسي أن علي أن أحقق ذلك. فقد تمت انتخابات لهيئة تأسيسية في سورية مهمتها وضع الدستور، وقامت داخل الهيئة التأسيسية معركة هائلة كان لها انعكاساتها على الشعب كله بين تيارين: تيار يقوده الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله وهو التيار الاسلامي الذي كان يطالب بأن يكون دين الدولة الاسلام وأن يكون الاسلام المصدر الأساس في التشريع، وكان التيار الآخر هو التيار الذي تدعمه قوى خارجية لا يريد ذلك، ولقد أدار الدكتور السباعي واخوانه المعركة بكل كفاءة. وأخيرا تدخل شكري القوتلي وكان رئيسا للجمهورية للوصول الى حل وسط، فجعل التشريع الاسلامي مصدرا من مصادر التشريع في الدستور وجعل دين رئيس الدولة الاسلام، وجعل هدف التعليم اخراج جيل مؤمن بالله، ووجد الدكتور السباعي نفسه عاجزا عن تحقيق أكثر من ذلك فقبل به فغضب لذلك علماء البلاد. ولم يزل الاسلاميون في سورية يصارعون من أجل تعديل دستوري يتضمن تلك المادتين، ولم يصلوا الى ذلك بعد حتى كتابة هذه السطور. ويعتقد الاسلاميون في سورية أن الدستور الأول لسورية لو أضيفت اليه هاتان المادتان لكان دستورا صالحا للبقاء، ولكنه بحجة أن في سورية أقليات تستبعد هاتان المادتان مع أنه في زمن فرنسا نفسها سجلت الجريدة الرسمية موقف كل نصارى سورية في البرلمان، وكانوا جميعا موافقين على أن يكون دين الدولة الإسلام، والاسلاميون يعلقون أهمية كبيرة على ادخال هاتين المادتين، لأن ادخالهما في الدستور اذا لم يوجد ناقض لهما بمثابة اعلان الانسان الشهادتين، فهما ينفعانه ولو كان فاسقا. وادخال هاتين المادتين في الدستور ينقل الحكم في دائرة الكفر البواح الى غيره، ولكن الكتابات الكثيرة التي ظهرت عن الفكر الغربي وعن رجالاته المرتبطين به في سورية تدل على أن هناك اتفاقا بين كثير من الدوائر على أن تبقى سورية دولة علمانية، وأن يساعد العلمانيون ضد الاسلاميين ولا زال الاسلاميون مغلوبين على أمرهم، مع أن أي تصويت حر في سورية سيكون لصالح تلك المادتين. وان كثيرا من الشواهد لتدل على ذلك، ويكفي أن نعرف أنه في أشد الظروف قسوة عندما صوت على ما سمي بالدستور الدائم سنة 1973 صوت أكثر من خمسين بالمئة من بعض القطاعات العسكرية ضد الدستور الحالي لأنه لا توجد فيه هاتان المادتان. انه لا بد أن يأتي يوم تقتنع به القوى الكبرى أن عليها ألا تحارب الاسلام في بلاده. صحيح أن هذه الحرب مستمرة وهي تعلل للكثير مما يجري، ولكن سيستطيع المسلمون ايقافه بإذن الله.

(فصل) في حرب فلسطين

شهدت في أخريات هذه المرحلة الحماس الشديد الذي استقبل به الشعب السوري فكرة الاستيلاء على فلسطين وطرد اليهود منها، فقد شهدت بعض الخطب والهياج الشعبي وتطوع الناس في جيش انقاذ فلسطين، وكنت أتابع الأخبار عن كثب، وأسمع نشرات الأخبار التي تتحدث عن سير المعارك على أرض فلسطين، كنت أعرف بعض من تطوع للجهاد في فلسطين وكان بعضهم أصدقاء للوالد، فكانوا اذا رجعوا في اجازة أسمع منهم ما يجري هناك، وأسمع منهم عن البطولات الهائلة لبعض المتطوعين، وعرفت عن قرب قصص جيش الانقاذ والعثرات التي كانت تعترض سبيله، وكان ممن تطوع في جيش الانقاذ عدد من زعماء الأحزاب والعسكريين، وكان مصطفى السباعي رحمه الله وأكرم الحوراني وأديب الشيشكلي وعبد الحميد السراج بعض من تطوع في جيش الانقاذ، وكان على رأس هذا الجيش مجاهد قديم معروف هو فوزي القاوقجي، وانتهت هذه الحرب بالهدنة، وعاد الناس إلى أوطانهم وكانت هذه الحرب علامة على أن ارادة الشعوب الصغيرة محكومة بارادة الشعوب الأقوى. فقد دخلت الجيوش العربية حرب فلسطين وأكثر البلدان العربية لا زال مستعمرا، والبلاد التي تحررت حديثا كسورية لم تكن قد وقفت على رجليها بعد، لقد كان التفوق العسكري والسياسي لصالح اليهود بنسبة هي أكبر بكثير مما حاولت الشعوب أن تصوره، ومع ذلك فقد ظهرت بطولات هائلة سجلها المتدينون فاستطاع الاسلاميون بقيادة الدكتور السباعي – رحمه الله – أن يحافظوا على القدس القديمة، واستطاع الاسلاميون أن يقهروا اليهود في معارك عديدة، ونحن نعتقد أن حرب فلسطين سنة 1948 كان لها أثران كبيران في السياسات الصهيونية والصليبية والعالمية، وقد استخلص هؤلاء منها العبر وكان من أعظم آثارها السياسية على المنطقة:

1- الحرب العنيفة ضد الحركة الاسلامية واعطاء ذلك أولوية، وقد خدم هذا الاتجاهات السياسية الأخرى وقد ظهر بجلاء أن الروح المعنوية الهائلة التي يمكن أن يفجرها الاسلام تحول دون تحقيق المخططات.

2- ظهور فكرة الانقلاب كوسيلة يفرض بها على الشعوب ما لا يمكن فرضه بالوسائل الأخرى. ومن ثم لم تكن كارثة المسلمين في فلسطين كارثة محلية، بل تعدت فلسطين لتؤثر على وضع الأمة الاسلامية كلها، ومن ههنا كان حل المشكلة الفلسطينية منوطا الى حد كبير بوضع الاسلام والمسلمين في العالم.

(فصل) في الانقلاب

شهدت في أواخر هذه المرحلة انقلاب حسني الزعيم والانقلاب عليه، وكانت أول مرة نسمع بها بفكرة الانقلاب، وقد يكون هذا الانقلاب الأول في العالم الاسلامي، وقد أصبحت أسرار انقلاب حسني الزعيم معروفة الى حد كبير فقد أعلنت المخابرات الامريكية – في أكثر من كتاب – أنها كانت وراء الانقلاب. وهكذا أغتيلت أول تجربة ديمقراطية في سورية بعد الاستقلال. ومن العجيب أن كثيرا من الغوغائيين استقبلوا الديمقراطية في سورية واستقبلوا فكرة الانقلاب بحماس زائد، وكان قليلون من الناس يعرفون ماذا وراء ذلك من أخطار. كان الانقلاب هو الحل لقضايا سريعة، فقد سلمت مستعمرة مشمار هايردن لليهود ووقع اتفاق مد خطوط أنابيب التابلاين كما أرادتها الشركة الأمريكية. وألغيت مجلة الأحكام العدلية وهي القانون المدني الاسلامي لسورية ليحل محلها القانون المدني الفرنسي المترجم وهو شيء لم تفعله فرنسا نفسها، ولكن التدميس الذي طرأ على سورية نتيجة لفكرة الانقلاب كان أخطر في ذلك كله. فلقد كانت سورية تمتلك روحا وطنية عارمة. وكانت تؤمن بالوحدة العربية حتى أن كثيرين كانوا يعتبرونها بروسيا العرب، وكانت سورية تمتلك اقتصادا قويا وعقولا اقتصادية تستطيع أن تنهض بسورية وبالعالمين العربي والاسلامي. وكانت سورية تمتلك جيشا ذا شعور قوي بالكرامة وكان جيشها مؤهلا لأن يطور قوته، وأهم من ذلك كله أن الروح الاسلامية في سورية كانت تتنامى بقوة هائلة، تحطيم ذلك كله ولم يكن ذلك متاحا من خلال التجربة الديمقراطية، فكانت الانقلابات هي الوسيلة لذلك كله وكان أول هذه الانقلابات انقلاب حسني الزعيم. صحيح أن الديمقراطية الناشئة في سورية كان لها عيوبها، وكان للقائمين عليها عيوب، ولكن كل الدلائل تشير إلى أن امكانية تطوير الديمقراطية في سورية كانت موجودة، ولكن من كان عليه أن يحمي الديمقراطية كان أول الخائنين لها. وتوالت الانقلابات على سورية فنقلها هذا من ضعف إلى ضعف. وقد صارعنا ولا زلنا نصارع من أجل ايجاد وضع نموذجي في سورية يرتاح به جميع المواطنين.

الباب الثاني

من الثالثة عشرة حتى السابعة عشرة

من الثالثة عشرة حتى السابعة عشرة
(19481952)

كانت هذه المرحلة على قصرها وعلى صغري فيها أغنى مراحل حياتي في المطالعة على كثرة مطالعاتي فيما بعد، فقد طالعت في هذه المرحلة كتبا عالمية كثيرة وقرأت عن شخصيات عالمية كثيرة. لقد لخصت كتاب أرسطو "الأخلاق الى نيقوماخاس" وهو كتاب ضخم وأنا في الثالث الاعدادي وقرأت عن شوبنهور وأفلاطون ونيتشة وهي سلسلة كان يصدرها عبد الرحمن بدوي، وعن الثورة الفرنسية ونابليون، وفي التصوف، وفي الأخلاق، وسلسلة جرجي زيدان القصصية التأريخية. كانت هناك مكتبة كبيرة عامة في مسجد يسمى مسجد المدفن في حماة وكانت تفتح أبوابها يوميا بعد العصر ما عدا يوم الجمعة. وكان منظر الصغير الذي يلبس جلابية سوداء ويحلق رأسه ويجلس يوميا فيها يلفت النظر، كما أن نوع الكتب التي كان يطلبها تلفت النظر فهو كثير النظر في الاحياء، ويطلب كل كتاب غريب لينظر فيه بما في ذلك كتاب "الانسان الكامل" لعبد الكريم الجيلي، كنت أقرأ ولو لم أفهم، وأقرأ بسرعة كبيرة كان معدل قراءتي في الساعة ستين صفحة، وقد أعطتني هذه المطالعة قوة على الكتابة الانشائية تتجاوز سني كما أعطتني القدرة على الاستيعاب السريع وعلى استيعاب الفكرة الكلية بسرعة، وكان لهذا تأثيره على كل ما كتبت فيما بعد. انتسبت في هذه المرحلة للمدارس الاعدادية، فانتسبت ابتداءا لثانوية ابن رشد ثم انتقلت لفرع اعدادية ابي الفداء في السنة الأولى ثم عدت الى ثانوية ابن رشد لأقضي فيها السنتين الثانية والثالثة اعدادي. نجحت في السنوات الثلاث، لم أكن الفت نظر أساتذتي إلا بقدرتي الكتابية، كان بعض المدرسين يقرأ لزملائه ما أكتب فيعجبون. كان الصراع الحزبي على أشده في الحياة الطلابية، كانت هناك أحزاب ثلاثة يحس بها الطالب، الحزب الشيوعي والحزب القومي السوري والحزب العربي الاشتراكي، وكان الحزب الاشتراكي هو المسيطر على ثانوية ابن رشد وكان الاشتراكيون يعتبرونني منهم بحكم النشأة، لكنني كنت حريصا أن أعرف كل شيء. دعاني أحد طلاب صفنا – وهو مسيحي – أن أحضر لقاءً مع بعض الشيوعيين فحضرت، أعطوني نشرات، تكلموا في أسلوب الدعوة إلى الشيوعية، تحدثوا عن الشعور واللاشعور وكيف أن الشعور ابتداء يرفض الجديد الغريب لكن الكلام عنه يستقر في اللاشعور، وشيئا فشيئا يتحول اللاشعور الى شعور فيقبل الناس الفكرة الجديدة الغريبة، لا أتذكر أنني حضرت أكثر من جلستين ثم لم أتابع. دعاني الشيوعيون مرة للمشاركة في مظاهرة ضد أديب الشيشكلي لكن المظاهرة لم تتم. كنت أسمع باسم الإخوان المسلمين، سألت مرة أحد المتدينين عن الإخوان المسلمين فتظاهر أنه لا يعرفهم (لكني بعد أن دخلت في الإخوان عرفت أنه منهم). كنت أصلي وأصوم بحكم النشأة. وكانت قراءاتي في الاحياء تدعوني إلى نوع من التقشف الشديد لكن كان أهم المؤثرات في تديني أن الشيخ محمد الحامد كان هو مدرس التربية في ثانوية ابن رشد، وهذا أوصلني الى حلقته العلمية في جامع السلطان وكانت ابتداء حلقة صغيرة يحضرها كبار السن وبعض الشباب وكنت واحدا منهم وكان لهذه التلمذة أكبر الأثر في حياتي.

كان الشباب الناشئ يتعجب كيف يعيش الناس دون هدف كبير يسعون لتحقيقه، وكيف ينصرفون عما يورث الأمجاد، وكان يعجب كيف يعجز الناس عن التغلب على أي مشكلة تعترض سبيلهم. كانت هذه بعض أحاديث النفس في تلك المرحلة المبكرة. لم أنقطع عن العمل مع والدي في سوق الخضار في مهنته كبائع جملة. أصبح لي عدد من الاخوة والأخوات. لا زلت أتذكر أنه أصبح على الوالد ديون في تلك الفترة فقررت ألا نطبخ في بيتنا أي طعام مشترى حتى نفي ديوننا ووافقني الوالد والأهل وفعلا لم ندخل بيتنا شيئا يذكر حتى تم سداد الدين، وكان الدين شديد الوطأة علي منذ صغري، ولقد كبرت ولا زلت أستصعب الدين وندر الا لضرورات قاهرة أن استدنت.

الباب الثالث

من الثامنة عشرة حتى العشرين

من الثامنة عشرة حتى العشرين
(19521955 م)
المرحلة الثانوية

في هذه الفترة دخل في عملي الحياتي مهنة أخرى وهي الزراعة وهكذا أصبحت أشارك في عملين حياتيين مع الوالد: حرفته في سوق الهال أي في سوق البيع بالجملة، وحرفته في الزراعة، فقد ارتفع سعر القطن في سورية ارتفاعا أغرى الكثيرين بالزراعة عامة وبزراعة القطن خاصة، وقد علل الناس بعد هبوط أسعار القطن فيما بعد لارتفاع الأسعار تعليلات اقتصادية سياسية، المهم أن الوالد اندفع في هذا الموضوع واستأجر أرضا قريبة من حماة تصل إليها ماء ساقية الري الممتدة بين حماة وحمص، وشاركت في العمل على مدى سنتين وكان لذلك فائدته الكبيرة. بقيت مطالعتي في هذه المرحلة كثيرة، ولكن المعلم الضخم في حياتي هو دخولي في الإخوان المسلمين أواخر العام الدراسي وأنا في الصف الأول الثانوي. كان ذلك انقلابا هائلا في حياتي فمع أنني من بيئة متدينة وكنت أحضر دروس الشيخ محمد الحامد لكن دخولي في الإخوان المسلمين كان في الحقيقة نوعا من العثور على "الأنا الجماعي" لنفسي ولذلك فقد دخلت مباشرة في اضطراب قلبي هو الأول من نوعه في حياتي فقد انصبت على قلبي وساوس كثيرة بعد أن حددت وجهتي نحو الله جل جلاله ثم نحو العمل من أجله ومن خلال ربط المصير بالعاملين للاسلام ومن أجل أمة اسلامية تؤدي دورا راشدا في العالم، هذه المعاني جعلت قلبي يفكر في أصل الايمان، أصبحت أثناءها كثير التأمل مستغرق الهم والتفكير في ليلي ونهاري وذهابي وإيابي وممشاي وجلوسي، وكنت كثيرا ما أفتح القرآن وأتأمله، وأتطلع إلى السماء وأفكر فيها، وأدعو الله وأتضرع إليه أن يكشف عني هذه الحالة، ولم ألبث كثيرا الا وانقشعت عني هذه الحالة، لكنها تكررت مرة ثانية عندما استغرقت في التصوف كما سأذكر فيما بعد، وقد عرفت فيما بعد معنى هذه الحالة ومحلها في الارتقاء والنقصان. جرت عادة الإخوان المسلمين أن يدخلوا العضو الجديد في أسرة يتلقى فيها التعليم والتوجيه، وكان موجهي الرئيس في تلك الفترة هو الأستاذ مصطفى الصيرفي أبرز شخصيات الإخوان المسلمين وقتذاك في حماة، وهو احد ثلاثة كانوا يعتبرون وقتذاك أقوى الإخوان المسلمين ثقافيا ودعويا، وكان شباب الإخوان ينظرون إليهم على أنهم زعماء الحركة بصرف النظر عن محلهم في سلم الاداريات، هؤلاء الثلاثة هم الأستاذ مصطفى الصيرفي والدكتور عبد الكريم عثمان وعدنان سعد الدين، كان الثلاثة محدثين ومحاضرين وخطباء من الدرجة الأولى مع نضج في الفكر السياسي والحركي. وتأكدت تلمذتي على الشيخ محمد الحامد في هذه المرحلة وأصبحت أشعر أكثر من ذي قبل أنني تربطني به رابطة روحية قوية لدرجة أنه كان عندي استعداد لأن أفتديه بحياتي وقلما أحسست مثل هذا الاحساس مع أحد غيره، وكان لتلمذتي عن الشيخ آثار كبيرة في نفسي، فقد نما حبي للفقهاء وللعلماء، وزاد تمسكي بالحكم الشرعي وبالنصوص لدرجة أنني انقطعت عن زيارة شخصية محببة لنفسي من كبار الإخوان وقتذاك لأنه يتبنى آراء شاذة في شأن المسيح عليه السلام وفي شأن الدجال. اندفعت أنا ومجموعة من الإخوان نحو الثقافة الاسلامية المتوارثة فأخذنا علم ترتيل القرآن عن الشيخ سعيد العبد الله وتعاقدت مع أكثر من مقرئ في البلد من أجل حفظ القرآن أو مدارسته أخص بالذكر الشيخ محمد القواس والشيخ قدور الموسى والشيخ ابراهيم الشراباتي والشيخ أحمد الحامد رحمهم الله وعندما أنهيت الدراسة الثانوية كنت أحفظ أكثر القرآن الكريم.

وفي هذه المرحلة وقع في قلبي أصل النظرية التي بنيت عليها تفسيري فيما بعد والمتعلقة بالوحدة القرآنية. ومن ابتداء دخولي في الإخوان ظهرت عندي ملامح ملكة خطابية في أكثر من مناسبة اما في خطبي في المظاهرات الطلابية أو في خطب دعوية في المساجد في الريف أو في المدينة. تدرجت في العمل الإخواني من عضو أسرة الى نقيب أسرة ونائب عن مسؤول في ثانوية ابن رشد وهي أكبر ثانوية في البلد الى أن أصبحت مسؤولا عن الطلاب في مدينة حماة. كانت فكرة الجهاد والسلاح تستهوينا، وكانت قيادة الجماعة في حماة تخشى من هذا التوجه، ومع ذلك فقد اعتمدنا على أذن ضعيف وأوجدنا تشكيلا مسلحا، ولقد قام هذا التشكيل بتعطيل أكثر من حفلة غنائية راقصة وكان لذلك أثره في بقاء حماة معافاة من المراقص والملاهي الى فترة طويلة.

ولقد أخذنا في أجواء هذا التشكيل شيئا من التدريب لا بأس به. وفجأة حاول بعض أفراد التشكيل أن يرجح كفة بعض القياديين على بعض مما لم ينشأ التشكيل من أجله فأحبطت الفكرة وانتهى التشكيل، كان عقلي الإخواني يرفض مثل هذه التوجهات داخل الجماعة، كان لي دور رئيس – في تلك المرحلة – في ثلاث مظاهرات طلابية: مظاهرة بمناسبة دعوة الإخوان المسلمين إلى إدخال نظام الفتوة في المدارس الثانوية وقد نجحت الفكرة، ومظاهرة بمناسبة اعدام قادة الإخوان المسلمين في مصر، ومظاهرة احتجاجية على وعد بلفور وكنت المتحدث الرسمي في هذه المظاهرات عن الإخوان المسلمين. كان حينا حي العيليات في حماة وهو أكبر أحيائها، كان قلعة حصينة للاشتراكيين من أتباع أكرم الحوراني وقد قتل أكثر من انسان في حينا حتى تمت السيطرة على الحي لهذا الحزب، لذلك كانت غضبة الحزبيين كبيرة لدخول الإخوان المسلمين الى حينا عن طريقي، وقد عرض علي أكثر من عرض لترك الإخوان المسلمين والمساهمة في تشكيل جناح متدين في الحزب، وعقدوا مرة اجتماعا دعوني اليه مع والدي من أجل ترك الإخوان فكان كلامي شديدا: انني ما دمت على الحق فلن يثنيني عن موقفي شيء ثم خرجت مغضبا ولولا مراعاتهم لوالدي وأسرتي لكان وضعي في غاية الخطورة ولكن الله سلم. كان الصراع الحزبي داخل المدارس على أشده وكانت سيطرة الاشتراكيين على المدارس والطبقة المثقفة كاملة، وكانت مفاجأة لهم أن ظهرت قوة أخرى هي قوة الإخوان المسلمين التي اكتشفوها لأول مرة يوم سقوط أديب الشيشكلي فقد ظهرنا يومها كأقوى قوة طلابية واستطعنا أن نحتفظ بهذا التفوق فيما بعد. كان ذلك شيئا كبيرا وعجيبا فقد انتهى التدين من صفوف الطلاب حتى ان الجيل الذي سبقنا في ثانوية ابن رشد حدثنا أنه لم يكن في ثانوية ابن رشد من بين ألف طالب إلا طالبان يصليان مستخفيين، لكن الوضع قد تغير فمن صف الرياضيات من طلاب الشهادة الثانوية كان هناك سبعة وعشرون ينتسبون للإخوان من أصل واحد وثلاثين طالبا في ثانوية أبي الفداء، لذلك حاول الاشتراكيون أكثر من مرة أن يصادمونا لعلهم يوقفون هذا المد عن طريق الارهاب محتمين بالسلطة التي كانوا أصحاب نفوذ فيها لكن ذلك كله لم يفد.

كان شيخنا الشيخ محمد الحامد يبين لنا خطورة المستقبل ويذكر أن حزب البعث بقيادة ميشيل عفلق تغلغل في وزارة التربية وسيطر على الحياة الثقافية، وأن أكرم الحوراني وحزبه تغلغل في الجيش وسيطر على الحياة العسكرية، وكان يطالبنا بالتوجه نحو الجيش لكنا لم نكن على مستوى العمل السياسي وقتذاك. كان الحماس هو زادنا الوحيد، بينما كان أكرم الحوراني يعمل بحس سياسي مرهف ندر من امتلكه في سورية، وكانت بقية الأحزاب تتضاءل أمامه لفقدانها الحس التنظيمي والقدرة على مخاطبة الجماهير واستقطاب الأجيال الجديدة، ومع أن الأجيال الانتخابية كانت تسيطر عليها حزبا الشعب والوطن ولكن هذه الأحزاب كانت تمتلك الحاضرفقد، ومن يومها فقدت المستقبل. لم نستطع أن ندخل الجيش لأن الاشتراكيين أمسكوا بمفاتيح الدخول الى الكليات العسكرية وكانوا يستبعدون أصنافا من الناس وخاصة أبناء الأسر المتدينة أو المتدينين، أو أبناء الأسر الغنية ولا يخلو أن تمر بعض الأسماء اما ذرا للرماد في العيون واما لنوع من التقييم خاص، أو لتدخل جهات أو مراعاة للحياة الديمقراطية أو تطمينا لبعض الجهات، المهم أننا لم ندخل الجيش مع أنه كان حلما لنا في يوم من الأيام، ولقد رأيت رؤيا يومها وجهتني لدراسة الشريعة، وكانت تلك هي رغبتي.

كان حزب البعث والحزب العربي الاشتراكي قبل اندماجهما يراهنان على الأقليات الدينية والطائفية، وكان المفروض أن نقابل ذلك بالعمل في الأقليات العرقية المسلمة كالأكراد والشركس. وقد غلطنا اذ لم نفعل وغلط الحزبان اذ فعلا لأنهما ضربا من حيث أرادا النصرة. استهوتني بعد أن دخلت الإخوان فكرة التفرغ للدراسة الاسلامية البحتة ووجدت مسابقة لانتقاء المعلمين للتعليم الابتدائي فشاركت بها حالما بما ذكرت، وقد نجحت في المسابقة وعينت في مدينة الحسكة فأخذت مجموعة من الكتب وتوجهت الى هناك، عينت في قرية تابعة لتل كوجك في أراضي قبيلة شمر ووصلت الى تل كوجك وسألت عن الطريق الى القرية فوجدت واحدا من أبناء دهام الهادي شيخ شمر فأخذني معه حتى أوصلني الى القرية وعلى الطريق اصطاد أرنبا وقف جامدا أمام أنوار السيارة فأطلق عليه النار، وفي هذه الفترة التي قضيتها مع هذا الأمير لحظت أنه يصدر أوامره الى أصحابه ويكتفي بذلك، ورأيتهم يختلفون مع بعضهم في تنفيذ الأمر ولكنه لا يتدخل ما دامت أوامره نافذة فشعرت باحترام له بسبب ذلك. وصلت الى القرية ليلا، نمت في بيت المختار، دللت صباحا على المدرسة، جاء الطلاب ودرستهم وبعد الظهر فكرت في شأني، ووجدت أن ما أنا فيه ليس هو وظيفتي في الحياة، وحزمت أغراضي مباشرة ورجعت الى حماة، كانت مفاجأة للوالد لكنه لم يعلق عليها، عدت الى ثانويتي للدراسة وللعمل الاسلامي في صفوف الطلاب. كان قلمي سيالا في هذه المرحلة وكانت قدرتي على نظم الشعر جيدة حتى أنني نظمت قصيدة حوالي خمسين بيتا في يوم أو يومين.

أثناء اختبار الشهادة الثانوية كتبت في موضوع الانشاء صفحات كثيرة لفتت أنظار المراقبين. حصلت على الشهادة الثانوية من غير تفوق فقد كان عملي الإخواني ومطالعاتي الخاصة وانشغالي مع والدي في سوق الهال وفي المزرعة لا يعطي فرصا لنجاح متفوق، توجهت بعد نجاحي في الثانوية نحو الجيش ثم انسحبت من المسابقة بسبب أن أنواعا من الكشف لم ترق لي، توجهت بعد ذلك لكلية الشريعة في دمشق وكان ذلك بعد تأسيسها وافتتاحها بعام واحد، حضرت خلال ذلك محاضرة للدكتور السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية ألقاها في مدرج جامعة دمشق كانت رائعة شعرت أثناءها وكأني منوم مغناطيسيا.

زرت الشيخ محمد الهاشمي – الجزائري الأصل – وهو شيخ الطريقة الدرقاوية في دمشق، وأحد أقدر المتكلمين في العقائد، أسرني علمه وحاله، أخذت منه ورد الطريقة الدرقاوية وهو ورد مأثور قد ذكره الأستاذ البنا في آخر رسالة المأثورات تحت عنوان "ورد الدعاء" وهو استغفار وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ذكرت للشيخ أن شيخنا الشيخ محمد الحامد يوصينا بالذكر على الطريقة النقشبندية ويحضنا على التلمذة على الشيخ ابراهيم الغلاييني فشجعني الشيخ على ذلك، وهكذا خرجت الى "قطنا" من أجل مفتيها ومرشدها فلم أجده، قيل لنا أنه في قرية أخرى، توجهنا الى هذه القرية مع من معي سيرا على الأقدام فعثرنا عليه، أخذنا منه الطريق وأوصاني بالعزلة، وكان هذا خلاف رأي الشيخ محمد الحامد الذي كان يشجعني على العمل مع الإخوان المسلمين، كان ذلك في الصيف الذي أخذت فيه شهادة الثانوية. غلب على قلبي حب الشيخ الهاشمي وتعلق قلبي به فكان هو والشيخ محمد الحامد أكثر اثنين تأثيرا في حياتي. كنت طالب حق حريصا عليه تواقا الى المعرفة أبحث عما هو الأكثر رضا لله لا يهمني ما سوى ذلك. لقد حدث انقلاب هائل في حياتي فبعد أن كان زملائي الطلاب يرونني عاكفا على كتب الفلسفة أحفظ أشعار المعري وأماحك المتديني أصبحت وليس لي هم سوى الله عز وجل.

كان مجموع ما أخذته في أسر الإخوان المسلمين بعض آيات قرآنية حفظا وتفسيرا وقد كلفنا مرة بدراسة احدى الرسائل الثلاث وكلفنا مرة بحفظ رسالة الوظيفة الكبرى ولم يتابع ذلك. وكان شيخنا محمد الحامد يؤكد علينا: أيها الإخوان عليكم بالعلم، ولم يكن واضحا لدينا ماذا تعني كلمة العلم الا أننا كنا نحاضر دروسه وطالبناه بأن يقيم لنا درسا في مركز الإخوان المسلمين فأقام درسا للتفقه، وطالبنا مرة أن يكون الشيخ هو رئيس الإخوان فاهتمت قيادة مركز حماة لهذا الطلب ثم لم يكن شيء.

وتحت تأثيرات فكرة الجهاد فكرنا كشباب في السلاح واشترينا بعض أنواعه وفكرنا في التدريب والمعسكرات وكان هناك أحد الاخوة المصريين من الجهاز الخاص قد استقر في حماة فحصلنا على شيء بسيط من التدريب وأقمنا أكثر من معسكر تدريبي، كنا نفكر فيما ينبغي فعله ولكن في اطار ضيق وكانت الصراعات الحزبية في سورية على أشدها. كانت الثورة المصرية في هذه المرحلة قائمة وكنا نتابع أنباء الصراع في مصر وسقط أديب الشيشكلي في سورية، وكانت عواطفنا السياسية تخضع للعفوية لكني بنيت أهمية التركيب النفسي الذي يحدثه الانتماء لحزب أو جماعة فمجرد الانتماء الصادق يجعل عواطف الانسان محددة مع حزبه.

كان التنافس الاداري داخل الإخوان شديدا وكان هذا التنافس يقذف الى سدة رئاسة الجماعة بمرشحي الوسط ولقد وصل الى رئاسة الإخوان في حماة في تلك المرحلة من لا يعتبر هو الانضج اسلاميا واخوانيا بسبب ذلك وقد أصبح فيما بعد من كبار الناصريين. كان الإخوان المسلمون أقوى الفئات طلابيا بسبب تحرك الاخوة وأصبحت لهم قوة شعبية لا بأس بها بسبب دروس الأستاذ مصطفى الصيرفي في جامع المسعود في حماة. اصطدمنا أكثر من مرة مع جماعة أكرم الحوراني واستعملت أحيانا الأسواط والعصى وأطلقت النار أحيانا. أنهينا كل محاولة لادخال المراقص والتياترات الى حماة عبر عدد من العمليات الجريئة. كان لهذه المرحلة آثارها الكبيرة على تفكيري فيما بعد.... ففكرة الربط بين الثقافة والخصائص والالتزام وبين العضوية كانت محصلة لرؤيتنا القصور في هذه المرحلة. وفكرة أن التقدم في الجماعة منوط بذلك وأن نوعا من الأعضاء المنصهرين في الجماعة هم الذين ينبغي أن يمتلكوا حق الانتخاب كانت أثرا من هذه التجربة، وفكرة أنه لا قيمة لأي تجمع اذا لم تكن على رأسه قيادة بصيرة تستوعب ساحة العمل وتعرف كيف تسير نحو الهدف هي أثر البداية التي بدأت فيها انتسابي الى الإخوان.

وفكرة ملء الفراغ الروحي لدى الأخ كانت أثرا عن هذه المرحلة. وفكرة العودة الى المسجد والانطلاق منه كانت أثرا عن هذه المرحلة. وكان من آثار ذلك كله أنني تطلعت للتملذة على شيوخ الصوفية. والتلمذة على العلماء والفقهاء والانتساب لكلية الشريعة. ومع أن شيخنا الشيخ محمد الحامد كان ممن اجتمع له الذكر والعمل والورع والدعوة وكان أرقى الناس – فيما علمنا – روحيا وعلميا ومع ذلك فلقد كان يدفعنا نحو التلقي من العلماء والأولياء، ولذلك ما أن نجحنا في الثانوية العامة وذهبنا الى دمشق الى وبحثنا عن أهل الذكر والعلم لنأخذ منهم وقد أدخلنا ذلك في دائرة القلق والحيرة والاضطراب والتأمل العميق في موضوع العمل الاسلامي.

لقد كان انجازنا مع زملائنا في العمل الاسلامي لهذه المرحلة ضخما ولقد دخلنا في صراع مع الأحزاب الأخرى على كل طالب تقريبا، فما من طالب الا أدخلناه في دائرة دراستنا ومحاولتنا كسبه، وربحنا معركة الطلاب، وتحركنا مع بعض الاخوة نحو ريف حماة وكان لذلك آثاره الضعيفة، وتحركنا نحو العامة نوع حركة وكان لذلك آثاره، لكن هذا كله لم يكن يستند الى نظرية ثقافية أو تربوية أو تنظيمية أو سياسية تكافئ المطلوب لأوضاع سورية وقتذاك، لذلك – وكما سنرى فيما بعد – تلقى الإخوان المسلمون في الغالب في حماة قرار الجماعة بحل نفسها في سورية بمناسبة الوحدة بارتياح. واذا سجلنا على الجماعة فقدانها النظرية الكلية الشاملة ومحاولتها البناء على ضوء ذلك، فاننا نسجل للجماعة أنها ما كانت تجد طريقا متاحا تخدم فيه الا وحاولته فقد أنشأت الجماعة في حماة وكذلك في سورية نوادي رياضية وكشفية وأقامت الاحتفالات بالمناسبات وأقامت الدروس والمحاضرات، واعتمدت مبدأ الأسر للتربية على ضعف في ذلك، وأنشأت مدارس ومعاهد للطلاب وحاولت ايجاد مستوصفات والقيام بالخدمات ولكنها لم تكن تمتلك وسائل كثيرة. وكان الدكتور السباعي رحمه الله تحترق اعصابه ويحاول أن يرتقي بالجماعة ولكن الأعوان الأكفياء كانوا قلة، وكانت الجماعة خارجة من انقسام خطير وانشقاق كبير، ولا غرابة فان أصوات النقد كانت تلقى آذانا صاغية لكثيرة الثغر والمناخ مساعد والأجواء الخارجية ضاغطة، والتركيب التنظيمي للجماعة هش والمنتسبون للجماعة أخلاط، والجماعة ليست قادرة على صهرهم، وككل انشقاق حدث في الإخوان في سورية فان الانشقاق يبدأ بالاعتراض على المراقب العام وكان وقتذاك هو الدكتور مصطفى السباعي الذي اضطرته ظروف سورية في عهد أديب الشيشكلي للخروج من سورية فبدأت الحركة المعاكسة بالدعوة الى التطوير ثم في الدعوة الى التغيير ثم كان الانقسام الذي نجا منه مركز حماة.

ومن ذكريات هذه المرحلة: مشاركتي في المخيمات الإخوانية... فلقد كان الإخوان المسلمون في الأحوال العادية وحيثما يتيسر يقيمون مخيما سنويا عاما في سورية يضم كل الراغبين في المشاركة من اخوان سورية وكانت مثل هذه المخيمات تؤدي أدوارا متعددة فهي تساعد على ايجاد أجواء من المودة والحب بين أبناء المحافظات كما أنها تفتح آفاق المشاركين وتعودهم على النظام والانضباط والالتزام الاسلامي ولقد شاركت في مخيم من هذه المخيمات أقيم في حلب اجتمع فيه تدريب كشفي ومحاضرات ودروس وتفتيش على التدريب وزيارات لكبار الإخوان وصلوات جماعة ومسابقات شعرية وأمسيات طيبة، وقد حرمت سورية والكثير من البلدان العربية مثل هذه النشاطات، لكن هذا التقليد بقي قائما في بلاد الغرب حيث يوجد قدر من الحرية فلا زال أبناء الحركة الاسلامية في أوروبا وأمريكا يقيمون المؤتمرات السنوية أو الموسمية ويترتب على ذلك خير كثير.

ومع المخيمات العامة لسورية كلها كانت هناك المخيمات المحلية وقد أقمنا مخيمين لبعض الاخوة في ضواحي حماة أشرف عليها أحد الأخوة المصريين، اجتمع فيها العلم والتدريب الشاق والاخشيشان والتقشف وكنا نستشعر لذة وبهجة ومتعه لا حدود لها في أجواء المحبة والاخوة. ولقد خيمنا مرة في مكان جبلي صخري متشابه البقاع فضاع أحد الأخوة وكم بحثنا عنه لم نفلح حتى جاءنا في اليوم الثاني فكانت فرحتنا لا تحد بعد أن خشينا عليه فأخذنا من ذلك درسا تلعمنا منه كيف نفعل اذا صادفنا مثل ذلك. ومن ذكرياتي لهذه المرحلة، أن الإخوان المسلمين في رمضان كانوا يطوفون على مساجد المدينة مسجدا بعد مسجد فيلقون فيه المحاضرات فكان يجتمع له تذكير لاخوانهم ودعوة للناس.

ومن ذكرياتي لهذه المرحلة، أننا نخرج خارج المدينة بمسيرات يجتمع فيها النزهة مع الرياضة مع التدريب على الحياة الأخوية المشتركة وأذكر أنه في رحلة من هذه الرحلات أصاب ركبتي خلع بقيت بسببه حوالي خمسين يوما في الفراش ولا زلت أعاني منه، وكان ذلك بسبب انزلاق قدمي على الحشيش الرطب ووقوع أحد الاخوة عليها. ومن ذكرياتي لهذه المرحلة، أن الأستاذ الهضيبي قام بزيارة الى سورية زار فيها أمهات المدن السورية ومن ذلك حماة واستقبل في سورية استقبال الفاتحين، وكان الصدام بين الإخوان المسلمين وبين عبد الناصر قد اشتد وقد طلب منه اخوة سورية البقاء عندهم فرفض الا العودة لمصر وقد دخل على أثر ذلك السجن، لقد كان رحمه الله يأخذ بالعزائم واني لأتذكر كيف كان استقبال حماة له رائعا وكيف غلبت البهجة على حماة، وأتذكر الاحتفال الكبير الذي أقيم مساء وصوله في جامع السلطان والجموع الكثيرة التي حضرته وقد تكلم يومها الدكتور السباعي وسعيد رمضان وغيرهما وتكلم الأستاذ الهضيبي باختصار وكان من كلامه أنه يحب أن يعمل للدعوة وهو صامت، وبمناسبة زيارته لسورية ألقى الإخوان خطبا في مناطق كثيرة وحدثت حادثة مؤسفة في المعرة فقد كان يخطب فيها سعيد رمضان خطبة الجمعة واذا بهجوم يقوم به الاشتراكيون في المعرة على المسجد ولقد حدثني فيما بعد أحد المسؤولين الحكوميين كيف أنهم دخلوا على المسجد وبيدهم زجاجات الخمر التي ألقوها على جدران المسجد وكانت فتنة كبيرة، وعندما بلغنا ذلك ونحن في حماة خرجنا أربعة ومعنا سلاحنا وتوجهنا الى المعرة ولكن كان كل شيء منتهيا فتابعنا مسيرنا الى حلب وحضرنا أواخر الاحتفال الكبير في جامع سيدنا زكريا وقد أصيب الدكتور السباعي يومها بنوبة وهو يتكلم بحضور الأستاذ الهضيبي. ومن ذكرياتي لهذه المرحلة، أنه عقد مؤتمر اسلامي في سورية حضره كبار قادة العالم الإسلامي ومنهم الأستاذ المودودي رحمه الله وقد زارنا هو وآخرون في حماة وألقى بنا كلمة في مركز الإخوان المسلمين أوصانا فيها بمكارم الأخلاق وكان لهذه الزيارات دور كبير في انعاشنا وتفهمنا لقضايا الأمة الاسلامية. ومن ذكرياتي لهذه المرحلة، أن بعض الاخوة اتهمني أنني أطمع أن أكون المرشد العام للإخوان المسلمين وكان ذلك مؤلما لي لأن مثل هذا ما كان ليخطر لي على بال. وقد تعودت منذ البداية أن توجه لي الاتهامات الظالمة حتى ألفتها لأنها ضريبة العمل الاجتماعي، فعمل جماعي في عصرنا في الغالب لا بد معه من الأقذاء كما ورد في بعض روايات حديث حذيفة عند أبي داوود "وجماعة على أقذاء"، ولعله من المناسب أن أختم هذه الفقرة بكليمات قليلة عن الإخوان عامة وعن نشأتهم في سورية لأن ذلك مؤثر على مجريات الأمور فيما بعد:

"نشأت حركة الإخوان المسلمين بعد أربع سنين من سقوط الخلافة العثمانية أي بعد سقوط اللواء السياسي لآخر دولة اسلامية عالمية، وقد نشأت الجماعة في ظروف انحسر فيها الاسلام انحسارا كبيرا وتسلطت القوى المعادية على كل أجزاء العالم الاسلامي تقريبا، وانطلقت الجماعة تجدد الاسلام وتقدم الدواء وتتحمل الصدمات وتكتوي بنيران الاعداء والأصدقاء، وكما أن الاسلام عالمي فقد نشأت الجماعة عالمية فامتدت في هذا العالم طولا وعرضا ولقد أصبح تنظيمها الحالي بفضل الله تعالى يغطي القارات الخمس وهي سائرة ومتنامية وفي كل يوم تزداد مواقعها رسوخا... انطلقت الجماعة في مصر على يد مجدد هذا القرن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله وقد ألهم الله الأستاذ البنا كل ما يلزم لحركة اسلامية معاصرة، ولذلك استطاعت الجماعة أن تنطلق وأن تتوسع على كثرة النزوات والاندفاعات وعلى كثرة الضربات والعوائق... وقد تألق اسم الجماعة واسم مرشدها في انطلاقتها الأولى حتى أصبح حمل اسمها شرفا لكل من يحمله وكانت هناك في سورية تجمعات اسلامية كدار الأرقم في حلب وشباب محمد صلى الله عليه وسلم في دمشق ودار الأنصار في دير الزور الى غير ذلك، وقد ارتأت هذه التجمعات أن تلتقي على اسم الإخوان المسلمين وتحت قيادة الدكتور الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله الذي شرب وعب من معين الأستاذ البنا وكان استعداده العلمي والسياسي والبياني راقيا فقامت دعوة الإخوان المسلمين في سورية ولكنها قامت والجو من حولها اعصار، والتيارات المتناقضة المتضاربة شديدة عاتية والجماعة كانت في بعض جوانبها امتداد لمرحلة ما قبل التأسيس ولذلك فان قسما كبيرا من أبنائها حملوا اسمها دون مضمونها، على أن المضمون بدأ يتسرب شيئا فشيئا عبر كتب الجماعة وعبر السوريين الذين درسوا في مصر مثل الشيخ محمد الحامد والدكتور السباعي وعبد الكريم عثمان وعدنان سعد الدين ولكن منذ البداية كانت هناك مدرستان وحتى كتابة هذه السطور لا زالت هناك مدرستان في الإخوان المسلمين السوريين.

ومن أبرز ذكريات هذه المرحلة سفري مع بعض الإخوان الى دمشق بمناسبة ترشيح الأستاذ محمد المبارك نفسه للمجلس النيابي. وكانت المعركة الانتخابية حامية الى حد كبير. لقد قرر الإخوان المسلمين بعد سقوط أديب الشيشكلي الا يدخلوا المعركة الانتخابية وكان ذلك على خلاف توجهات الدكتور السباعي واجتهاداته لكن الأستاذ المبارك قرر أن يدخل هذه المعركة وانفصل عن الإخوان المسلمين، وقد أصدر الإخوان المسلمون بيانا أعلنوا فيهم موقفهم من الانتخاب وأعلنوا أن الأستاذ المبارك لا يمثلهم مما أدى الى عدم نجاح الأستاذ المبارك في الاقتراع الأول، فاستنفر الإخوان لمساعدته في الاقتراع الثاني وقد نجح، لم يكن للجماعة استراتيجية سياسية واضحة وكان هذا مظهرا من مظاهر عدم الوضوح في العمل السياسي. واستطرادا – وان استبقنا أحداث المرحلة اللاحقة – نقول:

لما شغر أحد مقاعد البرلمان في دمشق تنافس عليه الدكتور السباعي ورياض المالكي وذهبنا مرة ثانية الى دمشق، وكانت معركة هائلة رمى بها اليسار المحلي والعالمي بثقله مع رياض المالكي وضد الدكتور السباعي رحمه الله ورمى بها الاسلاميون وأعداء اليسار بثقلهم ولكن الجيش وأجهزة المخابرات واجتهادات بعض شيوخ دمشق اسقطت الدكتور السباعي، وكان ذلك مؤلما أن تسقط دمشق عاصمة الاسلام المتدينين وتلقى بثقلها بجانب غير المتدينين – وقد بلغني أن رياض المالكي آل أمره الى التدين فيما بعد – فأصيب الدكتور السباعي على أثره بمرضه العضال. ومن أبرز أحداث هذه المرحلة أننا شاركنا في نصرة الجزائر فقد اتفقت كل الجهات في سورية على إقامة أسبوع لنصرة الجزائر وجمع التبرعات لها وبدأ الأسبوع بحفلة كبيرة في دمشق نقلت في الراديو تكلم فيها الأستاذ علي الطنطاوي وكان الاقبال على التبرعات عظيما، وشكلت لجان في كل المحافظات وضمت الأحزاب والمؤسسات والنوادي، وكنت أنا وعدد من الإخوان مشاركين فيها وقد تعرفت أثناء ذلك على الأخ أحمد جواد وكان ذلك فاتحة خير كبير، حاول القائمون على العمل أن يصلوا الى كل قرية وحي وكانت حصتنا كبيرة فكنا نعمل ليل نهار، طفنا قرى مسيحية وأخرى مسلمة، زرنا بعض البدو، شاركنا في الاحتفالات العامة، كان اندفاعنا في هذا الشأن كبيرا وكان أثره طيبا.

(فصل) في الأشياخ العلماء

لم تزل سورية مليئة بالعلماء العاملين على مدى العصور، كانت السياسات الاستعمارية تقتضي تفقيرهم وتحجيمهم والازراء بهم، ومع ذلك فان قسما كبيرا منهم شاركوا في الحركة الوطنية، وقسم كبير منهم لم يكونوا يتركون العلم والتعليم والوعظ ان في المساجد أو في اقامة المدارس الدينية، ولقد استطاعت المدارس الدينية في مرحلة الاستعمار أو في مرحلة الاستقلال أن تجتذب عددا كبيرا من الطلاب، واستطاع العلماء الأقوياء الذين يدرسون في المساجد ويعظون أن يؤثروا كثيرا في قطاع كبير من الشعب، وكان كثير من العامة يرتبطون بحلقة شيخ من المشايخ، وكان شيخنا الحامد له حلقته العامة التي يدرس فيها بين المغرب والعشاء الا في رمضان فقد كان درسه بعد العصر، وكانت حلقته العلمية ثقيلة علميا، فهو يقرأ فيها في أمهات الكتب، وقد خصص يومين للفقه ويوما للسنة ويوما للسيرة ويومين للتفسير، وكانت تلمذتي على هذه الحلقة وتلمذتي الخاصة على الشيخ لهما الأثر الأكبر في حياتي، وكان من عادته – عليه الرحمة – أن يدفع تلامذته نحو الاستفادة من العلماء، ولذلك تخلقت بخلق البحث عمن أستفيد منه، وكانت سورية مليئة بالعلماء وقد حاولت أن أستفيد من كل شيخ تعرفت عليه، ومن انكاري على بعض الشيوخ فقد حاولت أن أستفيد من بعض علومهم، وهكذا أصبح البحث عن الشيخ المعلم للاستفادة منه هدفا لي لم أتخل عنه الا مضطرا وحتى هذه اللحظة فانني اذا اجتمعت بالعلماء أحرص على أن أستفيد، واذا تكلمت فلأفتح الطريق أمامهم للكلام. واستطرادا أقول: انه فيما بعد هذه المرحلة حاولت أن أستفيد بقدر الامكان من بعض شيوخ حماه، وكان أبرزهم في ذلك مفتي حماه الذي توفي وهو يمتلك كامل عقله وعلمه بعد المئة الشيخ سعيد النعسان، وقد قرأت عليه شيئا من القرآن وشيئا من كتاب قواعد التصوف، وكانت لي على الأخص صلات بقراء حماه، وكنت أدارسهم القرآن وأتلقاه عنهم وخاصة الشيخ سعيد العبد الله، والشيخ قدور الموسى، والشيخ أحمد الحامد، والشيخ ابراهيم الشرباتي، والشيخ محمد القواس رحمهم الله، فلما خرجت الى دمشق للدارسة في كلية الشريعة فانه عدا عن تلمذتي على أساتذتها العظام كالدكتور مصطفى السباعي، والأستاذ محمد المبارك والأستاذ مصطفى الزرقا والدكتور معروف الدواليبي والشيخ المنتصر الكتاني، والدكتور أحمد شعبان المصري الفقيه والدكتور فوزي فيض الله الفقيه الأديب، فقد تتلمذت خارج كلية الشريعة على الشيخ محمد الهاشمي في التصوف وعلم الكلام وتتلمذت على الشيخ ابراهيم الغلاييني مفتي "قطنا" في التصوف، وتتلمذت في القرآن على شيخ قراء دمشق وعمره حوالي تسعين عاما الشيخ العلواني في جامع النقشبندي، وتتلمذت على الشيخ عبد الوهاب الحافظ (دبس وزيت) أفقه فقهاء الحنفية في بلاد الشام. وكان العلماء الصوفية الذين مررت بحلقاتهم لا أعدهم كثرة، وبقي هذا دأبي في التعرف على أهل العلم وحلقاتهم والاستفادة منهم، بل وأخذ الاجازات منهم طول حياتي، فقد أخذت اجازة شفوية من ولي العلماء وعالم الأولياء في دمشق ملا رمضان البوطي والدكتور سعيد، فقد أجازني في الدعوة الى الله ودخلت ثلاث خلوات صوفية عند خلفاء الشيخ الهاشمي رحمه الله، وقد أجازني واحد منهم اجازة مكتوبة في الدعوة والارشاد وتسليك المريدين، وقد أجازني الشيخ محمد علي المراد رئيس جمعية العلماء في حماة بكل ما عنده اجازة مكتوبة، وأجازني خمسة من مشايخ طرق متعددة بالاذن الصوفي في طرقهم، وكنت أقصد زيارة من عرفوا بالصلاح ولو لم يكونوا مشهورين من بلد الى بلد.

أما العلماء الذين اجتمعت بهم فذاكرتهم ودارستهم فلا أحصيهم كثرة، لكن من أبرزهم الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله الذي أعتبره أحد أركان التجديد في القرن الرابع عشر وكانت لي مجالسات ومذاكرات معه رحمه الله، لقد كان للفقهاء والصوفية تأثير كبير في ابقاء الاسلام راسخ الجذور في سورية وخاصة عند العامة، وجاء بعد ذلك الإخوان المسلمون فدخلوا الى عوالم المثقفين، وجاءت جماعة الدعوة والتبليغ فوصلت الى قطاع كبير، وهكذا بدأ العمل الاسلامي يتكامل شيئا فشيئا ليغطي قطاعا واسعا من خلال الصوفية والفقهاء والجمعيات والجماعات حتى كاد يؤتي ثماره، ولكن لم يكن التخطيط الداخلي والخارجي لسورية ليسمح بذلك، فكان العمل الاسلامي يتعثر شيئا فشيئا، ولنرجع الى المرحلة التي نحن فيها فقد أصبح التطلع نحو الاستفادة من العلماء قراء وفقهاء وصوفية مطلبا عندي وجهني في هذه المرحلة وفيما بعدها.

(فصل) في بعض سياسات شيخنا محمد الحامد رحمه الله

كان الشيخ محمد الحامد من الذين أسهموا في تأسيس الإخوان المسلمين في مدينة حماة سنة 1939م، وبعد أن حظر أديب الشيشكلي الأحزاب وأخذ قسما على الموظفين لم يدخل الشيخ التنظيم مرة أخرى، وإنما كان يرعاه، ولم يكن يسكت على خطأ أحد فردا كان أو جماعة. وكان يرى أن يكون أبا لكل المسلمين ناصحا لهم فذلك أدعى إلى تعميم النصيحة وأدعى إلى سلامة حلقته التعليمية التي كان يحرص على وجودها واستمرارها كل الحرص، وكان يجنبها كل ما يمكن أن يؤثر على وجودها أو استمرارها وهو كان يخشى من الله أن يعارض أي فعل خير إلا إذا كان فيه شذوذ أو انحراف. اجتمع مع الشيخ تقي الدين نبهاني مؤسس حزب التحرير، فقال: هذا رجل لا يصح أن نحاربه فلما ظهر على كتابات للحزب فيها أخطاء تحدث عن هذه الأخطاء على المنبر، وكان يغار على الإسلام والمسلمين ويجب أن يعرف الواقع كاملا ويعتبر الإخوان المسلمين هم الفئة التي يجب أن تدعم، وكان حريصا على إيجاد صيغة من التلاقي بين الإخوان المسلمين والعلماء والصوفية وغيرهم.

وكان يرى أن المسلمين في مقابل انهاء هذه الردة يجب أن يضعوا يدهم بأيدي بعضهم مهما كثرت خلافاتهم، ومع أنه حنفي صوفي، فقد كان يعلن دائما أنه على استعداد بأن يضع يده بيد أكثر السلفيين غلوا في مقابل انهاء الردة. وكان شغله الشاغل الذكر والعلم والنصيحة، رحمه الله.

(فصل) في تنظيم الإخوان المسلمين في سورية

لم ينقطع العمل الاسلامي في سورية، فالفقهاء والصوفية والوعاظ الذين كانوا يستقطبون أعداداً كبيرة من الشعب لم ينقطعوا في سورية، ولكنّه أمام نشوء النوادي والجمعيات والأحزاب ذات الأفكار الوافدة، بدأ بعض المثقفين الاسلاميين يفكرون في عمل اسلامي مكافيء، فكان أن وجد أفراد ثم مجموعات يفكرون في مثل هذا منذ سنة 1932، ولكن انتقال هذا التفكير الى مستوى الجمعية تأخر قليلاً، فنشأت جمعيات محلية ذات صفة ادارية خيرية دعوية منذ سنة 1937، ونشأت بأسماء مختلفة الا في حماة فقد نشأت جمعية باسم الإخوان المسلمين منذ سنة 1939م. قال الأستاذ فتحي يكن في كتابه "الاسلام فكرة وحركة وانقلاب" عن الإخوان المسلمين في سورية:

"لم يكن في سورية حتى مطلع القرن العشرين تيار اسلامي واضح المعالم. وإنما كانت هناك دعوات دينية وطرق صوفية مقتصرة في دعوتها على بعض جوانب الاسلام... وفي عام 1933 شعر المرحوم "الدكتور مصطفى السباعي" وكان حينئذ شابا يافعا بحاجة الإسلام إلى جماعة تؤمن به وتحمله وتدافع عنه. فبدأ بدعوة الناس إلى دين الله، يبصرهم به ويجمعهم عليه. وفي عام 1937 تأسس في حلب "دار الأرقم" وفي دمشق "الشبان المسلمون" وفي حمص "جمعية الرابطة" وفي حماة "الإخوان المسلمون". وفي عام 1944 كانت الحركة قد استكملت عدتها واتخذت شكلا تنظيميا واحدا في كل المدن السورية. وانتخب الأستاذ السباعي مراقبا عاما لها. وفي عام 1948 حدثت كارثة فلسطين. وهب الشعب السوري يطالب بالتطوع للقتال. وأخذت الحركة الاسلامية زمام المبادرة. وفتحت مراكز التطوع في كل مكان. ولما تم للحركة الإسلامية اعداد كتائبها خرجت بهم إلى أرض الجهاد. وكان من نصيبها الدفاع عن بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وكان القتال يدور فيها من بيت إلى بيت ومن شارع لشارع. ولقد أبلى المجاهدون بلاء حسنا. وسقط منهم عشرات الشهداء أودع أكثرهم الثرى بجوار المسجد الأقصى منهم:

الشهيد ضيف الله مراد – الشهيد تيسير طه – الشهيد محمد عينوص – الشهيد محمد عرنوس – الشهيد محمود دندشي – الشهيد محمد قباني – الشهيد نايف حسن عودة – الشهيد راضي الجوهري – الشهيد محمد طالب – الشهيد محمد صباغ.

وفي ميدان الاصلاح السياسي لعبت الحركة الاسلامية في سورية دورا مهماً.... فدعت أول ما دعت الى إقامة حكم صالح يزيل عن سورية مخلفات الاستعمار... ووجهت النصح الى الحكومات الوطنية المتعاقبة.. وقاومت كل انحراف في الحكم والادارة. ولم تجامل في ذلك رئيسا ولا حكومة ولا زعيما.. وحاربت الحركة مشروع سورية الكبرى لأنه مشروع استعماري يجعل من سورية نقطة ارتكاز للنفوذ الغربي في الوطن العربي. وفي عام 1949 ساهمت في انتخابات "الجمعية التأسيسية" ونجح عدد من رجالها واشتركوا في وضع "الدستور" وصبغوه بالصبغة الاسلامية... وفي عهد أديب الشيشكلي عام 1952 تعرضت الحركة لمضايقات شديدة وفرضت الرقابة على قادتها وسرح الدكتور السباعي من عمله في الجامعة السورية، ثم نفي من البلاد... وفي عام 1958 كانت الحركة الاسلامية في طليعة الحركات التي أيدت "الوحدة الثنائية" بين مصر وسورية. ويوم تجمعت الفئات الحزبية السورية كلها في "نادي الضباط" بدمشق لتوقيع وثيقة الانفصال كانت الحركة الاسلامية الوحيدة التي رفضت بموضوعية واصرار.. واستطاعت الحركة الاسلامية في هذه الفترة أن تستقطب تأييد القوى الشعبية كلها، وتكون تيارا اسلاميا قويا ظهرت نتائجه في أول انتخابات نيابية بعد الانفصال عام 1961. وفي أعقاب حركة الثامن من آذار (مارس) التي أطاحت بالعهد الانفصالي تعرضت الحركة ولا تزال تتعرض لمحن متلاحقة على يد الحزب الحاكم في سورية. وفي عام 1964 توفي مؤسس الحركة الاسلامية الدكتور مصطفى السباعي مخلفا وراءه تراثا اسلاميا ضخماً من الكتب والمؤلفات وحركة اسلامية هي أمل سورية اليوم.

ومن مؤلفات السباعي: (السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي)، (الأحوال الشخصية)، (المرأة بين الفقه والقانون)، (أحكام الصيام وفلسفته)، (أحكام الأهلية والوصية)، (أحكام المواريث)، (الوصايا والفرائض)، (مشروعية الارث في الاسلام)، (نظام السلم والحرب في الاسلام)، (أخلاقنا الاجتماعية)، ومجلة حضارة الاسلام". 1. هـ. لقد استطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن تفعل الكثير في خدمة الاسلام والمسلمين، ولكن بسبب من طبيعة الشعب السوري وبسبب من تركيبها النظامي تعرضت لعدة انقسامات أضعفتها وهي لا تزال تصارع من أجل البقاء والاستمرار رغم أن القوى التي تحاربها في الداخل والخارج كبيرة وكثيرة.

(فصل) في موجة الاعدامات في العالم الإسلامي

شهد العالم الإسلامي سنة 1954 موجة ضد الحركة الاسلامية في كل مكان فحكم على نواب صفوي في إيران بالاعدام، وحكم على عدد من الإخوان المسلمين في مصر بالاعدام، وحكم على أبي الأعلى المودودي في باكستان بالاعدام، وضيق الخناق على الحركة الاسلامية في أندونيسيا، وظهر الأمر وكأن مخططا واحدا يجري تنفيذه في العالم الاسلامي. وهكذا أصبح يتضح أن معركة الاسلاميين ليست محلية بل هي عالمية، وأنها مرصودة، ونحن لا نعجب أن تسهر الدول على مصالحها، ولكن الشيء الذي يلاحظ أن هناك جهات متعددة لها غرض في محاربة الإسلام، لأنه اسلام بصرف النظر عن معقولية التعامل بين المسلمين وبين غيرهم، وبصرف النظر عن نوعية التطبيق الاسلامي، وبصرف النظر عن مراعاة المسلمين للمصالح. وقد نفذ حكم الاعدام فعلا في نواب صفوي في مرحلة، ونفذ في عدد من الإخوان المسلمين في مصر، وفي كل من الحالتين خرجنا بمظاهرات قوية محتجين على تلك الأحداث. وههنا نحب أن نسجل أن سورية كلها وقفت ضد اعدام الإخوان المسلمين في مصر حكومة وشعبا وأن ننس، لا ننسى موقف فارس الخوري الذي كان رئيسا للمجلس النيابي، اذ رمى بثقله كله من أجل انقاذ الإخوان المسلمين.

(فصل) في السقف المرتفع

آمنت منذ وقت مبكر في حياتي بضرورة أن نرتفع بالسقف الإخواني، بأن نرتفع بمستوى قياداته ثقافة وخصائص والتزاما، واعتبرت أن ذلك مقدمة للارتفاع بسقف الأفراد، وهذا هو السبيل لأن تدخل الأمة تحت قيادة الإخوان المسلمين، ولذلك طالبنا وفي وقت مبكر من حياتنا أن يكون الشيخ محمد الحامد هو رئيسا للإخوان المسلمين في حماه، وقد استمرت محاولاتنا لايجاد السقف المرتفع ولا زالت وان كان قد تغير اجتهادنا بأن وجود السقف المرتفع يحتاج إلى محاضن خاصة، تعطي للمنتسبين اليها حرية الكينونة حيثما شاءوا، وبهذا يرتفع السقف الإخواني بشكل غير مباشر، ولهذا طرحت فكرة انشاء مدارس طلاب الربانية، ولئن كانت الضرورة ملحة لايجاد السقف المرتفع في كل مكان فانه في سورية أكثر ضرورة، فالشعب السوري شعب مسيس، كل فرد فيه يظن أنه من أعرف الناس في السياسة، ثم أن هناك قطاعات دينية متفوقة علميا وروحيا، أو علميا أو روحيا. ولذلك فان هذه القطاعات، وهذا الشعب لن يسلم للجماعة الا اذا كانت متفوقة سياسيا وعلميا وروحيا.

الباب الرابع

من الواحدة والعشرين الى السادسة والعشرين

من الواحدة والعشرين الى السادسة والعشرين
(19551961 م)
الدراسة الجامعية

دخلت الجامعة 1956 منتسبا لكلية الشريعة، عينت مسؤولا اخوانيا عن كلية الشريعة، كنت قد حفظت سبعة عشر جزءا من القرآن، قررت أن أتم حفظ القرآن في هذه السنة وقد حفظته بفضل الله، بذلت جهدا كبيرا حتى أحصل غرفة من غرف مساجد دمشق لأسكن فيها وبعد جهد حصّلت غرفة في التكية السليمانية، وهي تكية قديمة مهملة تقع وراء مسجد السلطان سليم، حدثت معي في هذه السنة وساوس كثيرة، أنقذني منها ترددي على الشيخ الهاشمي رحمه الله فقد كنت أدخل عليه وقلبي مليء بالوساوس وأخرج من عنده وقلبي مليء باليقين، وقد درست عنده جزءا من جوهرة التوحيد، ترددت في هذه السنة على الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت أفقه فقهاء الحنفية في بلاد الشام، وقد درست أنا والشيخ بشير الشقفة عليه جزءا من كتاب الهداية.

كان يسكن في مسجد القطاط شيخ اشتهر أنه محدث، هو الشيخ عبد الله الهرري ذهبت إليه أنا وبعض الأخوة لأستفيد منه كيفية البدء في دراسة علوم الحديث فأشار علي أن أحفظ ألفية العراقي وأعطاني نسخة من عنده عليها شروح وقد بدأت في حفظها وحفظت الكثير منها. كان من أبرز أساتذتنا في السنة الأولى الدكتور فوزي فيض الله وقد وزع علينا موضوعات من كتاب الهداية في فقه الحنفية لنعيد صياغتها وكان نصيبي بحث الحج ولما قدمته له كان معجبا به، وراقه تعليلي لعدم جواز قتل القمل أثناء الاحرام بأن المسلم وهو محرم يقدم لكل شيء سلاما، وعلق على ذلك الأخ الزميل ابراهيم زيد الكيلاني بأن ابقاء القمل بلا قتل ينافي السلام وكانت نكتة. لم أكن متفوقا في دراستي لانشغالي بأمور كثيرة، العمل الإخواني، المطالعات الخاصة، الدراسات على بعض الشيوخ، حلقات الذكر والحياة الصوفية.

كان من أساتذتنا في السنة الأولى الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله والدكتور محمد المبارك والدكتور معروف الدواليبي والأستاذ مصطفى الزرقا والأستاذ مصطفى الخن والدكتور صالح الاشتر والأستاذ عمر الحكيم، لقد كان أساتذتنا محل حبنا وتقديرنا، وكانت الصراعات الفكرية في سورية على أشدها، فكان أساتذتنا في الغالب يضعون أيدينا على حجج الاسلام في صراعاته ضد الخصوم. كان من أبرز نشاطاتنا الجامعية لهذا العام أننا أقمنا ندوة جامعية عامة سميناها ندوة الفكر المتحرر. كان الشيوعيون واليساريون قد أقاموا ندوة سموها الندوة الأدبية، قررنا أن نحضر هذه الندوة مستمعين وفوجئنا بأنّ أحد المتكلمين فيها يلقي قصيدة فيها مس بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أطار ذلك صوابنا فاندفعنا نرفع أصواتنا احتجاجا ثم آل الأمر إلى اشتباك بالأيدي وكانت الندوة بإشراف الدكتور عمر فروخ، تدخل بعض الناس فحالوا بين المشتبكين، فعدنا إلى الجلوس وطلبت الكلام، أعطيت حق الكلام فألقيت كلمة ارتجالية تحدثت فيها عن الأقداس التي لا ينبغي أن تمس، وكانت خطبة نارية ألقيتها ثم انسحبت، فانسحب أكثر الحاضرين، ثم طالبنا الجامعة بأعطائنا حق فتح ندوة، فكان ذلك. واكتسحت ندوتنا الجامعة كلها، فبينما كانت ندوتهم يحضرها العشرات، كانت ندوتنا تجتذب المئات بل إن آخر ندوة أعلنا عنها، تحفز كل طالب جامعي وطالبة للحضور فتدخل الحاكم العسكري – وكان وقتذاك صبري العسلي – فألغى الندوة وأصدر قرارا بمنع كل الندوات الطلابية في الجامعة.

حاولنا أن نحتج ولكن لا فائدة، وكان سر الاقبال على هذه الندوة الأخيرة أننا دعونا للمحاضرة فيها كبار الاسلاميين وكانت الموضوعات التي ستطرق حساسة بالنسبة لقضايا المنطقة. كان هناك شيخ طاعن في السن وصف لي بأنه من أكثر الناس اتقانا للقرآن الكريم، بل وصف بأنه شيخ القراء في دمشق، وهو من آل العلواني فاتفقت معه على أن أعرض عليه القرآن فكان لي موعد يومي معه تقريباً. هناك حادث صدمني صدمة كبيرة في هذا العام وذلك أن المسئول عن الإخوان المسلمين في الجامعة دعا لاجتماع، وأثناء حديثه خطأ الأستاذ البنا في بعض ما اعتمده من مناهج للسير الإخواني. هالني ذلك، وكان هذا من أكبر المؤشرات على أن القائمين على العمل الإخواني لم ينصهروا في دعوة الأستاذ البنا رحمه الله، ولقد عرفت فيما بعد أن هذا الأخ ترك الجماعة فيما بعد وخف التزامه الاسلامي كثيرا ولقد كانت ظاهرة الترك للجماعة وخفة الالتزام بعد التخرج من الجامعة تشكل ظاهرة من اخطر الظواهر التي تحتاج الى تعليل وتحليل ومعالجة.

نجحنا في امتحان السنة الدراسية الأولى وقضينا العطلة الصيفية في حماة، وكانت أجواء سورية تقترب من الوحدة مع مصر وأدخل ذلك شللا على عمل الأحزاب كلها في سورية، ومن ذلك الإخوان المسلمون الذين بدت مراكزهم وكأنها محلولة قبل القرار الرسمي للحل، وهذا جعلني أقبل على التصوف اقبالا أكثر من أي وقت مضى، وكان في حماة مجموعة مستغرقة في التصوف تنتسب لخليفة الشيخ محمد الهاشمي رحمه الله، فاندمجت معها وأخذ السير الصوفي يسيطر على ذاتي، ووافق ذلك أن حل الإخوان المسلمون أنفسهم بمناسبة الوحدة مع مصر في العام التالي، وكانت سياسة عبد الناصر أن يغض الطرف عن النشاطات الصوفية، فأقبلنا ابتداء على التصوف سلوكا ثم اندفعنا من خلاله إلى الدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة وعلى علم معتمدين الذكر والعلم، وكان لذلك آثاره الطيبة على مدينة حماة.

كان أبرز أحداث السنة الثانية في الجامعة قيام الوحدة بين سورية ومصر، وقد حلت الأحزاب كلها نفسها في سورية ما عدا الحزب الشيوعي وكان من جملة من حل نفسه الإخوان المسلمون وقد كانت القيادات الإخوانية صادقة في هذا الحل ولم يكن يسمح أحد لنفسه أن يتكلم في هذا الموضوع من أفراد الإخوان، كل يجتهد لنفسه وكان اجتهادي لنفسي أن أحمل نفسي على العلم والذكر والدعوة ضمن الاطار الصوفي واستمر ذلك حتى الى ما بعد تخرجنا. ففي دائرة العلم تابعنا دراستنا في الجامعة وكان من أساتذتنا الذين لم نورد أسماؤهم من قبل: الدكتور زكي عبد البر وهو من مصر والدكتور احمد السمان – والد غادة السمان – وقد درسنا الاقتصاد السياسي وكان أشهر اقتصاديي سورية وقد بقي عميدا لكلية الحقوق سنين طويلة، ومن أساتذتنا الذين مروا علينا الشيخ بهجت البيطار وآخرون.

وفي دائرة الذكر استغرقت في العبادات والأوراد وحضور مجالس الذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاولت أن أدخل خلوات الشيوخ فدخلت خلوة عند الشيخ سعيد البرهاني وخلوة عند الشيخ عبد القادر عيسى وخلوة عند الشيخ بشير قهوجي وفي دائرة الدعوة شاركنا مع الأخ بشير شقفة وأديب كيلاني وبعض شيوخ البلد في اقامة الحلقات العلمية والدروس والمواعظ. بدأنا مع اخوان الطريق – وما أصفى الحياة معهم – نوعا جديدا من الدعوة الى الله تقوم على جلسات البيوت وجعلنا لهذه الجلسات نمطا خاصا فكان يجتمع انشاد وارشاد، وقد استقرت هذه الجلسات في بيت أحد اخوان الطريق، وهو أخ متفان في خدمة اخوانه ندر مثله في الحب والاخلاص، هو الحاج حسن غزال رحمه الله، وكان برنامج الجلسة مع النشيد وقراءة القرآن توحيد وسيرة وفقه وتعليم عام، وكان لهذه الانطلاقة بركتها وخاصة على منطقة الحاضر من حماة. وكان لاخوان الطريق أنواع من الحلقات: حلقات ذكر وحلقات علم خاصة وعامة، وكان ذلك كله أيام الوحدة مع مصر وكان من سياسة عبد الناصر تشجيع الاتجاه الديني الصوفي. فاستفدنا من هذا المناخ. وكانت هذه حياتنا حتى دخلنا في سلك التدريس. وكان أشهر أولياء دمشق في هذه المرحلة الشيخ أحمد حارون رحمه الله والشيخ يحيى الصباغ وكنا نرى الثاني في مجالس الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يحبنا ولقد دعا لنا دعاء حارا، وزرنا الشيخ أحمد حارون في بيته وكانت جلسة عجيبة بما حوته من فوائد وعلوم كان يسألنا عن بعض الآيات القرآنية ثم يأتينا بأوجه جديدة لا تخطر على بال ومع ذلك كنا نسلم له فيما يقول لوضوح الحجة عنده، رحمه الله. تزامنت حياتنا الجامعية مع الوحدة بين مصر وسورية، ففي السنة التي انفصلنا بها عن الجامعة تم الانفصال. استقبلنا الوحدة ونحن في السنة الثانية وكانت فرحة حقيقية لكل الناس حتى الذين لم يفرحوا لم يكن أمامهم إلا أن يظهروا الفرح وكانت أقوى المسيرات المبتهجة هي مسيرتنا وأقوى الكلام الذي قيل فيها هو كلامنا. ولقد كان الأخ الشاعر محمد منلا غزيل يقود الهتاف بقصيدة كان مطلعها:

هبي يا ريح الجنة هبي علينا

نحن حققنا الوحدة الوحدة الزينه

لقد كانت بداية الوحدة شيئا هائلا على صعيد الانجاز السياسي وعلى تفاعل الشعب السوري معها فكيف انتهت هذه الوحدة بعد ثلاث سنوات؟ ذلك ما يحتاج الى تأمل طويل، فسقوط حكم وقيام حكم يخضع لمؤثرات كثيرة والأحكام المستعجلة لا تجدي شيئا. لقد كانت دروس هذه المرحلة كبيرة فقد جعلتني مع مثيلاتها أصل إلى قناعات كثيرة حكمتني ولا زالت تحكمني:

أولاً: انه لا الجامعة ولا الإخوان المسلمون ولا حلقات الصوفية قادرة كل منها منفردة أن توجد العالم الرباني المعاصر، ان العالم الذي يعتبر وارثا كاملا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يجتمع له علم وعمل وحال والذي يستطيع أن يقوم بواجب التعامل الحق مع المسلمين حنانا ونصحا وزيارة وعيادة وصلاة جنازة ومشاركة في الأفراح والأتراح وقياما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواجب الدعوة والتعليم والذي يستوعب عصره ويعرف أن يتحرك على ضوئه والذي يستوعب الثقافة المعاصرة والثقافة المتوارثة والذي تظهر فيه أخلاقية حزب الله وروحانيته على أرقى ما يكون مثل هذا العالم لا تخرجه على الكمال والتمام جهة بعينها والمحظوظ من أتيح له أن يأخذ الكمال أنى وجده، وهذه القضية أخذت مني كل مأخذ، وكانت عاملا من العوامل التي جعلتني بعد سنين طويلة أتمنى أن أكرس حياتي من أجلها.

ثانياً: لقد أقام عبد الناصر زمن الوحدة حزبا وحيدا في سورية هو الاتحاد القومي وحاول عبره أن يوجد ممثلين للشعب السوري، فأقام انتخابات حرة كان من آثارها نجاح الاسلاميين في سورية كافة ولما كانت النتيجة كذلك أعطى لنفسه حق الاختيار من بين الناجحين فكانت المحصلة على غير ما أراده الشعب السوري. لكن النتيجة الأولى تبين بوضوح أنه حينما كانت حرية انتخابية في البلاد الاسلامية فالنتيجة للاسلاميين وهذا جعلني دائما أتطلع الى الحرية الانتخابية على الأرض الاسلامية. كما أن تجربة الدعوة الى الله زمن الوحدة بالقدر المتاح جعلتني مقتنعا أن على المسلمين في كل مكان أن يستفيدوا من المتاح قانونا لنشر الدعوة مهما كان هذا المتاح قليلا فإنه شيء لا بد منه، وهكذا كنت أنظر الى الحركات الدعوية البحتة أو الصوفية أو العلمية والفقهية نظرة احترام لأنها تحقق هذا المعنى فيبقى الاسلام حيا إذا أدلهمت الأحداث.

ثالثاً: ان الحركات السياسية والعمل السياسي باطلاق اذا لم تتوافر له شروط فإنه معرض للسقوط:

أ‌- رؤية واضحة واستشراف كامل على ساحة العمل السياسي داخليا وخارجيا تنظيميا واداريا.

ب‌- معرفة بنفسية الناس فلقد كان من عوامل سقوط الوحدة أنها لم تراع نفسية الشعب السوري.

ت‌- قوة مبادرة تسبق المشكلة قبل وقوعها فإذا وقعت سورع الى حلها.

ث‌- تقييم صحيح للموقف في كل لحظة وقرار حكيم على ضوء ذلك.

ج‌- تلاحم بين العاملين وتفاهم كاملان فلقد كان للخلاف بين عبد الحكيم عامر وعبد الحميد السراج دور كبير في سقوط الوحدة.

ولقد حكمتني هذه المعاني وسجلتها في بعض كتبي، ولقد جعلتني هذه المعاني اتبعد عن المشاركة في عمل سياسي لا تتوافر فيه هذه المعاني الا مضطرا ولكن حالة الاضطرار كانت تجبرني يوما فيوما على التساهل في هذه القناعات.

رابعاً: كان من محصلات التجربة لهذه المرحلة أن المسلمين عندهم استعداد هائل لاستجابة الدعوة اذا انطلق في هذه الدعوة ناس برآء وأحس الناس أنه ليست لهم أغراض وليست عليهم مآخذ ولكن هل بالامكان أن يوجد مثل هذا وأن يستمر؟ انه اذا ما وجدت حوانيت للخير ودعاة لذلك واشرف على هذا وهذا من هم مظنة الاخلاص والثقة فان العامة والخاصة يمكن أن تنصهر في بوتقة واحدة.

ومن ذكرياتي في الحياة الجامعية أنها كانت تمر عليّ أزمات مالية أحاول معها العمل فلا يتيسر لي وأخيرا أخذت بعض ساعات التدريس في مدرسة خاصة فساعدني ذلك على الانفاق على نفسي مع ما كان الوالد يرسله، الا أنني ما كنت أمسك ما يدخل جيبي مما جعل بعض اخوان الطريق يحجرون علي في أجواء المحبة والموافقة والمودة. ومن الذكريات التي يرويها بعض الاخوة أنه كلفني اراقب له طبخة وضعها على النار وخرج، وكنت أقرأ في كتاب في الغرفة نفسها فلما رجع وجد الدخان يخرج من الغرفة فأسرع راكضا واذا به يجدني مستغرقا في القراءة والطعام يحترق ووابورالغاز قد مال على أحد جانبيه. ومن الذكريات أنني لم أكن أملك الكثير من الكتب الجامعية فكنت أستعير وأقرأ وكان هذا العامل مع عوامل أخرى مثل مطالعاتي الخاصة واستغراقي في التصوف أو في أعمال أخرى عاملا في أنني لم أكن متفوقا في دراستي. ومن الذكريات أنني دخلت مرة على الدكتور السباعي فتأمل مظهري ثم قال: ان هذا المظهر غير منسجم يا شيخ سعيد، وكان ذلك فعلا، وقد اجتمع على هذا المظهر غير المنسجم الفقر والاستهانة.

(فصل) في الإخوان المسلمون والعهود التي مرت على سورية بعد الاستقلال

مرت على سورية عهود فيما بعد الاستقلال حتى الوحدة نجملها فيما يلي:

عهد الديمقراطية الأولى، عهد حسني الزعيم، عهد أديب الشيشكلي، عهد الديمقراطية الثانية، عهد الوحدة.

وصل عدد الإخوان المسلمين في الديمقراطية الأولى في دمشق وحدها حوالي خمسة وسبعين ألفا، وكانوا اذا نزلوا باستعراض ينزل من جوالتهم حوالي ألفي كشاف. جاء عهد حسني الزعيم فألغى الأحزاب ثم استمر ذلك في عهد أديب الشيشكلي، وكان الإخوان يعملون سرا في عهد أديب الشيشكلي، ولم يطل عهد حسني الزعيم، فلما جاءت الديمقراطية الثانية أخذ الإخوان المسلمون قرارا عجيبا هو أن يعكفوا على التربية وألا يدخلوا الانتخابات، فخالفهم في ذلك الأستاذ محمد المبارك واستقال من الإخوان ورشح نفسه، فسقط في الاقتراع الأول، ونجح في الاقتراع الثاني بعد أن عمل له الإخوان المسلمون وكنت فيمن سافر الى دمشق للعمل من أجل الانتخابات، كانت سورية تمور مورا في التحركات السياسية، وكان واضحا أنها تسير نحو هاوية خطيرة، وكان على الإخوان المسلمين أن يكونوا أكثر الناس حيوية سياسية في ذلك العهد، وكان المفروض أن يتعقل الحزبان اللذان حصلا الاستقلال: الحزب الوطني وحزب الشعب، وكان تحالف بين حزب الشعب والحزب الوطني والإخوان المسلمين وشخصيات وكتل مبعثرة، وتجميع لقوى هؤلاء في الجيش يمكن أن ينقذ سورية وأن يبقيها في المسار الديمقراطي ولكن الإخوان غلبت عليهم عقلية التميز والأنفة من التحالفات، والحزب الوطني تحالف مع اليسار، فوجد ما يسمى بالتجمع القومي، وحزب الشعب حاول على مستوى البرلمان أن يكتل، ولكن لا قاعدة طلابية، ولا قاعدة شعبية، ولا المخابرات ولا الجيش كانوا بجانبه، وكانت الأحزاب ذات الفكر الجديد تتمثل بالحزب الشيوعي الذي أصبح قوة عسكرية وانتخابية، وبالحزب القومي والاجتماعي الذي صفي بعد تورطه في قتل عدنان المالكي، وبحزب البعث وبالحزب العربي الاشتراكي، وكان هناك حزب سطع في مرحلة سابقة ثم خبا وهو الحزب التعاوني الاشتراكي. تجمع اليسار كله: حزب البعث العربي الاشتراكي والشيوعي مع الحزب الوطني بقيادة صبري العسلي، وكان وراءه المخابرات وقوى كبيرة في الجيش، وفي هذا المناخ نزل الدكتور السباعي في انتخابات فرعية فسقط أمام رياض المالكي، فانتصر اليسار على الإسلاميين وعلى اليمين بآن واحد. كانت غلطة كبرى للحزب الوطني، وكانت السنين خداعة، عصفت بالعقول، وكان اليسار يشتغل بذكاء، فقد سيطر على مراكز القوة كلها في الجيش وفي المخابرات وأجهزة الأمن والوزارات والحركة الثقافية، وأوجدوا مقاومة شعبية مسلحة من أنصارهم فوقعت سورية وهي في ظل الديمقراطية في قبضتهم، وههنا طرح بعض الضباط شعار الوحدة مع مصر، وكان وقتها شعار لا يقاوم، فتجاوب معه الجميع وبديمقراطية كاملة.

وقعت سورية ميثاق الوحدة فجاء عهد جديد وكان من شروط الوحدة أن تحل الأحزاب نفسها، فكان ذلك، وحل الإخوان المسلمون أنفسهم وانفرد الحزب الشيوعي فلم يعلن حل نفسه، وهكذا وجد عهد جديد في سورية. كان الإخوان المسلمون قد خرجوا من عهد أديب الشيشكلي منقسمين على أنفسهم، فاستقبلوا عهد الديمقراطية الثانية، وهم ضعفاء. وقد أصيب الدكتور السباعي بجسده بعد الانتخابات، فزاد ذلك من قلة الفاعلية. وسورية تمور كالبرلمان، ونحب ههنا أن نسجل مرة ثانية لأسرة فارس الخوري مع أنها أسرة نصرانية تلاحمها مع الإخوان المسلمين، وأن فارس الخوري كان يرى أن المنقذ لسورية هو أن يستلم الإخوان المسلمون سورية، كما سجل ذلك في مذكراته.

(فصل) في الوحدة

كانت الوحدة انقاذا لسورية من السقوط بيد الشيوعيين وبيد الأقليات، والحقيقة أن الوحدة هي التي أبقت للسنين وللفلسطينيين كيانهم في لبنان وفي سورية، لذلك كان الحس الاسلامي العفوي في سورية وفي لبنان مع الوحدة عامة ومع عبد الناصر خاصة. والحقيقة أن الوحدة الحكيمة يمكن أن تكون حلا لمشكلات العالمين العربي والاسلامي، ونحن لا نشترط صيغة معينة للوحدة أو الاتحاد، لكن لا شك بأنه كلما زاد التلاحم بين أوطان العالمين العربي والاسلامي كان مآل ذلك خدمة الاسلام. كانت تصرفات عبد الناصر في سورية على نوعين: فمن الناحية الشكلية كان يراعي اليسار والقوى المؤثرة المعادية للاسلام حتى ان الدستور السوري المؤقت الذي أصدره كان علمانيا بحتا، أما من الناحية العملية فقد أتاح للمتديني فرصا كثيرة للعمل الاسلامي حتى أن كثيرا من شباب الإخوان المسلمين بدأوا يعملون سرا. وقد استفدنا نحن من مناخ الوحدة كثيرا، فعملنا تحت ظل التصوف عملا اسلاميا كبيرا. ولما دخلت الوحدة بين سورية ومصر في دائرة التآمر المحلي والعالمي، وقفت ضدها أحزاب اليسار. وكان على الاسلاميين أن يكونوا أبعد نظرا فيكونوا حماة للوحدة، ولكن عقدة الكراهية لعبد الناصر حكمتهم ففرطوا، وان ما تعانيه سورية اليوم هو أثر التفريط بعهد الوحدة فالوحدة مع مصر كانت ستبقي الأقليات ضمن حجم لا يستطيعون تعديه ولا يظلمون فيه. وكل المآسي التي مرت على لبنان والفلسطينيين كانت ستخفق على الأقل لو بقيت الوحدة، والتدين المصري الفطري كان سيؤثر تأثيرا كبيرا، لقد مات عبد الناصر عن دستور مصري ينص على أن دين الدولة الإسلام ونحن في سورية لم نستطع أن نحصل هذه المادة حتى الآن.

(فصل) في الخطوة التجديدية الكبرى للشيخ عبد الكريم الرفاعي

(فصل) في الخطوة التجديدية الكبرى للشيخ عبد الكريم الرفاعي
(مدرسة في كل مسجد)

عندما انتقلت الى دمشق من أجل الدراسة الجامعية، وقع في يدي لأول مرة ورقة فيها دعوة عامة لاحتفال ديني يقيمه طلاب جامع زيد ابن ثابت في بستان الحجر في دمشق منذ تلك اللحظة بدأت أتتبع أخبار ذلك الجامع، فعرفت أن شيخه هو الشيخ عبد الكريم الرفاعي، فتعرفت على الشيخ وعلى بعض نشاطاته، وكلما ازددت معرفة أزددت يقينا أني أمام حركة تجديدية للاسلام تحتاج الى تعميم. لقد ألفنا في مسجد السلطان في حماه وهو مسجد شيخنا محمد الحامد رحمه الله، ان يكون المسجد مدرسة، ولكنها مدرسة ذات صف واحد وحلقة واحدة وشيخ واحد وعلوم شرعية محددة، لكنا وجدنا أن كل مسجد وصلت اليه حركة الشيخ عبد الكريم الرفاعي أصبحت مدرسة ذات حلقات وذات تخصصات وهو كما يعطي العلوم الشرعية فانه يعطي العلوم الكونية الصعبة التي تصعب على الطلاب عادة، وهناك درس عام لجميع الحلقات، ومجلس ذكر موحد للجميع، لكن المسجد يرتبط به أصناف من الناس بأصناف من الحلقات مراعى في كل حلقة مستوى أفرادها وأوقاتهم. وكان الشيخ لا يدخل بعض الدراسات الى المسجد بل يأمر اخوانه بدراستها في البيوت. وكان للشيخ عبد الكريم مستشاروه لشؤون حركته الثقافية التربوية، وكانوا يلحظون جميعا أن لا يتصرفوا تصرفا يعكر عليهم شؤون دعوتهم، وأصبحت مساجد الشيخ تخرج حفاظ القرآن ومختصين بالعلوم الشرعية، وكان الشيخ نفسه على غاية من الحكمة والوعي والحلم والتقوى وكان يقدم الحب لجميع المسلمين، وكانت مواقفه اسلامية صافية، لا يترك لأعداء الإسلام فرصة أن يكيدوا له ولاخوانه، وكان في الوقت نفسه لا يقصر عن واجب اسلامي، ولم يكن يعادي أحدا من المسلمين أفرادا هم أو جماعات أو جمعيات، فكان الجميع يحترمونه وكان يحترم الجميع. وقد استطاع أن يوجد مناخا علميا تربويا ومحبة أخوية وعلاقات تقوم على التقوى، واستطاع أن يعبئ طاقات كثيرة لخدمة الاسلام، وحيثما حل اخوانه أوجدوا مدرسة دعوية ثقافية تربوية عبر المسجد، ولقد استطاعوا أن يقضوا على مفاسد كثيرة حيثما حلوا، وأنني متأكد لو أن حكماء المسلمين استطاعوا أن يوجدوا في كل مسجد مدرسة لها طلابها، والقائمون عليها، والبرامج المناسبة، وعم ذلك كل مسجد لجدد الاسلام في العالم، ولعل حلقة شيخنا الحامد وعمله وعمل الشيخ عبد الكريم الرفاعي هما اللذان أوحيا لي بفكرة مدارس طلاب الربانية، وبفكرة حركة احياء الربانية التي سجلتها في رسالة من رسائلي.

(فصل) في دار الفقراء

ان حل الإخوان المسلمين أنفسهم بسبب الوحدة بين سورية ومصر جعلنا نستغرق في الحياة الصوفية، فعشنا في هذه الحياة القائمة على الأوراد والأذكار فترة من الزمن. ولكنا مع اخوان الطريق في حماه أحيينا فكرة التعليم والدعوة في التصوف، فأصبح جونا جوا علميا تربويا روحيا دعويا، وكان لنا في الابتداء أكثر من غرفة في مسجد نأوي إليها، ثم استأجرنا دارا سميناها دار الفقراء، كانت مركزا لنشاطاتنا، وقد كانت هذه الدار نموذجا للمركز الاسلامي الذي يناسب الحال، ومركز اشعاع روحي وفكري وعلمي ودعوي، كان كل من يأتي الى الدار يقيم أوراده الشخصية بين المغرب والعشاء، ثم بعد ذلك تقام حلقة ذكر وانشاد، وكان لأهل الدار حلقة ذكر أسبوعية في مسجد من المساجد، وكانوا يشاركون في كل حلقة ذكر، وكان في حماه مجلس اسبوعي للصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا هم عماده، وكان للقائمين على الدار دروس منتظمة في بعض المساجد، وكان كل من يرتبط بالدار يرتبط بحلقة علمية، وكان للقائمين على الدار جلسة أسبوعية يجتمع فيها الانشاد والارشاد، وكان أدب الداخلين الى الدار اما أن يكون في ذكر أو مذاكرة، فتجد في كل حين أناسا عاكفين على الذكر بيدهم مسابحهم، يقيمون أورادهم، أو تجد انسانا يسأل وآخر يجيب، وحلقة تتعلم.

كان القائمون على الدار على وعي وعلى حكمة يظهران في كل شيء، فلم تكن تفوتهم حركة مريبة، ولم يكونوا يعجزون عن التصرف بحكمة في اقامة واجباتهم العامة، وكانوا في الوقت نفسه حريصين على ألا يتصرفوا تصرفا يخل بالقانون أو بالنظام، بل كانوا حريصين على ألا يكونوا محل ريبة أو شك أمام أحد، فاستطاعوا أن يشعروا كل انسان أنهم ليس لهم هدف دنيوي، فتاب على أيديهم خلق كثير، وانصهر فيهم أصناف من الناس، وعاد الى الاسلام كثير من أصحاب الاتجاهات المنحرفة فكريا أو سلوكيا. وقد دامت دار الفقراء فترة طويلة من الزمن استغرقت قسما من حياتنا الجامعية وبعد الحياة الجامعية عندما نكون في حماه.

الباب الخامس

من السادسة والعشرين الى التاسعة والعشرين

من السادسة والعشرين الى التاسعة والعشرين
(19611964 م)
التدريس والخدمة العسكرية

كان بين تخرجي من الجامعة وثورة حماة عام 1964 م ثلاث سنين تقريبا قضيتها في التدريس وفي الخدمة العسكرية الالزامية وكانت هذه المرحلة ثرة بعطائها وتجربتها وما جرى فيها. فقد شهدت هذه المرحلة عهد الانفصال كما شهدت انقلاب 8 آذار (مارس) ومحاولة الاطاحة بالبعثيين في تحرك 18 تموز (يوليو)، وشهدت الانتخابات البرلمانية زمن الانفصال وعودة الديمقراطية الى سورية، وشهدت عودة الإخوان المسلمين بشكل غير مرخص لممارسة شيء من نشاطاتهم، ولعل من أهم جوانب الحياة اثارة في سورية الحياة الطلابية والحياة العسكرية، وقد مارست التدريس في هذه المرحلة ودخلت الجيش ولعله من المناسب أن نقف عند هذه الأمور لنأخذ بعض عبرها:

(1)

في السنة اللاحقة لتخرجي من الجامعة أعلن عن مسابقة لانتقاء مدرسي تربية اسلامية فتقدمت لذلك مع عدم حرصي على الوظيفة ولكني فعلت مراعاة للوالد، كان يستوي في أعماق نفسي النجاح فيها وعدمه، وعندما أعلنت النتيجة ظهر اسمي مع الناجحين وكانت هناك اجراءات لا بد منها، منها مقابلة المخابرات في دمشق، وقد دعوت الله عز وجل ألا يتم ذلك لكراهتي لأمثال هذه المقابلات وفعلا قد حدث ما تمنيت. كان ذلك قبيل بدء الانفصال بقليل، عندما حدث نزاع بين عبد الحميد السراج وعبد الحكيم عامر، اعتزل على اثرها السراج فاضطرت أجهزة المخابرات فتأجلت مقابلتي ثم ألغيت، وكان تعييني في محافظة الحسكة فألتحقت بها. وفي طريقي الى الحسكة مررت بحلب فوجدت فيها شابا من رأس العين من تلاميذ الشيخ عبد القادر عيسى جاء الى حلب طلبا للعلم فلما علم أنني متوجه الى الحسكة قرر الرجوع معي ليأخذ العلم مني وكان ذلك. ذهبنا إلى الحسكة ونزلنا عند الأخ (م). ثم سافرنا الى رأس العين ريثما يبدأ التدريس، وأعلن الانفصال ونحن في رأس العين ثم التحقنا بالتدريس وكان عاما دراسيا صعبا وكان مجمل أعمالي فيه: التدريس المدرسي، وخطب الجمعة، والتدريس المسجدي. درست في دار المعلمين وفي ثانوية الحسكة ثم نقلت الى القامشلي على أثر بعض الخطب في المسجد الجامع. فقد ألقيت خطبة تحدثت بها عما بشرت به التوراة والانجيل برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الصوت مسموعا لأهل الحسكة وقسم كبير منهم من النصارى مما جعل رجال الدين النصارى يطالبون بنقلي من الحسكة. وفي الأيام نفسها أرادت ثانوية الحسكة أن تقيم ليلة سمر ذات فقرات منكرة وصاروا يبيعون تذاكرها للناس فألقيت خطبة جمعة حذرت الناس فيها بشكل خفيف من مثل هذا، لكن أحد رواد المسجد حرض الناس على التظاهر احتجاجا بعد الصلاة فخرجت مظاهرة، المهم أنني نقلت بعد ذلك الى القامشلي لأدرس في مدرسة خاصة لآل الخزنوي فكنت أذهب يوميا الى القامشلي وأعود الى الحسكة. وجدت فقراء المسلمين ولا أحد يقوم بشأنهم فحرضت على انشاء جمعية للنهضة الاسلامية على غرار أمثالها في حماه وحلب ودمشق.

كانت علاقاتي طيبة بأكثر من جبهة: بعض رؤساء العشائر، بعض شيوخ الدين، وكنت وقتذاك لم أزل مستغرقا بالحياة الصوفية. وفي جو الغربة وجدت مجموعة من المتاحبين في الله ليس لهم هم الا الدعوة الى الله، وكان مركز تجمع هؤلاء دار الحاج عبد الكريم الشامي رحمه الله وكان المحرك لهؤلاء أحد تلاميذ الشيخ أبي الخير الميداني رحمه الله وهو دمشقي لم أجد مثل صفائه ووده الا قليلا. كنت أتردد على رأس العين بلدة تلميذنا وهي فيما يبدو لي بلدة تصلح لحمل المبادئ. درست الأخ المذكور فقها وتوحيدا وشيئا من اللغة العربية. وحدثت خلال هذه السنة انتخابات، وقد طلب مني الإخوان المسلمون في حماة العمل لدعم قائمتهم وجئت الى حماة، وكان أن ألقيت خطبة شديدة تناولت فيها من يعطون أصواتهم لمن لا يؤمن بدين الدولة الاسلام وكان لذلك أثره، واستطعنا عبر اخواننا ومن نثق به أن نعمق التأييد لمرشحي الإخوان. وفي العطلة الصيفية تابعت مع اخوان الطريق الدعوة الى الله واقامة الحلقات العلمية وعملت على أن تنتقل وظيفتي الى حماة وكان ذلك. وبعد أن نقلت الى محافظة حماة عينت في السلمية مدرسا للتربية الاسلامية، وتدريس التربية الاسلامية في مدارس السلمية له وضع خاص، فالسلمية هي عاصمة الطائفة الاسماعيلية تاريخيا ثم ان في منطقة السلمية قرى نصيرية، والاسماعيليون نوعان فمنهم من يؤمن بآغا خان وأسرته ومنهم من ليس كذلك، فالأولون يعطلون العبادات الاسلامية ويمارسون شعائر خاصة بهم أما الآخرون فيقيمون الشعائر الاسلامية. والأقليات المذهبية والدينية في سورية كانت تتطلع دائما الى نظام علماني، والأحزاب العلمانية كحزب البعث والحزب القومي السوري الاجتماعي والحزب الشيوعي كانت تركز على هذه الأقليات. لذلك كان التدريس الديني في السلمية يعني مواجهة فكر مذهبي وفكر سياسي يقوم على رفض فكرة التدين. ومع هذا فقد كان لمخاطبة العقل ولقوة الحجة ولرقة الحاشية آثارها في تخفيف حدة المواجهة بل لكسب كثيرين لصالح التدين.

(2)

التحقت بالخدمة الاجبارية في 5 كانون ثاني (يناير) 1963، وبقيت فيها حوالي سنة وأربعة أشهر ثم دفعت بدلا وكانت المدة المتبقية ثمانية أشهر تتمة السنتين. قضيت حوالي ستة اشهر في كلية ضباط الاحتياط في حلب ثم فرزت الى فرع السجلات العسكرية في مبنى الأركان القديمة في دمشق. ومن ذكرياتي في كلية ضباط الاحتياط: انني اصطدمت مع المتقدمين أكثر من مرة واصطدمت مع بعض الناس فقد وجدتني في مجتمع ذئاب فتحركت عندي عاطفة التحدي. يوجد في أنظمة الكليات العسكرية نظام المتقدمين، وهو نظام يعطي لأبناء الدورة الأقدم سلطانا على الجهة الأحدث لصالح فرض النظام وتعميقه وتعويد الجدد الأنظمة المرعية في هذه الكليات ويعطونهم حق العقوبات المتعارف عليها عسكريا من عقوبة الزحف والجري وأمثال ذلك. رأيت المتقدمين يصطدمون مع أخينا الشيخ مصطفى الأعسر رحمه الله أثناء الخروج من المطعم وهم مجتمعون عليه فركضت لأحجز بينهم فحاول مسؤول المتقدمين منعي من ذلك فرفعت صوتي عليه وعلى المتقدمين فاحتشد الناس وكان المتدينون كثيرا فانسحب المتقدمون ثم جاء مسؤول المتقدمين ومعه نفر منهم الى مهجعنا وأخذ يتفقد طلاب الضباط حتى وصل إلي فاصطدمت معه فتدخل أحد المتقدمين الحمويين وسحبه من المهجع فشكاني المسؤول الى الضابط المناوب فاستدعاني وكان درزيا فهونت ما حدث وقلت له: ما جرى بيننا وبين فلان كان بداية مودة وما ذلك الا من نوع:

وأول ما قاد المودة بيننا

بوادي بغيض يابثين حجار

وانصرفنا نحن الاثنين ومر الأمر دون مضاعفات، واصطدمت مرة أخرى بالمتقدمين حين فرضوا عقوبة جماعية على مهجعنا فشاركت فيها، حتى اذا تجاوزوا الحدود تمردت وانتهت العقوبة ولم تحدث مضاعفات. وكان أحد مدربينا مدرسا جامعيا ضابط احتياطي نصراني، وكانت سريتنا غير مسلحة وأكثرها ممن تقدم في السن نسبيا ولذلك لم نكن نهتم كثيرا بالنظام المنضم ولا نوجه له كل همنا، وفي ساعة تدريب ونتيجة لبعض التساهلات والمداعبات، وجه لي الضابط كلمة قاسية فقفزت بلا وعي وهددته فانسحب، ولحساسية الأمر لكونه بين شيخ مسلم وضابط نصراني فقد اكتفى بالاعتذار وقد اعتذرت.

مررت مرة على اثنين يختصمان أحدهما شيخ حمصي، وقد سفه الثاني عليه فسبه وسب المشايخ معه، فجئت اليه وقلت له: أنا من المشايخ: فقال أنا لا أقصدك، فدفعته فألقيته أرضا ثم مضيت وكأني لم أفعل شيئا ولم يكن للموضوع مضاعفات. وفي كلية ضباط الاحتياط قررنا أن نقيم صلاة الجمعة فأقمناها أكثر من مرة، وتضايق من ذلك بعض ضباط الكلية فحاولوا منعنا فلم يفلحوا فأعطونا أذنا للصلاة في الخارج، فزاد عدد الراغبين في الصلاة للرغبة بالخروج الى البلد واستمرت صلاة الجمعة. لقد كانت كلية ضباط الاحتياط فرصة تعرفنا بها على عدد كبير من الناس وكانت فرصة للدعوة وأن أنس فلا أنسى كثرة الصائمين في رمضان مما يدل على أصالة شعبنا وقربه من الاسلام لو وجد قادة ودعاة وحرية. حدث انقلاب الثامن من آذار (مارس) ونحن في الكلية واعتقل بعض الضباط، وتمت مباحثات الوحدة بعد ذلك في القاهرة وأعلن عن ميثاق الوحدة الثلاثية بين سورية والعراق ومصر وكانت فرصة كبيرة هتف فيها المتدينون بهتافات الفرح فلقد كان التقدير العام أن الوحدة لصالح الإسلام. وخزيت جهات كثيرة بسبب ذلك وشعر الوحدويون وكلهم سنيون أن النفس الحقيقي للمتدينين نفس وحدوى فكان ذلك عاملا من عوامل تعاطفهم معنا. وخلال وجودي في كلية ضباط الاحتياط تيقنت أنه لا بد من المشاركة في العمل الاسلامي العام وأن الطريق اليه هو الاستغراق في العمل مع الإخوان المسلمين. وأخيرا فرزت الى السجلات العسكرية فأصبحت في دمشق، وكان وقتي مقسما بين السجلات والعمل مع طلاب الجامعة الحمويين وفي هذه المرحلة تقدمت الى الإخوان المسلمين بوجهة نظري حول النظرية الثقافية والتربوية التي يجب أن يقوم عليها صرح البناء العلمي والروحي للإخوان، وقد رفع ذلك باسم مركز حماة، ولقيت النظرية قبولا واجماعا وكلفت أن أضعها موضع التنفيذ وكان من آثار ذلك أكثر ما كتبته فيما بعد، عكفت على الكتابة وعلى توجيه الاخوة الحمويين ولقد تنامى عدد الطلاب الحمويين في جامعة دمشق، وجدت بينهم روح جديدة. وما عدا العمل مع طلبة حماة في الجامعة والكتابة فقد كانت حياتي عادية، كان عصام العطار يحاول اعادة بناء الجماعة وكان يخطب خطبا نارية في مسجد دمشق وكان البعثيون متمكنين وكانوا يهزأون من مثل هذه الخطب وكان هذا عاملا من عوامل تحركنا في حماة فيما بعد. بعد سنة وأربعة أشهر من الخدمة الاجبارية خرج قانون يبيح لطلاب الضباط غير المسلحين من دورتنا أن يدفعوا بدلا فدفعت وسرحت واستقبلت حياتي المدنية بخطبة في مسجد جامعة دمشق، تحدثت بها عن الآفاق الرحيبة التي ينطوي عليها تطبيق الاسلام، ودعوت الى وحدة العمل الاسلامي، وأثناء خدمتي في السجلات العسكرية قامت محاولة 18 تموز (يوليو) الفاشلة واعتقل على أثرها بعض العاملين معنا في السجلات.

وحدث أن آل اليّ أمر رئاسة القسم الذي أعمل فيه وكان العمل متراكما، فأحصيت انتاج الفرد يوميا ثم حسبت البطاقات المتراكمة، وقدرت العدد اللازم والأيام اللازمة لازالة التراكم وحدثت بذلك الضابط المسؤول عن السجلات العسكرية وطلبت أن يتسلم غيري الادارة فكان ذلك كله وأنهينا التراكمات. كان في القسم شيخ صالح من دوما وكان عمله خطاطا وكان حلو الحديث فكها، وكان فيما بين أفراد القسم حسن علاقة ومودة، وكان رئيس القسم دمشقيا من الميدان وكانت زوجته حموية وكان يعتز بهذا الزواج وكان جونا أقرب ما يكون الى الأسرة الواحدة لذلك لم نكن نحس بالزمن. كان المسؤول عن السجلات العسكرية العقيد كمال الدين مقصوصة وهو دمشقي من الميدان وكان متدينا رقيق الحاشية وكان يعتبر من أكفأ العسكريين الاداريين في سورية، ولقد تغيبت مرة عن الدوام دون اجازة بسبب بعض اللقاءات الإخوانية فاستدعاني وعاتبني برفق ولم يتخذ أي اجراء ولقد آل اليه بعد ذلك أمر التجنيد في سورية عام 1967 وقد اغتيل ايامها، كما شاع وقتذاك وادعى أنه انتحر ولم يكن الرجل لينتحر وهو متدين ولكن هكذا زعموا وقيل: ان السبب في قتله أنه رفض أمرا غير معقول فقد كلف أن يستدعى من المجندين المسرحين أبناء المدن فقط فاعتذر بأن هذا مستحيل فعوقب بالقتل وادعوا أنه انتحر وخرجوا بجنازته. لقد كان الاغتيال السياسي والقرارات الحاقدة جزأين رئيسين من السياسات التي حكمت سورية منذ تلك المرحلة. خطبت فتاة دمشقية بواسطة أخينا ولم أتابع الأمر بسبب سفر الأخ والتحاقه بعمله المدرسي. وأخيرا خطبت أم محمد بواسطة الشيخ مصطفى الأعسر رحمه الله وتمت الموافقة ثم جاءت أحداث حماة العاصفة ولم يتم الزواج الا بعد أن عدت الى سورية وعادت الأمور طبيعية. وأنني أحب ههنا أن أسجل بعض ملاحظاتي حول تجربتي ومشاهداتي في هذه المرحلة:

الملاحظة الأولى:

أن النجاح الحق في التدريس يقتضي عددا من الأمور:

أولاً: أن يحضر المدرس درسه تحضيرا جيدا ولا يعتمد على محفوظاته فقط بل لا بد من التحضير الجيد ورسم مخطط لكل درس.

ثانيا: يجب أن يشعر الطالب أن عين المدرس لا تغيب عنه فمتى غابت عين المدرس عن طالب فان ذلك قد يحدث خللا.

ثالثا: أن العلاقة الأبوية الحانية والايناس المستمر للطلاب وشعور كل طالب بالحب والحنان وكل ذلك مع الحزم والعدل عوامل لا بد منها لنجاح المدرس الداعية.

رابعاً: أن العلاقة الطيبة مع آباء الطلاب وأهليهم عامل مساعد في نجاح الطالب وفي تحسين سلوكه.


الملاحظة الثانية:

ان الحياة الانتخابية في العالم الثالث لا قيمة لها اذا لم تكن مدعومة بالجيش والشعب بآن واحد، وان سورية تحتاج الى حياة نيابية يحميها الجيش والشعب وهذا لن يتم لسورية الا اذا وجد دستور وميثاق وقانون انتخابي ذا مواصفات وشروط اذا ما أردنا أن تشكل سورية المستقبل نموذجا رفيعا مستقرا.

الملاحظة الثالثة:

اول ظاهرة تلفت نظر المعايش للجيش العربي السوري كثرة السباب والشتائم لله والأديان حتى لتكاد هذه أن تكون وسيلة السيطرة للأعلى على الأدنى، ووسيلة المؤانسة بين المتماثلين، ولقد اعتاد على ذلك الجميع، وكأن التدين في الجيش ظاهرة فردية ومحدودة، حتى أنه أصبح من المعتاد اذا دخل المتدين الجيش أن يترك دينه الا من رحم ربي. وكان من المستغرب في طبقات الضباط أن يذكر الانسان الله باحترام واجلال، واذا حدث أن توسعت دائرة المتديني في صفوف الضباط فان التسريحات تطالهم بسرعةن فلا يبقى متدين في الجيش الا من لا شوكة له، وقد حدث أن صفى بعض الضباط زميلا لهم لأنه متدين فأردوه قتيلا، ولهذا الوضع جذور عميقة، فقد ورثت سورية الجيش الذي كونته فرنسا ليأتمر بأمرها وليكون ولاؤه لها، وكانت تنتقي لهذا الجيش من صفوف الأقليات أو تتخير العناصر الفاسدة التي فقدت عواطفها الخيرة وتعاطفها مع الناس وتعاطف الناس معها أو من تختارهم لأسباب خفية كأن كانت أصولهم جواسيس مثلا وقد تدخل بعض العناصر النظيفة ذرا للرماد في العيون وتجعلهم تحت الرقابة أو السيطرة المباشرة أو في زوايا ميتة. وكان بعض هؤلاء يدينون لفرنسا بنوع من الولاء عجيب، حتى أن بعض هؤلاء التحقوا بالجيش الفرنسي بعد الاستقلال وبقوا فيه ستة أشهر ثم عادوا الى الجيش السوري وهم الذين يسمون بأصحاب البطاقات الحمراء، ولقد مرت علي في السجلات العسكرية بطاقة واحد من هؤلاء وقد كتب عليها أربعة أسطر بالحبر الأحمر تذكر أن هذا الذي فضل خدمة المستعمر على خدمة بلاده، ومن العجيب أن هذا الجندي كان قد سرح لكنه استدعى بعد انقلاب الثامن من آذار (مارس) ليخدم في الكتيبة المكلفة بحماية مبنى الأركان، وكان ذلك مؤشرا على المستقبل.

كان المفروض أن يحل الجيش السوري بعد الاستقلال وأن يعاد تشكيله من جديد على أسس سليمة ونظرية واضحة المعالم، وبلغني أن شكري القوتلي أول رئيس لسورية بعد الاستقلال قد نصح بذلك لكنه رفض، ومن ههنا تبدأ مأساة سورية. فسورية بلد شديد التعقيد من الناحية الدينية والمذهبية والتاريخية والحضارية ولشعبه نفسية خاصة فأكثر أبنائه طموحون للحكم أو للمشاركة فيه والسوري يستشعر أن عنده قدرات ابداعية والتطلعات الى الجديد عميقة والحرص على الجذور، والتدين كامن في أعماق النفوس وهو أظهر منه في أقطار أخرى، ثم ابتليت سورية بالحركة الصهيونية وبالتيارات العالمية وهذا وأمثاله كان يقتضي من القائمين على أمر سورية بعد الاستقلال أن يوجدوا الاطار النظري المناسب لهذه الأوضاع المعقدة ولكن ذلك كله لم يحدث فدخلت سورية مرحلة الانقلابات ودخلت في اطار الديكتاتوريات: دكتاتورية الفرد ودكتاتورية الحزب، وكان الجيش يلعب الدور الأكبر ان لم يكن الوحيد في كل ما يجري. ونتيجة لتدخل الجيش السوري في السياسة فقد أعطى هذا المبرر للجهات المتعاقبة للتصفيات مما أحدث خللا في التوازن الطائفي في الجيش فأوصل الطائفة النصيرية الى الحكم في المآل. لقد كان الجيش السوري مرشحا لأن يكون أقوى الجيوش، وكان الاقتصاد السوري مؤهلا لأن يكون أقوى اقتصاد ولكن قضى على هذا كله عدم وجود النظرية السياسية التي يرتاح لها الجميع وعدم وجود الاستشراف على أوضاع البلد والمنطقة والعالم وعدم وجود الكفاءة في الحياة الحزبية وفي الحاكمين هذا مع ما في الخفايا من بلايا كالارتباطات الخارجية والتآمر المحلي والعالمي. هذه المعاني أوصلتني الى قناعات:

ان العمل السياسي في سورية ينبغي أن ينبثق عن عمل حزبي مستكمل لشروط العمل السياسي الذي يستوعب وضع سورية الديني والنفسي والاجتماعي والحضاري والمحلي والعربي والاسلامي والعالمي عبر التزام جميع العاملين بالاسلام دينا للدولة.

وأن يعاد ترتيب الجيش بحيث يكون سندا وشريكا.

وأن توجد نظرية انتخابية يستشعر معها الشعب أن من انتخبهم يعتبرون ممثليه الحقيقيين وهذا يوصلنا الى ملاحظة رابعة.

الملاحظة الرابعة:

تظهر في تاريخ سورية الحديث ظاهرة الانقلاب بعد كل تجربة برلمانية ويلاحظ أن عامة الشعب السوري تستقبل الانقلاب باتبهاج لأن التجربة الانتخابية لم تجعل الشعب يحس أن النظام الذي وجد عقب الانتخاب نظامه، وذلك لأن بعض الانتخابات جرى فيها تزوير وبعض الانتخابات كانت تقذف الى المجالس النيابية بغير المتمرسين في الحكم وبغير المؤهلين له، وبعض الانتخابات كان نتائجها لا تمثل الاجيال الصاعدة المثقفة، وبعض الانتخابات لم تكن ترضي الجيش وبعضها لم يكن يرضي المتدينين، وكان من صورها الواضحة أن تتحكم الأقلية في الأكثرية فاذا ما اتفقت أقلية دينية أن ترجح جانب مرشح يمثلها فانها كانت تستطيع أن تنجح من لا يمثل الأكثرية وهذا كله جعلني مقتنعا أنه لا بد من قانون انتخابي جديد لسورية المستقبل. لقد أعطت حماة في انتخابات الانفصال للقائمة التي نزل بها الإخوان المسلمون أكثرية الأصوات لكن جاءت نتائج منطقة الريف التي فيها أصوات نصيرية ونصرانية فرجحت قائمة أكرم الحوراني. وفي حلب كاد أن يسقط الذين أخذوا أكثر من ثمانية عشر ألفا من أصوات المسلمين لصالح الذين أخذوا خمسة آلاف صوت من المسلمين ودعمهم نصارى حلب. كانت أجود تجربة انتخابية هي التجربة التي تمت في زمن الوحدة اذ قسمت سورية الى وحدات صغيرة حتى البلد الواحدة قسمت الى وحدات صغيرة فكانت النتيجة أن كانت النتائج متوازنة ولكن اعطاء عبد الناصر لنفسه حق الاختيار من بين الناجحين – لأن الانتخاب كان على درجتين – أوجد وضعا جديدا. المهم أن تجربة الحياة النيابية زمن الانفصال جعلت عندي قناعات ثابتة بضرورة الحياة النيابية من جهة وبضرورة أن يكون ذلك على ضوء نظرية مناسبة في سورية. انني أميل الى فكرة الانتخاب على أساس البرنامج الحزبي وعلى اساس اعطاء الصوت للحزب أو على أساس الدائرة الانتخابية الضيقة.

الملاحظة الخامسة:

لقد أصبحت عندي قناعة كاملة أنه بلا تربية روحية على ضوء علم صحيح وبيئة نظيفة فان الشخصية الاسلامية لا تنمو نموا سليما وبالتالي فان المجتمع الاسلامي المنشود سيبقى أملا، ولا يصلح آخر هذا الأمر الا بما صلح به أوله، فقد بدأت الدعوة بهذه ولا بد من هذه الأجواء لتنطلق انطلاقة صحيحة وكان الأمل أن يتبنى الإخوان المسلمون انشاء هذه الأجواء وتلك طبيعة الدعوة على منهاج الأستاذ البنا لكن الأجواء الأخرى كانت تغلب هذه التوجهات، وكان لذلك أثره في توجهي نحو انشاء حركة احياء الربانية كمكمل للعمل الاسلامي القائم لا كبديل. ولنعد الى سرد الأحداث، فبعد أن سرحت من الحياة العسكرية عدت الى التدريس في السلمية ولم تمض الا أيام وقامت ثورة حماة سنة 1964. ومن ذكريات التدريس في هذه الأيام القلائل، أنني عينت في ثانوية السلمية للبنات، وكان ذلك مقصودا، وكما ذكرنا فان السلمية عاصمة الطائفة الاسماعيلية والحزبية العلمانية فيها قوية، ولذلك لم يكونوا رجالا ونساء يرغبون في درس الدين، وقد اعتادت بنات الثانوية أن يستقبلن مدرس التربية الاسلامية بأصوات مرتفعة وضجيج صاخب وقد جرت عادتي في التدريس أن ألبس عمامة وجبة، وكان جسمي ضخما كما هو معروف وكان بعض أهل السلمية يشبهونني ببعض الأئمة. المهم أنني كنت أتهيب الدخول الأول الى ثانوية البنات بسبب ما ذكرت ومع ذلك دون مقدمات فلم أسمع الأصوات المعتادة ثم علمت فيما بعد أن فتاة قد أغمي عليها وشغل البنات بها، وعلل لذلك أنها أغمي عليها عندما رأتني وأعتقد أن الأمر ليس كذلك ولكن الله عز و جل أعان، وكان تدريسي في اليوم الأول كافيا بفضل الله لأن يوجد جوا من الهيبة والاحترام، انتهت به تلك العادة السيئة ولكن الأيام لم تطل فقامت أحداث حماة (1964).

(3)

حيثما وجدت حياة انتخابية حرة في سورية فان الإسلام بخير لأن التدين الأصيل في سورية يفرض نفسه على المرسحين جميعا والناجحين في النتيجة أما متدين أو مضطر لمراعاة التدين وتجربة الانتخابات زمن الوحدة كافية كمؤشر، فاذا ما وجد قانون انتخابي يمثل فئات الشعب تمثيلا صحيحا ووجد شعب وجيش يحمي الحياة النيابية فذلك هو الوضع الأمثل للاسلام وللشعب السوري، والحماية المطلوبة من الشعب أن يعلن المقاومة السلبية من اضرابات وغيره اذا مست الحياة النيابية واذا لم تنجح هذه الأساليب فعليه أن يعلن الثورة فهذا وحده يردع عن المس بالحياة النيابية وأما حماية الجيش فبأن تكون عبر حماية الدستور والتدخل اذا مس الدستور بحكم المحكمة الدستورية العليا. ان الحياة النيابية الحزبية هي التي تنضج البرامج السياسية وهي التي تنضج الوعي السياسي للمواطنين وهي التي تخرج القادة السياسيين الحقيقيين، وبلد كسورية لا بد أن يراعي في حياته النيابية أنه بلد مهدد بالحرب وبالتالي لا بد من صيغ أمنية وعملية تحمي قرارات الساسة من الخطأ. ولقد دخل الاسلاميون في سورية تجارب انتخابية متعددة تحتاج الى دراسة واستخراج عبر، كما أن لهم ممارسة نيابية تحتاج الى دراسة واستخلاص نتائج، لقد دخلوا الانتخابات أحيانا ببعض الأسماء مجتمعة ومنفردة دون أن يشكلوا قوائم كاملة ودون تحالفات فأعطوا فرصا لغيرهم، ودخلوا أحيانا في تحالفات وقوائم متفق عليها تضمهم وتضم غيرهم كما حدث في حماة اذ قامت لجنة تمثل كل القوى المقابلة لأكرم الحوراني ونزل الإخوان مع غيرهم في قائمة واحدة ضمت أحد النصارى وربحوا الجولة داخل المدينة وخسروها خارج المدينة، كما شاركوا في وزارات، وهذا يثري التجربة الاسلامية لكن ذلك كله يجب أن يدخل في دائرة الدراسة والمدارسة للوصول الى وضع أمثل للتحرك الاسلامي في سورية وبالتالي الوصول الى وضع أمثل في سورية تكون الحياة النيابية جزءا منه ويرتاح فيه المواطنون وتكون السياسة السورية الخارجية فيه على منتهى الحكمة وتكون فيه سورية في غاية القوة ويبقى القرار السوري بيد أمينة وحازمة ومستوعبة أوضاع الداخل والخارج، وتلعب فيه سورية دور المنسق للسياسة العربية والاسلامية بانية علاقات حميمة مع كل الحكومات العربية والاسلامية.

(4)

كانت أكثر القوى الفاعلة في سورية ساخطة على الانفصال: الجيش والطلاب والموظفون والمثقفون وكانت السلطة التي آل اليها أمر الحكم ضعيفة، وكان من أوائل مظاهر الضعف أنها لم تستطع أن تعبئ القوى المؤمنة بالحياة النيابية في معسكر واحد، ولما أحس الجميع بضعفها كثر الراغبون في انهائها وايجاد وضع بديل، ولقد حاول بعض المتديني في الجيش أن يفعلوا شيئا ففشلوا، وتلاهم البعثيون والناصريون وبعض الطامحين فقاموا بحركة انقلابية في 8 آذار (مارس)، و كان البعثيون هم الجهة الأقدر على المبادرة والتخطيط فصفوا شركاءهم جميعا وانفردوا بحكم سورية وكان الرد الأول هو محاولة الناصريين أن يقوموا بانقلاب وكان ذلك في 18 تموز (يوليو) لكن الحركة فشلت في ساعاتها الأولى وكان لفشلها أسباب كثيرة. منها أنهم علقوا كل شيء على احتلال الأركان والاذاعة بدلا من أن يتحركوا على كل صعيد فيستولوا على القطاعات العسكرية حيث أمكنهم ذلك فاذا فشلت حملة الاذاعة تحركوا من كل مكان نحو دمشق، المهم أن الحركة فشلت، ولقد كانت أقوى رد فعل ضد استلام البعث السلطة وكان التحرك الشعبي الذي يعتبر رد الفعل الثاني هو تحرك حماة (1964).

(فصل) في القوى التي أقامت انقلاب 8 آذار (مارس) والقوى التي استثمرته

كان الانفصال صدمة عنيفة لمشاعر كثيرة من الشعب السوري، فالروح الوحدوية عميقة في سورية والتطلّعات الوحدويّة تصل إلى حدّ المبادئ ولذلك فان الانفصال مع أنه أعاد الديمقراطية الى سورية وأفرز الى سدة الحكم كفاءات سياسية مشهورة لم يكن قويا لأن المثقفين عامة منهم الموظفون وقطاعا كبيرا من الجيش والطلاب وعامة السنيين كانوا يتطلعون الى الوحدة، وأدرك حزب البعث بزعامة ميشيل عفلق هذه الحقيقة، فتبنى فكرة العودة الى الوحدة، وكان تركيب حزب البعث طائفيا الى حد كبير، فأعطى هذا للتطلعات الوحدوية زخما كبيرا، ووجد أناس طامحون شعروا أن النظام ضعيف فقرروا وراثته، ومن الثابت أن قوى خارجية كانت مقتنعة بتغيير النظام، فاجتمع هذا كله فقام انقلاب 8 آذار (مارس) وبدأت تصفيات في الجيش وادخال قوى بعثية كثيرة الى الجيش، وتمكن النصيريون من المرحلة الأولى أن يتحكموا بالجيش الى حد كبير، وبدأت مفاوضات وحدوية، في الظاهر مع عبد الناصر، اثبثق عنها ميثاق 17 نيسان (أبريل) الذي يعلن الوحدة بين مصر وسورية والعراق، لو أن هذا الميثاق نفذ لتغير تاريخ المنطقة، ولكن هناك من أراد أن يجعله صورة، فبدأ الخلاف الشديد بين عبد الناصر والبعثيين وترتب عليه أن حاول الناصريون القيام بانقلاب في 18 تموز (يوليو) ففشلوا، وصفي الوضع لصالح البعثيين فقط، وهذا يعني أنه قد صفي الوضع لصالح الأقليات في سورية، فالحزب كان يقوم في الغالب على الأقليات. وبدأ الصراع الداخلي في الحزب والحكم فصفيت القوى النصيرية، وأدى هذا في النهاية الى أن تحكم سورية من قبل الطائفة النصيرية تحت واجهة حزب البعث والجبهة الوطنية، واستطاعت الطائفة أن توجد تعاقدات وتحالفات وأجهزة واستطاعت بذلك كله أن تتمكن من حكم سورية حتى كتابة هذه السطور. والسؤال الكبير الآن هل تفكر الطائفة النصيرية أن تبقى مسيطرة على سورية الى الأبد، وهذا مستحيل، أو أنها تفتش عن حل معقول، وتعايش معقول بين أبناء الشعب السوري كله، اننا لا زلنا نأمل أن يحكم التعقل في المستقبل أبناء الطائفة النصيرية.

(فصل) في تطور العمل الاسلامي في هذه المرحلة

أصبح العمل الاسلامي في سورية ناميا وبارزا وهو وان لم يشكل أهله تنظيما واحدا، لكن المثقفين منهم كانوا يصلون الى الايمان بفكر حسن البنا، فأصبح فكر حسن البنا قاسما مشتركا بين المثقفين الاسلاميين لا يكاد يعترض عليه أحد. ومن ههنا أصبح التيار الاسلامي يشكل قوة كبيرة على كل مستوى، كان المفترض أن يرث الاسلاميون عهد الانفصال، وكان بامكانهم ذلك لكن الاسلاميين ساروا على سياسة "أوسعتهم سبا وأودوا بالابل"، وغيرهم سار على سياسة "تمسكن حتى تمكن". ان ضعف التخطيط وضعف المبادرة كانا مؤثرين في ان سارت سورية بعيدا عن الاسلام والاسلاميين ففاتت بذلك فرصة من أعظم الفرص. لو أنك تأملت الساحة الاسلامية لوجدت كثرة العاملين فالإخوان المسلمون بتنظيمهم الذي يشمل مدنيين وعسكريين وعمالا وموظفين وطلابا وخريجين ذكوراً واناثاً، وحزب التحرير يعمل على ضعف وشغب، والاتجاه السلفي يعمل بقوة ودأب، والصوفيون يعملون وهم متغلغلون في جسد الشعب السوري، فحيثما توجهت وجدت عملا صوفيا، وقد يكون يرتبط به عشرات الآلاف من المريدين، والعلماء الفقهاء يعملون، وكنموذج على عملهم عمل الشيخ عبد الكريم الرفاعي، بل انه وجد عمل نسائي عظيم، وكان أبرزه في الساحة السورية عمل الآنسة منيرة القبيسي فقد استطاعت أن توصل الاسلام الى الآف من النساء واستطاعت أن تقيم ترتيبا نسائيا هائلا، ولولا أن الحرية قد هدمت في سورية لكان لعملها شأن عظيم. ومن المظاهر الواضحة لقوة الاسلام في سورية أنك أصبحت ترى كثرة الاسلاميين في الجامعات وكثرة المصلين من العسكريين، ولكن ضعف بنية التنظيم في الداخل، وقوة التآمر في الخارج والسنين الخداعة حالت دون أن يرث الاسلاميون عهد الانفصال.

(فصل) في ثورة حماة 1964

كان جو حماة ملتهبا عام 1964 لأسباب كثيرة أهمها أن كل أهلها كانوا ضد النظام الذي كان قائما. سياسيين ومتدينين عامة ومثقفين، فالناصريون ضربوا في 18 تموز (يوليو) وكان لهم ثأر، أكرم الحوراني وجماعته كانوا مبعدين ومضطهدين، والمتدينون يعتبرون النظام موغلا في العلمانية. وبدأت صحف السلطة تتكلم كلاما مثيرا فقد نشر زكي الارسوزي في مجلة الجيش والشعب كلاما تحدث فيه عن قصة آدم في القرآن فسماها أسطورة، وتحدث عن الجاهلية على أنها أرفع مظهر للنفسية العربية. ودندن بعض وزراء النظام حول الغاء الأوقاف والغاء مادة التربية الاسلامية. وبدأ طلاب النظام يتحرشون بمدرسي التربية الاسلامية ويتحدثون عن القرآن أنه شعوبي واعتدى على أكثر من مدرس. ثم اعتدى على الشيخ عبد الكريم الرفاعي من قبل رئيس مخفر غير مسلم في دمشق. ونقل مدرسا تربية اسلامية من حماة نقلا تعسفيا. وحدث أن طالبا كتب على جدار عبارات ضد رجالات الحزب الحاكم فحكم عليه بالسجن سنة. وجاء رمضان ذلك العام، وأقبل الناس على حلقات المساجد اقبالا شديدا وكانت الدروس تلتهب حماسا، كل ذلك جعل المدينة بركانا يغلي وأمام هذا الوضع فقد عرض أمر حماة على قيادة الإخوان المسلمين في سورية فأعطت اذنا محليا لاخوان حماة أن يتصرفوا. نقول هذا لأن بعض الإخوان أنكر أن يكون للجماعة دخل بما حدث في حماة وقد شهد بعد سنين على هذا الاذن: الأخ سليمان الرز من اخواننا في حلب، وهكذا قررنا أن نتحرك في حماة.

اشار الشيخ محمد الحامد على المدرسين المنقولين من حماة أن يلتحقا بمقر العمل الجديد فوافقا، وكانت رغبته رحمه الله تسكين الأمور، لكن الجو كان متوترا وخاصة في صفوف الطلاب، ولذلك قررنا اضرابا طلابيا شاملا وعممنا على اخواننا أن يضربوا ويتفرقوا مباشرة وفعلا فقد تم الاضراب نجاح كامل في كل مدارس حماة ونفذ الإخوان الأمر، لكن الشرطة وقوى الأمن حاولت أن تعتقل بعض الاخوة من ثانوية عثمان الحوراني فتجمع الطلاب نتيجة لذلك، وكان المسئول عن ثانوية عثمان الحوراني هو الأخ مروان حديد رحمه الله، وتجمهر الناس حول الطلاب فنزلت مظاهرة، وكان محافظ حماة وقتذاك هو عبد الحليم خدام الذي أمر بانزال الجيش، نزل الجيش وهو يهتف هتافات كفرية معادية للاسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه احدى الظواهر التي جاء بها الحزب الحاكم الى سورية، فألهبت المشاعر ضده، وأطلق الجيش النار على أحد المواطنين من آل الجواد فاستشهد، وفي هذا الجو الملتهب أمر محافظ حماة باغلاق المدينة التي كانت مهيأة للاضراب الشامل فبدأ اضراب حماة الذي استمر وقتذاك تسعة وعشرين يوما. توجه بعض شبابنا وعلى رأسهم مروان حديد رحمه الله الى مسجد السلطان واعتصموا به، هناك نظموا القاء الكلمات النارية وبدأ أهل حماة يتوافدون ويتقاطرون على المسجد، وكانت أحاديث شاملة عن الوضع، عن كفره وعن محاولاته لالغاء مادة التربية الاسلامية وعن توجهات النظام، والشعب يزداد اشتعالا وههنا طلب محافظ حماة من أعيان البلد أن يجتمعوا ليخلصوا الى حل فتم اجتماع الناس في جامع الشيخ زين بحي الشمالية في الحاضر بالقرب من بيت عثمان الأمين رحمه الله. وكنت خلال ذلك أداوم على التدريس في السلمية، التي عدت الى التدريس فيها بعد خروجي من الجيش، والتي لم تغلق أبوابها مع حماة وكنت أرجع يوميا الى حماة بعد الدوام المدرسي. اعتقلت السلطة الشيخ عبد الله الحلاق والشيخ سعد مراد وبدأت تساوم العلماء عليهما وأخيرا ضغطت على العلماء أن يصدروا بيانا يطالبون به البلد بأن تفتح أبوابها في مقابل أن يطلق سراح الشيخين وفيما بين الخوف والرجاء أصدر العلماء بيانا لكن الشعب رفض البيان بعد جهود بذلت مع الناس وأطلق سراح الشيخين وفي اليوم نفسه أصدرت السلطة بيانا تحذر فيه الناس من فئة تستغل الدين وكان واضحا من مجموع الاجراءات أن السلطة تريد عزل الإخوان لتبطش بهم وكان علينا أن نبقي الشعب متعاونا معنا اذا ما أردنا تفويت الفرصة على السلطة كان هذا هو الموقف يوم جرى اجتماع مسجد الشيخ زين في حي الشمالية والذي مجرياته على الشكل التالي:

اجتمع عدد من الناس في بيت عثمان الأمين رحمه الله وتباحثوا في من يلقي الكلمة في المجتمعين وأخيرا اتفق على أن ألقي الكلمة. كان وضع الإخوان المسلمين في خطر، وكان اخواننا المعتصمون في مسجد السلطان في خطر وكان الحل الوحيد لرفع الخطر هو أن تبقى المدينة كلها متلاحمة معنا، والا فان ضربة شاملة للإخوان ستكون وستعلق رقاب الكثيرين من اخواننا. لذلك طرحت في خطبتي على المجتمعين فكرة حلف الفضول بين أبناء حماة جميعا وأن أي اعتداء على أي فرد مهما كان اتجاهه السياسي أو الديني يجب أن تقف منه المدينة موقفا موحدا ودعوت أن يختار كل حي عددا من أبنائه لتنظيم التموين فيما لو اضطررنا الى استمرار الاضراب. وفعلا فقد تم عقد اجتماع ضم ممثلي الاحياء في غرفة المسجد الواسعة، وهناك اتفقنا على أن تطوف لجنة منتخبة من الحاضرين واختاروا أن أكون على رأسها لنقابل زعماء الاتجاهات السياسية في البلد من أمثال رئيف الملقى وجماعة أكرم الحوراني، واتفق على أن نلتقي في اليوم التالي في بيت آل الشيخ خالد في السوق، وانفض الاجتماع على ذلك، ونمت ليلتها في منزل عثمان الأمين رحمه الله. كانت المدينة كلها قلبا واحدا مجمعة على الاضراب وكان ريف حماة متعاطفا معها يمدها بالخبز، ولما أحس الريف أن هناك احتمالا لمواجهة بدأ يمد المدينة بما يتيسر من ذخيرة أو سلاح على قلة في ذلك. لم يكن في البلد سلاح أو ذخيرة الا السلاح والذخيرة اللذين يحتفظ بهما بعض الحمويين اذا اضطروا للاشتباك مع بعضهم وما أكثر صراعاتهم، لذلك لم تكن البلد مؤهلة لخوض معركة ومع ذلك فقد بدأت المعركة في اليوم التالي. أرسلنا في ليلتنا هذه أكثر من وفد لأكثر من جهة ليعلم الناس وضعنا، كنا حريصين على ألا تكون هناك معركة مواجهة، بل كان أملنا أن نستطيع الاستمرار في الاضراب لعله تلحق بنا بقية المدن السورية فتنهي النظام من خلال الاضراب لكن السلطة أحست بخطورة هذا الأمر فقررت المواجهة وكان الشعب مهيئا للصدام فكانت أحداث الصراع. نمت كما قلت في بيت عثمان الأمين رحمه الله الذي أصبح في اليوم التالي وكأنه في غرفة عمليات. جاءتنا أخبار الصباح أن بعض الناس قطعوا الطريق ما بين دمشق وحلب غضب لذلك عثمان الأمين لأنه يريد الطريق مفتوحا حتى تصل أخبارنا الى المدن الأخرى ولتبقى بيننا وبين المدن الأخرى وسائل اتصال وحاول أن يفتح الطريق لكن الأمور تلاحقت فقد نزل الجيش وأطلق النار ورد الناس بالمثل واشتعلت المدينة وجاءت السلطة الى حماة. كان عظم المعركة حول مسجد السلطان وفي الحاضر، وقد أمر باطلاق نيران المدفعية على المسجد فهدم مئذنته وبعض قبابه، ودافع المحاصرون دفاعا شديدا، ولكن الذخيرة نفذت وتم اقتحام المسجد. وفي نشرة أخبار دمشق الساعة الثانية والربع ظهراً أعلن راديو دمشق عن الأحداث، متهما القائمين عليها معلنا مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لعدد من الناس مهددا كل من يتعاون معهم وكان اسمي من بين هذه الأسماء. كانت الاذاعة الخارجية الوحيدة التي اهتمت بالأحداث هي اذاعة العراق. ولذلك وأمام نقص الذخيرة كلفنا أحد الناس أن يذهب الى العراق فلعله يستطيع أن يأتي بمدد من السلاح والذخيرة ولكن تبين فيما بعد أنه لم يسافر، كان عثمان الأمين من الرجال الذين تجتمع عندهم الشجاعة والكبرياء والشموخ والعزة وكان يرى أن الانسحاب وعدم المواجهة نوع من الجبن والفرار ولذلك كان يصر على البقاء في بيته، وكنت في وضع لا أمثل فيه نفسي فقط بل أمثل جماعة الإخوان المسلمين فأحببت ألا أتصرف أي تصرف يمس بكرامة الإخوان المسلمين ولذلك أظهرت استعدادا للبقاء في البيت حتى آخر لحظة منتظرا الاستشهاد في سبيل الله عز وجل وشعرت بفضل الله عز وجل بنوع من الصفاء العجيب. اتفقنا على أن نتناوب السهر، وطلب الأخ عثمان رحمه الله مني أن أكون أول النائمين، ذهبت الى غرفة النوم فنمت وبعد قليل أيقظني عثمان الأمين وهارون خطاب وحاج أحمد الأمين رحمهم الله ولا أتذكر من كان معهم. أطلعوني على الوضع وطلبوا رأيي فقلت لهم:

ان استمرار الصراع المسلح لصالح السلطة، والناس لم تبق معهم ذخائر، والمهم أن يستمر الاضراب وبقاؤنا هنا ليس خطرا على حياتنا فقط بل هو خطر على الحي جميعه، اننا اذا انسحبنا من ههنا يستطيع كل فرد شارك في المعركة أن يلقي سلاحه متى انتهت ذخيرته ثم ينصرف، أما اذا بقينا فقد يجد بعض الناس أنهم ملزمون أن يربطوا مصيرهم بمصيرنا فتكون كارثة على الجميع، فالرأي عندي أن ننسحب الى بيت آخر نختبئ فيه ومن هناك نتابع الأمور، ولم يكن هناك رأي آخر فقررنا جميعا الانسحاب وانسحبنا الى بيت أحد الثقات تحت جنح الليل.

وفي اليوم الثاني للمعركة أرسلت قوات مدرعة هائلة الى المدينة تمركزت في نقاط التقاطع وفي الشوارع الرئيسية وفي أطراف المدينة وكانت بعض هذه القطع قريبة جداً من البيت الذي نحن فيه. وقد دعا أمين الحافظ رؤساء البلد لاجتماع عام واتفق معهم على أن تهدأ المدينة أسبوعا يتم خلاله مفاوضات بين نظام الحكم والشعب لدراسة المطالب العادلة واقرارها وكان على رأس المفاوضين شيخنا الشيخ محمد الحامد ولما بلغنا الخبر خرجنا من مخبئنا وعدنا الى الظهور واجتمعنا مع الناس وتذاكرنا مع الخلص عما ينبغي فعله فكان الرأي أن نسافر الى العراق مستغلين فرصة الهدوء هذه فان تمخض الاسبوع عن شيء صالح كان بها والا فلعله أن نستطيع تأمين سلاح وذخيرة للناس اذا اضطر الناس للمواجهة وفعلا رتب أمر السفر خلال دقائق وتطوع أحد السائقين الجيدين، وقدمت لنا عائلة نصرانية من حماة سيارة لاندروفر تصلح للسير في الصحراء وفي المناطق الوعرة وهذه الأسرة النصرانية تربط مصيرها دائما بمصير المسلمين. وانطلقنا على بركة الله نحو قرية الطيبة ابتداء ومنها توجهنا الى العراق وكان أملنا أن يتولى ايصالنا الى العراق أحد أمراء البدو. وكان مشهورا بالرجولة والشجاعة. كنا مع السائق ستة: العقيد فؤاد الأسود وهو الذي ضرب جبل الدروز زمن أديب الشيشكلي. وعثمان الأمين وحاج أحمد الأمين وهارون خطاب وسعيد حوا،... كان سلاحنا بسيطا، وكان معنا أكثر من بندقية وكنا مصممين على القتال حتى الموت. وصلنا الى خيام الأمير فاستقبلنا الأمير وذبح لنا وأكرمنا ثم طلب منا أن نتحول الى مكان آخر ريثما ينظر في أمره، ثم أرسل لنا يعتذر عن توليه هذه المهمة بنفسه، فشكرناه وانطلقنا نحو مضارب قبيلة أخرى وفي الطريق صادفنا سيارة شحن حموية تعمل في البادية فسارت معنا وأوصلتنا الى مضارب القبيلة ومن هناك أخذنا دليلا وانطلقت سيارة الشحن أمامنا مع الدليل حتى أوصلتنا الى العراق، دخلنا مخفر الرطبة بآخر نقطة بنزين معنا، عرف المسؤولون هناك قضيتنا فأكرمونا وأرسلونا الى قاعدة الحبانية وهناك رغبوا أن يستضيفونا أياما ظنا منهم أننا مرهقون، لكنا أعلمناهم أننا نرغب أن نعرض قضيتنا على المسؤولين العراقيين بسرعة. فأرسلونا الى بغداد وسمعنا ونحن على أبواب بغداد أن مظاهرات قد قامت نصرة لأهل حماة. استقبلنا في بغداد أشخاص من أجهزة الأمن وأنزلونا في فندق يقع على شاطئ دجلة، وزارنا بعض المسؤولين فرغبنا اليهم أن يعلن مباشرة عن مناورات على الحدود العراقية لرفع المعنويات وكان ذلك. كانت علاقتنا مع وزير الداخلية ثم مع ضابط أعتمد كمسؤول عن المكتب الذي يتابع شؤون اللاجئين العرب، وكان اللاجئون السوريون يكثرون شيئا فشيئا وكان أكثرهم ناصريين، وقد حملوا علينا حملة منكرة كتبوا فينا تقارير ولم نبال كثيرا وكان ردنا عليهم بقدر الحاجة. بقينا في العراق حوالي أربعين يوما ثم توجهنا نحو الأردن بجواز عراقي يصلح لسفرة واحدة، كان عثمان الأمين يصر على ألا نعتبر لاجئين، وقد دخل العقيد الأسود المستشفى العسكري بسبب ارتفاع الضغط والسكري، وقرر البقاء في العراق فلم يسافر معنا الى الأردن، ظهر ونحن في العراق دستور للعراق حاولت أن أكتب عليه دراسة، تضايق من ذلك الزملاء، مزقوا لي الأوراق، شعرت وكأنني فقدت ولدا. توجهنا الى الأردن ووقفنا طويلا على الحدود حتى أذن لنا في الدخول، نزلنا في فندق عادي، كان في الأردن قبلنا عبد الله برازي فعرفنا على الناس وعرف الناس بنا، عوملنا معاملة كريمة من كل من تعرف على أوضاعنا ولم نكد نقر في الأردن حتى سمعنا من اذاعة دمشق برقية من الشيخ محمد الحامد تشكر المسؤولين على اطلاق سراح المعتقلين والسماح بالعودة للمغادرين فعلمنا أن المسألة انتهت، وفعلا فقد تحرك بعض آل الأمين حتى جاءوا بأمر العفو الى الأردن ونزلنا مباشرة الى سورية واستضافنا حموي في درعا كان رئيس شرطتها وانتهت أحداث حماة بعد حوالي خمسين يوما من بدئها.

بقيت حماة مضربة تسعة وعشرين يوما شاركها بعض أيام اضرابها اللاذقية ودمشق. جرت خلال هذه الأيام محاكمات للشيخ مروان ومن معه من المسجونين. وكانت محاكمات تاريخية بما جرى فيها من نقاش وصمود، وعندما صدر الحكم بالاعدام على البعض فرحوا وكبروا وعانق بعضهم بعضا أما الذين لم يحكم عليهم بالاعدام فقد بكوا ونادوا حكامهم: يا خونة احكمونا بالاعدام. انتشر النقاش الجريء بين الشيخ مروان وقاضيه العسكري بين الناس فأشعل العواطف. كنت من جملة المحكومين غيابيا بالاعدام، ولكن الأمور انتهت كما ذكرنا. كان محصلة ثورة حماة أربعة شهداء من اخواننا وحوالي خمسين من أبناء البلد ويقال: انه قتل من جنود السلطة ورجالاتها الكثيرون.

أدى تحركنا في حماة عددا من الأغراض:

أ‌- حميت مادة التربية الاسلامية.

ب‌- توقفت الأفكار القائلة بتصفية الأوقاف.

ت‌- جمد وضع الحرس القومي.

ث‌- وجدت وزارة معتدلة برئاسة صلاح البيطار.

ج‌- أصبح الاسلام أكثر احتراما وبدأوا يحسبون له حسابا.

من الذكريات أن القيادات المحلية للإخوان المسلمين في بقية المحافظات لم تحرك ساكنا ولسنا نعتب عليها، وقد بلغنا أن بعض القيادات عرضت عليها قوى عسكرية أن تتحرك فلم تجب الايجاب وبعض القيادات اتصل بها فقالت نحن لا نؤمن بالوصول الى الحكم الا عن طريق الديموقراطية ولو كلفنا هذا خمسمائة عام وبعض القيادات بقيت تشهر فينا بسبب أحداث حماة 1964 حتى هذه اللحظة، ان هناك ناساً لا يتحركون وينتقدون المتحركين.

استطاع بعض اخوة حماة في دمشق متعاونين مع بعض العناصر ان يحدثوا اضراباً في دمشق لم يدم طويلا، حاول بعض أهل العلم في حلب أن يفعلوا شيئا ولكن لم يتابعوا، حدث في اللاذقية شيء طيب. كنا نطمع اذا تابعت حماة الاضراب أن تتابعها المدن السورية ولكن لم يحدث ما أملناه، مع أن حماة بقيت تسعة وعشرين يوما مغلقة حوانيتها ومعطلة كل مظاهر العمل فيها.

كان شيخنا الشيخ محمد الحامد يتصرف في هذه المرحلة على غاية الحكمة يقدم حيث يرى الاقدام حزما ويحجم حيث يرى الاحجام عزما، وكان دائم النصح للجميع دائم الدعاء، وكان واضحا أن السلطة تريد افراد الإخوان المسلمين لتضربهم ضربة ساحقة كام ضربت الناصريين في 18 تموز ولكن موقف المدينة الأصيل وصلابة الاخوة وكلمة الشيخ ووجود بعض أهل السنة في مراكز قوية في السلطة ورغبة بعض العلويين في تمرير المرحلة فلا ينكشف الغطاء الطائفي مبكرا، كل ذلك كان عاملا من عوامل انهاء الوضع فلم يمر خمسون يوما الا وكأن شيئا لم يكن. ولقد كان الدرس الأكبر الذي أخذناه من ثورة حماة سنة 1964 أن موقف بلد واحد في سورية ليس كافيا أن يسقط نظاما جائرا، وأنه لا بد اذا ما أردنا وضعا جديدا لسورية أن يكون ذلك باتفاق أبناء المحافظات ولكن لا بد من جهة تستلم راية الاقدام حتى يسير الناس وراءها وكانت حماة هي المرشحة لتقديم التضحيات وتحمل مسئولية البدء، هذا دورها التاريخي قبل الاستقلال وبعد الاستقلال ولهذا الحديث تتمة.

هل كان أمامنا خيار ألا نتحرك؟

استلم العلمانيون السلطة في سورية وانفردوا بها وكان واضحا أن استقرارهم يعني الوصول في سورية الى كفر ودمار. ولقد أخذ بعض خطباء الإخوان المسلمين يتكلمون بجرأة، وكان الآخرون يهزون رؤوسهم بلا مبالاة، ولقد أقدموا على خطوات جريئة في تصفية الجيش مما كان مقدمة للهزيمة الكبرى أمام اسرائيل في سنة 1967، وأنشأوا الحرس القومي الذي بدأ يتطاول على الجميع وتجمعت الأقليات كلها حولهم وكلها حاقدة على الاسلام والمسلمين الا قليلا في المتعقلين وخاصة من كان من النصارى فان الكثيرين منهم بقوا خارج السلطة وبدأت بوادر الاعتداء على الاسلام والمسلمين تظهر من ههنا وههنا لم تبق هناك حماية لمواطن لا من القائمين على الحكم ولا من القانون، وكان السكوت المطلق على ذلك يعني في النهاية انهاء البقية الباقية من الاسلام الرسمي في سورية وكان أخوف ما نخافه الغاء مادة التربية الاسلامية والأوقاف وقانون الأحوال الشخصية وقد بدأوا معركتهم من أجل هذا وهذا، فكان لا بد من ردة فعل تبقي الأمور عند حد معين وكان هذا ما فعلناه في حماة، وكان من آثار ذلك ما ذكرناه ولذلك أهميته الكبيرة، ومع أن التفكير في الغاء هذه الأمور والتضييق على التدين كان يتجدد، لكن موقف حماة كان عاملا معدلا.

(فصل) في: ينادونني في السلم بابن زبيبة

من المشهور عن عنترة قوله: ينادونني في السلم يابن زبيبة وعند اشتعال الحرب يابن الأكارم. وهذا القول لا ينطبق على شيء كما ينطبق على حماة، ان لحماة طبيعة خاصة تجعلها كثيرة الحساسية اذا حدث ظلم أو كفر، ومن ثم فهي تعبر عن رأيها قبل غيرها، ولقد ساهمت حماة في كل الثورات ضد الاستعمار بل حسمت الصراع مع الاستعمار في آخر معركة منتصرة لها، ثم هي التي أثرت في أحداث سورية سياسيا بشكل مستمر، وهي التي قادت ولا زالت تقود المعارضة ضد النظام القائم في سورية، والناس في شأنها كما قال عنترة، فساعة يثنون عليها الثناء العاطر وساعة يهجمون عليها هجوما ماطرا. ومن العجيب أن يعامل أهلها بنكران الجميل من الصديق بل من بعض أهلها، فلم يزل الحمويون المتدينون محل نكران جميل، فهم ملاحقون من النظام، ومضيق عليهم من بعض اخوانهم. ولبعض الإخوان فلسفة عجيبة، مؤداها: أن على الشعب السوري أن يستسلم للأحداث، وأن على المسلمين أن يستسلموا فلا يفعوا شيئا. وأن الأمور ستحل نفسها بنفسها، فكأنهم ينسون قوله تعالى: {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض} [محمد: 04]. وقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251]. اننا لم نتحرك أولا وثانيا ولنا خيار، فلو لم نر محاولة استئصال الاسلام، ولو أعطي الاسلام حرية الدعوة لما تحركنا.

الباب السادس

(من التاسعة والعشرين الى الثانية والثلاثين)

(من التاسعة والعشرين الى الثانية والثلاثين)
(19641966 م)

تزوجت بعد عودتي الى سورية من العراق وجاءني محمد وأحمد في الخامسة والستين والسادسة والستين واستطراداً أقول: ثم جاءت فاطمة في السابعة والستين وأنا في السعودية ثم جاء معاذ في التاسعة والستين في المدينة المنورة، وهؤلاء كل أولادي. عدت الى التدريس في السلمية بعد أحداث حماة 1964 فدرست السنتين الخامسة والستين والسادسة والستين ثم غادرنا الى السعودية للتدريس. تقدمت من قبل الى مركز حماة باقتراح حول المناهج، رفع الى قيادة الجماعة ثم أقر وكلفت بوضعه، وهكذا كنت مستغرقاً قبل سفري الى السعودية بالعمل الإخواني والعمل الاسلامي وبالتأليف في المنهاج الذي كلفت به. من أهم أحداث هذه المرحلة انقلاب شباط (فبراير) الذي أودي بأمين الحافظ وأتى بعد صلاح جديد ومجموعته الى الحكم وهذه تفصيلات عن أهم أحداث هذه المرحلة:

1- الزواج: بعد أن خطبت أم محمد وهي بنت خالة الأستاذ مصطفى الأعسر رحمه الله وكانت خطبتها بواسطته، بعد الخطبة بفترة قليلة سرحت من الجيش ثم حدثت أحداث حماة ثم انتهت وعدت الى حماة، وجاءني في يوم الحاج عبد الكريم الشامي بسيارته وقال اني مسافر الى دمشق فتعال معي، فسافرنا وهناك عقدنا العزم على انهاء موضوع الزواج، اتصلنا بأخي أم محمد وأبلغناه أننا قادمون لعقد القران، جئنا الى منزله وأجرينا العقد، أجراه الدكتور صلاح خيرالله وهو من أكابر صوفية العصر. كان حاج عبد الكريم يريد أن يتم الدخول في اليوم نفسه وبالكاد أجل أهل الزوجة الدخول الى ثلاثة أيام. استأجر الحاج عبد الكريم بيتاً في "مضايا" أعطاني غرفة منه، تم الدخول فيها وبعد يومين أو ثلاثة أنزلنا حاج عبد الكريم الى حماة، فوجئ الأهل بدخولي مع أم محمد اليهم قلت لهم أتيناكم بزوجة. أحست أم محمد وأحس الأهل وكأنهم يعرفون بعضهم منذ زمن بعيد لم يشعر أحد بغربة عن الآخر. عدنا الى "مضايا" وقضينا فيها أياماً أخرى، كانت وظيفتي لا زالت في السلمية، نقلت أم محمد وكانت في دير الزور تدرس اللغة العربية الى السلمية وأصبحنا ندرس سوية فيها هي في مدارس البنات وأنا في مدارس الذكور. عندما خطبت أم محمد تحدثت اليها بحضور أمها وأخيها حديثاً مسهباً عن وضعي: حدثتهم انني أريد امرأة تنظر بعيني وتسمع بأذني وتفكر بعقلي. وأن ظروفي صعبة واحتمالات المستقبل في حقي كثيرة وكبيرة وأن زوجتي عليها ان تتحمل أشياء كثيرة. ثم حدثتهم عن طبيعة حياتي وأنها يغلب عليها العفوية وهذا يقتضي من زوجتي أن تقوم بأعباء الترتيب والتنظيم، وعلى ضوء هذا كله أعطوا موافقتهم، وكانت أم محمد أكثر مما أردت وأقوى مما أملت، وأقدر مما تصورت وذلك من فضل الله، لقد كانت السكن والمساعد والمعين، وانني مدين لها في ما يعتبر انجازاً.

2- انتخاب في مركز حماة:

أنهى الدكتور عبد الكريم عثمان رحمه الله دارسته العليا في مصر وجاء الى حماة، وكان شخصاً محبباً دمثاً منصهراً في دعوة الإخوان المسلمين، قوي الإلتزام واسع الأفق، على صلة قوية بنشاطات الجماعة في مصر وفي سورية. قررت قيادة المركز في حماة أن تعقد اجتماعاً لأهل الحل والعقد في المركز، وتم الاجتماع ورأى الحاضرون أن ينتخبوا قيادة للمرحلة اللاحقة، وبعد مناقشات حول المواصفات المطلوبة لقيادة المرحلة تم الإنتخاب. وكان الشعار الذي طرحته داخل القيادة واعتمد هو: تكميل الرجال واستكمال الأجهزة. كان عبد الناصر في صراع عنيف مع الحكم في سورية لذلك أرسل لنا عرضاً بواسطة بعض الناصرين أن يسلحنا، لكن وضعنا التنظيمي من ناحية وحساسيتنا من ناحية أخرى تجاه عبد الناصر جعلتنا نرفض المشروع، لم يلبث الدكتور عبد الكريم أن سافر بضغط من الحكومة السورية الى السعودية وكلفني بادارة الأمور لكنني تعاملت مع الأكبر سناً على أنه هو الرئيس.

3- كان كبار الإخوان المسلمين وقواعدهم يتكلمون دائماً عن ضرورة منهاج ونظام داخلي للجماعة. وكانت فكرة المنهاج غائمة فبعضهم يقصد بالمنهاج خطة العمل والحركة وبعضهم يقصد بالمنهاج التفصيلات التطبيقية التي تستهدفها في واقع الحياة وبعضهم يقصد بالمنهاج الثقافة التربوية والأخلاقية التي يحتاجها العضو في سيره في مراتب العضوية في الإخوان المسلمين، وكانت رؤيتي ان الصور الثلاث الأولى للمنهاج يمكن أن تصب جميعاً في الصورة الرابعة لذلك تقدمت بصورة تفصيلية عما اعتبره المنهج الصحيح الذي يبنى عليه الفرد في الجماعة وتبنى عليه الجماعة ككل، وكان المشروع في حوالي عشرين صفحة وقد رفع المشروع باسم مركز حماة الى قيادة الجماعة فعممته على قيادات المراكز وعلى أعضاء القيادة، وبعد أخذ الملاحظات استدعيت لحضور اجتماع لمجلس الشورى وللقيادة للمناقشة وقد أقر المشروع بالإجماع وكلفت بالتنفيذ مع حقي بالإستعانة بكل أخ في الجماعة. وكنت في الأصل أشتغل بالكتابات التي تحقق المشروع لأنه كانت واضحة لدي المعالم التي تحتاجها الشخصية الإسلامية والحركة الإسلامية وكانت محطة نظريتي في هذا الشأن هو ما رأى بعضه القراء في مجموع ما كتبته وقد استعظم بعض الناس فيما بعد أن يكلف فرد واحد بصياغة منهاج للجماعة في سورية، وبدأت معاكسات ومشاكسات ولم أبال بذلك لأنني كتبت في كل ما اعتبرته احتياجاً حقيقياً للشخصية الإسلامية أو للحركة الإسلامية سواء اعتمد أو لم يعتمد.

وصادف أن الجلسة التي حضرتها للقيادة ومجلس الشورى كان فيها بحث حول النظام الداخلي للجماعة وكان ذلك مطلباً للجميع وكان هناك أكثر من مشروع نظام مطروح، وكان بعضهم يرى أن النظام القديم للجماعة صالح بعد تعديله وكان عصام العطار قد أرسل من بيروت رسالة يعرض فيها تصوراته للعمل ويذكر أن النظام الداخلي الذي يحقق هذه المعاني موجود عنده فإذا أقر الاخوة هذه التصورات فسيرسله اليهم، ولكن لم يتم ذلك بسبب ظروف سورية.

لا زلت أتذكر نكتة حدثت في الإجتماع الذي حضرته لمناقشة مشروع المنهاج فلقد كانت تغلب علي فكرة أن مناقشات القيادات ينبغي أن تتم بلا انفعالات للوصول الى القرار الحكيم، وكنت أكرر فكرة أن علينا أن نكون كالآلة ونحن نتكلم لنعطي النتيجة الصحيحة من خلال العقل وحده. وأثناء الجلسة المذكورة كان أحد الإخوة يناقش قضية وهو يرفع صوته ويتوجه بالخطاب لأخ يجلس بجانبي وأثناء كلامه توجهت في الخطاب سراً الى جاري ولكن بشكل ملحوظ وسألته: أأطرش أنت؟ فتعجب وقال: لا، فقلت له: لماذا اذن يرفع الأخ صوته بهذا الشكل؟ وههنا انتبه المتكلم فقطع كلامه وسأل عن القصة فرويت له السؤال والجواب فضحك وكانت نكته.

كان أحد الأسس التي لا أستطيع التساهل فيها في العمل الإسلامي ربط العضوية بالثقافة والخصائص والإلتزام والتخصص وللأسف فإنني وجدتني في أواخر الأمر أدخل في معركة خاسرة داخل الإخوان المسلمين في سورية فلم يزل حتى عام 1984 الزمن تقريباً هو مقياس لدرجات العضوية اذا جرى انتخاب، وكثيراً ما يدخل القدم في دائرة التحكم فما من انسان يستطيع أن يثبت أنه منتظم انتظاماً مستمراً بسبب الظروف المتقلبة وهذا يجعل لمن بيده الأمر القرار باعطاء صفة أو حجبها عنه.

4- أحداث شباط (فبراير):

أهم حدث سياسي في هذه المرحلة هو انتقال السلطة من أمين الحافظ الى مجموعة صلاح جديد من خلال انقلاب 23 شباط (فبراير) 1965، كانت نتيجة متوقعة لأن أعظم القوى كانت بيد الأقليات، وكانت أقوى الأقليات الطائفة العلوية، وقد اتفقت الأقليات على ايجاد وضع جديد فكان. كانت حماة بيد ضابط من قرى حماة من مجموعة أمين الحافظ وكنا نقدر أن القوة العسكرية في حماة ستقاوم الإنقلاب، وخشينا أن يحدث صدام كبير تستباح فيه البلد. ففكرنا أن نستلم سلاحاً ونسلح اخواننا فيما لو وزع على البلد. كان عثمان الأمين رحمه الله هو مركز الاتصال وكان رأيه أن يلقي السلاح في وسط البلد ويترك لكل فرد أن يأخذ سلاحه الفردي دون قيود احتياطاً للمستقبل، ولم يتم الإتفاق، ولم تجر مقاومة تذكر، وسيطر الشباطيون بسرعة كبيرة وانتقلت سورية إلى عهد جديد. وكأي عهد فإنه يحتاج الى زمن ليتمكن فكانت هذه فرصة للعمل، وكان ذروة ما عملناه اقامة دورات شعبية للتعرف على الإسلام في حماة، وهذه بدورها أدت الى نقلنا من حماة، والإنتقال من حماة كان السبب في الخروج الى السعودية.

5- تجربة رائدة:

اتفقنا مع جمعية العلماء في حماة على ان تعلن الجمعية عن اقامة مدرسة ليلية تعلم فيها فروض العين الإسلامية ووعدنا أن نقوم نحن مدرسي التربية الإسلامية الإخوان بهذا الشأن ووافقت الجمعية ووزعت بياناً على الناس تحدد فيه المواد التي سندرسها وبداية الدورة ونهايتها وأن البرنامج اليومي ساعتان بعد المغرب والمواد ستوزع على مدار الأسبوع، وكانت المواد: التوحيد، فقه العبادات، السيرة، التجويد، الحديث النبوي. اقبل الناس اقبالاً كبيراً على الدورة ونجح مدرسوها نجاحاً كبيراً. وبعد أن انتهت الدورة أعلنا عن دورات نهارية للطلاب خاصة في عطلتهم الصيفية فالتحق بالدورات أعداد هائلة، التحق بدورات البنات المئات والتحق بدورات الطلاب الابتدائي حوالي ألف وخمسمائة وبدورات طلاب الاعدادي حوالي ثلاثمائة وبدورات طلاب الثانوي حوالي مائة وأربعين كان واضحاً أن هذا الإقبال يعني أن حماة ستتغير تغيراً جذرياً خلال عام، لذلك اتخذت السلطة قراراً بأن ينتقل القائمون عليها خارج حماة بحيث يتعذر عليهم التردد الى حماة فنقلت الى حارم على الحدود التركية وهي منطقة لا أستطيع المجيء منها الى حماة بسهولة، ونقل فارس ملى الى قرية في محافظة الرقة ونقل عبد الحميد الأحدب الى جبل الدروز وقتل عثمان الأمين رحمه الله وهذا النشاط في ذروته.

في هذه الأثناء طرح أخونا عبد الحميد الأحدب فكرة السفر الى السعودية وتقدم بطلبات لي وله ولفارس ملى. وافقت الوزارة على اعارتي، استشرت زملائي في قيادة مركز حماة، فقرروا جمع بعض أهل الحل والعقد في المركز، عرضنا عليهم الأمر فوافقوا على سفري، وكان من عوامل السفر أن تتاح لي فرصة استطيع فيها أن أنجز المناهج الإسلامية التي كلفت بها. وتابع الشيخ عبد الحميد أحدب حفظه الله المعاملات حتى انتهت لي ولزوجتي، وخرجنا الى السعودية عن طريق بيروت أنا وأم محمد وتركنا ولدينا الصغيرين محمد وأحمد عند جدهما وجدتهما.

لقد وضعت قرار سفري بيد اخواني لأنني خشيت أن يكون هناك حظ نفسي في السفر ولم أشأ أن يكون لي صوت اذا طرحت المسألة على الإقتراح، كان الوضع في غاية التعقيد فاذا استمريت في التدريس فانني لا أستطيع المجيء الى حماة، واحتمالات الإغتيال في حقي كثيرة فأنا أحد العناصر الرئيسة التي شاركت في أحداث حماة 1964، والوضع لم يعد يحتمل العمل الجهري، وكان العمل الإخواني يحتاج الى قرار جريء أن يتفرغ له ناس متخففين من أعباء العمل الحياتي، واذا اقتضى الأمر أن يتواروا فعليهم أن يتواروا ولم يكن الوضع المالي ولا قوة التنظيم تسمح بذلك. كان قرار المركز في حماة أن أسافر فسافرت ولم تطل المدة بعد سفري حتى اعتقلت كل القيادات بل كل الصف الإخواني الأول في سورية ولم يطلق سراحهم الا بسبب حرب حزيران (يونيه) والا فان حكام سورية كانوا يصرحون أن هؤلاء لن يطلق سراحهم أبداً.

قامت ردة فعل اسلامية ضد الحكم في سورية في دمشق، شارك فيها الكثيرون من تلاميذ العلماء، وظهرت في الساحة جماعة جديدة سميت باسم كتائب محمد عليه الصلاة والسلام، ووجد جو ملتهب في دمشق، وحدث شبه اعتصام في الجامع الأموي، وأقدمت السلطة على اقتحام المسجد الأموي بالدبابات وأطلقت النار على من فيه، واعتقلت المئات، وطاردت المئات، وادعت السلطة فيما بعد أنها هي التي استدرجت المتدينين لهذا الفخ لتجهض التحرك من بدايته، وكان الإخوان المسلمون بعيدين عن المشاركة في هذا التحرك، وكانت هذه هي الثورة الإسلامية الثانية ضد العلمانية في سورية بعد الإستقلال، ونسأل الله أن يتقبل جهاد الجميع. عشنا السنوات الثلاث قبل سفرنا الى السعودية على أعصابنا وكنا نعتبر ذلك عادياً وكنا نقول لإخواننا أن ما قبل الإستخلاف خوف دائم ولكن الله عز وجل سيبدلنا بالخوف أمنا ونذكرهم بالآية: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} [النور: 55]. كنت أحاول في نفسي وأحاول مع اخواني أن نجعل تحمل الأوضاع الصعبة جزءا من كياننا فتكون مألوفة لنا فاذا كان غير ذلك كان عجيباً ولقد اعتدنا ذلك بفضل الله فمنذ دخلنا الإخوان المسلمين ونحن نحمل أرواحنا على أكفنا سواء في الحياة الطلابية أو في الحياة التدريسية أو في الحياة العملية فما من يوم ننزل فيه الى مدرستنا الا ونتوقع صداماً، وما من يوم ندرس فيه الا ونتوقع صداماً، وكل يوم يمر يمكن أن نتعرض لاعتقال. أنهيت تدريسي يوماً في السلمية واذا بسيارة مخابرات تنتظرني وأبلغوني أن رئيس المخابرات في حماة يرغب أن يراني وكان ذلك في رمضان، ذهبت معهم حتى اذا وصلت الى حماة أبلغت بعد ساعات أنني مطلوب الى دمشق وفي الطريق نزل مطر شديد وتوقفت السيارة عن الحركة ولا أدري هل توقف السيارة مفتعل أو ذلك هو الواقع؟ المهم أنهم أرجعوني الى حماة وكان الخبر قد بلغ علماء حماة وعلى رأسهم شيخنا الشيخ محمد الحامد فتدخلوا ثم جاءوا وأخذوني معهم وكان استنتاج الشيخ رحمه الله أن ما فعلوه كان اشعاراً لي بأن علي ألا أدرس في المساجد وكنت بدأت أعطي بعض الدروس بعد الفجر في رمضان في جامع المسعود، وطلب مني الشيخ ألا أدرس، فغيري يكفيني هذه المؤونة وكان ذلك. المهم أن حياتنا كانت محفوفة بالخطر. نسأل الله أن يتقبل.

(فصل) في الصراع بين العلمانية والإسلامية على سورية

مما ذكره لورانس في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" قوله: كنت أفكر طوال الطريق هل ستترك سورية مثلها الديني الى مثل وطنية وقومية. ان هذه العبارة تمثل التفكير الإستعماري القديم لسورية، وهو التفكير الذي ما زال مدعوماً من قبل كل الدوائر الخارجية، وتتبناه دوائر داخلية كثيرة في سورية، وأصرح من دعا الى علمانية سورية زمن الاستعمار الفرنسي هو الدكتور عبد الرحمن شهبندر من دمشق وكلنه قتل مباشرة. وبهذه المناسبة أروي القصة الطريفة التالية:

حدثني أحد المتدينين أنه كان مرة في دمشق ورأى جمهرة من الناس يستمعون الى خطيب فدفعه دافع الفضول للسماع، فكان الخطيب هو عبد الرحمن شهبندر، وكان يتكلم عن ضرورة علمانية سورية، وبعد أن أنهى كلامه وقف هذا المتدين وقال للخطيب: ماذا تقول؟ ان هذا الكلام سيقتلك، ولم يرع محدثي الا وصحف اليوم الثاني تعلن أخبار اغتيال الدكتور شهبندر وبحثت الشرطة عن الحموي الذي قال ما قال فاعتقلته ولم ينج من الاعتقال الا بعد فترة طويلة بعد أن عرف الفاعلون الحقيقيون، وكانوا ثلة من فتيان دمشق. حاولت فرنسا أن تفرض العلمانية وكلنها فشلت، صوت النصارى أنفسهم لصالح دين الدولة الإسلام. وجاءت عهود ما بعد الإستقلال فكانت كلها صراعاً بين الإسلام والعلمانية على تفاوت في حدة الصراع وشدته. فالديمقراطية الأولى التي انتهت بانقلاب حسني الزعيم لم تكن تعلن العداء للإسلام، ولكنها لم تكن تتبناه، وجاء عهد حسني الزعيم القصير فأدخل تغييراً جذرياً لصالح العلمانية، ثم جاء عهد أديب الشيشكلي فشجع على عدم الإلتزام بالإسلام، ثم جاءت الديمقراطية الثانية، فخطت خطوات غير سافرة نحو العلمانية، وجاء عهد الوحدة فصدر دستور علماني بحت، وجاء عهد الديمقراطية الثالثة زمن الإنفصال فتعامل مع الإسلام برفق، ثم جاء انقلاب 8 آذار (مارس) فبدأ الصراع المكشوف بين العلمانية والإسلامية، ولا زال هذا الصراع مستمراً. والمشكلة الحقيقية تكمن في الغموض وضعف الحركة المبصرة. فعلى الإسلاميين أن يكونوا واضحين في مفهوم الإسلام الذي يريدونه وعليهم أن يتحركوا حركة مبصرة نحو ما يريدونه، وقد يكون أول هذه الحركة أن يتحركوا نحو الأقليات غير المسلمة في بلادهم، ونحو الأحزاب فيفتحوا معهم حواراً شاملاً حول مفهومهم التفصيلي للتطبيق الإسلامي، وماذا يعني التطبيق الإسلامي للأقليات؟ وان التطبيق الإسلامي لا ينفي تعدد الأحزاب ضمن اطار متفق عليه، وهذا الذي نحاوله في هذه المرحلة.

(فصل) القوى الكبرى والشعوب

(فصل) في هل سيحدث حقاً ألا تتدخل القوى الكبرى
لتفرض على الشعوب خلاف قناعاتها؟

في العالم اليوم وضع متناقض، فبينما العالم كله معترف بحق تقرير المصير للشعوب، وبعدم جواز التدخل في الشئون الداخلية للدول، فالواقع غير ذلك. فالصراع بين أجهزة المخابرات وتدبير الإنقلابات ووضع المخططات، ودعم حزب على حساب حزب، والأموال المرصدة للتأثير على قناعات الشعوب، واستغلال اضطرار الحكومات للديون، واستعمال الديون كأداة ضغط، وما نراه من وقائع تثبتها الأدلة والوثائق والكتابات الصادرة عن أهلها ذلك يثبت أن فكرة تقرير المصير وفكرة عدم التدخل في الشئون الداخلية لا زالت شعارات تطرح. ترى هل يوجد قطر اسلامي يطرح على التصويت فيه تطبيق الشريعة ثم يجيء رأي الأكثرية الا بالموافقة، فلماذا يحال بين المسلمين وبين تطبيق شريعتهم؟. وهذا نموذج فقط. انه لا بد من حوار عالمي بين مفكري العالم أولاً، لوضع ميثاق انساني معقول، تقتنع به كل الحكومات وكل الشعوب على السواء، لأنه القدر الذي لا يسع الحياة البشرية غيره ثم يلتزم به الجميع أفراداً وشعوباً بحيث يلغي الفارق بين الشعار والتطبيق. ولا شك أن على الإسلاميين أن يكونوا دعاة لهذا الحوار.

(فصل) االعلماء ونشر الإسلام

(فصل) في تجربة جمعية العلماء في حماة تدل على أن العلماء يتحملون مسئولية نشر الإسلام أكثر من غيرهم

نشأنا في حلقة الشيخ محمد الحامد في مرحلة مبكرة من حياتنا والحمد لله، وانتسبنا الى جمعية العلماء نحن وثلة من خريجي كلية الشريعة، فحدث بذلك خير كثير – إن شاء الله – للإسلام والمسلمين. لقد كان كثير من الإحتفالات الدينية تقام باسم جمعية العلماء، وأقامت جمعية العلماء دورة للخطباء كلفتني بأن أعطي دروسها وكان ذلك ارتقاء بكثير من خطباء الجمعية وأهم شيء أن جمعية العلماء قامت بانشاء دورات لتعليم فروض العين واستجاب لها خلق كثير، مما ثبت أن تعميم الثقافة الإسلامية منوط بالعلماء أكثر من غيرهم، ومن ههنا فان على علماء المسلمين أن يجيبوا عن سؤالين اجابة عملية: ما هي الثقافة الإسلامية التي يجب ايصالها لكل مسلم؟ وكيف نوصلها الى كل مسلم؟ وأن يتولّى العلماء ذلك فليس هذا بمستغرب ولا مستنكر، وعليهم أن يجنبوا عملهم هذا كل حساسية ما استطاعوا الى ذلك سبيلا؟ واستطراداً، أقول: أن الشيخ محمد الحامد لم يكن منتظماً في الإخوان في أخريات حياته ولكنه كان يحبهم ويتفهم قضيتهم، ولم نكن نشعر بازدواجية في كوننا ننتسب اليه وننتسب الى الإخوان. وكنا منتسبين الى جمعية العلماء ولم نكن نشعر بأي تناقض في ذلك مع انتسابنا للإخوان. ثم نبتت فكرة من داخل الإخوان تدعو الى عدم الإزدواجية بدون تعقيد لهذه الفكرة. فاضطرنا لكتابة رسالتين، رسالة اسمها "احياء الربانية" ورسالة اسمها "عقد القرن الخامس عشر". وفي كلتا الرسالتين ذكرنا نموذجاً لعمل اسلامي لا يعتبر من الإزدواجية الخاطئة. فكون الإنسان من الإخوان لا ينفي أن يأخذ الخير حيث وجد، ولا ينفي أن يتعاون مع الآخرين على خير. والرجل الحكيم يعرف أن يضع الأمور في مواضعها.

الباب السابع

من الثانية والثلاثين الى السابعة والثلاثين

من الثانية والثلاثين الى السابعة والثلاثين
(19661971 م)

درست خمس سنوات في السعودية ثنتان منها في الهفوف وثلاثة في المدينة المنورة، وكان تدريسي كله في المعاهد العلمية وهي تشبه المدارسة الشرعية في بعض الأقطار وتشمل في المعاهد المتقدمة المرحلتين الإعدادية والثانوية، وكان أكثر دروسي في اللغة العربية نحواً وصرفاً وبلاغة كما درست الحديث الشريف وأصول الفقه، كانت علاقتي بطلابي علاقة مودة ومحبة ومصارحة وتوجيه، واحتفظ بأغلى الذكريات لتلاميذي في المعاهد وظني أنهم كذلك.

أنهيت في هذه السنوات الخمس سلسلة الأصول الثلاثة وأرسلتها للطبع والنشر وكتاب "جند الله ثقافة وأخلاقاً" وفصولاً من كتاب "جند الله تخطيطاً وتنظيماً وتنفيذاً" ولم تنشر وقتذاك هذه الفصول في التخطيط والتنظيم لكني درستها لعدد من الإخوة وأعطيتها لبعض الإخوان في بعض الأقطار وقد جعل الله فيها خيراً كثيراً وبركة، ثم أدخلت بعضها في بعض الكتب.

كان الجو مواتياً لإلقاء محاضرات، وقد ألقيت عدداً من المحاضرات في اجواء المعاهد العلمية وبعض الجامعات وفي بعض الثانويات ودور المعلمين وفي بعض الأندية وخاصة في الناديين الرئيسين في المدينة المنورة: نادي الأنصار ونادي أحد، لقد ألقيت فيهما أحب محاضراتي إليّ.

كانت المنطقة العربية حافلة بالمفاجآت، وكنت حريصاً على ألا يحدث تغيير في السعودية لأن التغيير سيجعل مكة والمدينة وأرض العرب في مخاطر مجهولة، كتبت تحليلاً حول الوضع في السعودية وبنيت عليه بعض الإقتراحات وقد وصل التحليل الى الملك فيصل رحمه الله، وكانت له آثار طيبة في نفسه كما نقل لي، وتجاوب مع بعض المقترحات، وبعض هذه المقترحات أصبحت الآن واقعاً في السعودية، لا أدعي أن مقترحاتي هي التي قد طبقت لكن تطبيقها يدل على أنها كانت في محلها. وعلى كل الأحوال فقد سبب لي هذا الأمر بعض المشكلات.

في صيف 1967 جئت الى لبنان مع زوجتي وابنتي التي ولدت في الهفوف لتجديد التعاقد ولرؤية الأولاد وقضيت الصيف في عاليه وفي صيف 1968 جئت كذلك الى لبنان لنفس الأغراض وقضيت الصيف في "سير الضنية" وأخذت فيما بعد معي الأولاد جميعاً الى السعودية ومعهم عمتهم "هند" وفي صيف 1969 جئت الى لبنان منفرداً وأجريت فحوصاً طبية فتبين أن معي مرض السكري ولم أخرج من السعودية عام 1970 وفي صيف 1971 جئت مع الأهل الى لبنان، وأرسلت الأهل مع الوالد الى حماة وكانت زوجتي حاملاً ثم بعد أيام جاء الوالد وبعد المذاكرة قررت النزول الى حماة ونزلت ولم تحدث مفاجآت على الطريق، كنت قبل الحركة التصحيحية ممنوعاً من الدخول الى سورية ولكن بعد الحركة التصحيحية كنت من جملة الذين سمح لهم بالدخول، ومع ذلك فان السائق تصرف بذكاء حتى لا يمر اسمي على المخابرات وذلك من باب الإحتياط وهكذا عدت الى سورية من جديد.

كانت الأوضاع الإخوانية تتردى وتسير في منحدر الإنقسام، وكانت عوامل الإنقسام كثيرة، ولما نزلت الى حماة كان الإنقسام قد تم وأصبحت الجماعة ثلاث فرق، فرقة على رأسها الأستاذ عصام العطار حفظه الله وفرقة على رأسها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة حفظه الله وفرقة تعتبر نفسها على الحياد بين هذين الطرفين وتسمي نفسها مراكز الحياد وتشمل حماة وادلب ودير الزور، كانت عواطف أهل هذه المراكز الثلاثة متباينة فبعضهم أقرب الى الأستاذ عصام العطار وبعضهم أقرب الى الشيخ عبد الفتاح وبعضهم لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء. ولعله من المناسب أن أقف وقفة حول الإنقسام على اعتبار أنه ظاهرة يمكن أن تحدث للأحزاب كلها. فالإنقسامات في الغالب تحدث اذا شعر قطاع من أبناء الحزب أو الجماعة أن هناك بعداً بين المبادئ والتطبيق أو أنه لا سير صحيحاً نحو الهدف، أو أن هناك جموداً في تحرك الصف كله وجموداً في تحرك الأفراد أو أن هناك طموحات للصف لا تستطيع أن تحققها القيادة أو أن القيادة تفتقد قوة المبادرة فلا تسبق المشكلة قبل وقوعها ولا تبادر لحلها بعد وقوعها، أو أن التربية أو النظرية التنظيمية ليست صحيحة أو أن المستجدات لا تأخذ محلها من الدراسة والإعتبار والتحرك، أو أن النبض المركزي من القيادة للأطراف أو للأشخاص ضعيف، أو أن القيادات لا تراعي نضج الصف فعندما يكون الصف كله طلابياً فذلك غير الصف الذي يمتلك كبار مثقفين. وأهم شيء هو الثقة بالقائد الأول فاذا تخلخلت الثقة به ولم يستطع أن يتلافى ذلك فأما أن يستقيل أو يقال أو يحدث الإنقسام.

خمس سنوات في السعودية تمت فيها أشياء كثيرة: فقد سقط فيها نظام صلاح جديد على يد حافظ أسد بالحركة التصحيحية، وتمت فيها كارثة حزيران (يونيه)، وتمزقت فيها جماعة الإخوان المسلمين، وأصبح وضع سورية أكثر تعقيداً. القيادات السياسية المكشوفة، وتأكدت محظورية العمل السياسي، الا على من كان جزءاً من النظام القائم في سورية والعمل الخفي في غاية الصعوبة، وأصبح حافظ أسد من أمهر اللاعبين في لعبة الأمم وهذا سيفرض نفسه على الجوار وعلى العالم العربي وعلى العالم برمته، وأحلامنا في دولة اسلامية رائدة دخلت في طور التأمل عند الكثيرين.

(فصل) في كارثة 1967

حدثت كارثة سنة 1967 وأنا في السعودية، لا شك أن الكارثة أبرزت تفوق دولة اليهود في أشياء كثيرة، فهي متفوقة في نظامها السياسي ونظامها العسكري وقدراتها السياسية والحركية، فهل يعكف المسئولون عن مستقبل شعوبهم على دراسة صيغة التفوق التي تحتاجها شعوبهم؟. لقد استطاع اليهود أن يجمعوا بين الديمقراطية ونوع من الإشتراكية، واستطاعوا أن يجمعوا بين تعدد الأحزاب وأنواع من الوحدة كوحدة منظمة الهيستدروت ووحدة البرلمان اليهودي العالمي، استطاعوا أن يعبثوا طاقة يهود العالم لصالح دولتهم، وأن يحشدوا وراء هذه الدولة قوى عسكرية وسياسية واعلامية كبيرة، واستطاعوا أن يأخذوا من تجارب الأمم أحسنها، واستطاعوا أن يجدوا نظاماً للحشد والتعبئة يعتبر متفوقاً، واستطاعوا أن ينجحوا في الصناعات العسكرية والمدنية. أن أشياء كثيرة جعلت التفوق الإسرائيلي كاسحاً عام 1967، والمرجو من المفكرين الإسلاميين أن يفكروا في جملة ما يفكرون فيه كيف يجعلون شعوبهم تسير في طريق التفوق.

(فصل) في التركيب السكاني لسورية

في أدق احصاء لسورية شكل أهل السنة 73% من عدد السكان و 27% عدد الأقليات ما بين نصارى ونصيرية ودروز واسماعيليين وعباد الشيطان. وتجد أهل السنة فيهم أكراد وشركس وعرب، وفي سورية بدو لا بأس بعددهم، فتجد أسماء الآشوريين والكلدانيين والروم، وتجد نصارى سورية موزعين الى فرق نصرانية كثيرة. وتجد أهل السنة فيهم أكراد وشراكسة وعرب، وفي سورية بدو وحضر، وقد اجتمعت عوامل متعددة على أن تعطي كل مدينة في سورية طابعها المتميز في الأخلاق والعادات. ولهذا تأثير في بعض الأحيان على المواقف. وقد استفادت بعض الجهات من التركيب السكاني لسورية الذي كان يشكل الريف جزءاً كبيراً منه، فحاولت أن تبعئ أهل الريف ضد أهل المدن وأن تستفيد من التناقضات بين السكان ومن تخوفات بعضهم من بعض، ومن تناقض العواطف ومن طبائع الناس. وفي هذا الخضم كان يعمل الإخوان المسلمون بعفوية الى حد كبير، ونرجح أن جهات كثيرة لم تكن تعمل بعفوية، فالتركيب السكاني لسورية كان محل رصد من جهات كثيرة منذ القديم يشهد لذلك ما ذكره لورانس في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" حين تكلم عن الشعب السوري وعن خصائصه، وخص الطائفة النصيرية بالذكر ووصفها بأنها طائفة لا يخون أفرادها بعضهم بعضاً، فاذا عرفنا هذه الخاصية، وأن العقيدة النصيرية تقوم على الكتمان، وأن النصيري معتاد على الكتمان، واذا عرفنا الإنقسامات السياسية والدينية أدركنا كيف أن الطائفة النصيرية على صغرها كانت على التدريج تشكل أقوى عصبية متماسكة في سورية، فاذا عرفنا أن هذه الطائفة اما بسبب التخطيط أو بسبب الفقر أو بسببهما معاً بدأت تتمركز في الجيش منذ عهد الاستعمار، واذا عرفنا أن الجيش في العالم الثالث هو الذي يحكم بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر في الغالب أدركنا لما آل حكم سورية الى النصيرية عبر المواجهات.

(فصل) في الإنقسامات السياسية في سورية

يوجد في كل مكان انقسامات سياسية تتمثل بتعدد الأحزاب ثم بانقسام هذه الأحزاب على بعضها، وتشكل هذه الظاهرة في سورية ظاهرة بارزة. فالكتلة الوطنية التي قادت الصراع ضد الاستعمار انقسمت على نفسها قسمين: حزب الشعب وقوته في حلب، والحزب الوطني وقوته في دمشق. وظهرت أحزاب كثيرة في سورية: حزب البعث، والحزب العربي الإشتراكي، والحزب القومي السوري الإشتراكي، والحزب التعاوني الإشتراكي، وظهرت في عهد أديب الشيشكلي حركة التحرير العربي، وظهر في عهد عبد الناصر الاتحاد القومي، ثم ظهر بعد الإنفصال الاتحاد الإشتراكي، وقد انقسم حزب البعث على نفسه، وانفصل عنه كثيرون ليشكلوا احزاباً كثيرة، وانقسم الحزب العربي على نفسه، وانقسم الناصريون على أنفسهم فأصبحوا أحزاباً كثيرة. كانت هذه الإنقسامات كلها تؤثر على وحدة أهل السنة مما استفاد منه النصيريون، وقد أصاب الإخوان المسلمين من الإنقسام ما أصاب غيرهم. والإنقسامات الكبرى في الإخوان المسلمين ثلاثة: انقسام سنة 1954، وانقسام سنة 1970، وانقسام سنة 1986، وكل انقسام لم يتم الا بعد مخاض طويل، وكانت العوامل التي تؤدي الى الإنقسام متعددة، مثلاً فانقسام سنة 1970 كانت من أسبابه المباشرة أن التنظيم كان سرياً، والتنظيم السري يبقى على وحدته ما دامت القمة متفقة فاذا اختلفت وجد الإنقسام، وأما الأسباب غير المباشرة فهي طبيعة الأحداث المتحركة في سورية التي تجعل التطلعات كثيرة وكبيرة ومتعددة، ومن أهم التطلعات التي ساعدت على الإنقسام تطلع كثير من الإخوان الى نظرية تنظيمية تناسب الأوضاع في سورية وتكافؤها، والتطلع الى نظام ينبثق عن هذه النظرية، والى مناهج فكرية وتربوية مناسبة، والى خطة عمل تستهدي بها الجماعة، ومع أنه ببقاء وحدة الجماعة يمكن أن تتم هذه الأمور على التراخي، ولكن وقع الإنقسام، فتمزق الإخوان سنة 1970 الى ثلاث جماعات.

(فصل) في دور القوى الخفية في توجيه الأحداث في سورية

ليس هناك تاريخ واضح لدور القوى الخفية في تاريخ سورية الحديث، ولكن لا شك أن هناك قوى حفية كانت توجه الأحداث، يظهر هذا من خلال بعض الكتابات، ومن خلال التجربة والممارسة، ولكنا لا نعرف الى أي حد لعبت القوى دوراً في أحداث سورية. لقد ظهر كتاب "لعبة الأمم" وكتاب "المخابرات الأمريكية" وكتب كثيراً عما فعله كوهين الجاسوس الإسرائيلي في سورية، وكتب فهمي المعري امين سر محافل الماسونية في سورية كتاباً معلناً عن الماسونية في سورية وذكر فيه أنه يوجد في سورية ساعة كتابته الكتاب: ثمانية وثمانون محفلاً ماسونياً في سورية، ولا شك أن أجهزة المخابرات العالمية كان لها دور في توجيه الأحداث في سورية، ومن ههنا فان الإخوان المسلمين في سورية كانوا يواجهون قوى خفية، وقوى ظاهرة، وقوى داخلية، وقوى خارجية، وتركيباً معقداً، وكانوا لا يعرفون الكثير عما يخطط الآخرون، ولم يكن هذا بمقدورهم، فلا عجب أن الحركة لم تستطع السيطرة على الأحداث.

(فصل) في استقبال الناس للحركة التصحيحية

رغم أن حافظ أسد كان شريكاً في الحكم منذ 8 آذار (مارس) 1964، وكان هو وزير الدفاع سنة 1967، فقد استقبل الناس حركته التصحيحية بنوع من الابتهاج لأنها سبقتها ولحقتها شائعات واتفاقات وكان العهد الذي سبقها محسوباً على صلاح جديد، وكان الناس متألمين من السياسات الداخلية والخارجية والإقتصادية لذلك العهد، فتأمل الناس بعهد جديد تتغير فيه سياسات سورية الداخلية والخارجية والإقتصادية، ومع أن حافظ أسد من الطائفة العلوية ولم يستلم سورية من قبله إلا مسلم سني، نسوا كل ذلك. حتى أن حماة المشهورة بتدينها استقبلته استقبالاً رائعاً، وكان بالامكان وجود شيء من التعقل الا تحدث المواجهة الكبرى بينه وبين الحركة الإسلامية، لكن الأمور سارت في طريق المواجهة مما له قصته الخاصة به.

(فصل) في الثلاثة الذين خططوا لانقلاب 8 آذار (مارس)

في كتاب "التجربة المرة" لمنيف الرزاز الذي كان الأمين العام لحزب البعث العربي الإشتراكي، ذكر أن الثلاثة الذين خططوا لانقلاب 8 آذار (مارس) كانوا: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ أسد. أما صلاح جديد فقد كان العقل المفكر لكل المرحلة التي سبقت الحركة التصحيحية، ثم أنهاه حافظ أسد بالحركة التصحيحية وهو لا زال في السجن حتى الآن سنة (1987). أما محمد عمران فقد قتل في لبنان وهو يخطط لانقلاب في سورية، وعندما كنت في زنزانتي في السجن كان في الزنزانة المقابلة مجموعة شباب، وكانوا يحدثونني – في غفلة عن الحراس – ببعض أمورهم، ومما حدثوني به أنهم هم المجموعة التي اغتالت محمد عمران بتكليف من النظام السوري، ومع ذلك فقد اعتقلوا وحاكمتهم المخابرات السورية وحكمت عليهم.

(فصل) في أول محاضرة لي في الهفوف

دعيت لإلقاء أول محاضرة لي في الهفوف في ثانوية الهفوف في أمسية من أمسيات رمضان، وكان مبنى الثانوية في أطراف البلدة، ولم أكن معروفاً، فكان عدد الحضور قليلاً، مما جعل القائمين على الدعوة يرغبون في تأجيل المحاضرة، وقد اعتذروا الي بخجل، فأصررت على أن أحاضر بالموجودين، فحاضرت ودعوت الى محاضرة ثانية فلما جاء موعد المحاضرة الثانية كان عدد الحضور كثيراً، ومن يومها أصبح الإقبال على المحاضرات والندوات لا بأس به. كان مذهبي ولا يزال أن الداعية الى الله لا يهمه أن يحاضر بواحد أو بمئة ألف، ولا يتغير قلبه اذا كان العدد قليلا أو كثيرا لأن مهمته الدعوة الى الله، وهو جندي عند الله والأمر كله لله، فهو مستسلم لله فيما يفعله فيه. ومن الناحية الدعوية، فان الداعية اذا كان لا يحاضر الا في الأعداد الكبيرة فانه لن ينجح في دعوته، فالمحاضرة في الأعداد الصغيرة توصل الى المحاضرة في الأعداد الكثيرة، والمهم أن يتقبل الله.

(فصل) في طموحاتي في التأليف

صدر كتابي "جند الله ثقافة وأخلاقاً" حوالي سنة 1971 ذكرت فيه أن الثقافة المتكاملة للمسلم ينبغي أن يدخل فيها احدى عشرة مادة. والداعية الكامل ينبغي أن يأخذ حظه الكبير من هذه المواد كلها، ويمكن اختصار هذه المواد بعشر هي:

1- القرآن وعلومه.

2- السنة وعلومها.

3- علوم اللغة العربية.

4- علم أصول الفقه.

5- علم العقائد.

6- علم الفقه.

7- علم الأخلاق.

8- علم التاريخ الإسلامي.

9- علم الأصول الثلاثة.

10- علم فقه الدعوة.

ولم يزل طموحي أن أؤلف في هذه المواد العشر، فليس المهم أن يدل على المادة فقط بل العبرة أن يقدم الشيء المناسب والصحيح في المادة. وقد كتبت سلسلة الأصول الثلاثة، وكتبت في فقه الدعوة عدة كتب، وأنجزت الأساس في التفسير، والأساس في السنة وفقهها (تحت الطبع)، والأساس في قواعد المعرفة (لا زال قيد الانجاز)، وهو في الأصول والمنطق، وأنجزت ثلاثة كتب في الأخلاق، وأنجزت كتابا يصلح مقدمة للعقائد والفقه، وذلك كله من فضل الله، وأسأل الله أن يتم نعمته. وكانت السنوات الخمس التي قضيتها في السعودية فترة طويلة مليئة بالخير في جوانب متعددة ومنها التأليف.

(فصل) في قصة نظام للإخوان المسلمين في سورية

كان للإخوان المسلمين نظام أساسي قديم منذ عهد الدكتور السباعي رحمه الله وكان هذا النظام ملحوظاً فيه أول دستور لسورية عام 1948، وكان يناسب العهد الديمقراطي لسورية لذلك كان هناك شبه اجماع داخل الجماعة أن الجماعة بحاجة الى نظام، ثم بعد أن تطورت الأوضاع في سورية تطوراً كبيراً أصبح العمل الاسلامي في سورية بحاجة الى نوع من الخطة ينطلق على ضوئها الإخوان، كانت علاقاتنا مع العلماء والصوفية وأصناف الدعاة الى الله تسوء شيئا فشيئا، كانت نشاطاتنا محدودة، وأكثرها يعتمد على الخطابة، والخطابة تؤدي دورها في مرحلة ديمقراطية، وكانت سورية تنتقل من ديكتاتورية عسكرية الى ديموقراطية مائعة الى ديكتاتورية من نوع جديد، فالحاجة الى القدرات التنظيمية في مثل هذه الأحوال هي الأهم. ثم أن ما يجري في سورية مرتبط الى حد كبير بأوضاع الجوار والصراع مع اسرائيل ومرتبط بأوضاع عالمية معقدة، وكل ذلك يقتضي تطويرا مستمرا في النظرية والتطبيق، وقد استلم الأستاذ عصام العطار حفظه الله القيادة من الدكتور السباعي بعد مرضه. وعندما كان الأستاذ عصام العطار مراقبا عاما للإخوان المسلمين في سورية كلفني بكتابة نظام أرسلته له حسب الاتفاق على ما يعرض على الاخوة وتجمع الملاحظات حوله، ثم يصاغ ثم يعقد مؤتمر لمناقشته واقراره، وبعد شهور جاءتني رسالة منه أن النظام الذي أرسلته له أرسله الى سورية فمزقه حامله على الطريق وطالبني أن أرسل نسخة منه الى الداخل، ولكن الإخوان في الداخل اتفقوا على صيغة نظام ومع ذلك تم الانقسام. كنت مؤمنا ايمانا قطعيا أن العمل الاسلامي في القرن العشرين يجب أن ينطلق على ضوء قواعد ونظريات متصورة متجددة، والا فانه سيبقى يدور في حلقة مفرغة، وكنت أظن أن هذا الأمر من البدهيات، ولكن تجربتي المستمرة أقنعتني أن هذا الموضوع من أكثر الموضوعات تعقيدا، أو أنه من أصعب الأشياء على الاطلاق، مع أن هذا المليار من المسلمين في العالم لا يسعه الا هذا التفكير.

(فصل) في طباعة الكتب

عندما أنهيت كتابة الأصول الثلاثة وجند الله في جزأيه أبلغت الأستاذ عصام العطار عند ذلك باعتباره المراقب العام، كان رأيه أن هذه الدراسات يمكن أن تكون قسمين: قسما ينشر كأي كتاب والقسم الخاص هو الذي يحتفظ به للدراسات الإخوانية البحتة. حاولت مع أكثر من جهة أن تقرأ هذه الدراسات لتعطي ملاحظاتها، اعتذر الجميع، ما عدا الشيخ وهبي سليمان الغاوجي فقد قرأ ما قدمته له وأعطى ملاحظاته مشكورا. كان قد طبع من هذه الدراسات على شكل كراسة مقدمة المنهج التي بقيت لسنين طويلة تقرأ بامعان في حلقات الأسر وكانت من كتابتي كما طبعت بعض كراسات من كتابنا "الله جل جلاله" ووزعت في مرحلة على بعض الأسر. جاء أحد الإخوان الى الحج، وكان مكلفا بالعمل ف معسكر تدريبي اعطيته هذه الكتب، وقلت له أنني لا أريد شيئا من ريعها، وليخصص ريعها للمشروع الذي أنت بصدده، وأنت حر ف أن تطبع هذه الكتب أو تجد ناشرا، واذا احتجت لمال فبالامكان أن يمول المشروع ههنا ناس على أن يكونوا شركاء في الربح، طبع الأخ كتاب "الله جل جلاله" فلقي رواجا فشجعه ذلك، ثم طبع كتاب "الرسول صلى الله عليه وسلم"، ثم كتاب "الاسلام"، ثم كتاب "جند الله" ولقيت رواجا كبيرا بفضل الله.

الباب الثامن

من السابعة والثلاثين الى التاسعة والثلاثين

من السابعة والثلاثين الى التاسعة والثلاثين
(19721973 م)
من العودة الى سورية حتى دخول السجن

رجعت الى سورية وتابعت انهاء الاعارة للعودة الى التدريس وطالت مدة المعاملة وأخيرا عينت مدرسا في ثانوية المعرة وعينت أم محمد زوجتي في اعداديات بنات حماة، ولقد درست العام الدراسي 1972 في المعرة ودرست في العام اللاحق فيها واعتقلت بسبب أحداث الدستور منها. كان تأثر الطلاب واضحا وتجاوبهم مع الفكر الإسلامي كبيرا، وهذا ازعج جهات متعددة لأن المعرة محسوبة على الفكر اليساري، وأكثر طلابها حزبيون. كنت حريصا على أن أظهر بالمظهر الاسلامي المجرد دون أن أثير أي انتباه لعلاقاتي الإخوانية ولولا أحداث الدستور لكان بالامكان أن أستمر على وتيرة متصاعدة في العمل الإسلامي والإخواني دون أن ينتبه الى ذلك أحد.

كان مركز حماة في الظاهر واقفا في الصراع الإخواني على الحياد بين دمشق وحلب ولكن عواطف أهله كانت موزعة، وكان الاحتفاظ بوحدة المركز في تلك الظروف من أصعب الأمور، وكان الجنوح الى أحد الطرفين يوصل الى كارثة، وكانت عيون كبار المركز مفتحة على الصغيرة والكبيرة، والسير الحكيم وحده بعد توفيق الله هو الذي يضبط الأمور وكانت هذه مهمة القيادة. بعد عودتي من السعودية جرت انتخابات من قبل أهل الحل والعقد في المركز وهم مجموعة منتخبة بناء على النظام الأساس الذي تقدمت به قيادة مؤقتة، ونجحت في الانتخابات وكانت قيادة مركز حماة خمسة: أربعة منهم من مدرسي التربية الاسلامية. انطلقنا في العمل وبدأت تظهر ثمرات ذلك طلابيا وعماليا وعسكريا ومثقفين جامعيين وخريجين، وقد بذلنا جهودا كبيرة حتى سيطر المركز على كل عناصره بمن في ذلك الطلاب الجامعيون الموجودون في جامعتي دمشق وحلب ولم يكن ذلك سهلا. تعاملنا مع كل أبناء المركز بروح واحدة مهما كانت عواطفهم على أن تكون طاعتهم النهائية لقرار المركز الجماعي وكانت سياستنا مع كل الطرفين المتنازعين واضحة وحليمة وحازمة وعادلة ومقنعة، لذلك لم نعط لأحد من داخل المركز أو خارجه حجة علينا.

كتبنا تحليلا للأوضاع في حوالي أربعين صفحة ليطلع عليه الخاصة من مركزنا وتقدمنا لكل من الطرفين بعدد من المشروعات لانهاء الخلاف وكان خلاصة تفكيرنا ما يلي:

1- ان كلا من الطرفين ليس وضعه شرعيا من الناحية النظامية فكل من الطرفين منتخب بناء على نظام لم يقر ولكي يقر النظام فانه يحتاج الى جلسة ذات نصاب خاص ولم يتوافر هذا النصاب حتى تلك اللحظة.

2- ان الأسباب المباشرة للخلاف ليست هي الأهم وانما الأسباب غير المباشرة هي الأهم.

حاولنا أكثر من محاولة لاصلاح ذات البين فلم ننجح. استقال أحد إخواننا من قيادة المركز فتحرك بعض أصحاب العواطف حركة عنيفة أشاعوا أن المركز يقوده اثنان فقط، ففجأنا الجميع بأننا قبلنا أن ندعو أهل الحل والعقد لاجتماع نتقدم فيه باستقبالنا ثم نتفق على سياسة للمركز تنتخب على أثرها قيادة وقد كان ذلك. حضر أهل الحل والعقد وفوجئوا عندما علموا أننا وسعنا القيادة فأصبح يحضر مع القيادة مسئولو القطاعات فكان عدد الذين يناقشون سياسة المركز سبعة، أطلعنا الموجودين على سياساتنا فوافقوا عليها، جرى تصويت على هذه السياسة فأقرتها الأكثرية المطلقة بنسبة كبيرة. انتخبت قيادة جديدة كنت أحد أعضائها. كان أقوى مشروع للوفاق هو الذي تمت صياغته في بيت الشيخ مروان حديد رحمه الله، كان الشيخ مروان رحمه الله حريصا على الوفاق بأي ثمن وكان اذا رأى عنادا من أحد الطرفين طالب الآخر باللين، وقصة هذا المشروع هي:

جاء وفد يمثل الطرف الدمشقي، ونزل في بيت الشيخ مروان، استدعى الشيخ مروان عددا من كبار المركز، وكنت أحد المدعوين، فحضرت، تكلم الجميع وانا ساكت، وبعد ذلك استأذنت بالكلام وبعد مقدمة طويلة تقدمت بمشروع وافق عليه الجميع، فوضعناه كتابة، وأعلنا نحن في مركز حماة أننا سنقف مع من يقبل هذا المشروع، هذا مع أن زملاءنا في مراكز الحياد غائبون وطرف حلب غائب، تعهد الشيخ مروان حديد بمتابعة طرف دمشق، وتعهدت أن آتي بموافقة طرف حلب، كان المشروع يقوم على فكرة بسيطة: هي أن هناك مراكز متفقا على شرعيتها النظامية، ومراكز هي محل خلاف، فالمراكز التي هي محل الخلاف يفوض رئيس القيادة المؤقتة باختيار الصيغة التي يراها مناسبة للوصول الى الشرعية النظامية فيها، وبعد ذلك تجتمع الأطراف فتقر النظام الأساس ثم تنتخب على أساسه مراقبا عاما جديدا للجماعة في سورية. تحركنا بسرعة: سافر الشيخ مروان حديد رحمه الله الى دمشق لمتابعة الأمر، وسافر أحد الإخوة الى رئيس القيادة المؤقتة، وسافرت الى حلب لآخذ الموافقة، أعطتنا حلب موافقة خطية، ووضع رئيس القيادة شرطا بالنسبة لحلب أن يسلم المركز لشخص يعينه، ورجع الشيخ مروان حديد برفض نهائي من جهة دمشق. عقدنا اجتماعا لمراكز الحياد ووصلنا الى فكرة المراكز المتفقة ومضمونه أن من قبل قرار الحياد من الطرفين فسنتحد نحن واياه، ضغطنا على مركز حلب فقبل مبدأ التسليم للشخص المعين. وهكذا وجدت المراكز المتفقة التي قبلت فيما بعد الحل الذي وضعه الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله لمشكلة سورية فيما بعد. واجهتنا خلال هذه المرحلة أحداث كبيرة، وتعاملنا مع بعض الأحداث بأن عالجناها علاجا غير مباشر، وكان أن أدت بنا الأحداث الى السجن بسبب موقفنا من الدستور وها نحن نعرض عليك أهم أحداث هذه المرحلة، وتعاملنا معها:

(فصل) في موقفنا من انتخابات الادارة المحلية

كان حافظ أسد يريد أن يقدم جديدا، وأن يضفي على حكمه مظهر الديمقراطية، وكان حريصا أن يجس اتجاهات الرأي العام، من خلال انتخابات تجريبية، فأوجد فكرة الادارة المحلية وهو نوع بسيط من أنواع الحكم المحلي للمحافظات، وقد كنا خائفين من هذه التجربة لأنها محاولة لتوريط أكبر قدر ممكن من الناس في التعامل مع النظام، ثم هي يمكن أن تكون تمهيدا لانقسام سورية الى عدد من الدويلات، لقد خشينا أن تكون مقدمة لدولة علوية ودولة درزية ودويلات داخلية في المستقبل. وكان الوضع الإخواني المفكك وقتذاك لا يسمح بموقف موحد على مستوى سورية، كان قرارنا في حماة أن نقاطع الانتخابات، لذلك كان الحماس للانتخابات فاترا فلم ينتخب من مجموع الشعب الا عدد قليل، اما حمص فقد أسقطت قائمة الحزبين وأنجحت قائمة أخرى، وهكذا كان الموقف من انتخابات الادارة المحلية مؤشرا الى أن اتجاهات الرأي العام ضد النظام.

(فصل) في ادارتنا لاحتفالات المولد النبوي

(فصل) في ادارتنا لاحتفالات المولد النبوي
قبل الدخول الى السجن

لم يزل المولد النبوي في سورية مظهرا من المظاهر التي يعبر فيها الشعب السوري عن أصالته الإسلامية وتعلقه برسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وأنه ضد الذين يتنكبون هذا الطريق فيحتج على أهل ذلك بطريق غير مباشر وكان أبلغ احتجاج بواسطة الولد ما جرى في عهد فرنسا، ثم كان ذلك فيما بعد أن سيطر النصيريون على سورية، وأخذ هذا الموضوع ذروته في عام 1972 وأحس الجميع أن تظاهرات الشعب بالفرحة موجهة بشكل ضمني ضد النظام، خاصة وأنه قد تقارب الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم مع احتفال النظام بمرور خمسة وعشرين عاما على ميلاد الحزب فعبر الشعب عن ابتهاجه بالمولد تعبيراً أراد به أن يقول: هذا هو الميلاد الذي نعترف به. عبرت المحافظات السورية كلها عن هذه المعاني بقوة وكان تعبير حماه وحمص هو التعبير الأقوى. لم يبق مسجد من مساجد حماة تقريبا الا وأقام حفلة للمولد النبوي اجتمع فيها النشيد والكلمات المعبرة المؤثرة. وكانت هناك حفلات ضخمة في بعض المساجد الرئيسة. وعمت الاحتفالات قرى حماة كذلك. غطت الزينات الشوارع والأسواق والأحياء والأزقة والبيوت والمدارس، كان الصغير والكبير في البلد فرحا مبتهجا. عبر الأولاد عن فرحتهم بأنواع من المسيرات: مسيرات على الدراجات، مسيرات ابتهاجية. نظمنا أن يكون في كل مسجد كلمات عقب بعض الصلوات تتحدث عن السيرة وعن الشمائل النبوية. وكانت قيادة الإخوان في حماة تدفع في هذا السبيل دون أن يظهر أي فرد منها على الساحة تقريبا، فأنا مثلا لم ألق كلمة واحدة وسط هذا الحماس الهائل. تفننت المساجد في التعبير عن الفرحة، استدعى خطباء من خارج حماة ليتكلموا، حدث في أحد المساجد أن طالب اما المسجد وخطيبه: أن تقدم الهدايا للإسلام بهذه المناسبة: الهدية الأولى: أن يعم الحجاب، الهدية الثانية: أن يرسل الناس أبناءهم الى حلقات القرآن في المسجد، الهدية الثالثة: أن يكثروا من الخروج مع جماعة الدعوة والتبليغ في الدعوة الى الله. قرر الشيخ مروان حديد أن يقيم احتفالا في حيه في مسجده الصغير وأن يلقي فيه بيانا شاملا يتحدث فيه عن موقف الاسلاميين وعن كل ما يجري حولهم لكن كانت سياسة قيادة مركز حماة تقوم على تعميق الاسلام في المحافظة وتحويل المتعاطفين الى التنظيم دون أن تظهر على الساحة أو تدخل في مواجهة، وكان الشيخ مروان يحس بحرارة الحركة فيطمئن ويسلم، وكان من طبيعته أنه لا يسلم الا اذا وجد عملا، زارته قيادة المركز وطالبته بأن يعدل عن قراره في الحديث عن رأي الحركة في الأحداث، وأن يكون المولد حافلا بالمعاني والتعليفات والانشاد وقد كان ذلك. كانت مناسبة المولد وانتخابات الادارة المحلية ثم أحداث الدستور مؤشرات كاملة على توجهات شعبنا ضد النظام وعلى رغبته في الوصول الى نظام بديل تتوافر فيه شروط معينة.

لقد استطعنا بفضل الله في هذه المرحلة القصيرة ان نحافظ على وحدة الإخوان المسلمين في حماة، أن نخفف من تمزق الإخوان في سورية الى أقصى حد ممكن، واستطعنا أن نطور العمل الإخواني والاسلامي في محافظة حماة الى ذروة رفيعة، وحددنا المسار في أمور كثيرة، وأثبتنا أن القيادة الحكيمة للمسلمين عبر الحركة المستمرة هي الطريق الأمثل لاستخراج الطاقات الاسلامية، وأن العمل الإسلامي عبر نكران الذات يعطي المردود الأجود فقد كنا في حماة نعمل سرا، ولم يكن يبالي أحدنا أين موقعه، وحيثما يمكن أن ينجح أحدنا فقد كنا ندفعه للنجاح وندعمه، وحيثما يمكن أن يفشل أحدنا أو عندما لا يكون مقبولا فانه كان يتوارى باختياره، كانت مرحلة قصيرة ولكنها ملأى بالتجارب.

(فصل) في أحداث الدستور

لم يزل الاسلاميون في سورية منذ الاستقلال يصارعون من أجل دستور اسلامي أو دستور يعترف بأن دين الدولة الإسلام، وكان أشد أنواع الصراع الذي قام في أوائل أيام الاستقلال وقد بذل الدكتور السباعي رحمه الله جهودا هائلة، وفعل ما لا يخطر بالبال من تعبئة الجماهير واقامة الحجج والاقناع والانذار، ولكنه لم يصل الا الى أن دين رئيس الدولة الإسلام وأن الإسلام مصدر من مصادر التشريع وأن هدف التعليم ايجاد جيل مؤمن بالله، ثم تتابعت الأحداث والانقلابات على سورية. فلما استلم حافظ أسد عزم على اصدار ما سماه بالدستور الدائم لسورية، وكان يريد أن يجعله انجازا من انجازاته، ويركز السلطة فيه بيده بشكل دستوري، وكان يريد أن يمرر الدستور بنوع من المظاهر الديمقراطية وأن يرضي كل الأطراف، وكان يأمل من خلال الدستور أن يوجد وضعا جديدا في سورية. أنجز الدستور مجلس الشعب المؤقت وطرح الدستور على المناقشة العامة وأعلن أنه سيصوت عليه من قبل الشعب كله وكان حافظ أسد يخطط لأن تأتيه برقيات التأييد على الدستور من كل جهة. قرأت الدستور وشعرت بالخطر فالدستور كان علمانيا محضا، وكان أول محاولة من النظام الحاكم في سورية، مبادئه من الاطار الحزبي الخاص الى الاطار الدستوري العام، وكان واضحا أن الدستور سيكون مقدمة لانهاء التعليم الديني في البلاد فهدف التعليم في الدستور ايجاد جيل علماني، ومقدمة لانهاء قانون الأحوال الشخصية الاسلامية وهذا كذلك واضح من بنوده، وتجاهل الدستور دين رئيس الدولة وأشار اشارة ما الى أن الإسلام مصدر من مصادر التشريع، وقيد حرية العبادة بما لا يخل بالنظام، وجعل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد الرئيس، فكان واضحا أن سورية مقبلة على مرحلة ديكتاتورية لم نعرفها من قبل، وأن الإسلام سيصفى تصفية تامة، وأن المرأة المسلمة لن تعطى أي فرصة للمحافظة على شيء من اسلامها وعفافها، والحق أقول: أنه لولا أحداث الدستور لحدث هذا كله، ولكن أحداث الدستور خففت أو أجلت أو ألغت الكثير من هذه التوجهات. لقد طرح حافظة أسد فيما بعد فكرة تعديل قانون الأحوال الشخصية وفكرة التجنيد الإجباري للمرأة، كما مزق الحجاب في شوارع دمشق، ومنع المتحجبات من دخول المدارس بحجابهن، ونقل كل من عنده تدين خارج ملاك التعليم، كل هذا قد تم فيما بعد ولكن الدستور كان المقدمة لهذا كله، وأحداث الدستور هي التي أخرت هذه الاجراءات وخففتها، كما كانت أول هزة عنيفة لحافظ أسد، فقد كان حافظ أسد يطمع في تصاعد مستمر ليرث عبد الناصر في زعامة العالم العربي ان لم يكن يطمع في ما هو أكثر من ذلك، فجاءت أحداث الدستور فهزت هذا كله، فكانت نكسة كبيرة. وقف الشعب ضد الدستور، صوتت بعض قطع في الجيش نفسه ضد الدستور حتى ان نسبة الرافضين للدستور في سلاح المدفعية كان أكثر من خمسين بالمئة، قاطع قسم كبير من الشعب التصويت على الدستور، أثبت الشعب أنه حريص على اسلامه، عرف حافظ أسد أن هذا الإسلام عميق الجذور وأن عليه أن يراعيه في كل تصرف. لكن هذا كله كلف كاتب هذه السطور غاليا، فقد كان حافظ أسد مصمما على اعدامه ثم صمم على أن يبقيه مدى الحياة في السجن ولكن لله مرادا آخر. ولنبدأ عرض الأحداث:

عندما قرأت الدستور وجدت أنه لا بد من عمل، وأن هذا العمل يجب أن يكون باسم علماء سورية، ورأيت أن طوائف كثيرة ستتجاوب مع هذا التحرك، فالناصريون والاشتراكيون وحتى مجموعة صلاح جديد وكل الناقمين سيلتقون حول هذا التحرك، وما دام التحرك باسم العلماء فستظهر الحركة كلها بالمظهر الإسلامي وهذا سيجبر حافظ أسد الى تنازلات أو يعطيه درسا للمستقبل في وجوب مراعاة الاسلام، ورأيت أن علينا نحن الإخوان المسلمين أن نوصل الناس من وراء ستار الى وضع يندفعون فيه دون أن يكون هناك أي ممسك علينا، وعلى هذا الأساس تحركت وأنا أدوام على تدريسي في المعرة، وقد سارت الأمور كلها على ما يرام وبالشكل المخطط له ولكن لله مرادا.

كان خوف الناس من النظام كبيرا وكان علي أن اهتك عقدة الخوف، وعلماء سورية بطبيعتهم حذرون فكيف بالامكان أن نجمعهم على موقف سياسي موحد؟ ومن هو الذي يجرؤ على أن يكون هو البادئ؟ كان الأمر في غاية الصعوبة، لكن كنت أستشعر خطورة أن يقول المسلم لدستور حافظ أسد نعم، كان واضحا لدي أن من يقول ذلك بعلم يرتد، والمسلم الذي لا يعلم سيغرر به وسيوقع على ذبح اسلامه وهو لا يعلم، لذلك صممت على الحركة. وكان زملائي في قيادة مركز حماة كلهم أصحاب عقل نظيف. بعد أن قررت العمل كتبت بيانا عاما في مناقشة الدستور وكتبت صيغة فتوى قصيرة بشأنه. بين يدي محاولتي اقناع من استطيع اقناعه من العلماء بالتوقيع على هذا وهذا. والعجيب أنني لم أكد أنتهي من ذلك الا وجاءني أحد الشباب يقول لي: أن مجموعة من علماء حلب قد مرت على حماة وطلبت أن يجتمعوا بعلماء حماة وحددوا لذلك وقتا وأنهم سافروا الى حمص ليجتمعوا بعلمائها ثم يعودوا، وانه قد اتصل بالشيخ خالد الشقفة والشيخ عبد الله حلاق رحمهما الله فطلبوا منه أن يدعوني مع آخرين لحضور هذا اللقاء فوعدته أن أحضر.

كان الشيخ محمد الشامي رحمه الله معروفا عند الجميع انه له صلاته القوية بالنظام، وكان فلسفة الرجل تقوم على أساس الخدمة من خلال الصداقات مع الحاكمين، والناس في شأنه منقسمون فمنهم من يحسن الظن به على أنه لا يفعل ذلك الا لمصلحة اسلامية وهي خدمة الناس ومنهم من يسيء الظن به. المهم أنه لم تكن هذه القضية خافية علي وكنت أشعر أن الشيخ محمد الشامي قد أعطي ضوءا أخضر لنوع من التحرك بين المشايخ للمطالبة بشيء ما. كنت أشعر أن الشامي يتحرك ضمن حد وبضوء أخضر من الدولة وقررت أن أستفيد من ذلك ثم اندفع بعملية خاطفة لتحقيق ما أريد متجاوزا الحد الذي يريد. وكان من المهم عندي أن يبدأ أحد العلماء بالتوقيع الأول ولم يكن في سورية أجرأ من الشيخ محمد النبهان رحمه الله في حلب وكان الشيخ الشامي هو مفتاح الشيخ محمد البنهان.

حضرت مساء وفي نفسي أو أوجه الأمور بالشكل الذي خططت له... حضر شيوخ حماة مساء وتأخر شيوخ خلب في حمص، تذاكرنا مع شيوخنا بخطورة الدستور وضرورة أن نفعل شيئا ما، حللت الوضع السياسي أمامهم ومناسبته للتحرك، وبقيت ضمن هذه الحدود، تأخر وفد حلب كثيرا، انتظرهم شيوخنا فترة طويلة ثم ملوا، رغبوا أن ينصرفوا أعلنت أنني على استعداد للبقاء منتظرا الآخرين، سر الشيوخ لذلك، وانصرفوا على أن أبلغهم ماذا عند الآخرين، سررت لانصرافهم لأن هذا يعطيني حرية الكلام باسم شيوخ حماة ويجعلني أكثر حرية في النقاش. جاء الوفد الحلبي، لم يكد الوفد يسمع ارائي ووجهة نظري حتى اقترحوا أن أسافر معهم الى حلب لعرض وجهة نظري على شيوخها وأخبروني أن هناك اجتماعا في حلب لمثل هذا، استجبت للعرض مباشرة وركبت في سيارتهم وتوجهنا الى حلب. ووصلنا الى المسجد، كان الاجتماع منفضا الا من قلة كان أحدهم الشيخ محمد الشامي، ذاكرتهم في الأمر، عرضت وجهة نظري في اخراج بيان وفتوى، أعطيتهم نسخة البيان والفتوى اللذين كتبتهما طلبت من الشيخ الشامي أن يوقعها من شيوخ حلب، ثم يرسلها الينا في حماة لنعمل على توقيعها من شيوخ حماة ثم ننطلق الى حمص فدمشق فوافق على ذلك. رجعت مباشرة الى حماة وفي اليوم التالي كنت في مدرستي أدرس في المعرة، اجتمعت بقيادة المركز في حماة وحدثتهم عن وجهة نظري فوافقوا على المنحى العام للعمل. تأخر جواب شيوخ حلب عدة أيام ثم جاء أحدهم ومعه الفتوى والبيان موقعين من حوالي ثلاثة عشر شيخا هم أكابر شيوخ حلب وكان الذي جرأهم على التوقيع هو اسم الشيخ محمد النبهان عندما رأوه على البيان والفتوى، كان ذلك بتأثير الشيخ الشامي وقناعة من الشيخ النبهان رحمه الله عليه بضرورة العمل ضد النظام. كان ذلك نجاحا فوق ما كنت أتصور، كتمت عن كل الناس أن البيان والفتوى كانا من كتابتي.

كنت أعلمت شيوخ حماة بالحديث الذي جرى بيني وبين وفد حلب وأن هناك وجهة نظر ترى أن يصدر العلماء بيانا، وبقي علماء حماة ينتظرون الجواب فلما جاء الجواب دعونا لاجتماع، قرأ المجتمعون البيان والفتوى فوجدوهما شديدين، فقرروا أن يكتبوا بيانا ألين لجهة ويوقعوه وأن يتركوا للشيخ حسن حبنكة رحمه الله في النهاية حق وضع الصيغة النهائية للبيان وذلك من باب الأدب مع الشيخ حسن وكنت حريصا على أن يصاغ البيان وأن يوقع مهما كانت الصيغة لينة. وكتب البيان وبدأ الشيخ خالد الشقفة رحمه الله فوقع وكان هو رئيس جمعية العلماء في حماة وقال وهو يوقع: سيعيد التاريخ نفسه فكما أنه حكم على ثلاثة من علماء حماة في أواخر الدولة العثمانية بالاعدام فسيحكم على بعض علماء حماة بالاعدام من جديد، ثم تتابع من وقع من العلماء على التوقيع، وقد رأى الشيوخ الا يوقع على البيان الإخوان حتى لا يأخذ طابعا اخوانيا وكان هذا ما نريد ولذلك لم أوقع على البيان مع اعلان استعدادي واخواني للتوقيع. كلف أحد الشيوخ أن يذهب الى حمص ومعه صيغة البيانين الحلبي والحموي ليعرضهما على شيوخ حمص وكان رأي شيوخ حمص أن بيان حلب شديد وبيان حماة لين والحكمة الوسط، وقرروا أن يكتبوا بيانا بين بين ويوقعوه، ومبدئيا اتفق على توقيعه حوالي خمسة عشر عالما من حمص وبذلك نكون قد حصلنا توقيعات علماء حلب وحماة وحمص، وكنا دائما نطرح فكرة أن الصياغة النهائية يجب أن تكون للشيخ حسن وكل ذلك قبل أن نلقى الشيخ رحمه الله.

البيان رقم 1

وفي هذه الأجواء قررت قيادة مركز حماة أن تقوم بخطوة سرية تدفع نحو الأمام، وتشجع الناس، وتشعر الشيوخ أنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وتلفت نظر الدولة الى أن هناك قوى جديدة ستتحرك بعنف، وقد حققنا هذا كله من خلال بيان سميناه بيان رقم واحد اعتقد أنه أقوى بيان ظهر في سورية مدة حكم حافظ أسد. كان البيان مناقشة مركزة لكل أوضاع سورية وقد حرصنا أن يمثل وجهات النظر السياسية التي يتجاوب معها الشعب مما جعل كل فئة تظن أن قياداتها أصدرته بشكل سري وقد وزعناه بالبريد من أكثر من مكان في سورية كما وضعه اخواننا في صناديق بريد البيوت وكان ذلك في وقت واحد فلم تشعر السلطة الا والبيان موزع على قطاعات كبيرة، وبدأ الناس يقرأون البيان ويتجاوبون، وكثيرون من الناس بدأوا ينسخونه ويعممونه. وبدأت تعليقات كثيرة تظهر ونسمعها ونتجاهل قال الشيخ الشامي: ظهر بيان مثل السم الناقع وقد استدعتني المخابرات وسألتني عنه. قال الشيخ عبد الله الحلاق: لقد دخلت قوى جديدة الى الساحة. قال بعض الإخوان: انظروا ماذا فعل جماعة أكرم الحوراني انهم بهذا البيان فعلوا أكثر مما فعله الإخوان دون أن يمسهم أذى. سألني فيما بعد أثناء التحقيق ناجي جميل عن البيان رقم واحد، فقلت له: أي بيان؟ فتجاهل السؤال وطوى الموضوع وبقي سر هذا البيان مطويا الى أمد بعيد.

خطب الجمعة قبيل أحداث الدستور

وزعنا بيان علماء حماة على خطباء الجمعة مطالبين باسم جمعية العلماء أن يشير الخطيب الى الدستور مهما كانت الاشارة صغيرة، وكان الهدف من هذا هو أن يألف الناس الهجوم على الدستور فتهتك بذلك عقدة الخوف عند الناس، تكلم الخطباء فأصبح جو حماة مشحونا ولم تعد المدينة بحاجة الا الى دفعة حتى تنفجر، وههنا تحمس الاشتراكيون وأشاعوا أن يوم الثلاثاء يوم اضراب، وكان هذا الذي نريد، أن يتخذ قرار الحركة غيرنا ليشاركنا في تحمل المسؤولية، تحمس الناصريون وأصدروا بيانا وهكذا بدأت الأمور تتوالى بالشكل الذي نريده.

سافرنا الى دمشق ومررنا على حمص، وهناك حضرنا لقاء لمجموعة من العلماء في مقر الجمعية بحمص أعلمناهم أننا ذاهبون للشيخ حسن، أخبرونا أن ما يقوله الشيخ حسن فهم معه، أعلمونا أن هناك خمسة عشر عالما موافقون على التوقيع، أعطونا نسخة من بيانهم، تابعنا طريقنا الى دمشق، بدأنا مع أحد أشياخها وأطلعناه على مهمتنا وأخذناه معنا وذهبنا الى شيخ آخر وأطلعناه على مجريات الأمور فأعلمناه أنه شريكنا، قلنا له: اننا ذاهبون الى الشيخ حسن وسيسألنا عن رأيك فماذا نقول؟ قال: قولوا له: انني أرى العمل. ذهبنا نحن وعدد من الأشياخ الى الشيخ حسن فاستقبلنا استقبالا حارا، وبدأ حديث وحوار من أصعب أنواع الحوار، فلقد كان الشيخ حسن في وزن الجبال ورزانتها، مع علم ووقار وبيان وحنكة وتجربة وقوة شخصية، كان الكبار والصغار والحاكمون والمحكومون عنده تلاميذ. وأخيرا وافق على العمل، درس البيانات الثلاثة، رجح بيان حماة بعد أن أجرى عليه ثلاثة تعديلات ووعدنا اذا وافق علماء سورية على البيان في صيغته النهائية أن يقدم لنا سبعين توقيعا، ومن قبل كنا قد مررنا على الشيخ عبد الكريم الرفاعي فقال: ما يقوله الشيخ حسن فأنا أقوله، وهكذا ضمنا توقيعات كل علماء سورية على بيان مشترك وأظن أنه لأول مرة في تاريخ سورية الحديث يقف علماؤها في كل المحافظات موقفا سياسيا مشتركا فيه مواجهة، رجعنا من دمشق في الليلة نفسها وفي صبيحة اليوم التالي كنت في ثانوية المعرة أدرس وكأن شيئا لم يكن.

كان قرار الوصول الى المراكز المتفقة حديثا، ولذلك لم تكن هناك جهة عليا مركزية تستشيرها قيادة حماة في تصرفاتها، ومع ذلك فقد كان هناك لقاء قد يكون اللقاء الأول لمجلس شورى المراكز المتفقة وكان موعد اللقاء في حلب، حضرت أنا وأحد أعضاء القيادة هذا اللقاء، تغيب عنه بعض الاخوة، أطلعنا الموجودين على خطواتنا، لم يبدوا اعتراضا لكنهم حذروا من الشيخ الشامي.

في يوم الثلاثاء وهو موعد الاضراب ذهبت الى حلب وأطلعت الشيخ الشامي على ما جرى معنا، وههنا أعلمنا أن حافظ أسد قد أصدر بيانا مطولا يتحدث عن الإسلام ويعلن عن أنه يطلب من مجلس الشعب أن يدخل مادة في الدستور تنص على أن دين الدولة الإسلام، وكان الشامي يتكلم بصوت مرتفع ظننت أنه يسجله ليعرضه على بعض الجهات ليحمي نفسه وأبلغنا الشامي أنه يرى أن نكتفي بهذا الانتصار، وتكلمت بصوت منخفض حول ضرورة اخراج البيان واتفقنا على ذلك ورجعت الى حماة، وكان فيما جرى فيها سر البيان الذي أصدره حافظ أسد.

لقد خرج طلاب حماة في مظاهرات عنيفة وهم يهتفون: لا دراسة ولا تدريس حتى يسلم الرئيس، ومزقوا صور حافظ أسد، وأهانوها بأبشع الاهانات، كان ذلك يوم الثلاثاء، وكان أخطر من ذلك ما جرى في حماة يوم الأربعاء، لقد خرجت البلد عن بكرة أبيها، هاجمت مركز الحزب وأحرقت مركز شبيبة الثورة، وأحاطت بالاتحاد النسائي وسيطر الشعب على الشارع، وحطم الخمارات والمقاهي التي تقدم الخمر وكان في المدينة مقهى يرتاده بعض الفجار على "العاصي" اسمه مقهى الغزالة، دمره الناس تدميرا وبقي الشعب آخذا حريته كاملة دون أي معارضة، وكادت السلطة في دمشق نتيجة للبيان رقم (1) تظن أن قطعا عسكرية ستتحرك، ولذلك لم تفعل شيئا ضد الشعب في حماة، فتفرق الناس وهم فرحون بانتصارهم، نزل رذاذ نظيف لطيف على المدينة أحس الناس به أن الله راض عنهم بما فعلوا. خشي حافظ أسد أن يسري ما جرى في حماة الى بقية المحافظات فأصدر بيانه سريعا وعممه على القرى والمدن والمخافر وبدأت أجهزة الدولة تطنطن بالبيان وتستدعي الناس من أجل الاطلاع عليه وأخذ توقيعاتهم على تأييده. ونتيجة لاضراب حماة واحتمالات متابعتها الاضراب خشيت أن تحاصر حماة فتنقطع عن بقية المحافظات فأرسلت الى أحد أشياخ حمص رسالة أعلمه بها بما حدث وأن الاشتراكيين والناصريين فجروا الوضع في حماة، وقد أصبح من المصلحة أن نصدر البيان فالرجاء ارسال أسماء العلماء الذين وقعوا عليه فأرسل لي حوالي ثلاثة وعشرين اسما. استدعيت أحد الإخوان وكلفته أن يطبع لي البيان على ورقة حرير ويضع عليه توقيعات علماء حلب وحماة وحمص والشيخ حسن رحمه الله. ولقد نسخنا هذا البيان على قطعة خشبية يصنعها الطلاب كنوع من أنواع النشاط المدرسي، ووزعنا البيان في حماة وأرسلنا منه نسخا الى حلب وحمص ودمشق، استطاع طلابنا الجامعيون الحمويون في دمشق أن يوزعوه ويعمموه في دمشق أربع مرات خلال أربع وعشرين ساعة دون أن يعتقل واحد منهم، لقد أنشأوا جهاز عمل مصغر لكنه قوي وفعال استطاع أن يفعل الكثير. قال أحد إخواننا الدمشقيين لأحد هؤلاء: ان ما يجري الآن لا يستطيعه الا المخابرات الأمريكية. وبقي الأخ صامتا.

تهيج الوضع في دمشق، خطب كثير من خطباء الجمعة ضد الدستور، قرأ الكثيرون البيان على المنابر، سئل الشيخ حسن عما إذا كان توقيعه صحيحا على البيان، كان الجواب غامضا لا تدينه به الدولة فشعر الناس أن له علاقة في الأمر. كانت رجل ابنتي فاطمة تحتاج الى علاج على أثر حادثة بسيطة، أخذتها للعلاج الى دمشق. وهناك فكرنا في أن نجعل دمشق تضرب، وخططنا لذلك، ولكن علقنا هذا على حدث كبير كأن يعتقل الشيخ حسن حبنكة مثلا. كنت حريصا على ألا أنقطع عن مدرستي بلا عذر، لأنني كنت أطمع أن تمر المسألة دون أضرار كبيرة طمعا في أن أستطيع الاستمرار في العمل الجهري وكان بالامكان أن يحدث هذا فعلا، لكن سارت الأمور في طريق آخر. اعتقل من علماء سورية أحدهم وكان اخوانيا لأن اسمه كان في البيان، وكان واضحا أن أصبح بالامكان أن أوتي من أكثر من جهة، قررت أن يكون 5 آذار (مارس) 1973 آخر يوم عندي في التدريس فأصفي أموري في الثانوية من اعطاء أوراق وعلامات وغير ذلك ثم أتوجه منها الى حلب، لكن جاء أمر اعتقالي وأنا في التدريس ومع ذلك كنت مطمئنا الى أنني أستطيع الخروج من المأزق لأن دوري في الأحداث كان سهلا في الظاهر والمآخذ قليلة، لكن الاعتقال جر الى اعتقال وأخذت المسألة طابعا آخر وكان حافظ أسد يريد أن يرهب الناس وهكذا دخلت محنة السجن الطويل الذي استمر حوالي خمسة سنوات كان ذلك من 5 آذار (مارس) 1973 الى نهاية كانون الثاني (يناير) سنة 1978.

(فصل) في طريقتي في العمل الدعوي

إني أومن أنه لا بد من التفكير الاستراتيجي للعمل الإسلامي الذي يقتضي حركة يومية على ضوء تدبر النتائج، فاذا توفرت النظرة الاستراتيجية فإني أومن أنه لا يصح للداعية أن تمر دقيقة الا في عمل دعوي، وألا يترك فرصة يخدم فيها دعوته الا ويفعل، وألا يترك فرصة تمر يستطيع فيها أن يوصل الاسلام الى مواقع متقدمة الا وعليه أن يستفيد منها، وهذا الأسلوب المتحرك الذي أصبح جزءا من طبيعتي جعل الكثيرين من اخواني يتهيبون من مواقفي ومن آرائي وهم معذورون، فما أصاب الحركة الإسلامية يجعل القائمين عليها أقرب الى الأناة والحذر، فاخواني معذورون، وأرجو أن أكون معذورا، وأسأل الله أن يتقبلنا جميعا.

الباب التاسع

من التاسعة والثلاثين الى الثالثة والأربعين

من التاسعة والثلاثين الى الثالثة والأربعين
(19731987 م: السجن)

كان هناك أكثر من منفذ للسلطة علي تستطيع من خلاله أن تعرف أنني متحرك ضد الدستور، فأي عمل عام لا يخفى على سلطة حذرة ذات أجهزة مخابرات نامية، لكن السلطة تظاهرت بأنها مستعدة لسماع الرأي في الدستور، وكانت تصرفاتي ضمن حدود وأقوالي ضمن حدود والمطالب التي اتفقنا مع الشيخ حسن رحمه الله عليها محدودة، ووجيهة وقد حرصنا أن تكون ذات طابع ديني بحت، كان البحت عني من قبل السلطة مركزا مما يدل على أنه قد بلغت السلطة معلومات عني، فاعتقلتني مخابرات "أدلب" في المعرة ثم نقلت الى أدلب ثم الى حلب ثم الى دمشق في مبنى مخابرات الحلبوني فقضيت فيه ساعات تعرفت بها على بعض المعتقلين ثم نقلت الى سجن المزة العسكري وبقيت فيه حتى خرجت منه. لم تكن عندي تجربة سابقة بالتحقيق المخابراتي، في الوقت الذي أصبح فيه التحقيق المخابراتي يمتلك من التجارب والقدرات والوسائل والامكانات وطرائق التعذيب والارهاب والضغط النفسي والتأثير الفيزيولوجي على الأعصاب بالأدوية والتحكم مما يجعل أسير المخابرات في بلد لا يأبه بدستور وقانون يدخل في عذاب هائل. ان مجموعة من الوحوش والأفاعي والعقارب تهاجم انسانا لا تفعل الا بعض ما يفعله وحوش المخابرات الذين تتفتق أذهانهم عما هو أكثر ألما في وضع لا حماية فيه للضحية لا من قانون ولا من دستور. وكنموذج على عدم حماية الدستور للانسان في بعض الأنظمة ما حدث لي، فحافظ أسد يعتقلني لأنني طالبت بذكر بعض المواد في دستور ينص على أنه يمنع التعذيب الجسدي، فها أنا أعذب جسديا، وقد تم التصويت على الدستور في الأيام الأولى للتحقيق وعرضوا علي أن أدلي بصوتي فرفضت، وبعد أن تم التصويت على الدستور وأصبح مقرا قلت للمحققين في احدى جلسات التحقيق: انكم تحاسبونني على موقفي من الدستور، وهذا يقتضي أنكم مؤمنون بالدستور إيمانا مطلقا، والدستور ينص على منع التعذيب الجسدي، فالمفروض أن يتم التحقيق بلا تعذيب، فما كان من بعضهم الا أن سب الدستور، ثم زادوا الضغط علي ليقنعوني أن الدستور لا يعطيني أي حماية. لم تكن لي تجربة التحقيق لكن ثقافتنا كانت نامية فيه بسبب كثرة الاعتقالات في صفوفنا. لذلك كنا متفقين سلفا مع اخواننا العاملين في مركز حماة عن ماذا نتكلم لو حدث اعتقال بحيث يكون كلامنا متطابقا ونقتصر على الحد الأدني من الكلام الذي لا يسبب ضررا للمعتقلين ولا يؤدي الى كشف التنظيم، ومع أن مثل هذه القضايا أصبحت لا تفيد في سورية لكنها بفضل الله وستره افادتنا يومذاك ومر اعتقالنا واعتقال اخواننا والضرر قليل وقد حفظ التنظيم الى حد كبير. بقيت في السجن خمس سنوات، قضيت فيها في الزنزانات الانفرادية حوالي سبعة أشهر ونيفا، نصفها منفردا، ونصفها الآخر مع ضابط دمشقي كان من مجموعة الضباط الأحرار الذين خططوا لأحد الانقلابات وكشف أمرهم. قضيت فترة ما بعد الزنزانة في عدد من المهاجع:

مهجعين ضما اخوانا مسلمين وناصريين في الغالب، ومهجعا ضم اخوانا مسلمين وبعثيين قوميين وفيهم مجموعة ضباط تخطط لعمل فكشف أمرها. والمهجع الأخير ضمني مع مجموعة الشيخ مروان حديد رحمه الله وكان معنا آخرون. والسنوات الخمس قضيتها في سجن المزة العسكري، وقد كان مديره ابتداءً "رسمي العيد" وهو نصراني، ثم جاء بعده "بهجت الصالح" وهو نصيري وقد خرجت من السجن في عهده، وكان سجن المزة العسكري يتبع من الناحية الادارية شرطة الجيش، وكان على رأس شرطة الجيش الى امد طويل "العميد علي مدني" ثم أصبح مسئولا عن أحد أجهزة المخابرات، وهو حموي من حينا وجمعتنا معاً بعض سني الدراسة في المرحلتين الاعدادية والثانوية، لذلك فهو يعرف عن مرحلة صباي الكثير ويعرف حماسي للإخوان المسلمين وانا شاب.

كانت محنة السجن من أعظم منح العناية الربانية، فقد أنجزت فيها من المؤلفات ما لم أكن لأنجزه لولا السجن، وأغنت تجربتي، وعمقت إيماني، واعطتني دروساً كثيرة، وطورت مفاهيمي السياسية كثيراً من خلال التماس والحوار مع كل شرائح العاملين في الحقل السياسي في سورية، لكن كان هناك شيء واحد يقلقني، أن الضربة أتت صفنا في وقت مبكر، وأن المراكز المتفقة كانت في أول نشأتها فكنت قلقا على مصيرها، ولكن الله تولاها، فلما خرجت من السجن كانت من القوة بمكان، وكانت أصعب مراحل السجن مرحلة التحقيق والزنزانة، وهذا كلام مختصر عنها:

استمر التحقيق معي أكثر من أربعين يوما، والتحقيق في سجون الظلمة من أصعب ما يواجه الإنسان في حياته وخاصة اذا كانت علاقاته واسعة أو مرتبطا بتنظيم، فكل كلمة يمكن أن تجر كارثة على انسان أو أسرة أو مجموعة أو جماعة على مستوى القطر كله وعلى مستوى الداخل والخارج، ولقد اعتبر فقهاء الحنفية أن من الاكراه الملجىء سجون الظلمة فهي كالقتل أو كقطع الأعضاء تبيح للانسان أن يقول ما لا يجوز. كان همي ابتداءً ألا أعترف بشيء عن أي شيء مهما كلف الأمر، وبقيت مصراً على موقفي حتى أتوا بأحد الأشياخ من وراء الباب ووجهوا له أسئلة وأجاب عليها فعرفت أنه قد أسقط في يدي وأنه لا بد من الاعتراف بشيء حول التحرك ضد الدستور، وصممت ألا أتجاوز ذلك الى غيره وكان ذلك، واستطعت أن أبقى في هذه الدائرة بفضل الله لكني تحملت مسئولية التحرك ضد الدستور كاملة بمفردي ولكن اعتقال احد الإخوان – من دير الزور وهو يسكن حماة – كشف عن بعض التنظيم الإخواني في حماة، فكتب كما روى لي مرافقه في الزنزانة حوالي أربعين صفحة، وكانت حجته اني اعترفت عليه ولم يكن شيء من ذلك، فلما فوجئت بذلك وفوجئت بذكر عدد من الأسماء الذين هم في مركز المسئولية وأنهم قد اعتقلوا وجدت أن الأمر اتسع وأصبح يحتاج الى تصرف حكيم، قررت أن أتحدث بالقدر الذي يحصر الدائرة في حماة ولا يتجاوزها خارج حماة وقد كان ذلك. لقد استطاع المعتقلون الحمويون أن يتحدثوا ضمن المتفق عليه وضمن ما توقعوه أنه مكشوف فأحسنوا التصرف وتحملوا العذاب فلم يكشف من تنظيمنا الحموي إلا قليلا، ولكن اثنين من الاخوة أحدهما حموي والآخر غير حموي أوجدا خرقاً على اخواننا خارج حماة فتوسعت الدائرة. كانت السلطة قد اعتقلت قبلي أحد الأشياخ ووضعته في ظروف قاسية كما اخبرني بعض من شاهدوا تعذيبه، وكان الشيخ يعرف اسرار الجماعة تفصيلاً، وتحت التعذيب الشديد اعطاهم رؤوس خيوط سواء بالنسبة لقضية الدستور أو بالنسبة للإخوان المسلمين، وقد تحرك علماء سورية بسرعة لمناقشة حافظ أسد في الدستور وللمطالبة بالشيخ المشار له. ولكن الجلسة استمرت ساعات دون طائل كان حافظ أسد هو المتكلم الوحيد تقريباً، وكان جو الارهاب مسيطراً على الجميع لذلك لم يخرجوا بفائدة من اللقاء. المهم أن رأس الخيط كان بأيديهم قبل اعتقالي، ولقد كنت مصمماً على الموت على أن يحدث خرق من قبلي ولكن عندما يحدث الخرق يجد الانسان نفسه مضطراً للتعامل معه بقدر لأنه لا فائدة ترجى في تلك الحالة من التصلب ولقد كانت سياستي أثناء الاعتقال انه اذا وجد خرق وكان باستطاعتي أن أخفف من آثاره أو أن أوجهه وجهة تصرف النظر عن جهته فعلي أن أفعل. كان مركز حماة يرتبط به المئات من كل أصناف الناس فخرجوا نتيجة التحقيق أننا في حماة لا شيء، وأننا مبتدئون بالعمل وأنه لا علاقة لنا بأحد في خارج حماة، فلما حدث الخرق خارج حماة تكلمت بما أشعرتهم فيه أو وضع الإخوان المسلمين أتفه من أن يفكر فيه وأن تمزقاتهم تجعلهم لا يفكرون بشيء وأنه لا شيء من الناحية التنظيمية الا بدايات لا تساوي شيئا وقد أعطى ذلك للمعتقلين فرصاً وخفف من حدة التعذيب والعقوبة، لذلك انتهت أزمة بعضهم بعد شهور فأفرج عنهم وانتهت أزمتهم جميعاً بعد سنتين، والوحيد الذي بقي في السجن بسبب أحداث الدستور هو الفقير قد قضيت كما ذكرت حوالي خمس سنين. لقد تعاون على التحقيق معا ناجي جميل وحكمت الشهابي وعدنان الدباغ وعلي دوبا وعلي مدني ورسمي العيد ومحمد الخولي وغيرهم، وقد كان انطباعهم الأول أنني انسان متزمت غرر بي محمد الشامي وأنني انسان عادي، ثم تطور التصور فأحسوا أنهم أمام انسان قدراته الحركية واسعة، ثم تطور التصور عندما بدأوا في دراسة كتبي وخاصة "جند الله"، ثم تطور التصور عندما اعتقل بعض الإخوان. لقد كان استمرار التحقيق مع المعتقلين يعطي عني تصورا متغيرا حتى وصل الأمر الى أن حافظ أسد صار يعتبر اعدامي بدهية ثم تنازل فقرر ابقائي في السجن مدى الحياة، ثم لظروف انتخابه لفترة رئاسته الثانية أفرج عني. استطعت أنا واخواني في حماة أن نؤكد أننا لا نشكل خطرا، وأننا مبتدئون بالعمل التنظيمي داخل حماة وأن أقصى ما يمكن أن يصل اليه عدد الإخوان المسلمين ثلاثمائة أخ جامعي، وكان يرتبط بالمركز مئات الطلاب الثانويين والاعداديين، وكان يرتبط بالمركز أعداد جيدة من الخريجين والمعلمين والعمال، وجاءت مصادفة كان لها تأثيرها على تفكير أجهزة أمن الدولة الى سنوات، ولقد حاولت أن أستغلها الى أقصى حد:

اعتقل أخ لبناني متدين ومتحمس وكان يتردد على حماة كثيرا وله صلة بالإخوان وبالعلماء، وقد جاءني مرة يروي لي تصرفا قام به الشيخ مروان ومجموعة من الإخوان، فقد ذهبوا الى مفتي حماة الشيخ بشير الراد وتحدثوا معه بشيء من الخشونة وكان رده طيبا، فذكرت للشيخ المشار اليه أنه مثل هذه التصرفات تؤثر على توجهاتنا، وأن مخططنا في الحركة على حسب اجتهاد الأستاذ البنا غير ذلك، فعندما اعتقل الشيخ ذكر هذه التفصيلات أمام المحققين ففتحت علي بابا صعبا من ناحية ونفعتنا من ناحية، فقد استمر في أذهان المحققين بسبب ذلك أنه لا علاقة لي مع الشيخ مروان وأولوها بأن بيننا تنافسا على الزعامة، ولكنهم بدأوا يركزون ويسألون عن تفصيل مخططنا، فأصررت على أنه لا توجه عندنا الا نحو العلم والدعوة، وأن من يقول غير ذلك كذاب، واجهوني بالشيخ المشار اليه فأصررت على ذلك وأسمعته كلامي بدقة وبسرعة، فهم منحى كلامي، ويبدو أنه بعد أن أخرجوني تكلم بنفس الروح التي تكلمت بها وانتهت الأزمة، لكن خرجوا بانطباع أن الإخوان المسلمين ليسوا جميعا على نفس واحد في المواجهة.

كشف الشيخ السوري الذي اعتقل قبلي أنني أرسلت له رسالة ثم أرسلت له البيان الذي فيه توقيعات العلماء، وهذا أفاد من ناحية وأضر من ناحية أخرى، كنت ذكرت له في الرسالة ان الاشتراكيين والناصريين هم الذين قاموا بالحركة في حماة وكنت صادقا في ذلك، وهذا القدر أفاد كثيرا، فانهم صدقوه لأنه رسالة من شيخ الى شيخ قبل الاعتقال فلا مجال للتهمة، ولكن من ناحية أخرى أثبت أن لي علاقة في العمل وفي البيان، فلم يكن أمامي إلا أن أتحمل مسؤولية البيان، ولما عرفوا أن البيان نسخ بين خشبتين أدركوا أن الأمر سهل وأنه في منتهى البساطة، فلقد كانوا قبل ذلك يسألونني عن التمويل والتسليع والاتصالات بين القوى السياسية في البلد ثم سكتوا عن هذا كله. كانت زنزانتي الزنزانة رقم 8 داخلية وهي مشرفة على مدخل السجن، ولقد وضعوني بها فيما يبدو لأكون تحت الاشراف المباشر لادارة السجن فلا اتصل بأحد، لكن كنت أستطيع من خلالها أن أرى القادمين الجدد الى سجن المزة، وفي اليوم المخصص للحمام كنت أستطيع أن أرى كل نزلاء السجن ولكن ادارة السجن كانت تراقبني ولا تسمح لي بالوقوف حيث أستطيع الرؤية. من العادة في السجون أن يعطوا السجين فرصة للتنفس خارج زنزانته أو مهجعه، بقيت حوالي شهرين دون أن أعطى هذا الحق، وبعد ذلك صاروا يخرجونني تحت المراقبة الشديدة وبعد اخلاء منطقة التنفس حتى لا أرى أحد ولا يراني أحد، وكانت المدة المخصصة لي دقائق معدودات. من المعلوم أن السجن الانفرادي من أشق أنواع السجون ولكن الله خففه علي بالصلاة وتلاوة القرآن. أذنوا لي بعد فترة من التحقيق أن آخذ مصحفي وقد أعطاني هذا فرصة أن أعيد حفظي للقرآن بعد أن كدت أنسى الكثير منه بسبب ظروف العمل، وكانت هذه أكبر نعمة من نعم الله علي في السجن. أتيحت لي فرصة التأمل الواسع في القرآن فتيقنت من نظريتي في الوحدة القرآنية التي بنيت عليها تفسيري فيما بعد.

قضيت أكثر أيامي في الزنزانة صائما قائما وكنت لا أدخل علي من الطعام الا أقله مما أعادني الى حيويتي الأولى وشبابي وقد خف وزني كثيرا بسبب ذلك وكاد مرض السكري أن يتلاشى ولكن نقلنا الى المهاجع بعد ذلك أعادنا الى وضعنا الأول. كان بعض قاطني الزنزانات تطرأ عليهم طوارئ فكنا نسمع أصواتهم في بعض نوباتهم الجنونية، ذلك كله كنت منه في عافية بفضل الله. لا أذكر الاهانات والتعذيب فذلك نحتسبه عند الله الا أن المشرف على هذا والذي كان يعتبر جلاد سجن المزة قد قتله الإخوان فيما بعد. كنت أرى من زنزانتي حفلات السلخ والجلد والتعذيب للقادمين الجدد الى سجن المزة، وكان أكبر فوج دخلها بعد فوجنا فوج الضباط الأحرار الذي أعتبره أجراً تنظيم عسكري سياسي وجد في سورية. وقد أدخلوا واحدا منهم علي بعد حوالي أربعة أشهر من اعتقالي، ومن خلاله عرفت أشياء كثيرة مما حدث في سورية بعد دخولي السجن، كنت في الابتداء حذرا منه وكان حذرا مني، فقد تعلمنا أن من أساليب المخابرات أن يضربوا أحدهم ضربا مبرحا ثم يدخلوه على بعض المتهمين لينتزعوا بعض الأسرار، وكانت خطتي التي التزمت بها مع أقرب المقربين وعممتها على الإخوان ألا يتكلم الانسان مع أحد الا في الحدود التي تكلم بها مع المحققين، ولقد خالف بعض الاخوة فندموا كثيرا عندما فتح تحقيق جديد. وهكذا قضيت مع ذلك الضابط بقية أيام زنزانتي، لم يكن يصلي أو يصوم من قبل، وكان كثير السكر قبل التزامه بتنظيم الضباط الأحرار الذي كان يحرم على أعضائه أن يسكروا كي لا يدلوا بمعلومات، صلى وصام فترة وجودنا معا لكنه عاد الى وضعه الأول بعد أن افترقنا، كان أبواه صالحين كما حدثني. كان يتضايق من كثرة صلاتي وقراءتي القرآن لأنني بذلك أحرمه المسامرة ولم يكن عندي قدرة على تعطيل برنامجي، كنت أسهر الليل وهو نائم، وأنام في النهار وهو مستيقظ، كنت أعطيه الكثير من وقتي ولكن لا على حساب عبادتي وتلاوتي. قامت حرب تشرين (أكتوبر) ونحن في الزنزانة، قصف سجن المزة لكن الصاروخ نزل قريبا منه بفضل الله، أخرجونا من الزنزانات لأنهم احتاجوا اليها لوضع الأسرى اليهود فيها، ولولا ذلك لبقينا في الزنزانات سنين، وهكذا نقلت الى مهجع فيه ناصريون سجنوا بسبب أحداث الدستور وأحداث لحقتها، كانوا يظنون أن سجن الإخوان المسلمين مع الناصريين مفيد في تعميق الهوة بين الطرفين، ولكن الواقع أن كلا من الطرفين كان نموذجيا في حسن التعامل مع الآخر مدة السجن. تبين لي أن بعض الاخوة في مهجعنا ثم في المهجع الآخر كانوا يحملونني أخطاءهم وضعفهم مستغلين غيابي في الزنزانة، فلما اجتمعت بالإخوان وعرفوا الحقيقة سخط بعضهم على هؤلاء وأراد بعضهم أن يؤذيهم ولكني صبرتهم، وعرف الإخوان الحقيقة من أين أتوا، لقد أتوا من خلال اثنين أو ثلاثة ولكنهم جميعا معذورون، وكنت أكرر عليهم قصة الغلام في حادثة الأخدود، لقد كان صديقا ولكنه أقر على الراهب تحت التعذيب حتى أعدموه.

ولنتكلم قليلا عن تنظيم الضباط الأحرار...

هذا التنظيم يقوم على أفكار رئيسة، وبعض أفراده لهم صلة بليبيا ولبعضهم صلة بالعراق، وأفكارهم الرئيسة في التنظيم أنه يجب أن يكون لهم ضابط في كل كتيبة، فاذا وجد في كل كتيبة ضابط وغطى ذلك قسما كبيرا من الجيش وأصبح لكل ضابط من خلال فراسته من يمكن أن يتحركوا معه في اللحظة الحاسمة عندئذ يعتقلون كل من ليس سنيا في الجيش، ثم يحركون العناصر السنية في انقلاب يستلمون على اثره الحكم، وكان عدد من هؤلاء الضباط حمويين، ويبدو أنه بسبب من أحداث الدستور تصاعد عدد المنتسبين لهذا التنظيم، لولا أن تنظيمهم اكتُشِفَ لأمكنهم خلال فترة محدودة أن يسيطروا على سورية فالجوا مهيأ والضباط على استعداد.

ولنعد الى السياق...

نقلت الى مهجع ضم الإخوان والناصريين، والانتقال الى المهجع بعد الزنزانة عيد عند أصحابه، لذلك ملأت البهجة نفسي ونفس اخواني وكانت أحاديث مطولة. عرفت أن الناصريين المعتقلين وكلهم من الساحل تقريبا اعتقلوا بعد أحداث الدستور لتحركين:

تحرك انتخابي وتحرك مواجهة، فقد حدث في الحي الرئيس لأهل السنة في اللاذقية واسمه "حي الصليبة" نوع من المواجهة بين الشعب والسلطة، وحدث اطلاق نار كثيف واعتقلت أعداد هائلة من اللاذقية وعذبوا تعذيبا شديدا وأهينوا وأهين الاسلام كثيرا، وكان في السجن بقية من هؤلاء المعتقلين. عرفت أن التحرك الكبير لأهل اللاذقية كان بمناسبة المولد النبوي وكان في ذلك العام في آذار (مارس)، وكانت هذه الاعتقالات من آثاره، كما عملت أن تحركا كبيرا حدث في حمص بالمناسبة نفسها فأطلقت السلطة النار على الناس فقتل أكثر من ثلاثين شخصا. وجدت بعض الكتب الشرعية في المهجع فأبهجني ذلك، طلب مني بعض الاخوة أن أنشيء دروسا، فبدأت دروسا خاصة في التفسير ودروسا في الفقه، وكانت دروس التفسير هي بداية اشتغالي في التأليف في التفسير، اقترح بعضهم جلسة ثقافية لكل المهجع وكان ذلك، لكن الحساسيات كانت كثيرة، فاذا ما طرق أي موضوع يمس العمل السياسي أثار حساسيات، لذلك لم تنجح الجلسة، كانت علاقاتي طيبة مع الأفراد جميعا، لأن أدب السجين كما يفهم من قصة يوسف عليه السلام الاحسان الى السجناء، ولو كانوا كفارا، فلقد قال صاحبا يوسف وهما وقتذاك كافران: {إنا نراك من المحسنين} [يوسف: 36] وهذا الأدب كنت دائم المطالبة به، أطالب نفسي واخواني به. كانت وجهة نظري في الحياة داخل المهجع أن يقلل الانسان الخلطة ما أمكن، ففرضت على نفسي نوع عزلة الا فيما لا بد منه، وهذا أعطاني فرصة للمطالعة والكتابة فكانت انجازاتي في مرحلة السجن كثيرة وكبيرة بفضل الله. ومن أجل العمل كنت أسهر الليل حيث الناس نائمون وأنام في النهار حيث الناس مستيقظون، وقد ألزمت نفسي أن أشارك بخدمات المهجع، وكان اخواني يحبون ذلك، مع أن أهل المهجع جميعا متفقون على اعفاء بعض النزلاء من الخدمة. وقررت السلطة بعد عشرة أشهر من أحداث الدستور أن تفرج عن بعض المعتقلين، وأوزعت الى بعض المعتقلين أن يكتب كتاب استعطاف وأشعرت الجميع بأن الطريق مفتوح أمامهم لذلك. كان اخواننا يعيشون على تطلعات الاقتداء باخوان مصر في ثباتهم ورفضهم الاستعطاف، وكنت أرى أن وضعنا يختلف، فاخواننا في مصر حققوا القدوة اذ أخذوا بالعزيمة أما نحن فتسعنا الرخصة. وكان وضعي هو الوضع الحرج، فالإخوان يتطلعون الى موقف صلب مني، وبعض الإخوان ممن ثقته في ضعيفة كان يرى أنني أريد أن أدفع الإخوان الى الرخصة لأسجل لنفسي منفردا موقفا بطوليا، مع أنني أكره لنفسي دائما أن آخذ مثل هذا الدور، أمام هذا الوضع قلت ما يلي:

أنا أرى أن يكتب الإخوان جميعا طلبات استعطاف، أما أنا فأضع أمري بين يدي اخواني، فما قرروه فانني سأنفذه. رأى الاخوة أن نكتب بلا استثناء، فكتبوا وكتب أحد الاخوة على لساني بعض كليمات، ورغم أنني قليل البكاء فقد بكيت لهذا الموقف. كانت النتيجة أن أفرج عن بعض الاخوة، وعن بعض الناصريين، وكان ذلك عيدا عندي، فكلما خرج أخ كنت أفرح، لأنني اعتبرت نفسي المسؤول عما حدث، عرفت فيما بعد أنه أفرج عن بعض الناس في المهجع الآخر الذي يضم امثالنا، جمع الباقون من المجعين في مهجع واحد، فاجتمعت البقية المتبقية من الإخوان والناصريين في مهجع واحد، ونقل الى هذا المهجع خليل بريز صاحب كتاب "سقوط الجولان" فتمت بهجتنا، وكنت أعرفه من قبل. عكفت على كتابة التفسير فأنجزته في أقل من سنتين، وأنجزت خلال سجني عددا من الكتب الا أن بعضها ضاع وبعضها حولته الى كتب أخرى أو أدخلته فيها، ومن تآليف السجن:

من أجل خطوة الى الأمام، وجولات ف الفقهين الكبير والأكبر، وتربيتنا الروحية، وكتاب سميته القواعد في البناء، ورسالة برسم التنفيذ، ورسالة نظريتنا الأمنية – وهي رسالة مشتركة، ومع أنه من الناحية الرسمية لا يسمح لأحد أن يخرج شيئا مكتوبا خارج سجن المزة فقد يسر الله أن يخرج معظم ما ألفناه ونسأل الله أن تعم به الفائدة. اصطدمت مع أكثر من انسان داخل السجن بسبب موقفه من الاسلام، وكانت الأمور تحل بسلام، غلب على مجعنا الثاني العلم والعبادة. كثرت مآخذ بعض الاخوة على بعض بسبب ضيق الصدر وكثرة الخلطة، كان بعض الاخوة يرى أن علي مسؤولية أن أفعل شيئا ما لانقاذهم فاتفقت مع أحد الأشياخ أن نكتب كتابين الى حافظ أسد، تحملت في رسالتي مسؤولية أحداث الدستور وتعجبت أن يوجد سجين غيري من أجل هذا، وبطبيعة الحال كانت اللغة لينة لاقتضاء الحال ذلك، فلقد كان الهدف الافراج عن اخواننا، وعلى رأس السنتين تقريبا أفرج عن أكثر الإخوان ولم يبق الا أفراد قلائل ثم فرج الله عن الجميع وبقيت وحدي.

أقبل بعض السجناء المحسوبين على الناصرية على حفظ القرآن وكنت أسمع لهم. كانت المراسلة السرية بيني وبين اخواني في الخارج قائمة، فكنت أتعرف على بعض مجريات الأمور وأرسل لهم وجهة نظري في بعضها الآخر. من عجيب الرؤى أنني قبل السجن رأيت كأن قائلا يقول لي: "أنت مع العشرة" ولم أعرف مضمون هذه الرؤية لكني عندما كنت في المهجع الثاني كنت أعد الحمويين المعتقلين فأجدني عاشرهم. كما أن من عجيب الرؤى أني رأيت رؤيا في الزنزانة فهمت منها أن مدة سجني ستكون خمس سنين الا قليلا فكانت كذلك. اعتقل بعد أكثر من سنتين مضتا على اعتقالي الشيخ مروان حديد رحمه الله واخوانه وتسرب الينا النبأ وأفرج على أثر ذلك عن بعض كبار الناصريين فالسلطة كانت تحب أن توحد معاركها، وكان تعذيبا رهيبا يسلط على اخواننا من مجموعة الشيخ مروان حديد ولم نكن نستطيع الا الدعاء. بعد خروج اخواننا والناصريين أصبحنا في مهجع جديد يضمني وخليل بريز وجمال الصوفي أحد وزراء عبد الناصر في عهد الوحدة وبعض البعثيين المحسوبين على العراق، ومجموعة من الضباط اتهموا بالاعداد لتمرد على رأسه شاب أريحى التفكير. كانت حياتنا روتينية، وكان هناك شيء من حوار سياسي معقول، وكانت علاقاتنا مع الجميع حسنة لأني كنت أتجنب اثارة العصبية الحزبية، كنا وأكثر السنيين على اختلاف مذاهبهم السياسية وكأننا قلب واحد، وكان هذا يؤلم غير السنيين عندما يرون الإسلام أقوى من التربية الحزبية، وكانت الدروس مستمرة لكن ادارة السجن أشعرت الجميع أن هذه الحلقات ليست لصالحهم فخففت منها. كنت حريصا طوال مدة السجن ألا أتهجم على أحد وأن أشعر الجميع أني لا أشكل خطرا على أحد، وكان هذا حتما يصل الى مسامع السلطة، وكان هذا عاملا من عوامل الافراج عني فيما بعد، وكدت أن أخرج من السجن في نهاية السنتين والنصف، وقصة ذلك فيما يلي:

فكرت السلطة أن تفرج عني على أثر اعتقال الشيخ مروان حديد كمحاولة لتخفيف حدة التوتر في حماة وكنت أكره أن أخرج من السجن في مثل هذه الظروف، استدعتني ادارة السجن وطلبت مني أن أكتب كتابا الى حافظ أسد أستعطفه فيها للافراج عني، فكتبت كتابا طالبت فيه الافراج عني وعن الشيخ مروان حديد واخوانه وكلفني ذلك أن أبقى في السجن سنتين وخمسة أشهر أخرى. لم يكن يفوتني ماذا تعني كلمتي، ولكني لم أكن راغبا في أن أخرج على جثث اخواني، كان التأليف شغلي الشاغل في المهجع الجديد واستمر وجودنا في هذا المهجع حتى وفاة الشيخ مروان حديد رحمه الله في مستشفى السجن.

في اليوم الذي توفي فيه الشيخ مروان حديد رحمه الله نقلت أنا وخليل بريز وجمال الصوفي وآخرون الى مهجع آخر ولم نعرف السبب، وكان المهجع فارغا عندما دخلناه، وبعد قليل بدأت تتوافد علينا العناصر التي اعتقلت مع الشيخ مروان رحمه الله، وكلها كانت في الزنزانة لأكثر من سنة، كانت فرحة اللقاء عامرة غامرة، وقدرنا السر فيما حدث بعد ذلك، لقد كانوا يخشون من مغبة معرفة المجموعة بوفاة الشيخ مروان، وكانوا يخافون من ردة فعل، فجمعونا في مكان واحد وأتوا بنا لنقوم بدور مهدئ بحكم سننا وتجربتنا، كانت مجموعة من الشباب اجتمع فيهم دين وقوة نفس والتفوا حول الشيخ مروان على الجهاد، كانت اجسامهم قوية ونفوسهم قوية وعقولهم نظيفة وشعرت أنه اذا ما أردنا أن نبقي لهم ألفتهم في جو السجن فلا بد من ملء الفراغ بما هو منتج ومفيد، وبدأت دروسا صباحية ومسائية، وكنت أعالج أي مشكلة عامة في الدرس الصباحي أو المسائي، ثم بدأت بالدروس الخاصة، وكان الشباب في زنزاناتهم قد بدأوا حفظ القرآن، وهكذا بدأ المهجع وكأنه مدرسة، فهناك نحو وصرف وبلاغة وفقه وتفسير وحديث وفقه دعوة وقراءات وسلوك، وبعض الاخوة بدأوا يشتغلون في التأليف. واستقر الأمر على أن تكون هناك جلسات عامة لمناقشة أمور المهجع، فكنا نبقى الساعات لمناقشة الصغيرة والكبيرة واتخاذ قرار بشأن المهجع. أبعدنا أنفسنا والاخوة عن أية مناقشات لها علاقة في الخارج الا لماما وضمن الحدود التي لا تسيء الى وحدة المجموعة أو الى أمنها. رأى الاخوة أن يقيموا خطبة الجمعة – على عدم توافر الشروط لاقامة الجمعة – فكانوا يخطبون ونصلي الظهر جماعة. كان طعامنا جماعيا وهي سنة لم ينجح فيها مهجع لمدة طويلة وتركنا لكل أخ خصوصياته وحريته في أن يأكل ما شاء، واذا جاءت زيارة كان الأخ يأخذ ما يريد والبقية للمهجع كان الجميع يواسون بعضهم وكأنهم اسرة واحدة فليس هناك من أخ يشكو حاجة أو تحيزا. حتى الأمكنة في المهجع كانت متنقلة كل شهرين بحيث لا يبقى أحد في مكان متميز، وطبقت هذا على نفسي مع مرضي وخص من ذلك خليل بريز وزهير الشلق بعد أن انتقل الينا وجمال الصوفي وبعض الضيوف وكذلك المرضى، وكان نجاح ذلك كله منوطا بأن أطبق هذا على نفسي. حدثت بعض المزعجات فكنا نطوقها بسرعة كأن يختصم اثنان من الاخوة أو ينفرد أحد بوجهة نظر أو يسيء أخ التصرف. بذلت جهود كثيرة من أجل حسن التعامل مع أضياف المهجع، لقد كان جميع أهل المهجع ومن يدخل اليهم يصلون ويصومون، وأتتنا مرة ادارة السجن بشيوعيين أحدهما نصراني والآخر نصيري، وكان واضحا أنها تريد أن تزعجنا بذلك، لكن الرجلين أدركا الوضع بسرعة وشاركانا دون طلب في صيامنا وصلاتنا ثم طلبا الانتقال فنقلا، فتحنا معهما حوارا مطولا، أدركا الكثير عن تصوراتنا، وكانا من رابطة العمل الشيوعي. كان شريكنا في المهجع أحد الأخوة، وكان عصبي المزاج جدا، فاصطدم مع الإخوان كثيرا وكنت أحاول أن ألطف الأجواء، وقد أصابني الكثير من حدته لكنه أدرك في النهاية أن أسلوبي هو الأسلوب الوحيد الممكن داخل السجن، ثم فرج الله عنه بوساطات. كانت حياتي مع هؤلاء الشباب متعة لكن ارتفاع الضغط وارتفاع السكري ووضعي الخاص كل ذلك جعلني أتطلع الى خروج من السجن ودعوت الله في ذلك واستجاب الله الدعاء. فقد كان حافظ أسد مقدما على تجديد رئاسته وكان بعض الشيوخ يلحون عليه في شأني ومنهم الشيخ حسن حبنكة رحمه الله، وكان يريد أن يرضي المتدينين، واطلاق سراح واحد في أي لحظة يستطيع اعتقاله لا يضره، وهكذا قرر الافراج عني، استدعيت وطلب مني أن أكتب كتابا استعطف به كالعادة، كان أصعب شيء علي أن أطالب بالانسحاب من الإخوان أو أعطي تعهدا وعهدا، وكنت أدعو الله أن أخرج بلا عهد ولا عقد، كتبت كتابا تخيرت فيه كلماته وأطلعت عليه أخوين من مجموعة الشيخ مروان فلم يريا فيه شيئا، لقد تجنبت في الكتاب ما أريد أن أتجنبه، كان قرارهم جازما بالافراج عني، أبلغوني ذلك، خرجت الى الإخوان وأبلغتهم، ووزعت عليهم كتبي، كانت ساعة فراق صعبة، كنت لهم كالوالد والأخ والخادم، لكنهم كانوا يعرفون أنني لن أنساهم، أخرجت من السجن وذهبوا بي الى آمرية الطيران، كان هناك ناجي جميل وعلي دوبا ورسمي العيد وعلي المدني، كان حديثي مطولا، وأردت من خلاله أن آخذ فرصة عمل دعوي، حدثتهم عن تفكيرنا نحن الإخوان المسلمين في سورية وأدراكنا للأوضاع الدولية، وحدثتهم عن وضعي الصحي، وأظهرت عجبي كيف يعتقل أمثالي هذه السنين الطويلة. ثم وضعوا تحت تصرفي سيارة لتصل بي الى حماة، بل لتسلمني هناك لأحد فروغ المخابرات، أخبرتهم أنني أرغب في زيارة الشيخ حسن حبنكة فوافقوا، قرعت باب الشيخ حسن فعلمت أنه ذهب الى القصر الجمهوري، كتبت اليه وريقة أعلمه بالافراج عني وأنني سأزوره، كان حافظ أسد قد استدعاه ساعة الافراج عني ولم يبلغه بالافراج عني، لذلك طالبه الشيخ حسن بي بشدة سأله حافظ أسد: هل تكفله، قال: لا أحد يستطيع أن يكفل أحدا، خرج من المقابلة ولم يعلمه بما كان فعل. كنت في جلستي مع ناجي جميل وزملائه قد طالبت بأوراقي في السجن وطالبت بالافراج عمن لم تثبت في حقه تهمة وحددت بعض الأسماء، وأعلنت عن استعدادي لكفالة الجميع اذا كان بالامكان الافراج عنهم، وعدت بدراسة الأمر، أفرجوا بعد ذلك عن بعضهم وحاولوا اعتقاله مرة أخرى وبعضهم درسوا قضيته وأجلوه ثم أفرجوا عنه. عرفت بعد خروجي من السجن مباشرة أنهم عاملوا الإخوان معاملة قاسية وشتموهم ثم فتحوا التحقيق مع بعضهم مرة أخرى، وقد أعدموا الكثير منهم.

الذين يدخلون السجن يحلمون أحلاما كثيرة وندر من يحاول تحقيق أحلامه، فمن أحلام السجناء أن يتغير نظام السجون بحيث يكون أكثر انسانية للسجين وأهله، وأن تكون العقوبة بالسجن ملاحظا بها كف شر السجين حيث لا يجدي غيره، لقد كنت أحلم في السجن أن يأتي يوم تحترم فيه حقوق الانسان في سورية، لقد قضيت خمس سنوات في السجن من أجل موقف لو حدث في أي بلد يحترم حقوق الانسان لما ترتب على ذلك أي شيء يذكر، الا ما أقسى ما يعامل الانسان حيث لا تحترم حقوق الانسان، الا ما أكثر الوقت المهدر وما أقسى عذاب الانسان في بعض أنظمة هذا العصر. انني لا أحمل مسؤولية هذه الأوضاع الأنظمة الديكتاتورية وحدها بل أحمل القوى الكبرى والصغرى هذه المسؤولية، فقد ألفت هذه القوى أن تسكت عن مثل هذه الأنظمة ما دامت تحقق لها مصالحها أو تعتبرها خيرا من غيرها في تحقيق هذه المصالح، ان أي نظام يستطيع أن يقدم رشاوى لأصحاب المصالح فيستبد رغم طغيانه ولا يوجد في هذه الحالة من يقول له شيئا؟ ترى لو كان العالم حقا يحاسب على حقوق الانسان سواء في ذلك الشعوب والحكومات والدول الكبرى والصغرى أكانت حقوق الانسان تهدر هذا الاهدار؟! فلا يجد الانسان أي نوع من أنواع الحماية له اذا ما أراد أن يتصرف ضمن حقوقه الأساسية؟.

(فصل) في أن العمل المسلح كان رد فعل

بدأ العمل المسلح الاسلامي ضد النظام في سورية سنة 1976، وكان رد فعل على أشياء بشكل مباشر، أما الأسباب غير المباشرة فكثيرة.

- السبب الأول: أن السلطة قتلت ثلاثة من الإخوان أحدهم الأخ حسن عصفور رحمه الله الذي قتل تحت التعذيب، وأحمد زلف رحمه الله، وغزوان علواني رحمه الله.

- الاعتقالات المتعسفة التي كانت مستمرة، فكان من جملة المعتقلين الشيخ مروان حديد وإخوانه.

- السبب الثالث: الاهانة التي كانت توجه من بعض رجالات السلطة للاسلام والقرآن وكل المقدسات، فكان رد الفعل الأول هو أن مجموعة من الشباب قتلت محمد غرة مدير المخابرات العسكرية في حماة، والذي بدأ بالقتل في الحقيقة هي السلطة، وبعد ما تكررت حوادث القتل، رد بعض الشباب دون أوامر من قيادات الإخوان على ذلك، ثم تتابعت الأحداث.

(فصل) بدأت الثورة المسلحة وأنا في السجن

كان مقتل محمد غرة مدير المخابرات العسكرية أول عمل مسلح ضد النظام، وكان ذلك سنة 1976 أي قبل خروجي من السجن بسنتين وكنا نسمع ونحن داخل السجن بأنباء العمليات التي كانت توجه ضد رجال السلطة. وكان بالامكان لو وجد تعقل أن يسيطر على الوضع، لكن وفاة الشيخ مروان حديد رحمه الله في السجن واستمرار الاعتقالات والاهانات والتعذيب والمناخ الذي أوجدته الأسباب غير المباشرة، جعل الأمور تتصاعد حتى أصبحت ثورة حقيقية ضد النظام.

(فصل) في الأسباب غير المباشرة التي أوجدت المناخ

(فصل) في الأسباب غير المباشرة التي أوجدت المناخ المواتي للعمل المسلح المضاد للسلطة في سورية

ان الشعب السوري بطبيعته ينتقد أي حكومة تحكمه، وهو شعب يحرص على الحرية السياسية، وهو شعب مسيس بطبيعته، وسورية بلد خيرات، وشعبها معتاد على السعة، ودين الانسان في سورية غال عليه في الحقيقة وإن ظهر أنه ليس كذلك. والشعب السوري أصبح يحس أن الدين والحرية والخبز قد انتقضت، ومع هذا الانتقاض وجد عدم توازن في السياسات والممارسات فزاد الطين بلة، وكان بالامكان بشيء من التعقل أن ينال رضا الناس، ولكن كل شيء كان يتصاعد على غير ما يرام، فأوجد هذا مناخا مواتيا للمواجهة.

الباب العاشر

من الثالثة والأربعين الى السابعة والأربعين

من الثالثة والأربعين الى السابعة والأربعين
(من كانون الثاني (يناير) 1978 الى أواخر نيسان (أبريل) 1982 )

عندما خرجت من السجن كانت الأجواء العامة في سورية رخية، فحافظ أسد يريد أن تمر الانتخابات بشيء من الانفتاح على الشعب، لذلك زارني الناس بسبب خروجي من السجن بكثرة، كان مدير المخابرات العسكرية في حماة شاب معتقل وهو المسؤول عن متابعة نشاطاتي فقد أرسلت اليه ابتداء، مما يدل أنه هو المسؤول عن متابعتي ومراقبتي، فكان يزورني اذا أحس بوضع غير عادي في البلد ليبقى أجواء البلد قارة. جاءت بعد خروجي من السجن بقليل مناسبة المولد النبوي وبدا وكأن كل شيء هادئ، واذا بالبلد فجأة تشتعل نارا فقد خرجت تجمعات للاحتفال بالمولد من ههنا وهناك وفجأة شكلت أمواجا من البشر تهتف وتتحدى فاعتقلت السلطة بعض الأفراد، فقررت أن أتحرك بسرعة قبل أن يجر التحقيق الى أشياء لا تحمد عقباها، اتصلت بمدير المخابرات العسكرية وكلمته بضرورة عدم جرح البلد فوعدني خيرا، فقررت السفر الى دمشق في الظاهر للمطالبة بأوراقي الموجودة في السجن وفي الباطن من أجل اطلاق سراح المعتقلين الجدد والكلام في المعتقلين القدامى. وكانت جمعية العلماء قد أعلنت عن احتفال بمناسبة المولد وكلفتني أن أكون أحد المتكلمين وكان الجو قد أصبح مشحونا في البلد واهتمت السلطة لذلك، وسرت شائعة أن الثورة ستعلن في هذا الاحتفال واستقدمت الدولة قوى من خارج المحافظة، وحاولت السلطة الغاء الاحتفال أو الغاء كلمتي على الاقل، وكنت أجد في الاحتفال فرصة أن آخذ وضعا عاديا في علاقتي مع الشعب أو العلماء، وهذا يقتضي أن أتكلم في الاحتفال كما هو مقرر، لكن الموقف كان في غاية الدقة فالشباب متحمسون، وفي السلطة والحزب تياران: تيار يقول: ان حماة لا تعامل الا بالحسنى وكان علي أن أقوي هذا التيار، وتيار يقول: ان حماة لا تصلح معها الا الشدة، والوضع متفجر، ومكان الاحتفال محاط بقوى الأمن. وجاءت كلمتي بفضل الله عز وجل ملطفة للأجواء، قبلها المتحمسون وارتاح لها العلماء والعامة، وفرحت بها أجهزة الأمن وهلل لها المعتدلون في السلطة والحزب، وكانت عاملا من عوامل الافراج عن المعتقلين الجدد، دون أن يكون فيها كلمة ضعف أو مجاملة. تحدثت في هذه الكلمة عن عمق الاسلام في بلاد الشام، وعن طبيعة حماة، وأن حماة تهزها المعاملة الطيبة والتصرف الأريحي وهذا هو مفتاح التعامل مع حماة، وأن الذي لا يتعامل مع حماة كذلك مخطئ، ثم تحدثت عن الشغب الذي يرافق الاحتفال بالمولد وأن ذلك خطأ فلا يصلح أن يصبح هناك ارتباط بين مناسبة المولد والشغب، وشكرت المتعقلين من رجال السلطة الذين تعاملوا مع المتظاهرين بلطف، وكان بعض أهل الفتنة قد رجموا بيت نصراني بالحجارة أثناء الاحتفالات، فذكرت كيف أنه مع ايماننا بالاسلام ودعوتنا له وحرصنا على أن تكون البلاد اسلامية فنحن لا ننسى أن لنا جوارا، هؤلاء الجوار عشنا معهم قرونا طويلة وعاشوا معنا فكانوا شركاءنا في السراء والضراء هم المسيحيون، ثم تحدثت بمناسبة المولد عن بعض المعاني الاسلامية، وكانت عناصر كثيرة من الشرطة والجيش خارج المسجد تسمع الخطاب فارتاحت أعصابهم، وارتاحت أعصاب الناس، خرج الجميع مرتاحين، واعتبر بعضهم هذه الخطبة من أنجح الخطب السياسية وحققت هذه الخطبة مجموعة أغراض كنت أريدها. سافرت بعد ذلك الى دمشق.

اتصلنا بالعميد علي مدني فرحب بنا وذكر أنه مشغول في ساعته تلك، لذلك يرجو أن نزوره مساء، ورتب لي خلال ذلك أن أذهب الى سجن المزة لاستلام أوراقي التي كنت موعودا بها، ذهبنا الى السجن وقابلنا مدير السجن، وطلبت منه أن يدعو لي بعض الاخوة لأعرفهم على الأوراق التي أريدها، وكان ذلك، جاءتني أوراقي الا قليلا. وفي المساء تمت مقابلة العميد علي مدني وصار حديث مطول، تحدثنا فيه عن المعتقلين القدماء فوعد خيرا، وصار حديث عن المعتقلين الجدد فوعد خيرا وفعلا فقد أفرج عنهم بعد قليل، أما القدماء فلم يفرج الا عن ثلاثة تقريبا ثم اعتقل اثنان منهم فيما بعد وفر الثالث. زرنا الشيخ حسن حبنكة وكانت جلسة طويلة مباركة تمت فيها أحاديث شتى عن سجننا وعن جهوده التي بذلها من أجلنا، وعدنا الى حماة. وبعد أيام جاء الأستاذ عدنان سعد الدين الى حماة وكان قد انتخب مراقبا عاما للإخوان المسلمين أثناء وجودي في السجن، جلسنا سوية يوما تقريبا أطلعني فيه على مجريات الأمور اطلاعا تاما، فهمت منه أن الاخوة في الخارج يكادون يكونون مجمعين على خروجي من سورية، أعلمته أنني لن أخرج مهما كلف الأمر وعندما رأى اصراري على هذا الموضوع، طلب مني أن أخرج للعمرة فأنشط في رحلتي هذه الاخوة في الخارج، وكان مصرا على هذا القدر فوعدته أن أفعل. وفعلا بدأت الاجراءات لأخذ تأشيرة خروج وصادف ذلك مجيء أحد الاخوة الذين يدرسون في السعودية ومعه سيارته فساعد على استكمال الاجراءات. ومن عجائب الرؤى أنه في يوم سفري جاءني أخي الشهيد محمود رحمه الله على أثر رؤيا رآها، قال لي: رأيت في المنام أننا في جلسة تضم عددا من الناس وأن شيخنا اتجه اليك وقال: عمان سهل لك، أو أسهب لك، عجبت من هذه الرؤيا ولم أفهمها وقتذاك، ومن قبل ونحن في السجن رأى أحد الاخوة – وهو أخ دمشقي صالح يحفظ كتاب الله – في المنام أنني أتحدث من التليفزيون الأردني وأنا ألبس عمامتي وجبتي، وكان قدر الله كما سنرى أن تكون عمان هي وطن الاقامة، مع أنني كنت عازما على المكث في سورية ابتداء ثم العودة اليها ولكن لله قدراً. وقبيل سفري اتصل بي أحد الاخوة الناشرين فأعطيته مسودة كتاب "من أجل خطوة الى الأمام على طريق الجهاد المبارك"، وقلت له: أن يعرض الكتاب على الاخوة وهم مفوضون أن يحذفوا منه ما شاءوا، فالكتاب لم يكتب في صيغته المكتوب فيها للنشر، وكان لنشر هذا الكتاب دخل في بقائي خارج سورية كما سنرى، خرجت من سورية بعد شهرين من خروجي من السجن تقريبا كان ذلك في 30 آذار (مارس) 1978 وكان خروجي من السجن في أواخر كانون الثاني (يناير). استمرت رحلتي حوالي شهرين ونصف، خرجت من الأردن في 31 آذار (مارس) وعدت اليها في 14 حزيران (يونيه) وجاء أهلي الي من سورية في 18 حزيران (يونيه)، ومن يومها حتى كتابة هذه السطور وطن الاقامة عمان. زرت في جولتي هذه السعودية والامارات وقطر، وتعطل سفري الى الكويت في آخر لحظة، وقد ألقيت عددا من المحاضرات في جولتي هذه، كانت لها آثارها الطيبة، ألقيت أكثر من محاضرة في المدينة المنورة وكذلك في مكة وألقيت محاضرة في كلية الشريعة في الرياض وزرت الاخوة في الطائف، وأما في الامارات فقد ألقيت خطبة جمعة، واجتمعت بالاخوة أكثر من اجتماع ورأيت بعضهم على انفراد، وألقيت في قطر أكثر من محاضرة منها محاضرة في المسجد ومحاضرة في مركز ثقافي. وقد حاولت أن أقطع رحلتي أكثر من مرة للعودة السريعة الى سورية فكان الاخوة يمنعونني من ذلك، وكان أدبنا يفرض علينا أن نبقي تصرفاتنا ضمن حدود، كان الجميع يلحون على البقاء في الخارج، وأرسل لي الوالد يطلب مني ذلك، وكانت رغبتي أن أدخل سورية مهما حدث، وبعد مناقشات طويلة مع الأخ عدنان سعد الدين اتفقنا على النزول، وأخيرا علقنا الدخول على استشارة اخوة الداخل، وكان اخوة الداخل مجمعين على دخولي ولكن ظهور كتابي "من أجل خطوة الى الأمام..."، جعل الجميع يجمعون على عدم الدخول فقد كان في الكتاب عبارات، كما أن في الكتاب شدة على كل التوجهات السياسية غير الاسلامية، وعرضا لبعض وجهات النظر الاسلامية سياسيا لم يكن على حجة فيما حدث لأنني أذنت للإخوان أن يحذفوا ما شاءوا، ولما سئل الأخ المراجع كيف أجاز هذه الأشياء قال: وجدت أن ما يحتاج الى الحذف كثير وقرأت قول المؤلف: ورؤوسنا يا رب فوق أكفنا... فأجزته وهكذا اتخذ قرار البقاء خارج سورية.

عكفت بعد اقامتي في عمان على التأليف وتنقيح بعض المؤلفات وارسالها للطبع، أرسلت في هذه المرحلة للطبع "تربيتنا الروحية" و "المدخل الى دعوة الإخوان المسلمين" وعكفت على تبييض التفسير الذي ألفته في السجن واستغرق معي تبييضه حوالي سنتين. كانت علاقتي مع اخوان الأردن ضعيفة جدا وقد حرصت أن تكون رسمية. دعتني رابطة الطلاب العرب في أمريكا لالقاء محاضرة هناك، فذهبت وكانت فرصة طيبة أن أتعرف على النشاط الاسلامي في أمريكا كما كانت فرصة أتعرف بها على الاسلاميين، وكانت أجواء الحوار طيبة، وفي عودتي من أمريكا كان للطائرة وقفة في مطار دمشق ولم أكتشف ذلك الا في مطار لندن ساعة الاقلاع. ولكن الله سلم، دعيت لالقاء محاضرات في لبنان فوافقت وسافرت، وكنت مريضا جدا، ومع ذلك تحاملت على نفسي، وزاد مرضي فكنت أبقى في الفراش حتى ساعة المحاضرة لألقيها ثم أعود الى راحتي وقد عدت الى عمان وأنا في غاية التعب واستمر المرض حتى اضطررت أن أفطر في رمضان على غير عادتي في المرض أو في السفر. جاءت القيادة السورية الى عمان، اجتمعت بها، وصار هناك نقاش ودي غير رسمي، عرضوا علي أن يدفعوا لي راتبا، كنت آمل أن أسدد نفقاتي من خلال التأليف، وعدتهم أنني اذا احتجت سآخذ. كان هناك مؤتمر شعبي اسلامي في أوروبا، وكانت هناك بعض لقاءات للتنظيم العالمي وكان ينبغي أن يحضرها اثنان من سورية، وكان هناك احتمال أن يغيب أبو عامر، فذهبت بصحبة علي البيانوني، شاركنا في محاضرات المؤتمر، وقد غلب على الجو الحب والمودة، وكان في الاجتماعات عدد من كرام الإخوان وكانت حرارة المودة بيننا وبينهم عالية ولقد اشتركنا في الجلسات المهمة، وكانت هناك أسئلة وأجوبة عمقت الخط الإخواني عامة وخط حسن البنا خاصة، وبالجملة كان هذا المؤتمر ناجحا. حضر الأخ أبو عامر الى مكان الاجتماع في أوروبا فأصبح هو كمراقب عام وعلي البيانوني كنائب مراقب عام هما الأحق في حضور جلسات التنظيم العالمي، وقد أصررت على عدم الحضور كممثل عن سورية، وحضر الاثنان دوني، لكن المجتمعين اتخذوا قرارا بحضوري. تقدمت بمشروع مكتوب يقضي بأن تحدد الأجهزة التي تحتاجها الجماعة وأن ينقسم المجتمعون الى مجموعات، كل مجموعة تضع اقتراحاتها بشأن جهاز من الأجهزة ثم يلتقي الجميع لمناقشة المشاريع واقرارها، والانطلاق على ضوئها، وقد تم ذلك كله وخرج المجتمعون بانجاز ضخم ارتاحوا له جميعا........ كان المراقبون العامون للأقطار يجتمعون مع من يحضر من [مكتب الإرشاد]]، وكانوا قد وضعوا اطارا للحركة لمدة خمس سنوات في آخر اجتماع لهم، وقد كلفت لجنة لوضع هذا الاطار موضع التنفيذ، وقد اخترت لأن أكون واحدا من أعضاء هذه اللجنة، واجتمعنا، ولم تكن آراؤنا موحدة حول ما ينبغي فعله وأخيرا اتفقنا على أن أكتب مقدمة الخطة ويكتب أحدهم في الأهداف والآخر في وسائل التنفيذ، وأن نلتقي فيما بعد لمدارسة انتاجنا، ولم أسافر من المكان الذي أنا فيه الا وقد أنهيت مهمتي فوضعت كراسة في أكثر من سبعين صفحة وقد طبعت فيما بعد ووزعت على بعض الأقطار. ثم بعد ذلك عدنا الى الأردن، وكان قد وصلنا ونحن في سفرنا نبأ اعتقال بعض الاخوة القياديين في سورية، وهذا يفيد أننا على أبواب محنة شاملة في سورية. وتطورت الأحداث بعد ذلك تطورا سريعا. وفي هذه المرحلة سافرت الى السعودية، وألقيت في هذه المرحلة محاضرة في جامعة البترول في المنطقة الشرقية من السعودية. وفي هذه المرحلة اتفقنا مع أصحاب القرار أن تنتقل قيادة العمل في سورية الى الخارج. وطلب مني الأخ أبو عامر أن أشارك في أعمال القيادة، ولم تكن المرحلة تبيح الاعتذار وكان مجلس شورى سورية قد أعطى أبا عامر ونائبه تفويضا أن يستكملا القيادة اذا حدث شيء، وكان الأخ أبو أنس قد حصر في أوروبا بسبب ضياع محفظته التي فيها جوازه، وكان هناك اثنان من أعضاء القيادة قد اعتقلا، وخرج ثلاثة منهم أديب الجاجة ومحمد الحسناوي وقد طلب أبو عامر من الجميع أن يلتحقوا بمقر القيادة الجديد، وأعيد تشكيل القيادة. وكانت مهمة القيادة شاقة، فالخيوط مقطعة، والضربة صاعقة، والاخوة في الخارج في أزمة نفسية ولا مال ولا اعلام ولا اتفاقات مع أحد، وكانت علاقات النظام في سورية قوية مع البلدان العربية، وكانت مهماتنا المباشرة:

أولا: اعادة ربط الخيوط في الداخل.

ثانيا: ترميم التنظيم.

ثالثا: تقوية علاقاتنا مع اخواننا في الخارج واحكام الصلة مع التنظيمات الإخوانية.

رابعا: مساعدة المعتقلين والمطلوبين ورعاية اسرهم.

خامسا: تأمين المال اللازم لكل هذه العمليات.

لقد كانت الضربة التي وجهها النظام في سورية للتنظيم ضربة قاتلة. وكان بالامكان أن تنهينا الضربة فعلا ولكن بدلا من ذلك حدث ما لا يخطر بالبال، والذين لا يعرفون الحقائق، يهاجمون قيادة المرحلة بألسنة حداد، ولكن لو قارن كل انسان انجازات تلك القيادة التي كنت شريكا فيها بانجازات أي قيادة لاحقة، لرأى الفارق. اقسم عدنان دباغ وهو يحقق معي أن سيصفي للإخوان المسلمين من العالم العربي وقد أصبح فيما بعد وزيرا للداخلية وهو الذي أعلن من راديو دمشق أنه سيصفي الإخوان المسلمين. هم بدأوا ونحن رددنا... تحرك أبو عامر حركة قوية لتأمين المال اللازم ثم انهال علينا المال من كل جانب، حدد أبو عامر تصوراته عن المرحلة القادمة وأرسلها لنا وكانت خلاصة رأيه أن ردنا على السلطة ينبغي أن يكون التعبئة والمواجهة. راسلنا اخواننا في الداخل فتجاوب معنا عدد منهم، استطعنا من خلالهم اعادة ربط الخيوط، وفي هذه الأجواء ونحن في العمل حدثت حادثة المدفعية التي أوجدت أجواء جديدة وقلبت الاستراتيجيات رأسا على عقب، وأعطت السلطة مبررات لتصرفاتها المقبلة، وقد أصدرنا بيانا نعلن فيه أنه لا علاقة لنا بهذا الموضوع.

وزرنا باكستان في هذه المرحلة أكثر من مرة. كانت زيارتنا الأولى لباكستان فرصة طيبة فقد زرنا الأستاذ المودودي وكانت الزيارة الثانية لباكستان زيارة تشييع لجنازته رحمه الله، وكانت جلستنا معه جلسة مباركة فان القلة من الناس هم الذين اذا اجتمعت اليهم تشعر أنك أخذت مع العلم عقلا، كان حديثا شاملا عن الدعوة الى الله في العالم العربي، عن وجهة نظره في التعامل مع الخارجين على الصف وأن أفضل شيء عدم الرد عليهم، ولقد داعبنا في الجلسة وآنسنا رحمه الله، ومن لاهور انطلقنا الى بيشاور وهناك اجتمعنا ببعض قادة الثورة الأفغانية، استمعنا للجميع وتقدمنا بعد ذلك بمشروع مشترك نحن والجماعة الاسلامية بعد أن عدنا للاهور. كان المشروع ينص على ايجاد قيادة عليا لحركة الجهاد الأفغاني فما اتفقوا عليه ينفذ وما اختلفوا فيه يحكمون فيه الجماعة الاسلامية والإخوان المسلمين، وقد قبلت الجهات كلها هذا المشروع ولكن كان علينا أن نكون بجانبهم بشكل دائم، ولقد وعدهم بعضنا أن نرجع خلال شهر ولكن لم يحدث ذلك مما أوقف المشروع، ولقد عاتبونا على ذلك يوم زرناهم مرة أخرى بمناسبة وفاة الأستاذ المودودي رحمه الله. ومن باكستان انطلقنا الى إيران وكان ذلك في أواخر أيار ([مايو]]) سنة [1979]]، كنا على صلة دائمة مع أحد اخواننا وكان هو صلة الوصل، وكان قد أبلغهم عن قدومنا، لذلك وجد من استقبلنا في المطار وسهل لنا الدخول ثم الخروج، وقد رغبنا أن ننزل على حسابنا وكان ذلك فدفعنا نفقات النزول في الفندق، مع أنهم عرضوا علينا أن ننزل ضيوفا وأن نعامل معاملة رسمية. رتبوا لنا زيارتين رئيستين احداهما للخميني والأخرى لابراهيم يازدي وزير الخارجية وقتذاك، وكان الذي يتولى شأن الترتيب وكيل وزارة الاعلام. كانت أحاديثنا مع ابراهيم يازدي مطولة فهو على صلة وثيقة من بعض الإخوان عندما كان يدرس في أمريكا فهو يعرف الإخوان من قرب ويستطيع أن يفهمهم ويفهم تطلعاتهم. كان من حديثه ان هناك سنيين محمديين وشيعة علويين، فهؤلاء وهؤلاء لا يختلفون، كان هناك حديث مطول عن العلاقات الخارجية الإيرانية، كما كانت هناك مصارحة في ما نريده من الثورة الإيرانية ولها. وفي زيارتنا للخميني وجدنا أنفسنا أمام طوفان من البشر كل يريد أن يقابل الخميني وأخبرنا منظمو برنامجه في "قم" أن الموعد المحدد لنا قد فات بسبب تأخرنا ورغبوا الينا أن نصبر لعلهم يجدون لنا مدخلا، وقد أدخلونا على الخميني مع وفد لتتاح لنا فرصة الجلوس معه مرتين، مرة مع هذا الوفد ومرة بعد خروج الوفد. حدثنا الخميني عن معرفته بما يجري في سوريا، وأنه سيتكلم مع حافظ أسد، وحدثنا أن الثورة الإيرانية قامت بالايمان وباليد الخالية، وأن الطريق الوحيد لانقاذ المسلمين هو توعيتهم، فمتى وعي الشعب لا يستطيع أن يحكمه أحد. وكنا نأمل ألا تتورط الثورة الإيرانية فيما يجعلها لا تتلاقى مع الفكر الاسلامي الصحيح، ولكنها تورطت.

شاركت في أعمال القيادة ثلاث سنين الا قليلا، سنتان منها قبل ما سمي بالوفاق وسنة تقريبا بعد الوفاق. كان الخط البياني للثورة خلال هذه السنوات في تصاعد حتى نهاية آذار (مارس) سنة [1980]] فقد استقطبت الثورة الجماهير كلها، وكان من آثار ذلك تحرك النقابات العلمية حركتها الشهيرة، ثم بدأ مد الثورة يتقلص، كان الشعور بذبول الثورة أحد العوامل التي دفعت نحو الوفاق بين فصائل الإخوان المسلمين على أمل تقوية الثورة ووضعها في طريق النجاح، ولقد قام الوفاق بعد تعثرات، وتنازلنا الى أقصى حدود التنازل، وبدأت قيادة الوفاق تتحرك على أرض من الألغام ومن خلال تناقضات كبيرة. كانت تناقضات قيادة الوفاق كبيرة، وتمخضت خلافات القيادة عن خروج بعضهم من الوفاق، ولقد اعتزلت قبل أحداث حماة أكثر من شهر، ثم عدت الى القيادة، وفي هذا الجو جاءت أحداث حماة، فقررنا الحركة واعلنا النفير. وانتهت أحداث حماة ولم نفعل شيئا، وأعلنا فك النفير في جو متأزم، وكانت النفوس في غليان وتوجهت كل الألسنة لتضع اللوم على القيادة في تقصيرها وأمام هذا الجو العاصف، قررنا اجراء انتخابات لمجلس الشورى وتمت الانتخابات، وحضرنا تحضيرا جيدا لمجلس الشورى، هيأنا مسودة نظام داخلي، وتقدمت القيادة بتقرير عام، وتقدمت أجهزة الجماعة بتقاريرها وكنت مسؤولا عن هذه التحضيرات كلها بغياب أبي عامر، اجتمع مجلس الشورى وسمع التقارير، وأثر ذلك في الروح العامة، وبدأت المناقشات، وظهر بعض الاخوة في القيادة وكأنهم لا علاقة لهم في المرحلة كلها وتبنيت الدفاع عن كثير من النقاط، وكنت مقررا من قبل ان استقيل، وفي اليوم الثالث للاجتماعات طلب الكلام وأصررت عليه وكان الإخوان يظنون أنني سأهاجم بعض الاخوة ولم يكونوا مرتاحين لذلك، فغضبوا لاصراري وانسحب ثلاثة من الاخوة من مجلس الشورى، وواحد من القيادة، وكانت مفاجأة للجميع أن أتحدث بلغة أخرى، اذ أعلنت أنني أتحمل مسؤولية المرحلة، وأخطاءها وأنني قررت الانسحاب من العمل القيادي وتركت الجلسة وانسحبت. وهذه المرحلة تحتاج الى تأريخ مستقل، وليس من المناسب أن أخوض في تفصيلاتها الآن.

(فصل) في مدرسة اعداد الموجهين

المسلم المعاصر بحاجة الى تعليم ديني، والى تكوين، والى توجيه. وقد لحظنا أن هناك نقصا في واحدة من هذه الثلاثة بين كثير من الاخوة الذين هاجروا من سورية، فأنشأنا مدرسة اعداد موجهين، وكانت مدرسة تجمع بين العلم والعمل والحياة الاسلامية المشتركة، كانت المدرسة تقوم على فكرة دورة كل أربعين يوما، كما نقبل في المدرسة لكل دورة ما بين العشرة الى خمسة عشر أخا، استأجرنا شقتين متجاورتين، شقة لمدير المدرسة، وشقة لروادها، كانت الاقامة مدة الالتحاق في الدورة في المدرسة ليلا ونهارا، كنا نعطي المتزوج اجازة في أن يبيت عند أهله مرتين في الأسبوع، حشدنا للمدرسة أقدر الاخوة الى التدريس والتربية والتوجيه، كانت مواد المدرسة متعددة لكنها مختصرة، تلاوة، علوم القرآن، علوم الحديث، العقائد، الفقه، الأصول الثلاثة، أصول التدريس، كيف تدار الأسرة، علوم اللغة العربية قراءة في كتاب لتصحيح النطق، السيرة والتاريخ الاسلامي، وحاضر العالم الاسلامي. كان البرنامج اليومي: الاستيقاظ قبل الفجر لقيام الليل، صلاة الفجر، قراءة المأثورات، درس التلاوة، ثم صلاة ركعتي الضحى، ثم الرياضة، فالافطار، ثم الدروس والمحاضرات، ثم صلاة الظهر، فوجبة الغداء، فاستراحة، فصلاة العصر، ثم مطالعة مشتركة، فصلاة المغرب وقراءة المأثورات فتلاوة قرآن، فصلاة العشاء، فمطالعة حرة موجهة، فقيام ليل، فنوم. وكان الاخوة يصومون صياما مشتركا يومي الاثنين والخميس، وكانوا مع خدمتهم لأنفسهم قد هيأنا لهم من يقوم على رعايتهم في المطعم والخدمة. تخرجت من المدرسة دورات متلاحقة كان الاخوة يرون الفارق الكبير بين الأخ حين دخوله الى المدرسة، وبين خروجه منها، حتى سمّوا المدرسة مدرسة تخريج الأولياء، ولم تزل فكرة مدرسة لاعداد الموجهين فكرة هادية لتصرفاتنا، فكنا نقيم مدرسة لاعداد الموجهين بالقدر المتاح والممكن، فأحيانا نقيمها بلا مبيت، وأحيانا نقيمها بساعات محددة في وقت يسع الاخوة. وأحيانا ندخل في برامج المدرسة بعض الساعات للتوجيه الاعلامي والسياسي وغير ذلك. وأصبح مألوفا في بعض المراكز أن الأخ ينبغي أن يمر على دورة عامة، ثم على دورات تخصصية، وبعض المراكز حاولت أن تجعل مجموع الدورات التي يلتحق بها الأخ حوالي خمسة عشر دورة ما بين عامة وتخصصية. فالدورة العامة تخصص للمطلوبات العينية، والدورات التخصصية تشمل مواد الثقافة الاسلامية العشر وتشمل النشاطات الدعوية من اعلام الى سياسة الى تدريب جهادي الى أمن الى دورة على الأنظمة والخطط.

(فصل) في أن المواجهة السياسية غيرت كثيرا من مفاهيمنا

الإخوان المسلمون حذرون جدا من كل اتصال مع الآخرين عامة، ومع بعض الدوائر والجهات خاصة، وبعضهم أشد حساسية من بعض لكنا بعد خروجنا من سورية وهجرتنا منها اضطررنا من أجل حماية اخواننا ورعايتهم (وخاصة بعد صدور المرسوم 49 الذي يقضي باعدام كل منتسب للإخوان المسلمين في سورية) الى كثير من الاتصالات والتحالفات، وقد هضم الاخوة السوريون الوضع الجديد بسرعة، لأنهم يرون الحاجة اليه، وأصبحت الاتصالات التي تأذن بها قيادة ما وتعرفها هي الفاصل بين الاتصالات المسموح بها وبين الاتصالات غير المسموح بها. وكثيرا ما يجد بعض الاخوة أنفسهم في ظروف اضطرارية كانوا يتعاملون معها والقيادة تقدر ظروفهم. وقد أصبح جزءا من واجبات القيادة تنظيم الاتصالات بالآخرين والبحث عن القواسم المشتركة، والحركة السياسية على ضوء ذلك، وهذا موضوع واسع قد أتعرض لبعض جوانبه في كتاب آخر عن الذكريات التي لا يسعها هذا الكتاب. فهذه التجربة جديرة بأن تكون محل دراسة وتأمل لاستكشاف الخطأ من الصواب، واستكشاف الجائز من غير الجائز، ولا شك أن التحرك الذي يحقق مصلحة اسلامية ولا يسبب ضررا لمسلم أو ضررا للاسلام الأصل فيه أن يكون مباحا.

الباب الحادي عشر

من السابعة والأربعين الى التاسعة والأربعين

من السابعة والأربعين الى التاسعة والأربعين
(سنة 19821984 م)

بعد خروجي من القيادة عدت الى العكوف على التأليف، وكان للتنظيم العالمي قيادة مؤقتة لها حكم [مكتب الإرشاد]]، وكانت هذه تعد لاجتماع مجلس شورى التنظيم العالمي، وكان هذا المجلس على أبواب تشكيل جديد، اذ طولبت الأقطار أن تقدم ممثليها له، وكانت لائحة هذا المجلس تنص على أن ل[مكتب الإرشاد]] أن يرشح ثلاثة يوافق عليهم مجلس الشورى، فيكونوا أعضاء فيه، وقد وقع الترشيح في جملة من وقع علي وعرض اسمي على مجلس الشورى فقبله، فأصبحت بذلك عضوا في مجلس الشورى العام، وصادف ذلك اللقاء الأول لمجلس الشورى العام، فدعيت اليه، وكان ذلك في نيسان (أبريل) الشهر الذي خرجت فيه من قيادة الإخوان المسلمين في سورية، كان الاجتماع مباركا، وكان المفروض أن تبحث فيه أمور ذات بال، فلم يسع الوقت، فاتفق على لقاء استثنائي، ولكن لم أستطع الحضور، واختارني مجلس الشورى العام لعضوية [مكتب الإرشاد]] في غيابي ودون استشارتي. اجتمع [مكتب الإرشاد]] اجتماعه الأول ودعيت اليه فقدمت اعتذاري عن العمل وذكرت جملة أسباب:

1- ان هذا الثوب فضفاض علي فلست مؤهلا للباسه وسني لا يصلح لهذا المقام.

2- ان لي خصوماتي الكثيرة وهذا المقام لا يصلح له من كان كذلك.

3- ان طبيعتي وأخلاقي وتركيبي النفسي لا تجعلني مؤهلا لهذا العمل.

4- وأخيرا فان تجربتي في العمل في القيادة السورية أوصلتني الى أن المجموعة العاملة اذا لم تكن متفاهمة متلاحمة فالعمل يتعرض في كل لحظة للانكسار.

لم يقبل اعتذاري وشاركت في الاجتماع الأول. كانت انجازات اجتماع المكتب جيدة واتفق على لقاء لاحق، وكان الاجتماع ايجابيا، وتم اجتماع ثالث ل[مكتب الإرشاد]] قبل شباط (فبراير) موعد اجتماع مجلس الشورى العام، وفي هذه الاجتماعات الثلاثة توضحت معالم السياسة للمرحلة المقبلة الى حد كبير، وتوضحت معالم البناء الذي على [مكتب الإرشاد]] أن يقيمه. وأهم شيء في السياسات الإخوانية الجديدة موقف الإخوان من الحكومات، فالمناصحة هي الوسيلة التي ينبغي أن تعتمد مع كثير من الحكومات.

الذين يعملون في العمل الحزبي السياسي مضطرون لمسايرة كثير من الأمور التي لا يرتاحون اليها، وقد يضطرون للصمت على أخطاء أحزابهم والدفاع عنها لأن هذا جزء مما يفرضه الانضباط الحزبي، ثم هم يضطرون لمسايرة أهواء الرؤساء والمرؤوسين وأصحاب القرار وأصحاب الأصوات الانتخابية للاحتفاظ بمواقعهم. ولم أكن أهتم لذلك. وكنت أرى أن وضع الإخوان المسلمين كتجربة رائدة في العمل الاسلامي لا يصلحه ذلك لأنه اذا أصبح العضو في الإخوان المسلمين أسير ذلك فان الجماعة معرضة للجمود والانغلاق ثم الموت، ولكن لا بد من صيغة أجمع فيها بين كل ما أعتبره مصلحة للإخوان المسلمين وبين انضباطي الحزبي داخل الجماعة. كنت أرى أن الحل في نقطتين، واحدة في الجماعة وواحدة في نفسي، أما الجانب الذي له علاقة في الجماعة فهي أن تكون الجماعة في مؤسساتها وأشخاصها ونظرياتها التنظيمية ومراتب العضوية فيها وخططها العملية على المستوى المطلوب. وأما الجانب الذي له علاقة بي فهو أن أبتعد عن المنافسات الإدارية وأن أقول بحرية كل ما أرى أن للجماعة مصلحة فيه مهما كلفني ذلك، وقد حاولت بالنسبة للجماعة الكثير من أجل تطويرها ان في مناهجها الدراسية التربوية أو في محاولة تطوير نظرياتها التنظيمية أو أنظمتها أو مؤسساتها، فمثلا حاولنا كثيرا أن نربط بين درجات العضوية والثقافة والالتزام والخصائص والتخصص. أما اعتزال الادرايات – والاداريات هي التي تسبب المماحكات والحساسيات والتخوفات والمنافسات – فكثيرا ما وجدتني في وضع لا مفر لي منه من أن أشارك، واذا شاركت فلا بد أن أعطي المقام حقه. كانت السنتان اللتان أعقبت أحداث حماة حاسمتين في مستقبل سورية الاسلامي. وكان أدبي في هذه المرحلة النصيحة، لكنني اضطررت لموقفين لم يكن لي منهما بد:

الموقف الأول: ان المفاوضة للمصالحة مع حافظ أسد تجاوزت حد المصلحة.

الموقف الثاني: عندما قررت القيادة السورية قطع المساعدات عن بعض من قذفت بهم ظروف المعركة الى خارج سورية فلم أستطع السكوت، وكانت محصلة هذين الموقفين تأزم الوضع بيني وبين القيادة السورية، وتجاوزنا هذه الأزمة بصعوبة. كنت في هذه السنة عاكفا على التأليف مع شيء من الرعاية للاخوة الحمويين خاصة. قبلت استقالتي في سنة 1984 – من [مكتب الإرشاد]] – من مجلس الشورى للتنظيم العالمي، وكانت معلقة.

(فصل) في مجالس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

الأصل عند الإخوان المسلمين أن يلتقوا على قراءة الوظيفة الكبرى أو الصغرى صباحا ومساء، فان فاتهم ذلك، فانهم يلتقون صباحا أو مساء، فان فاتهم ذلك فانهم يلقتون أسبوعيا أو شهريا على جلسة ذكر أو تلاوة قرآن، وقد حرصنا ولا زلنا نحرص على جلسة أسبوعية يقرأ كل من الحاضرين فيها جزءا من أجزءا القرآن بشكل سري على انفراد، ثم يقرآ أحدهم الآيات القرآنية المذكورة في الوظيفة والآخرون يستمعون، ثم يقرأ الجميع الوظيفة فيذكرون الله بما ورد فيها، ثم تكون قراءة في كتاب مذكر، ثم تكون مذاكرة صالحة، ولو أن الإخوان المسلمين أعطوا حرية لكانت هذه الجلسات هي الأصل في اجتماعهم على الذكر، أما وقد فقدوا الحرية في بعض الأقطار فصار ما يدل عليهم يعتبر جريمة، فقد صرنا نعتمد صيغا أخرى في الاجتماع على الذكر. ونحن نرى أهمية كبرى لاجتماع المسلمين على الذكر أسبوعيا أو أكثر لما في ذلك من آثار كثيرة ذكرتها النصوص، وذكرناها في كثير من كتبنا. وكان قد أنشئت في سورية مجالس للذكر تلقاها العلماء والخاصة والعامة بالقبول وسميت مجالس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقوم على فكرة أن يخصص وقت في مسجد يجتمع الناس فيه فيصلي كل من حضر على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرا حوالي ألف مرة بصيغة مختصرة: "اللهم صل على محمد وآله وسلم". ثم يكون شيء من انشاد وشيء من الذكر بصيغة "لا اله الا الله". ثم يكون دعاء وختم للمجلس فيخرج الناس وقد حصلوا بركة الاجتماع على الذكر. والاجتماع على الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد رجح ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتاب "فتح الباري" جوازه وأنا أرى أن الاجتماع على الذكر – أيا كان – مندوب اليه بل هو جزء من معالجة أمراض العصر. وقد جاءني بعض الاخوة في المهجر، فأشرت عليهم باقامة مجلس صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الله يرفع به البلاء وأوصيتهم أن يتخيروا من الانشاد ما لا ينكره الفقيه، وأن يقرأوا في نهاية المجلس شيئا من رياض الصالحين، فلقي هذا النوع من المجالس قبولا، فعممناه فكان نوع علاج، ثم ضاقت علينا الأمور فأهملنا فكرة الاجتماعات الدورية كلها خوفا على اخواننا.

(فصل) في حركة احياء الربانية التي أسيء فهمها

كنا نرى أن الاجازة في العلم أو في التربية..................................... لسنة من سنن العلماء، وكنا ولا زلنا نرى أن ................................................ تكون أثرا عن نضج علمي وروحي بآن واحد، وهذا لا يتحقق في الاجازات الرسمية عادة، ولا يتحقق في اجازات المشايخ الا لماما، وكنا لا زلنا نرى أن انشاء مدرسة في كل مسجد تعطي هذه الاجازات باسم المسجد على ضوء برامج علمية وعملية وباشراف وامتحان وذلك احياء وتعميم للفكرة التي أوجدت جامع الأزهر وجامع الزينونة ليكن ذلك بداية لاحياء للاسلام في عصرنا في القلوب والعقول على مستوى العالم. كنت حريصا على أن توجد حركة رائدة في هذا السبيل تعطي مناهج علمية وتربوية وتعطي اجازة فيها، ولم تكن الظروف تسمح باعطاء اجازات باسم الإخوان المسلمين لما يثيره ذلك من حساسيات، ويسببه من مخاطر فاقترحت أن تنشأ حركة لاحياء الربانية تعطي الاجازة باسمها، واعتبرت هذا العمل مكملا لأي عمل اسلامي وليست بديلا عنه. فتعميم الثقافة الاسلامية والتربية عليها لا يصلح في عصرنا أن يكون مرتبطا بحزب سياسي يتخوف الناس منه، لكن هذه الفكرة قد أسيء فهمها، وحاولت بعض الجهات أن تشوش عليها وأنا لا أزال مقتنعا بها وداعيا اليها. فان شاءوا حركة رائدة لتعميم الثقافة الأنموج، والتربية الأنموذج، وان شاءوا مدرسة في كل مسجد تعمم الثقافة والتربية والاجازة ضرورة معاصرة. وقد يكون في عصرنا سبيلا وحيدا للارتقاء بكل مسلم ومسلمة على مستوى العالم، ولا زلت أطمع أن توجد الحركة الرائدة وأن يوجد المسجد الأنموذج الذي يعج بالحركة العلمية والروحية للصغار والكبار والعامة والخاصة، الرجال والنساء، والطلاب كل بما بناسبه وأن يكون هذا العمل تطوعيا ما أمكن حتى يبقى فيه سر الاخلاص.

(فصل) في استقالتي من [مكتب الإرشاد]] ومجلس الشورى العام

عندما يصبح الانسان انفعاليا كثير الغضب فانه يفقد صلاحيته للعمل العام والخدمة العامة. وقد لاحظت أني أصبحت كثير الانفعال منذ سنة [1980]]، ولا أدري هل كان ذلك بسبب الأمراض أو بسبب ضغط العمل، أو هو ابتلاء رباني، ليرجع الانسان الى ربه مستشعرا فقره – (اللهم انا فقراء اليك) - ، المهم أنني أصبحت أرى أنني لم أعد أصلح للخدمة العامة وكان هذا أحد الأسباب التي استقلت فيها من القيادة السورية، وحاولت أن أعتذر عن قبولي العمل في [مكتب الإرشاد]] فلم يقبل اعتذاري، ثم جاءت ظروف مساعدة، قدمت فيها استقالتي، وقد تعامل [مكتب الإرشاد]] مع هذه الاستقالة بحكمة، وأخيرا قبلت استقالتي من مؤسسات الجماعة كلها. وأرجو أن يكون في ذلك الخير. فالجماعة من فضل الله مليئة بأصحاب الكفاءات.

الباب الثاني عشر

من التاسعة والأربعين الى الخمسين

من التاسعة والأربعين الى الخمسين
(أهم أحداث سنة 1985)

1- انتخابي لرئاسة اللجنة الاستشارية لمركز حماة.

2- المشاركة في المؤتمر الشعبي لعلماء المسلمين الذي انعقد في بغداد للبحث في الحرب العراقية الإيرانية.

1- انتخابي لرئاسة اللجنة الاستشارية لمركز حماة

كان الإخوان في سورية قد أحدثوا شيئا اسمه اللجنة الاستشارية وجعلوا لكل محافظة لجنة وهذه اللجان مسؤولة عن عدد من المهمات منها تعميق الاخاء بين أبناء المحافظة الواحدة، والسبب الذي الجأهم الى ذلك هو أنه بعد خروج الإخوان من سورية بسبب الظروف الصعبة التي واجهوها لم يعد هناك جهة تمثل المحافظات وهذا المعنى ألجأ القيادة أن تتخذ قرارا، هذا القرار يقضي باحداث اللجان الاستشارية للمراكز ليبقى لكل محافظة كيان ما، هذا الكيان يعمل ضمن حدود ضيقة جدا وهو أشبه بالرمزي، وكانت اللائحة الداخلية للجان الاستشارية تنص على أن أبناء اللجان الاستشارية يختارون من بينهم رئيسا ونائبا له وأمينا للسر، وكانت الجلسة الأولى للجنة الاستشارية رسميا بحضور ممثلين عن الجهة المختصة في أجهزة الإخوان المسلمين، وقد جرى في هذه الجلسة انتخاب لرئيس اللجنة الاستشارية لحماة، ووقع الاختيار علي لأن أكون رئيسا لهذه اللجنة، وانتخب أحد الإخوان نائبا للرئيس وانتخب أحد الاخوة أمينا للسر، وهكذا بدأت اللجنة الاستشارية في حماة سيرها الرسمي، وهذا السير بحد ذاته لا يعدو أن يكون سيراً رمزياً الا أنه مهم من الناحية المعنوية، ولعل هذا الموضوع يتقضي مني أن أتحدث عن حماة والحمويين. ان التركيب النفسي لمحافظة حماة تركيب أثرت فيه عوامل متعددة، ويغلب على البلد في تركيبها النفسي طابع العزة والأنفة والكرامة والأريحية، فتجد الواحد من أبنائها تحفزه الكلمة حتى ليكاد من خلال الكلمة الحماسية أن يندفع ولو كلفه ذلك حياته كما أن كلمة واحدة كافية لأن يفعل الشيء الكثير. المهم أن لحماة تركيبا خاصا من آثاره أن أبناء البلد كثيرو الاندفاع كثيرو التضحيات لا يتحملون ظلما يقع عليهم أو على غيرهم، ولذلك فإنك تجدهم في تاريخ سورية الحديث هم مؤشر المستقبل السياسي لسورية بحكم تركيبهم النفسي الذي يجعلهم دائما في المقدمة والذي يجعلهم دائما يقدمون على التضحيات بأنفس مرتاحة. ولذلك كله كانت ادارة الحمويين ورعايتهم وسياستهم تحتاج الى خبرة واستشراف، فانهم بهذا التركيب النفسي ان وجدت لهم رعاية خاصة يستطيعون أن ينتجوا وأن ينجزوا وأن يحققوا الأهداف العظام، ومن المعروف أن الجيش الخاص لصلاح الدين كان فيه ألف من الحمويين يختارهم له خالد شهاب الدين الحارمي حاكم حماة في حينه، واذا لم توجد لهم الرعاية الكافية والتوجيه المناسب فقد يستجرون لمواقع يخسرون بها بعض معاركهم، ولذلك قبلت أن أتحمل مسؤولية اللجنة الاستشارية لمحافظة حماة لعلمي بالمخاطر التي تحف بهم. كل ذلك جعلني أقبل هذا العمل على ما فيه من احتمالات صعبة بالنسبة لي. وكان الهم الأكبر لي داخل اللجنة الاستشارية هو أن تستمر الخدمات والمساعدات للاخوة الذين اضطرتهم ظروف البلد للهجرة.

2- المشاركة في المؤتمر الشعبي لعلماء المسلمين

الذي انعقد في بغداد للبحث في الحرب العراقية الإيرانية:

سافرت في عام 1985 الى السعودية لاقامة مناسك العمرة وللاجتماع مع الاخوة الحمويين بوصفي رئيسا للجنة الاستشارية لمحافظة حماة، وبينما أنا في السعودية جاء هاتف يطلب مني الحضور فورا للمشاركة في المؤتمر الشعبي لعلماء المسلمين الذي سيعقد في بغداد. عدت الى عمان ومنها الى بغداد، حضرت والمؤتمر منعقد. تعرفت صباحا على وزير الأوقاف العراقي، وكان يمتلك شخصية مهذبة محبة نشيطة. كانت أحاديث الخطباء وأكثرهم من أثقل علماء العصر، ودعاته في غاية الصراحة والموضوعية، حضر الرئيس صدام حسين وألقيت بين يديه كلمات قوية أسالت دموعه، وطالبه أحد الخطباء بأن يحيي معالم الحق التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أكثر الخطباء يتكلمون عن القضية الإيرانية العراقية، ويشيرون الى مثل هذه المعاني، خرجت قرارات المؤتمر في غاية القوة، كان المؤتمر تظاهرة اسلامية حقيقية ضد الحرب، وأدان إيران وطالب الأمة الإسلامية أن تقف وقفة واحدة ضد البغي الإيراني، وسجل ذلك كله تفصيلا، قابلنا بعد ذلك أنا وعدد من الإخوان منهم أبو الطاهر وأبو عامر نائب الرئيس لرئاسة الوزراء طه ياسين رمضان قال أبو عامر: ان الأمة الإسلامية حيتكم وعليكم أن تردوا التحية بخطوات اسلامية عملية. تركزت كلمتي في المؤتمر على النقاط التالية:

أولاً: أن الصراع الصفوي العثماني تاريخيا أضعف الأمة الإسلامية لصالح أعدائها لذلك فان التوجه الاسلامي الحديث كان يرى أنه لا يصح أن ينتقل الحوار الفكري بين شيعة وسنة الى صراع سياسي أو عسكري، وأن ما فعله الخميني لا نرى له نهايات منظورة، فهو سائر في طريق لا نهاية له الا ذبح السنة والشيعة، فيجب على العقلاء من السنة والشيعة أن يوقفوا هذا التوجه الخطير.

ثانياً: ان ما يحدث على الأرض الاسلامية هائل من تصفية للاسلام في أمكنة كثيرة توجب حركة، ولكنا نجد أن شعوب الأمة الاسلامية وحكوماتها وأبناء هذه الأمة مثبتون في مواقعهم لا يأتون حراكا.

ثالثاً: كنا نطمع أن تكون الثورة الإيرانية لكل المسلمين واذا بها تظهر أغرب أنواع التعصب المذهبي فلا مسجد للسنة في طهران، ولا وزير من السنة في إيران مع أن ثلث سكان إيران من السنة، والدستور وغيره وكل شيء أصبح مذهبيا متعصبا.

رابعاً: أن الوضع العالمي في غاية التعقيد، والحرب العراقية الإيرانية لا زالت مستمرة، لهذا كله فانني أقترح:

أولاً: أن يصبح هذا المؤتمر مؤتمرا دائما يأخذ على عاتقه تعبئة الطاقات الاسلامية في العالم لتقف الأمة الإسلامية مواقف موحدة أمام قضاياها المصيرية، وأول ما ينبغي فعله أن يوجد الجيش الاسلامي الحاجز الذي تشارك فيه كل شعوب الأمة الإسلامية وحكوماتها بين العراق وإيران حتى اذا اعتدت إيران على هذا الجيش أعلن العالم الاسلامي كله الحرب عليها.

ثانياً: أن على الحكومات الاسلامية أن تضع برنامجها لاعمار العراق وإيران وأن تعوض أسر القتلى من الجانبين.

ثالثاً: أن يفتح حوار مع المعارضة الإيرانية لوضع ميثاق يحكم العلاقات بين إيران وبقية الدول الاسلامية في المستقبل.

رابعاً: أن يخرج هذا المؤتمر بكتاب مفتوح للشعوب الإيرانية يناقش كل ادعاءات الإيرانيين.

كانت هذه أهم بنود كلمتي، وكان الحديث الصريح عن السنة والشيعة صعبا، لأن المؤتمر يحضره شيعة وسنة، ولذلك علق بعض اخواننا على كلمتي فقال: لقد دخلت مدخلاً صعباً ولكن استطعت أن تخرج منه، والفضل لله وحده. بمناسبة زيارتي هذه لبغداد زرت معسكر الإخوان هناك وألقيت فيهم خطبة الجمعة كما اجتمعت بالاخوة الحمويين اجتماعا باعتباري رئيسا للجنة الاستشارية، وحثثتهم فيه: على المحافظة على النظام وحسن الترتيب كما أوصيتهم فيه باللطف مع أنفسهم ومع الجميع وأن عليهم في هذه المرحلة أن يؤدوا دون أن يطالبوا بالحقوق. نسأل الله أن يتقبل.

(فصل) في ظهور كتابنا في التفسير هذا العام

ظهر كتابنا "الأساس في التفسير" هذا العام مع أنني قدمته للنشر منذ سنين طويلة، ولكن عصفت به الأحداث وانتقل من نلشر الى ناشر، وجزى الله الحميع خيرا. من التقويمات التي نشرت عن هذا التفسير ما نشرته جريدة المدينة المنورة في السعودية في عددها (7291) في 11 شعبان سنة 1407 هـ، وهو تقويم أعتز به وهذا نص المقال:

الأساس في التفسير... كتاب يحتاجه الربانيون

أنا قارئ مسلم عثرت على كتاب اسمه الأساس في التفسير للأستاذ سعيد حوي قرأت فيه فلم أتمالك الا أن أكتب هذا المقال:

إذا جاز لنا أن نعتبر كتاب في ظلال القرآن كتاب القرن الرابع عشر الهجري في المكتبة القرآنية فاني بعد أن اطلعت على كتاب الأساس في التفسير أخذت به وأدهشت فقلت بحق انه: كتاب القرن الخامس عشر الهجري في المكتبة القرآنية – ذلك القرن الذي يأمل فيه الكثيرون أن يكون قرن اعادة الخلافة الاسلامية. وهذا التفسير اللبنة الأولى في طريق الخلافة ولا عجب فان مؤلف هذا التفسير الأستاذ سعيد حوي صاحب الكتب المميزة المتمسة بطرح القضايا الكلية والنظريات المتينة المتكاملة لتكون قاعدة الانطلاق والبناء. ألف هذا التفسير وهو سجين فكان سجنه خطوة على طريق القدوة وكان من ثمراته كتاب الأساس في التفسير كما كانت مؤلفاته لبنات ترصع البناء الاسلامي وتسد ثغرات فيه. أقول هذا قبل الخوض في ذكر دوافع تأليف هذا الكتاب ومميزاته وخصائصه وثمراته المرجوة، ان هذا الكتاب جزء من سلسلة الأساس في المنهج التي تتألف من أقسام ثلاثة: س

الأساس في التفسير، والأساس في السنة، والأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص، فالحديث عن دوافعه يندرج ضمن الحديث عن دوافع تأليف السلسلة جميعها التي هي:

1- انه في عصر الامتحان لكل شيء والسيطرة المادية على العالم وتصدير الأفكار المختلفة وصياغتها بالقالب الذي يريده الماديون مع وجود طاقات هائلة مسخرة لهذا وعمل دؤوب مخطط من قبل القوى المادية في العالم لتغير كل المسلمات القديمة، أمام هذا لا بد من استعراض شامل للنصوص الاسلامية التي هي بالدليل والبرهان تشكل مسلمات صحيحة في هذا العالم.

2- وفي هذا العصر طرحت كثير من الأمور نفسها بشكل حاد فأصبح لا بد من اجابة شافية، واختلط الأمر واختلطت الاجابات، فكان لا بد من عملية تمييز كاملة متكاملة للاجابة الصحيحة ولا بد أن نفهم النصوص في اطارها الصحيح، وأن كل تساؤل لا يحتمل في عصرنا تأخير الاجابة عليه، والاجابة الصحيحة الشاملة لا تتم الا من خلال عرض شامل للنصوص.

3- ومن واقع عصرنا ان ما يخدم قضية الحق أبعد لصالح الهوى وما يخدم قضية اليقين أبعد لصالح الظنون تحت غطاء العلمية والموضوعية وعندما يصل البعض الى حقائق تخدم قضية الايمان تجده يرفضها ليوصل الى تخريب أو ضلال في العقل والوجدان والسلوك فآن الأوان للمسلم أن يقول كلمته الحاسمة وبداية ذلك العرض الشامل لنصوص الاسلام واقامة الحجة من شأنها على أنها الحق الخالص.

4- القرآن حجة الله على خلقه وحجة الله أن محمدا عبده ورسوله فلا بد من ابراز كمال الحجية فيه وما أكثر الحجج ولا بد من الاجابة على شبهات الخلق في شأنه ومن أعجب هذه الشبه ما تنشره بعض دوائر الكفر حول الوحدة القرآنية والصلة بين سور القرآن بعضها ببعض وكذا آيات القرآن فكان هذا الكتاب ابرازا لمظهر من مظاهر الاعجاز في القرآن من خلال هذه القضية.

5- ان هذه السلسلة محاولة للفهم الصحيح لكلمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في عصر أصبحت فيه كثير من النصوص تفهم فهما خاطئا ويبنى على هذا الفهم الخاطئ أحكام خاطئة فقد وجدت عقليات حرفية لا تراعي طرائق العرب في الخطاب والفهم وعقليات تأويلية تنطلق بالتأويل دون ضوابط وعقليات تفهم الأصل على ضوء الفرع أو تنسى الأصل وتستيقظ على الفرع وكل ذلك لا يسع المسلم.

هذه النقاط الخمس تشكل الدوافع الأقوى لاصدار هذه السلسلة التي منها التفسير كما ذكر المؤلف في المقدمة... وبعد فما هي خصائص ومميزات هذا التفسير؟ نذكرها بايجاز فنقول:

1- انه قدم لأول مرة نظرية جديدة متكاملة في موضوع الوحدة القرآنية تبين هذه النظرية قضية الربط والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين سور القرآن بعضها مع بعض على ضوء نظرية شاملة مستوعبة لآيات القرآن وسوره وهذه التغطية تروى من ظمأ الباحثين عن دقائق أسرار هذا القرآن كما أنها تضع لبنة في صرح الحديث عن اعجاز القرآن ومعجزاته وتجيب على تساؤلات كثيرة من جملتها موضوع فواتح السور الى ما هنالك من قضايا وأسرار تترتب على هذه النظرية عددها المؤلف.

2- ومن ميزاته الاستفادة من أوثق ما توافر من المراجع من كتب دينية قديمة والنقل عنها مباشرة والعزو اليها مع نقد ما ينبغي نقده مع تبيان نقاط الضعف فيها والاستفادة من علوم عصرنا وتخصصاته وما أنتجه ذلك من قضايا تبرز معجزات في القرآن تتأكد بها الحجة القائمة على الخلق.

3- من ميزاته أن لا حشو فيه وليس فيه الا ما له علاقة بصلب التفسير مع استبعاد كل قضية لا تعتبر علمية عملية.

4- حاول التبسيط والتقريب مع الاحتفاظ الى حد كبير بعبارات المفسرين أو بدقة طرائقهم في الأداء وهذا أمر لا يدرك صعوبته الا من عاناه فان كثيرا من العبارات لم تستقر على ما هي عليه الا بعد عمليات تنقيح أجريت عليها خلال العصور.

5- حاول ربط المسلم بقرآنه وتبصيره بواقعه واذا كان للمسلم الحق في عصرنا معارك متعددة لا بد أن يخوضها على أساس القرآن فلا يحسن بكتاب معاصر في التفسير أن يغمض مؤلفه عينه عن هذه المعارك وهذا يقتضي تربية مكافئة لهذه الأمور كلها على ضوء القرآن ومن ثم فقد راعى المؤلف هذه الناحية بشكل بارز.

6- محاولة بيان من هم أهل السنة والجماعة وما هي مدارسهم الاعتقادية والفقهية والروحية والسلوكية والأصولية ومن يقرب من ذلك ومن يبعد.

7- حاول أن يبين أن القرآن أعطى الجواب على كل شيء اما بشكل مباشر أو بما أحال عليه من السنة أو بما حال القرآن والسنة على طرائق ووسائل يعرف بها حكم الله.

8- انه كتاب علم ودعوة وتربية وجهاد بآن واحد.

9- ان من مزايا هذا التفسير أنه عمل على أن يكون أداة لرفع درجات اليقين والارتقاء به مع تصحيح التصورات وزيادة العلم وخدمة قضية زيادة الايمان واصلاح الاعتقاد والعمل.

10- من مزايا هذا التفسير أنه استفاد من أهم كتب التفسير وقد نقل من الظلال ما يعتبر زبدته وأرقى ما فيه وانتقى أزاهيره مع الابتعاد عما يمكن أن يكون فيه ملحظ لعالم راسخ وبالتالي فان قارئ هذا التفسير يكون قد أخذ من الظلال أرقى ما فيه.

والمؤلف – كما يقول عن نفسه – لا يكلف نفسه عناء صياغة شيء يحتاجه الكتاب اذا كان غيره قد صاغه الصياغة التي يرضاها أو التي تقصر عنها عبارته أصلا حيث أن الهدف وجه الله ليس الا. ومن ملاحظاتي على هذا الكتاب: أن القارئ فيه لا يمل بل يجد نفسه مسترسلا مأسورا مأخوذا لا يريد تركه وكأن روح الاخلاص فيه تشد القارئ اليه والتأثير في القارئ نتيجة ذلك أمر بديهي وهذا التأثير له جوانب متعددة قلبية وسلوكية وفكرية وعلمية. ويولد هذا التفسير روح العمل للاسلام والاخلاص في ذلك ومعرفة ما يجب على المسلم وكيف يسلك الطريق الصحيح للوصول الى الهدف الصحيح. ومن آثاره المرجوة بناء الشخصية الاسلامية العالمية العلمية الجهادية الربانية كما أنه يولد عند القارئ روح الدقة في التعبير والحساسية اللازمة تجاه أي شذوذ عقدي أو فقهي. والتفسير بعد ذلك ذخيرة علمية وعملية ذات صبغة ايجابية وتربية روحية راقية. وبعد، فان الاطراء ليس هدفنا ولكن الاعجاب بالكتاب والتقدير له جعلنا نكتب هذه الكلمات. 1. هـ.

الباب الثالث عشر

من الخمسين الى الواحدة والخمسين

من الخمسين الى الواحدة والخمسين
(أهم أحداث سنة 1986)

1- الرحلة الى باكستان والأفغان:

زارنا بعض الاخوة من المهتمين بالقضية الأفغانية، وحدثونا عن أن الرعيل الأول من أبناء الحركة الاسلامية الأفغانية، كاد يستشهد كله وأنه يجب أن تعطى عناية للتعليم الاسلامي في صفوف المهاجرين الأفغان فلعل ذلك يعوض، وأخبرونا أنه قد أنشئت عدة معاهد لهذا الغرض، وطالبوا بعض الاخوة أن يذهبوا لدراسة هذا الموضوع، كما طالبوا أن نرسل بعثة تعليمية من المهاجرين السوريين لهذا الغرض، وتطوعت للذهاب في هذه الرحلة التي ضمتني مع الأخ أبي الطاهر فقط اذ اعتذر أحد المشايخ عن الذهاب في آخر الموعد، تمت الترتيبات وذهبنا الى باكستان، وكانت رحلة متعددة الأهداف، فكانت حركة نحو اتحاد طلبة المسلمين وألقينا عندهم عدة محاضرات، واتجهنا نحو المعاهد التعليمية فألقينا فيها عدة محاضرات، واتجهنا نحو مكتب الخدمات العرب، فكانت مذاكرات ومحاضرات، واتجهنا نحو قادة الجهاد الأفغاني فقابلناهم جميعا، وركزنا على نقطتين: أن عليهم أن ينضجوا أحزابهم وأن يوجدوا صيغة يستطيعون بها أن يتعاملوا مع بعضهم وأن يفكروا في المستقبل، ولم يكن عندنا وقت كاف لنضع أنفسنا تحت تصرف كل حزب على حدة، فخصصنا حزب رباني وحزب حكمت يار، وحزب سياف، بأن خصصنا لكل حزب يومين ألقينا فيهما عدة محاضرات على أعضاء كل حزب من هذه الثلاثة، وقابلنا شخصيات متعددة، وزرنا الهيئة التدريسية للجامعة الاسلامية في اسلام آباد، وكانت مذاكرات طيبة معهم، وخرجنا من هذه الجولة الميدانية بانطباع عما ينبغي فعله، وكان من آثار هذه الرحلة أن كتبنا دراسة تحت عنوان "القضية الأفغانية والتحرك المكافيء المطلوب" وأرسلناها بواسطة الأستاذ برهان الدين رباني الى قادة الأحزاب الأفغانية جميعا.

2- الرحلة الى مصر:

سافرنا مع الأخ أبي عامر وآخرين الى مصر بتاريخ 06/12/1986 وكان الهدف من هذه الرحلة متعددا:

أولاً: اظهار موقفنا من الخمينية التي أصبحت تشكل خطرا فكريا وحركيا.

ثانيا: مقابلة المرشد العام الجديد للإخوان المسلمين وتحيته واعلامه أننا لا زلنا أصدقاء وأحباب، وقد حققت الرحلة مقصديها.

قابلنا جهات كثيرة في مصر وشرحنا لهم وجهة نظرنا في الخمينية، وكان التجاوب كاملا. وقابلنا فضيلة المرشد العام وكانت مقابلة لطيفة كما قابلنا عددا من الإخوان وخرجنا بما كنا نأمله، اذ أكدنا أنه اذا فاتتنا العلاقات التنظيمية فلا تفوتنا العلاقات الأخوية.

(فصل) في الانقسام الثالث الخطير الذي حدث بين الإخوان

(فصل) في الانقسام الثالث الخطير الذي حدث بين الإخوان المسلمين في سورية

لعل أخطر انقسام واجهته جماعة الإخوان المسلمين في سورية هو الانقسام الذي حدث في سنة 1986. والأمل معقود بفضيلة المرشد العام الجديد – بعد الله تعالى – في تدارك هذا الأمر، ولكن قد يكون من المفيد أن نشير الى بعض الأسباب التي أدت الى هذا الانقسام:

ان الأسباب الجوهرية التي أدت الى هذا الانقسام تكمن في ثلاثة أمور:

أولاً: خرق الأنظمة المعتمدة.

ثانياً: تعطيل مؤسسات.

ثالثاً: الاختلاف في التوجه السياسي.

وقد حسم هذا الموضوع أخيرا وذلك يساعد على العلاج.

وتوضعت حول الأسباب الجوهرية أسباب ثانوية: كنمو الروح الاقليمية والمماحكات الشخصية، والآراء السلبية لبعض الإخوان ببعض، وفهم بعض الأمور فهما مغلوطا، وعدم الوضوح في النظرية التنظيمية الصالحة لحزب اسلامي معاصر.

الباب الرابع عشر

من الواحدة والخمسين الى الثانية والخمسين

من الواحدة والخمسين الى الثانية والخمسين
(أهم أحداث سنة 1987)

1- الرحلة الى السعودية.

2- العزلة الاضطرارية.

1- الرحلة الى السعودية

كانت أسباب الرحلة الى السعودية متعددة منها مرض العيون الذي أصبت به، فقد قيل لنا ان في الرياض مستشفى تخصصيا للعيون. ومن أسباب هذه الرحلة الرغبة في لقاء المهتمين في الشؤون الاسلامية. كان مرضنا مستعصيا فلم نستفد شيئا، لكنا قابلنا أعدادا كبيرة من الأحباب وجددنا الصلة بهم وحضرنا اجتماعات متعددة، ذَكَّرنا أو ذُكِّرنا[1]، أو قدمنا خلاصة آرائنا فيما اقترح أمامنا، وعدنا الى مقرنا وأوضاعنا الصحية ليست على ما يرام.

2- العزلة الاضطرارية:

تعددت أمراضنا من قبل، وكنا نصابر ونكابر حتى أصبنا بشيء من أعراض الشلل ابتدأ ذلك بتاريخ 14/03/1987، فدخلنا المستشفى ثم خرجنا منه، وقد نصحنا بعض الأطباء بأن علينا أن نعتزل اعتزالا كاملا كل شيء فلم يعد أمامنا مفر الا أن ننظم حياتنا على أساس من هذه العزلة. فمرض السكري ومرض الضغط ومرض العيون، ومرض القلب وتصلب الشرايين وتورم الأقدام، ومرض الكلي وظاهرة الشلل الجزئي، كل ذلك لم يعد بالامكان معه أن نشارك بالعمل العام ولا أن نتحمل مسؤوليات، وأصبح واضحا أنه لم يعد أمامنا الا الاستمرار في نوعين من العمل:

أولاً: النصيحة لمن جاء زائرا.

والثانية: متابعة التأليف ونسأل الله أن يتقبل، وبهذه العزلة الاجبارية نختم مذكراتنا، واذا جد جديد يستأهل أن نذكره لأخذ فائدة أو للعبرة، فسنسجله ان شاء الله تعالى تحت عنوان: يوميات الغروب.

والحمد لله رب العالمين...

[1] ذكرنا أو ذكرنا: الأولى بفتح الذال وتشديد الكاف مع فتحها، والثانية بضم الذال وكسر الكاف مع التشديد.

(فصل) مؤلفاتنا حتى عام (1408 – 1988 م)

أصدرت كتبي كلها تحت عنوان دراسات منهجية هادفة لأنني كتبت كل ما اعتقدت أنه ينبغي أن يدخل في دراسة المنهج وأصدرت حتى الآن عدة سلاسل.

أولاً: سلسلة الأصول الثلاثة وتتألف من ثلاثة كتب:

(أ‌) الله جل جلاله.

(ب‌) الرسول صلى الله عليه وسلم.

(ت‌) الإسلام.

ثانياً: سلسلة الأساس في المنهج وتتألف من ثلاثة كتب:

(أ‌) الأساس في التفسير.

(ب‌) الأساس في السنة وفقهها.

(ت‌) الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص.

ثالثاً: سلسلة التربية والتزكية والسلوك وهي ثلاثة كتب:

(أ‌) تربيتنا الروحية.

(ب‌) المستخلص في تزكية الأنفس.

(ت‌) مذكرات في منازل الصديقين والربانيين.

رابعاً: سلسلة في البناء وقد صدر منها:

(أ‌) جند الله ثقافة وأخلاقا.

(ب‌) من أجل خطوة الى الأمام على طريق الجهاد المبارك.

(ت‌) المدخل الى دعوة الإخوان المسلمين.

(ث‌) جولات في الفقهين الكبير والأكبر.

(ج‌) دروس في العمل الاسلامي.

(ح‌) فصول في الامرة والأمير.

(خ‌) في آفاق التعاليم.

(د‌) هذه تجربتي... وهذه شهادتي.

(ذ‌) رسائل "كي لا نمضي بعيدا عن احتياجات العصر" وقد صدر منها احدى عشرة رسالة:


ونسأل الله أن يتقبل.

خاتمة

أنهي هذه المذكرات التي سجلت فيها جزءا من ذكرياتي وأنا في سن الثانية والخمسين، وقد أخذ مني المرض كل مأخذ، لقد ولدت في 27 أيلول (سبتمبر) سنة 1935، وها أنا أنهي هذا الكتاب في أوائل عام 1987، وهناك قسم من التجارب والذكريات التي لها علاقة بموضوعات تخص الصف الإخواني ولها علاقة بالحركة الاضطرارية للمواجهة السياسية لم أسجلها في هذا الكتاب، وانما أخرت نشرها لتكون أكثر موضوعية ان شاء الله تعالى، ولعل القارئ يلمح من خلال هذه المذكرات رغبتنا الأصيلة في الوصول الى نظام يرتاح فيه الجميع في سورية، وان أخشى ما نخشاه ألا نستطيع السيطرة على المستقبل بسبب من أحداث الماضي والحاضر، وهذا يجعلني أتوجه في ختام هذه المذكرات الى جميع أبناء الشعب السوري أن يفكروا في المستقبل، فلن يدوم سلطان لأحد، والله تعالى يقول: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140]. فلا ينبغي أن يغتر ذو سلطان بسلطانه اليوم، ولا ينبغي أن يغتر ذو سلطان بسلطانه غداً، والله تعالى سيحاسب الجميع.

وقد انتهت الكتابة في هذه المذكرات يوم الخميس 17 شعبان سنة 1407 هـ - 16 أبريل سنة 1987 م.

وآخر دعوانا "أن الحمد لله رب العالمين".