نظام السلم والحرب في الإسلام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
نظام السلم والحرب في الإسلام

بقلم : مصطفى السباعي

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله وصحبه اجمعين .

وبعد، فهذه احدى محاضرات الدكتور مصطفى السباعي عن الاسلام واهدافه، وهى من سلسلة المحاضرات التى القاها فى اندية لبنان العلمية، فاحدثت اثرا قويا تردد صداه بين مختلف المواطنين، اذ كان فتحا جديدا فى عالم الدعوة الى الاسلام بأسلوب علمى اخاذ، أعجب اهل العلم، وطرب له أنصار الحق، واستجاب له المؤمنون المخلصون .

والدكتور السباعى ليس غريبا عن هذه المباحث، فهو يحمل ارقى شهادة فى التشريع الاسلامى من اكبر جامعة اسلامية فى العالم (الدكتوراه فى التشريع الاسلامى واصوله وتاريخه من الأزهر)، وهو استاذ الشريعة الاسلامية فى كلية الحقوق بالجامعة السورية سابقا، والمراقب العام للاخوان المسلمين فى بلاد الشام، هذا عدا انه كان نائب رئيس المجلس النيابى السورى السابق.

وهذه المحاضرة- نظام السلم والحرب فى الاسلام - القاها الدكتور السباعى فى ندوة دار الايتام الاسلامية فى بيروت، بدعوة من اللجنة النسائية للهيئة العليا لدار الايتام، مساء الجمعة الواقع فى 3 من شعبان سنة 1372 الموافق 17 من نيسان 1953، وقد كان لها اثر بالغ فى جمهور المستعين، حتى ان فريقا كبيرا منهم وبعضهم اساتذة فى الجامعات العليا، رغبوا بطبعها وتوزيعها لما تضمنته من حقائق يجهلها كثير من المثقفين، عدا عما تضمنته من تصحيح لكثير من الأخطاء الشائعة فى البيئات العلمية والدينية البعيدة عن الاسلام.

واستجابة لهذه الرغبة بادرنا الى طبع هذه المحاضرة، راجين ان نكون بذلك قد ادينا خدمة للحق والعلم والسلم فى عصر عصفت فيه رياح الشر والحرب، حتى اورثت العالم هما مقيما، وقلقا مبيدا.

بيروت 1 من محرم 1372 - الموافق 4 من ايلول 1953
لجنة الطلاب الجامعيين
فى عباد الرحمن

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

ايها السادة والسيدات

لعل من غريب المصادفات وجميلها ان اتحدث اليكم عن السلم والحرب فى الاسلام، فى اليوم الذى تحتفل فيه سوريا بعيد الجلاء الاجنبى عن اراضيها، والجلاء نهاية صراع مرير رهيب بين ابناء البلاد والمستعمرين الراحلين، كان له كل مظاهر الحروب من قتل وتشريد وتخريب. والعالم اليوم قلق حائر، ما كاد يهلل طربا لانتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى بدات الحروب فى جبهات اخرى تكوى بنارها شعوباً ودولاً، والدول الكبرى كلها تتحدث عن السلم وتعلن رغبتها فيه، ولكنها تتسابق فى التسلح الى حد جعل نهاية هذه الحضارة رهنا ببضعة قنابل ذرية وهيدروجينية تلقيها هذه الدولة او تلك.. وهكذا يعيش الناس الان فى جو الحرب بقلقها واضطرابها والخوف من مصائرها، وان لم يعيشوا بنارها ودخانها وقنابلها ومدافعها.

ومما لا ريب فيه عندى ان مشكلة العالم اليوم مشكلة نفسية قبل اى شىء، مشكلة قائمة فى نفوس القادة الذين يرأسون الدول الكبرى، وفى نفوس الساسة الذين يلتفون حولهم، وفى نفوس الشعوب التى تخضع لهم وتسير بارادتهم..

والمشاكل النفسية يجب ان تعالج فى جو نفسى، والعقائد هى اكبر العوامل النفسية فى توجيه الافراد والجماعات، ومن هنا تبرز قضية الاديان فى هذا العصر كأسلحة فعالة لمعالجة هذا العالم المريض، ورد الطمانينة والحب والتعاون الى نفوس الافراد والحكام والجماهير..

موقف المسيحية من السلم والحرب

لقد عالجت المسيحية مشكلة السلم والحرب فى حياة السيد المسيح وحياة رسله وتلامذته من بعده علاجا روحيا خلقيا، فدعت الى الحب. وزهّدت فى المال والزينة وكل ما يؤدى الى اقتتال الناس وخصامهم . لقد قال السيد المسيح عليه السلام : طوبى لصانعى السلام لانهم ابناء الله يدعون ولم يكن المسيح عليه السلام حين اوصى اتباعه بقوله : "احبوا اعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا الى مبغضيكم، وصلوا لاجل الذين يسيؤن اليكم لكى تكونوا ابناء ابيكم الذى فى السموات، فانه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين، ويمطر على الابرار والظالمين" لم يكن حين امر اتباعه بهذا الا صانعا للسلام، عاملا على مكافحة الحقد والبغضاء وهى من اكبر اسباب الحروب بين الافراد والامم.

ولكن السيد المسيح لم يكن ليقف عند الدعوة الى السلم موقف وعاظ المعابد يفتحون عينا ويغمضون عينا اخرى، ففى الدنيا نفوس لا تهنا بالسلام، ولا تستلذ طعمه، بل هى تاكل وتعيش بالظلم والعدوان وايقاد نار الحروب، وعلى هؤلاء اعلن السيد المسيح حربا لا هوادة فيها حين قال : " لا تظنوا انى جئت لالقى سلاما على الارض، ما جئت لالقى سلاماً بل سيفاً 4 "جئت لالقى نارا على الارض"5، " من له كيس فلياخذه، ومن ليس له فليبع ثوبه وليشتر سيفا"

هنالك فى قوله : " احبوا اعداءكم" نداء بالسلام كنظام دائم تعيش عليه الامم والشعوب، وهنا فى قوله : " وليشتر سيفا"، انذار بالحرب لمن يعكرون السلام، ويفسدون فى الارض، ويعملون على حرمان الجماهير من حرية العقيدة ونعمة الامن والحب والهناء.. وهكذا اعلن المسيح الحرب على من يعملون للحرب، وبشّر بالسلام بين اولئك الذين لا يريدون علوّا فى الارض ولا استكبارا.

موقف الاسلام

اما الاسلام فأول ما يلاحظ فيه اشتقاق اسمه من مادة " السلام" والاسلام والسلام من مادة واحدة، وليس الاسلام الا خضوع القلب والروح والجسم لنظام الحق والخير، واستسلام المسلم لمالك الامر فى الدنيا والاخرة.. لله رب العالمين.

ومن اسماء الله فى القرآن " السلام" :{ هو الله الذى لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن} ومن هنا كثر فى المسلمين اسم "عبد السلام" وهى ظاهرة لا توجد فى غير المسلمين.

وتحية المسلمين حين يلقى بعضهم بعضاً : " السلام عليكم ورحمة الله" وهى تحية المسلم لنبيه فى الصلاة : " السلام عليك ايها النبى ورحمة الله وبركاته " وتحية المسلم لاخوانه فى عالم الخير والحق فى الصلاة ايضا : "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وشعار المسلم حين ينتهى من صلاته عن يمينه ويساره :" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" ومن الذكر اوارد بعد الصلاة :" اللهم انت السلام ومنك السلام".

واحد ابواب المسجد الحرام فى مكة واحد ابواب المسجد النبوى فى المدينة يسمى "باب السلام" ودار الجنة هى مثوى الطائعين فى الحياة الاخرة تسمى " دار السلام " : {لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} وتحية المؤمنين فى الاخرة يوم لقائهم الله تعالى هى السلام : { تحيتهم فيها سلام } .

ومن تتبع ايات القران وجد ان لفظ " السلم" وما اشتق منه ورد فيما يزيد على 133 اية، بينما لم يرد لفظ " الحرب" فى القران كله الا فى ست ايات فقط، ونستطيع ان نؤكد ان فكرة " السلام" تحتل المقام الرئيسى بين اهداف الاسلام العامة، بل يصرح القران بان الثمرة المرجوة من اتباع الاسلام هى الاهتداء الى طرق السلام والنور : { قد جاءكم من ربكم نور وكتاب مبين (15) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم (16) }.

مبادىء السلام فى الاسلام

ومن اجل هذه الغاية وضع الاسلام المبادىء التالية كأسس ثابتة للسلام :

مبادىء السلام فى الاسلام

1- الناس جميعا اخوة مهما اختلفت لغاتهم وانسابهم واوطانهم، فهم ابناء اب واحد وام واحدة : { يا ايها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً} وقد كثر فى القران خطاب الناس بنسبتهم الى آدم : { يا بنى ادم قد انزلنا عليكم لباسا} { يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان } تذكيراً بحق الاخوة بين الناس فلا يعتدى أخ على أخٍ ولا يظلم أخ أخاً.

بل الانسان والحيوان من عالمٍ واحدٍ، عالم الروح الذى يحسّ ويتحرّك : { وما من دابةٍ فى الارض ولا طائرٍ يطير بجناحيه الا امم أمثالكم} .

بل الكون كله من حيوان ونبات وجمادٍ وأرض وافلاك عوالم مخلوقة لإله واحد ورب واحد. وان من واجب المسلم ان يذكر هذه الحقيقة فى صلاته بضعاً وثلاثين مرةً فى اليوم الواحد، حين يقرأ الفاتحة فى كل ركعةٍ من ركعات صلاته، وفى أولها : { بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العالمين(2) } .

2- الحب والتعاون وبذل الخير للناس جميعاً هو اساس الايمان الذى يقبله الله وبه يتفاضل الناس عند ربهم : " لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " { وتعاونوا على البرٍ والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان} : " الخلق كلهم عيال الله فاحبهم اليه انفعهم لعياله " }.

بل الرحمة والعون لكل ذى روحٍ من اعظم القربات التى تدخل صاحبها الجنة : ( ان رجلاً رأى كلباً يلهث فيأكل الثرى من العطش فجعل يغرف له بخفه حتى ارواه فشكر الله له فأدخله الجنة) قالوا : يا رسول الله أو ان لنا فى البهائم لأجراً؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" فى كل كبدٍ رطبةٍ أجر" أي فى الرحمة بكل ذى روحٍ أجر وثواب..

بل الرحمة بكل ما فى الارض ومن فى الارض سبب لرحمة الله ومثوبته : " الراحمون يرحمهم من فى السماء".

هذا هو الاساس الذى يتعامل به الناس : حب ورحمة وتعاون، فيكمل به ايمانهم ويدخلون به ملكوت السموات ، وقد رغب الاسلام فى افشاء السلام كوسيلةٍ للحب والتعاون : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا ادلكم على شىءٍ اذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.

3- الصفح والتسامح فى حقوق الافراد، ومعاملة المسيء بالاحسان وغير ذلك من مكارم الاخلاق، هى الميدان الذى يتسابق فيه الناس لاحراز رضا الله ودخول جنته : { وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين } { ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فاذا الذى بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولىٌّ حميمٌ(34) وما يلقّاها الا الذين صبروا وما يلقّاها الا ذو حظٍ عظيم(35)} " ان العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الاخرة وشرف المنازل وانه لضعيف العبادة".

4- كل ما يؤدى الى ايغار الصدور، وايقاع العداوة والبغضاء بين الناس حرام لا يجوز أن يفعله المؤمن، كالغيبة والنميمة والتجسس والاستهزاء والظنّ السىّء : { يا أيها الذين امنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون(11) يا أيها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله توّاب رحيم (12) } .

5- الأديان السماوية واحدةٌ فى أصولها وأهدافها العامة، وما الرسل والأنبياء الاّ اخوة بلّغوا رسالات الله الى الناس واحداً بعد الآخر : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} فلا ينبغى أن يكون تعدد الأديان سببا لاقتتال الناس واختصامهم { قولوا امنّا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتي النبيّون من ربّهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون} .

نظام السلم الداخلي

أولاً: إصلاح نفسية الفرد ليكون خاضعاً لله في حكمه وأمره، محبًّا للناس في عسره ويسره، عاملاً للخير في منشطه ومكرهه، بعيداً عن الأذى في رضاه وغضبه: ?واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون? [سورة الحج: 77]، "والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده[1]"، "لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه[2]"، "المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم[3]".

ثانياً: إقامه نظام الأسرة على حب تسكن إليه النفس، وسلم لا تشوبه محن ولا نزاع، وحقوق يتوازن بعضها مع بعض، فلا يجور كبير ولا يتمرد صغير، ولا يستبد رجل ولا تمتهن امرأة، ولا يهمل أب، ولا يعقّ ولد ?وصاحبهما في الدنيا معروفاً? [سورة لقمان: 15]، ?قوا أفسكم وأهليكم ناراً? [سورة التحريم: 06]، ?ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة? [سورة البقرة: 228].

ثالثاً: بناء المجتمع على علم يملأ العقول جميعاً: "طلب العلم فريضة على كل مسلم[4]"، وفضيلة تصون الحرمات وتكبح جماح الشهوات ?قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون¯ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ...? [سورة النور: 30-31]، وصحة تفيض بها الأجسام جميعاً: "الطهور شطر الإيمان[5]"، "علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل[6]"، "إن لجسدك عليك حقاً[7]"، "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، وعدالة تحقق للإنسان كرامته التي أرادها الله له ?ولقد كرمنا بني ءادم? [سورة الإسراء: 70] وهي الكرامة التي تضمن له حق الحياة ?ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق? [سورة الإسراء: 33] وحق العمل: "إن أفضل الكسب كسب الرجل من يده[8]"، وحق العيش الكريم الذي يتوفر فيه اللباس اللائق والطعام اللائق والمسكن اللائق والكرامة المعنوية اللائقة ?وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل? [سورة الإسراء: 26]، "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به[9]"، "من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس[10]"، "من ولي لنا عملاً وليست له زوجة فليتخذ له زوجة, أو ليست له دابة فليتخذ له دابة، أو ليس له مسكن فليتخذ له مسكناً"، وقانون يقوم بين الناس بالقسط ويسوّي بينهم في الحقوق والواجبات ?إن أكرمكم عند الله أتقاكم? [سورة الحجرات: 13]، "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".

رابعاً: إقامة حكومة في المجتمع تتصف بأنها أجيرة وموجهة وحارسة:

- أما إنها أجيرة، فلأنها تقوم بإرادة الشعب، ?وأمرهم شورى بينهم? [سورة الشورى: 37] وتعمل لخير مصلحته وكرامته "من استعمل رجلاً من عصابة (جماعة) وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين[11]"، "من ولي شيئاً من أمور المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر في حوائجهم[12]".

- وأما أنها موجهة فلأن مهمتها أن توجه الشارد وتهدي الضال وتوقظ النائم وتنشط العامل وتيسر لشعبها سبل الخير والفضيلة والسلامة: "الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته[13]".

- وأما أنها حارسة فلأن من واجبها أن لا تسمح بظلم في المجتمع تتقطع به الأرحام ويتناكر به الجيران، ويتعادى بسببه أبناء الأمة ويتقاتلون "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" كما أن من واجبها أن لا تسمح بعدوان خارجي على أمتها في عقائدها وبلادها وكرامتها ?وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة? [سورة الأنفال: 61].

بهذا عمل الإسلام على إقامة السلم في داخل المجتمع، بتربية النفوس على الخلق الكريم والتعاون الإنساني الجميل، وبمنع كل ما يؤدي إلى اضطراب الأمن واختلال النظم واشتجار العداوات، وثورة النفوس والأفكار، وهذا هو الأساس الصحيح للدعوة إلى السلم ومنع الحروب والفتن.

إن النفس التي تطمئن إلى حقها، وتبتعد عما يثير أعصابها، هي نفس لا تعرف للحرب لذة، ولا تستسيغ للعدوان طعماً، أما النفوس التي أمضّها الظلم، وأرّقها القلق، أما الأعصاب التي تعيش في جو مضطرب لا تستقيم فيه الأوضاع، أو في جو تستثار فيه الغرائز وتوقظ الشهوات، فهي هي التي تستجيب للثورة وتفكر في الفتنة، إن المحروم والجائع والمظلوم والمضطهد... هؤلاء هم وقود كل حرب تقع، ولسان كل ثورة تشتعل!.

فالسلم الذي أقامه الإسلام سلم وقائي، يقي المجتمع من عوامل الحروب والفتن قبل أن تقع، بحيث لا يترك للفتنة كوة تنفذ منها إلى كيان الأمة فتثير أعصابها للشر، وتعرّض أمنها واستقرارها وأرضها للدمار، ثم هو سلم إيجابي، لا يكتفي بأن يمنع وسائل الحرب، بل يزرع وسائل الاستقرار والحب، حتى يجد الناس طعم السلام طعماً سائغاً لذة للشاربين.

[1] حديث رواه البخاري ومسلم.

[2] حديث رواه أحمد والبخاري ومسلم.

[3] رواه ابن ماجه.

[4] حديث رواه الطبراني والمشهور على الألسنة زيادة "ومسلمة" ولم تصح هذه الزيادة عن طريق الرواية ولكن معناها صحيح بالإجماع.

[5] أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى أنه حديث.

[6] رواه مسلم.

[7] رواه البخاري ومسلم.

[8] حديث رواه البخاري وابن ماجه.

[9] رواه البزار والطبراني.

[10] رواه البخاري وغيره.

[11] رواه الحاكم.

[12] رواه الطبراني والتقييد بالمسلمين هنا وفي كثير من الأحاديث ليس مقصوراً على المسلمين فحسب بل يشمل غيرهم.

[13] رواه البخاري.

نظام السلم الخارجي

أما السلم الذي دعا إليه الإسلام خارج حدود الدولة بعد أن هيأ له الأمة المسالمة كما رأيتم، فهو يتلخص في القواعد الآتية:

أولاًَ: الأصل في علائقنا مع الشعوب جميعاً هو المسالمة والمهادنة: ?يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة? [سورة البقرة: 208].

ثانياً: وهذا السلم سلم متعاون بنَّاء لا سلم منكمش منعزل ?وتعاونوا على البر والتقوى? [سورة المائدة: 02] ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين? [سورة الممتحنة: 08].

ثالثاً: وهو تعاون يقوم على احترام عقائد الشعوب وحرياتها وأموالها وكراماتها ?لا إكراه في الدين? [سورة البقرة: 256]، "متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً[1]"، ?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل? [سورة البقرة: 188]، ?ولقد كرمنا بني ءادم? [سورة الإسراء: 70].

رابعاً: وهو تعاون يحمل على الاستفادة من كل ما عند الشعوب من علم وصناعة وحكمة ?فبشر عباد ¯ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب? [سورة الزمر: 17-18]، "الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها"؛ ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه إلى ملوك عصره وأمرائه قيل له: إن الملوك لا تقبل كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فأمر أن يصنع له خاتم يختم به كتبه، ولما حاصرت الأحزاب المدينة أخبر سلمان رسول الله عليه الصلاة والسلام أن من عادة سكان المدن أن يحفروا خندقاً حول مدنهم يقيها غارات المعتدين، فأمر رسول الله أن يحفر الخندق حول المدينة وعمل في حفر الخندق بنفسه، فهذا صنع شريعة تضع أسس الاستفادة من تجارب الأمم وعلومها موضع الاعتبار في علائقها مع الناس...

هذه أيها السادة هي الخطوط الكبرى لنظام السلم الذي نادى به الإسلام داخل الدولة وخارجها.

[1] من قول عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص رضي الله عنهم.

الحرب لتأمين السلام الداخلي

أما نظام الحرب في الإسلام فلا ريب في أنه يقوم على النظرة التي تقوم عليها كل شريعة واقعية أقرت فكرة الحرب.. وهي أن في الناس من لا تردعهم التربية ولا القانون عن العدوان والطغيان، وأن في الأمم من تغريها قوتها وضعف جيرانها بالعدوان والاستعمار، لا جرم إن كان من الخير أن يشرع استعمال القوة حينئذ لحملة السلام من أعدائه في الداخل والخارج.. وهذا هو ما رمى إليه الإسلام حين أقر استعمال القوة.

فقد أمر الإسلام باستعمال الشدة والحرب ضد فئات معينة من أبناء الأمة وهم:

1- العصاة والمتمردون وقطاع الطرق والعابثون بالأمن ?إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرضه? [سورة المائدة: 36ٍ].

2- الطغاة والظالمون ?وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله? [سورة الحجرات: 09].

3- المرابون وأمثالهم من المستثمرين لجهود الفقراء والعمال ?يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين¯ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله? [سورة البقرة: 278-279].

4- المغتصبون لحقوق الطبقات البائسة والعاملة في ثرواتهم، فإن الله تعالى يقول: ?وفي أموالهم حقٌُ للسائل والمحروم? [سورة الذاريات: 19] وعلى ذلك قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، وقال قولته المشهورة: "والله لو منعوني عقالاً كان يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه".

5- المعتدون على حقوق الإنسان الأساسية كالنفس والمال والعرض ?ولكم في القصاص حياةٌ?، ?والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما?، ?وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين?، ?والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة?، ?إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا لهم عذابٌ أليم في الدنيا والأخرة?.

6- المتخلفون عن التعلم إذا كانوا يجدون من يعلمهم، والمتخلفون عن التعليم إذا كان بجوارهم جهّال لا يعلمون.. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً، ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقُّهون جيرانهم ولا يعلِّمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون...

والله ليعلِّمن قوم جيرانهم ويفقِّهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون، أو لأعاجلنهم العقوبة.. ثم نزل.. فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قال: الأشعريين، هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب.. فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشر فما بالنا؟.. فكرر عليهم ما قاله في خطابه آنفاً. فقالوا له: أإيانا عنيت؟ فأعاد عليهم القول نفسه، فلما تأكدوا أنه عناهم قالوا: أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة ليعلِّموا جيرانهم ويفقهونهم". فهذا إعلان للحرب على الأمية في أوساط الشعب سبق به الإسلام دول الحضارة الحديثة ببضعة عشر قرناً!..

الحرب لتأمين السلام العالمي

وأما الحرب التي يعلنها الإسلام لتأمين السلام العالمي فهي التي يعبر عنها القرآن بالجهاد في سبيل الله، وهو ليس كما يصوّره المتعصبون من الغربيين حرباً دينية لإكراه الناس على الإسلام.. فذلك ليس من طبيعة الإسلام الذي أعلن حرية العقيدة {بقوله لا إكراه في الدين} وإنما هو معركة يخوضها الإسلام لتحرير الأمة من العدوان الخارجي، ولتأمين الحرية الدينية والعدالة الإجتماعية لجميع الشعوب.. وهاتان الغايتان هما اللتان عبَّرت عنهما الآية بصريح العبارة {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} فدفع الفتنة وهو العدوان، وخلاص الدين كله لله أي الحرية الدينية لجميع الناس هما الغاية التي ينتهي عندها القتال في الإسلام، فإذا كف العدو عن العدوان وعن فتنة الأمة في دينها وعقيدتها لم يجز القتال {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}.

ولنقرأ الآيات التالية لنزداد علماً بأهداف الجهاد في سبيل الله:

1- { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً}.

2- {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيراً}.

3- {الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً} [سورة النساء: 76].

هذه أربع آيات من القرآن الكريم تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، فلننظر ما هو هذا الجهاد في هذه الآيات؟

أما الآية الأولى فالجهاد قتال لتحرير المضطهدين المظلومين الذين ضاقت حيلتهم في دفع الظلم والطغيان عن أنفسهم، فاستنجدوا بالله أن يخرجهم من الأرض التي طغى الظالمون فيها، وسألوه أن يجعل لهم أولياء ينصرونهم ويخرجونهم من هذه المحنة، فحرّض الله المؤمنين على تحرير هؤلاء المضطهدين بعد أن وصف حالهم بما يثير الحمية في النفوس الأبية الكريمة {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين...}!..

وأما الآيتان الثانية والثالثة فتدلان على أن الجهاد في سبيل الله حرب دفاعية، ولذلك جاء تبريرها بأنهم قوتلوا وظلموا وأخرجوا من ديارهم وطوردوا في عقيدتهم، وعلى أن هذا الجهاد لتأمين الحرية الدينية وحماية أماكن العبادة لجميع الأديان المنزلة من عدوان الملحدين والمتعصبين عليها {لهدمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ} والصوامع هي أديرة الرهبان، والبيع أماكن العبادة للنصارى، والصلوات أماكن العبادة لليهود، والمساجد أماكن العبادة للمسلمين. فالغرض من الجهاد في سبيل الله كما ترى صيانة الكنيسة وأماكن العبادة وفيها المساجد من عدوان المتعصبين، وليس الغرض منه ما يقوله أعداء الإسلام أن يقوم المسجد على أنقاض الكنيسة، بل أن يقوم المسجد بجانب الكنيسة رمزاً لعبادة الله في مختلف طرق العبادة، ودليلاً على وحدة الأهداف العامة بين ديانات السماء، ومصداراً للإشعاع الروحي والسمو الخلقي في الأمة.

أما الآية الرابعة ?الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت? فهذا حدٌ فاصل بين الحرب التي يعلنها الإسلام وبين الحرب التي يعلنها أعداؤه عليه.. فالحرب التي يعلنها الإسلام حرب في سبيل الحق والحرية والعدالة والسمو الروحي والخلقي.. أما الحرب التي يعلنها أعداؤه فهي حرب طغيان وظلم واضطهاد، وما أبعد دلالة 'الطاغوت' على أهداف الحرب العدوانية التي يقف الإسلام في وجهها!..

لم يبق بعد ذلك شك في الأهداف الإنسانية النبيلة للجهاد في سبيل الله.. وهو جهاد في سبيل الغايات الكريمة التي قامت من أجلها الشرائع، وتسعى إليها الإنسانية الكريمة في كل عصر.. هو في سبيل الله.. أي لا في سبيل المال ولا التهديم ولا الاستعلاء ولا الغلبة ولا الأمجاد القومية أو الطائفية.. فمن سعى إلى شيء من هذا لم يكن مجاهداً في نظر الإسلام يستحق أجر المجاهدين وكرامة الشهداء..

وتاريخ الرسول في حروبه أوضح دليل على المعنى النبيل الذي خاض من أجله رسول الله صلى الله عليه وسلم حروبه ومعاركه، فما أعلن الرسول الحرب إلا بعد أن اضطهد هو وجماعته في عقيدتهم، وأخرجوا من أوطانهم، فجاءت معركة بدر وما تلاها من معارك في سبيل الحرية الدينية وإقرار السلام والأمن في ربوع الجزيرة العربية، ذلك السلام الذي حاربه الوثنيون من العرب فأحالوا بطاح مكة ورمالها إلى ميادين لتذبيح المؤمنين وتعذيبهم ومطاردتهم في أرزاقهم وأوطانهم وأموالهم. ولقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً يصبر ويدعو إلى الله بالحكمة، حتى إذا لجت قريش في طغيانها، وصممت على وأد الدعوة الجديدة في مهدها بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهاجر المسلمون إلى المدينة مستقر الدعوة والدين الجديد، بدأ الصراع بين القوة الجديدة التي تمثل الحق والتسامح والفضيلة والكمال في أروع صوره، وبين القوة الوثنية الطاغية التي تمثل العتو والكبرياء والطغيان في أبشع صوره ومظاهره...

هذه هي فلسفة الحرب في الإسلام وبواعثها، أما نظامه فيتلخص بما يلي:

نظام الحرب في الإسلام

1- حين تتأكد الأمة من نية العدوان والغدر لدى أمة من الأمم ضدها، يجب عليها أن تستعد بكل ما تملك من قوة ?وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم? فهو استعداد للإرهاب لا للاعتداء، ولإرهاب أعداء الأمة لا أصدقائها ومسالميها.

2- فإن كف العدو عن فكرة العدوان، وعدل عن الحرب وجب على الأمة أن تجنح للسلم وتدخل فيه ?وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم?.

3- وإن أبى العدو إلا الحرب والعدوان، فجزاء سيئة سيئة مثلها ?ولمن انتصر بعد ظُلمه فأولئك ما عليهم من سبيل¯ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم?، ?فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين?.

4- فإذا بدأت الحرب فلتخفف ويلاتها بقدر ما يمكن ولذلك جازت الخديعة في الحرب "الحرب خدعة" بمعنى إحباط مناورات العدو وخططه وتثبيط عزيمته، فإن في ذلك إنهاء الحرب وإقرار السلام بأقل ما يمكن من الزمن، وأقل ما يقع من الضحايا.

5- فإذا حمي الوطيس فليثبت المقاتلون، وليستمدوا عونهم من الله، وليذكروا الله كثيراً ?يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون? [سورة الأنفال: 45] اذكروا الله لتذكروا دائماً أنكم لا تقاتلون رياء ولا حمية ولا ثأراً ولا استعلاءً وإنما تحاربون في سبيل الله... فحذار أن تتحول نيتكم أثناء القتال إلى معنى من المعاني التي يحارب من أجلها الأعداء فتكونوا مثلهم معتدين ظالمين.

6- وحين تشتعل نار الحرب يجب أن يذكر الجيش المحارب أنه يخوض حرباً دفاعية لتحرير الضعفاء والمضطهدين، فليضيق حدودها حتى لا يصطلي بنارها إلا من حمل السيف وبدأ العدوان، فلا تؤخذ أمة العدو كلها بجريرة جيشها أو فريق منها اعتدوا على أمتنا ?وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين? [سورة البقرة: 190] وهنا يسمو الإسلام إلى منتهى ذروة الإنسانية حين يحرم قتل الشيخ الكبير والعاجز والمرأة والصبي ورجل الدين المنقطع للعبادة والفلاح والمسالم الذي لم يشترك في القتال، وحسبنا أن نذكر وصية أبي بكر لأول جيش خرج من الجزيرة العربية ليرد عدوان الروم المبيت على دولة الإسلام الفتية، وهي وصايا تجعل أبا بكر على قمة الخلود بين رجال التاريخ وقادة الأمم مدنيين وعسكريين، إذ يقول :"لا تمثِّلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له"، هذه هي وصايا الأمة التي تحارب بروح مسالمة، وتأبى أن تنقلب إلى أمة معتدية تنطلق وراء غرائزها وثاراتها تخرب وتنتقم.

7- فإذا رغب المحاربون في الصلح عند اشتداد المعركة وجب أن نقبل الصلح منهم ولو أشرفنا على النصر، ثم الوفاء الوفاء بما تم عليه العهد ?وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون? [سورة النحل: 91]، فإذا بدا منهم بعد ذلك نية الغدر والخيانة فلا يجوز أن نفاجئهم بالقتال، بل لا بد من إخبارهم بانتهاء العهد بيننا وبينهم وفسح المجال لهم ليستعدوا لحربنا وقتالنا، وهذا هو النبذ الوارد في الآية الكريمة ?وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين? [الأنفال: 58].

8- وإذا انتهت المعركة باستسلام العدو وانتصار الأمة، فلا عدوان على الأعراض، ولا تخريب للمدن، ولا استلاب للأموال ولا إذلال للكرامات، ولا اندفاع وراء الثأر والانتقام، وإنما هو الإصلاح والتحرير والعدالة ونشر الخير ومكافحة الشر ?الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور?. فهذه الآية نص على ما يجب أن تفعله الأمة المنتصرة بعد انتهاء الحرب وهي أمور أربعة:

أ‌- إقامة الصلاة، وهذا رمز لإشاعة السمو الروحي في العالم
ب‌- إيتاء الزكاة، وهذا رمز لتحقيق العدالة الاجتماعية في الشعوب.
ت‌- الأمر بالمعروف، وهذا رمز للتعاون على كل ما فيه خير الناس وأمنهم وسعادتهم.
ث‌- النهي عن المنكر، وهذا رمز للوقوف في وجه الشر الذي يعجل بالحرب ويفوت على الناس السلام والأمان.

وتلك لعمري هي أسمى ما تعمل له أمة متمدنة في أرقى عصور الإنسانية حضارة وأكثرها خيراً.

9- أما الأسرى فلا يجوز تعذيبهم ولا التمثيل بهم ولا تعريضهم للجوع والسغب ?ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ¯ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً? ثم الدولة مخيرة فيهم بين إطلاق سراحهم من غير فداء، وبين أخذ الفداء من أسرى أو مال ?حتى إذا أثختموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها? وليس في هذه الآية ما يدل على فرض الرق على الأسرى، بل ليس في آية من آيات القرآن ما يدل على أن الرق يفرض على الأسرى والمغلوبين، وإنما فرض الرق في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده، لأنه كان شائعاً معترفاً به عند الأمم كلها يومئذ، والعدو كان يسترقُّ رقاب المسلمين حين يتغلب عليهم، فلم يكن بد من مقابلة عمله بمثله، أخذاً بشريعة المعاملة بالمثل، وهي الشريعة التي لا تزال أساساً معترفاً به بين الأمم المتحاربة، فما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده إنما هي ضرورة سياسية اقتضتها الأوضاع الاجتماعية العالمية يومئذ، لا تنفيذاً لتشريع ثابت في الإسلام لا يجوز التخلي عنه، وإذا لم يستطع الإٍسلام أن يلغي الرق يومئذ لضرورات حربية واقتصادية، فقد وضع أساس إلغائه في التشريع الذي سنّه للأرقاء. وحسبك إن اعتبر الرق أمراً طارئاً كعقوبة للعدوان على حريات الشعوب، وفتح أبواباً كثيرة لتحرير الأرقاء لم تسبقه إليها شريعة، وألزم الدولة أن تخصص جزءاً من ميزانية العدالة الاجتماعية لتحرير الأرقاء ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب (في تحرير الرقاب والإعانة على ذلك) والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليمٌ حكيم? وبذلك سبق الإسلام حركة تحرير الأرقاء في أمريكا ببضعة عشر قرناً.

على أن الشيء العظيم الذي فعله الإسلام مع الأرقاء متمشياً مع روحه الإنسانية السلمية، هو أنه ألغى احتقارهم وامتهانهم وردَّ لهم إنسانيتهم وأوجب معاملتهم كمعاملة الأحرار في توفير الكرامة الإنسانية لهم: "إخوانكم حولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ولقد كان الرقيق يخلط بالبيت الإسلامي فيكون واحداً من أهله، وبذلك استطاع الأرقاء أن يعيشوا في جو من الكرامة لا مثيل لها في التاريخ، حتى بلغ بعضهم أرقى مناصب الملك والإمارة، بل إن من أولاد الأرقاء من كان خليفة المسلمين في كثير من الأحيان.

10- أما المغلوبون فتحترم عقائدهم ودماؤهم وأموالهم ومعابدهم ولهم حماية الدولة وحقوق المواطنين، ولا يكلفون إلا بالإخلاص للدولة ودفع مبلغ زهيد يسمى "الجزية" كانت الأمم الغالبة قبل الإسلام وبعده تفرضه على الأمم المغلوبة، ولا تزال الدول في عصرنا الحاضر تفرضه في كثير من الحالات على أبناء شعبها كضريبة شخصية على الرؤوس.. ولكن وضع الجزية في الإسلام يختلف كثيراً عن وضعها في الأمم الأخرى، وإليكم البيان:

الكلام عن الجزية

1- كانت الجزية عن الأمم – سواء منها قبل الإسلام أو بعده – تفرض على المغلوبين للإذلال والامتهان، فهي بذلك تحمل معنىً بغيضاً من معاني الثأر والانتقام، ولكن الإسلام فرضها لحماية المغلوبين في أموالهم وعقائدهم وأعراضهم وكرامتهم، وتمكينهم من التمتع بحقوق الرعوية مع المسلمين الفاتحين سواء بسواء... ويدل على ذلك أن جميع المعاهدات التي تمت بين المسلمين وبين المغلوبين من سكان البلاد، كانت تنص على هذه الحماية في العقائد والأموال، وقد جاء في عهد خالد بن الوليد لصاحب قس الناطف: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة.... فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم".

والواقع التاريخي لهذه المعاهدات يثبت بجلاء لا يحتمل الشك، أن المسلمين لم يأخذوا الجزية إلا على هذا المبدأ، وكلنا يعلم كيف رد خالد بن الوليد على أهل حمص، وأبو عبيدة على أهل دمشق، وبقية القواد المسلمين على أهل المدن الشامية المفتوحة ما أخذوه منهم من الجزية حين اضطر المسلمون إلى مغادرتها قبيل معركة اليرموك، وكان مما قاله القواد المسلمون لأهل تلك المدن: "إنا كنا قد أخذنا منكم الجزية على المنعة والحماية، ونحن الآن عاجزون عن حمايتكم فهذه هي أموالكم نردها إليكم".

2- وكانت الجزية عند الأمم الماضية تحمل معنى استغلال المغلوبين وابتزاز أموالهم فكانت تفرض عليهم بقدر يرهقهم ويكلفهم من أمرهم عسراً، ولكنها في الإسلام أبعد ما تكون عن الاستغلال والطمع بأموال المغلوبين، إذ كانت تفرض بمقادير قليلة على المحاربين والقادرين على العمل فحسب... لقد كانت على ثلاثة أقسام:

أ‌- أعلاها وهي 48 درهماً في السنة على الأغنياء مهما بلغت ثرواتهم[1].
ب‌- أوسطها وهي 24 درهماً في السنة على المتوسطين من تجار وزرّاع.
ت‌- أدناها وهي 12 درهماً في السنة على العمال المحترفين الذين يجدون عملاً.

وهذا مبلغ لا يكاد يذكر بجانب ما يدفعه المسلم من زكاة ماله فحسب، ولنذكر هذه المقارنة الواضحة:

لو أن هناك مسلماً غنياً يملك مليون درهم لوجب عليه في زكاة ماله خمسة وعشرون ألف درهم بنسبة اثنين ونصف بالمائة وهو القدر الشرعي لفريضة الزكاة.

ولو أن هناك جاراً له مسيحياً يملك مليون درهم أيضاً لما وجب عليه في السنة كلها إلا ثمانية وأربعون درهماً فقط.. أي أن ما يدفعه المسلم للدولة يزيد أكثر من خمسمائة ضعف على ما يدفعه المسيحي، فأين يكون الاستغلال في مثل هذا النظام؟!

ونعتقد أن في إسقاط الجزية عن الفقير والصبي والمرأة والراهب المنقطع للعبادة والأعمى والمقعد وذوي العاهات، أكبر دليل على أن الجزية يراعى فيها قدرة المكلفين على دفعها، كما أن تقسيمها على ثلاث فئات دليل على مراعاة رفع الحرج والمشقة في تحصيلها. وقد جاء في عهد خالد لصاحب قس الناطف: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد، القوي على قدر قوته والمقلّ على قدر إقلاله".

3- إن الجزية عند الأمم السابقة لم تكن تمنع دافعيها من تجنيدهم في جيش الغالبين، وإراقة دمائهم في سبيل مجد الفاتحين وامتداد سلطانهم، فكانوا يدفعون الجزية ويساقون إلى الحرب مرغمين!.. ولكن الإسلام أعفاهم من الخدمة في الجيش ذهاباً منه إلى أن الجيش الإسلامي إنما يحارب لأداء رسالة التحرير الإسلامية إلى العالم، فليس من العدالة أن يجبر شعب لا يؤمن بمبادئ هذه الرسالة على تقديم شبابه وبذل دمائه في سبيلها!.. هذا هو التفسير الصحيح لإعفاء الذميين من الخدمة العسكرية في الجيش الإسلامي، لا كما يزعم بعض المتعصبين من أن ذلك لانتقاصهم وعدم أهليتهم لشرف الجهاد... ودليلنا على ما قلناه أن الذمي لو رضي أن يتطوع في الجيش الإسلامي، قُبل ذلك منه وسقطت عنه الجزية، ففي الجزية إذاً معنى "بدل الخدمة العسكرية" في عصرنا الحاضر.

4- لم تكن الأمم الغالبة تلتزم نحو الأمم المغلوبة بأي حق نحو الفقراء والعاجزين وذوي العاهات، بل كانوا يرهقونهم بالجزية والضرائب، ثم يتركون ذوي الحاجات منهم، بل يتركونهم عند الفقر بعد الغنى فريسة للحاجة والجوع والمرض، ولكن الإسلام أعلن تأمينه الاجتماعي للذميين سواء منهم من دفع الجزية ومن لم يدفع (لفقر أو صغر مثلاً) وهو يعتبرهم رعايا الدولة كالمسلمين سواء بسواء، يجب عليها أن تضمن لهم حياة كريمة لا يحتاجون فيها إلى ذل السؤال ومرارة البؤس.

فنصوص القرآن الكريم التي تحتم إعالة البائسين والمحتاجين هي عامة شاملة لم تقيد بالمسلمين فحسب: ?وءات ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل? [سورة الإسراء: 26]، ?وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم? [سورة الذاريات: 19] وجاء في عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة: "أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وأعيل من بيت مال المسلمين وعياله" وقد طبق عمر رضي الله عنه هذا المبدأ الإسلامي العظيم حين مر بشيخ كبير يسأل الناس الصدقة، فلما سأله وعلم أنه من أهل الجزية، أخذ بيده إلى بيته وأعطاه ما وجده من الطعام واللباس، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول له: "انظر إلى هذا وأمثاله فأعطهم ما يكفيهم وعيالهم من بيت مال المسلمين فإن الله يقول ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين? والفقراء هم المسلمون، والمساكين هم أهل الكتاب".

5- وكانت الجزية تفرض على المغلوبين بأي حال، أما في الإسلام فهي ليست كذلك، بل يجوز للإمام أن يعفيهم منها جميعاً كما فعل أبو عبيدة حين أسقط الجزية عن أهل السامرة بالأردن وفلسطين، وكما أسقط عمر الجزية على ملك شهر براز وجماعته لقاء اتفاقه معهم على قتال العدو، وكما أسقط معاوية الجزية عن سكان أرمينية ثلاث سنوات، كما يجوز إعفاء كل ذمي دخل في الجيش الإسلامي أو قدم خدمة عامة للدولة، وهي أحكام مسلّمة معروفة في الفقه الإسلامي.

6- وكانت الجزية قبل الإسلام تفرض على من لم يكن من الفاتحين عرقاً أو بلداً أو ديناً، سواء حارب أم لم يحارب، أما في الإسلام فلا تفرض إلا على المحاربين من أعداء الأمة، أما المواطنون من غير المسلمين ممن لم يحاربوا الدولة فلا تفرض عليهم الجزية كما فعل عمر مع نصارى تغلب، ولو رجعنا إلى آية الجزية في القرآن لوجدناها تقول: ?قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون? [سورة التوبة: 29] فهي كما ترون تجعل الجزية غاية لقتال أهل الكتاب حين نتغلب عليهم، وليس كل أهل الكتاب يجب علينا أن نقاتلهم، بل إنما نقاتل من يقاتلنا ويشهر علينا السلاح ويعرّض كيان الدولة للخطر، وهذا هو صريح الآية الكريمة ?وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين? [سورة البقرة: 190] فالأمر بالقتال في آية الجزية ليس إلا لمن قاتلنا، فقتال من لم يقاتلنا عدوان لا يحبه الله تبارك وتعالى، ويؤيد هذا قوله تعالى ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ¯ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم? [سورة الممتحنة: 8-9] فلا شك في أن الذين يعيشون في الدولة مع المسلمين من أهل الكتاب ويشاركونهم في الإخلاص والولاء لها، ليسوا ممن يجوز قتالهم فلا تفرض عليهم الجزية التي هي ثمرة القتال بعد النصر.

وهذا ما يفهم من آيات الجزية والقتال من غير تأول ولا تعسف، وإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد أخذ من نصارى جزيرة العرب ويهودها الجزية في حياته عملاً بآية الجزية، فذلك لأنهم حاربوا الإسلام وكادوا له وتألبوا مع أعدائه من الفرس والروم عليه، وإذا كان المسلمون حين فتحوا الشام ومصر وفارس قد أخذوا الجزية من أهل الكتاب فيها، فذلك لأنهم رعايا دول أعلنت على دولة الإسلام الحرب، وناصبتها العداء وساهموا مع دولهم في حرب الإسلام، أما استمرار أخذ الجزية بعد عصور من الفتح الإسلامي وبعد أن أصبح أهل الكتاب رعايا مخلصين للدولة كالمسلمين، فذلك لا يسأل عنه الإسلام وإنما يسأل عنه الحاكمون والأمراء من المسلمين، ونحن إنما نتكلم عن نظام الجزية في الإٍسلام لا عن تاريخ الجزية في الدولة الإسلامية.

وإذا كانت الجزية لا تفرض إلا على من قاتل المسلمين، اندفع ما يورده بعض القوميين، والمتعصبون على الإسلام، من أن تنفيذ نظام الإسلام في السلم والحرب يحتم أن تؤخذ الجزية اليوم من غير المسلمين في الوطن العربي أو الإسلامي، وهذا مما لا يتفق مع مفهوم الدولة في العصر الحديث ولا تقبله فئات من المواطنين ترتبط برابطة الولاء للدولة مع مخالفتها لجمهور الشعب في عقيدته، إن ذلك مندفع بما قررناه من أن الجزية لا تفرض إلا على من أعلن عداءه للدولة وهو من غير أبنائها، ومن أن مبدأ الجزية ليس نظاماً أساسياً من أنظمة الدولة في الإسلام بل يتطور بتطور العلاقات والظروف التي تجعل الدولة في حل من إسقاطها حين تكون مصلحة الدولة في ذلك.

[1] ما يقرب من عشرين ليرة سورية لبنانية أو 240 قرشاً مصرياً عام 1953 م.

دفع شبهتين

بقي أن نعرض لما قد يرد في خواطر بعضكم على ما قررناه من أن الجزية لا تحمل معنى الامتهان والإذلال، فيقول قائل: إذا كان الأمر كذلك فما معنى الصغار الوارد في آية الجزية ?حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون?؟ ولماذا كانت الجزية تؤخذ في بعض العصور الإسلامية بوضع مهين كالصفع وغيره؟

والجواب عن الآية: أن من الواجب تفسيرها بما يتفق مع مبادئ الإسلام العامة، ومع فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في أخذ الجزية من أهل الكتاب، وقد رأيتم أن الإسلام يقرر حرمة عقائد أهل الكتاب وأموالهم ومعابدهم، كما يقرر تحريم إيذائهم حتى بالقول فيحرم اغتيابهم كما تحرم غيبة المسلم، وإذا رجعنا إلى التاريخ لم نجد في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب ولا في معاملة الخلفاء الراشدين لهم أي معنى من معاني الاحتقار والإذلال، ولم تكن تؤخذ منهم الجزية على أي وضع يشعر بالإساءة أو المهانة، فإذا كان الإسلام يحرم إيذاءهم حتى في حال غيبتهم، وإذا كان الرسول وهو صاحب الشريعة، والخلفاء الراشدون وهم أقرب صحابة النبي إليه وأكثرهم تمسكاً بشريعته، لم يؤثر عنهم أية حادثة من حوادث الإهانة في أخذ الجزية، كان من الواجب أن تفهم الآية على غير ما فهمها بعض الناس, وذلك أن نفسر "اليد" في قوله: ?عن يدٍ? بالقدرة، وفي نصوص القرآن واللغة ما يؤكد هذا المعنى، وقد رأيتهم في عهد خالد لصاحب قس الناطف قوله: "على كل ذي يد" أي قدرة، وهذا هو ما قررناه من أن الجزية لا تفرض إلا على القادرين على دفعها لذلك أعفي منها الصغار والعاجزون والرهبان والفقراء والنساء.

وأما قوله ?وهم صاغرون? فيتحتم تفسير الصَّغار هنا بالخضوع لا بالذلة والمهانة. ومن معاني الصغار في اللغة الخضوع، ومنه أطلق "الصغير" على الطفل لأنه يخضع لأبويه ولمن هو أكبر منه، والمراد بالخضوع حينئذ الخضوع لسلطان الدولة، بحيث يكون في دفع الجزية معنى الالتزام من قبل أهل الذمة بالولاء للدولة، كما تلتزم الدولة لقاء ذلك بحمايتهم ورعايتهم واحترام عقائدهم، وليس في الخضوع لقوانين الدولة وسلطانها غضاضة على المواطنين مهما اختلفت عقائدهم، هذا هو التفسير الصحيح الذي ينسجم مع نصوص القرآن ومبادئ الشريعة وواقع التاريخ في عصور الإسلام الذهبية الأولى...

وأما أن الجزية كانت تؤخذ في بعض العصور الإسلامية وخاصة في أواخر العهد العثماني بما يقترن مع الإهانة، فليس هذا حجة على الإسلام، ذلك أن الإسلام له مصادره التشريعية التي تقرر أحكامه وقوانينه، ومنها القرآن والسنّة والإجماع. وليس عمل أحد من المسلمين كائناً من كان حجة على الإسلام إلا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، أماعمل الصحابة وهم تلامذة النبي وأكثر الناس إحاطة بمقاصد شريعته، فجمهور العلماء على أنه ليس حجة إلا أن يتفق مع أحكام الشريعة.. ويضاف إلى ذلك أن العلاقات بين المسلمين وغيرهم في العصور المتأخرة قد ساءت نتيجة لظروف متعددة[1]، وفي مثل هذه الأجواء الموبوءة التي ساءت فيها علائق غير المسلمين بالدولة الإسلامية، قد ينحرف حاكم فيجنح إلى الانتقام، وقد يخطئ فقيه فيقرر ما لا تؤيده روح الشريعة ومبادئها العامة. والذنب في ذلك كله ذنب المنحرف أو الجاهل، لا ذنب الإسلام العظيم الذي رأيتم من عظمة تشريعه ما ترتد عنه سهام المتعصبين عليه مفلولة لم تنل شيئاً منه...

وبعذ فهذا هو مجمل القول عن نظام السلم والحرب في الإسلام، وهذا هو القول الفصل في الجزية، وهي كما رأيتم تتفق مع أرفع المثل العليا للأخلاق والسماحة والنبل، وما أحسب أن الشعوب الواقعة تحت نير الاستعمار الغربي في القرن العشرين، تلقى من العناية بحقوقها والضمانة لعقائدها والحماية لأرواحها، بعض ما كان يلقاه المحاربون المغلوبون في الدولة الإسلامية أيام الفتح والعزة قبل أربعة عشر قرناً، وقد كنت أود أن أذكر لكم بعض الوقائع التاريخية للحروب الإسلامية، لتروا إلى أي حد تقيد المسلمون بهذا النظام واسترشدوا به في علاقاتهم مع الأمم الأخرى في السلم والحرب، ولكن ضيق الوقت يجعلني أقتصر على ما قدمت.

[1] قد أشبعنا هذا الموضوع بحثاً في كتاب سيصدر قريباً إن شاء الله.

واقع الحروب الإسلامية في التاريخ

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإسلام لم يكن في تشريعه إنسانياً رحيماً يتوخى خير الإنسانية وإقامة السلام فحسب، بل كان في واقعه التاريخي كذلك، وهنا يبدو الفرق بينه وبين غيره من دعاة الإنسانية في السلم، فلقد عهدنا شرائع دائماً تعلن للناس أصدق آيات البر والخير والرحمة في تشريعها وفلسفتها وأدبها، حتى إذا حكمت نسيت ذلك كله، وانقلبت إلى أبشع صور الحقد والقسوة والاستهزاء بحقوق الشعوب، والإمعان في سفك الدماء وإثارة الحروب. ولعل أقرب الأمثلة على ذلك في العصر الحديث، التناقض الواضح بين مبادئ الثورة الفرنسية، وبين أعمال الفرنسيين في البلاد الواقعة تحت حكمهم كبلاد الشمال الإفريقي العربي، التي ذاقت وما تزال تذوق أمرّ صنوف الاضطهاد والعسف والإذلال والنكال. ومثل ذلك يقال في الدول الكبرى التي أعلنت شرعة حقوق الإنسان في هيئة الأمم، ثم هي اليوم أول من يدوس حقوق الإنسان، ويعتدي على حرياته وكرامته وسيادته على أرضه ومقدراته. فالفرق شاسع جداً بين موقفهم التشريعي من السلم والعدالة وبين واقعهم التاريخي المليء بالفواجع والظلم والاستعباد.

أما الإسلام فلا يشك كل من درس تاريخه الحربي بإنصاف وتجرُّد أن حروبه امتازت في التاريخ بالميزات التالية:

1- أنها كانت دفاعية لرد عدوان، أو دفع أذى، أو احتفاظ بسيادة الأمة ضد أعدائها المتألبين عليها... وهذه حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا حروباً دفاعية لم يتوخَّ فيها إلا تحقيق الحرية الدينية التي أباها المشركون العرب على المؤمنين الجدد.

ثم كانت بعد ذلك حروب الردة في عهد الخليفة الأول، وهي ليست إلا دفاعاً عن كيان الدولة الذي قرر المرتدون أن ينقضوا عليه ويجعلوه أثراً بعد عين، ثم جاءت بعد ذلك حروب فارس والروم، أما الروم فقد كانت حروبنا معهم جواباً على ما بيّنوا من شر للدين الجديد، حتى أخذوا يؤلبون القبائل العربية المتاخمة لحدود الشام والحجاز على إخوانهم من أبناء الدين الجديد، وأما فارس فلقد كانت حروبنا معهم دفاعاً عن الكيان الجديد أيضاً، وإحباطاً لما بيتوا من شر في تأييد المرتدين وإمدادهم بالمال والسلاح، وحماية المرتدين الفارين من وجه الجيوش الإسلامية إلى سواد العراق.. وهكذا كانت الحروب التي بدأها الرسول صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وبدأها المسلمون مع فارس والروم، تتسم بسمة الدفاع لا العدوان، وما استمرارها بعد ذلك في سائر أنحاء الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية إلا امتداد طبيعي لم يكن من سبيل لإيقافه.

2- أنها كانت تحررية تتوخى تحرير الشعوب من طغاتها الظالمين، ومن أوضاعها الدينية والاجتماعية السيئة، فلقد قضت على تحكم الملوك في شؤون شعوبهم، تحكماً يزج بهم في كل حرب يريدها هؤلاء الملوك دون أن تكون للشعوب منفعة منها أو رأي في إيقادها.. وقضت على الحق الذي كان يزعمه الملوك والرؤساء لأنفسهم من أن مشيئتهم هي مشيئة الله وأن الخضوع لهم خضوع لله. بل رأينا الشعب ينظر إلى رؤسائه على أنهم أُجراؤه ووكلاؤه، "دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل أيها الأمير.. وأعادوا عليه القول فأعاد نداء معاوية بالأجير، حتى قال لهم معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول، فقال: يا معاوية! إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هَنَأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخرها، وفَّاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تفعل ذلك عاقبك سيدها"[1]!..

وإنك لتلمح في قول الرجل لعمر بن الخطاب على ملأ من الناس: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا" وفي قول آخر له: "لا نسمع ولا نطيع" حين رأى عليه ثوباً لم يعلم مصدره بل ظن أنه من مال الدولة، وفي موقف عمر منهما إذ لم يغضب من الأول، ولم يترفع عن بيان مصدر ثوبه للثاني.. إنك لتلمح في هذا كله روحاً جديدة في الشعوب، كانت وليدة الحرب الإسلامية التي انتصرت فأقامت أفضل أنواع الحكم الشعبي وأحكمه وأقربه إلى طبيعة الشعوب ونفسيات الجماهير.

بل إنكم لترون في قصة القبطي الذي ضرب ولدُ عمر بن العاص ولدَه، وشكواه ذلك إلى أمير المؤمنين له، مثلاً رائعاً من تحرر الشعوب لا نعلم له مثيلاً قبل الإسلام.. فهذا القبطي كان من أمة مغلوبة على أمرها قبل أن يفتح المسلمون مصر، وكان الروم يذلون كرامتها، ويستلبون أموالها، ويلهبون بالسياط ظهور رجالها ونسائها، ويتدخلون في حريتها الدينية ومذاهبها الكنسية، ولم يكن يرتفع لأحد منها صوت إنكار هذا الظلم أو التململ منه، فلما جاء الإسلام تفتح وعي الشعب المصري حتى اعتبر هذا القبطي أن ضرب ولد صغير – وهو ولد الحاكم – لولد صغير من أبناء المحكومين، من غير ذنب جناه الولد المضروب، ظلماً لا ينبغي السكوت عنه، فليهاجر من أجل شكواه شهراً كاملاً على ظهور الإبل، وليطلب من رئيس الدولة الأول – عمر بن الخطاب –أن يرفع هذا الظلم الذي جاءت الحروب الإسلامية للقضاء عليه ولتحرير الشعوب منه، وكان عمر عند ظن هذا الرجل، فارتاع لشكايته، واستقدم حاكم مصر وابنه، وحاكمهما وقضى على ولد عمرو أن يضربه الولد القبطي على رأسه ضرباً موجعاً أمام الجمهور.. ثم لم يكتف بذلك بل أمر أن يوضع السوط على رأس عمرو، وخاطبه بتلك الكلمات الخالدة: " متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟".

ألا إن ضرب ولد صغير لآخر مثله، يقع كل يوم في كل بلدة، لا بين ولدي الحاكم والمحكوم فحسب، بل بين أبناء الجيران، بل بين الإخوة الأشقاء في بيت واحد، ولا يخطر في بال أحد أن هذا يجب أن يهتم له رئيس الدولة بنفسه، وأن يعاقب الولد الضارب وأباه على ملأ من رجال الدولة وأعيانها.. ولكن ذلك وقع في الإسلام حيث يحرر الشعب من كل عبودية ظالمة.. ومن العبودية في نظر الإسلام أن يستطيل ولد الحاكم على أولاد الشعب فيضربهم معتزاً بسطوة أبيه وحكمه: "أنا ابن الأكرمين".

إن ضرب ولد لولد آخر من غير حق ظلم في الإسلام واستعباد! أي تحرير للشعوب، وأي حفاظ على كرامتها وحقها في الحرية أكثر من هذا وأكبر؟.. وأين من هذا ظلم شعب بأسره وإجلاؤه عن أرضه، وتشريده ليموت فريسة الجوع والمرض والبرد، أين من هذا ما فعله رئيس دولة كترومان في شعب فلسطين العربي المسالم؟. وأين من هذا استهزاء ترومان بشكوى مليون لاجئ, وإعراض ستين دولة في الأرض – هيئة الأمم – عن أن تصغي لشكاة شعب مظلوم وأن تصنفه وأن ترد له أرضه وحريته ؟!.

إن عمر أكرم في نظر التاريخ وأبر بالإنسانية وأرقى للشعوب حين أنصف ولداً مضروباً وردّ له كرامته وأنصفه في ظلامته، من ترومان حين هزئ بدموع مليون شردهم ترومان عن بلادهم، وأسكن فيها أفَّاقين من شعوب الأرض معتدين ظالمين.. وإن الحروب الإسلامية حين تبث في الشعوب روح التحرر من الظلم – ولو كان ضرباً من ولد صغير – وحين تجبر الحاكم على أن يرد هذا الظلم وينكره، أرحم بالإنسانية وأجدى عليها، من حروب تعلن أنها لتحرير الشعوب، وتمكين المستضعفين من حريتهم واستقلالهم.. ثم لا تنتهي هذه الحروب – كما حصل في الحربين العالميتين – إلا بازدياد الظلم الواقع على الأمم، وبتقسيم بلادها، وإمعان الأقوياء في سفك دمائها، وسلب أموالها وكرامتها، كما تفعل فرنسا اليوم في أفريقيا العربية، وكما تفعل إنكلترا في مصر، وأمريكا في إيران.. وكما فعلت إنكلترا وأمريكا وفرنسا وروسيا وبضع خمسون دولة أخرى حين أقروا قيام إسرائيل في قلب بلاد العرب على جثث ضحاياهم وشهدائهم...

3- أنها كانت أخلاقية .. تقيدت بمبادئ الحق والعدالة والرحمة مع المغلوبين والمحاربين حتى بعد انتصارها وحكمها .. وإنا لنقرأ التاريخ كله فلا نجد فيه مثل هذه الحادثة التالية:

"لما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز وفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر – بغير حق – فكتب عمر إلى عامله أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أُخرجوا، فنصب لهم "جميع بن حاضر الباجي" قاضياً ينظر في شكواهم، فحكم القاضي بإخراج المسلمين، على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك، وينابذهم وفقاً لمبادئ الحرب في الإسلام. حتى يكون أهل سمرقند على استعداد لقتال المسلمين فلا يؤخذوا بغتة، ولكن أهل سمرقند كرهوا الحرب وأقروا المسلمين فأقاموا بين أظهرهم"[2].

جيشٌ غالبٌ يدخل مدينة فيحكم عليه قاضي الدولة بالخروج لأنه دخل بغير حق. ويخضع الجيش للحكم فيخرج، ولا يدخلها بعد ذلك إلا أن يرضى أهلها!! هذا أروع ما رواه التاريخ من تقيد حربٍ بمبادئ الأخلاق والحق والعدالة، ولا أعلم في الدنيا كلها مثل هذا الموقف لأمة من أمم الأرض.. ولا في حرب من حروب التاريخ..

4- أنها كانت إنسانية .. لا لمصلحة قوم ولا أمة ولا جنس بل كانت لمصلحة أمم العالم كلها، فاتسع صدرها – بعد النصر – لجميع شعوب العالم، واستفادت من كل حضارات العالم، وأظلت للوائها أمماً وشعوباً متباينة اللغات والعادات، مختلفة الأعراق والديانات، ولعل الحروب الإسلامية هي الحروب الوحيدة التي أقامت بعد انتصارها حضارة اشترك في بنائها كل شعوب الأرض.. وهل كانت الإنسانية تنعم بثمار الفكر العبقري لعظماء الإسلام الخالدين، كأبي حنيفة وابن سينا والفارابي والغزالي – وهم من أصل غير عربي – لولا حروب الإسلام وفتوحاته؟!.

[1] السياسة الشرعية: 10.

[2] فتوح البلدان للبلاذري: 428.

الخاتمة

هذه – أيها السادة – هي أهم ما تتميز به الحروب الإسلامية في واقعها التاريخي، وبذلك استطاع الإسلام لأول مرة في التاريخ، أن ينشئ جيلاً ممتازاً في حب السلم والعمل له، وكره الحرب والابتعاد عنها إلا أن لا يكون منها مفر، وحينئذ لا ينسى أخلاقه ولا إنسانيته ولا روحه المسالمة المتسامحة مع أشد أعدائه لدداً وخصومة. إن نجاح الإسلام في ذلك نجاح منقطع النظير، وسر هذا فيما أعتقد أنه أحاط المسلم بجو سلمي في نفسه وفي بيته وفي جواره وفي مجتمعه، وانتزع من نفسه كل عوامل الشر ومطامع الغلبة والاستعلاء، وجعل العبادة هي المدرسة الأولى التي تربيه على حب السلم والتعاون مع الناس، حتى إذا اضطر إلى خوض غمار الحرب دفاعاً عن عقيدة، أو ذوداً عن حرمة، أو تحريراً لجماعة من طغيان الظالمين استبداد المتكبرين، رأى الناس فيه أسداً لا يعبأ بالموت ولا يبالي بالجراح، وله مع هذا رقة الموادعين وهدوء المسالمين، وسماحة المترفعين عن الأحقاد والضغائن..

وما أحوج الإنسانية اليوم إلى مثل هذه التربية التي ربى عليها الإسلام أبناءه، فكان لهم طهر الأنبياء، وبراءة الملائكة، وحمية الأبطال! ذلك أن الذين ينادون بالسلم من كلا المعسكرين المتحاربين اليوم، قد فقدوا السلم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي مجتمعاتهم، ففي أنفسهم معركة قائمة بين الأطماع والشهوات، وبين العقل والقلب، وفي بيوتهم نار مشتعلة تشب من اختلال التوازن بين الحقوق والواجبات: بين الرجل وبين المرأة، وبين الوالد وبين الولد. وفي مجتمعاتهم أحقاد موروثة، وضغائن مكبوتة، ومظالم اجتماعية تعمل عملها في إثارة الأعصاب واشتجار العداوات.. وهكذا يعيشون في حرب قبل أن يخوضوا الحرب، ويفقدون أثر السلم عندهم وهم يدعون إليه غيرهم، ويتظاهرون بالرغبة في إقرار السلام وهم يثيرون العداوات، ويدوسون الحرمات، ويتنازعون على استلاب ثروات الأمم وتقرير مصائر الشعوب.. ولذلك فهم دائماً وأبداًَ يعملون عمل المحاربين وإن تظاهروا بسيما المسالمين...

إن من فقد السلام في نفسه ومجتمعه أعجز من أن يعطي السلام لبلد غير بلده ولشعب غير شعبه، ولولا أن قادة الأمم القوية اليوم يعيشون في جو محموم مسموم داخل أنفسهم وبلادهم لاستطاعوا أن يجنِّبوا العالم خطر حربين عالميتين وطلائع حرب ثالثة قد لا تبقي على عالم الحضارة ولا تذر.. فهل يفتش ساسة العالم وفلاسفته وزعماء الإصلاح فيه عن شريعة تهديهم إلى السلم وتجنب أممهم والعالم ويلات الحروب؟ هل يفتشون عن ذلك في شريعة عملية كالإسلام تعطي السلم من نفوس عبدت الله الرحيم السلام، وجعلت تحيتها فيما بينها الرحمة والسلام، وهفت بأرواحها إلى المقام في الجنة دار السلام؟!. هل لهم أن يشاهدوا مؤتمر السلام العالمي الخالص لوجه الله، البالغ الأثر في خدمة الإنسانية.. في موسم كموسم الحج، يجتمع فيه الوافدون من مختلف بقاع الأرض ينشدون السلام في بيت السلام، في سموّ القديسين والشهداء، وفي أخلاق الرسل والأنبياء ?فلا رفث ولا فسوق ولا جدال?؟ هل لهم أن يشاهدوا مثل هذا المؤتمر الرباني في بقعة نائية من الأرض، وقد انتزع من قلوب الناس عوامل الحروب والفتن والخصومات ثم أعادهم إلى أوطانهم دعاة أمن، وحملة هدى، ورسل سلام، هل لهم أن يروا بأعينهم في مثل هذا المؤتمر العالمي الإلهي للسلام، قدرة الإسلام على خلق السلام في نفوس الناس، حتى ليجمعهم على صعيد الأخوة الكريمة المتعاونة الطاهرة مع اختلافهم في الألوان واللغات والأوطان؟..

يرحم الله برنارد شو ما كان أنصفه وأصدقه حين قال[1]: "إن محمداً يجب أن يدعى منقذ الإنسانية، ولو أن رجلاً مثله تولى قيادة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته بطريقة تجلب إلى العالم السلام والسعادة اللذين هو في أشد الحاجة إليهما".

اللهم أنت السلام, ومنك السلام وإليك يعود السلام، فحيّنا ربنا بالسلام.

[1] من رسالة له بالإنجليزية "نداء للعمل": مجلة الأزهر: الجزء العاشر من السنة الرابعة ص 720.