هذا هو أبو هريرة (رضي الله عنه)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هذا هو أبو هريرة (رضي الله عنه)


بقلم / الدكتور عبد الرحمن عبد الحميد البر .. أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه.

وبعد، فهذه رسالةٌ كنتُ كتبتُها بعد اطلاعي على مقالة صحفية كتبها الأستاذ إبراهيم عيسى الكاتب الصحفي المعروف، وتناول فيها الصحأبي الجليل أبا هريرة (ر) بما لا يليق ولا يصح، في سياقٍ لا معنى للحديث فيه عن أبي هريرة (ر) ، مما أثار استغرأبي واستغراب بعض إخواني ممن يتابعون مقالات الأستاذ إبراهيم، فطلب بعض إخواني أن أناقش ما جاء في مقالة الأستاذ إبراهيم، لأكشف ما صح مما أورده مما لم يصح.

وقد استجبتُ لهذا الطلب الكريم ووافق ذلك رغبة شخصية عندي، فبدأت بالفعل في ذلك، ثم بدا لي بعد أن بيَّضتُ كثيراً من هذه المناقشات أن أتوقف وألا أشغل الأستاذ إبراهيم بهذه المناقشة، حتى لا ينشغل عن قضيته الأساس التي يكتب فيها كثيرا ويبلي فيها بلاء لا بأس به، وعي قضية الحريات وكشف الفساد، التي كلفته –مع نفر من الكتاب الأحرار- الوقوف أمام القضاء، والمواجهة في ساحات المحاكم مع نفر عجزوا عن مواجهة الرأي بالرأي ومقارعة الحجة بالحجة، فلجؤوا إلى ترهيب الكتاب الأحرار من خلال جرهم إلى هذا الميدان ؛ أملاً في كسر أقلامهم وإسكات أصواتهم المعبرة عن ضمير الأمة.

لهذا ضربت الذكر صفحا عن نشر هذه المناقشات، واكتفيت بإرسالها عبر أحد الأصدقاء إلى الأستاذ إبراهيم، ولا أدري هل وصلت إليه أو لم تصل.

غير أن القضية قد عاودت الظهور والنشر على يد صحفيين آخرين، مما دعا بعض إخواني إلى السؤال مرة أخرى عما كتبته وناقشته وألحوا علي بضرورة إخراجه للناس؛ ليظهر الحق ويتضح الصواب، فرأيتُ إجابتهم إلى ذلك، وها أنذا أقدم للقراء الكرام وللأستاذ إبراهيم هذه المناقشة التي أرجو أن تكون هادئة هادفة وأن تكون خالصة لوجه الله، وأن ينفع الله بها كاتبها وقارئها إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

كتبه أبو محمد / عبد الرحمن البر


تقديم

"فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"

هذا جزء من آية كريمة وردت في سورتي النحل والأنبياء توجه العقل السليم والفكر المستقيم إلى كيفية التناول لما لا علم له به، والتحصيل لما لا معرفة له به، فسؤال أهل الذكر فيما هم به عالمون وبدقائقه عارفون هو المنهج الأرشد والسبيل الأقوم للوصول إلى الحق "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ" (النساء: 83).

والآفة حقا أن يتسنَّم ذروة الإفتاء وأن يتصدر للحديث عن الشريعة ورجالها من تعوزه المعرفة بها وبهم، فيفتي بجهل أو هوى، أو يلقي الآراء بلا ضبط ولا روية، فيَضِلَّ ويُضِل، ففي الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ الله بن عَمْرِو بن الْعَاصِ " قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ^ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

لذلك فإنه ينبغي ألا يتصدر للحديث عن علم من العلوم أو عن رجال هذا العلم مَنْ لم تكتمل مؤهلاته العلمية والأخلاقية للخوض في ذلك، ولكن هذا لا يمنع أن يقوم المسلم غير المتخصص في علوم الدين بالدعوة إلى مكارم الأخلاق وحميد الخصال، أو الحث على القيام بالفرائض المعروفة والآداب المعلومة، وعلى من يريد أن يفعل ذلك ألا يدخل فيما لا علم له به، بل عليه أن يرد الأمور لأهل الذكر من العلماء المتخصصين، وما أكثرهم فيما بيننا.

لهذا فقد استبد بي العجب وأنا أطالع المقال الذي كتبه الأستاذ الفاضل إبراهيم عيسى تحت عنوان (صباح الخير على الورد المفتح في جناين مصر) في جريدة صوت الأمة العدد(277) بتاريخ 20صفر 1426هـ.


دعوة للمناقشة ورجاء

الأستاذ إبراهيم عيسى من الكتاب المتميزين:

قبل أن أستطرد أحب أن أقول: إنني - وغيري كثيرون - من الحريصين على قراءة معظم مقالات الأستاذ إبراهيم في صحيفة الدستور أو صوت الأمة أو غيرها وكذلك متابعة برنامجه الأسبوعي (من أول السطر) أحيانا؛ لأنها تجمع بين الجرأة والمتعة في الطرح، والعمق في الفكرة، والدقة في المناقشة، فضلا عن المخزون المعرفي الهائل الذي تنضح به مقالاته، ومهما اختلفتَ معه فلا تملك إلا أن تقرأ له، ولكني أستأذنه وأستأذن القراء الكرام اليوم في أن أتجاوز قراءة المقال المذكور إلى مناقشة هادئة للجزء الذي استبد بي العجب وأنا أطالعه، وهو الجزء الخاص بحديثه عن أبي هريرة .

وأطمئن الأستاذ إبراهيم في بداية هذه المناقشة إلى أنني لا أعتبر الخلاف على أبي هريرة (ر) ولا على غيره خلافا على السنة الشريفة أو حربا ضدها، إلا إذا كان الطرف الآخر يقصد بالتشكيك في أبي هريرة(ر) وغيره هذا القصد فعلا.

لكنني أقول للأخ الأستاذ إبراهيم: إذا ظهر لك بعد المناقشة خطأُ ما ذهبتَ إليه في حال الرجل، فهل أنت على استعدادٍ أن تعتذرَ له على صفحات جريدتك؛ عملاً بحق الرد، والتزاماً بميثاق الشرف الإنساني والأخلاقي والديني الذي يوجب على مَنْ يُسيء إلى شخصٍ ما ثم تظهر له الحقائقُ أن يعتذرَ له؟ الذي أتوقعه أن الأستاذ إبراهيم لديه الاستعداد النفسي والأخلاقي والمهني لقبول ذلك إن شاء الله، وغالب ظني أنه ليس بينه وبين أبي هريرة (ر) إحن ولا ثارات، والله أعلم.


في البداية أسوق تعريفاً موجزاً لأبي هريرة (ر)

الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله^، أبو هريرة الدوسي اليماني، سيد الحفاظ الأثبات. اختلف في اسمه على أقوال جمة أرجحها: عبد الرحمن بن صخر، وقيل: ابن غنم.

كني بهرة برية كان يحملها، قال (ر) : كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبتُ بها، فكنَّوْني أبا هريرة.

حمل عن النبي ^ علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه لم يُلْحَق في كثرته، وعن أبي وأبي بكر وعمر وغيرهم رضي الله عنهم.

حدث عنه خلقٌ كثيرٌ من الصحابة والتابعين، قال البخاري: روى عنه ثمانمائة أو أكثر.

إسلامه وصحبته:قدم (ر) على النبي (ص) مسلما أول سنة سبع عام خيبر.

وفــاته: مات (ر) سنة ثمان وخمسين وله ثمان وسبعون سنة، قبل وفاة معاوية بسنتين، ودفن بالبقيع .


والآن هلم أخي إبراهيم إلى هذه المناقشة الهادئة المنصفة إن شاء الله

أولا: ملاحظات شكلية

1 - معلومات المقال غير موثقة:

خلا مقال الأستاذ إبراهيم من ذكر أي مصدر يوثق شيئا مما أورده، وكثرت في المقال العبارات التي أسميها (عبارات الهروب من الملاحقة العلمية والأخلاقية)، مثل: كما يرجح البعض، يرفعه البعض، يهبط به البعض، ينهاه عنها الصحابة بعد وفاة النبي، واضطر كما نعرف الفاروق عمر إلى ضربه.

والأستاذ إبراهيم - وهو واسع الثقافة فيما أحسب - لا يغيب عنه أن نسبة الحقائق إلى المجاهيل تُفقدها أية قيمة نقدية أو علمية، فمَن هذا البعض الذي يرجح أو يرفع أو يضع وما قيمة ترجيحه أو رفعه أو وضعه في ميزان النقد العلمي؟ ومَنْ من الصحابة نهاه عن الرواية ومتى كان ذلك؟ ومن الذي روى أن الفارق عمر ضربه وهدده بالطرد، وهل هو ممن تقبل روايته في ذلك؟ وسآتي على توضيح هذا الأمر فيما بعد.

ولئن كان يصح في الكتابة الصحفية السياسية نسبة بعض الأخبار أو المعلومات إلى (مصادر مطلعة) أو (مصادر مقربة) أو (مصادر عليمة) إلى آخره للهروب من الملاحقة القضائية أو لعدم تعريض تلك المصادر للملاحقة أو لإمكانية التراجع عن تلك التصريحات وسهولة نفيها فيما بعد؛ فإنه لا مُسَوِّغ على الإطلاق لاستخدام تلك العبارات في الكتابة التاريخية.

2 – الدعوى التي استهدفها الأستاذ إبراهيم خلت من الدليل

فيما بدا لي فإن الأستاذ إبراهيم أراد أن يقدم بهذا المقال صورة لاستغلال الحكام الجورة لبعض المنتسبين إلى العلم الذين لا يمتنعون من بيع دينهم بعرض من الدنيا، وأن الدولة الأموية (الجائرة في زعم الأستاذ إبراهيم) فعلت ذلك حين اعتمدت على أبي هريرة في تأليف الأحاديث المؤيدة للدولة التي (بزعم الأستاذ إبراهيم) كانت في حاجة إلى سند ديني ومساندة شرعية للخلاص من أزمة وسمعة قتل آل البيت والدم المسفوك والعرش المغتصب والحرب الضروس!.

هذا ما أراد الأستاذ إبراهيم أن يقدمه، ولكنه فاته (إحسانا مني للظن به) أن يقدم دليلا واحدا صحيحا على أن أبا هريرة قام بدور شاهد الزور المزعوم، فهل عندك أدلة سقطت سهواً يا أستاذ إبراهيم فيها أن الدولة الأموية طلبت من أبي هريرة (ر) أن يبرئها من تلك الأوزار المزعومة، فلفق أبو هريرة (ر) لهم حديثا أو أكثر يساعدهم على هذا؟

ربما تتعلل بأن مساحة المقال الصحفي لا تحتمل ذكر شيء من تلك الأدلة، وأقول لسيادتك: المساحة التي تحتمل سرد الاتهامات ينبغي أن تتسع -ولو على حلقات- لسرد الأدلة، والله أعلم.

على كل حال، سأكون شاكراً لك إذا وضعت يدي ويد القراء الكرام على هذا الدليل الصحيح الذي أثق أنه غير موجود.

لا، بل إنك يا أستاذ إبراهيم ما أسرع ما نسيت! فختمت المقال بأن الأحاديث المروية عن أبي هريرة (ر) لم تكن في عقيدة ولا أحكام شرعية، ولا قواعد نبوية (ففيم كانت إذاً؟!)، بقدر ما كانت أحاديث حول أمور وتفاصيل الخلاف حولها لا يزعزع عقيدة ولا يهز شرعا (!). فأين كان استعمال الأمويين له إذاً؟!


3 - تصحيح وتتميم

ذكر الأستاذ إبراهيم أنه لم يصحح البخاري من أحاديث أبي هريرة (ر) إلا حوالي (400) حديث، وليسمح لي الأستاذ إبراهيم أن أصحح وأتمم لسيادته المعلومة: إن الأحاديث المتفق عليها من أحاديث أبي هريرة (ر) عند البخاري ومسلم: (326)، والأحاديث التي انفرد البخاري بها دون مسلم (93)، والتي انفرد مسلم بها دون البخاري (98)، وله في مسند الإمام أحمد: (3848) حسب عدّ الشيخ أحمد شاكر، أما الأستاذ شعيب الأرنؤوط فقد قال في مقدمة الجزء الثاني عشر من المسند بتحقيقه: إن عددها (3870). وعلى هذا فمجمل أحاديثه في الصحيحين = 517 حديثا.

وبالمناسبة فلم يرو الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما لأحد من الصحابة الآخرين مثل هذا العدد، وأنا أظن أن الأستاذ إبراهيم لا يشكك في ذمة وأمانة البخاري بالذات حيث ذكر كلامه السابق على سبيل الاستدلال على أن الصحيح عن أبي هريرة قليل بدليل أن البخاري لم يرو إلا حوالي (400) فقط!

وعلى أي حال فجميل أن يستدل الأستاذ إبراهيم بالبخاري، ولذلك فسأجتهد أن آتي بأكثر أدلتي من صحيح البخاري الذي يقدره الأستاذ إبراهيم مثل سائر الأمة.


ثانيا: تجاوزات لفظية

بعض التجاوزات اللفظية التي حصلت من الأستاذ إبراهيم:

قبل أن أدخل في المناقشة التفصيلية لا بد أن ألفت نظر الأستاذ إبراهيم إلى ما أعتبره أنا (بعض التجاوزات اللفظية) التي أرجو أن تكون غير مقصودة.

(أ) أبو هريرة لم يكن عاطلاً!

قال الأستاذ إبراهيم في بداية كلامه :(أسلم أبو هريرة (ر) وهو في عمر الثلاثين، كما أنه التصق بالمسجد النبوي وبالرسول^ من أجل قوت يومه وطعام بطنه مع المعدمين والفقراء والعاطلين). وأنا أسألك يا أستاذ إبراهيم وأنت الكاتب والقارئ المثقف الجيد النظر والتحليل: هل كان النبي ^ يجمع حوله العاطلين؟ وهل كان من دأبه ^ تشجيع البطالة والتعطل؟ وهل الذين يتفرغون لحفظ القرآن والسنة وتلقي العلم ومتابعة النبي ^ يُعَدُّون من العاطلين؟ إذا كان التفرغُ للعلمِ وحفظِ الدينِ بطالةً وتعطلاً، فعلى الحضارة والتقدم السلام، وعلى العلم والعلماء فليترحم المترحمون!

علماً بأن هؤلاء القراء الفقهاء يا أستاذ إبراهيم بمن فيهم أبوهريرة (ر) لم يتخلفوا عن أي غزوة مع رسول الله ^، إلا حينما تعذَّر على بعضهم شراءُ السلاح والراحلة في غزوة تبوك، فرجعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزَناً ألا يجدوا ما ينفقون.

هل تعلم سيادتك والقراء الكرام أن أهل الصفة الذين تصفهم بالعاطلين كان لهم دور بالغ الأهمية في حفظ الدين وتعليم الناس، وكان منهم القراء السبعون الذين استشهدوا في بئر معونة حين غدر بهم المشركون الذين ادعوا الإسلام وطلبوا من النبي (ص) أن يرسل إليهم من يعلمهم القرآن والسنة فبعث أولئك السبعين من أهل الصفة الذين تصفهم بـ(العاطلين) ظلما يا أستاذ إبراهيم.

قضية الصفة في حاجة إلى دراسة حضارية:

إن قضية الصفة والفقراء الذين كانوا يجتمعون فيها في حاجة إلى دراسة حضارية تبين كيف استطاع النبي (ص) الاستفادة من أولئك الفقراء الذين لم تكن لهم تجارة تشغلهم ولا زراعة يتعهدونها، ولا أسر يعيلونها، والذين لم تكن لهم مطامع في أعراض الدنيا، ولا تعلق بزينتها، مع رغبة جارفة في القرب من رسول الله ^ وحفظ القرآن والسنة. لقد اعتبرهم النبي ^ ضيوفه، ولم يكن يدخل بيوته للمبيت قبل أن يطمئن عليهم، ولا تأتيه هدايا ومنائح من المسلمين إلا بعث منها إليهم، وكلما وجد فراغاً جالسهم فحفَّظهم وعلَّمهم، معتبراً أن توظيفهم في حفظ القرآن والسنة هو أعظم استثمار لطاقاتهم، وأكمل أسلوب لممارسة التنمية البشرية فيهم، فلم يكونوا عاطلين ولا متسولين يا أستاذ إبراهيم!


(ب) لم يكن أبو هريرة بطيناً أكولاً ولا متسولاً

ومن التجاوزات اللفظية أيضا يا أستاذ إبراهيم قولك وأنت تقارن بينه وبين كبار الصحابة رضى الله عنهم جميعا: (فضلاً عن أن أحداً منهم لم يترك صلاةً وراء النبي ^ ومعه في حلقات المسجد وجلسات الشورى بينما أبو هريرة (ر) يصاحبه في عشاء أو طريق).

وأقول لك: إن كلامك هنا تنقصه الدقةُ، وسأذكر لك فيما بعد أن كبار الصحابة لم يكونوا يحضرون كل شيء مع النبي ^، لكن إذا كان للكلام رائحةٌ فعبارتُك تشي بأن أبا هريرة (ر) لم يكن له هَمٌّ إلا بطنَه، وقد كرَّرتَ هذا المعنى أكثر من مرة، ويبدو أنك اعتمدتَ في هذا على قوله (ر) في الحديث الذي سيأتي فيما بعد: «وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ الله (ص) عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا»، وقوله: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ الله ^ غَرْسُ الْوَدِيِّ(النخل الصغير) وَلَا صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ، إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ الله ^ كَلِمَةً يُعَلِّمُنِيهَا وَأُكْلَةً (أي لقمة) يُطْعِمُنِيهَا» ففهمتَ من العبارة أنه كان رجلاً بطيناً همُّه الأكلُ وملءُ المعدة، والعبارة لا تعني ذلك أبداً يا أستاذ إبراهيم، فالرجل (ر) يقصد أنه لم يكن مشغولا بمال أو متاع أو جمع، إنما كان يكفيه مجرد سد الجوع، ثم لا حرص له بعد ذلك إلا طلب الحديث، وأنا أدعوك أن تعود لقراءة القصة بتجرد وأن ترجع البصر في كلام أبي هريرة (ر) كرتين، فهل تفهم من كلامه الواضح هذا إلا ما فهمه العلماء المنصفون مما ذكرته لك؟ جهاد أبي هريرة(ر) :

على كل حال أشير هنا وبإيجاز شديد إلى أن أبا هريرة (ر) لم يكن يتخلف عن الجهاد مع رسول الله ^، فلم يتخلف منذ قدم على النبي ^ عن الخروج معه للجهاد أبداً، وكذلك ظل مجاهداً طيلة حياته، وقد صحح ابن حبان عن مجاهد، عن أبي هريرة (ر) أنه كان في الرباط، ففزعوا إلى الساحل، ثم قيل: لا بأس، فانصرف الناس وأبو هريرة (ر) واقف، فمر به إنسان، فقال: ما يوقفك يا أباهريرة؟ فقال: سمعت رسول الله^ يقول: «مَوْقِفُ سَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ الحَجَرِ الْأَسْوَدِ».

ولا ريب أن هذا الموقف ليس موقف المتسكعين الذين لا تشغلهم إلا اللقمة التي تملأ بطونهم، بل هو موقف أصحاب العزائم الذين يدركون أن لهم رسالة عظيمة ولحياتهم قيمة سامية.


ثالثاً: مناقشات تفصيلية

1- مدة صحبة أبي هريرة للنبي (ص)

ذكر الأستاذ إبراهيم أن أبا هريرة (ر) عاش مع النبي ^ عامين، وقال: والتقديرات متفاوتة بين أقل وأكثر. وأقول: هذا محض خطأ، فأبو هريرة (ر) لازم النبي ^ أربع سنين وأيام على ما ذكره تلميذه حميد بن عبد الرحمن الحميري ورجحه الإمام الذهبي.ويؤكد ذلك أنه قال: جئتُ يوم خيبر بعد ما فرغوا من القتال.

والفراغ من القتال في خيبر كان في آخر صفر من السنة السابعة للهجرة والنبي ^ توفي في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة، فيكون أبو هريرة (ر) قد لازمه (ص) أكثر من أربعة أعوام.


2 - نسبة مرويات أبي هريرة إلى مرويات بقية الصحابة

أعرف يا أستاذ إبراهيم أنك الآن تقول: وإيه يعني؟ ما أربع سنوات من سنتين؟ المشكلة قائمة وهي كيف يروي كل هذا العدد الكبير من الأحاديث بينما الذين عاشوا مع النبي ^ مدداً أطول لم يرووا مثل هذا العدد أو نصفه، بل إنك تقول في عبارة طريفة مدهشة: إن بقية الصحابة رووا كما يرجح البعض (أموت وأعرف أحداً منْ هذا البعض لأتبين مدى وجاهة كلامه) سبعا وعشرين في المائة بالنسبة لما رواه أبو هريرة !

أضحك الله سنك يا أستاذ إبراهيم كما أضحكتني حين قرأت هذه العبارة، فهذه أول مرة في حياتي أجد أحداً يجهد نفسه في ذكر هذه النِّسَب، وعجبي: لماذا لم يقولوا ثلاثين في المائة؟!

عموما أنا ضعيف في أمور الحساب وتحويل الأرقام إلى نِسَب مئوية، ولهذا سأكتفي بذكر عدد أحاديث الثمانية الذين تلوا أبا هريرة في الإكثار بحسب ما ذكر الإمام بقي بن مخلد، وأدَع للقارئ الكريم وللأستاذ إبراهيم أن يصحح النسبة بين أبي هريرة وبين الثمانية المكثرين فقط، ثم أترك لخيال القارئ أن يتصور النسبة بين أبي هريرة وبين سائر الصحابة وأذكر قبلا بأن عدد الأحاديث المنسوبة لأبي هريرة هي (5374)حديثا، يليه عبد الله بن عمر (2630)، ثم أنس بن مالك (2286)، ثم عائشة أم المؤمنين (2210)، ثم عبد الله بن عباس (1660)، ثم جابر بن عبد الله (1540)، ثم أبو سعيد الخدري (1170)، ثم عبد الله بن مسعود (848)، ثم عبد الله بن عمرو (700) جميعا.

فإذا عرفت يا أستاذ إبراهيم أنت والقارئ الكريم أن عدد الصحابة الذين رُوِيت عنهم الأحاديث يقارب الألفين منهم من بلغ عدد أحاديثه المئات، وعشرات بلغ عدد أحاديث كل منهم العشرات، ومئات لم يرووا إلا عددا محدودا من الأحاديث، ثم مئات لم يرو عن كل منهم إلا حديث أو حديثان، فهل ما زلت مصدقا ما رجحه البعض من أن نسبة أحاديث أبي هريرة إلى أحاديث بقية الصحابة هي 73: 27؟!

الذي لا تريد قوله يا أستاذ إبراهيم أنك نقلت هذا الكلام عن كتاب (أبو هريرة) للمدعو عبد الحسين شرف الدين ، ذلك الشيعي المتعصب الذي لا يقطر قلمُه إلا ضغناً وحقداً على أبي هريرة، لكن يبدو أنك كنت في عجلة من أمرك عند النقل، فلم تنتبه إلى أن النسبة المذكورة إنما جعلها هذا الشيعي الجلْد بين مرويات أبي هريرة ومرويات الخلفاء الراشدين ، وليس بين مرويات أبي هريرة وروايات بقية الصحابة يا أستاذ إبراهيم.

سؤال بريء:

هل يمكنني إذاً قبل أن أغادر هذه النقطة أن أسأل سؤالاً بريئاً: ما السر في تضخيم ذلك البعض لنسبة عدد مرويات أبي هريرة إلى مرويات بقية الصحابة؟!

ولا يغيب عنك يا أستاذ إبراهيم أن الأربع سنوات على كل حال هي ضعف السنتين، وهي مدة ليست قليلة، وما أظن أن حفظ (5374) حديثا في أربع سنوات شيئا كثيرا.


3 - هل (5374)حديثا عدد كبير؟

أعرف يا أستاذ إبراهيم أنك ما زلت تقول: وإيه يعني؟ هذا العدد المروي عن أبي هريرة أكبر بكثير مما روي عن غيره ممن سبقوه ولازموا النبي (ص) أكثر منه. وأقول لك: انتظرني، فسأقول لك وللقراء الكرام قبل الاستطراد: هل تحسبون أن عدد (5374) حديثا عدد كبير بالنسبة لبقية أحاديث النبي ^؟ كلا كلا، فعدد الأحاديث المروية أكبر من ذلك بكثير جدا جدا.

علماء يحفظون مئات الألوف من الأحاديث:

هل تعرف يا أستاذ إبراهيم أنت والقراء الكرام أن الإمام أحمد بن حنبل كان يحفظ (700.000) حديث انتقى منها الأحاديث التي كتبها في مسنده والتي بلغت (27.746) حديثا، منها عن أبي هريرة (3848) حديثا. وبالمناسبة أدعو الأستاذ إبراهيم والسادة القراء لعمل النسبة مرة أخرى بين مرويات أبي هريرة ومرويات باقي الصحابة في مسند أحمد! علما بأن عدد الصحابة المذكورين في المسند حوالي ألف صحأبي فقط منهم حوالي سبعمائة معروفين بأسمائهم وكناهم، والباقي رجال أو نساء من الصحابة غير مسَمَّيْن.

مرة أخرى يا أستاذ إبراهيم، الإمام أحمد انتقى هذه الأحاديث من (700.000)حديث، فما رأيك: هل (5374) كثير بالنسبة لـ(700.000)؟

وأزيدك يا أستاذ إبراهيم: قال عبد الله بن أحمد: كتب أبي (أحمد بن حنبل) ألف ألف حديث (1.000.000) وترك لقوم لم يرو عنهم مائتي ألف حديث (200.000) (شرح علل الترمذي ج1/ص479).

وقال يحيى بن معين: كتبت بيدي ألف ألف حديث (1.000.000) (تذكرة الحفاظ ج2/ص430).

وقال الإمام أبو زرعة الرازي: كتبت بيدي ألف ألف حديث (1000.000) أقول فيها عن النبي (ص) (تاريخ بغداد ج10/ص335).

وقال الحافظ أبو مسعود الرازي أحمد بن الفرات: كتبت ألف ألف حديث وخمسمائة ألف (1.500.000) فعملت من ذلك في تواليفي خمسمائة ألف حديث (تذكرة الحفاظ ج2/ص544).

وقال الإمام البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح(100.000) وأعرف مائتي ألف حديث غير صحيح (200.000) (السنن الأبين ج1/ص167).

وقال الإمام مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة (300.000) (غرر الفوائد ج1/ص329).

وقال أبو داود السجستاني (صاحب السنن): كتبت عن النبي (ص) خمسمائة ألف حديث (500.000) (تذكرة الحفاظ ج2/ص593)

هل تحب أن أزيد يا أستاذ إبراهيم؟! والله إن بين يدي الكثير مما صح عن حفظ العلماء لمئات الألوف بل لملايين الأحاديث، فإذا كان المنسوب لأبي هريرة منها (5374) حديثا، فهل هذا كثير لدرجة أنه يبلغ 73% من الأحاديث يا أستاذ إبراهيم!.


4 - المقصود بهذه الأعداد الكبيرة من الأحاديث

أعرف يا أستاذ إبراهيم أنك والقراء الكرام مندهشون الآن لذكر هذه الأعداد، كما أنك تقول: أنت إلى الآن لم تبرر لي لماذا انفرد أبو هريرة بهذا العدد الذي لم يقاربه فيه غيره ممن سبقوه إلى الإسلام وطالت صحبتهم للنبي ^، وأقول لك: انتظر فعندي الكثير الذي أرجو أن يعجبك ويعجب القراء الكرام إن شاء الله.

أما بالنسبة لهذا العدد الكبير الذي يبلغ مئات الألوف بل الملايين، فقد يقول قائل: إن كل كتب الحديث التي في أيدي الناس لا يبلغ مجموع ما فيها هذه الأعداد. وهذا صحيح، ولذا لزم التوضيح التالي:

إن المقصود بهذه الأعداد ليس أعداد متون (نصوص) الأحاديث التي نطق بها النبي ^ أو نُسبت إليه، فهي لا تبلغ عُشر هذا العدد، ولكن المقصود يا أستاذ إبراهيم ويا حضرات القراء الكرام: أعداد الأسانيد التي رويت بها تلك المتون، وليسمح لي الأستاذ إبراهيم بقليل من الاستطراد للتوضيح لبعض القراء: الحديث عبارة عن سند ومتن، والسند هو سلسلة الرواة، والمتن هو لفظ الحديث، فمثلا إذا قال البخاري: ‏حَدَّثَنَا ‏‏عَلِيُّ بن عَبْدِ اللهِ‏، ‏حَدَّثَنَا‏ ‏سُفْيَانُ ‏، ‏عَنْ ‏‏يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ، ‏عَنْ ‏عَائِشَةَ ‏رَضِيَ اللهُ عَنْهَا،‏ ‏قالت: ‏... قام رسول الله ‏(ص) ‏‏على المنبر فقال: « ‏مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ! مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ »

فكل ما تحته خط هو السند، وهم مجموعة الرواة الذين سمع بعضهم الحديث من بعض، وما بعده هو المتن، وهو يبدأ من قول عائشة: قام رسول الله ^.

والمتن الواحد قد يروى بسلاسل متعددة، فيعد العلماء كل سلسلة منها حديثا، فالحديث الواحد قد يَرِدُ بعشراتِ وأحياناً بمئاتِ الطرق، وعندئذ يعده العلماء خمسين حديثا إذا روي من خمسين وجها، ومائة حديث إذا رُوي من مائة وجه.

كما يدخل في هذا العدد ما جاء عن الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم مِنْ أقوالٍ أو أفعال أو فتاوى، أو حتى أقوال في جرح وتعديل بعض الرواة.

ثم هذه الأعداد يا سادة منها ما هو صحيح، ومنها ما ليس بصحيح، وذلك على حسب قواعد التصحيح والتضعيف.

ومن هنا فحين يجمع بقي بن مخلد القرطبي لأبي هريرة (5374) حديثا وحين يجمع له الإمام أحمد (3848) حديثا، فليس المقصود أن أبا هريرة روى هذا العدد كله من النصوص عن النبي ^، بل هذا العدد منه مكرر كثير، ومنه ما هو صحيح النسبة لأبي هريرة، ومنه ما ليس بصحيح عنه، بل ألصقه به الكذابون، ولكن العلماء يذكرونه ليعرِّفوا الناس به، حتى لا ينخدعوا ويقبلوه بزعم أنه عن أبي هريرة ، إذ لا شك أن فئة من الكذابين استغلت شهرة أبي هريرة وغيره من مشاهير الرواة من الصحابة لتلصق به وبهم أحاديث لم يرووها ولم يحدثوا بها.

وليت أحد الباحثين يتصدى لكل المرويات المنسوبة لأبي هريرة، ليحدد عددها من غير تكرار، وعدد ما يصح أن أباهريرة رواه، وعندئذ سيتبين أن مجمل المتون (النصوص) التي صح أن أبا هريرة رواها عن النبي ^ ستكون حوالي ألفي حديث غير مكرر على أكثر تقدير، فهل هذا كثير على أبي هريرة في أربع سنوات يا أستاذ إبراهيم؟!

5- " ما حفظه أبو هريرة في أربع سنوات أقل مما يحفظه بعض الأطفال في أقل من ذلك، فما العجب!"

فإذا عرفت يا أستاذ إبراهيم أن أحاديث النبي (ص) كانت في غالبها قصيرة تتكون من كلمات معدودة أو سطور قليلة فلك أن تقدر أن هذا العدد الذي يصح أن أبا هريرة رواه لا يقارب نصف المصحف الذي يحفظه الأطفال في سنتين وأقل، فما وجه الغرابة إذاً أن يحفظ أبو هريرة هذا العدد في أربع سنوات؟!.


6- أسباب تقدم أبي هريرة على غيره في الحفظ والرواية

أعرف أنك لا زلت تقول يا أستاذ إبراهيم: حتى مع هذا فإن أبا هريرة كان أكثر رواية عن النبي (ص) من كثيرين ممن سبقوه إلى الإسلام وممن كانوا أقرب إلى النبي ^، وهذا هو سر تشكيك البعض. وها أنذا أشرح لسيادتك وللقراء الكرام ولهذا البعض المجهول أسباب ذلك:

أ - حرص أبي هريرة على حفظ الأحاديث:

إن أبا هريرة رُزق حبَّ هذا الأمر والاعتناءَ به والحرصَ عليه أكثر من غيره من الصحابة إلى درجة لفتت نظر النبي ^، وهاك دليلا صحيحاً:

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قُلْتُ: يَا رَسولَ الله مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ».

هل رأيت يا أستاذ إبراهيم؟ النبي ^ يشهد لأبي هريرة بالحرص على الحديث؟. ولا ريب أن الحريص على الشيء البالغَ الاعتناءِ به يسبقُ فيه غيره وإن طالت مدته في ذلك. ولَّا إيه؟

ولشدة حرصه على حفظ الحديث فإنه لم يكن ينظر إلى شيء من متاع الدنيا، وإذا ازدحم أصحابه على النبي (ص) يسألونه عن متاع الدنيا التفت هو إلى العلم النافع يبتغي تحصيله، فقد أخرج أبونعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: «أَلَا تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟» فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله. قال: فنزعتُ نمرة على ظهري فبسطتُها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبتُ حديثه قال: «اجْمَعْهَا فَصُرْهَا إِلَيْكَ» فأصبحتُ لا أسقط حرفاً مما حدثني.

ب - استثماره الدعاء المستجاب في حفظ الأحاديث:

بلغ من شدة حبه لحفظ الحديث والحرص عليه أنه كان يستثمر الدعوة المستجابة في تحقيق هذا الأمر، وهاك الدليل:

أخرج النسائي والطبراني بسند حسن وصححه الحاكم عن قيس بن مخرمة أن رجلا جاء زيد بن ثابت ، فسأله عن شيء، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينا أنا وأبو هريرة وفلان ذات يوم في المسجد ندعو ونذكر ربنا عز وجل إذ خرج علينا رسول الله ^ حتى جلس إلينا فسكتنا، فقال: «عُودُوا لِلَّذٍي كُنْتُمْ فِيهِ» قال زيد: فدعوتُ أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل النبي ^ يؤمِّن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي وأسألك علما لا يُنْسَى، فقال النبي ^:« آمِينَ» فقلنا: يا رسول الله نحن نسأل الله علما لا يُنْسَى. فقال رسول الله ^: «سَبَقَكُمَا بِهَا الْغُلَامُ الدَّوْسِيّ».

أفلا يُتَصَوَّر بعد هذا الحرص من أبي هريرة وبعد هذا التأمين من النبي ^ على دعائه أن يسبق أبو هريرة غيره في الحفظ حتى لو كانوا أقدمَ وأطولَ منه صحبة؟!.

ج - تفرغه لمهمة حفظ الحديث:

تفرغ الصحأبي الجليل لمجالسة النبي ^وملازمته، والذي تفرغ لهذا الأمر لابد أنه حمل علما أكثر وحديثا أوفر ممن شغلته تجارته أو زراعته أو حرفته أو غير ذلك، وقد ذكر أبو هريرة -ردّاً على من عابوه بكثرة الرواية- أن تفرغه وملازمته للنبي ^ كانت سببا مباشراً لكثرة حفظه فقال فيما رواه الشيخان: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ الله (ص) وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ الله (ص) بِمِثْلِ حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ؟

وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ الله ^ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ.

وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله ^ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: «إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ» فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ الله ^ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ الله ^ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ.

الأستاذ إبراهيم يقبل هذا الدفاع ولكن...:

اعتبر الأستاذ إبراهيم أن هذا الدفاع عن أبي هريرة حارٌّ ووجيهٌ، لكن عزَّ عليك يا أستاذ إبراهيم (ولا أدري لماذا) أن تقبله بوضوح، فقلت: (وهذا صحيح، لكن النبي ^ لم يكن يخص أحداً بعلمه وأحكامه وأحاديثه أبدا...) إلى آخر ما ذكرت، وسآتي على مسالة التخصيص وانفراد أبي هريرة ببعض الأحاديث فيما يلي إن شاء الله، فانتظرني ولا تعجل علي، ولا تجعل للسأم والملل على قلبك من سبيل، فنحن في مناقشة لا في منافسة، والله يتولى هدايتنا جميعا سواء السبيل.

المهم أن أبا هريرة كان متفرغا لهذا الغرض، والمتفرغ للشيء يُحصِّل منه في الوقت القليل أكثر مما يحصل غيره في الوقت الكثير، ولَّا إيه؟

د - دعوة النبي (ص) لأبي هريرة بالحفظ:

من أسباب إكثار أبي هريرة عن النبي ^ مع أنه لم يلازمه إلا أربع سنوات فقط: ما اختُص به أبو هريرة من دعوة النبي ^ له بأن لا ينسى ما يحدثه به.

فقد أخرج البخاريعنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ:«ابْسُطْ رِدَاءَكَ» فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ:«ضُمَّهُ» فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.

وفي رواية عند الترمذي-وقال: حسن صحيح- قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ فَلَا أَحْفَظُهَا. قَالَ:«ابْسُطْ رِدَاءَكَ» فَبَسَطْتُهُ، فَحَدَّثَ حَدِيثًا كَثِيرًا، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا حَدَّثَنِي بِهِ.

وتلك من معجزات رسول الله ^، كما أنها من مناقب أبي هريرة . فهذا الحديث يدل على أن أبا هريرة لم ينس شيئا سمعه بعد ذلك، ولم يثبت ذلك لأحدٍ غيره من الصحابة .

هـ - انشغال أبي هريرة بتدريس الحديث للطلاب:

كان من أسباب ذلك أيضا: أن انشغاله بالحديث وشدة اعتنائه به جعل همته متوجهة إلى تدريسه للطلاب وإلقائه على الناس، خصوصا وأنه قضى معظم حياته في المدينة المنورة حيث الخلافة الراشدة، وحيث يفد الناس من كل مكان في مواسم الحج وغيرها، وحيث يفد طلاب العلم، وقد أخرج الخطيب عن محمد بن سيرين «أن أبا هريرة كان يقوم كل خميس فيحدثهم».

وصحح الحاكم والذهبي عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: «رأيت أبا هريرة يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر قائما، ويقول: حدثنا أبو القاسم ^ الصادق المصدوق، فلا يزال يحدث حتى يسمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام فيجلس».

وسيأتي بعد قليل أنه كان يأتي عند حجرة عائشة أم المؤمنين ويحدث ليُسمعها ذلك ويقول لها: اسمعي يا ربة الحجرة.

وربما سمع عدد كبير منه الحديث الواحد، فرواه كل منهم على وجه، فتعددت الروايات للحديث الواحد، فيعده العلماء بعدد أولئك التلاميذ، كما سبق أن بينت من قبل.

و - تأخر وفاة أبي هريرة واحتياج الأمة إلى ما حفظ من الأحاديث:

ومن أسباب إكثاره : أنه تأخرت وفاته إلى حد ما، فقد عاش إلى سنة 57 أو 58 أو 59 هجرية، بعد وفاة العدد الكبير ممن طالت صحبتهم لرسول الله ^ واحتاج الناس إلى ما عنده وما عند غيره من الصحابة الذين تأخرت وفاتُهم من العلم والحديث، فكان لا بد أن يروي للناس ما سمعه من رسول الله ^ وما سمعه من كبار الصحابة عن رسول الله ^، وإنّما قلّت الروايةُ عن الأكابر من الصحابة؛ لأنّهم هلكوا قبلَ أنْ يُحتاج إليهم.

وإذا كان عمر قد استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين، والصحابة - بل أكابرهم- متوافرون كثيرون، فضلا عن انشغاله بأمور الدولة والإدارة، ومع ذلك روي عنه أكثر من خمسمائة حديث، فهل نستكثر على من تأخرت وفاته إلى ما قبل سنة 60 بقليل، حيث كان معظم الصحابة قد قضوا، هل نستكثر عليه أن تبلغ المرويات عنه هذا العدد؟.

ولما كان قد أوتي قوة الحفظ فقد استشعر عظم المهمة التي يقوم بها، وكان خوفُه التامُّ من السؤال بين يدي الله أحدَ أهم الأسباب التي جعلته يحرص على إبلاغ كل ما سمع من العلم من رسول الله ^، حتى لا يُؤاخَذ بالكتم، وها هو يخبرنا بذلك في الحديث الذي أخرجه البخاريعنه قَالَ: «إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ الله مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا» ثُمَّ يَتْلُو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى إِلَى قَوْلِهِ الرَّحِيمُ (البقرة: 159-160)

«إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ الله ^ بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ».

ز - أبو هريرة يسمع من الصحابة ما فاته سماعه من النبي (ص):

وأختم لك بسببٍ قد يبدو غريباً: هل تعلم يا أستاذُ إبراهيمُ أن الأحاديثَ المنسوبةَ لأبي هريرة ليست كلها مما أخذه عن النبي ^ مباشرة، بل بعضها مما ذكر أنه سمعه من بعض الصحابة عن النبي (ص)، وقد كان شديد الحرص على التحصيل لحديث رسول الله ^، ومن ثَمَّ سعى إلى مجالسة الصحابة الآخرين وسماع ما لم يسمعه من النبي ^، وبلغ من حرصه على ذلك أنه لم يكن يتردد في السماع ممن هم أصغر منه سنا أو أحدث منه صحبة أو أقل علما ورواية؛ إذ كان همه الأكبر تحصيل العلم والحديث، حتى قال الإمام أبو بكر ابن خزيمة: «فمن حرص أبي هريرة على العلم روايتُه عن من كان أقلَّ رواية عن النبي ^ منه؛ حرصا على العلم، فقد روى عن سهل بن سعد الساعدي، حدثنا إبراهيم بن المستمر البصري، ثنا علي بن مرحوم العطار، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن أبي بكر بن يحيى، عن أبيه، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله (ص): «لا يُشْهِرَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسَّيْفِ، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعَ فِي حُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النَّارِ».

قال أبو هريرة: سمعته من سهل بن سعد الساعدي، سمعه من رسول الله ^. قال أبو بكر: «فحرصه على العلم يبعثه على سماع خبر لم يسمعه من النبي ^ منه ».

وهاك أسماء الصحابة الذين روى عنهم أبو هريرة في الكتب الستة الأصول فقط: روى عن أبي بن كعب (عند أبي داود والترمذي والنسائي) وأسامة بن زيد بن حارثة (عند النسائي) وبصرة بن أبي بصرة الغفاري (عند أبي داود والترمذي والنسائي) وعمر بن الخطاب (عند الستة) والفضل بن العباس (عند مسلم والنسائي) وكعب الأحبار (عند أبي داود والترمذي والنسائي) وأبي بكر الصديق (عند الستة) وابنته عائشة زوج النبي (ص) (عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه) .

وقد تلقى عن هؤلاء الصحابة في حياة النبي (ص) وبعد وفاته، فكثرت محفوظاته ، لأنه اهتم بجمع علم غيره إلى علمه، ومثلما سمع هو من بعض الصحابة فقد سمع منه عدد من الصحابة بلغوا ثمانية وعشرين صحابيا.

الصحابة كلهم عدول صادقون:

قال الحاكم: وأصحاب رسول الله ^ كانوا يطلبون ما يفوتُهم سماعُه من رسول الله (ص)، فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظُ منهم، وكانوا يشدِّدون علي مَنْ يسمعون منه.

أقول: نعم كان الصحابة يسمع بعضهم من بعض بلا حرج؛ ليقينهم بأنه ليس فيهم كاذب على الإطلاق وهم العدول الصادقون الذين لا يكذِّب ولا يتهم بعضهم بعضا.

فعند الرامهرمزي والخطيب وصححه الحاكم والذهبي عن البراء بن عازب قال: «ليس كلُّنا كان يسمع حديثَ رسول الله (ص). كانت لنا ضَيْعَةٌ (يعني عقاراً وأراضي) وأشغالٌ، ولكن الناسَ لم يكونوا يكذبون يومئذٍ، فيحدِّث الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».

وعند أحمد والحاكم«مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ الله ^، كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ، كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الْإِبِلِ».

وأخرج ابن سعد والحاكم والخطيبعن حُمَيْد الطَّويل، أنَّ أنسَ بن مالكٍ حدَّث بحديث عن رَسُولِ الله (ص)، فقًال رجلٌ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله (ص)؟ فَغَضِبَ غَضَباًً شَدِيداً، وقال: «وَالله مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ سَمِعْنِاهُ مِنْ رَسُولِ الله ^، وَلَكِنْ كَانَ يُحَدِّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَلَا يَتَّهِمُ بَعْضُنَا بَعْضًا».

وفي رواية عند الطبراني: كُنَّا مَعَ أَنَسِ بن مَالِكٍ، فَقَالَ: «وَالله مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ الله ^ سَمِعْنَاهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ بَعْضُنَا بَعْضًا».

وفي رواية عند البزار أن أنساً قال حين سُئِل: أنت سمعتَ هذا من رَسُولِ الله (ص)؟: «نعم، أو حدثني مَن لا يَكْذِبُنِي، والله ما كنا نكذب، ولا ندرى ما الكذب».

وكان النبي (ص) يحرّضهم علي ذلك، ويحثهم علي أن يبلغ بعضهم بعضا، فيقول: «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ».

التناوب في حضور مجلس النبي (ص):

وها هنا أقول للأستاذ إبراهيم وللقراء الكرام: إن ما ذكرتَه من أن أحداً من كبار الصحابة لم يترك صلاةً وراء النبي (ص) ومعه في حلقات المسجد وجلسات الشورى خلافاً لأبي هريرة الذي (بزعمك) لم يكن يلقاه إلا في عشاء أو طريق! هذا الكلام منك خطأ واضح ظاهر، بل قبلب للحقائق، فلم يكن كبارُ الصحابة ولا صغارُهم منقطعين تماماً لأداء سائر الصلوات خلف النبي (ص) أو حضور سائر مجالسه، خلافاً لأبي هريرة؛ فقد تفرغ لهذه المهمة، أما سائرُهم فكانوا في أعمالهم، وكانوا يتناوبون فيما بينهم في الحضور في حلقات العلم والدرس النبوي، بحيث يتفرغ بعضهم لحضور المجلس والصلاة وسماع الحديث والعلم، بينما يشتغل الآخر بمصالحه وأعماله، فإذا أمسَوْا حدَّث الشاهدُ الغائب بكل ما رأى وسمع من رسول الله ^ في ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني يتبادلان المواقع، وهاك نموذجاً لذلك لأحد كبار الصحابة، بل لأحد كبار فقهاء الصحابة، وهو عمر بن الخطاب الذي كان يتبادل الحضور مع جاره الأنصاري:

فقد أخرج الشيخان عن عمر بن الخطاب قال: « كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بني أُمَيَّةَ بن زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ الله (ص)، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ...» الحديث.

وفي رواية: «وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ». وفي رواية(: «وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِذَا غَابَ عَنْ رَسُولِ الله (ص)وَشَهِدْتُهُ أَتَيْتُهُ بِمَا يَكُونُ، وَإِذَا غِبْتُ عَنْ رَسُولِ الله ^ وَشَهِدَ أَتَانِي بِمَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ الله (ص)».

أما أبو هريرة فقد تفرغ لذلك، كما أخبر عن نفسه، وكما ذكر طلحةُ بن عبيد الله وعبدُ الله بن عمر وغيرهم ممن ستأتي شهادتهم لأبي هريرة بعد قليل.

ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يلتزمون بذكر إسنادهم عن الصحابة الذين أخذوا عنهم، عن رسول الله ^، بل كانوا أحيانا ينسبون الحديث إلى رسول الله ^ مباشرة، فإذا سئلوا أو روجعوا ذكروا عمن سمعوا الحديث عن النبي (ص)، وذلك لثقة بعضهم التامة في بعض، ولتمام صدقهم، وظهور عدالتهم.

وقد فعل أبو هريرة ذلك، فقد سمع الحديث السابق من سهل بن سعد، ورواه عن النبي (ص) فمرة يذكر أنه سمعه من سهل ومرة لا يذكر، كما في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ (ص) قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ». بين أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص:

قبل أن أغادر هذه النقطة لا بد أن أشير إلى حديث صحيح أساء بعض المتحاملين على أبي هريرة فهمَه، فعدوه من أسباب الإدانة (الظالمة) لأبي هريرة ، بدلاً من فهم حقيقته ودلالته الواضحة على نقاء ساحة أبي هريرة وتمام حفظه، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هُرَيْرَةَ قال: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ^ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ».

فقالوا: أبو هريرة يجزم في هذا الحديث بأنه ليس أحدٌ في الصحابة أكثرَ حديثاً عن النبي ^ منه إلا عبد الله بن عمرو، في حين أن المروي عن أبي هريرة قريب من ثمانية أضعاف المروي عن عبد الله بن عمروالذي عدّ له بقي بن مخلد سبعمائة حديث فقط.

وبناء على ذلك فقد استنتجوا (باطلاً وزوراً)أن هذا العدد الكبير هو من تأليف أبي هريرة ، وهذا الاستنتاج الخاطئ ناشئ عن عدم الإلمام بأصول البلاغة في اللغة العربية وأساليبها وتراكيبها، ففيها ما يعرف بالاستثناء المنقطع، الذي لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، ويكون الاستثناء بمعنى الاستدراك، وعلى هذا حمل كثير من العلماء حديث أبي هريرة، فقالوا: معناه: ليس في الصحابة أحد على الإطلاق أكثر حديثا عن رسول الله ^ منى، لكن الذي كان من عبد الله -وهو الكتابة- لم يكن مني. ولا يلزم من ذلك أن عبد الله كان أكثر حديثا من أبي هريرة.

وعلى افتراض أن الاستثناءَ متصلٌ فمعناه أن عبدَ الله بن عمرو كان أكثرَ تحمُّلاً وسماعاً من أبي هريرة، ولكن أبا هريرة كان أكثرَ روايةً منه للأسباب الآتية:

1 - أن عبد الله بن عمرو كان مشتغلاً بالعبادة أكثرَ من اشتغاله بالتعليم، وهذا أمرٌ معلومٌ من سيرة هذا الصحأبي الجليل، ولهذا قلَّت الرواية عنه.

2 - أن عبد الله بن عمرو كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف، ولم تكن الرحلة إلى البلدين ممن يطلب العلم في ذلك العصر كالرحلة إلى المدينة المنورة، حيث كان أبو هريرة متصدِّيا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، كما سبق بيانه، ولهذا كَثُر الطلاب الآخذون عنه جدا، ويظهر هذا من كثرة من حمل العلم عنه ، فقد قال البخاري: «روى عنه نحوٌ من ثمانمائة رجلٍ أو أكثر من أهل العلم من أصحاب النبي ^ والتابعين» (تهذيب الكمال 34/377). وكثرةُ الطلاب بلا شكٍّ سببٌ من أسباب كثرة الروايات. ولم يقع هذا لغير أبي هريرة .

3 - ما اختُص به أبو هريرة من دعوة النبي (ص) له وتأمين النبي ^ على دعائه بأن لا ينسى ما يسمعه من رسول الله ^، كما سبق بيانُه. ولم يثبت ذلك لأحدٍ غيره من الصحابة.

4 - أن عبد الله بن عمرو كان قد ظفر في الشام بحِمْل جملٍ من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها، ويحدِّث منها، فتجنَّب كثيرٌ من التابعين الأخذَ عنه لهذا السبب، كما تجنَّب كثيرٌ من الرواة الأخذَ عن تلاميذه؛ خشيةَ أن يكونوا قد خلطوا بين ما يرويه عبدُ الله عن النبي (ص) وبين ما يرويه عن أهل الكتاب.

ولو كان أبو هريرة زاد على النبي ^ شيئاً لم يقلْه النبي (ص) لما سكت عنه عبد الله بن عمرو ولا غيره من الصحابة رضوان الله عليهم جميعا.

أبو هريرة لا يتردد في الرجوع عما ثبت له خطأ راويه:

كان أبو هريرة إذا تبين له أن الصحأبي الذي سمع منه قد أخطأ، أو حمل الحديث على غير المراد منه، أو تبين أنه منسوخ؛ فإنه يرجع في الحال عن تلك الرواية، ولا يكابر أو يعاند:

فأخرج البخاري ومسلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث قال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُصُّ يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ»، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن الْحَارِثِ -لِأَبِيهِ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ (ص) يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ» .

قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا ذَهَبْتَ إِلَى أبي هُرَيْرَةَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأبو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ. ثُمَّ رَدَّ أبو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بن الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنْ الْفَضْلِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ النَّبِيِّ ^. قَالَ: فَرَجَعَ أبو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ.

وهكذا خُلُق العظماء من الناس لا يستحيون من الاعتراف بالخطأ ولا يستنكفون أن يرجعوا إلى الحق متى ظهر لهم، ولا يمتنعون من تغيير آرائهم وتصحيح معلوماتهم متى ظهر لهم الصواب وبان لهم الدليل، أو ظهر الناسخ لما يعلمون، فأبو هريرة سمع هذا الحديث من الفضل بن عباس، ولم يعلم بأن ذلك كان قد نُسخ، فأفتى بمقتضاه، فلما علم من عائشة وأم سلمة بآخر ما كان عليه أمر رسول الله (ص) لم يتردد في قبول ذلك.

قال الإمام أبو بكر ابن خزيمة( تعليقا على هذا الحديث: «أبو هريرة أحال الخبر على مليءٍ صادقٍ بارٍّ في خبره، إلا أن الخبرَ منسوخٌ، لا أنه وَهْمٌ، لا غلط، وذلك أن الله تبارك وتعالى عند ابتداء فرض الصوم على أمة محمد ^ كان حظر عليهم الأكل والشرب في ليل الصوم بعد النوم، كذلك الجماع، فيشبه أن يكون خبرُ الفضل بن عباس «من أصبح وهو جنب فلا يصم» في ذلك الوقت قبل أن يبيح الله الجماع إلى طلوع الفجر، فلما أباح الله تعالى الجماع إلى طلوع الفجر كان للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم، إذ الله عز وجل لما أباح الجماع إلى طلوع الفجر كان العلم محيطاً بأن المجامع قبل طلوع الفجر يطرقه، فاعلاً ما قد أباحه الله له في نص تنزيله، ولا سبيل لمن هذا فعلُه إلى الاغتسال إلا بعد طلوع الفجر، ولو كان إذا أدركه الصبح قبل أن يغتسل لم يجز له الصوم كان الجماع قبل طلوع الفجر بأقل وقت يمكن الاغتسال فيه محظوراً غير مباح، وفي إباحة الله عز وجل الجماع في جماع الليل بعد ما كان محظوراً بعد النوم بَانَ وثَبَتَ أن الجنابةَ الباقيةَ بعد طلوع الفجر بجماعٍ في الليل مباحٌ لا يمنع الصوم.

فخبر عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما في صوم النبي ^ بعد ما كان يدركه الصبحُ جنباً ناسخٌ لخبر الفضل بن عباس؛ لأن هذا الفعلَ من النبي ^ يشبه أن يكون بعد نزول إباحة الجماع إلى طلوع الفجر» . ثم ذكر ابن خزيمة خبرا عن زيد بن ثابت كاتب الوحي للنبي ^ يؤيدصحة ما تأوله من خبرَ الفضل بن عباس .

ما رأي الأستاذ إبراهيم والسادة القراء بعد هذا الاستعراض لأسباب إكثار أبي هريرة؟ هل بقي لدى أي منصف شك في أن إكثار أبي هريرة كان أمراً طبيعياً يُحمَد للرجل ويُشكَر عليه، بدلا من أن يكون سبب تحامل عليه وعيب له؟!.


7 - هل كان أبو هريرة من أصفياء النبي (ص) وأصحابه وأحبابه؟

أعود إلى عبارة غريبة ذكرها الأستاذ إبراهيم في صدر كلامه، قال: (ومع هذا فلم يكن أبو هريرة في يوم من الأيام أو في كتاب من الكتب من أصفياء النبي ^أو أحبابه أو من أقرب الناس إليه، ولا وضعه أحد في أي طبقة من طبقات الصحابة)

يا خبر أبيض! كل هذا الخلط في سطرين اثنين يا رجل!

أ - الإجماع قائم على صحبة أبي هريرة للنبي (ص):

سأبدأ من آخر العبارة: إذا كان العلماء لم يعدوا أبا هريرة في أي طبقة من طبقات الصحابة، ففيم عدوه إذاً؟ هل عدوه من التابعين مثلاً أم ماذا؟.

هل تعرف معنى كلمة صحأبي يا أستاذ إبراهيم؟ الصحأبي يا أخي عند جماهير العلماء هو: كل مسلم لقي النبي ^، ولو لحظة، وعقل منه شيئا، فهو صحابي، سواء كان ذلك قليلا أو كثيرا .

بل إنني أطلب منك يا أستاذ إبراهيم أن تضع يدي ويد القراء على كتاب واحد من الكتب المصنفة في بيان الصحابة لم يذكر أبا هريرة ضمن الصحابة، وأنا على يقين بأنك لن تجد كتابا واحدا لم يذكر أبا هريرة ضمن الصحابة.

وما لي أستطرد معك في أمر أوضح من شمس الضحى؟! ألست تقول في أول كلامك إن أبا هريرة التصق بالنبي ^؟ فكيف تنفي أن يكون في أي طبقة من طبقات الصحابة إذاً؟!

ب – معنى طبقات الصحابة ودخول أبي هريرة في هذه الطبقات:

سأفترض - جدلا - أن سيادتك كتبت عبارة (طبقات الصحابة) وأنت لا تعرف معناها، فأقول لك وللقراء الكرام: مصطلح (الطبقة) من المصطلحات التي جرت بها أقلام عدد كبير من أهل العلم ممن كتبوا في الرجال، دون اتفاق منهم على معنى محدد للمقصود بالطبقة، فعبر بها البعض عن الجيل، بمعنى أن كل من عاش في فترةٍ ما فَهُمْ من طبقة واحدة، كطبقة الصحابة، وطبقة التابعين، وطبقة أتباع التابعين، وهلم جرا. وعبَّر بها البعض عن وحدة زمنية ثابتة بحسب الوفاة، فكل من توفي في تلك الوحدة يعدون طبقة واحدة. وعبر بها البعض عن الجماعة المشتركين في وصف خاص مثل طبقة كبار التابعين الذين لقوا كبار الصحابة، وطبقة أواسط التابعين الذين لم يدركوا الكبار منهم وهكذا.

وفيما يتصل بالصحابة فأكثر العلماء يعدونهم طبقة واحدة، ولذلك لا تجد في أكثر الكتب المصنفة في حياة الصحابة تقسيما بأي شكل من هذه الأشكال للصحابة.

وقد جعلهم الحاكم اثنتي عشرة مرتبةً أو طبقة على النحو التالي:

ا-أولهم: قوم أسلموا بمكة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم .

2- الطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة، وذلك أن عمر بن الخطاب لما أسلم وأظهر إسلامه حمل رسول الله (ص) إلى دار الندوة، فبايعه جماعة من أهل مكة.

3- الثالثة: مهاجرة الحبشة.

4- الرابعة: الذين بايعوا عند العقبة البيعة الأولى.

5- الخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار.

6- السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله (ص) وهو بقباء، قبل أن يدخلوا المدينة، ويُبني المسجد.

7- السابعة: أهل بدر.

8 - الثامنة: المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.

9- التاسعة: أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

10- العاشرة: المهاجرة بين الحديبية والفتح.

11- الذين أسلموا يوم الفتح.

12- صبيان وأطفال رأوا رسول الله (ص) يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها (انظر: معرفة علوم الحديث ص 22: 24).

وعلى هذا التقسيم فأبو هريرة (ص) يدخل في الطبقة العاشرة يا أستاذ ، فهل هو بهذا ليس في أي طبقة من طبقات الصحابة؟!

وقبل أن تعتبر أهل الطبقة العاشرة ضعيفي الوزن أقول لك: قد كان في هذه الطبقة خالد بن الوليد وأبو موسى الأشعري وعدد كبير من الصحابة المعروفين، بل دعني أقل لك: إن أهل هذه الطبقة داخلون في الفئة التي فضلها الله على غيرها من الصحابة في قوله تعالى لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (الحديد: 9). فأهل هذه الطبقة مِمَّن أسلم قبل الفتح (فتح مكة) وهم أعظم درجة ممن أسلم بعد الفتح بنص القرآن الكريم، فما رأي الأستاذ إبراهيم؟!.

ج - أبو هريرة من كبراء أصحاب النبي (ص):

سأعود لأفترض جدلا أن التعبير قد خانك، وأن سيادتك لم تقصد نفي صحبة أبي هريرة ، لكنك قصدت أنه لم يكن من مرتبة الكبار من أصحاب رسول الله ^ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي .

مراتب الصحابة وتفاضلهم: أقول: نعم لم يكن من مرتبة هؤلاء في الفضل والسابقة، والذي استقر عليه إجماع أهل السنة والجماعة أن أفضلهم - بل أفضل الخلق بعد الأنبياء - أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان ، ثم على بن أبي طالب ، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل أحُد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

وممن لهم مزية فضل على غيرهم: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

ثم الصحابة على سوابقهم وأعمالهم. ورُب متأخر في الإسلام سبق متقدما، كعمر ، ورُبَّ غائب عن بدر وبيعة الرضوان سبق أكثر أهلها كعثمان .

لكن مَن الذي قال: إن كل من لم يكن في مرتبة أبي بكر وعمر وغيرهما لا يُعَدُّ في طبقات الصحابة، أو لا يُعد في أحباب النبي (ص) وأصفيائه؟!

بل من قال لك أصلاً إن النبي (ص) كان يضع تلك الحدود والفواصل بين الصحابة، بحيث يعد هذا من أحبابه وأصفيائه، وهذا من أغمار الناس، لا في العير ولا في النفير، كما تقول العرب!

اسمع إلى ما أخرجه البخاري في صحيحهعن ابن عمر قال: كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ^ لاَ نَعْدِلُ بِأبي بَكْرٍ أَحَداً، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ^ لاَ نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ.

وقد جاء في رواية عند أبي يعلى والطبراني وغيره أن النبي (ص) كان يسمع ذلك ولا ينكره.

فمن أين لك إذاً يا أستاذ إبراهيم أن تضع هذا الصحابي الجليل في تلك المكانة القصية البعيدة المهملة، فيما الصحابة لا يفاضلون بعد هؤلاء الثلاثة بين بقية الأصحاب جميعا؟!.

د - أبو هريرة من أصفياء النبي (ص) المخصوصين:

سأعود لأفترض جدلا أنك تقصد أنه لم يكن ممن يخصه النبي (ص) بعناية خاصة أو بمجالس خاصة معه أو بأحاديث خاصة أو يقرِّبه منه دون غيره.

وأقول لك: هذا لا يعني في نظر أي منصف أنه كان يهمله أو أن أبا هريرة لم يكن له عنده ^ قدرٌ ومنزلة. كيف وقد قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: «فصل في بقية الكبراء من أصحاب النبي ^ »، وذكر فيهم أبا هريرة .


دلائل تميز أبي هريرة ومنزلته عند رسول الله (ص):

بل أقول لك: لقد خصه النبي (ص) بكثير من الأحاديث والمجالس والمناقب الخاصة، وهاك عشراً من الدلائل على علو منزلة أبي هريرة عند رسول الله (ص):

1 - النبي (ص) يمدح حرص أبي هريرة على الحديث:

سبق حديث البخاري عن أبي هريرة قال: قُلْتُ: يَا رَسولَ الله مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ»

فهذا حديث واضح الدلالة على أنه كان له مجالس خاصة مع رسول الله (ص)، وكان (ص) يتوقع من أسئلته ما لا يتوقع من غيره.

2 – النبي (ص) يؤمن على دعاء أبي هريرة بحفظ العلم:

سبق حديث زيد بن ثابت أن النبي (ص) أمَّن على دعاء أبي هريرة بأن يرزقه الله علما لا ينسى، فلما أراد زيد بن ثابت وصاحبه أن يدعوا بمثل دعوة أبي هريرة قال النبي ^ : «لقد سبقكما بها الغلام الدوسي».

3 - النبي ^ يدعو لأبي هريرة بحفظ الحديث:

سبق حديث البخاري ومسلم عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ:«ابْسُطْ رِدَاءَكَ» فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ:«ضُمَّهُ» فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.

وقد جاء في رواية عند ابن سعد في الطبقات: قال رسول الله ^ لي: :«ابْسُطْ ثَوْبَكَ». فبسطتُه، ثم حدثني رسول الله ^ النهارَ، ثم ضممتُ ثوبي إلى بطني، فما نسيت شيئا مما حدثني.

فمَن حدثه النبي (ص) طوال النهار هل له مكانة مميزة عنده (ص) أم أنه لا يعد في أحبابه وأصفيائه والمقربين منه، يا أستاذ إبراهيم؟!.

4 - النبي (ص) يخص أبا هريرة من دون أصحابه بتبشير الموحدين بالجنة:

أخرج مسلم في صحيحهعن أبي هريرة قال: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ الله (ص) مَعَنَا أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ الله ^ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا، وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا(يعني خشينا أن يصيبه مكروه من عدو ونحوه) وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ الله ^ حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا (بستاناً) لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا، فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ -وَالرَّبِيعُ:الْجَدْوَلُ(أي القناة الصغيرة التي يجري فيها الماء)-فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ(يعني تضاممت لأتمكن من الدخول من هذا الجدول) فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله ^ فَقَالَ: «أبو هُرَيْرَةَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟» قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا، فَفَزِعْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مِنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي. فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» -وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ- قَالَ: «اذْهَبْ بنعْلَيَّ هَاتَيْنِ (أي خذهما أمارة وعلامة على أنني الذي بعثتك لتقول هذا الحديث) فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ». فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَقُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ الله ^ بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ. فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لِاسْتِي (أي وقعت على مقعدتي) فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ الله (ص) فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً وَرَكِبَنِي عُمَرُ(أي تبعني في الحال) فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ الله (ص) : «مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي، قَالَ: ارْجِعْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله: «يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ الله بِأبي أَنْتَ وَأُمِّي! أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بنعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. قَالَ رَسُولُ الله (ص) : «فَخَلِّهِمْ».

ما رأي الأستاذ إبراهيم في اصطفاء النبي ^ أبا هريرة ليقوم بتبشير من يلقاه من المؤمنين، وإعطائه إياه نعلَه (ص) علامة وأمارة على أنه ^ هو الذي بعثه بذلك؟!

وما رأي الأستاذ إبراهيم فيما ثبت في هذه القصة من أن أبا هريرة كان في نفس المجلس مع أبي بكر وعمر وغيرهما؟ وما رأي الأستاذ إبراهيم في أن أبا هريرة كان أشدَّهم فزعاً على رسول الله ^ وأكثرَهم بحثاً عنه؟!.

5 - أبو هريرة كان أجرأَ الصحابة على سؤال النبي (ص) :

أخرج عبد الله بن أحمد وابن حبان والحاكمعن أبىّ بن كعب (ص) أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ(ص) كَانَ جَرِيئاً عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ الله (ص) عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ.

فمن كان جريئا على أن يسأل رسول اللّه (ص) عن أشياء لا يسأله عنها غيره! هل تكون له مكانة خاصة عند النبي (ص) تؤهله لذلك أوْ لا يا أستاذ إبراهيم؟!.

6 -النبي (ص) يسأل عن أبي هريرة ويصفه بالمؤمن والمسلم:

أخرج الشيخانعن أبي هريرةأَنَّ النَّبِيَّ (ص) لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. فَقَالَ: «سُبْحَانَ الله إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ» .

وفي رواية عندهما: لَقِيَنِي رَسُولُ الله (ص) وَأَنَا جُنُبٌ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ، فَانْسَلَلْتُ فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ؟» فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ الله، يَا أَبَا هِرٍّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ».

فمن كان النبي (ص) يتفقده، ويسأله إذا فارق مجلسه: أين كنت؟ ويصفه بالمسلم وبالمؤمن، ألا يُعد من أصفيائه يا أستاذ إبراهيم ويا حضرات القراء الكرام؟!

7 - النبي (ص) يخص أبا هريرة بحفظ وتوزيع صدقة الفطر:

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: وَكَّلَنِي رَسُولُ الله ^ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: وَالله لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ الله ^. قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ. قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ ^: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ». فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ الله ^: «إِنَّهُ سَيَعُودُ» فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ الله (ص) . قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لَا أَعُودُ. فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ الله ^: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ» فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ الله، وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ الله بِهَا. قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ "الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ الله حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ الله ^: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي الله بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: «مَا هِيَ؟» قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ "الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ الله حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ- فَقَالَ النَّبِيُّ (ص) : «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ. تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ».

فمن وكَّله النبيُّ ^ بحفظ زكاة رمضان وتفقَّد أمره ليلة بعد ليلة، وأجاز له أن يعطي هذا الذي ادعى الحاجة من غير رجوع إلى النبي ^، هل يكون له في قلب رسول الله ^ منزلة ومكانة أوْ لا يا أستاذ إبراهيم ويا حضرات القراء الكرام؟!.

8 - النبي ^ يتنبأ بأن الناس يسألون أبا هريرة:

أخرج مسلمعن أبي هريرة (ص) قال: قَالَ لِي رَسُولُ الله (ص) :«لَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا الله، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟» قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَنِي نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا الله، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَصًى بِكَفِّهِ فَرَمَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا قُومُوا، صَدَقَ خَلِيلِي ^.

فمن تنبأ النبيُّ (ص) أن الناس يأتونه ليسألوه، ألا يكون من أخلاء رسول الله ^ وأصحاب النباهة فيهم يا أستاذ إبراهيم؟!.

9 - أبو هريرةيغزو مع النبي^ويخصه ببعض المهام:

أخرج مسلم عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال: وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ، فَكَانَ أبو هُرَيْرَةَ مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ، فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى رَحْلِي؟ فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنْ الْعَشِيِّ فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: سَبَقْتَنِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَدَعَوْتُهُمْ، فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟

ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ الله (ص) حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ(يعني ميمنة الجيش وميسرته)، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ(أي الذين ليس عليهم دروع) فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ الله (ص) فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي، فَقَالَ: «أبو هُرَيْرَةَ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله. فَقَالَ: «لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ » -زَادَ غَيْرُ شَيْبَانَ: فَقَالَ: «اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ» - قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا وَأَتْبَاعًا (أي جمعت جموعا من قبائل متفرقة)، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ الله (ص) «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ؟» ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى(إشارة إلى اجتماع أولئك النفر) ثُمَّ قَالَ: «حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا (يعني لم يكن أحدٌ منهم يدفع عن نفسه) قَالَ: فَجَاءَ أبو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ (أي إن قريشاً ستفنى لو لم تتفضل عليها بالعفو عنها). ثُمَّ قَالَ^ : «مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»... الحديث

والشاهد يا أستاذ إبراهيم أن النبي (ص) اختص أبا هريرة بالقيام بدعوة الأنصار إليه وأن لا يُدْخِل عليه أحداً غيرهم، فهل يفعل النبي (ص) ذلك إلا مع رجل له عنده منزلة ومكانة؟!.

10-النبي^ يستتبع أبا هريرة إلى بيته ويتلطف في خطابه:

أخرج البخاري عن مجاهد أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: أَالله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أبو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أبو الْقَاسِمِ (ص) فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «الْحَقْ» وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟» قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ. قَالَ: «أَبَا هِرٍّ». قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي». قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ؟ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ الله وَطَاعَةِ رَسُولِهِ (ص) بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ، قَالَ: «يَا أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «خُذْ فَأَعْطِهِمْ» قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ (ص) وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: «أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ». قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ» فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: «اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» حَتَّى قُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا. قَالَ: «فَأَرِنِي» فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ.

فمَنْ كان من النبي (ص) بهذه المكانة حتى يستتبعه إلى بيته ويخاطبه بهذا الأسلوب الرقيق ويرخم اسمه تحبيباً وتقريباً وإيناساً، ويجعله ساقيَ القوم وآخرَهم شرباً معه، ألا يكون من المقربين إلى رسول الله ^ يا أستاذ إبراهيم؟!.

وهل يصح أن نفهم من هذه القصة ونظائرها يا أستاذ إبراهيم ما فهمه مَنْ نقلتَ عنهم من أن أبا هريرة كان مجرد شخص يتسوَّل الطعام ولم يكن يصحب النبي^إلا ليطعمه؟!.

إنني سأكتفي بهذه العشرة من الصحيحين، لا لأنها كل ما في الموضوع، كلا، فلو شئت أن أزيدك فأنا على استعداد وبين يدي الكثير الكثير مما تميز به أبو هريرة ، ومما يدل على رفعة مكانته عند رسول الله (ص)

والآن ما رأيك ورأي القراء الكرام في عبارتك (ومع هذا فلم يكن أبو هريرة () في يوم من الأيام أو في كتاب من الكتب من أصفياء النبي (ص) أو أحبابه أو من أقرب الناس إليه، ولا وضعه أحد في أي طبقة من طبقات الصحابة)؟.


هـ - النبي (ص) يدعو الله أن يحبب أبا هريرة وأمه إلى المؤمنين وأن يحبب المؤمنين إليهما:

أختم بعد هذه الجولة يا أستاذ إبراهيم بهذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة  قال: وَالله مَا خَلَقَ الله مُؤْمِنًا يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. قُلْتُ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إِنَّ أُمِّي كَانَتْ امْرَأَةً مُشْرِكَةً، وَإِنِّي كُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ الله (ص) مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله (ص) وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ الله (ص) :«اللهمَّ اهْدِ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ».

فَخَرَجْتُ أَعْدُو أُبَشِّرُهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ الله (ص) فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٍ (أي مغلق) وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، وَسَمِعْتُ خَشْفَ رِجْلٍ - يَعْنِي وَقْعَهَا- فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَمَا أَنْتَ. ثُمَّ فَتَحَتْ الْبَابَ وَقَدْ لَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَقَالَتْ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (ص).

فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ الله (ص)أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنْ الْحُزْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَبْشِرْ، فَقَدْ اسْتَجَابَ الله دُعَاءَكَ، وَقَدْ هَدَى أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَيْنَا. فَقَالَ رَسُولُ الله ^: «اللهمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا». فَمَا خَلَقَ الله مُؤْمِنًا يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي أَوْ يَرَى أُمِّي إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّنِي.

فقل لي بالله عليك يا أستاذ إبراهيم: الرجل الذي يدعو النبي (ص) له أن يحببه الله وأمه إلى المؤمنين وأن يحبب المؤمنين إليهما، هل تكون له منزلة عند رسول الله ^ أو لا تكون؟!.


8 - هل شكك الصحابة في أبي هريرة وهل نهوه عن الرواية وهل كذبته عائشة وهل ضربه عمر أجمعين؟

خلطبيطة ومعجنة! أعود مرة أخرى إلى بعض ما ورد في مقالة الأستاذ إبراهيم، إذ يقول: (وإذا أضفت إلى هذا الهجوم الثابت الذي واجهه أبو هريرة في حياة الصحابة على كثرة وغزارة روايته للأحاديث، ثم انطلاقه بلا حد ولا حدود في الرواية في عصر معاوية والدولة الأموية؛ تدرك فوراً لماذا كان موضع الشك والتشكيك، وكذلك موطن الدفاع عنه...)

وقبل أن أناقش هذه (الخلطبيطة) وأجتهد معك يا أستاذ إبراهيم ومع القراء في محاولة فكها؛ فإنني أسأل سيادتك: هذه الغزارة التي تعيبها إذا كانت في حياة الصحابة، فما معنى العطف بـ(ثم) الدالة على التراخي في قولك: ثم انطلاقه بلا حد ولا حدود؟ حيرتنا يا رجل: هل انطلق أبو هريرة في الرواية بغزارة قبل الدولة الأموية أم بعد قيام الدولة الأموية؟

وسؤال آخر: ما معنى العطف في قولك: في عصر معاوية والدولة الأموية؟ وهل أدرك أبو هريرة من عصر الدولة الأموية إلا معاوية فقط؟ لقد توفي أبو هريرة قبل وفاة معاوية بسنتين أو ثلاث على الراجح. فلعلك جعلتَ ذلك من باب ذكر العام بعد الخاص كما يقول البلاغيون! والله أعلم.

على كل حال، قبل خوض غمار مناقشة هذا الكلام (غير المستوي) أشير إلى قولك أيضا بعد ذلك: (ثم إن الأمر ليس قاصراً على حفظ الأحاديث التي لم يسمعها غيره ولم يروها سواه، بل كذلك في كثرة وغزارة روايته، بينما ينهاه عنها الصحابة بعد وفاة النبي ^، خصوصا أنه لم يكن من الحفاظ أو القراء، واضطر كما نعرف عمر الفاروق إلى ضربه والتهديد بطرده إذا استمر في رواية الحديث عن النبي^، فضلا عن توقف أبي هريرة فعلا لسنوات عن الرواية، فإذا به يعود وكأنه كتب الأحاديث وحفظها وهو الأمي الذي لا يكتب. ثم هذه التكذيبات الشديدة التي تعرض لها من صحابة رسول الله ^، حتى إن السيدة عائشة قالت له: إنك لتتحدث حديثا ما سمعته من النبي ^).

ودعني لا أقول هذه المرة: يا خبر أبيض! بل أقول: يا خبر ...! كل هذه (المعجنة) في هذه السطور القليلة يا رجل!

أنا مضطر الآن أن أفك هذه (الخلطبيطة) وأن أحدد مفردات هذه (المعجنة) وأقول: الأستاذ إبراهيم في هذه السطور يريد أن يقول الآتي:

1 - أبو هريرة لم يكن من الحفاظ أو القراء.

2 - قام الصحابة بمواجهة أبي هريرة والتشكيك في كثرة رواياته وكانوا ينهونه عن الرواية عن النبي (ص) ويكذبونه تكذيبا شديدا.

3 - قامت السيدة عائشة رضي الله عنها بتكذيبه وقالت له: إنك لتتحدث حديثا ما سمعته من النبي ^. 4 - قام عمر بضربه والتهديد بطرده بسبب كثرة رواياته.

5 - اضطر أبو هريرةتحت وطأة الضغوط من الصحابة والتكذيب من السيدة عائشة والضرب والتهديد بالطرد من عمر إلى التوقف عن الرواية.

6 - لما تولى معاوية الخلافة بدأ أبو هريرةيشم أنفاسه، ومن ثم بدأ بالإفراط في الرواية بلا حدود مستندا إلى قربه من معاوية

7 - كان أبو هريرة على استعداد لأن يبيع دينه لمن يدفع له، وأن يفتري الكذب على رسول الله ^ ممالأةً للسلطان الظالم وتبريراً لجوْر للدولة الجائرة (من وجهة نظر الأستاذ إبراهيم):

أرجو أن أكون قد أحسنتُ الفهمَ عن الأستاذ إبراهيم وأَجَدْتُ في ترجمة أفكاره!


مناقشة هادئة

والآن فلنناقش هذا الكلام بهدوء:

1 - أبو هريرة سيد الحفاظ الأثبات الثقات

أما القول بأن أبا هريرة لم يكن من الحفاظ أو القراء، فهي دعوى عارية عن الدليل، بل قد سُقْتُ لك قبل ذلك الأدلة الدامغة على حفظ أبي هريرة ، وستأتيك بعد قليل اعترافاتُ كبار الصحابة بحفظه وتسليمُهم له واستشهادُهم بحفظه.

لكني لا أخلي هذه المسألة من زيادة خمس من الفوائد تنفع القراء وقد تنفع الأستاذ إبراهيم:

الفائدة الأولى: أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن أبي صالح السمان (أحد ثقات التابعين) قال: «كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله (ص) ».

وعند ابن عساكر )) أنه قال: «ما أزعم أن أبا هريرة كان أفضلَهم، ولكنه كان أحفظَهم».

الفائدة الثانية: أخرج البيهقي وابن عساكر والذهبي عن الشافعي قال: «أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره».

الفائدة الثالثة: في كتابه (الطبقات الكبرى) بدأ الحافظ محمد بن سعد بذكر سيرة النبي (ص9، ثم بدأ في ذكر المفتين من أصحاب رسول الله (ص) في حياته، ثم في ذكر من جمع القرآن على عهد رسول الله (ص)، فبدأ بترجمة زيد بن ثابت، ثم بترجمة أبي هريرة ثم ابن عباس ثم ابن عمر ثم عبد الله بن عمرو بن العاص ثم عائشة .

فمن عدَّه هذا الإمام المتخصص ثاني الذين جمعوا القرآن على عهد النبي ^ ألا يُعَدُّ من الحفاظ والقراء يا أستاذ إبراهيم؟!.

الفائدة الرابعة: في كتابه القيِّم سير أعلام النبلاء قال الإمام الذهبي عند الترجمة لأبي هريرة : «الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله ^ أبو هريرة الدوسي اليماني سيد الحفاظ الأثبات». وقال: «وقد كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث ».

الفائدة الخامسة: في كتابه (طبقات الحفاظ) حين وصل الإمام السيوطي إلى ذكر أبي هريرة قال: «وهو أحفظ الصحابة».

سأكتفي بهذه الشهادات الخمس لخمسة أجيال من العلماء كانوا أعرف بأبي هريرة وأقدر من مواقعهم العلمية على التمييز بين ما إذا كان من الحفاظ أم لم يكن، وسآتيك فيما بعد بشهادات الصحابة أنفسهم على ذلك!.

أبو هريرة ينجح في اختبار الحفظ بدرجة مائة من مائة:

لكنني قبل مغادرة هذه النقطة أحب أن أوقفك وأوقف القراء الكرام على أن أبا هريرة أجري له اختبار في قوة الحفظ، فأثبت أنه حافظ بامتياز:

صحح الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي عن أبي الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم: أن مروان أرسل إلى أبي هريرة ، فجعل يسأله، وأجلسني خلف السرير وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعَا بِه، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا أخَّر.

قال الذهبي: هكذا فليكن الحفظ.

فمن أعاد نفس الأحاديث بعد سنة دون زيادة ولا نقص، وبلا تقديم ولا تأخير فكم درجة تعطيه على حفظه يا أستاذ إبراهيم، ويا حضرة القارئ الكريم؟!.


2 - الصحابة يُجِلُّون أبا هريرة ويقدرون حفظه ويثنون عليه

أما القول بأن الصحابة كانوا ينهونه عن الرواية ويشككون في روايته ويكذبونه تكذيبا شديدا، فدعوى خالية عن الدليل، وهذا كاف في بطلانها، لكنني كعادتي في هذه المناقشة يا أستاذ إبراهيم سآتيك بالأدلة على نقيض ذلك تماما، فقد أقر الصحابة بحفظ أبي هريرة وأذعنوا له بذلك، وسلموا لرواياته، وهاك شهادات لخمسة من الصحابة الكرام جميعا:

(أ) طلحة بن عبيد الله يؤكد صدق وحفظ أبي هريرة:

أخرج الترمذي وحسَّنه وأبو يعلى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي عَنْ مَالِكِ بن أبي عَامِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله (وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الصحابة الأولين السابقين الذين طالت صحبتهم لرسول الله (ص) فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَأَيْتَ هَذَا الْيَمَانِيَّ -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- أَهُوَ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ رَسُولِ الله (ص) مِنْكُمْ؟ نَسْمَعُ مِنْهُ مَا لَا نَسْمَعُ مِنْكُمْ! أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ الله (ص) مَا لَمْ يَقُلْ. قَالَ: أَمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله (ص) مَا لَمْ نَسْمَعْ فَلَا أَشُكُّ إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله (ص) مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَذَاكَ أَنَّهُ كَانَ مِسْكِينًا لَا شَيْءَ لَهُ، ضَيْفًا لِرَسُولِ الله (ص) ، يَدُهُ مَعَ يَدِ رَسُولِ الله ^، وَكُنَّا نَحْنُ أَهْلَ بُيُوتَاتٍ وَغِنًى، وَكُنَّا نَأْتِي رَسُولَ الله (ص) طَرَفَيْ النَّهَارِ، فَلَا أَشُكُّ إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله ^ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَلَا نَجِدُ أَحَدًا فِيهِ خَيْرٌ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ الله (ص) مَا لَمْ يَقُلْ

ما رأيك يا أستاذ إبراهيم في قول هذا الصحأبي الأجل : إنه لا يشك في أن أبا هريرة قد سمع من النبي (ص) ما لم يسمعوا هو وغيره من كبار الصحابة جميعا.

(ب) ابن عمر يشهد لأبي هريرة بأنه كان أحفظهم:

أخرج الترمذي بسند حسن عَنْ ابْنِ عُمَرَ (وهو من السابقين الأولين والفقهاء المعدودين وأحد مراجع الصحابة في الفتوى) أَنَّهُ قَالَ لِأبي هُرَيْرَةَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله (ص) وَأَحْفَظَنَا لِحَدِيثِهِ».

بل أخرج أبو داود والبيهقي بسندصحيح وصححه ابن خزيمة عَنْ أبي صَالِحٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ^: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ»

فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ بن الْحَكَمِ:أَمَا يُجْزِئُ أَحَدَنَا مَمْشَاهُ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَضْطَجِعَ عَلَى يَمِينِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ: فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: هَلْ تُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا يَقُولُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ اجْتَرَأَ وَجَبُنَّا.

قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: فَمَا ذَنْبِي إِنْ كُنْتُ حَفِظْتُ وَنَسَوْا.

بل أخرج الحاكم عن حذيفة قال:قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله^! فقال ابن عمر: «أُعيذك بالله أن تكون في شكٍّ مما يجيءُ به، وَلَكِنَّهُ اجْتَرَأَ وَجَبُنَّا».

أي أن ابن عمر يعيذ الرجل بالله من أن يقع في خطيئة الشك فيما رواه أبو هريرة ، ويقرُّ أن أبا هريرة لقوة حفظه وذاكرته وشدة اهتمامه وحرصه اجترأ وتشجع على التحديث بما تيقن من حفظه، أما نحن فنخشى أن نخطئ في بعض ما حفظناه، ولذلك تحفَّظنا في كثرة الرواية.

ما رأيك إذاً يا أستاذ إبراهيم في هذه الشهادة من عبد الله بن عمر -الذي وصفه النبي (ص) بالرجل الصالح- لأبي هريرة .

هل اتهم ابن عمر أبا هريرةباختلاق الأحاديث وفبركتها؟

لا أغادر هذه الشهادة من ابن عمر قبل أن أوقف الأستاذ إبراهيم والقراء الكرام على قصة حديث أساء خصوم أبي هريرة فهمها وحملوها على غير وجهها، وبدلاً من أن يفهموا منها التأكيد من ابن عمر على حفظ أبي هريرة أوهموا أنفسهم وبعضَ قرائهم أنها علامة على تكذيب ابن عمر لأبي هريرة! ألا ساء ما يزعمون وبطل ما يأفِكون.

أخرج مسلم في صحيحه عن عَمْرِو بن دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ الله (ص) أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ».

فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ». فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إِنَّ لِأبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا».

وفي رواية: عَنْ سَالِمِ بن عَبْدِ الله بن عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله (ص) قَالَ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ»

قَالَ عَبْدُ الله: وَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: «أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ».

وفي رواية: عَنْ سَالِمِ بن عَبْدِ الله بن عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله (ص) قَالَ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ ضَارٍ (يعني كلباً مُعَداً للصيد) أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطانِ»

قَالَ سالمٌ: وَكَانَ أبو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ» وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ.

وأخرج أيضا عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أبي سَلَمَةَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ الله (ص) : «مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ».

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذُكِرَ لِابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أبي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: «يَرْحَمُ الله أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ».

فَهِم أولئك من هذه الروايات أن ابن عمر ينكر على أبي هريرة زيادة هذه الكلمة في الحديث لأنه كان صاحبَ زرعٍ فأراد أن يبرر استخدامَ الكلاب في حراسة زرعه فزاد هذه العبارة على النبي ^! هكذا فهموا وزعموا، وبئس ما فهموا وما زعموا!.

والفهم الصحيح وقراءة بقية الروايات والأحاديث في هذا الموضوع تبين أن ابن عمر إنما أراد الإشارة إلى تثبيت رواية أبي هريرة، وأن سبب حفظه لهذه الزيادة دون ابن عمر أن أبا هريرة كان صاحب زرع أو حرث، ومن كان مشتغلاً بشيء احتاج إلى تعرف أحكامه، ويدل على ذلك أن ابن عمر نفسه كان بعد ذلك يروي هذا الحديث فيزيد هذه العبارة التي زادها أبو هريرة في روايته، مما يؤكد أن أبا هريرة ذكَّره إياها، ويدل على ثقته بحفظ أبي هريرة وصدق روايته، فقد أخرج مسلم أيضا عَنْ أبي الْحَكَمِ عِمْرَانَ ْبِن الحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ (ص) قَالَ: «مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ صَيْدٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ».

ومما يؤكد صدق أبي هريرة أنه ليس وحده الذي روى ذلك، بل وافقه في رواية زيادة كلب الزرع سفيان بن أبي زهير، وعبد الله بن المغفل .

فأخرج البخاري ومسلمعن السَّائِبِ بن يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بن أبي زُهَيْرٍ - رَجُلٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ^ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ^ يَقُولُ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ».

قُلْتُ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ الله (ص) ؟ قَالَ: «إِي وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ».

وأخرج مسلمعن عَبْدِ الله بن الْمُغَفَّلِ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ الله ^ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ؟» ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ.

و في رواية: وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ.

فما رأيك أيها القارئ الكريم بعد أن جمعت لك هذه الروايات، هل يمكن أن يُفهم منها أن أبا هريرة أضاف إلى النبي (ص) شيئاً لم يقله، وهل ترى من خلال ما أوردته لك أن ابن عمر ينكر على أبي هريرة شيئا، أم أنه يؤكد ويثبت حفظ أبي هريرة وصدق روايته؟.

(ج) حسان بن ثابت شاعر النبي (ص) يستشهد بحفظ أبي هريرة:

أخرج الشيخان عن أبي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بن ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللهَ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ (ص) يَقُولُ: «يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ الله ^، اللهمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»؟ قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.

بل كان هذا الاستشهاد من حسان لأبي هريرة في مقام الاحتجاج على أمير المؤمنين الفاروق عمر ، وقبل عمر شهادة أبي هريرة، فقد أخرج الشيخان عَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَسَّانَ وَهُوَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أبي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِالله أَسَمِعْتَ رَسُولَ الله ^ يَقُولُ: «أَجِبْ عَنِّي، اللهمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»؟ قَالَ: نَعَمْ.

وفي رواية عند مسلم: أن حسان استشهد أبا هريرة وهو في حلقة من أصحابه.

فمن كان الصحابةُ يستشهدون بحفظه ويسمعون جميعا شهادتَه ويثقون جميعا بروايته، ويرتضي الفاروق عمر شهادته وثوقاً بحفظه يا أستاذ إبراهيم؛ هل يقال: إن الصحابة كانوا ينهونه عن الرواية أو يشككون في روايته؟!

(د) أبو أيوب الأنصاري يفضل الرواية عن أبي هريرة عن النبي ^ على روايته المباشرة من حفظه:

أخرج الحاكم( أن أبا أيوب الأنصاري (وهو الذي نزل النبي (ص) في بيته بعد الهجرة) روى حديثاً عن أبي هريرة، فقيل له: تحدث عن أبي هريرة وأنت صاحب منزلة عند رسول الله (ص) ؟ فقال: «لَأَنْ أُحَدِّث عن أبي هريرة أحبُّ إليَّ من أن أُحَدِّث عن النبي (ص) !».

وفي رواية عند أبي زرعة الدمشقي أن أبا أيوب قال: «إن أبا هريرة قد سمع».

فإذا كان أبو أيوب مع جلالة قدره يثق بسماع أبي هريرة وحفظه عن رسول الله (ص) أكثر من وثوقه بما يحفظه هو، فهل يصح بعد ذلك أن يقال: إن الصحابة كانوا ينهون أبا هريرة ويشككون في روايته؟!.

(هـ ) كعب الأحبار يقر بحفظ أبي هريرة:

أخرج مسلم في صحيحه عن عَمْرَو بن أبي سُفْيَانَ بن أَسِيدِ بن جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: إِنَّ نَبِيَّ الله ^ قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا، فَأَنَا أُرِيدُ إِنْ شَاءَ الله أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

فَقَالَ كَعْبٌ لِأبي هُرَيْرَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ الله ^؟ قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.

فإذا كان كعب يسمع لأبي هريرة ويستوثق منه ولا يشكك في سماعه من رسول الله (ص) ويُذْعِن لذلك، فهل نسمي هذا تشكيكاً ونهياً لأبي هريرة يا أستاذ إبراهيم؟!

(و) جمهور الصحابة يقرون بحفظ أبي هريرةويرجعون إلى روايته ويروون عنه:

وإذ أكتفي بهذه الخمسة عما سواها وهو كثير فإنني لا أغادر هذه النقطة قبل أن أقص عليك يا أستاذ إبراهيم وعلى القراء الكرام ما أخرجه البخاري في التاريخ الكبير والحاكم وابن عساكر عن محمد بن عُمارة بن عمرو بن حزم، أنه قعد في مجلسٍ فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب النبي (ص) بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي ^ فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضُهم، ثم يحدثهم، فلا يعرفه بعضُهم، ثم يعرفه بعضٌ، حتى فعل ذلك مراراً.

فعرفتُ يومئذٍ أنه أحفظُ الناس عن رسول الله (ص) .

بل كان كثير من أكابر الصحابة يروون عنه، فقد ذكر الإمام الحاكم في المستدرك أن عدد من روى عن أبي هريرة من الصحابة ثمانيةٌ وعشرون رجلا، وقال: «وأنا ذاكرٌ بمشيئة الله عز وجل في هذا روايةَ أكابر الصحابة أجمعين عن أبي هريرة، فقد روى عنه: زيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وعائشة، والمِسْوَر بن مَخْرَمة، وعقبة بن الحارث، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، والسائب بن يزيد، وأبو رافع مولى رسول الله (ص) وأبو أمامة بن سهل، وأبو الطُّفَيْل، وأبو نضرة الغفاري، وأبو رُهْم الغفاري، وشدَّاد بن الهاد، وأبو حَدْرَد عبد الله بن حَدْرَد الأسلمي، وأبو رَزِين العُقَيْلي، وواثلة بن الأسقع، وقَبِيصة بن ذُؤيب، وعمرو بن الحَمِق، والحجاج الأسلمي، وعبد الله بن عُكَيْم، والأغر الجُهني، والشَّرِيد بن سُوَيْد أجمعين، فقد بلغ عدد من روى عن أبي هريرة من الصحابة ثمانية وعشرين رجلا، فأما التابعون فليس فيهم أجلُّ ولا أشهرُ وأشرفُ وأعلمُ من أصحاب أبي هريرة، وذكرهم في هذا الموضع يطول لكثرتهم، والله يعصمنا من مخالفة رسول رب العالمين والصحابة المنتخبين وأئمة الدين من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين أجمعين في أمر الحافظ علينا شرائع الدين أبي هريرة ».

ما رأيك إذاً يا أستاذ إبراهيم فيما أوردته لك من تقدير الصحابة لأبي هريرة وروايتهم عنه جميعا؟! وهل يمكنك أن تأتي بدليلٍ واحدٍ صحيحٍ على تشكيك أحدٍ من الصحابة في أبي هريرة ؟! أما فيما يخص ما أوردتَه عن أم المؤمنين عائشة وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما فسأبين لك وللقراء الكرام الحقيقة فيما يلي.

3- بين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما

أما فيما يتصل بكلام عائشة لأبي هريرة ، فقد قرأ البعض - ووقع في ذلك الأستاذ إبراهيم خطأً- القصة على طريقة (فويل للمصلين) أو طريقة (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة) فاجتزأ بعض الكلمات من سياقها ليوهم القارئ بخلاف الحقيقة.

وعلى سبيل الإيجاز الشديد سأتناول حقيقة الأمر بين أبي هريرة وعائشة في خمس نقاط كما يلي:

(أ)عائشة تقر بحفظ أبي هريرة:

فقد أخرج الفسوي في المعرفة والتاريخ والرامَهُرْمُزِي في المحدث الفاصل عن عائشة أنها قالت لأبي هريرة: ما أكثرَ ما تحدث عن رسول الله (ص)؟ إنك لتحدث بأشياء ما سمعناها من رسول الله (ص)! فقال لها أبو هريرة: كان يشغلكِ عنها (أي عن تلك الأحاديث التي لم يتهيأ لعائشة سماعها) المرآةُ والمُكْحُلةُ، ولم يكن يشغلني عنها شيء.

وأخرج الحاكم وصححه ووافقه الذهبي أن أبا هريرة دخل على عائشة رضي الله عنها، فقالت له: يا أبا هريرة، ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي (ص)، هل سمعتَ إلا ما سمعنا، وهل رأيتَ إلا ما رأينا؟ قال: يا أماه، إنه كان يشغلكِ عن رسول الله (ص) المرآةُ و المُكْحُلةُ والتصنُّعُ لرسول الله (ص)، وإني و الله ما كان يشغلني عنه شيء.

وفي رواية ابن سعد في الطبقات الكبرى: يا أمه، طلبتُها وشغلكِ عنها المرآةُ والمكحلة، وما كان يشغلني عنها شيء.

زاد في رواية عند ابن عساكر في التاريخ والذهبي في السير أنها رضي الله عنها قالت له عند ذلك: لعله.

أي أنها أقرته على ما ذكر من أنها كان يشغلها أحيانا ما يشغل المرأة من التهيؤ لزوجها والتصنع للقائه (ص) عن حفظ بعض الأحاديث، فضلا عن أنها لم تكن معه (ص) حين كان بين أصحابه بعيداً عن بيتها والمسجد، أما هو فلم يكن يشغله شيءٌ عن المرافقة التامة لرسول الله (ص) والحفظ عنه.

فهل يستقيم هذا مع قولك يا أستاذ إبراهيم (حتى إن السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت له: إنك لتتحدث حديثا ما سمعته من النبي (ص)؟ لماذا يا أستاذ إبراهيم لم تذكر ما رد به أبو هريرة على عائشة رضي الله عنها، ولماذا لم تذكر أنها أقرَّتْه على ما قال؟!.

(ب) أبو هريرة يعرض مروياته على عائشة لتُقِرَّها:

كعادتي في هذه المناقشة أزيدك وأزيد السادة القراء بعض ما صح من تقدير عائشة رضي الله عنها لأبي هريرة وتصديقها لحديثه ، حتى إنه كان يتعمد أن يجلس بجانب حجرتها عندما يحدِّث أصحابَه ليُسمِعها ما يُحدِّث به، وربما سألها إن كانت تنكر شيئا مما حدَّث به؟.

فقد أخرج مسلم عن عروة بن الزبير قال: كَانَ أبو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: «اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ، اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ» وَعَائِشَةُ تُصَلِّي، فَلَمَّا قَضَتْ صَلَاتَهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: «أَلَا تَسْمَعُ إِلَى هَذَا وَمَقَالَتِهِ آنِفًا، إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ ^ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ».

وفي رواية عند البخاري ومسلم عن عُرْوَة أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَلَا يُعْجِبُكَ أبو هُرَيْرَةَ! جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ (ص) يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ(أي أصلي نافلة)، فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ! إِنَّ رَسُولَ الله (ص) لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ».

وفي رواية: «أَلَا تَعْجَبُ إِلَى هَذَا وَحَدِيثِهِ؟ إِنْ كَانَ رَسُولُ الله^ لَيُحَدِّثُ الْحَدِيثَ لَوْ شَاءَ الْعَادُّ أَنْ يُحْصِيَهُ أَحْصَاهُ ».

وفي رواية عند الترمذي: «مَا كَانَ رَسُولُ الله ^ يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيْنَهُ فَصْلٌ، يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ ».

فأبو هريرة يريد إسماع عائشة رضي الله عنها لتتقوى روايتُه بإقرارها، وعائشةُ رضي الله عنها لم تنكر عليه شيئاً من رواياته، وإنما عابت استعجالَه في الإلقاء، وإكثارَه من الروايات في المجلس الواحد، لما في ذلك من مخالفته منهجَ النبي (ص) في التأنِّي وفَصْلِ بعضِ الكلام من بعض.

قال الذهبي : «وقد كان أبو هريرة يجلس إلى حجرة عائشة فيحدث ثم يقول: يا صاحبة الحجرة أتنكرين مما أقول شيئا؟ فلما قضت صلاتها لم تنكر ما رواه، لكن قالت: لم يكن رسول الله (ص) يسرد الحديث سردكم».

قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري(6/578-579): «قوله: «ولو أدركتُه لرددْتُ عليه»: أي لأنكرتُ عليه، وبينتُ له أن الترتيل في التحديث أولى من السرد. قوله «لم يكن يسرد الحديث كسردكم»: أي يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثْر بعض؛ لئلا يلتبس على المستمع. زاد الإسماعيلي في رواية ابن المبارك عن يونس: «إنما كان حديث رسول الله (ص) فصلاً، تفهمه القلوب». واعتُذر عن أبي هريرة بأنه كان واسعَ الرواية كثيرَ المحفوظ، فكان لا يتمكن من المَهل عند إرادة التحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر، فتتزاحم القوافي على في».

ما رأيك بعد هذا التوضيح يا أستاذ إبراهيم؟ هل كانت عائشة رضي الله عنها تنكر روايات أبي هريرةأو تكذبها أو تردها؟ أم كانت تقبلها وتعيب فقط طريقتَه في كثرة التحديث في المجلس الواحد بصورة تجعل من الصعب على الطلاب متابعتَه والحفظَ عنه؟!.

(ج) عائشة تصدق أبا هريرة رضي الله عنهما:

ها هي أم المؤمنين يا أستاذ إبراهيم تصدق أبا هريرة وتؤكد حفظه صراحة وبوضوح، فقد أخرج الشيخان عن نافع مولى ابن عمر قال: حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ»، فَقَالَ: أَكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا. فَصَدَّقَتْ -يَعْنِي عَائِشَةَ- أَبَا هُرَيْرَةَ، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ^ يَقُولُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ.

وأخرج مسلمٌ في صحيحه القصةَ بصورةٍ أكثرَ تفصيلا، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ الله بن عُمَرَ إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ (ابن السائب) صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ الله بن عُمَرَ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله (ص) يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ»

فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أبي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقَ أبو هُرَيْرَةَ. فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ

زاد في رواية أخرى عند أحمد وعبد الرزاق بسند صحيح وصححها الحاكم والذهبي: فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ الله (ص) غَرْسُ الْوَدِيِّ(النخل الصغير) وَلَا صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ، إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ الله ^ كَلِمَةً يُعَلِّمُنِيهَا وَأُكْلَةً (أي لقمة)يُطْعِمُنِيهَا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله ^ وَأَعْلَمَنَا بِحَدِيثِهِ.

فما رأي الأستاذ إبراهيم والقراء الكرام بعد هذا التصديق الواضح الصريح من عائشة لأبي هريرة ثم الثناء البالغ من ابن عمر على أبي هريرة جميعا؟!.

وهاك تصديقاً آخر صريحا صحيحاً من عائشة رضي الله عنها لأبي هريرة ، فقد أخرج مسلم والنسائي وأحمد( ) عن شُرَيْحِ بن هَانِئٍ قال: بَيْنَمَا أَنَا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (ص) يَقُولُ: «لَا يُحِبُّ رَجُلٌ لِقَاءَ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وَلَا أَبْغَضَ رَجُلٌ لِقَاءَ الله إِلَّا أَبْغَضَ الله لِقَاءَهُ» فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: لَئِنْ كَانَ مَا ذَكَرَ أبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ (ص) حَقًّا لَقَدْ هَلَكْنَا! فَقَالَتْ: إِنَّمَا الْهَالِكُ مَنْ هَلَكَ فِيمَا قَالَ رَسُولُ الله (ص) ، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله (ص) يَقُولُ: «لَا يُحِبُّ رَجُلٌ لِقَاءَ الله إِلَّا أَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وَلَا أَبْغَضَ رَجُلٌ لِقَاءَ الله إِلَّا أَبْغَضَ الله لِقَاءَهُ» (في رواية مسلم والنسائي: وَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ المَوْتَ)قَالَتْ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهُ (ص) يَقُولُ ذَلِكَ، فَهَلْ تَدْرِي لِمَ ذَلِكَ؟ إِذَا حَشْرَجَ الصَّدْرُ(أي تردد النفس فيه)، وَطَمَحَ الْبَصَرُ (أي ارتفع واتجه إلى أعلى)، وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، وَتَشَنَّجَتْ الْأَصَابِعُ(هذا كناية عن حالة الاحتضار) فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ الله أَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ لِقَاءَ الله أَبْغَضَ الله لِقَاءَهُ.

فعائشة لم تكتف بالتصديق لما رواه أبو هريرة ، بل فسرت للسائل مقصود رسول الله (ص) ، فما رأي الأستاذ إبراهيم والسادة القراء الكرام في هذا التصديق من عائشة لأبي هريرة؟ هل ما فعلته أم المؤمنين يؤيد ما سماه الأستاذ إبراهيم بالتكذيبات الشديدة منها لأبي هريرة رضي الله عن الجميع؟.

(د)عائشة تقر بحفظ أبي هريرة:

لقد كان أبو هريرة يروي –كما سبق- عن غيره من الصحابة الكرام، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ممن روى عنهم أبو هريرة، وكان الصحابة يقبلون منه روايته ويعملون بها، وكانت عائشة تصدقه فيما يروي عنها، مما يدل على تقديرها له وعلى ثقتها فيه.

فقد أخرج أحمد عن أبي بَكْرِ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن الْحَارِثِ بن هِشَامٍ قَالَ: أَجْمَعَ أبي عَلَى الْعُمْرَةِ، فَلَمَّا حَضَرَ خُرُوجُهُ قَالَ: أَيْ بنيَّ، لَوْ دَخَلْنَا عَلَى الْأَمِيرِ فَوَدَّعْنَاهُ؟ قُلْتُ: مَا شِئْتَ. قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ فِيهِمْ عَبْدُ الله بن الزُّبَيْرِ، فَذَكَرُوا الرَّكْعَتَيْنِ الَّتِي يُصَلِّيهِمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ؟ فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مِمَّنْ أَخَذْتَهُمَا يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِمَا أبو هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ.

فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى عَائِشَةَ: مَا رَكْعَتَانِ يَذْكُرُهُمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ عَنْكِ أَنَّ رَسُولَ الله ^ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ؟ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ. فَأَرْسَلَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ: مَا رَكْعَتَانِ زَعَمَتْ عَائِشَةُ أَنَّكِ أَخْبَرْتِيهَا أَنَّ رَسُولَ الله (ص) كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ؟ فَقَالَتْ: يَغْفِرُ الله لِعَائِشَةَ، لَقَدْ وَضَعَتْ أَمْرِي عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ! صَلَّى رَسُولُ الله (ص) الظُّهْرَ، وَقَدْ أُتِيَ بِمَالٍ فَقَعَدَ يَقْسِمُهُ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ بِالْعَصْرِ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيَّ، وَكَانَ يَوْمِي، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، فَقُلْتُ: مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا رَسُولَ الله؟ أُمِرْتَ بِهِمَا؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُمَا رَكْعَتَانِ كُنْتُ أَرْكَعُهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَشَغَلَنِي قَسْمُ هَذَا الْمَالِ حَتَّى جَاءَنِي الْمُؤَذِّنُ بِالْعَصْرِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا».

فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: الله أَكْبَرُ، أَلَيْسَ قَدْ صَلَّاهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً؟ وَالله لَا أَدَعُهُمَا أَبَدًا.

وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّاهُمَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا.

(هـ) أبو هريرة يفتي بحضرة عائشة:

نعم، كان أبو هريرةأحد المفتين من أصحاب رسول الله ^ المشهورين، وذلك لكثرة علمه ومحفوظاته، وكان الصحابة وغيرهم يرسلون إليه المستفتين؛ ثقة بعلمه وحفظه ومعرفته، وها هو يفتي أمام أم المؤمنين عائشة وفي حضور حبر الأمة عبد الله بن عباس الذي قدمه للإفتاء،جميعا ، وكلاهما يوافقانه على الفتوى.

فقد أخرج مَالِك في الموطأ عَنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بن عَبْدِ الله بن الْأَشَجِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بن أبي عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ الله بن الزُّبَيْرِ وَعَاصِمِ بن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، قَالَ: فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بن إِيَاسِ بن الْبُكَيْرِ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَمَاذَا تَرَيَانِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الله بن الزُّبَيْرِ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا لَنَا فِيهِ قَوْلٌ، فَاذْهَبْ إِلَى عَبْدِ الله بن عَبَّاسٍ وَأبي هُرَيْرَةَ، فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَسَلْهُمَا، ثُمَّ ائْتِنَا فَأَخْبِرْنَا.

فَذَهَبَ فَسَأَلَهُمَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأبي هُرَيْرَةَ: أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ. فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَالثَّلَاثَةُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ مَالِك: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا.

فمن كان يفتي بحضرة عائشة وابن عباس يا أستاذ إبراهيم هل نصدق أن عائشة تناولته بالتكذيب الشديد؟!

(و)عائشة رضي الله عنها تنتقد بعض روايات أبي هريرة:

كانت عائشة رضي الله عنها حافظةً فقيهةً واعيةً، وإليها كان يرجع كثير من الصحابة في حل كثير من المشكلات وإيضاح الأمور الملتبسة، وكانت نشأتُها في بيت أبي بكر وقُرْبُها ثم زواجُها من رسول الله ^ ودخولُها بيت النبوة، مع صغر سنها وكمال ذكائها من العوامل الأساسية في نمو عبقريتها المبهرة، ولذلك كانت لا تتردد في انتقاد ما ترى أنه غير صحيح أو غير منضبط من وجهة نظرها، كائناً من كان الذي تنتقد روايته، فانتقدت بعضَ روايات وآراء الفاروق عمر وابن عمر وفاطمة بنت قيس وغيرهم من الصحابة أجمعين.

وكان من الطبيعي أن تتابع عائشةُ رضي الله عنها ما يرويه سيدُ الأثبات الحفاظ أبو هريرة ، وأن تنتقد ما ترى فيه مخالفةً من وجهة نظرها، فربما اقتنع أبو هريرة بنقدها وذلك إذا أوردت الدليل عليه، وعندئذ يرجع إلى قولها وروايتها، كما فعل في مسألة صوم الجنب التي مرَّت من قبل، وربما كان الانتقاد راجعاً إلى فهم واستنباط أم المؤمنين، وعندئذٍ فلا حرج على أبي هريرة إذا استمسك بما يطمئن إلى روايته، ولا يلزمه الرجوع عنه، كما حصل حين انتقدت روايته في تعذيب امرأة في النار بسبب هرة.

فقد أخرج الطيالسي وأحمد عَنْ عَلْقَمَةَ بن قَيْسٍ النَّخَعِي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَدَخَلَ أبو هُرَيْرَةَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ «أَنَّ امْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا لَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا»؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ يَعْنِي النَّبِيَّ (ص) . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: هَلْ تَدْرِي مَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: لَا. قَالَتْ: إِنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ مَا فَعَلَتْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ فِي هِرَّةٍ. فَإِذَا حَدَّثْتَ عَنْ رَسُولِ الله ^ فَانْظُرْ كَيْفَ تُحَدِّثُ.

فهذا النقد من عائشة لم يأخذ به أبو هريرة وبقي يروي الحديث على الوجه الذي سمعه من رسول الله (ص) ، والحديث قد أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة من غير مراجعة عائشة ونقدها، ولم ينفرد أبو هريرة به، بل أخرجه البخاري ومسلم عن كل من أسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله (كما رواه غيرهم من الصحابة) بنفس ما رواه أبو هريرة، فلا تثريب على أبي هريرة إن هو لم يأخذ بقول عائشة في فهمها أن المرأة كانت كافرة، وقد رجح أكثر العلماء أنها كانت مسلمة.

وعلى كل حال، فسواء كانت كافرة أو مسلمة فقد صرح الحبيب (ص) في حديثه بأن سبب تعذيبها هو حبسُها للهرة وتعذيبُها إياها، وفي ذلك من الوعيد ما فيه حتى لا يستهين إنسانٌ بتعذيب نفسٍ ولو كانت نفسَ حيوانٍ أعجميٍّ (فضلاً عن تعذيب آدمي)، وهذا ما فهمه الإمام الزهري رحمه الله، فإنه ذكر هذا الحديث وذكر قبله حديثَ توبة الله على العبد الذي أسرف على نفسه وأوصى بأن يُحرَق ويُذْرَى في الريح في البحر خجلاً وخشيةً من لقاء الله، فغفر الله له، ثم قال الزهري رحمه الله بعد رواية الحديثين فيما أخرجه مسلم: «ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ».

وربما نُقِل إلى عائشة رضي الله عنها شيءٌ مما رواه أبو هريرة ، فسارعت إلى تصحيحه، ولو لم تتأكد من سلامة النقل عن أبي هريرة، من غير أن يكون في ذلك أدنى قدح في أبي هريرة ، بل لعل الخطأ حصل من الذي نقل الحديث عن أبي هريرة إلى عائشة رضي الله عنها.

من ذلك ما أخرجه أحمد وغيره عَنْ أبي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ (ص) كَانَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ». قَالَ: فَطَارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ وَشِقَّةٌ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى أبي الْقَاسِمِ مَا هَكَذَا كَانَ يَقُولُ، وَلَكِنَّ نَبِيَّ اللهِ (ص) كَانَ يَقُولُ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ». ثُمَّ قَرَأَتْ عَائِشَةُ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (الحديد: 22).

وأخرج الطيالسي عن مكحول، قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول: قال رسول الله (ص) : «الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ». فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة ؛ لأنه دخل ورسول الله (ص) يقول: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ! يَقُولُونَ: إِنَّ الشُّؤْمَ فِي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ»، فسمع آخر الحديث، و لم يسمع أوله.

فالخطأ الذي أنكرته السيدة عائشة هنا هو من الراوي عن أبي هريرة، و ليس من أبي هريرة نفسه، فقد أخرج أحمد عَنْ مُحَمَّدِ بن قَيْسٍ قَالَ: سُئِلَ أبو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ (ص) «الطِّيَرَةُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَسْكَنِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ» قَالَ: قُلْتُ: إِذَنْ أَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ^ مَا لَمْ يَقُلْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ^ يَقُولُ: «أَصْدَقُ الطِّيَرَةِ الْفَأْلُ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ».

وذلك هو ما انتهى إليه بحث إمام الأئمة ابن خزيمة، إذ قال تعليقا ًعلى الرواية السابقة: «وقد قال العامريان على أبي هريرة الباطل، لم يقل أبو هريرة إن النبي (ص) قال الطيرة فيما ذكرا، بل الأخبار متواترة عن أبي هريرة عن النبي (ص) «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» والعامريان لا يُدْرَى من هما، ومن المحال أن يُحْتَجَّ برواية رجلين مجهولين، فيرد أخبار قوم ثقات حفاظ مشهورين بالعلم».

على أنني أضيف إكمالاً للفائدة هنا أن الأحاديث في التشاؤم والتطير بالمرأة والدار والفرس قد رويت عن عدد من الصحابة منهم ابن عمر وسهل بن سعد وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وأسماء بنت عميس أجمعين، وغالب الروايات بلفظ: «إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ».

وإذا جُمعت نصوص الأحاديث كلها تبين لنا أن معنى الأحاديث: إن يكن شؤم في شيء - على ما يقول أهل الجاهلية - فإنه يكون في هذه الثلاثة، إذا ساءتْ طباعُها، وفسدتْ أخلاقُها، وأتعبتْ أصحابها، وآذت المتعاملين معها. وهي نفسها مصدر سعادة إذا طابت الطباع، وحسنت الأخلاق، واتسعت الدار، وكثرت مرافقها، وصلح جيرانها.

فليس المقصود بالشؤم في تلك الأحاديث الشؤم بذواتها وأعيانها، ولا هو التَّطيُّر بها، كما كان يفعل أهل الجاهلية، وعليه فمن كانت له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو دابة يكره سيرها؛ فليتركها، وليفارقها، من غير تطيُّرٍ، ولا تشاؤم، ولا متابعة لفعل أهل لجاهلية.

هذا في نقاط موجزة ما كان بين عائشة وأبي هريرة ، فأين تلك التكذيباتُ الشديدةُ يا أستاذ إبراهيم، بل لعله يغيب عنك وعن بعض القراء الكرام أن أبا هريرة هو الذي أمَّ الناس في صلاة الجنازة على عائشة رضي الله عنها حين ماتت، مع وجود كثيرٍ من أقاربها من أبناء إخوتها وأخواتها، ثم مات بعدها بمدةٍ يسيرةٍ في نفس السنة، وأرضاهم أجمعين.

4 - بين عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما

ننتقل إلى ما كان بين عمر وبين أبي هريرة في شأن الحديث، وأقول في البداية: إن الأستاذ إبراهيم ذكر أن ضرب عمر لأبي هريرة وتهديده له بالطرد أمر معروف! وليت شعري من أين عرفتَه يا أستاذ إبراهيم، وفي أي كتابٍ من الكتب المعتبرة قرأتَه؟ أم هل رأيتَ ذلك في منام، أم عرفتَه بالكشف والإلهام؟!. وسأتناول الآن هاتين الأكذوبتين بالتفنيد والبيان:

(أ) أما مسألة ضرب عمر بن الخطاب لأبي هريرة رضي الله عنهما:

فقد أتعبتُ نفسي يا سيدي في المصادر المعتبرة لأبحث عنها أو عن شيءٍ قريبٍ منها ربما تكون أنت أو غيرُك فهمه على غير وجهه، فلم أجد شيئاً على الإطلاق، وأنا أدعوك أن تضع يدي على مصدر هذه المعرفة التي ادعيتَها، ويقيني أنك لن تجدها في مصدر معتبر؛ لأنها نكرةٌ، ولأن الضربَ بغير حقٍّ منكرٌ لا معروفٌ يا أستاذ إبراهيم، وعمر الفاروق لا يتعمد فعلَ المنكر أبداً.

الذي وجدتُه يا أستاذي الفاضل: هو ما ذكره محمود أبو رية صاحب كتاب (أضواء على السنة)، وعبد الحسين شرف الدين العاملي الشيعي صاحب كتاب (أبو هريرة) نقلاً عمن يدْعونه الإمام أبا جعفر الإسكافي من أن عمر ضرب أبا هريرة لأنه أكثر من الحديث، فهل تعرف يا أستاذ إبراهيم مَن الناقل ومَن المنقول عنه وما قيمة هذا النقل في ميزان النقد العلمي؟.

أما الناقل فاثنان فاضت أقلامهما حقداً وسوءَ أدبٍ في أبي هريرة وغيره من الصحابة ، بل في السنة عموماً، وكانا في بحثيهما عن أبي هريرة ممن يلتمسان العيب للبرآء، أو بتعبير أهل بلدنا (حين لا يجدون في الورد عيباً يقولون له: يا أحمر الخدين)!

وأما المنقول عنه فهو أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الإسكافي (المتوفى سنة 240هـ) وقد جمع - فضلاً عن كونه غيرَ ثقةٍ عند أهل العلم - سوأتين: الأولى أنه معتزلي، وكان كثير من المعتزلة يدين بعداوة أهل الحديث، والثانية: أنه شيعي مغالٍ في تشيعه.

ومع كونه ساقطَ العدالةِ مردودَ الروايةِ فإنه لم يذكر لنا مصدر هذه المعلومة، بل رواها بغير إسنادٍ، على طريقة (الأمر المعروف) الذي لا يحتاج لبرهانٍ أو دليل. فأين كان هذا الإسكافيُّ (الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث) حتى يرى ضربَ عمر لأبي هريرة ؟!

ألستَ معي يا أستاذُ إبراهيم ويا حضرة القارئ الكريم في أن ما قاله هذا الإسكافي ليس سوي المنكر والزور والبهتان والافتراء الذي يجب أن يتنزه المنصفون عن نقله على أنه معروف!

إن رأي هذا الإسكافي الرافضي والناقلين عنه في الأطهار الأخيار من أصحاب رسول الله (ص) لَأسوأُ من رأي (أريل شارون) وعصابته في الشهيد أحمد ياسين وكتائب القسام! بل لا يعدله إلا رأي فرعون في موسى حين قال ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ! لأسباب ليس هذا وقت بيانها ومناقشتها.

لكني أذكر لك وللقراء الكرام هذا الحديث النبوي الذي يبين حقيقة بعض الناس الذين لا تقع عيونهم -وهم يقرؤون تاريخنا وسير أئمتنا- إلا على ما هو رديء، فإن لم يجدوا رديئاً أوهموا أنفسَهم والناسَ -زوراً وبهتاناً- أنهم قد وقعوا على ما هو رديء.

أخرج ابن ماجه وأحمد وغيرهما عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (ص) : «مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلَّا بِشَرِّ مَا يَسْمَعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا فَقَالَ: يَا رَاعِي أَجْزِرْنِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ(يعني أعطني شاة تصلح للذبح) قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ بِأُذُنِ خَيْرِهَا. فَذَهَبَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ». ولن أعلِّق على الحديث ففيه من الدلالة ما لا يحتاج إلى تعليق.

هل حبس أحداً من الصحابة لكونه أكثرَ من الحديث؟:

لا أغادر هذا المقام قبل أن أشير إلى ما رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر جميعا: «ما هذا الحديث عن رسول الله ^» وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب. وفي رواية ذكر أبا مسعود الأنصاري بدل أبي ذر. وفي رواية أنه قال:قد أكثرتم الحديث عن رسول الله (ص) !.

وفضلاً عن أن هذه الأخبار ليس فيها ذكر على الإطلاق لأبي هريرة ، فإنها أخبار لا تصح عن عمر ، لأن إبراهيم بن عبد الرحمن ولد قبل وفاة عمر بثلاث سنين، فكيف تسنى له أن يعرف ذلك؟ ولهذا رد العلماء والعقلاءُ هذه الأخبار لهذا الانقطاع في السند، ولأن الصحيح عن عمر غير ذلك، خصوصاً مع هؤلاء الصحابة الأجلاء، وليس المقام مقام بيان فضلهم وجلالتهم وارتفاع منزلتهم عند أمير المؤمنين جميعا، فذلك له محل آخر.

ثم المعلوم أن ابن مسعود كان معلماً وقاضياً بأمر عمر على الكوفة، وكان بها حين مات عمر، فكيف حبسه عمر في المدينة حتى توفي إذاً أيها العقلاء؟! ثم كيف يفعل عمر ذلك بابن مسعود مع عظيم تقديره له، حتى إنه منَّ على أهل الكوفة حين أرسله إليهم؟

أخرج ابن سعد والطبراني بسند صحيح وصححه الحاكم والذهبي عَنْ حَارِثَةَ بن مُضَرِّبٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ:«إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ عَمَّارًا أَمِيراً، وَعَبْدَ الله بن مَسْعُودٍ مُعَلِّماً وَوَزِيراً، وَهُمَا مِنَ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ (ص) ، مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، فَاقْتَدُوا بِهِمَا، وَاسْمَعُوا مِنْ قَوْلِهُمَا، وَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ الله عَلَى نَفْسِي». فمن كان عمر يرسله معلِّما للناس ويَمُنُّ على أهل الكوفة بأنه يؤثرهم به على نفسه كيف يُتَصَوَّر أن يأمر بحبسه؟ وبأي ذنب يحبسه الخليفة الفاروق العادل يا أولي الألباب؟

قال الذهبي في التعليق على كلام إبراهيم بن عبد الرحمن : «هذا حديث غريب».

وقال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط. قلت: هذا أثر منقطع وإبراهيم ولد سنة عشرين ولم يدرك من حياة عمر إلا ثلاث سنين، وابن مسعود كان بالكوفة، ولا يصح هذا عن عمر »

وهاك ما قاله ابن حزم في الإحكام عن هذه الروايات:

«هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة، فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن رسول الله (ص) إلى المسلمين وألزمهم كتمانَها وجحدَها وأن لا يذكروها لأحد، فهذا خروجٌ عن الإسلام، وقد أعاذ الله أميرَ المؤمنين من كل ذلك.

ولئن كان سائرُ الصحابة متهمين في الكذب على النبي (ص) فما عُمر إلا واحدٌ منهم، وهذا قولٌ لا يقوله مسلمٌ أصلاً. ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم.

فلْيَخْتَر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أيَّ الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بُدَّ له من أحدهما»

«ودليل ما قلنا: أن عمر قد حدَّث بحديثٍ كثير عن النبي (ص) ، فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروهاً فقد أخذ عمرُ من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحلُّ لمسلم أن يظن بعمر (ص) أنه نهى عن شيء وفعله؛ لأنه قد رُوي عنه رضوان الله عليه خمسُمائة حديث ونيف، على قرب موته من موت النبي ^، فصحَّ أنه كثيرُ الرواية والحديث عن النبي (ص) ، وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي ^ من عمر بن الخطاب(ص) إلا بضعة عشر منهم فقط ».

وإن شئت مزيد بيان لبطلان حبس عمر للصحابة بسبب الإكثار من الرواية فانظر كتاب (السنة قبل التدوين) للدكتور محمد عجاج الخطيب ص106 وما بعدها.

ما المقصود بالحبس إن صح؟:

الذين قبلوا هذه القصة الباطلة على عِلَّاتها قالوا: إن المقصود بالحبس هنا: مَنْعُهم من كثرة الرواية، فقد قال أبو عبد الله البري: يعني منعهم الحديث، ولم يكن لعمر حبس.

وورد تفسير ذلك بمنعهم من مغادرة المدينة، وذلك فيما أخرجه ابن سعد: قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر: «ما هذا الحديث عن رسول الله؟» قال: أحسبه قال: ولم يدعهم يخرجون من المدينة، حتى مات.

قال ابن حبان(: «لم يكن عمر بن الخطاب -وقد فعل- يتَّهم الصحابةَ بالتقوُّل على النبي (ص) ، ولا ردَّهم عن تبليغ ما سمعوا من رسول الله (ص) ، وقد علم أنه (ص) قال: «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ» وأنه لا يحل لهم كتمانُ ما سمعوا من رسول الله (ص) ، ولكنه علم ما يكون بعده من التقوُّل على رسول الله (ص) ؛ لأنه عليه السلام قال: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نزَّلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» وقال: «أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مُحَدَّثُونَ(يعني مُلْهَمين) فَعُمَرُ مِنْهُمْ » فعمد عمر إلى الثقات المتقنين الذين شهدوا الوحي والتنزيل فأنكر عليهم كثرة الرواية عن النبي (ص) ؛ لئلا يجترئ مَنْ بعدهم ممن ليس في الإسلام محلُّه كمحلِّهم فيكثر الرواية فَيَزِلَّ فيها، أو يقول متعمداً عليه (ص) ؛ لنوال الدنيا».

وقال ابن عساكر : «وهذا من عمر لم يكن على وجه الاتِّهام لهم، وإنما أراد إقلالهم الرواية؛ لئلا يشتغل الناس بما يسمعونه منهم عن تعلم القرآن».

على كل حالٍ فالصحيح أن قصة الضرب أو الحبس تلك مختلَقة لا قدم لها ولا ساق، ولم يحصل ذلك من أمير المؤمنين الفاروق، لا لأبي هريرة، ولا لغيره.

عمر يطلب من الصحابة الإقلال من الرواية:

الذي جاء عن عمر وعُرف عنه أنه كان يدعو إلى التثبت الشديد في الرواية عن رسول الله ^، وله في ذلك حكايات مشهورة مع أبي موسى الأشعري وغيره ليس هذا محل ذكرها، كما كان يطلب من عموم الصحابة التقليل من رواية الحديث في البلاد المفتوحة التي لم يتشرَّب أهلُها حقيقةَ الإسلام بعدُ، خشيةَ أن يقع المحدّث في الخطأ والسهو من غير قصد، فيتبعه الناس وهم لا يعلمون، وقد أخرج مسلم عن عمر بن الخطاب أنه قال: «بِحَسْبِ المَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدَث بِكُلِّ مَا سَمِعَ »

وذلك لأن الإنسان يسمع في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب، لإخباره بما لم يكن، إذ الكذب: هو الإخبارُ عن الشيء بخلاف ما هو، ولا يشترط فيه التعمد، لكن التعمد شرط في كونه إثما، واللّه أعلم .

كما كان عمر يخشى أن يختلط القرآنُ بالسنة وبخاصة عند المسلمين الجدد في البلاد المفتوحة، أو أن ينشغلوا بحفظ الحديث عن حفظ كتاب الله، فقد أخرج ابن ماجه والدارمي والحاكم عَنْ قَرَظَةَ بن كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنَا عُمَرُ بن الْخَطَّابِ إِلَى الْكُوفَةِ وَشَيَّعَنَا فَمَشَى مَعَنَا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ صِرَارٌ (وهو ماء على طريق المدينة) فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟» قَالَ: قُلْنَا: لِحَقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ الله (ص) وَلِحَقِّ الْأَنْصَارِ. قَالَ: «لَكِنِّي مَشَيْتُ مَعَكُمْ لِحَدِيثٍ أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ، وَأَرَدْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لِمَمْشَايَ مَعَكُمْ، إِنَّكُمْ تَقْدَمُونَ عَلَى قَوْمٍ لِلْقُرْآنِ فِي صُدُورِهِمْ هَزِيزٌ كَهَزِيزِ الْمِرْجَلِ، فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ وَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ^، فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الله ^ وَأَنَا شَرِيكُكُمْ».

زاد في رواية فلما قدم قرَظة قالوا: حَدِّثْنا. قال: نهانا عمرُ بن الخطاب.

قال الدارمي بعد رواية الحديث: «معناه عندي الحديث عن أيام رسول الله (ص) ، ليس الفرائض والسنن ».

قال الحافظ ابن عبد البر: «إن وجه قول عمر هذا إنما كان لقومٍ لم يكونوا أحصَوا (يعني حفظوا) القرآن، فخشي عليهم الاشتغالَ بغيره عنه؛ إذ هو الأصل لكل علم ».

وقال الحافظ الذهبي: «وقد كان عمرمن وَجَلِه أن يخطئَ الصاحبُ على رسول الله (ص) يأمرهم أن يُقِلّوا الرواية عن نبيهم ^، ولئلّا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن».

أي أنه لم يكن قصد أمير المؤمنين -كما فهم بعض الطاعنين في السنة وأهلها- الزهد في رواية الأحاديث، أو الطعن على أهلها ورواتها. حاشاه من ذلك! إذ «لو كَرِه الرواية وذمَّها لنهى عن الإقلال منها والإكثار»، فإنه «لا يخلو الحديث عن رسول الله ^ من أن يكون خيراً أو شراً، فإن كان خيراً -ولا شك فيه أنه خير- فالإكثار من الخير أفضل، وإن كان شراً فلا يجوز أن يُتوَهَّم أنَّ عمرَ يوصيهم بالإقلال من الشر، وهذا يدلك على أنه إنما أمرهم بذلك؛ خوفَ مُواقعة الكذب على رسول الله ^، وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن؛ لأن المكثرَ لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه» .

ومما يدل لذلك أيضا أن عمر مع قرب موته من النبي (ص) فإنه روى حديثًا كثيراً عن النبي (ص) ، فله في مسند بقي بن مخلد (537) خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثا، وفي مسند أحمد (310) ثلاثمائة وعشرة أحاديث، ولا يسبقه في عدد مروياته إلا عشرة من الصحابة أجمعين .

وأما ما رُوِي عنه من حبسه لبعض الصحابة بالمدينة لإكثارهم من الحديث، فضعيفٌ لا تقوم به حجةٌ كما سبق بيانه، فما رأيك إذاً يا أستاذ إبراهيم، وما رأي حضرات السادة القراء بعد هذا البيان الواضح عن اختلاق وفبركة هذه القصة الرديئة؟!.


(ب) وأما مسألة التهديد بالطرد من المدينة:

فقد ذكرها أبو زُرْعة الدمشقي - ومن طريقه ابن عساكر- فقال: حدثني محمد بن زرعة الرُّعَيني قال: حدثنا مروان بن محمد، قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطا يقول لأبي هريرة  : «لتتركن الحديث عن رسول الله ^ أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن الأحاديث، أو لألحقنك بأرض القردة ».

قال أبو زرعة: وقد سمعتُ أبا مُسْهِر يذكر عن سعيد بن عبد العزيز نحواً منه، ولم يسنده. (يعني أن سعيداً لم يذكر له سنداً بل هو من كلامه، ومن ثم فهو مُعْضَل لا يصلح للحجة)

وليس لهذه القصة سندٌ معتبر غير هذا السند، فكل الذين ذكروها إنما نقلوها عن أبي زرعة بهذا السند، ومع أن رجال هذا السند ثقات فإن في الحديث علتين: الأولى: أن أبا مُسْهِر عبد الأعلى بن مُسْهِر قد خالف محمد بن زُرعة الرُّعَيْني، فلم يذكر إسناداً لهذه القصة، وأبو مُسْهِر أحفظ وأوثق وأعرف بالحديث والأسانيد من الرُّعَيْني الذي لم يَرْوِ له أحدٌ من الأئمة المشاهير في كتب السنة المعروفة شيئا، ولم أجد له حديثاً واحداً في أمهات كتب السنة المعروفة المتداولة، بل لم يَرْوِ عنه غيرُ أبي زرعة الدمشقي، الذي روى عنه عدداً قليلا من الروايات، منها هذه القصة، فالراجح أنها ضعيفة لانقطاع السند، ولمخالفة راويها لمن هو أعلم وأوثق وأحفظ.

العلة الثانية: أن الرامهرمزي في المحدث الفاصل روى عن السائب بن يزيد أن صاحب التهديد هو عثمانُ لا عمرُ جميعا، فروى بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي الزناد عن محمد -قال: أظنه ابن يوسف- قال: سمعت السائب بن يزيد يحدث قال: «أرسلني عثمان بن عفان إلى أبي هريرة فقال: قل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما هذا الحديث عن رسول الله ^؟ لقد أكثرت، لتنتهين أو لألحقنك بجبال دوس. وأْتِ كعباً فقل له: يقول لك أمير المؤمنين عثمان: ما هذا الحديث؟ قد ملأتَ الدنيا حديثاً، لتنتهين أو لألقينك بجبال القردة ». وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن أبي الزناد، فقد ضعفه أكثر أهل العلم.

فهذه كلها أسانيد لا يثبت بها مثلُ هذا الأمر، ولو صحَّ ذلك لاشتهر بين أهل العلم ولنقلوه في دواوينهم المشهورة التي لم يتركوا شيئاً إلا كتبوه فيها، خصوصاً وأن الأمر يتعلق بأكثر الناس رواية وأغزرهم حديثاً، وقد وُجد في حياة أبي هريرة مَنْ طعن عليه واستنكر كثرةَ رواياته ورد عليهم أبو هريرة، فلو عُرف هذا عنه لواجهوه به، وهذا مما يرجح بطلان حصول ذلك التهديد.

ومع ذلك فإن العلماء الذين أوردوه وقبلوه لم يفهموا منه طعناً من عمر ولا من عثمان على أبي هريرة جميعا، بل أدركوا أن المقصود هو دعوة عمر لأبي هريرة وغيره من الصحابة إلى التقليل من الرواية للأسباب التي سبق ذكرها، والدعوةُ إلى التقليل من الرواية أمرٌ معروفٌ عن عمر، وله فيه وقائع متعددة، ليس هذا مجال الحديث عنها.

قال الحافظ الذهبي: «هكذا هو كان عمر يقول: أَقِلُّوا الحديثَ عن رسول الله (ص) .

وزجر (يعني عمر) غيرَ واحد من الصحابة عن بثّ الحديث. وهذا مذهبٌ لعمر ولغيره.

فبالله عليك، إذا كان الإكثارُ من الحديث في دولة عمر، كانوا يُمنَعون منه، مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد(يعني كان الصحأبي يروي عن النبي (ص) مباشرة ولم يكن يذكر إسناداَ طويلا كما حصل بعد ذلك)، بل هو غَضٌّ لم يُشَبْ (يعني لم يُخلَط بغيره)، فما ظنك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط؟» انتهى كلام الذهبي.

وقال الحافظ ابن كثير: «وهذا محمولٌ من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناسُ على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعضُ الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه، أو نحو ذلك».

ثم ذكر ابن كثير أن عمر» أذن له بعد ذلك في التحديث، فقال مُسَدَّد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة ، قال: بلغ عمرَ حديثي فأرسل إليَّ فقال: كنتَ معنا يوم كنا مع رسول الله (ص) في بيت فلان؟ قال: قلت: نعم! وقد علمتُ لِمَ تسألني عن ذلك؟ قال: ولِمَ سألتُك؟ قلت: إن رسول الله (ص) قال يومئذٍ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ » قال: أما إذاً فاذهب فحَدِّث. في رواية عند ابن عساكر أن عمر قال له: حدِّثْ الآن عن النبي ^ ما شئتَ.

أبو هريرة يحذر من الكذب على رسول الله (ص) :

لقد كان أبو هريرة شديد الحرص على التذكير بحرمة الكذب على رسول الله ^، يُذَكِّر بذلك بين يدي كل مجلس يحدث فيه عن رسول الله (ص) ، إشارة إلى تثبته فيما يرويه؛ لئلا يعرِّض نفسه للعذاب والوعيد: أخرج الإمام أحمد عن كليب بن شهاب قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ، وَكَانَ يَبْتَدِئُ حَدِيثَهُ بِأَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ الله (ص) أبو الْقَاسِمِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». وروى مثله من وجه آخر عنه.

وقال الْحُمَيْدِىُّ في المسند: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَحَدَّثَنِى مَنْ لاَ أُحْصِى عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله ^ قَالَ:« مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».


(ج) عمر يطلب من أبي هريرة أن يتولى الإمارة على البحرين:

أزيدك يا أستاذ إبراهيم وأزيد حضرات القراء الكرام بشيء من تقدير عمر لأبي هريرة، فقد ولاه إمارة البحرين، ثم عزله، ثم دعاه مرة أخرى ليوليه، فأبى الورع التقي أبو هريرة أن يقبل الولاية، ومع وضوح القصة في تقديرعمر لأبي هريرة وفي نقاء صفحة هذا الإمام الجليل فقد أبى المتحاملون على أبي هريرة –كعادتهم- إلا أن يسيئوا فهمها وتأويلها وتقديمها للناس على غير وجهها، وهاك القصة لتعرف ويعرف القراء الكرام الحقيقة:

أخرج ابن سعد بسند صحيح عن محمد بن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرتَ بهذه الأموال يا عدوَّ الله وعدوَّ كتابه! فقال أبو هريرة: فقلت: لستُ بعدوِّ الله وعدوِّ كتابه، ولكني عدوُّ مَنْ عاداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيلٌ نَتَجَتْ، وغَلَّةُ رقيقٍ لي، وأَعْطِيةٌ تتابعتْ. فنظروا فوجدوه كما قال.

فلما كان بعد ذلك دعاه عمر؛ ليُوَلِّيَه، فأبَى، فقال: تَكْرَهُ العملَ (يعني الولاية) وقد طلب العمل مَنْ كان خيراً منك، يوسفُ عليه السلام؟ فقال: يوسف نبيٌّ ابنُ نبيٍّ ابنِ نبيٍّ، وأنا أبو هريرة ابن أميمة (اسم أمه)، وأخشى ثلاثاً واثنتين. قال: فهلا قلتَ خمسا؟ قال: أخشى أن أقولَ بغير علمٍ، وأقضيَ بغير حكمٍ، وأن يُضْرَبَ ظهري، ويُنْتَزَعَ مالي، ويُشْتَمَ عرضي.

هل يمكن للمنصف أن يفهم من هذه القصة –كما زعم المتحاملون- أن أبا هريرة قد ثبت عنه أنه مدَّ يده إلى أموال المسلمين؟ هل يستقيم هذا مع نتيجة التحقيق الذي أجراه عمر فكانت نتيجته (فنظروا فوجدوه كما قال)؟.

نعم، كان عمر شديداً في محاسبة ولاته والموظفين العموميين الذين يعينهم ويعملون معه، دقيقاً في التطبيق لقانونه الشهير (من أين لك هذا؟)، وربما قاسم الموظف العام أو الأمير ماله، فأخذ النصف وترك له النصف؛ إذا اشتبه الأمر عليه، ولم يكن عنده دليل يدين ذلك الموظف أو الأمير، إلا مجرد الاشتباه، وكان الصحابة لشدة حرصهم وتقديرهم لنزاهة أمير المؤمنين يقبلون ذلك منه عن رضا خاطر، ومع ذلك فهل كان عمر سيدعو أبا هريرة مرة أخرى ليوليه لو ثبت له أن أبا هريرة ابتلي بشيء من هذا السوء؟ ولو كان أبو هريرة طامعاً في منصب أو غيره هل كان سيرفض ذلك الأمر، وهل كان يسوق هذه المبررات الدالة على كمال الورع وكمال الوعي والفقه؟.

5 - هل توقف أبو هريرة عن التحديث تحت وطأة الضغوط والتكذيبات من عمر ومن الصحابة

استدل القائلون بتوقف أبي هريرة عن التحديث في أيام عمر بروايات لا أصل لها، وما صح منها فلا دلالة فيه على ما ذهبوا إليه، وهاك ما احتجوا به واستندوا إليه؛ لترى هل امتنع أبو هريرة من التحديث في زمان عمر، وهل توقف عن التحديث نتيجة تكذيبات الصحابة له أوْ لا:

1 - أخرج ابن عساكر عن محمد بن عجلان أن أبا هريرة كان يقول: «إني لَأُحدِّث أحاديثَ لو تكلمتُ بها في زمان عمرَ أو عند عمرَ لشجَّ رأسي».

هذا أثر ضعيف؛ لأن محمد بن عجلان لم يلقَ أبا هريرة(ص) ، ولم يسمع منه، فالقصة غير صحيحة، ولا يصح العمل بها.

2 - وأخرج ابن عساكر عن يزيد بن يوسف، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول : «ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله (ص) ، حتى قُبِض عمر»

قال أبو سلمة: فسألته: بِمَ؟ قال: كنا نخاف السياط. وأومأ(يعني أشار) بيده إلى ظهره.

وهذا أيضاً ضعيف؛ لأن يزيد بن يوسف الرحبي وصالح بن أبي الأخضر ضعيفان، فلا حجة في هذا، ولا يصح العمل بهذا الإسناد.

3 - وأخرج عبد الرزاق في (جامع معمر)عن معمر، عن الزهري، قال: قال أبو هريرة: لما ولي عمرقال: «أَقِلُّوا الروايةَ عن رسول الله (ص) إلا فيما يُعْمَل به»، قال: ثم يقول أبو هريرة : «أفإن كنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذاً لألْفيتُ المِخْفَقَةَ ستباشر ظهري».

هذا أيضا ضعيف؛ لأن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري لم يلق أبا هريرة ولم يسمع منه، فإنه ولد في مكة بعد سنة إحدى وخمسين، ويقال إنه ولد في السنة التي توفي فيها أبو هريرة، فسند القصة منقطع، ولذلك فلا يصح الاحتجاج بهذا الأثر.

أبو هريرة يحدث بحضرة عمر ولا يتهيب الحديث وإن خالفه عمر أو استغربه:

ها هو أبو هريرة يحدِّث بين يدي عمر وغيره من الصحابة، ويستغرب عمر حديثه، لكنه لا يملك إلا قبوله ثقةً بصدق أبي هريرة، جميعا، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي هريرة قال: افْتَخَرَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: النِّسَاءُ أَكْثَرُ فِي الْجَنَّةِ من الرِّجَالِ. فَنَظَرَ عُمَرُ بن الخَطَّابِ إِلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ: أَتَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ أبو هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسَولَ اللهِ ^ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالثَّانِيَةُ وُجُوهُهُمْ كَأَضْوَإِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ الجِلْدِ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ».

فهل يصح بعد ذلك أن نقول: إن أبا هريرة كان لا يحدث في زمن عمر، أو إن عمر كان يمنعه من التحديث، أو يهدده إن لم يمتنع من التحديث.

كل الصحابة ومنهم أبو هريرة يدققون فيما يحدثون به:

مع ذلك فلا خلاف بين أهل العلم أن عمر كان يدعو إلى التقليل من الرواية لأسباب سبق ذكرها، وأنه كان يدعو إلى عدم التحديث بما يثير الفتن، وعدم الانشغال بما لا يتعلق به عمل، بل ربما ضرب الساعي في السؤال عن المتشابه وما لا ينبني عليه عمل، وليس هذا مجال البسط في هذا الموضوع.

وكذلك كان سائر أصحاب رسول الله ^؛ إذ لا ريب في أن الناس تتفاوت مداركُهم ومعارفُهم، وتتباين ظروفُهم وبيئاتُهم، وأن ما يصلح لفرد أو لطائفة قد لا يصلح لغيرهما، وأن بعضهم قد يقصر عقله عن فهم المقصود ببعض الأخبار، فإذا سمعوها حصلتْ لهم فتنةٌ في أنفسهم، وبعضهم قد يكون سيءَ القصد، فإذا سمع أخباراً معينةً أساء تأويلَها، وحَمَلَها على غير وجهها.

ومن ثَم وجب على المحدِّث أن يراعي ذلك، فلا يحدِّث بما لا تحتمله عقول العوام، وذلك ما تحلَّى به الصحابة، وحَضُّوا عليه، ونبَّهوا إليه:

فقد أخرج البخاري عن علي بن أبي طالب قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ الله وَرَسُولُهُ».

وأخرج مسلم( عن عبد الله بن مسعود قال: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»

وأخرج الرامهرمزي عنه أنه كان يقول: «أكِثروا العلمَ، ولا تضعوه في غير أهله، كقاذف اللؤلؤ إلى الخنازير».

وأخرج الدارمي والطبراني عنه قال: «إِنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ في كُلِّ مَا يُسْتَفْتَى فِيهِ لَمَجْنُونٌ».

ولهذا امتنع أبو هريرة وغيره من الصحابة عن ذكر بعض الأحاديث التي سمعوها من النبي ^ في ظروفٍ خاصة وبصورة خاصةٍ، حتى لا تكون فتحاً لباب فتنة:

فأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ الله (ص) وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ».

وأخرج أحمد بسند صحيح أنه قِيلَ لِأبي هُرَيْرَةَ: أَكْثَرْتَ أَكْثَرْتَ. قَالَ: «فَلَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ (ص) لَرَمَيْتُمُونِي بِالْقِشَعِ وَلَمَا نَاظَرْتُمُونِي».

وفُسِّر القشع في رواية أخرى بالمزابل.

وأخرج أبو نعيم والرامهرمزي عنه أيضا قال: «حفظتُ من رسول الله (ص) خمسة جُرُب، فأخرجتُ منها جرابين، ولو أخرجتُ الثالث لرجمتموني بالحجارة».

ولم يكن أبو هريرة بدعا في ذلك، بل كان هذا سلوكَ الفقهاء العلماء من أصحاب محمد (ص) ، فقد أخرج الطبراني عن حذيفة بن اليمان قال: «وَالله لَوْ شِئْتُ لَحَدَّثْتُكُمْ أَلْفَ كَلِمَةٍ تُحِبُّونِي عَلَيْهَا أَوْ تُتَابِعُوني وَتُصَدِّقُونِي بِرًّا مِنَ الله وَرَسُولِهِ، وَلَوْ شِئْتُ لَحَدَّثْتُكُمْ أَلْفَ كَلِمَةٍ تُبْغِضُونِي عَلَيْهَا وَتُجَانِبُونِي وَتُكَذِّبُونِي».

وبَدَهي أن ما كتمه أبو هريرة وحذيفة وغيرهما من أصحاب النبي (ص) هو مما لا يتعلق بالأحكام الشرعية؛ إذ لا يُعقَل أن يختص النبي (ص) بعض الصحابة بذلك دون بعض، كما أنه ليس من الأخلاق والآداب ونحوها، وإنما هو مما يتعلق ببعض أشراط الساعة، والفتن التي ستحدث في الأمة، ونحو ذلك، مما يمكن أن يكون سببا لشق الصفوف وتفريق الأمة، أو يكون مما يصعب على بعض العقول تصوُّرُه، فتسبق إلى اتهام الراوي له بالخرق والحمق.

وأبو هريرة هنا –كغيره من فقهاء الصحابة- يميز بين ما علَّمه إياه النبي (ص) من معارف وأحاديث يجب أن يعلمها الناس، وبين ما خصه به من أمورٍ لا ينبغي أن تُعرَض على الملأ، كيف وهو الذي روي عن النبي (ص) فيما أخرجه عنه مسلم وأبو داود أَنَّهُ (ص) قَالَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ». وهذا هو عين ما قاله عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وغيرهما أجمعين.

وقال مَالِكٌ لابن وهب: «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلَا يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».

وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن مَهْدِيٍّ: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ مَا سَمِعَ».

فما فعله أبو هريرة -إذاً- ليس كتماً للعلم، ولا تضييعاً للسنن، ولكنه من تمام فقهه وعقله


6 - هل جامل أبو هريرة الأمويين على حساب آل البيت واختلق لهم الأحاديث

قامت فكرة مقالة الأستاذ إبراهيم على فرضية أن أبا هريرة انطلق في الرواية لحساب الأمويين حين تولى معاوية الخلافة، فوجد في أبي هريرة ضالته لاختلاق الأحاديث، للخلاص من أزمة وسمعة قتل آل البيت والدم المسفوك والعرش المغتصب والحرب الضروس!.

وأنا أسأل الأستاذ إبراهيم عدة أسئلة:

(أ) لقد مات أبو هريرة قبل وفاة معاوية، سنة 57 أو 58 هـ قبل أن يتولى يزيد بن معاوية وقبل أن يُقْتَل الحسينُ عليه السلام وأصحابُه من آل البيت وأنصارهم، فمن هو الذي قُتِل من آل البيت في حياة أبي هريرة أو معاوية ليحتاج إلى اختلاق حديثٍ لتبرير قتله للخلاص من أزمة وسمعة قتل آل البيت؟ دُلَّنا على ذلك، دَلَّنا الله وإياك على طريق الحق، وهدانا وإياك سبيل الرشاد.

(ب) أين هي تلك الأحاديث التي احتاجها معاوية لتبرير موقفه فاختلقها له أبو هريرة ؟ ضع يدنا على شيء من تلك الأحاديث، وضع الله عنا وعنك الإصر، وثبَّتنا وإياك على الحق.

ثم ما رأيك في أن معاوية كان يدعو إلى الاقتصار في الحديث على ما كان في عهد عمر، فقد أخرج أحمد بن حنبل في كتاب العلل عن رجاء بن أبي سلمة قال: إن معاوية كان يقول: «عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر، فإن عمر قد كان أخاف الناس في الحديث عن رسول الله (ص) ».

وفي رواية عند ابن عساكر أن معاوية بن أبي سفيان خطب فقال: «يا أيها الناس أقلوا الرواية عن رسول الله (ص) ، وأنتم متحدثون لا محالة، فتحدثوا بما كان يُتَحَدَّث به في عهد عمر، إن عمر كان يخيف الناس في الله».

(ج) إن كان أبو هريرة اختلق أحاديث لمعاوية ولبني أمية كما تزعم فأين كان بقية الصحابة الذين عاشوا تلك الفترة (والذين قلتَ -بغير حق- إنهم كذَّبوا أبا هريرة) من هذه الأحاديث المزعومة؟ ولماذا سكتوا جميعا؟ وأين كانت أم المؤمنين عائشة التي قلتَ -بغير حق- إنها كذَّبت أبا هريرة تكذيباً شديداً؟ ما الذي أسكتها إن كان أبو هريرة قد اختلق شيئا لصالح معاوية؟ هل منعهم جميعا الجبنُ والخوفُ من سيف معاوية ؟ أم منعهم الطمعُ في ذهبه؟ فباعوا جميعا دينهم بدنياهم! أم أن الذي منعهم -بحق- هو يقينُهم بصدق أبي هريرة وأنه لا يمكن أن يتقول على رسول الله ^ ما لم يقله؟

(د) ولئن قلت – كما يقول الرافضة زوراً وافتراءً على الحق– إن أكثر الصحابة مالأوا السلطة الأموية وسكتوا عن الحق، فأين كان السبطان الكريمان سيدا شباب أهل الجنة الحسنُ والحسينُ عليهما السلام من تلك الأحاديث التي تدَّعون أن أبا هريرة اختلقها، وقد عاش الحسنُ عليه السلام إلى ما قبل وفاة أبي هريرة بسنوات، وعاش الحسين عليه السلام إلى ما بعد وفاة أبي هريرة ؟ فلماذا سكتا إذاً عن بيان هذا الاختلاق؟ وهل مارسا التقية المزعومة في هذا الصدد؟!

(هـ) أما قضية العرش المغتصب والحرب الضروس فلمناقشتها مجال آخر غير ما نحن بصدده، ولكني أسأل: ما هو يا ترى التبريرُ الذي قدمه أبو هريرة لينقذ معاوية وبني أمية من أزمة العرش المغتصب والحرب الضروس؟! هل تتفضل بإطلاعنا على وثائقه ومصادره المعتبرة مع بيان موضع الكذب فيه، فنكون لك من الشاكرين والمقدرين؟.

يا سيدي، أفإن افترى بعضُ المجهولين فنسب الزورَ والبهتانَ إلى علمٍ من أعلام الصدق سارعنا بتصديق المجهول في تكذيبه للصدوق؟ أهذا منطق يقبله عقل أولي الألباب؟.

على كل حال - وكعادتي في هذه المناقشة - سأتجاوز هذه الأسئلة لأبين للأستاذ إبراهيم وللقراء الكرام أن الحقيقة كانت على عكس ما افترضه الأستاذ إبراهيم تماما فيما يلي:

(أ) أبو هريرة يحدث بني أمية بما يشتد عليهم وبما فيه نصيحة لهم:

فها هو يحدث مروان بن الحكم الأموي -والي المدينة من قِبَل معاوية، ثم خليفة المسلمين بعد ذلك - بالتخويف من عاقبة سوء التصرف في الإمارة:

أخرج أحمد والحاكم وصححه هو الذهبي(والحاكم بالمناسبة من الأئمة الذين لهم مَيْلٌ إلى التشيُّع لكنه من المنصفين) عنْ يَزِيدَ بن شَرِيكٍ أَنَّ الضَّحَّاكَ بن قَيْسٍ أَرْسَلَ مَعَهُ إِلَى مَرْوَانَ بِكِسْوَةٍ، فَقَالَ مَرْوَانُ: انْظُرُوا مَنْ تَرَوْنَ بِالْبَابِ؟ قَالَ: أبو هُرَيْرَةَ. فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَدِّثْنَا بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله ^. فَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ وُلُّوا هَذَا الْأَمْرَ أَنَّهُمْ خَرُّوا مِنْ الثُّرَيَّا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا شَيْئًا».

قَالَ: زِدْنَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ^ يَقُولُ: «يَجْرِي هَلَاكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ». وفي حديث لأحمد وصححه الحاكم والذهبي: عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ (ص) قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ، وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا يَتَذَبْذَبُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى شَيْءٍ».

ثم ها هو يعظ مروان وهو يبني داره وسط المدينة: فقد أخرج الحاكم عن أبي مريم مولى أبي هريرة قال: مرَّ أبو هريرة بمروان وهو يبني داره التي وسط المدينة، قال: فجلست إليه والعمال يعملون، قال: «ابنوا شديداً وآملوا بعيداً وموتوا قريباً».

فقال مروان: إن أبا هريرة يحدث العمال، فماذا تقول لهم يا أبا هريرة؟ قال: قلت: «ابنوا شديداً وآملوا بعيداً وموتوا قريباً. يا معشر قريش -ثلاث مرات- اذكروا كيف كنتم أمس، وكيف أصبحتم اليوم تُخْدَمون؟ أرقاؤكم فارس والروم، كلوا خبز السميذ(أي المصنوع من أفخر أنواع الدقيق المنقى) واللحم السمين، لا يأكل بعضكم بعضا ولا تكادموا تكادم البراذين(أي لا تتمسكوا بالدنيا وتعضوا عليها كما تفعل الحمير حين تعض الحشيش)، وكونوا اليوم صغاراً تكونوا غداً كباراً، والله لا يرتفع منكم رجل درجة إلا وضعه الله يوم القيامة».

بل إنه يعنف مروان حين رفض دفن الحسن بن علي مع رسول الله ^: فقد أخرج ابن عساكر عن الوليد بن رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: «والله ما أنت والٍ، وإن الوالي لَغَيْرُك، فَدَعْهُ -يعني حين أرادوا أن يدفن الحسن مع رسول الله (ص) ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا رضا مَنْ هو غائبٌ عنك -يعني معاوية-».

قال: فأقبل عليه مروان مُغْضَباً فقال له: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا: أكثر عن رسول الله ^ الحديثَ، وإنما قدم قبل وفاة النبي (ص) بيسير.

فقال أبو هريرة: «قدمتُ -والله- ورسول الله (ص) بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدتُ على الثلاثين سنة سنوات، وأقمتُ معه حتى تُوفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذ مُقِلٌّ، وأصلي خلفه، وأغزو وأحج معه، فكنتُ –والله- أعلمَ الناس بحديثه، قد –والله- سبقني قومٌ بصحبته والهجرة من قريش والأنصار، فكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم عمر بن الخطاب -وهَدْيُ عمر هَدْيُ عمر!- ومنهم عثمان وعلي والزبير وطلحة، ولا والله ما يخفي عليَّ كلُّ حَدَثٍ كان بالمدينة، وكلُّ مَنْ أحب اللهَ ورسولَه، وكلُّ مَنْ كانت له عند رسول الله ^ منزلةٌ، وكلُّ صاحب لرسول الله (ص) ، فكان أبو بكر صاحبَه في الغار، وغيرُه قد أخرجه رسول الله ^ من المدينة أن يُسَاكِنَه(يعني بذلك الحكم والد مروان) فلْيسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه، فإنه يجد عندي منه علماً كثيراً جمّاً».

قال: فوالله إن زال مروانُ يقصر عنه عن هذا الوجه بعد ذلك ويتقيه ويخاف جوابه، ويحب على ذلك أن ينال من أبي هريرة ولا يكون هو منه بسبب، يفرَق (يعني يخاف)من أن يبلغ أبا هريرة أن مروان كان من هذا بسبب، فيعود له بمثل هذا، فكفَّ عنه.

بل إنه يواجه الأمويين في هذا الموقف بما سمعه من النبي (ص) ، وإن خالف هوى بني أمية، فقد أخرج أحمد بسند حسن وصححه الحاكم والذهبي عن أبي حَازِمٍ قال: إِنِّي لَشَاهِدٌ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بن عَلِيٍّ ، فَرَأَيْتُ الحُسَيْنَ بن عَلِيٍّ يَقُولُ لِسَعِيدِ بن الْعَاصِ (والي المدينة يومئذ) وَيَطْعَنُ فِي عُنُقِهِ وَيَقُولُ: تَقَدَّمْ، فَلَوْلَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَا قُدِّمْتَ. وَكَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: «أَتَنْفَسُونَ عَلَى ابْنِ نَبِيِّكُمْ بِتُرْبَةٍ تَدْفِنُونَهُ فِيهَا! وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله (ص) يَقُولُ: « مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي».

فهل يمكن أيها العقلاء بعد هذا كله أن نقول: إن أبا هريرة مالأ بني أمية وسار في هواهم واختلق الأحاديث لهم ليبرر أخطاءهم ويثبت عرشهم (المغتصب!)؟ هل فِعْلُ أبي هريرة هذا هو فِعْلُ شاهدِ الزور يا أستاذ إبراهيم ويا حضرات القراء الكرام؟ إذاً فماذا يُتَصَوَّر أن يفعله ويقوم به مَنْ يعارض الحكم الأموي؟

(ب) أبو هريرة يروي الأحاديث في أصول الحكم الرشيد:

أزيدك يا أستاذ إبراهيم وأزيد السادة القراء حديثاً من مرويات أبي هريرة ؛ لتعلم أيَّ نوع من الرجال كان هذا العلَم الكريم ، فقد أخرج الترمذي عَنْ أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (ص) : «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا».

وهاك حديثاً آخر أنقله لك من مرويات هذا الفقيه العظيم، فقد أخرج الطبراني عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ^: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أُمَرَاءُ ظَلَمَةٌ، وَوُزَرَاءُ فَسَقَةٌ، وَقُضَاةٌ خَوَنَةٌ، وَفُقَهَاءُ كَذَبَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ ذَلِكَ الزَّمَنَ فَلا يَكُونَنَّ لَهُمْ جَابِيًا وَلا عَرِيفًا وَلا شُرَطِيًّا».

ويروي أن إسناد الأمر في الأمة لغير الأكفاء القادرين على القيام به على الوجه المطلوب من علامات الفساد وأمارات الساعة، فقد أخرج البخاري وغيره عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ ^ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَأبي فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ الله ^ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟» قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ». قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ»

فمن يروي هذا يا أستاذ إبراهيم هل يسكت على مَنْ يغتصب العروش، ويسفك الدماء؛ فضلا عن أن يؤلف له ما يبرر هذا الاغتصاب والسفك؟!

هل لديك أنت يا أستاذ إبراهيم أو لدى المتحاملين على أبي هريرة وقائع صحيحة تصدق الادعاء بأنه كان يخترع الأحاديث لتخليص الأمويين من أزمة سمعة قتل آل البيت والدم المسفوك والعرش المغتصب والحرب الضروس (على حد قولك)؟

(ج) أبو هريرة يحب آل البيت ويحدث بمناقبهم:

بل إن إمامنا أبا هريرة –كشأن سائر الصحابة وأئمة الهدى من أهل السنة والجماعة- يدعو لتقدير أهل البيت وإنزالهم منزلتَهم الكريمة التي بوَّأهم الله إياها، ويحدث على الملأ بفضلهم، حتى في وجه من زعم الرافضةُ أنهم خصومُ آل البيت، وقد رأيتَ ما قال لمروان بن الحكم حين رفض دفنَ الحسن عليه السلام مع جده رسول الله ^، وهاك مزيداً من روايات أبي هريرة في فضل آل البيت الأشراف عليهم السلام و جميعا؛ لتعلم كم كان يحبهم أبو هريرة ويقدرهم ويوقرهم:

أخرج البخاري وأحمد وغيرهماعَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله ^ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، فَانْصَرَفَ فَانْصَرَفْتُ، فَقَالَ: «أَيْنَ لُكَعُ؟» ثَلَاثًا «ادْعُ الْحَسَنَ بن عَلِيّ »فَقَامَ الْحَسَنُ بن عَلِيٍّ يَمْشِي وَفِي عُنُقِهِ السِّخَابُ(قلادة من طيب ومسك توضع في عنق الأطفال) فَقَالَ النَّبِيُّ (ص) بِيَدِهِ هَكَذَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ: «اللهمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ»

وَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ بَعْدَ مَا قَالَ رَسُولُ الله ^ مَا قَالَ.

وأخرج الطبراني وصححه الحاكم والذهبي عن سعيد بن أبي سعيد الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ أبي هُرَيْرَةَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بن عَلِيٍّ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمْ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، وَمَضَى، وَأبو هُرَيْرَةَ لا يَعْلَمُ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا حَسَنُ بن عَلِيٍّ يُسَلِّمُ، فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ يَا سَيِّدِي، فَقِيلَ لَهُ: تَقُولُ يَا سَيِّدِي؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنّ رَسُولَ الله (ص) قَالَ: « إِنَّهُ سَيِّدٌ ».

وأخرج أحمد بسند حسن عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله (ص) إِلَى سُوقِ بني قَيْنُقَاعَ مُتَّكِئًا عَلَى يَدِي، فَطَافَ فِيهَا ثُمَّ رَجَعَ، فَاحْتَبَى فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ: «أَيْنَ لَكَاعٌ؟ ادْعُوا لِي لَكَاعًا» فَجَاءَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَاشْتَدَّ (يعني جرى بسرعة) حَتَّى وَثَبَ فِي حِبْوَتِهِ(أي ثوبه الذي يشتمل به)، فَأَدْخَلَ فَمَهُ فِي فَمِهِ ثُمَّ قَالَ: «اللهمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ» ثَلَاثًا.

قَالَ أبو هُرَيْرَةَ : مَا رَأَيْتُ الْحَسَنَ إِلَّا فَاضَتْ عَيْنِي، أَوْ دَمَعَتْ عَيْنِي، أَوْ بَكَتْ.

وأخرج أحمد والبزار وصححه الحاكم والذهبي عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله (ص) وَمَعَهُ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، هَذَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَهَذَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَلْثِمُ (يعني يُقَبِّل) هَذَا مَرَّةً وَيَلْثِمُ هَذَا مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله إِنَّكَ تُحِبُّهُمَا! فَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي».

وأخرج أحمد وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي عَنْ عُمَيْرِ بن إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْحَسَنِ بن عَلِيٍّ، فَلَقِيَنَا أبو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ الله ^ يُقَبِّلُ. قَالَ: فَقَالَ بِقَمِيصِهِ (يعني رفع قميصه) قَالَ: فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ.

وصحح الحاكم والذهبي عن أبي هريرة قال: لا أزال أحب هذا الرجل بعدما رأيت رسول الله ^ يصنع ما يصنع، رأيت الحسنَ في حجر النبي ^ وهو يُدْخِلُ أصابعَه في لحية النبي ^، والنبي ^ يُدْخِلُ لسانَه في فمه ثم قال: «اللهمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ».

وأخرج ابن عساكر عن أبي المُهَزِّم التميمي البصري (يزيد أو عبد الرحمن بن سفيان ) قال: كنا مع جنازة امرأة ومعنا أبو هريرة، فجئ بجنازة رجل فجعله بينه وبين المرأة، فصلى عليهما، فلما أقبلنا أعيا الحسينُ (يعني تعب) فقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال الحسين: يا أبا هريرة، وأنت تفعل هذا؟ قال أبو هريرة: «دعني، فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم».

فمن يَرْوِي ويُروَى عنه هذا كله هل يقال عنه: إنه يختلق الأحاديث ليخلص الأمويين من أزمة سمعة قتل آل البيت؟!.


محاولات النيل من أبي هريرة ليست وليدة اليوم

ذكر الأستاذ إبراهيم أن أبا هريرة كان محل تشكيك في رواياته ومحل تكذيب من بعض الصحابة بسبب كثرة مروياته، وكان يجدر بالأستاذ إبراهيم أن يكون منصفا وأن يبين من هم الذين شككوا في كثرة مرويات أبي هريرة؟ وماذا كانت دوافعهم في هذا التشكيك؟ وكيف ردَّ أبو هريرة عن نفسه، وكيف ردَّ عنه الصحابة والعلماء المنصفون من بعدهم، وقد بيَّنْتُ فيما سبق جانباً من تقدير كبار الصحابة لأبي هريرة وتوثيقهم له، كما أشرتُ إلى جانب من ردِّ أبي هريرة على من عابوا كثرة رواية ولوحوا بالتشكيك في كثرة مروياته.

وأحب هنا أن أقول: إن محاولات التشكيك في أبي هريرة لم تنقطع، من قِبَل كثيرين على مدار التاريخ الإسلامي، وإن تفاوتت دوافعها من وقت لآخر ومن شخص لآخر، بسبب انتمائه الطائفي أو الفكري، لكن يجمعها جميعاً أنها مطاعن مكررة، يتم ردها وبيان زيفها، ثم يعيد خصوم أبي هريرة اجترارها وإنتاجها بين الحين والحين، ويقدم كل جيل من الطاعنين نفسه وكأنه اكتشف ما غاب عمن سبقوه، وهو في الحقيقة ليس إلا ناقلاً لهذه الشبهات، و ناظراً بعين واحدة للمطاعن، ومغمضا العين الأخرى عن الردود القوية الكاشفة لزيفها، أو جاهلاً بتلك الردود، وهو في كل الأحوال خلاف ما يقتضيه الإنصاف والبحث النزيه.

قال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في التعليق على الطاعنين في أبي هريرة، فيما نقله عنه الإمام الحاكم:

«وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره مَنْ قد أعمى الله قلوبَهم فلا يفهمون معاني الأخبار:

إما مُعَطِّلٌ جَهْمِيٌ يسمع أخبارَه التي يرَوْنَها خلافَ مذهبهم الذي هو كُفْرٌ فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزَّهه عنه؛ تمويهاً على الرعاع والسِّفْل أن أخباره لا تثبت بها الحجة.

وإما خارجيٌّ يرى السيفَ على أمة محمد ^، ولا يرى طاعةَ خليفةٍ ولا إمامٍ، إذا سمع أخبار أبي هريرة عن النبي (ص) خلافَ مذهبهم الذي هو ضلالٌ لم يجد حيلةً في دفع أخباره بحجة وبرهان؛ كان مفزعُه الوقيعةَ في أبي هريرة.

أو قَدَرِي(يقصد بالقدرية هنا المعتزلة) اعتزل الإسلامَ وأهلَه وكفَّر أهلَ الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي ^ في إثبات القدر لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التي هي كفر وشرك؛ كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هرير لا يجوز الاحتجاج بها.

أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانِّه، إذا سمع أخبارَ أبي هريرة فيما يخالف مذهبَ من قد اجتبى مذهبَه وأخبارَه تقليداً بلا حجة ولا برهان؛ تكلم في أبي هريرة ودفع أخباره التي تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه.

وقد أنكر بعض هذه الفِرَق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها».

ثم ذكر الإمام ابن خزيمة بعض تلك الأخبار التي لم يفهما بعض تلك الفرق عن أبي هريرة فطعنوا فيه لأجلها، وبيَّن وجه الحق فيها.

وأنا هنا سآتي بنموذج يؤكد ما قاله إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله، فالمعتزلة طعنوا في أبي هريرة وقبلوا من رواياته ما يوافق مذهبهم وردوا ما لا يوافق مذهبهم، وهذا منطق غير منصف ولا عادل، فالعبرة بسلامة النقل لا بموافقة المنقول لهوى هذا أو ذاك.

نقل القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزليأن البركاني سأل أبا علي الجُبائي المعتزلي فقال: ما تقول في حديث أبي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ ^,: «لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلا عَلَى خَالَتِهَا»؟ فقال أبو علي: هو صحيح.

قال البركاني: فبهذا الإسناد نقل حديث «حَجَّ آدَمُ مُوسَى».

فقال أبو على: هذا الخبر باطل. فقال البركاني: حديثان بإسنادٍ واحدٍ، صححتَ أحدَهما وأبطلتَ الآخر؟.

قال أبو علي: لأن القرآنَ يدل على بطلانه وإجماعَ المسلمين ودليلَ العقل. فقال: كيف ذلك؟ قال أبو علي: أليس في الحديث أن موسى لقي آدم في الجنة، فقال: يَا آدَمُ أَنْتَ أبو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، فعصيته؟ فقال آدم: يا موسى، أترى هذه المعصية فعلتُها أنا أم كتبها الله عليَّ قبل أن أُخْلَق بألفي عام؟ قال موسى: بل شيء كان كُتب عليك. قال: فكيف تلومني على شيء كان قد كُتب عليَّ؟ قال: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.

قال أبو عليّ للبركاني: أليس هو الحديث هكذا؟ قال: بلى. قال أبو على: أليس إذا كان هذا الحديثُ عذراً لآدم يكون عذراً لكل كافرٍ وعاصٍ من ذريته، وأن يكون مَنْ لامَهُم محجوجاً؟ فسكت البركاني.

وهذا التعقيب الأخير (فسكت البركاني) لا يعني بحال من الأحوال أنه اقتنع بقول الجبائي، إذ ليست هذه الإجابة في الحقيقة بمقنعة، بل فيها كثير من التشويش والتشويه، فأين دليل القرآن وإجماع المسلمين الذي ذكر الجبائي أنه يدل على بطلان الحديث؟ إنك لا ترى إلا تعليلاً عقلياً سقيما، لا يستقيم أمام منطق الحق. وغاية ما أراد أبو علي الجبائي أن يقوله: إنه لو ساغ لآدم أن يحتج بالقدر لساغ لبنيه كذلك أن يعتذروا به عن المعاصي والفواحش، وهذا يفضى إلى انسداد باب الحدود والقصاص، وإغلاق باب الثواب والعقاب، وغير ذلك من اللوازم القطعية العقلية.

والحقيقة أن «معنى كلام آدم: أنك يا موسى تعلم أن هذا كُتب عليَّ قبل أن أُخلَق، وقُدِّر عليَّ، فلابد من وقوعه، ولو حرصتُ أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ ولأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجا بالشرع.

فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدَّرها الله عليَّ؛ لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، وإن كان صادقا فيما قاله؟ فالجواب: أن هذا العاصي باقٍ في دار التكليف، جارٍ عليه أحكامُ المكلَّفين، من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفى لومه وعقوبته زجرٌ له ولغيره عن مثل هذا الفعل، وهو محتاجٌ إلى زجرٍ ما لم يَمُتْ. فأما آدم فميتٌ خارجٌ عن دار التكليف، وعن حاجة إلى الزجر، فلم يكن في القول المذكور له فائدة، بل وفيه إيذاء وتخجيل، والله أعلم» .

وبمثل منطق الجبائي تعامل المعتزلة مع النصوص، فحاكموها إلى القواعد العقلية التي اخترعوها، وإلى المبادئ التي جعلوها أساسا لمذهبهم في التفكير، ومن ثم ردوا من أحاديث أبي هريرة ما لا يوافق هذا المنطق الاعتزالي، ولجأوا إلى الطعن في أبي هريرة.

وبمثل هذا انطلق الروافض في تجريح أبي هريرة حين لم يجدوا مروياته مساندة لباطلهم، وكذلك من ينظرون إلى السنة بحسب الاستحسان العقلي الذي قد يختلف من شخص لآخر، وغاب عن هؤلاء أن العبرة بثبوت الحديث عن النبي (ص) لا بموافقة الأهواء الشخصية، فإذا ثبت أن النبي ^ قال شيئا أو أخبر عن شيء فهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، ولنا أن ننظر في المعاني والمقاصد لنتبين ما يوافق منها أصول الشريعة فنحمل الحديث عليه، وما لا يوافقها من تلك المعاني والمقاصد فننصرف عنه. وعلى هذا جرى اختلاف العلماء المخلصين الصادقين من أئمة المذاهب الإسلامية المعتبرة، فإنهم متى ثبت عندهم صحة النقل عن رسول الله ^ قبلوا الحديث، وربما اختلفوا بعد ذلك حول معناه ومقاصده وما يستنبط منه من أحكام.


أحد المستهزئين بأبي هريرة ورواياته

أسوق في ختام هذه المناقشة التي أرجو أن تكون نافعة ومفيدة صورةً مما تعرض له أبو هريرة (ص) من الظلم والاستهزاء، وكيف ردَّ الله عنه، وإني لأرجو بهذه المناقشة أن أكون ممن ردَّ الظلم عن هذا الصحأبي الجليل والسيد النبيل، وأسأل الله أن يجمعني به مع الحبيب المصطفى والنبي المجتبى ^ يوم العرض واللقاء.

أخرج ابن حبان( وغيره عَنْ أبي رَافِعٍ، أن فتى من قريش أتى أبا هُرَيْرَةَ، فقال: يا أبا هُرَيْرَةَ، إنك تكثر الحديث عن رسول الله (ص) ، فهل سمعتَه يقول في حُلَّتِي هذه؟ فقال: لولا ما أخذ الله عليَّ في الكتاب ما حدثتُكم بشيء، سَمِعْتُه (ص) يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَبَخْتَرُ، إِذْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ».

وأخرج أحمد والطيالسي عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِي قَالَ: بَيْنَا أبو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى أبي هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ، فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَهُ، فَجَعَلَ يَمِيسُ (أي يتبختر) فِيهَا، حَتَّى قَامَ عَلَى أبي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَلْ عِنْدَكَ فِي حُلَّتِي هَذِهِ مِنْ فُتْيَا؟(عند الطيالسي: فقال: ما تقول في سَبَلِ إزاري؟ أو في جَرِّ إزاري؟) فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ خَلِيلِي أبو الْقَاسِمِ ^ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ بُرْدَيْنِ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ الْأَرْضَ فَبَلَعَتْهُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». اذْهَبْ أَيُّهَا الرَّجُلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وأخرج الدارمي عَنِ الْعَجْلاَنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ (ص) قَالَ:«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِى بُرْدَيْنِ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». فَقَالَ لَهُ فَتىً قَدْ سَمَّاهُ وَهُوَ فِى حُلَّةٍ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَهَكَذَا كَانَ يَمْشِى ذَلِكَ الْفَتَى الَّذِي خُسِفَ بِهِ؟ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَعَثَرَ عَثْرَةً كَادَ يَنْكَسِرُ مِنْهَا، فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: لِلْمَنْخَرَيْنِ وَلِلْفَمِ "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ".

فأبو هريرة لم تأخذه العزة بالإثم إذ استهزأ به هذا الفتى السفيه، بل أنزله منزلة الحكيم (كما يقول البلغاء) وأجاب عن سؤاله، وروى له ما سمعه من النبي ^ فلما تمادى الفتى في استهتاره عاقبه الله تعالى بما جاء في هذه القصة، وهو ما أسأل الله أن ينزهني وإخواني وأحبتي عنه وأن يحفظني وإخواني وأحبتي منه.

رحم الله أبا هريرة ورضي عنه وعن صحابة رسول الله (ص) أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.