هؤلاء يصنعون التاريخ

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

هؤلاء يصنعون التاريخ

مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا(الأحزاب :23)

الإمام الشهيد حسن البنا أحد عظماء القرن الماضى

كلما عصفت بي زعازع الشك, واستولت علي كياني لحظات حزن أليم, عدت إلى تاريخ الأمة, فأجدها قد تعثرت من قبل كثيرا, وأصابتها الضربات الموجعات, لكن وضوح عقيدتها, وصدق ولائها, وعمق انتمائها لدينها, كان ينهضها دائما لتستعيد قوتها, وتستأنف المسير .


واليوم أرى سهام الكفر تصوب إلى جهاز المناعة في جسد الأمة, وتستهدف عقيدتها, وتغتال دينها وتصيب عزتها وكرامتها, حتى لا تجد الأمة ما تستنفره إن دعا الداعي, وجد الجد ودق النفير .


لقد انكسرت الأمة انكسارةً قاسية - من قبل- وأوشكت معها أن تسقط هيبتها, وتضيع هويتها, وتصبح في ذمة التاريخ ،عندما طغي على الأمة طوفان التتار الكاسح, يجرف أمامه- بوحشية مدمرة ساحقة- كل مظهر من مظاهر الحياة. وقد بلغت وحشيته حدا أذهل العقول وحير الألباب, وبرغم فظاعة ما وقع فقد وجدت الأمة من يستجمع قوتها ويستنفر عقيدتها, ويخاطب فيها رصيدها العظيم من الإيمان واليقين .


وإذا كان الجمع قد أدرك, مأساة السقوط واستنكر بشاعتها فإن القليل من الناس هم الذين أدركوا أن عاصمة الخلافة لم تسقط يوم بدأت هجوم التتار عليها, وإنما سقطت يوم بدأت قصور الخلفاء تعج بالموسيقي وتصدح بالغناء, وتسهر إلى الصباح على صوت غانية وكأس أثيم لقد بدأ الفساد في العاصمة بغداد, في قصور الخلفاء والأمراء حتى أصبح أمرا مألوفا لا ينكره أغلب الناس, سواء شاركوا فيه أم لم يشاركوا, ولكن بقية الأمة الإسلامية لم تكن متأثرة بهذا الفساد المحلي في بادئ الأمر, لأنها كانت ما نزال تمارس الإسلام بالجدية التي يقتضيها الإيمان بدين الله .


ثم أخذ الفساد يمتد من العاصمة إلى الأقاليم, وتلك سنة ربانية تجعل الفساد يظهر في الأرض حين يتقاعس الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو ما كان حادثا في المجتمع العباسي : ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم : 41).

حين لا يرجعون يظل الفساد ينتشر ويتأصل حتي يحدث الانهيار.

إن الناس لا يذكرون من أحداث التاريخ - غالبا - إلا لحظات الذروة, وذروة الانتصار بقيام دولة أو حضيض الانكسار بسقوط أخرى أما ما سبق لحظة الانتصار من إعداد, وتخطيط, وتدريب وتدبير, وما بذله العلماء من تربية وتعليم وتأديب وتهذيب, وما قدمه الأدباء والشعراء من إلهاب للمشاعر, وإثارة للوجدان, وشحذ للهمم, وترغيب وترهيب - فإن ذلك كله ينسي أمام وهج اللحظة التي يعلن فيها عن ميلاد دولة وانتصارها أو عن سقوط دولة انكسارها وكما ينسي الناس عوامل الانتصار, ينسون أيضا عوامل الانهزام فيلقون باللائمة على آخر أفراد أسرة حاكمة أو آخر حاكم في مملكة آخذة في الانحطاط, وينسون أن الدولة أو المملكة أو الأمة, كانت قد وصلت إلى آخر نقطة الانحلال والتدهور وأن الفساد قد تفاقم والكأس قد طفحت, ولم يبق هناك من يحول بين هذه الدولة وبين نهايتها الأليمة, والتي كان يفرضها قانون السماء, وتقتضيها طبائع الأشياء .


ويوم بدأ الانحراف في مسيرة الدولة الإسلامية في العصر الأموى, تذكر الناس دور الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الذي جاء فأوقف هذا العبث الشائه, ورد الأمة إلى طريقها الصحيح, لكنهم نسوا في غمرة الثناء على الخليفة الزاهد دور أستاذه " رجاء بن حيوة " الذي صنع للأمة عمر بن عبد العزيز عندما قام على تربيته وتأديبه, ثم مازال بعمه سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين - كان - رجاء بن حيوة مقربا منه وأثيراً لديه- فحسن له استخلاف عمر بن عبد العزيز من بعده فكان أيمن عمل عرفته دولة الإسلام وأطيب مشورة على بركة الإسلام والمسلمين.


ويذكر الناس جميعا انتصار المسلمين في "حطين" ويعترفون بالفضل للمجاهد العظيم "صلاح الدين الأيوبي" لكن القليل من الناس من يذكر فضل سيده ومعلمه "نور الدين محمود" الذي أشربه حب الفروسية, وتعشق الجهاد, والغيرة الشديدة على الإسلام, وأنه هو الذي أرسله على جيش لإنقاذ مصر من عبث الوزيرين "شاور وضرغام" ومن حقد الصليبيين الذين جاءوا بدعوة من أحد الوزيرين الفاسدين .


وإذا كانت الدنيا كلها تذكر بالثناء والفخر بطل الإسلام العظيم "سيف الدين قطز" وتتنسم في شوق لهيف نسمات العزة والإباء في "عين جالوت" فإن القليل من الناس من يعلمون دور العالم المجاهد عز الدين بن عبد السلام, عندما رأي سفينة الأمة تجنح إلى الغرق, لأن دفتها بيد صبي عابث غرير لا يحسن أمور عظيمة مستهدفة في دينها وعقيدتها من التتار فما كان من الإمام الغيور إلا أن دعا إلى اجتماع حضرة علماء الأمة وكبار أمرائها, وانتهز فرصة وصول الصاحب "كمال الدين بن العديم" سفيرا من قبل السلطان الناصر ملك دمشق, يستنجد بأهل مصر على التتار, وتقدم الرجل بسؤال يذكر فيه أمر هولاكوا, واستيلائه على البلاد ووصوله إلى حلب, وأن بيت المال خال من الأموال, والسلطان صغير السن, وأن الوقت محتاج إلى سلطان كبير يخشاه الناس ويدفع العدو .


يقول بن إياس : "وكان المشار إليه في ذلك المجلس شيخ الإسلام العز بن عب السلام"ويقول ابن تغري بردى : "وأفاضوا في الحديث فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام" سيف الدين قطز وهو الوصي على الملك الصغير "المنصور على" ابن المعز أبيك فتقدم إليه الإمام ابن عبد السلام وبايعه سلطان على المسلمين فبايعه الحاضرون جميعا فكان هذا الموقف العظيم سببا في نصر الإسلام وكسر شوكة الكفر التتري في "عين جالوت" .


وإذا كان الناس يذكرون الظاهر بيبرس ويذكرون شدته على الصليبيين, وتطهيره سواحل الشام من حصونهم وقلاعهم, فإن القليل هم الذين يدركون شدة وبطشه وعدم تورعه عن سفك الدماء حتي كتبت عنه الأساطير وقال عنه الإمام الذهبي : "إنه جدير بالملك لولا ما فيه من الظلم" لكن الإمام النووي كان يستشعر أمانة حماية حقوق الناس وأموالهم حتي وإن كان المعتدي عليه هو السلطان الظاهر"بيبرس" ولهذا كثرت مواقف الإمام النووي في مواجهته وكان آخرها هذا الموقف الذي نحسن فيه التجرد الكامل لله - عز وجل- يقول الإمام السيوطي "لما خرج السلطان الظاهر بيبرس إلى قتال الصليبيين في الشام, أخذ فتوي العلماء بأنه يجوز له أخذ مال من الرعية, لتستنصر به على قتال العدو فكتب له فقهاء الشام بذلك, فقال : "هل بقي أحد؟ فقيل : نعم بقي الشيخ "محيي الدين النووي" فطلبه فحضر, فقال : ما سبب امتناعك؟ فقال : أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار, وليس لك مال, ثم من الله عليك وجعلك ملكا, وسمعت أن عندك ألف مملوك, كل مملوك له حياصه من ذهب،وعندك مائتان جارية, لكل جارية حق من الحلي, فإذا, أنفقت. ذلك كله, وبقيت ممالكيك بالبنود والصوف وبقيت ا لجواري بثيابهن دون الحلي أفتيك بأخذ المال من الرعية فغضب الظاهر من كلامه وقال: "أخرج من بلدى - يعني دمشق - فقال : السمع والطاعة وخرج إلى قريته "نوى" فقال الفقهاء :إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا, ممن يقتدي به, فأعده إلى دمشق, فرسم برجوعه, فامتنع الشيخ, وقال :"لا أدخلها والظاهر فيها, فمات الظاهر بعد شهرين" .


وتاريخنا الإسلامي حافل بمواقف المخلصين الصادقين, الذين يصنعون التاريخ بهذه المواقف العظيمة وستظل أمتنا بحاجة دائمة إلى أن تذكر أمثال هؤلاء العظماء حتي تبعث في قلوب أبنائها تعشق البطولة والتعرف على مواقف البطولة الحقة, التي وقفها عظماؤنا فصانوا لها شريعتها وحفظوا لها تراثها, وحرسوا لها دينها العظيم .


وإذا كانت الأمة اليوم تعاني مخاضا عسيراً للوصول إلى إعادة الإسلام إلى الأرض منهاجا ودستورا بعد مؤامرة عليه دامت قرنا كاملا وأوشكت أن تقضي عليه قضاء مبرما بعد أن نجحت مؤامرات اليهودية والصليبية أن تثخنه بسهامها القاتلة القاسية وأوشكت أن تبلغ منه المقتل بعد أن تمكنت من إسقاط الخلافة, وتغريب الثقافة, وتعطيل الشريعة, وتمييع العقيدة, إفساد الإعلام والتعليم. وإذا كانت المؤامرة قد فشلت أن تقضي على هذه العقيدة فرأينا المقاومة الإسلامية تنبعث ماردا جبارا في مواجهة مؤامرات الكافرين فإننا ينبغي ألا ننسي جهود المخلصين الأخيار, الذين استشعروا أمانة الكلمة وجسامة المسئولية, فقاموا بها عند حاجة الأمة إليهم, ولم يبخلوا على أمتهم بدمائهم وأرواحهم .


ومن منا لا يذكر الإجلال والإكبار جهاد أبناء الأمة طيلة القرن الماضي, الذين أدركوا أن الخطر يستهدف عقيدتهم وهويتها, ويتآمر على دينها وشريعتها, وقطعها عن تراثها وأخلاقها فقاموا ينافحون عن الفكرة الإسلامية ويحرسن هوية الأمة من الضياع, وستميتون من أجل استقلالها في مجالاتها جميعا من أمثال مصطفي كامل وزميل كفاحه محمد فريد ومحمد طلعت حرب في مجال الاقتصاد وفي مجال الفكرة الإسلامية لن تنسي الأمة جهود أبنائها الأبرار جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا وحسن البنا ومحب الدين الخطيب والأمير شكيب أرسلان ومصطفي صادق الرافعي والشيخ محمد الغزالي وعشرات آخرون ممن أفنوا أعمارهم لخدمة أمتهم وحراسة دينها العظيم .


إننا نعد القيام برد الهجمة الغربية الشرسة وحماية هوية الأمة من الضياع فريضة شرعية وضرورة وطنية, بل إننا نعده أرجي عبادة, وأقدس جهاد يؤديه عقلاء الأمة, في هذا الزمان .


ولقد تابعت بإعجاب بالغ وارتياح عظيم الدراسة الجادة والعمل الجسور, الذي قدمه الناقد الكبير الدكتور عبد العزيز حمودة في حلقاته الثلاث : "المرايا المحدبة , والمرايا المقعرة , والخروج من التيه" كاشفا في حلقته الأولي مدى عمق الهوة التي تردت فيها الحركة النقدية العربية منذ بداية سبعينات القرن الماضي عندما خلط بعض المثقفين العرب بين الرغبة في تحديث العقل العربي بعد الهزيمة العسكرية سنة 1967وبين الحداثة , وفي الحلقة الثانية وضع ناقدنا الكبير معالم لنظرية نقدية عربية تقوم على الاتصال الكامل بالآخر الثقافي مع التمسك بجذورنا الثقافية رافضا في قوة وحسم وجسارة ثنائية الانبهار بكل إنجازات العقل الغربي, والاحتقار لكل إنجازات العقل العربي, وهذا الانبهار الذي وصل بأصحابه إلى العجز عن إدراك حقيقتين هما :


الاختلافات الأساسية بين حداثة أفرزها واقع حضاري وثقافي غربي, وبين الثقافة العربية بكل عمقها الحضاري والروحي .


والحقيقة الثانية : التي لم يلتفت إليها من انبهروا بالحداثة الغربية, هو خطر الوقوع في التبعية الثقافية, وهو ما حدث وهو ما كان يخطط له الغرب منذ بدأ نجم اليمين في الصعود في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أواخر السبعينات ويحذر الرجل أهله وبني أمته من غول "الثقافة المهيمنة" التي جاءت بدلا من "الثقافة العالمية" التي وعدنا بها، والتي يحاولون فرضها على أمم الأرض جميعا باسم العولمة. تلك الثقافة التي لن تستريح حتى تبلع ثقافتنا الإسلامية وأصولنا الحضارية ولكننا على يقين من قول ربنا سبحانه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ(الصف :8).