نشأة الحركة الإسلامية في السودان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
نشأة الحركة الإسلامية الحديثةفي السودان
1946م1956م

الدكتور محمد الخير عبد القادر

الدار السودانية للكتب – الخرطوم

شكر وتقدير

ما كان لهذه الدراسة أن تحقق غايتها في التعريف بنشأة الحركة الإسلامية المعاصرة في السودان إلا بفضل الله سبحانه وتعالي ثم بعون من شارك في تزويد المؤلف بالحقائق والبيانات التي استند إليها في معالجة تلك الفترة من تاريخ السودان الحديث وكان للرواد الأوائل من شبان الحركة الإسلامية – في طور نشأتها – النصيب الأوفى في الإدلاء بما عرفوا من الحقائق التي وعتها الذاكرة وسرد الأحداث التي شهدوها أو شاركوا فيها . ولئن لم يتسع المجال لذكر أسمائهم تفصيلا , فإن هذه الصفحات لتنطق بما أسدوا من عون .

والشكر متصل لدار الوثائق القومية ودار جامعة أفريقيا العالمية للطباعة والنشر ومعامل التصوير الملون بالخرطوم , ولكل من شارك بالتشجيع أو النصح أو مراجعة النصوص , وأخص بالذكر الأستاذ دفع الله الحاج يوسف والأستاذ محمد عثمان محمد العوض والأستاذ وداعة محمد الحسن عكود وبروفسير يوسف فضل حسن وبروفسير مدثر عبد الرحيم الطيب وبروفسير محمد إبراهيم أبو سليم والدكتور على صالح كرار وبروفسير عباس محجوب , فلهم جميعا تحية شكر وتقدير

محمد الخير عبد القادر

أم درمان

10 جمادي الآخرة 1418 هـ - 12 أكتوبر 1997م

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد صدر عن بعض دور النشر العربية عدد من المؤلفات خلال السنوات ( 1982 -1994م) تناولت تاريخ الحركة الإسلامية الحديثة في السودان وتتبع جذورها التاريخية وصلتها بالحركات الإسلامية المعاصرة في العالمين العربي والإسلامي , وحركات البعث والتجديد التي سبقتها خلال القرن التاسع عشر الميلادي كحركتي الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية والسيد أحمد بن إدريس والحركة السنوسية في ليبيا ودعوة الأفغاني ومحمد عبده للإصلاح والوحدة الإسلامية وثورة الإمام محمد أحمد المهدي في السودان .

تطرقت تلك الدراسات لطبيعة الحركة الإسلامية الحديثة في السودان : أصولها وخصائصها وأهدافها ومناهجها و كما عنيت بتقصي المنابع الفكرية التي نهلت منها والظروف السياسية الخارجية والداخلية التي مهدت لظهورها وأحاطت بنشأتها .

وغني عن القول أن الحركة الإسلامية الحديثة في السودان كانت في سياقها التاريخي امتدادا لما سبقها من حركات الإصلاح الديني والسياسي والبعث الإسلامي وبثا لروح جديدة في الأمة الإسلامية لمواجهة الأخطار التي أحدقت بها منذ أن تداعت عليها أمم الغرب الأوربي في هجمتها الاستعمارية الضارية خلال القرن التاسع عشر الميلادي ولكنها إلى جانب ذلك كانت استجابة لتحديات داخلية وخارجية وظروف محلية تتعلق بالموقع الجغرافي الذي نشأت فيه الحركة وتاريخ المجتمع الذي استجاب لها انطلاقا من هويته ومثله وخصائصه .

تناولت الدراسات سالفة الذكر الحركة الإسلامية في السودان خلال فترة تبلغ خمسة وعشرين عاما وأو تزيد ومنها ما جاوز مداها لازمني خمسة وثلاثين عاما وتباينت تلك الدراسات في معالجة الأحداث وفقا لرؤية المؤلف ومنهجه إيجازا وتفصيلا تخصيصا وتعميما, تعليقا , وتقويما .

وتصدي بحث آخر لدراسة الحركة في إطار : ( العلاقات المصرية السودانية) خلال الفترة ( 19541956م) استنادا إلى ما نشر في الصحف السودانية – بصفة أساسية – خلال تلك الفترة .

وتهدف هذه الدراسة إلى التعريف بنشأة الحركة في السودان خلال فترة التكوين ( 19461956م) بشئ من الإفاضة واستدراك ما لم تتناوله الدراسات السابقة وتفسير بعض الأحداث التي لم تحظ بتفسير من قبل أو فسرت على نحو لا يتفق وحقيقة مدلولها وذلك استنادا إلى التجربة الذاتية واستنطاق الوقائع التي شهدها الكاتب أو شارك في جزء منها أو استمد معرفته بتا من مصادرها الأصلية .

مقدمة

نشأت الحركة الإسلامية في السودان . الحديث خلال السنوات العشر الأخيرة من تاريخ الاحتلال البريطاني فعاصرت فجر الحرية وانتصار الحركة الوطنية والتطورات الدستورية التي طوت صفحة " الحكم الثنائي " ورفعت علم السودان الحر المستقل .

وعلى صعيد آخر شهدت الحركة الناشئة تصاعد نفوذ الشيوعيين في السودان بين طلاب المدارس والمعاهد العليا والجامعات ونقابات العمال كما شهدت سنوات القهر والاضطهاد الذي تعرضت له الحركة الإسلامية في مصر ( الإخوان المسلمون ) على عهد محمود فهمي النقراشي وإبراهيم عبد الهادي ( 19481949 م) وعلى عهد جمال عبد الناصر منذ 12 يناير عام 1954م.

كذلك تأثرت الحركة إبان تأسيسها بجهاد الإخوان المسلمين في فلسطين واستشهاد صفوة بنيهم ذودا عن حياض الإسلام وإحباطا للغزو الصهيوني الرامي إلى إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين ( 1948 م)

وقد شارك السودان في معركة تحرير فلسطين بطائفة من المتطوعين واستشهد منهم ضباط وجنود في عدة مواقع نذكر منها على سبيل المثال " موقعة الكبيبة" و" بيت دراس " " وعبديس " و" بيت لحم" فليس بدعا أن يتردد صدي دعوة الإخوان المسلمين في السودان وهي الدعوة التي عرفت – منذ ظهورها في مصر ( 1928م) بقيادة الشهيد حسن البنا – بطابعها العالمي ومنحاها الأصيل وشمول نظرتها لقضية البعث الإسلامي واستنادها إلى فكر ومنهج وتخطيها الحدود السياسية التقليدية لتخاطب الفرد المسلم والمجتمع المسلم أيا كان موقعه . ومن ثم امتدت جذورها إلى سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والمغرب العربي قبيل الحرب العالمية الثانية ونشط دعاتها بعد نهاية الحرب في عام 1945م فكان حظ السودان من ذلك النشاط استقبال وفد في أكتوبر عام 1946 م يمثل قيادة الإخوان المسلمين في مصر , ضم الأمين العام للإخوان ( وكان يسمي السكرتير العام ) وهو الأستاذ عبد الحكيم عابدين والأستاذ جمال الدين السنهوري من أبناء السودان المقيمين في مصر وجاءت الزيارة في وقت شغل فيه الحركة الوطنية في السودان بمواجهة الاحتلال البريطاني الجاثم على أرض الوطن منذ مطلع القرن العشرين بل وأواخر القرن التاسع عشر .

فهل أفلح المسلمون في تبليغ رسالتهم إلى أبناء السودان خلال تلك الزيارة العابرة والسودان ما زال في قبضة الإنجليز ؟ وهل ظهرت في الوقت ذاته - أو بعد أمد قصير - حركة إسلامية أخري بين صفوف الطلاب الجامعيين في الخرطوم , مستقلة عن حركة " الإخوان " في مصر ثم سمت نفسها " الإخوان المسلمون " ؟ وهل كانت تلك الحركة الطلابية استجابة لدعوة " الإخوان " أم كانت تيارا محليا نجم عن ظروف سياسية واجتماعية داخلية ؟ وسواء أكانت الأولي أم الثانية فما طبيعة تلك الحركة وبواعثها وفكرها وأهدافها ووسائلها ؟ ماذا كسبت خلال الفترة موضع البحث , منفردة أم منصهرة في حركة الإخوان المسلمين ؟.

تلك بعض الأسئلة التي تطمح هذه الدراسة في الإجابة عليها , في سياق تقويم عام للنهضة الإسلامية المعاصرة إبان نشأتها وما بذلت من جهد في تشكيل مستقبل السودان السياسي ونهضته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية وعلاقاته الخارجية .

ونظرا لارتباط الحركة الإسلامية بالمجتمع السوداني وتطوره السياسي والاجتماعي وتأثرها بظروف سياسية داخلية وخارجية ذات صلة وثيقة بتاريخ السودان السياسي والديني وجذوره العربية الإسلامية فقد وطأت للبحث في الفصل الأول بحديث عن المجتمع السوداني وجذوره العربية الإسلامية بينما عنيت في الفصل الثاني - في كثير من الإيجاز – بالنفوذ الأوربي وأثره في تشكيل تاريخ السودان السياسي بدءا بالوصاية الأوربية في عصر محمد على باشا أو ما اصطلح علي تسميته " الحكم التركي – المصري) وعبورا بالثورة المهدية إلى عهد الاحتلال البريطاني الذي شهد ميلاد الحركة في سنواته الأخيرة .

ويتناول الفصل الثالث ظهور الحركة في السودان وصلتها بحركة الإخوان المسلمين في مصر وصراعها مع التيار الماركسي الذي أحكم قبضته على محيط الطلاب ونشاط المرأة كذلك تطرق هذا الفصل لبيان الصعاب التي واجهت الحركة في تلك المرحلة وكيف أمكن تجاوز الخلاف من خلال الشورى في " مؤتمر العيد "

ويلقي الفصل الرابع الضوء على نشاط الحركة – بعد اكتمال بنائها الإداري في مجال السياسة والعمل الوطني وتبني قضية " الدستور الإسلامي" والدعوة إلى استقلال السودان وإعداد الرأي العام وتوحيد كلمة الأحزاب السياسية والطوائف الدينية لتأييد فكرة الدستور الإسلامي وتنفيذها بعد إعلان الاستقلال .

ويعالج الفصل الخامس منهج الحركة التربوي ونشاطها الفكري والثقافي وهو المنهج الذي يفصح عن فلسفة الحركة ورؤيتها لبناء المجتمع الإسلامي وإعداد جيل يضطلع بأمانة الدعوة الإسلامية في العصر الحديث .

ويتصل الحديث في الفصل السادس الذي يبسط بعض القضايا الفكرية الناجمة عن تأثر العالم الإسلامي بالاتجاهات الفكرية الأوربية الحديثة التي استأثرت بنصيب لا يستهان به في القبول لدي طائفة من النخبة المستنيرة في الوطن العربي الإسلامي وتصدي الحركة الإسلامية لمقاومة هذه التيارات الدخيلة ودحض مقولاتها استنادا إلى معطيات الفكر الإسلامي .

الفصل الأول: المجتمع السوداني وجذوره العربية الإسلامية

  • الهجرة العربية وآثارها
  • جهود العلماء والمتصوفة
  • العلم في رحاب الدولة
  • تبلور هوية الأمة


الهجرات العربية:

لئن تباينت المؤثرات الداخلية والخارجية وتعددت البيئات والعوامل السياسية والبشرية التي صاغت تاريخ السودان الحديث فإن الإسلام والثقافة العربية يمثلان مركز الثقل بين تلك المؤثرات .

وكان للموقع الجغرافي أثر هام في ربط السودان بما جاوره من أقطار منذ عصور التاريخ الباكرة . فمن خلال البحر الأحمر ومعابره ( باب المندب وبرزخ السويس ) اتصل السودان بشبه الجزيرة العربية ومصر وعلي امتداد نهر النيل شمالا ومسالك الصحراء و طرق التجارة توثقت صلة السودان بمصر وبأقطار الشمال الإفريقي المطلة على البحر المتوسط والأندلس . أما البحر الأحمر فكان أهم معبر للهجرات البشرية من بلاد العرب إلى السودان وادي النيل منذ عصور بعيدة ولعلها كانت في بدايتها هجرات قليلة العدد ضعيفة الثر لكنها تواترت على مر العصور حتى غدا لها شأن يذكر . فعلي سبيل المثال نذكر هجرة قوم من قبيلة حمير قدموا من منطقة ( الشحر ) بجنوبي الجزيرة العربية – قبل ظهور الإسلام – عرفوا فيما بعد بأنهم من نصاري المذهب اليعقوبي, واستقروا في تلال سنكات وعتباي بشرق السودان واختلطوا بالبجة عن طريق المصاهرة ثم اعتنقوا الإسلام في عصر لاحق عندما غمرت السودان هجرات العرب المسلمين القادمين من مصر وعرف أولئك المهاجرين الأوائل لدى سكان البحر الأحمر بالحضارمة كذلك تتحدث المصادر عن مجموعة صغيرة من قبيلة هوازن عبرت البحر الأحمر في نهاية القرن لسابع الميلادي وعرفت بعد بالحلقة ولكنهم لمسوا عداء من سكان المنطقة فساروا على وادي نهر القاش حتى استقروا في هضبة التاكا بالقرب من كسلا . ومما يذكر أن هذه أول مجموعة من العرب المسلمين استوطنت بلاد البجة أو البجاة .

ومن اتساع دائرة الفتوح الإسلامية تواترت الهجرات العربية إلى السودان على نطاق واسع لاسيما خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين فتدفقت جموع المهاجرين من حدود البلاد الشرقية والشمالية ومن الشمال الغربي الإفريقي واتخذت الهجرة صورا متعددة تباينت بواعثها : فمنها ما كان ابتغاء التجارة أو التعدين – في أرض عرفت بثروتها المعدنية المذخورة – ومنها ما كان طلبا للمرعي أو الأمن والاستقرار استجابة لظروف سياسية قاهرة ومنها هجرة التجارة والعلماء ودعاة التصوف الذين كان لهم الفضل الأكبر في نشر الإسلام بين أهل السودان على مراحل مختلفة .

وباكتمال الهجرات العربية في نهاية القرن الخامس عشر أضحي الطريق ممهدا لقيام دولة الفونج العربية الإسلامية التي ولدت في مطلع القرن السادس عشر الميلادي عام 1504 م وقد وصف أحد المؤرخين قيام هذه الدولة بأنه إعلان رسمي للدين الإسلامي والسيادة العربية في السودان إذ امتد نفوذها من جبال فازوغلي جنوبا إلى الشلال الثالث شمالا ومن سواكن شرقا إلى النيل غربا .

على أن أثر الهجرات العربية سياسيا كان أو ثقافيا لم يقف عند حدود الدولة السنارية في حوض النيل الأعلى وروافده وإنما جاوزها إلى إقليمي كردفان ودار فور , وكان له شأن في نشر الإسلام والثقافة العربية وتأسيس الممالك الإسلامية في تلك البقاع كسلطنة دار فور وإمارة المسبعات ومملكة تقلي في كردفان ويمكن تقسيم القبائل العربية التي استقرت في السودان إلى مجموعتين :

أولاهما : المجموعة الجعلية وتعادل المجموعة العدنانية في التقسيم العربي التقليدي وقد استقرت بصفة أساسية في الأقاليم وتضم هذه المجموعة قبائل الجعليين والميرفات والرباطاب والمناصير والشايقية والجوابرة والركابية والجموعية والجمع ومنها قبائل بعدت عن ضفاف النيل في اتجاه الغرب واستقرت في إقليم كردفان وأهمها الجوامعة والغديات والبطاحين .

أما المجموعة الثانية : التي تقابل فرع قحطان اليمن أو عرب الجنوب في التقسيم العربي القديم فتشمل جهينة التي اتخذت لها مواطن متفرقة في البلاد :

فمنهم من سكن في الجزء الشرقي من الإقليم الأوسط ( الجزيرة ) كقبائل الشكرية ورفاعة ومنهم من طاب لهم المقام في كردفان مثل مجموعة فزارة ودار حامد وبني جرار والشنابلة والزيادية والبزغة , ومنهم من جمع بين الإقامة في كردفان ودار فور , كالقبائل التي استنصر بها السلطان سيلمان الأول في تأسيس دولته بدار فور وهم الهبانية والرزيقات والمسيرية والتعايشة وبنو هلبة والمعالية في الجنوب والحمر ( في الشرق ) والزيادية ( في الشمال ) والماهرية والمحاميد وبنو حسين في الغرب .

ومن أهم القبائل العربية في مملكة تقلي الحوازمة وكنانة والكواهلة وأولاد حميد والبديرية والجوامعة .

وثمة قبائل الهلاليين وربيعة والهوارة ,والعركيين في الإقليم الأوسط ( الجزيرة ) وغرب السودان وهم ينتسبون إلى الشيخ دفع الله بن مقبل بن نافع العركي الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي .

جهود العلماء والمتصوفة :

وعلى مدي ثلاثة قرون من تأسيس الدولة السنارية وفي ظل الاستقرار السياسي الذي حققته في أرجاء البلاد تفاعلت الروافد الإسلامية العربية مع البيئة المحلية وتوغل الإسلام في رفق وأناة بين أهل البلاد واتخذوا العربية لسانا لهم ذلك أن ترسيخ العقيدة الإسلامية في مجتمع تمتد جذوره إلى ماض بعيد جمع بين الإرث الوثني الإغريقي – الفرعوني وبعض الشعائر النصرانية لا يتأتي إلا على مكث ومن ثم أعقب اكتمال الهجرات العربية واستقرارها في شمال السودان مرحلة جديدة من النشاط العلمي والهجرة الداخلية لتعميق العقيدة الإسلامية وتصحيح مفاهيمها على أيدي العلماء والفقهاء وحفظة القرآن الكريم وأهل التصوف فقد كانت البلاد لأول عهدها بالإسلام تفتقر إلى من يفقه أهلها في الدين ويبين لهم أحكامه نظرا إلى أن الدعاة إلى الإسلام وقتئذ – وكثرتهم من التجار والبدو – لم يكونوا على إحاطة عميقة بالعلوم الإسلامية وهم يعملون في بيئة يسودها الجهل وتتجاذبها بقايا الموروثات التقليدية التي لم تندثر بعد زوال مملكتي النوبة وعلوة وظلت تمارس في أقصي شمال السودان حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وقد وصفت تلك الفترة بأنها عهد تيه وضلال وجاء في أخبار الشيخ غلام الله بن عائد اليمني وهو أول العلماء الذين قدموا إلى تلك المنطقة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي أنه آثر الإقامة في دنقلا " لأنها كانت في غاية الحيرة الشديدة والضلالة لعدم وجود القرآن والعلماء بها ".

ثم تواتر قدوم العلماء والمتصوفة فجاء الشيخ حمد أبو دنانة من المغرب في القرن الخامس عشر وأقام في " سقادي غرب " بالقرب من المحمية وأتي الشيخ إبراهيم البولاد من مصر إلى دار الشايقية ودرس فيها العلم وخليل والرسالة وانتشر علم التوحيد والتجويد والفقه في الجزيرة .

ونحو عام 1545 م قدم من بغداد الشيخ تاج الدين البهاري " وأدخل الطريقة الصوفية في دار الفونج أى القادرية وأخذ الشيخ محمد ولدي عيسي طريق القوم على يد محمد التلسماني المغربي الذي علمه علم الكلام وعلوم القرآن "

وقد جاء التصوف إلى السودان أثرا لانتشار الطرق الصوفية في العالم الإسلامي وبخاصة في الأقطار المجاورة للسودان كالحجاز والمغرب ومصر . فقامت الطريقة القادرية أصلا على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني في القرن الثاني عشر الميلادي وتلتها الطريقة الشاذلية المنسوبة إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ( 1196 – 1258م) الذي ولد في تونس وانتشرت طريقته في مراكش في القرن الخامس عشر ورسخت دعائمها في أيام الفونج على يد الشيخ خوجلي عبد الرحمن المحسي المتوفي 1742 م وكان في أول أمره قادريا واشتهرت الطريقة من بعده على يد الشيخ حمد بن محمد المجذوب ( 19941776م) الذي أسس فرعا للشاذلية في الدامر وسميت طريقته بالمجذوبية .

وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر جاءت الطريقة الميرغنية عام 1853 م على يد السيد محمد عثمان الميرغني ( 17731853م) تلميذ السيد أحمد بن إدريس الفاسي المتوفي عام 1837م وكثر أتباعها في أجزاء كثيرة من البلاد وخاصة في الإقليمين الشمالي والشرقي وبعض أجزاء كردفان ولعبت دورا هاما في تاريخ السودان الحديث ومن تلاميذ السيد الميرغني الكبير الشيخ إسماعيل بن عبد الله الكردفاني مؤسس الطريقة الإسماعيلية .

العلم في رحاب الدولة :

كانت الجهود التي بذلها العلماء والمتصوفة في فجر الدولة السنارية على نحو ما سلف ذكره بمثابة توطئة لمرحلة تالية اتسمت بالعمل على ترسيخ العقيدة الإسلامية على أسس سليمة وعلى نطاق جغرافي أوسع امتد إلى سلطنات كردفان وتقلي ودار فور .

وحمل أمانة الدعوة الإسلامية وتبليغها في هذه المرحلة الجيل الجديد من أبناء النوبة المستعرين ورجال القبائل العربية الذين استقروا منذ عشرات السنين في الأجزاء الشمالية من سلطنة الفونج وهي المناطق الخاضعة لنفوذ العبدلاب والتي حظي فيها الفقهاء وأهل التصوف والعلماء بتقدير الدولة والمجتمع وتولوا مراكز القيادة والتوجيه والإرشاد لدي العامة والخاصة وهذا ما يسر هجرة العلماء إلى مناطق أخري تتطلع إلى الأخذ عنهم والاستماع إليهم فاتجهوا صوب الجنوب الأوسط في منطقة الجزيرة وغربا نحو كردفان ودار فور معلمين ومبشرين تحفهم رعاية السلاطين وإيثارهم لأهل العمل والفضل فقد كان الشيخ عجيب المانجلك خليفة عبد الله جماع على مشيخة العبد لاب يجلهم ويعيطهم الإقطاعات الواسعة ويحثهم على الإقامة في مملكته ليشيعوا تعاليم الدين وبالمثل كان أولئك العلاء والصالحون موضع التكريم والتوقير حيثما حلوا في مملكتي تقلي ودار فور كان سلاطين تقلي يبروهم بالعطايا والإقطاعات إيثارا لعلمهم تقلي ومما يذكر أن الشيخ حسن ودحسونة الذي قدم من الجزيرة الخضراء ( إحدي جزائر الأندلس ) والشيخ تاج الدين البهار قد زارا مملكة تقلي وأولهما في القرن السابع عشر الميلاد والثاني خلال زيارته مملكة الفونج قادما من بغداد نحو عام 985هـ / 1577م وأقام في السودان سبعة أعوام سلك فيها عددا من المريدين .

ومن الشواهد الدالة على تعاظم النفوذ السياسي والاجتماعي لمشايخ الطرق الصوفية لدي سلاطين الفونج والاستجابة لشفاعتهم فيما ينجم من خلاف سياسي بين الحكام والرعية وساطة الشيخ إدريس ود الأرباب التي حسمت النزاع بين السلطان عدلان وأبناء الشيخ عجيب الذين خرجوا من طاعته خلال الربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي , ونجاح مسعاه في الصلح بين الطرفين .

ومما جاء في سيرة الشيخ حسن ودحسونة أنه أصبح حاكما فعليا في منطقته وورد عن مجاذيب الدامر أن نفوذهم الديني والسياسي خلال القرن الثامن عشر امتد من ضفاف النيل شمال الدامر وجنوبها إلى دار البجاة وسواحل البحر الأحمر .

ولعل خير مثال لما حظي بت العلماء من علو المقام في سلطنة دار فور زيارة الشيخ عمر التونسي ومن بعده ابنه " محمد " الذي تحدث في كتابه " تشحيذ الأذهان " عن قدوم والده إى دار فور في عهد السلطان عبد الرحمن الرشيد قائلا ولما ظهر عدل السلطان " أى عبد الرحمن الرشيد " وحبه للعلماء وأهل الفضل والأشرف وفد عليه العلماء والأشراف م جهات عديدة فكان أول وافد عليه والدي عليه سحائب الرحمة والرضوان وكان حين قدومه إلى دار فور نزل " بكوبية " على الفقيه حسن ود عووضة وبلغ أهل كوبية أنه جاءهم رجل عالم من تونس فاجتمع عليه أكابرهم ... وطلبوا منه قراءة مختصر الشيخ خليل فقرأ لهم فيه ربع العبادات ووصل خبره إلى الفقيه مالك الفوتاوي نور الأنصاري زوج ابنته الميرم ( أى الأميرة ) حواء وكان رجلا .. محبا لأهل العلم .. فقرأ على والدي نبذة من صحيح البخاري وأعلم السلطان بعلميته وأنه ماهر في العلوم العقلية والنقلية فأحضره لديه وقرأ عليه في شهر رمضان جزءا من الحديث .. إلخ"

ويذكر المؤرخون أن القائمين على أمر الممالك الإسلامية المذكورة التزموا تعاليم الإسلام وتطبيق الشريعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ومما يذكر في هذا الصدد أن الشيخ إدريس الذي تولي مشيخة العبدلاب عرف بالشدة في تطبيق العقوبة على السرقة " فانقطعت جريمة السرقة في مدته حتى أن الوّاقة كانوا يتركون أموالهم وبضائعهم منتشرة في السوق ليلا ونهارا دون حراسة فلا يضيع منها شئ .

ونلمس في كتاب السلطان محمد الفضل ( 18021839م) الذي أرسله إلى محمد على باشا ردا على كتاب الباشا له في عام 1245 هـ / 1830م اعتداده بالإسلام واعتزازه بتطبيق أحكامه في سلطنة دار فور , فقد جاء في تلك الرسالة الهامة :

" إنكم طالبون دولتنا وطاعتنا وانقيادنا لكم . هل بلغكم أننا كفار وجب لكم قتالنا وأبيح ضرب الجزية علينا .. أورد لك حديث من رسول الله صلي الله عليه وسلم تجد فيه تمليكك؟.. الحمد لله نحن مسلمون وما نحن كافرون ولا مبتدعون ندين بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ونؤدي الفرائض ونترك المحرمات ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر والذي لم يصل نأمره بالصلاة والذي لم يزك نأخذ منه الزكاة ونضعها في بيت المال ونرد الأمانات إلى أهلها ونعطي كل ذي حق حقه .. أما علمت أن عندنا العباد والزهاد والأقطاب والصالحين... الخ ".

ويذكر التونسي أن عهد السلطان عبد الرحمن الرشيد ( 17871802م) شهد قوة الديانة الإسلامية انتشار العلم واتساع نطاق التجارة في دار فور .

وفي مملكة تقلي انتشرت معاهد القرآن ( الخلاوي ) انتشارا واسعا وكان في كل قرية هامة " مسيد " يضم مسجدا ومدرسة للقرآن الكريم يرعاها أهل القرية ونشط السلاطين في الدعوة إلى الإسلام ويسروا كل الوسائل لإقامة أهل العلم بينهم قربوهم إليهم وعملوا بنصائحهم وقدموهم في مجالسهم واستعانوا بهم في رعاية شؤون البلاد ونفذوا أحكام الشريعة ووثقوا صلاتهم بالعالم الإسلامي وحثوا طلابهم على تلقي المزيد من العلوم الإسلامية في الأزهر بمصر وفي مكة المكرمة والمدينة المنورة

معاهد القرآن والعلوم الإسلامية

وبفضل جهود أولئك الدعاة والعلماء أضحت منظومة الممالك الإسلامية في حوض النيل الأعلي وكردفان ودار فور منارات ينبعث منها هدي القرآن الكريم وعلوم الفقه والتوحيد والتصوف , وتبوأ حفظه القرآن الكريم ومعلموه مكانا عليا لاضطلاعهم برعاية الناشئة وتعليمهم القرآن فيما عرف بالمدارس القرآنية ( الخلوة والسيد) حيث يتلقي الصبية – مع حفظ القرآن – مبادئ القراءة والكتابة والحساب أحيانا وقويت الصلة بين حفظة القرآن الكريم والطرق الصوفية , إذ كانوا يشاركونها نشاطها ويحيون ملتقياتها فاكتسبوا بذلك مزيدا من التقدير وعمت الخلاوي قري السودان ومدنه وانتشرت انتشارا واسعا ولقيت استجابة عظمي لدي أهل البلاد المتطلعين إلى تربية أبنائهم تربية إسلامية والتماس البركة والثواب .

لقد بدأت دور العلم – كما سلف القول – بمدرسة غلام الله بن عائد في دنقلا وهي التي وضعت الأساس للمدارس الكثيرة التي عمت المنطقة فيما بعد وتلتها – على فترة من الزمن – في دار الشايقية مدرسة أولاد جابر وهم إبراهيم وإسماعيل عبد الرحمن وعبد الرحيم وقد اقترن اسم كل منهم بصفة معينة فقيل :" إن أعلمهم إبراهيم وأصلحهم عبد الرحمن , وأورعهم إسماعيل وأعبدهم عبد الرحيم وأختهم فاطمة أم الشيخ صغيرون نظيرتهم في العلم والدين " وكانت مدرستهم تسير على منهاج مقرر من العلوم الإسلامية ومن خريجها أبو إدريس العركي ويعقوب بانقا والشيخ صغيرون مؤسس مدرس القور الذي أدخل علم التصوف في منهاج الدراسة

وتخرج على يديه حمد ولد أم مريوم وخوجلي عبد الرحمن وفرح ولد تكتوك وهنام مدرسة نوري التي أنشأها عبد الرحمن ود حمدتو وعمرت أمثر من قرن وخرجت أجيالا من العلماء أشهرهم إبراهيم النويري مؤسس مدرسة أربجي وحمد المجذوب مؤسس مدرسس الدامر والطريقة المجذوبية وقد صوفت مدينة الدامر بأنها أضحت في القرن الثامن عشر أبرز مركز للتعليم الديني جيث أسست أسرة المجاذيب ما يمكن _ إلى حد كبير – أن يسمي جامعة إسلامية يتمتع طلابها بصلات مع دور العلم الكبري ذات الشهرة لعظيمة ف يمصر والحجاز .

وكان طلاب العلم يفدون إلى الدامر من سنار وكردفان ودار فور لتقلي العلوم الإسلامية وتبعا لهجرة العلماء من المناطق الشمالية نحو الجنوب المدارس من مقرات إلى شندي وعرفت بمدارس الأبواب ثم تلتها مدارس قري التي انتشرت في جزيرة توتي من أشهرها مدرسة أرباب العقائد التي بدأ بتا عمران الخرطوم وشهدت أرض الجزيرة قيام مدرسة الشيخ محمد العركي في النيل الأبيض والمدارس التي أنشأها أبناء جابر الآخرون وأبناء عمومتهم في أبي حراز والهلالية والتي امتدت إلى جبل الحرازة في كردفان .

لقد كان انتشار الإسلام وذيوع الثقافة العربية في الممالك الإسلامية سالفة الذكر ثمرة جهد مشترك بين الفقهاء ومعلمي القرآن ( الفقرا ) وعلماء التصوف الذين التقوا في رحاب الدعوة إلى الإسلام والتمكين لها في الأرض كل في مجال تخصصه .

وفي إطار المذهب المالكي الغالب – ومع وجود قلة اتبعت المذهب الشافعي في بربر وسواكن – كرست مدارس السودان جهدها لتدريس القرآن وعلومه والفقه والتوحيد , واللغة العربية وعلومها فكانت رسالة ابن أبي زيد القيرواني ومختصر خليل بن إسحاق ومقدمة السنوسية عماد المقررات التي تقوم عليها الدراسة .

تبلور هوية الأمة :

لقد وضعت معاهد القرآن الكريم ومجالس وآداب التصوف وحلقات الدراسة في المساجد والزوايا الأسس القويمة للتربية وغرست مقومات السلوك والقيم الإسلامية في نفوس الناشئة على نحو توارثته الأمة جيلا بعد جيل وعضت عليه بالنواجذ حتى في أحلك الفترات التي تعرضت فيها البلاد للغزاة الأوربيين الذين حاولا أن يحدثوا في عالم الإسلام وعلى أرض السودان تحولا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا يستند إلى معطيات الحضارة الغربية في مجال التربية والفكر والثقافة والإعلام ويمكن للعلمانية في المجتمع المسلم .

بلغ المد الإسلامي ذروته في السودان خلال القرن الثامن عشر الميلادي حتى إذا ما أطل القرن التاسع عشر كانت العقيدة الإسلامية قد استقرت في الجزء الأعظم من سودان وادي النيل ضاربة بجذورها في أعماق ذلك المجتمع الذي جاء وصفه في كتاب " الطبقات في خصوص الأولياء والعلماء والصالحين " لمؤلفه محمد النور بن ضيف الله المتوفي في عام 18091810 م وليس معني ذلك أن المجتمع كان خلوا من الممارسات والعادات المخالفة للإسلام ولكن تيار الإسلام كان أقوي وأشمل .

ولئن دالت الممالك الإسلامية التي حققت ذلك الإنجاز العظيم وتناثرت أشلاؤها تحت أقدام جيش محمد على باشا ( 1820 م – 1823 م) فإنها أورثت المجتمع السودان شخصيته المتميزة متمثلة في نسيج فريد من من تعاليم الإسلام واللسان العربي والتمازج الرفيق بين الأعراق والسلالات البشرية وولد السودان الحديث بخصائصه وسماته وثقافته ومثله وقيمه , وأعرافه وتقاليده وأنماطه السلوكية المتعددة مع غلبة فائقة للعقيدة الإسلامية والثقافة العربية .

وفي الوقت ذاته احتفظت العناصر الأخرى التي لم تنصهر في المجتمع الإسلامي العربي بإرثها من المعتقدان واللغات والتقاليد والأعراف وظلت تؤدي طقوسها وشعائرها الدينية في رحاب السماحة التي أضفاها الإسلام على المجتمع الكبير الذي تفاعلت معه.

وكان هذا الإرث الحضاري بما يحمله من قيم ومثل عليا ثمر جهود متصلة لمن سلف ذكرهم من العلماء والفقهاء وحفظة القرآن الكريم ورجال التصرف والسلاطين ففي الدولة السنارية كانت التقاليد المورثة من عهد ( علوة والمقرة ) موضع احترام إلى جانب تطبيق تعاليم الإسلام من قبل الدولة التي كفلت لغير المسلمين الحرية الكاملة في إقامة شعائرهم والدفاع عن عقيدتهم .

لقد ذكر الدكتور مكي شبيكة أن الحرية في سنار كانت مكفولة لكل الأجناس والأديان وأن التسامح كان سمة السكان بالرغم من تمسكهم الشديد يدينهم .

وفي مملكة تقلي ( 1560 – 1899) كانت تسود المجتمع روح عميقة من السماحة والتماسك هو ثمرة قرون من التعايش والتاريخ المشترك في ظل الإسلام الذي كان العامل الأساسي في بناء المملكة ونمرها وتطورها .

ومع التزام سلاطين دار فور أحكام الشريعة الإسلامية كان القضاء العرفي مرعيا وتحكمه مدونة الأحكام التي عرفت بـ " قانون دالي " وهو بمثابة القانون الجنائي العرفي الذي يتولي تطبيق أحكامه أمراء الأقاليم ( المقاديم – جمع مقدوم ) تحت إشراف " أبو شيخ " صاحب أكبر مقام في السلطة ( لعل المقصود بها السلطة القضائية العرفية ) .

تلك هي حقائق التاريخ التي جعلت السودان الحديث قلعة إسلامية استعلت على كل ما أصابها من ضروب الغزو الأجنبي والزيغ الفكري الذي تعرضت له خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الميلادي أثناء ما عرف بفترة الحكم التركي المصري ( 18211884 م) والعهد الثنائي ( 18991955م) .

ولا يعنينا الحديث عن حكم محمد على باشا وذريته والثورة المهدية والحكم الثنائي إلا بالقدر الذي يوضح عمق التجربة الإسلامية وارتباطها يوجدان الفرد والجماعة وقدرتها على استنفار الأمة للتصدي للعدوان الخارجي دفاعا عن مقومات وجودها وتثبيتا لمسارها على هدي الدعوة الإسلامية .

الفصل الثاني: النفوذ الأوربي في السودان

  • الوصايا الأوربية.
  • الأوربيون في خدمة السلطان.
  • الثورة المهدية .
  • الاحتلال البريطاني .
  • الحركة الوطنية وبشائر الفجر .


عرف السودان الأوربيين منذ فجر الدولة السنارية نذكر منهم على سبيل المثال داؤود روبيني اليهودي الذي قال إنه قضي وقتا في ضيافة عمارة دنقس عام 1533 م وأوليا شلبي التركي الذي قدم إلى سنار عام 1671 / 1672 وطائفة أخري من السياح والزوار والتجار أمثال فريدريك كرمب الألماني ( 1701/ 1702م) وجيمس بروس الإسكتلندي الذي عبر سنار عام 1772م إثر عودته من أثيوبيا بعد اكتشافه منبع النيل الأزرق والرحالة السويسري جون لويس بيركهارت الذي قدم السودان خلال عامي 18121814 م واجنا نتيوس بالمي التاجر النمساوي الذي زار الأبيض ومنطقة جبال النوبة بين عامي ( 1837م1839) وعاد إلى مصر عام 1841 م وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم وقد دون كثير من هؤلاء مشاهداتهم في السودان نونشروها في مؤلفات بعد عودتهم إلى ديارهم وأصبح بعضها مراجع هامة لتاريخ السودان في عهود السلطنات الإسلامية وعصر محمد على .

كذلك تطلعت دوائر التنصير في أوربا – على عهد السلاطين الأوائل لدولة الفونج – إلى اتخاذ السودان معبرا لدعاتهم القادمين من أرض البابوية روما في مسيرتهم نحو أثيوبيا عندما نشطت بعثات الفرنسسكان الدينية بتأييد البابا في روما وبعثات الجيزويت تحت رعاية لويس الرابع ملك فرنسا لبسط نفوذهم في أثيوبيا فتوددوا إلى السلطان السناري طالبين الإذن لمبعوثيهم بالسير من القاهرة إلى أثيوبيا عن طريق سنار وكانت مدينة سنار نفسها تستضيف مجموعة كبيرة من المستوطنين الأجانب في نهاية القرن السابع عشر الميلادي ويمثلون خليطا من الأمم والمعتقدات ويتمتعون بعلاقات ودية حميمة مع أهل البلاد ويباشرون نشاطهم التجاري والمهني في سلام واطمئنان .

الوصايا الأوربية :

نخلص مما سلف ذكره إلى أن السودان في عهد سلاطين المماليك الإسلامية التي سبقت عصر محمد على كان دوحة استظل بها الأروبيون في حلهم وترحالهم على تباين معتقداتهم وسلالاتهم وأوطانهم وألسنتهم وهو أمر يتفق مع طبيعة أهل السودان وما جبلوا عليه من كريم الخصال فهم يقرون الضيف ويؤون الغريب ويجيرون المستجير ويكرمون عابر السبيل .

غير أن التطور السياسي والاقتصادي الذي شهدته أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي بعد ظهور الدولة القومية الحديثة ونمو النظام الاقتصادي الرأسمالي وما تمخض عنه من صراع بين الدول الصناعية الكبرى على مواقع النفوذ السياسي والاقتصادي خارج نطاق القارة الأوربية أضفي على الوجود الأوربي في وادي النيل صفة الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية مقرونة بقدر لا يستهان به من القهر والصلف والاستكبار المنبثق عن زهو مفرط بتفوق الحضارة الأوربية وقوتها المادية .

وكان للسودان تصيب من تلك الهجمة الأوربية التي بدأت بالحملة الفرنسية ف يمصر ( 1798م) ففي خلال فترة الاضطراب الذي أعقب خروج الفرنسيين من مصر بين عامي 1803 – 1804م ظهر محمد على باشا على المسرح السياسي وتولي حكم مصر سنة 1805م وهو في الثلاثين من عمره .

وعلى الرغم من أنه تولي السلطة بتفويض من علماء الأزهر – وهم قادة الأمة في تلك الظروف العصبية طوعا واختيارا وعلى شروطهم فقد نكث بعهده وأنكر على الذين أجلسوه على أريكة الحكم , حقهم في مراقبته وانفرد بالسلطة حاكما مستبدا. وفي مقدمة من قلب لهم الباشا ظهر المجن قائد الأمة ونقيب الأشراف السيد عمر مكرم الذي وصفه عبد الرحمن الرافعي بأنه " أخذ على عاتقه أن يمون ترجمان الشعب الصادق ورسوله الأمين في مراقبة ولاة الأمور فكان جزاؤه النفي إلى دمياط في 13 أغسطس 1809م ومكث هناك تسعة أشهر ثم نفي " مرة أخري إلى طنطا في 1 أبريل عام 1822 م ولقي ربه في تلك السنة .

وجمحت بالباشا نزوة الحكم والفتوح فغزا السودان في عام 1821م بحثا عن الذهب والرقيق لتقوية جيشه ودعم خزانته ولما اشتد ساعده بعث ابنه إبراهيم ( 831 – 1832م) لاجتياح سوريا وعزم على الاستقلال عن دار الخلافة فاخترق جيشه الأناضول وأوشك أن يزحف نحو عاصمة الخلافة فتدخلت الدول الكبري لحسم النزاع بين السلطان والوالي المتمرد تحقيقا لمصالحها في أقسام أقاليم الدولة العثمانية واتخذت محمد عليا معبرا وأداة لبسط نفوذها السياسي والاقتصادي في وادي النيل من خلال ما عرف " بتسوية لندن 1840 -1841م ) واستنادا إلى تلك التسوية استصدرت الوصاية الدولية من السلطان عددا من الفرمانات عام 1841 م لإضفاء الشرعية على حكم محمد على في وادي النيل وجاء في الفرمان الخاص بالسودان : إن سدتنا الملوكية كما توضح فرماننا السلطاني السابق قد ثبتتكم على ولاية مصر بطريق التوارث بشروط وحدود معينة وقد قلدتكم فصلا عن ولاية مصر مقاطعات النوبة والدار فور وكردفان وجميع توابعها ملحقاتها الخارجة عن حدود مصر " ( فرمان 13 فبراير 1841 م) .

ومن ثم أضحت تلك الأقاليم السودانية التي شهدت أمجاد الفونج والعبدلاب وسلطنة دار فور وإمارة كردفان أضحت بعد عام 1841 م مرتعا لمن وصفهم الدكتور محمد فؤاد شكري بأنهم حثالة القوم من رعايا الدول الأوربية والإفطار المتاخمة للقطاع الشرقي من البحر المتوسط الذين انقضوا على البلاد انقضاض الصقور على فريستها بحثا عن الثراء السريع وكنز الأموال واتخذوا من تجارة العاج والرقيق مصدرا للكب فكانت مراكبهم تمخر عباب النيل الأبيض تحت حماية أعلام الدول الأوربية التي ينتسبون إليها ومباركة القناصل الذين تولوا الدفاع عنهم في الخرطوم ومن أشهر الأسماء الأوربية التي مارست تجارة الرقيق في السودان جون بارثاريك من " ويلز" وكان نائبا للقنصل البريطاني في السودان منذ عام 1849م ثم أصبح قنصلا عام ( 1960م) ومنهم رعايا بريطانيا المالطيين .

بدأ هذا الغزو الأوربي الصامت عقب اغتيال عباس الأول ( 1854 م) مباشرة وتكاثف ف يعهد خلفه محمد سعيد الذي مكّن للأوربيين في السودان وشهدت البلاد في عهده ولاية أول موظف نصراني – منذ قرون – يعين واليا على الخرطوم وسنار عام 1856 م هو أراكيل بك الأرمني الذي ينتمي إلى أسرة نوبار باشا بوغوس رئيس وزراء مصر في عهد اللورد كرومر وأوشك تعيينه أن يدفع قبيلة الشكرية إلى الثورة ولكنه استرضاهم بمقولته :" إذا كان تعييني لا يرضيكم فأنا أترك البلاد " ولم يمكث أراكيل في منصبه سوي عامين أو اقل إذ مات سنة 1858م. وكان حريا بخلفاء محمد علي أن يدركوا مغزى هذا الحدث الذي سبق الثورة المهدية بأكثر من عشرين عاما ولكن محمد سعيدا ( 1854 – [[1863]]م) وإسماعيل ( [[1863]] – 1869م) تماديا في التمكين للنفوذ الأوربي طوعا أو كرها حتى وصف عهد محمد سعيد بأنه العصر الذهبي لقناصل الدول الأوربية في السودان وتحت مظلتهم تدفقت جموع المغامرين الذين سلفت الإشارة إليهم حتى إذا ما جاء عصر إسماعيل أصبح الأوربيون هم حكام البلاد الحقيقيين وعلى رأسهم تشارلس غردون

الأوربيون في خدمة السلطان

وقد أسرف غردون في توظيف الأوربيين في المناصب الرئيسية وكانوا أخلاطا من مواطني الدول الأوربية ويجهلون طبيعة المجتمع الذي يحكمونه فتجاوزوا في الحدود في نفذ القوانين ونكلوا بأهل البلاد تحت ستار محاربة تجارة الرقيق وعبثوا بتقاليد الأمة وقيمها الأخلاقية بدعوي نشر الحرية ولم تكن الحرية التي أرداها غردون وأعوانه – في راي أحد المؤرخين – " إلا تمهيدا لخروج المجتمع عن قيمة الدينية لتقبل النصرانية عندما تتمكن المدنية الأوربية من تثبيت أقدامها والسيطرة على مصير البلد ".

وكان غردون – كما وصفه الأستاذ هولت – من غلاة النصاري وكانت قرارته تتسم بالتردد الناجم عن إحساس شخصي وديني عميق بقدسية المواقف التي يتخذها مع جهلة باللغة العربية ومما يجدر ذكره أن النشاط التنصيري في السودان بدأ بتأسيس كنيسة في الخرطوم في يوليو عام 1843م أى قبل وفاة محمد على ببضع سنين وعززت بقدوم بعثة أخري سنة 1848 م وتكاثف النشاط التنصيري ف يعهد محمد سعد بوصول بعثة كاثوليكية تحت إمرة دانيال كمبوني عام 1857م الذي عاد إلى أوربا ثم جاء مرة أخري عام 1867 م ( في عهد إسماعيل ) مع زمرة صغيرة من القساوسة فأسسوا ستة مراكز للتنصير في شمال السودان وكنيستين إحداهما في الخرطوم تحت الحماية الأوربية وبخاصة فرنسا والنمسا وكانت تتمثل في بث الحضارة الأوربية في قلب إفريقيا وتنصير أهلها .

وبين عامي 1872و 1876 م استقبل السودان سبعة عشر مبعوثا من دعاة التنصير وكان دانيال كمبوني يرمي إلى إنشاء مراكز صغيرة للتنصير في السودان في مناطق معزولة عن المجتمع المسلم في بدايتها ولكنها تنمو رويدا رويدا بإرشاد القيادة الكاثوليكيية زاعما أن العقبات التي يضعها الإسلام لحماية أتباعه من اعتناق النصرانية سوف تنهار أمام المد التنصيري وتباهي كمبوني بأنه أفلح في تنصير عدد من الوثنيين والمسلمين على السواء ( بلغ عددهم أربعة عشر شخصا ) من بينهم فتاة مسلمة جري تنصيرها علنا في كردفان بجهد مشترك مع القنصل النمساوي المجري وقد استعان دانيال كومبوني يغردون باشا في جهوده التنصرية بالمناطق الاستوائية ودعا في سنة 1878 م الإرسالية الإنجليزية لتنصير أهل السودان ولكن تلك الجهود أجهضت مع اندلاع الثورة المهدية

على أن الثورة المهدية لم تقض على مشروع التنصير فحسب وإنما قوضت أركان حكم دام أكثر من نصف قرن وهو يحمل في أطوائه بذور فنائه , أى حكم محمد على باشا وذريته فقد استند هذا الحكم في بدايته إلى قوة السلاح التي استخدمها إسماعيل كامل ( ابن محمد علي) والدفتر دار في إخضاع قبائل الشايقية والجعليين وأهل توتي والخرطوم والجزيرة وأضفي على نفسه إثر معاهدة لندن 18401841 م شرعية استمدها بزعمه من سلطان المسلمين وتلك قرية تخفي وراءها السلطة الحقيقية في وادي النيل وهي الدول الأوربية التي سلف وصفها بالوصاية الدولية وأحالت السودان إلى منطقة للنفوذ الأوربي السياسي والاقتصادي وسوف للنخاسة ومسرح للتنصير ومصدر ثراء للمغامرين والإداريين الأوربيين فجاء غردون ووكلاؤه ومعاونوه ليحكموا السودان تحقيقا للمصالح الأوربية وتعاقبوا على المناصب الصغيرة والكبيرة واحدا تلو الآخر بدأ غردون عمله في السودان عام 1874 م مديرا لمديرية خط الاستواء خلفا لصمويل بيكر ( 18691873م) ثم استقال من منصبه 1876 وعام في 5 مايو 1877م حاكما على السودان وحظي جيقلر الألماني – لفترة قصيرة بمنصب نائب الحاكم العام وأنابه غردون عنه في إدارة شؤون البلاد ذات مرة وعلى ساحل البحر الأحمر ( سواكن) تربع فرنر مونزينجر السويسري ( 1878م) ثم نقل حاكما لفازوغي ( 1881م) وعين إميلياني الإيطالي مأمورا على كوبيه بدار فورا ثم مساعدا لميسيداليا( إيطالي ) حاكم دار فور ( 1878م) ليخلفه رودلف سلاطين اليهودي النمسوي ( 18811883 م) وذهب رمولو جسي الإيطالي حاكما على بحر الغزال وعين فردويك روسيت وكيلا لغردون ( 1877م) ثم أضحي حاكما لدار فور ( 1879م) وعندما غادر جسي بحر الغزال خلفه فرانك لبتون البريطاني ( 1882م) وأسندت رياسة مديرية خط الاستواء إلى اليهودي الألماني شنتز المشهور : بأمين باشا ( 18781889م) .

الثورة المهدية :

تلك هي العصبة الحاكمة في السودان قبيل انفجار الثورة لمهدية التي ربطت أهل السودان بماضيهم الإسلامي ورفعت علم الدولة الإسلامية بعد أن طمست معالمها في ظل حكم وصف بأنه " تركي مصري " بينهما كان في جوهره حكما أوربيا ومن ثم خاض المؤرخون في البحث عن بواعث الثورة وأسباب نجاحها ومجمل ما ذهبوا إليه أن الثورة كانت ردة فعل للمظالم التي ارتكبها محمد على وخلفاؤه في السودان من إزهاق للأرواح إبّان الفتح وخلال حملات الدفترادار الانتقامية بعد مقتل إسماعيل كامل بن محمد على في في شندي وماتلا ذلك من ضروب الفساد والقسوة والتدهور الخلقي وثقل العبء الضريبي في السنوات الأخيرة من حكم أسرة محمد على وقد ذكر مؤرخ آخر أن الثورة كانت تعبيرا عن السخط العميق الذي أثارته السياسة البريطانية الرامية إلى محاربة النخاسة على أيدي حكام أوربيين وما ارتبط بها من مظاهر العنف والتنكيل بأهل البلاد وذهب الأستاذ " هولت" إلى أن الثورة كانت أثرا لتقليص سلطة الخديو إسماعيل في مصر وضعف مركزه من جراء تدخل الدول الأوربية في شئون مصر الذي أدي إلى عزل إسماعيل (1879م) ثم إلى استقالة غردون من منصبه في السودان ومن ثم فتح المجال لانطلاق الثورة العرابية ( نظرية الفراغ ) التي جعلن " محمد توفيق " الوالي الجديد ( وكان ألعوبة في أيدي الدول الكبري ) عاجزا عن إحكام سيطرته على أقاليم السودان واتسمت قراراته بالتردد ونلحظ أن كثيرا من هذه التفاسير نظرت إلى الثورة المهدية باعتبارها حدثا داخليا أو تمردا محليا أثارته ظلامات وأخطاء ربما أمكن تجاوزها في الوقت المناسب قبل استفحال الثورة وقد أورد الأستاذ هولت آراء بعض السودانيين المحدثين الذين أضفوا على المهدي صفة القائد الوطني الذي وحد القبائل السودان تحت راية الإسلام وحرر السودان من نفوذ الأجانب وأسس دولة قومية .

ووصف هولت هذه الإنجازات المنسوبة إلى المهدي بأنها نتائج للثورة وليست تفسيرا لها ومع ذلك فإن هذه النظرة إلى المهدية تنطوي على خلل خطير لأنها تضفي عليها طابعا قوميا أسوة بالحركات القومية الحديثة ولم يكن الأمر كذلك , وقد أحسن الدكتور أبو سليم إذ أبرز رأي الحسن العبادي في هذا الصدد وهو تفسير ينفذ مباشرة إلى بواعث الثورة المهدية ومغزاها الكبير باعتبارها حركة بعث إسلامي شامل أملته ظروف العالم الإسلامي في تلك الحقبة العصيبة .

وبغض النظر عن الاعتقاد الشخصي للعبادي في المهدي والمهدية فإن رؤيته للثورة المهدية تنم عن إدراك سليم لقضية الإسلام إزاء الهجمة الأوربية على بلاد المسلمين والاستيلاء عليها إذا يقول :" وقد هجمت الكفرة فجأة على جل ممالك البلاد الإسلامية واستولوا عليها بالفعل .. وصارت أفكارهم الآن متوجهة على استيلاء بلادنا السودانية وقد فجأوا واستولوا على مسجد العلماء وعش الأولياء مصر المحمية ومعلوم عند كل ذي بصيرة نيرة فقهية أن العدو إذا فجأ محلة قوم تعين الجهاد على كافة أفراد الأمة "

كذلك تحدث أحمد العوام – في نصيحته التي ألفها في سنة 1301 هـ - 1884 م بعنوان :" نصيحة العوام للخاص والعام من إخواني أهل الإيمان الإسلام " تحدث عن الغارة الأوربية الحديثة على العالم الإسلامي وحث المسلمين على ائتلاف القلوب وتوحيد الصف ونبذ الحرب فيما بينهم لمواجهة العدوان الذي استهدف ديارهم وعقيدتهم فسقطت الهند الإسلامية والجزائر وتونس ومصر في قبضة الفرنجة , وهاجم العوام ما سماه " الأباطيل الأفرنكية " المعروفة بين الناس بالقوانين السياسية ( العلمانية ) وحملها المسؤولية عن " ذيوع الفس والمنكر والفحشاء في جميع ديار الإسلام التي تحكم حكمهم " ( أى الدول الأوربية ) وجاء في النصيحة:" فنسأل الله الكريم رب العرض العظيم أن يسعفنا باستخلافه علينا من يجدد لهذه الأمة أمر دينها فيجمع شملها وأن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا دينا وفاء بصادق وعدة سواء كان ( بالإمام ) المهدي هذا .. أو بغيره من عباد الله الصالحين ".

ولا يعنينا هنا مدي إيمان العوام " بالدعوة المهدية " أو تحفظه عليها بقدر ما تهمنا رؤيته لمحنة العالم الإسلامي وتمزقه وسقوطه في قبضة الصليبية الحديثة ودعوته إلى الوحدة وثقته في الثورة المهدية باعتبارها بارقة أمل لتجديد أمر الدين وإيقاظ المسلمين .

وإزاء هذه الرؤية النافذة للثورة المهدية ومغزاها الإسلامي يصبح الحديث عن أسباب الثورة كما تصور ها النظرة التقليدية ( تجارة الرقيق 0 عزل الخديو – استقالة غردون – نظرية الفراغ ..) بمثابة الالتفات إلى جزئيات صغيرة مبعثرة تحجب المعني الكبير للثورتين المهدية والعرابية .

لقد كانت الثورة المهدية " ردا إسلاميا " على الوصاية الدولية وعلى محمد على وذريته والقوي التي مكنت له في وادي النيل كما كانت اقتلاعا لحكم " علماني " فرض على أهل السودان بقوة السلاح وإيذانا بعودة الشريعة الإسلامية ( بغض النظر عن فكرة المهدية ) بعد غيبة جاوزت الستين عاما تجاوز خلالها محمد على وأحفاده تعاليم الإسلام في شؤون الحكم والإدارة والقانون والاقتصاد وحصر شمول الإسلام وحيوتيه في دائرة ضيقة لا تجاوز " الأخوال الشخصية" أى أن محمدا عليا فصل الدين عن الدولة وأدخل في السودان – لأول مرة – فكرة "الإسلام الرسمي " و" العلماء الموظفون " وثنائية التعليم فابتدعت فكرة التعليم المدني والتعليم الديني المقتبسة من نظم التربية ألوربية .

الاحتلال البريطاني :

وجاء الإنجليز – إثر هزيمة جيش الثورة المهدية في كرري ( 2 سبتمبر 1898م) وأم دبيكرات ( 24 نوفمبر 1899م) على يد كتشنر – ليحكموا السودان وفق سياساتهم التي نفذوها خلال الفترة المعروفة بالحكم الثنائي ( 189919559م والتي ولي أمر السودان فيها تسعة من الحكام البريطانيين أولهم هربت كتشنر وآخرهم نوكس هلم .

غني عن البيان أن فترة الحكم البريطاني في السودان ونمو الحركة الوطنية وتحقيق الاستقلال حظيت بنصيب كبير من الدراسة ولن نشير إليها إلا في حدود ما كان لبعض الأحداث من أثر مباشر أو غير مباشر في ظهور الحركة الإسلامية .

لقد ولد الرواد الأوائل من جيل الحركة الإسلامية خلال السنوات الأربع الأخيرة من حكم السير " جون مفي " والسنوات الأولي من عهد السير ستيورات سايمز وتلقوا تعليمهم الأوسط والثانوي والجامعي على عهد سايمز وهيوبرت هدلستون وروبرت هاو على التوالي وتتلمذوا على أستذة إنجليز في كلية غردون التذكارية في مرحلتيها الثانوية والعليا ثم في كلية الخرطوم الجامعية ومن ثم نشأ ذلك الجيل في ظل نظام أوربي تربوا في معاهدة ونهلوا من معارفه وتأثروا بثقافته قرأوا لتشارلز ديكنز وروبرت لوي ستيفنسون ودانيال ديفو وبرنارد شو وتشارلز لام ووليم شكسبير وفرانسيس بيكون وأولفر جولد سميث وغيرهم ودرسوا العلوم المقررة كلها باللغة الإنجليزية ( عدا اللغة العربية والدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ) .

وربما كان هذا التوجه الثقافي للجيل الجديد مبعث شعور بالغبطة لدي الحكام البريطانيين وهم يشهدون نجاح سياساتهم التعليمية والتربوية في بناء مجتمع جديد أخذت طلائعه المستنيرة تستجيب لأنماط محدثة من الأفكار والقيم والسلوك تقوده في تؤدة وأناة نحو " التغريب " وتباعد بينه وبين مجتمعه التقليدي .. وكانت كلية غردون الأداة التي عول عليها " المستعمرون " في تحقيق هذا التحول .

يقول الأستاذ الدرديري محمد عثمان في مذكراته :

" ظهر أثر طلائع كلية غردون( نحو سنة 1917م) في مجالات فردية خالصة بعض هذا الأثر كان جيدا ومفيدا خليقا بالاقتداء ومتفقا مع تقاليدنا وآدابنا وبعضه غير جيد ولا يتفق ولربما كان ضارا كما بدأ أولئك الذين مضوا يتشبهون بالبريطانيين في الجانب المظلم من حياتهم كشرب الخمر ولعب القمار والتعاظم الكاذب في المشية والجلوس والمعاملات " ولكن يبد أن دائرة تأثيره الفرنجة وتقليدهم قد اتسعت بين طلاب كلية غردون خلال العقد الرابع من القرن العشرين الميلادي – وهو عهد " مفي " و" سايمز" لتستوعب مزيدا من الخريجين حتى ظهر كما يقول الأستاذ خضر حمد أصحاب البايب الذين يزعمون أنهم يعرفون الإنجليزية خيرا من العربية وعلى صعيد آخر نجد الأستاذ أحمد خير يتحدث عن الجيل الجديد بعد تأسيس مؤتمر الخريجين فيقول إن ذلك الجيل كان يسعي " إلى انتزاع أزمة القيادة من الزعماء الدينيين وشن حرب على الحركة الصوفية والمناداة بتحرير الفكر وانطلاقه من أوهام الخرافة وقيود العادات ورواسب التقاليد التي ليست من الدين في شئ " ويردف قائلا :" إن هذا التوجه مماثل لدعوة الطليعة من أحرار الفكر في أوربا الذين أحدثوا ثورة فكرية عرفت " بالنهضة" وحركة الإصلاح الديني ".

وهنا يضع مستر جريفث النقط فوق الحروف إذ يقول :" لقد ظهرت طبقة مستقلة من المتعلمين أثرا لتفاعل مجموعة من العوامل وبينما احتفظ الدين بمنزلته بين الذين لم يتلقوا نصيبا من التعليم أخذ يفقد مواقعه بين المتعلمين وشهدت الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية ( 19541950 م) انبثاق نماذج ذات مستوي رفيع في القيادة بين صفوة المتعلمين السودانيين كما شهدت ضعف نفوذ الآباء على أبنائهم ممن كانوا في بكرة الشباب , ولم يعد الدين يستهوي المتطلعين منهم إلى التعليم العالي على نحو ما كان عليه حال نظرائهم في الماضي ".

ويعزو الكاتب هذا التحول ف يتوجه الشباب إلى ما سماه " تدفق الأفكار الغربية على أذهانهم ثم إلى تبرمهم بالنهج التقليدي العقيم لمعلمي " مادة الدين " في المدارس وضعف أدائهم بالقياس إلى حيوية أقرانهم من معلمي المواد الدراسية الأخري ونهجهم العصري "

الحركة الوطنية وبشائر الفجر :

غير أن جيل الحركة الإسلامية وروادها الأوائل كانوا أسعد حظا من أولئك الذين تحدث عنهم مستر جريفث فقد نشأ,ا في كنف الحركة الوطنية وتتلمذوا على قادتها في قاعات الدراسة وفي مضمار العمل الوطني وهتفوا مع خضر حمد يرددون نشيد " المؤتمر " إلى العلا .. وحفظوه عن ظهر قلب واستمعوا إلى أستاذهم أحمد محمد صالح وهو يبهم بنصائحه الغالية في قصيدته التي حيا فيها شاعر مصر الكبير الأستاذ علي الجارم غداة زيارته الخرطوم في ذلك الوقت ومم جاء فيها :

ملك القريض ووارث الـ
مجد المؤثل من معــد
غرد كماء شاء البيان
محدثا عن خير عهد
وأذكر لنا عهد الجدود
وصف لنا أيام أحد
في القادسية يوم سار
النصر من بند لبند
يا وارث الأدب التليد
وباني الأدب الأجد
علّم شباب الواديين
خلائق الرجل الأشد
علمهم أن الخنوع
مذلة والجين يردي
علمهم أن الحياة
تسير في جزر ومد
علمهم أن التمسح
بالفرنجة غير مجد
وابن لهم أن العروبة
ركن إعزاز ومجد

وفي رحاب الحركة الوطنية نهل جيل الإسلاميين من ينابيع الأدب العربي وروافد الفكر الإسلامي الحديث ممثلا فيما كانوا يقرأون فسمعوا عن الأفغاني ومحمد عبده , " العروة الوثقي " ومصطفى كامل " والجامعة الإسلامية " ومن خلال ما أصدرته دور النشر والثقافة في الأقطار العربية حلقوا مع العقاد في " عبقرياته" ومع أحمد أمين في منظومة مؤلفاته الإسلامية " فجر الإسلام " و" وضحي الإسلام " .. الخ . ومع مصطفى صادق الرافعي في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية و" وحي القلم " وسبحوا في آفاق " الرسالة" وصاحبها أحمد حسن الزيات الذي تبني الدعوة إلى الإسلام بأسلوبه الفريد وبيانه الساحر وصحبوا طه حسين في إصداراته الأولي ذات الطابع الإسلامي :" على هامش السيرة " و" الوعد الحق " ثم في سيرته الذاتية " ألأيام " ورافقوا الدكتور محمد حسين هيكل في باكورة مؤلفاته الإسلامية " حياة محمد " صلى الله عليه وسلم وكان لهذا الكتاب شأن يذكر على نحو ما يأتي بيانه في سياق البحث أما حافظ وشوقي فقد كان لهما القدح المعلي في إلهاب الحماس واستثارة الوجدان لدي شبان لحركة الإسلامية وبحسب القارئ أن يراجع " الهمزية النبوية " لشوقي أو يتأمل ذكري المولد أو يتصفح ليلة الإسراء والمعراج في نهج البردة .

أسري بك الله ليلا غذ ملائكة
والرسل في المسجد الأقصي على قدم
صلي وراءك منهم كل ذي خطر
ومن يفز بحبيب الله يأتمم
خططت للدين والدنيا علومهما
يا قارئ اللوح بل يا لامس القلم
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم

بحسب القارئ أن يعيش مع هذه الإشراقات ليدرك عمق وقعها في النفوس ونفوس الشباب بوجه خاص .

أما " عمرية " حافظ فإنها غنية عن التعليق إذ يقول ناظمها :

حسب القوافي وحسبي حين ألقيها
أني إلى ساحة الفاروق أهديها
هذي مناقبة في عهد دولته
للشاهدين وللأعقاب أحكيها
لعل في أمة الإسلام نابتة
تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

حتى تري بعض ما شادت أوائلها

من الصروح وما عاناه بانيها

وجاءت قصيدة الشاعر محمود غنيم معبرة عن محنة الإسلام في العصر الحديث إذ يقول :

مالي وللنجم يرعاني وأرعاه
أمسي كلانا يعاني الغمض جفناه
لى فيك ياليل آهات أرددها
أواه لو أجدت المحزون أواه
إني تذكرت والذكري مؤرقة
مجدا تليدا بأيدينا أضعناه
أني اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصا جناحاه
ويح العروبة كان الكون مسرحها
فأصبحت تتواري في زواياه

ذلك هو المناخ الذي تفتحت فيه أذهان الرواد الأوائل للحركة الإسلامية وهم يشهدون أساتذتهم يبنون مجد الأمة ويقودونها نحو الحرية والاستقلال وعلم الاحتلال البريطاني يرفرف في سماء الخرطوم .

إنها إرهاصات فجر جديد وطلائع جيل جديد هو فجر الدعوة الإسلامية المعاصرة وبشائر جيلها في السودان الحديث .

الفصل الثالث: فجر الحركة الإسلامية

  • التحدي الماركسي
  • مؤتمر العيد وقراراته .


التحدي الماركسي :

كانت الحرب العالمية الثانية ( سبتمبر 1939م- مايو 1945م) نقطة تحول هام في تاريخ السودان العاصر فقد شهدت سنوات الحرب الباكرة وثبة كبري في نشاط مؤتمر الخريجين نقلته من دائرة العمل في مجال التعليم والإصلاح الاجتماعي وتشييد المدارس ودعم خلاوي القرآن ورعاية النشاط الأدبي والثقافي ( المهرجات الأدبية ) إلى ساحة العمل السياسي عندما تقدم بمذكرته الشهيرة بتاريخ 3 أبريل سنة 1942 م إلى " صاحب المعال حاكم السودان العام " وحملت المذكرة توقيع رئيس المؤتمر الأستاذ إبراهيم أحمد وحثت أهم فقر ة في المذكرة دولتي الحكم الثنائي على منح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير مصيره بعد الحرب مباشرة وفاء لما قدمه السودان للحلفاء من عون في ساحة القتال في الشمال الإفريقي ودحر قوات الفاشية على حدوده الشرقية وعلى الرغم من أن الإدارة البريطانية في السودان رفضت المذكرة وردتها ردا غير كريم بدعوي تجاوز المؤتمر اختصاصه فقد ظلت المذكرة معلما هاديا في تاريخ الحركة الوطنية وخطوة أولي في طريق المجاهدة والمصابرة التي انتهت بتحقيق الاستقلال السياسي .

وبينما كان قادة المؤتمر والأحزاب السياسة التي انبثقت عنه – خلال سني الحرب – يواصلون جهدهم في مقاومة الاحتلال , كانت " الشيوعية " تبث تعاليمها بين طلاب المدارس ونقابات العمال وتنشئ خلاياها لدراسة الفكر الماركسي في الخرطوم وعطبرة وودمدني, وتبني دعائم تنظيمها السياسي من منطلق الفسلفة " الماركسية اللينينية"

صحيح ن الفكر الماركسي تسرب إلى السودان منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وربما ألقي ببعض ظلاله على حركة جمعية اللواء الأبيض عام 1924م عرف أن نفرا من الأرمن دخلوا السودان بين عامي 19171920م وأقاموا حلقة لدراسة الماركسية في الخرطوم في ذلك الوقت لكن جهودهم لم تثمر وذهبت ريحهم بعد مغادرة الأرمن البلاد , وتقديم رفيقهم على حاجي للمحاكمة بتهمة المشاركة في تأسيس جمعية اللواء الأبيض .

ومنذ ذلك التاريخ لم يشهد السودان نشاطا للشيوعيين إلا خلال الحرب العالمية الثانية وكان عمدة ذلك النشاط جنديا بريطانيا يدعي " مستر ستوري" وهو ينتمي إلى الحزب الشيوع البريطاني وكان أحد المجندين في القوات البريطانية التي تعمل فيما وراء البحار فدأب أثناء إقامته في الخرطوم علي إقامة حلقات لدراسة الماركسية واستطاع أن يستقطب عددا قليلا من طلاب المدارس العليا وبعض معلمي مصلحة المعارف السودانية وقلة من طلاب المدرسة الثانوية ( كلية غردون ) كان من أبرزهم الطالب عبد القيوم محمد سعد وآدم أبو سنينة وأحمد محمد خير وأصبح هؤلاء طليعة الحركة الشيوعية في مدرسة وادي سيدنا الثانوية غداة انتقالها من أم درمان إلى وادي سيدنا في يناير 1946م وفي شهر مارس عام 1945 لحق أحد أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني بهيئة التدريس في مدرسة أم درمان الثانوية ( وادي سيدنا فيما بعد ) ويدعي مستر دكنسنون الذي بدأ نشاطه بمحاضرة عن المادية الجدلية والمادية التاريخية – وهما الأساس الفلسفي للفكر الماركسي – استجابة لدعوة من الطالب عبد الخالق محجوب رئيس الجمعية الأدبية بالمدرسة وكان في سنته النهائية . كذلك باشر مستر دكنسون تدريس الماركسية في الحلقات المغلقة للطلاب الذين استو عبتهم خلايا الحركة الشيوعية ويكثر من الإشادة بالاتحاد السوفيتي باعتباره أول دولة اشتراكية استطاعت التغلب على مشاكل التخلف .

أما الرافد الثاني لحركة الشيوعية في والسودان فهو التنظيم الشيوعي المصري الذي أـسس في سنة 1943 م بقيادة هنري كورييل اليهودي المعروف تحت اسم " الحركة المصرية" ويرمز إليها بالحرفين ( ح.م) وكان هذا الرافد أعمق أثرا وأجل خطرا من الرافد البريطاني في بذر الشيوعية في السودان وكان عبده دهب حسنين – أحد أبناء السودان المقيمين في القاهرة – هو الساعد الأيمن لهنري كورييل في استقطاب الطلاب السودانيين القادمين للدراسة وعندما بدأت هجرة الطلاب السودانيين – في نهاية عام 1946 م ومطلع 1947م – من المدارس العليا ( كلية غردون ) للالتحاق بالجامعات المصرية كانوا يجدون الطريق ممهدا للانضمام إلى حركة كورييل التي كانت تتولي إرشادهم وتعريفهم بينابيع الماركسية وأصولها الفلسفية وتقدم لهم محاضرات في علم الاقتصاد باعتبار أن الاقتصاد هو المحرك للتطور التاريخي للمجتمعات البشرية وخلال العطلة الصيفية كان هؤلاء الطلاب يعودون إلى السودان محملين بالكتب الماركسية لبث أفكارهم في عاصمة البلاد ومدنها الكبرى مع اهتمام خاص بود مدني لتكثيف نشاطهم بين فلاحي الجزيرة وعمالها .

تلك هي الفترة التي حاول فيها الطلاب الشيوعيون القادمون من القاهرة ورفاقهم في السودان استمالة عدد من الطلاب " ذوي الميول الدينية " في مدرستي وادي سيدنا وحنتوب لاستيعابهم في منظمتهم السرية بدعوي محاربة الاستعمار والبرجوازية !! ولكن أولئك الشبان الأبرياء فوجئوا – بعد فترة قصيرة – برأي الماركسية في الدين فخرجوا منها غاضبين وفهم بعض الطلاب الأمر على حقيقته فرفضوا دعوة الشيوعيين وأنشأوا الجمعيات الدينية لمقاومتها في وادي سيدنا وحنتوب , وكانت تجربتهم مع الخلايا الشيوعية سببا في انتمائهم إلى الحركة الإسلامية فيما بعد كما أصبحوا شهداء على إلحاد الفلسفة الماركسية وما تنضح به من بغضاء للمعتقدات الدينية ومن ثم كان ظهور الفكر الماركسي ونشاط الحزب الشيوعي من أخطر التحديات التي ألهبت حماس الكثرة الغالبة من طلاب المدارس والمعاهد والجامعات للانتصار للعقيدة فتدافعوا إلى صفوف الحركة الإسلامية وبخاصة عندما بلغتهم أنباء جهاد الإخوان المسلمين في فلسطين من خلال محاكمات " الإخوان " في القاهرة على عهد إبراهيم عبد الهادي ( 1949, 1950م) .

حسن البنا والسودان :

سلفت الإشارة في مقدمة البحث إلى زيارة الأستاذين عبد الحكيم عابدين وجمال الدين السنهوري إلى السودان في شهر أكتوبر عام 1946 م وقد تواتر – في كثرة البحوث التي أعدت عن حركة الإخوان – أن ذلك التاريخ ( 1946 م) يمثل بداية الاتصال " الرسمي " بين الإخوان المسلمين وأهل السودان مع إثبات بعض بداية الاتصال الخاصة التي جرت على الصعيد الفردي ببعض دعاة الإخوان وإخوتهم في السودان في عام 1944 , 1945 أو قبل ذلك من غير تحديد دقيق غير أن الشيخ حسن البنا مؤسس الحركة مرشدها يؤكد أن صلته بالسودان بدأت في سنة 1937م في زاوية السيد محمد عثمان الميرغني بالإسماعيلية. وجاء ذلك في خطاب ألقاه الشيخ البنا أثناء احتفال المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة بزيارة السيد محمد عثمان الميرغني بمناسبة قدومه القاهرة .وقد حضر ذلك الاحتفال سمو الأمير عبد الكريم الخطابي .

قال البنا في ترحيبه بالضيوف :" إن دار الإخوان لتسعد أكبر السعادة وتأنس أعظم الإيناس إذ ¬ تستقبل هذه القلوب الطاهرة والنفوس الكريمة أعلام الجهاد وأبطال العروبة وأقطاب قادة الإسلام " ثم استطرد الشيخ البنا في الحديث عن السادة الميرغنية وصلتهم بالإخوان قائلا :

" وليس من المستطاع أن نعبر للسيد محمد عثمان الميرغني جزاه الله خيرا عن مقدار الغبطة والسعادة التي تملأ قلوب الإخوان , إذ كان سماحته عند وعده لهم فجعل حفلهم هذا على تواضعه أول حفل يجيب الدعوة إليه ولعل الكثيرين أيها السادة لا يعلمون أننا نحن الإخوان مدنيون للسادة الميرغنية بدين المودة الخالصة والحفاوة البالغة لتي غمرنا بها من قبل ومن بعد كلما ذهب مبعوثونا إلى السودان .. لا.... ولكنه دين قديم منذ نشأت هذه الدعوة في الإسماعيلية فقد كان أول أنصارها والمجاهدون لتركيزها الإخوان الختمية الميرغنية وقد حضرت في سنة 1937 م حفلا للإسراء والمعراج في زاوية وخلوة السيد محمد عثمان الميرغني الكبير بالإسماعيلية ولا تزال قائمة ولا زلت أذكر أخانا هناك فالقلب الختمي والتأييد الختمي يسير مع تاريخ الدعوة منذ فجرها وسماحة السيد محمد عثمان الميرغني الكبير ووارثه السيد محمد عثمان هو أول من حمل هذا اللواء وبشر به فهذا تاريخ قديم نتحدث عنه أيها السادة لنعبر لفرع الدوحة الكريمة السيد محمد عثمان عما يكنه الإخوان لسماحته من حب ومودة وتقدير لهذا الجميل الذي أسدوه للدعوة في فجر تاريخها ".

انتهي حديث حسن البنا .

فلا غر أن يستأثر السودان باهتمام كبير من قبل حركة الإخوان المسلمين في مصر وقد عرف عن حسن البنا أنه كان يختفي بأبناء السودان ويدعوهم إلى المشاركة في حلقات النقاش والاجتماعات التي يعقدها , ويستأنس من وقت لآخر بآراء بعضهم في كثير من القضايا الهامة ومن أبرز الشبان السودانيين الذين كانوا على صلة بالشهيد حسن البنا الأستاذان جمال الدين السنهوري وعبد الرحمن الصائم . كما كانت الصحافة المصرية تنقل إلى قراء السودان أخبار الإخوان وتتحدث عن نشاطهم فأثارت تطلع أهل السودان إلى معرفة المزيد من أخبار هذه الجماعة وأحيت الأمل في نفوس بعضهم لاستعادة مجد الإسلام واتخذ التبشير بدعوة الإخوان في السودان – في بادئ الأمر – صورة جهد فردي من بعض الإخوان المصريين المقيمين في السودان كالأستاذ بيومي على .

وفي إدارة " الري المصري" بالخرطوم أثار المهندسون المنتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين إعجاب نظراتهم من المهندسين السودانيين لما اتسموا به من الورع والكفاءة وسمو الخلق وطهارة النفس . غير أن تلك الجهود كانت فردية ولم تتوافر لها مقومات النجاح على نحو ما تمخضت عنه جهود الأستاذين عبد الحكيم عابدين وجمال الدين السنهوري من تعريف بدعوة الإخوان خلال الأحاديث المتصلة والخطب في المساجد والمنتديات والاتصال المباشر بكبار رجال السودان وزيارة دور الأحزاب السياسية والهيئات والطواف على المدن الكبرى في شرقي السودان وشماله وغربه لتبليغ الدعوة وأثمر ذلك الجهد في تأسيس عدد كبير من شعب الإخوان فى العاصمة الوطنية وشندي وعطبرة والدامر ومدينة بروتسودان ومناطق أخري متفرقة.

وفي الاحتفال الذي أقامه الإخوان في مصر عام 1948م بمرور عشرين عاما على تأسيس حركة الإخوان المسلمين ( 19281948م) ذكر الشيخ حسن البنا أن شعب الإخوان بلغت ألفي شعبة في مصر وخمسين شعبة في السودان والبلاد العربية والإسلامية . وكان يشرف على نشاط الإخوان في السودان في تلك المرحلة مكتب إداري تولي رياسته الشيخ عوض عمر الإمام لفترة قصيرة ثم آلت إمارة الجماعة إلى الأستاذ على طالب الله الذي عين مراقبا عاما للإخوان في السودان من قبل المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة وشارك الإخوة المصريون المقيمون في السودان في بث الدعوة بين إخوتهم من السودانيين , ومن أبرزهم الأستاذ جمال عمار وهو من المعلمين المعارين من وزارة المعارف المصرية للعمل في السودان والأستاذ مصطفي جبر من موظفي " الري المصري " في الخرطوم .

بيد أن أثر ذلك النشاط على المجتمع السوداني – بوجه عام – كان محدودا وكانت كثرة الطلاب ومن عرفوا بالمثقفين ( خريجوا كلية غردون التذكارية ) وطلاب المدارس العليا بمعزل عن هذا النشاط الإسلامي الجديد الذي يشهده السودان لأول مرة ويستثني من هؤلاء مجموعة من طلاب معهد أم درمان العلمي انضموا إلى الحركة بدعوة من الأستاذ على طالب الله في سنة 1948 م.

حركة التحرير الإسلامي :

كان عام 1949م بداية مرحلة حاسمة في تاريخ حركة الإخوان المسلمين في كل من مصر والسودان . ففي 12 فبراير من ذلك العام اغتيل الشيخ حسن البنا في أحد الشوارع الكبري بمدينة القاهرة وكان هذا الحادث إيذانا بمواجهة حادة بين حركة الإخوان في صر وحكومة السعديين برياسة إبراهيم عبد الهادي . وكان المراقبون يحسبون أ، المواجهة ستنتهي بالقضاء التام على الإخوان المسلمين بعد اغتيال مرشدهم واعتقال قادتهم وإيداع شبابهم السجون والمعتقلات , وانطلقت الصحافة المصرية – في ظل الأحكام العرفية – تسلقهم بألسنة حداد , ترميهم بكل نقيصة وتدمغهم بكل مذمة , وشكلت المحاكم العسكرية لمحاكمة من سموا بالمتهمين الذين ضاقت بهم سجون مصر ومعتقلاتها ( ليمان طره – أبو زعبل – الهاكستب ) ولكن خلال بضعة أشهر من اغتيال حسن البنا ذهبت حكومة السعديين وعاد الإخوان يدعون إلى الله وهم أكثر نفرا وأعز جندا وانداح قبس دعوتهم إلى السودان وأقبل عليها الشباب المستنير على نحو لم يسبق له مثيل وكأن الشاعر عبد المنعم الهمشري كان يرنو إلى هذا الشباب من وراء حجب حين قال في قصيدته التي رثا فيها حسن البنا :

حسبوا دم تناثر في الثري
يا ويحهم لم يقرأوا الأسفارا
دمه تناثر في القلوب جميعها
وتملّك الأنفاس والأبصارا
فبكل روح قطرة أو جذوة
لا تنطفي بل لن تقر قرارا
دمه مع الخفقات يدوى ثائرا
أنا لن أجف فقد أردت الثارا
هي دعوة روت الدماء جذورها
وتعهدتها بالنماء مرارا
فأخضل من دم حمزة وجه الثري
في الدعوة الأولي شذي معطارا
وأتي دم البنا يكمل ريها
ونماءها حتى تجود ثمارا
ها قد ورثناها من الشهداء
نورا خالدا نجثوا له إكبارا
الرسول وشرعة الحق التي
وضع الإله أساسها الجبارا

وخلال النصف الأخير من شهر فبراير عام 1949 استقبلت كلية الخرطوم الجامعية الطلاب الجدد الذين اجتازوا امتحان شهادة كيمبردج المدرسية من خريجي مدرستي وادي سيدنا وحنتوب وكان من بين أولئك الطلاب ثلة ربطت بينها وشائج الصداقة وائتلاف المشاعر ونضرة الشباب منذ المرحلة الابتدائية ( أى المتوسطة) وتوثقت الصلة بينهم خلال المرحلة الثانوية إذ كانوا يلتقون في مواقيت الصلاة وفي غرفات الدراسة وعلى ساحة الألعاب الرياضية كان عددهم سبعة اختار ثلاثة منهم الالتحاق بمدرسة العلوم وذهب الآخرون إلى مدرسة الآداب التي تؤهل من شاء منهم أن يدرس القانون بعد اجتياز السنة الإعدادية ولم يدر أحد من هؤلاء بعد دخولهم الجامعة أن واجبا آخر كان ينتظرهم غير الحصول على الشهادة الجامعية .

أخذ الفتية يتأملون حياتهم الجديدة لقد أصبحوا طلابا جامعيين يلبسون الزي الإفرنجي الكامل ( البدلة والكرافتة والقبعة – الكاسكتة ) ويستطعيون أن يتعاطوا التدخين أمام أساتذتهم الإنجليز بغير حرج ,, ويمارسون نشاطا سياسيا يتسم بقدر كبير من الحرية في دار اتحادهم التي لا تبعد كثيرا عن حجرات الدراسة وموقع سكنهم وفي قاعة المحاضرات بكلية الآداب ( مكتبة الإنجليزي – من أساتذة مقتدرين عن الحركة " الرما نتيكية" في الأدب الإنجليزي وشعراء البحيرة الذين قضوا شطرا من حياتهم في إقليم البحيرة كما كان الفتية يستمعون إلى محاضرات الدكتور محمد النويهي رحمه الله في الأدب العربي فيسمعون ما يسر وما لا يسر . أما التاريخ الإسلامي فكان المرجع الأساسي أو العمدة في دراسته كتابا بالإنجليزية للأستاذ ( فيليب حتى) عنانه

إنها حياة جديدة بكل المقاييس ولكن أين أصالة المجتمع السوداني وقيمه وموروثاته الرفيعة في هذا المجتمع الجديد ؟ أين تعاليم الإسلام وأنماطه السلوكية التي يتلقاها الطفل السوداني في بيئته منذ نعومة أظافره ؟ هكذا أخذ الفتية يفكرون ويتساءلون . ثم جاءت الطامة عندما خبروا طبيعة المناخ السياسي في أروقة اتحاد طلاب الكلية الجامعية كان الاتحاد في قبضة الشيوعيين الذين أشاعوا جوا من الإرهاب الفكري والسياسي بين الطلاب ... واستغلت الحرية الجامعية لممارسة أنماط من السلوك لا يرتضيها الخلق والعرف والدين وأخذت الأصوات المعارضة تهمس بالامتعاض والإنكار لما تري ولكن المعارضة كانت سالبة والشيوعيون يبشرون بنظريات فلسفية واقتصادية وسياسية واجتماعية تنادي بالفكر الماركسي ويدّعون أنهم هم وحدهم الذين يملكون الحل النهائي لقضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحرره من البرجوازية والأفكار الخرافية والسيطرة الاستعمارية !! وبلغ السيل الزبي : فقال الطالب بابكر كرار رحمه الله لصنوه محمد يوسف محمد " لم لا تفكر في إحياء الفكرة التي نقلها إلينا أستاذنا الصائم محمد إبراهيم رحمه الله , عندما زارنا في حنتوب عام 1948م بأن نستقطب العناصر الخيرة من بين الطلاب لمواجهة هذا النشاط الشيوعي الهدام على أساي من قيم الإسلام وتعاليمه .

وانطلقت الفكرة بين الفتية كل منهم يسر بها إلى الآخر , وحدد موعد للقاء في احدي الأمسيات في الميدان الغربي داخل الكلية ( جامعة الخرطوم الآن ) وطرحت آراء ودار حوار والتقت الأفكار فقرر المجتمعون وضع اللبنة الأولي في بناء حركة إسلامية تتصدي للهجمة الشيوعية ومقاومة الاستعمار الانجليزي سعيا نحو إقامة مجتمع فاضل على أسس تعاليم الإسلام وقيمه وبرز سؤال عن اسم الحركة وكان طبيعيا أن يعبر الاسم عن هوية الحركة وتوجهها , وما دام التوجه نحو محاربة " الاستعمار " لإقامة المجتمع المسلم والدولة المسلمة فهي إذن " حركة تحرير إسلامي "

وهكذا فهمها الحاضرون ولم تكن في أذهانهم وقتئذ رؤية واضحة لعمل هذه الحكة من أين تبدأ وماذا تفعل ؟ ولكن حسبهم الاستعانة بالله وصدق التوجه وعزيمة الشباب .

لقد كان للحركة الشيوعية رصيد ضخم من التجربة والإنتاج الفكري من خارج السودان فكيف تواجه الحركة الإسلامية الناشئة هذا التحدي ؟

وكانت الإجابة : الاعتماد على الذات ثم الاستعانة بما تيسر من المطبوعات الإسلامية والمصادر الأخرى وكلف أحد الأعضاء فورا بإعداد بيان عن " اشتراكية الإسلام وذهب يبحث في كتاب " حياة محمد " صلي الله عليه وسلم لمؤلفه الدكتور محمد حسين هيكل واقتبس منه حديثا عن الحضارة الإسلامية وعجز الحضارة الغربية عن إسعاد الإنسان وعن العدالة الاجتماعية في الإسلام إنها محاولة متواضعة ولكن الصفحات التي أعدها هذا الطالب مستقاه من كتاب الدكتور هيكل كانت مادة أساسية لأول بيان تصدره الحركة الإسلامية في الكلية الجامعية للتعريف برسالتها وأهدافها . وبدأ الاتصال بمدرسة حنتوب الثانوية ثم بمدرسة وادي سيدنا ( وهما تمثلان كل ما أسس في السودان من مدارس التعليم الثانوي ) وأبلغت ثلة من الطلاب من ذوي الالتزام الديني ميلاد الحركة في سرية تامة وكلف عضو ثان من أعضاء الحركة في الكلية بإعداد بحث يوضح رؤية الإسلام للقضايا الاقتصادية ومعالجتها وذلك في وقت لم يكن علم الاقتصاد من المواد المقررة في الكلية وأخذ مؤسسوا الحركة يدركون ثقل العبء وأبعاد التحدي , إنهم في حاجة إلى " تثقيف ذاتي " وتعليم أنفسهم قبل أن يخاطبوا غيرهم وانطلقت الحركة تعمل في صمت ولا تبوح بأمرها إلا لمن تلمح فيه سمات الاستعداد لتقبل الفكرة والعمل في سبيلها وأحس الشيوعيون في الكلية أن تيارا إسلاميا خفيا أخذ يسري بين صفوف الطلاب لم يدركوا حقيقته , فصاحوا : الإخوان المسلمين !! وتصدت صحفهم لمهاجمة التيار الجديد مستعينين بما كانت تبثه أجهزة الإعلام الرسمي في مصر وخارج مصر من تهم وافتراءات على الإخوان المسلمين , بعد صدور القرار القاضي بحل منظمتهم في 8 ديسمبر 1948 م بأمر عسكري أصدره النقراشي ومواصلة حملة القمع والاضطهاد في عهد إبراهيم عبد الهادي .

الاتصال بالإخوان المسلمين :

لم تكن ثمة علاقة مباشرة بين نشأة حركة التحرير الإسلامي في خيط الطلاب الجامعيين في الخرطوم وحركة الإخوان المسلمين في مصر ولا في السودان بل كثرة الأعضاء المؤسسين لا يعلمون شيئا عن الإخوان في مصر .

ولكن بعد أن امتد نشاط الحركة إلى المدارس الثانوية وأنشئ قسم داخل الكلية للاتصال الخارجي ( أى الاتصال بمن هم خارج مجتمع الطلاب ) فتحت سبل الاتصال رويدا رويدا مع حركة الإخوان في السودان ومصر وساعد على دعم الاتصال وتوثيقه هجرة بعض الطلاب السودانيين من كلية الخرطوم الجماعية إلى مصر وقدوم طالب سوداني من القاهرة للدراسة في الكلية ذاتها .

ففي شهر أكتوبر من عام 1949 آثر اثنان من الطلاب الذين شاركوا في تأسيس الحركة الإسلامية بالكلية الجامعية بالخرطوم التوجه إلى القاهرة لمواصلة دراستهما في جامعة فؤاد الأول ( أى جامعة القاهرة الأم) فالتحق أحدهما بكلية الطب ( القصر العيني ) والثاني بكلية الآداب . وفي العالم التالي ( 1950/ 1951م) قدم أحد الطلاب السودانيين من جامعة القاهرة كلية الهندسة – لأسباب خاصة – لمواصلة دراسته في كلية الخرطوم الجامعية وقد تلقي هذا الطالب الدعوة على يد الشيخ حسن البنا وبايعه عليها وهو – أى الطالب - ما زال في المرحلة الثانوية " بالسعيدية " وعندما وصل الخرطوم كان يحمل معه بعض رسائل حسن البنا " إلى أى شئ ندعو الناس " " رسالة المؤتمر الخامس " " نحو النور ".

ومن خلال اتصاله بالإسلاميين في الكلية الجامعية عرفوا الكثير عن دعوة الإخوان المسلمين وأسلوبهم في العمل ووجدوا في رسائل حسن البنا الغذاء الفكري والروحي الذي كانوا يبحثون عنه , وفي " نظام الأسر " و" الكتائب " والرحلات الرياضية عونا على التربية الإسلامية التي تصوغ الفرد صياغة جديدة وتفتح آفاقا رحبة للتلقي والعطاء . يقول أحد الذين عاصروا تلك الفترة :" لقد كنا نبحث عن أدب للحركة الإسلامية فلم نجد غير رسائل حسن البنا " ويقول قطب من أقطاب الحركة الإسلامية وقتئذ :" لقد أغنتنا رسائل حسن البنا عن البيانات المتواضعة التي كنا نجد في إخراجهما وننسخها بخط اليد " وقال ثالث : عندما اطلعت على رسائل حسن البنا ومجلة " الدعوة أحسست بأنني وجدت كنزا كنت أبحث عنه وأننا " إخوان مسلمون "

وعلى صعيد آخر شهدت الفترة بين 19501953 م هجرة متصلة ومتعاظمة للطلاب السودانيين إلى جامعات مصر من المنتمين إلى " حركة التحرير الإسلامي " في الكلية الجامعية , ومن حملة شهادة كيمبردج المدرسة من مدرستي واد سيدنا وحنتوب ومن خريجي مدرسة فاروق الثانوية بالخرطوم ومن خريج معهد أم درمان العلمي ( الشهادة الأهلية ) الذين التحقوا بكلية دار العلوم وكليات جامعة الأزهر , ومن مبعوثي وزارة المعارف السودانية إلى القاهرة وعندما استقر هؤلاء الطلاب في جامعات مصر ومعاهدها العيل رأوا – بإعجاب – فريقا متميزا من أقرانهم في الدراسة يجدون في تحصيل العلم بكل فروعه وتخصصاته ويلبسون الزي الإفرنجي ومع ذلك يقيمون الصلاة ويتلون القرآن ويذكرون الله ويتفقهون في الدين ويتهجدون في السحر على وجوههم سنا إيمانا سلوكهم العفة وقولهم الصدق وزينتهم الشجاعة والوفاء والإيثار يفدون وطنهم وعقيدتهم بدمائهم الزكية وهم يهتفون :" الموت في سبيل الله أسمي أمانينا " إنه نوع من فريد الشباب استعلي على ضجيج الحياة في القاهرة بكل مظاهرها البراقة الفاتنة واستمسكوا بحبل الله المتين يدعون إلى الله على هدي وبصيرة إنهم لا يفهمون الدين على أنه " صومعة معزولة ولا الدنيا على أنها سوق منفصلة وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق وأن السوق عمارة المسجد . إنهم الإخوان المسلمين الذين قال عنهم الدكتور أحمد أمين : " ولقد لمست دعوتهم أى الإخوان لا كنت عميدا لكلية الآداب سنة 1940 م

فكنت أري الشباب المنضم إلى هذه الجمعية شبابا يتحلي بالفضيلة وتظهر فيه علامات الرجولة ومن ثم كان طبيعيا أن يأخذ الطلاب الإسلاميون القادمون من السودان مكانهم بين صفوف الإخوان المسلمين في وقت كان الشيوعيون يسيطرون فيه على الاتحاد العام للطلاب السودانيين في القاهرة واتسم سلوكهم بما كان رفاقهم في كلية الخرطوم الجامعية .

وفتحت أمام الطلاب السودانيين منافذ الاتصال بحركة الإخوان المسلمين في مصر والتأثر بدعوتهم والمشاركة الفاعلة في نشاطهم ,, ووجدوا في رحاب الدعوة الإسلامية حصانة ومثابة أعانتهم على الاستقامة والجد في تحصيل العلم , وشحذت نفوسهم للمشاركة في العمل الإسلامي ووثقت عري الاتصال بينهم وبين إخوانهم في السودان وتدفقت من خلالهم أفكار الإخوان وأساليبهم في الدعوة وأدبهم ومطبوعاتهم نحو الخرطوم , لقد كان عطاء الحركة الإسلامية اليافعة في السودان متواضعا إلى حد كبير قبل اتصالها بحركة الإخوان المسلمين في مصر فلم يكن لها زاد تقدمه إلا في حدود الاجتهاد الفردي لأعضائها المتحمسين وهم في بداية المرحلة الجامعية وعلى أثر هذه الصلة الوثيقة التي نمت بين الحركة وجماعة الإخوان في مصر امتد نشاط الدعوة في السودان إلى مواقع التأثير بين الطلاب وغير الطلاب وكانت تلك الصلة أشبه بصلة التلميذ بأستاذه . وخلال فترة وجيزة شقت الحركة طريقها في السودان وأقبل عليها الطلاب من كل صوب في وجه مقاومة شيوعية عاتية أطلت السنة الدراسية 19511952م فاز الإسلاميون لأول مرة في تاريخ الكلية وكان لهذا الانتصار صدي عميق في دوائر الطلاب السودانيين بمصر وفي محيط الإخوان بوجه عام .

وزادت الصلة عمقا بإخوان مصر خلال زيارات الطلاب المتبادلة بين القاهرة والخرطوم وفي ذات العام الذي فاز فيه الإسلاميون في السودان بقيادة الاتحاد استقبل إخوان مصر كلا من : بابكر كرار ومحمد يوسف محمد ومحمد أحمد محمد على وتيسر لهم لقاء بعض قادة حركة الإخوان بمصر منهم الدكتور عبد العزيز كامل رحمه الله ومحمد فريد عبد الخالق المسئول عن قسم الطلاب وتعرف الإخوة السودانيون عن كثبر على حقيقة الدعوة الإخوان وأثرها في المجتمع المصري وريادتهم في حركة البعث الإسلامي . كذلك زارت القاهرة بعد ذلك الطالبة سعاد الفاتح البدوي من كلية الخرطوم الجامعية ( آداب ) وهي احدي رائدات الحركة النسائية الإسلامية في السودان وأتيحت لها زيارة المرشد العام للإخوان المسلمين الشيخ حسن الهضيبي وكانت زيارتها تتعلق بنشاط الاتحاد النسائي السوداني وبالمثل توالت زيارات الإخوان المصريين إلى السودان من الطلاب وقادة الحركة أمثال الشيخ احمد حسن الباقوري وسعيد رمضان وعبد البديع صقر ومن الطلاب على رياض وعز الدين إبراهيم وحسن الشافعي وخلال العطلات كان الطلاب السودانيون بمصر يقومون بنشاط واسع لنشر الدعوة والتعريف بها في الخرطوم وأقاليم السودان المختلفة وتمخضت هذه اللقاءات بين إخوان مصر والسودان عن آثار بعيدة المدى في مستقبل الحركة الإسلامية في السودان سواء في محيط الطلاب الجامعيين وغير الجامعيين أم بين الشعب الخارجية التي كانت تعمل بإرشاد الأستاذ على طالب الله وظهرت تلك الآثار في إعداد طلائع الجيل الجديد من خلال التربية بتطبيق نظام الأسر والكتائب وإقامة المنتديات الفكرية وإنشاء الأندية الثقافية والمكتبات الإسلامية كمكتبة الفكر الإسلامي بودمدني وغيرها وظلت كلية الخرطوم تمثل مركز الثقل في نشاط الحركة بالتعاون الوثيق مع إخوانهم في مصر ومع مجموعة الأستاذ على طالب الله . كانت الجهود كلها متجهة نحو تأكيد المضمون الإسلامي للحركة في مواجهة الحركة الشيوعية لاستقطاب القاعدة الطلابية العرضة واقتحام بعض مناطق النفوذ الشيوعي في محيط العمل النقابي وفي دوائر نشاط المرأة وكانت الفترة بين عامي 19501953 بحق فترة مد إسلامي دافق دعوة الإخوان لمسلمين إلى مركز الصدارة بين صفوف الطلاب في السودان وترددت أصداؤه خارج دائرة الطلاب وقد كان للتطورات السياسية في مصر والتي أعقبت سقوط حكومة إبراهيم عبد الهادي واندلاع مقاومة الفدائيين لقوات الاحتلال البريطاني في القنال كان لها أثر معنوي مشهود على ازدهار الحركة في السودان والإقبال عليها فقد شهدت مصر بعد سقوط حكومة السعديين برئاسة إبراهيم عبد الهادي في يوليو عام 1949م فاتحة عهد جديد نعمت فيه البلاد بنصيب من الحرية والتحاكم إلى القانون ورفع " الإخوان المسلمون" مظالمهم إلى القضاء فأفتي مجلس الدولة – وهو أعلي سلطة قضائية – في 17 سبتمبر 1951 / " بأن جمعية الإخوان المسلمين موجودة قانونا " ثم أصدر حكما ببطلان الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 م الذي أصدره النقراشي باشا ي 8 ديسمبر 1948 م بحل " جماعة الإخوان " كذلك قضي حكم مجلس الدولة ببطلان جميع الآثار المترتبة على الأمر العسكري فعادت للإخوان دورهم وممتلكاتهم وحقهم في ممارسة نشاطهم الإسلامي ونظرت محاكم أخري في قضايا " سيارة الجيب " " والأوكار " و" حامد جودة " واستمع القضاء إلى المتخاصمين وشهودهم وجاء اللواء أحمد المواوي القائد العام للقوات المصرية في فلسطين ( عام 1948م) واللواء فؤاد صادق ليشهدوا أمام المحكمة المختصة بصدق الإخوان وحسن بلائهم في حرب فلسطين وتحرير كثير من المواقع من قبضة العصابات الصهيونية وذاعت أخبار المحاكمات في العالم الإسلامي , بما انطوت عليه من مفاجآت وقدّم الإخوان وثائق هامة للمحكمة تثبت أن الأمر العسكر الذي أصدره النقراشي بحل "الجماعة" كان استجابة لتدخل أنبي سافر , ونشرت الوثيقة ( بالزنكو غراف ) في الصحف المصرية ومفادها أن اجتماعا عقد في " فايد" في العاشر من شهر نوفمبر عام 1948 م حضره سفراء صاحبة الجلالة البريطانية وأمريكا وفرنسا وأن السفارة البريطانية في القاهرة ستتخذ – استنادا إل ما دار في الاجتماع – الخطوات اللازمة لحل جمعية الإخوان المسلمين .

وتثبت وثيقة أخري من قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط بتوقيع كولونيل أ . م ماك درموت " أن القيادة المذكورة قد أخطرت رسميا من السفارة صاحبة الجلالة في القاهرة بأن خطوات دبلوماسية ستتخذ لإقناع السلطات المصرية بحل جمعية الإخوان المسلمين في أقرب وقت مستطاع " وتحمل الوثيقة الثانية رقم القيد 1670 – أ. ن. ت – 48 بتاريخ 20 نوفمبر 1948 م وهي موجهة إلى القيادة العليا للقوات البريطانية في مصر وقد صدر قرار " الحل " في 8 ديسمبر 1948م.

ومما يذكر عن آثار تلك المحاكمات أن أحد القضاة الذين حاكموا الإخوان يومئذ أعلن – بعد انتهاء مهمته الرسمية – انضمامه إلى الإخوان المسلمين ونشرت صحيفة أخبار اليوم القاهرية النبأ في موضع بارز تحت عنوان :" المستشار الذي حاكم الإخوان أصبح واحدا منهم " وهو القاضي محمود عبد اللطيف الذي أثرت مقولته الشهيرة " كنت أحاكمهم أى الإخوان فأصبحت منهم ".

وجاءت أنباء تلك المحاكمات فى القاهرة بردا وسلاما على " الإخوان " في السودان وبخاصة طلاب كلية الخرطوم الجامعية من الإسلاميين الذين ضاقوا ذرعا بكيد الشيوعين والأراجيف التي كانوا يبثونها عن الإخوان – نقلا عن دور الإعلام المصر في عهد إبراهيم عبد الهادي – لصد الشباب ن الانضمام إلى الحركة الإسلامية وأصبح طلاب الكلية الجامعية الذين كانوا يؤثرون ألا يوصفوا بأنهم " إخوان مسلمون " – لأسباب داخلية بحتة – أصبحوا فخورين بهذا الوصف وإن لم يذكروا ذلك علانية .

ثم جاءت حرب القنال ( 1951, 1952م) على أثر إلغاء معاهدتي 1936م و1899م ( الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا ) وفق مرسوم أصدرته حكومة الوفد في 8 أكتوبر 1951م وأعلنت الهيئات الشعبية بدء المقاومة المسلحة في وجه قوات الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس وتصدر شباب الإخوان المسلمين المقاومة وأقاموا معسكرات التدريب وبقيادة الطالب حسن دوح كلية الحقوق بجامعة فؤاد ( القاهرة ) وأبلي الإخوان بلاء حسنا في قتال القوات البريطانية على أرض السويس واحتسبوا في معركة التل الكبير ( 12 يناير 1952 م) الطالبين عمر شاهين من كلية الآداب قسم الفلسفة بالقاهرة – وكان قائد الكتيبة وأحمد المنيسي من كلية طب القصر العيني كما استشهد الطالب عادل غانم وعبد الحميد عبد الله لقد استثارت معارك الفدائيين في قناة السويس الهمم والمشاعر بين الشباب لا في مصر وحدها بل في السودان كذلك فكتب أحد الطلاب السودانيين بكلية الحقوق جامعة القاهرة في مجلة " السودان الحديث " القاهرية موجها الحديث إلى اتحاد طلاب الكلية الجامعية في الخرطوم :

" نعم أنها الاتحاد نحن نريد منك أن تبدأ بالقلة المؤمنة من طلاب المدارس والمعاهد نريد أن تكون الصيحة الأولي من الاتحاد دعوة إلى خلق جيل جديد يؤمن بنفسه ... ويؤمن بوطنه ويؤمن بربه ليقدم نفسه شهيدا في سبيله وحسبنا أن ندرك أن الشباب في مصر قد ألقي على الشعوب المستعبدة درسا لابد أن تدرك حقيقته ومعناه ".

لقد كان لهذا التجاوب بين الإسلاميين السودانيين في مصر والإسلاميين في كلية الخرطوم الجامعية أثر عميق في استجابة طلاب السودان بالخرطوم والمدارس الأخرى في السودان اسم " الإخوان المسلمين " في مؤتمرها التأسيس الذي عقد في شهر ذي الحجة 1373هـ الموافق أغسطس 1954م.

وعلى الرغم من تأثر الحركة – التي بدأت عام 1949 م تحت اسم " حركة التحرير الإسلامي " في كلية الخرطوم الجامعية – بحركة الإخوان في مصر واعتمادها الكامل على مؤلفات الإخوان كرسائل حسن البنا وغيرها كان قادتها حريصين على أن تظل حركتهم سرية وألا ترتبط علانية باسم " الإخوان المسلمين " فعندما زار الأستاذ عبد البديع صقر السودان عام 1951 م اقترح على قيادة الحركة الإسلامية في جامعة الخرطوم أن ترتبط بحركة الإخوان في مصر وتأخذ عنها اسمها .

غير أن هذا الاقتراح لم يؤخذ به لأسباب تتعلق بالظروف المحيطة بالحركة وبالوضع السياسي في السودان بوجه عام فقد شهدت تلك الفترة حدة الخلاف بين الأحزاب السياسية التقليدية من مؤيد الاتحاد مع مصر تحت تاج الملك فاروق وداعية إلى انفصال عن مصر وهم من كانوا يعرفون بالاتحاديين والاستقلاليين وكانت الحركة الإسلامية تأمل أن تكون البوتقة التي تنصهر فيها تلك الشيع المتصارعة لا أن تكون هي طرفا من أطراف النزاع وقد كان مشروع الدستور الإسلامي وميلاد جبهة الدستور الإسلامي عام 1955م بادرة مبشرة بتحقيق تلك الأمنية .

وبما أن الانتساب إلى " الإخوان" قد يلقي ظلالا من الانحياز نحو الأحزاب السياسية الاتحادية ما يترتب على ذلك من آثار سالبة على الإسلاميين من ذوي التوجه الاستقلالي فقد استصوب المسئولون ألا تربط الحركة نفسها باسم " الإخوان " على الأقل في تلك الظروف - ما دام الاسم لا يؤثر على جوهر الدعوة ومضمونها الإسلامي يضاف إلى ذلك أن العمل علانية تحت اسم " الإخوان " لا يتفق والسرية اللازمة لحماية الحركة , حتى يقوي ساعدها وربما فسر بعض الباحثين أن الاعتراض على العمل باسم " الإخوان " كان ينطوي على نزعة قومية تصنف أنصار الحركة الإسلامية في السودان إلى تابعين ومتبوعين أو إلى أصلاء ووافدين ولم يكن الأمر كذلك كما اتضح في قرارات المؤتمر التأسيسي .

مؤتمر العيد وقراراته :

سلفت القول أن فكرة تأسيس حركة إسلامية في كلية الخرطوم الجامعية عام 1949 م نبعت في مناخ سياسي غلبت عليه صبغة الفكر الماركسي تحت مظلة حرب ( الاستعمار البريطاني ) والقضاء على الرأسمالية لتحقيق العدل الاجتماعي ومن ثم كان الاسم الذ اختاره الفتية لحركتهم الناشئة ( التحرير الإسلامي ) صدي للظروف التي اكتنفت ظهور الحركة ولكن عندما اتسعت دائرة النشاط الإسلامي بين الطلاب وأقبل الشباب على الدعوة وبخاصة وبعد توثيق صلتها بالإخوان المسلمين في مصر لم يعد المنضوون تحت لوائها يأبهون كثيرا ( لحرفية ) الإسم بقدر ما كان يهمهم أنها حركة إسلامية ومن ثم تباينت صورة الحركة في أذهانهم – من الوجهة الشكلية – فمنهم من انتمي إليها باعتبارها حركة إسلامية لا يعرفون لها اسما محددا ومنهم من فهم أن الحركة صلة بالإخوان المسلمين من غر أن تفصح عن ذاتها ومنهم من اطلع على أول بيان أصدرته الحركة عام 1949 م إلى مدرسة حنتوب لثانوية وانضم إليها باعتبارها حركة تحرير إسلامي لها أهدافها ومنهجها الذي لا يتعين - بالضرورة – أن يتفق مع منهج حركة الإخوان المسلمين أو أية حركة إسلامية أخري كالطالب ميرغني النصري .

ومنهم من دعي إلى الانضمام إلى حركة إسلامية إصلاحية لا يعرف اسمها للاستزادة من فهمه للإسلام كالطالب أحمد محمد الأمين بمدرسة حنتوب الثانوية وذكر الطالب الجزولي دفع الله أنه انتظم في صفوف الحركة بدافع من تأثره .

العميق بمؤلفات سيد قطب خاصة كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " وآثر الطالب محمود أحمد محمود ( ود أحمد ) أ، ينتظم مع حركة الإخوان المسلمين عندما التحق بلية الزراعة جامعة فؤاد الأول بالقاهرة لأنه رأى في قيام حركة التحرير الإسلامي ضربا من الازدواج في العمل الإسلامي وذلك ردا على دعوة تلقاها من رفيقه الطيب صالح للانضمام إلى حركة التحرير الإسلامي في السودان .

ومع ذلك لم يكن اسم الحركة أو النظر في صلتها بحركة الإخوان المسلمين ومدي أصالتها أو تبعيتها مطروحا على مستو يذكر خلال السنوات الثلاث الأولي من عمر الحركة في الكلية الجامعية وكانت القضايا التي استأثرت باهتمام قادة الحركة آنذاك تتمثل في كسب المزيد من تأييد الطلاب واستيعابهم في صفوفها وهذا يعني ممارسة نوع من النشاط السياسي الذي تمرست به الحركة الشيوعية كالتصدي لقيادة الإضرابات والدفاع عن قضايا الطلاب والتجاوب مع الحركة الوطنية في صراعها مع إدارة الاحتلال البريطاني .

وكانت هذه المسائل تثير قدرا من الخلافات التي أمكن تجاوزها ومن أهم ما تعرضت له الحركة خلال تلك الفترة هل تخرج الحركة بنشاطها إلى المجتمع السوداني خارج نطاق الطلاب بما يترتب على ذلك من تبعات وآثار سالبة على مستو الأداء ؟ وقد أمكن التوفيق بين الآراء المتباينة حول هذا الموضوع ولكن عندما تأملت مجموعة صغيرة من طلال الكلية الجامعية الوضع الإداري للحركة والغموض الذي يكتنف اسمها وصلتها بحركة الإخوان المسلمين في مصر وخامر نفوسهم هاجس لم يكتموه فطرحوا السؤال واضحا : من نحن ؟ وكان هؤلاء يمثلون المجموعة التي رأت في ( حركة التحرير الإسلامي ) منظمة قائمة بذاتها إبان ظهورها ( 1949, 1950م) وهم الذين كان لهم موقف في مؤتمر العيد بل كان هذا الموقف أهم حدث استوجب عقد المؤتمر الذي كان معلما تاريخيا في مسيرة الحركة الإسلامية في السودان لقد أوضح أحد أقطاب هذا الاتجاه موقفهم قائلا :" إننا حركة مستقلة عن الإخوان المسلمين ولنا رأى في الأفكار التي يطرحها الإخوان المسلمون في مصر والمفاهيم التي يدعون إليها وهي – في رأينا – لا تعبر تعبيرا أصيلا عن الإسلام ورأينا في عام 1954 م بعض أعضاء الحركة الإسلامية في الجامعة ( الكلية ) يعتبرون أنفسهم إخوانا مسلمين فدعونا إلى اجتماع خاص بنا واستثنينا من كنا نعتقد أن له ميلا نحو الإخوان المسلمين بل قررنا عزلهم ورسمنا خطا سياسيا للحركة باعتبارها حركة ( شعبية ) تمارس النضال السياسي وتخاطب القوي الاجتماعية المنتجة من عمال وفلاحين .. الخ . ثم وضح لنا أن المجموعة التي عزلناها تحظي بتأييد الكثرة الغالبة من الإسلاميين في الكلية انتهي لقد أصيبت لحركة الإسلامية المتوثبة بهزة لم تعهدها منذ تأسيسها ودار جدل وعقدت لقاءات لرأب الصدع وغمرت بعض العاملين غاشية من الآسي وبتوفيق من الله أفلح القائمون بالأمر في تطويق الأزمة فتداعوا إلى عقد مؤتمر شامل تمثل فيه الاتجاهات كافة طلابا وغير طلاب والعاملين في حقل الحركة الإسلامية سواء أطلقوا على أنفسهم حركة مستقلة تسمي نفسها بما شاءت وكانت الشورى هي الحكم .

تلك هي الظروف التي أدت إلى عقد ما عرف " بمؤتمر العيد" وتكمن أهمية المؤتمر في أنه يمثل أول تجربة في تاريخ الحركة الإسلامية , اتخذت من الشورى أساس لحسم الخلاف وأول مؤتمر جامع مثلت فيه الاتجاهات والأفكار على تباينها إلا من تخلف عن المشاركة طوعا واختيارا .

كلفت لجنة خاصة بالإعداد للمؤتمر وبذلت جهدا متواصلا وكثفا لحصر أعضاء الجماعة ومواقعهم في معظم أقاليم السودان ووضعت أسسا للتمثيل العادل .

وفي الحادي عشر من ذي الحجة 1373 هـ ( 21 / 8/ 1954 م) عقد الاجتماع التاريخي في نادي أم درمان الثقافي والتقت طلائع الحركة الإسلامية الحديثة في السودان لأول مرة على اختلاف مواقعهم وأعمارهم يحدوهم الأمل في حسم الخلاف ووضع الأسس السليمة التي تقوم عليها الحركة وكان في مقدمة جدول الأعمال تحديد أهداف الحركة واسمها وقيادتها إلى جانب مسائل تنظيمية أخري وكانت أهم القرارات التي أصدرها المؤتمر على النحو التالي :

1- اسم الجماعة : تسمي الجماعة " الإخوان المسلمون " مع استقلالها إداريا عن أية جماعة إسلامية أخري واتخذ هذا القرار بما يشبه الإجماع .

2- انتخاب أمين عام للجماعة سمي :" السكرتير العام للإخوان المسلمين في السودان "

3- انتخاب مكتب تنفيذي مسئول عن إدارة الحركة سمي " المكتب التنفيذي " وقد شم المكتب المنتخب أربعة من الأعضاء المؤسسيين الأوائل لحركة التحرير الإسلامي ( مارس 1949م) عندما كانوا طلابا جامعيين ( انظر القرارات في ثبت الملاحق ).

لقد عبر المعترضون على فكرة ( الإخوان المسلمين) عن رأيهم في الاجتماع عندما وقف أحد ممثليهم – ولعله الناطق باسمهم – ليعلن انسحابه من الجلسة قبل صدور القرارات استنادا إلى أن المداولات تشير بوضوح إلى أن الاجتماع يتجه نحو إطلاق اسم " الإخوان المسلمون " على الحركة في السودان وكان خروجه إيذانا بظهور المجموعة التي أعلنت – بعد وقت قصير – انعزالها حركة الإخوان المسلمين وسمت نفسها " الجماعة الإسلامية " بقيادة بابكر كرار وأصدرت بيانا بعنوان :" الجماعة الإسلامية – دعوة ومنهاج " ووضح البيان أن الجماعة تعمل على ربط أصيل بين النضال السياسي والعمل الاشتراكي على أساس أن الإسلام ثورة شاملة .

أما الأستاذ على طالب على طالب الله – رحمه الله – فقد بلغته الدعوة للمشاركة في المؤتمر ولكنه لم يستجيب لها باعتبار أن المؤتمر والداعين إليه يمثلون خروجا على ( الشرعية) التي استظلت بها حركة الإخوان المسلمين في السودان منذ تأسيسها في منتصف الأربعينات ولا ريب في أن تحفظ الأستاذ على طالب الله على مؤتمر العيد وقراراته كان تعبيرا عن إحساسه بالمسؤولية التي اضطلع بها – على مدي سنوات قبل أن تظهر الحركة الإسلامية في محيط الطلاب بالسودان 0 باعتباره المسئول الأول ( المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في السودان ) ويبدو من ناحية أخري أنه لم يكن على إحاطة كافية بحقيقة الحركة الإسلامية التي نشأت بين طلاب الكلية الجامعية في الخرطوم عام 1949 م وتطورها وسلامة مقاصدها وقوة تأثيرها ولعله لم يفطن إلى أن تلك الحركة – رغم نشأتها المستقلة – كانت تنهل بعمق من فكر الإخوان المسلمين في مصر ومؤلفاتهم وصحفهم ومناهجهم التربوية وأنها أصبحت منذ أغسطس 1954م القاعدة الأساسية لحركة الإخوان المسلمين في السودان .

كانت قرارات مؤتمر العيد بمثابة تقرير لأمر واقع وبلورة لرؤية مشتركة بين لكثرة الغالبة من العاملين في الحركة الإسلامية طلابا وغير طلاب ومن ثم لم تتأثر بالخلافات التي طرأت في المؤتمر إلا تأثرا يسيرا وقد بذلت مساعي حميدة لتسوية الخلافات مع الأستاذ على طالب الله , ولكنها لم تثمر فصدر قرار بعزله في المؤتمر الثاني للإخوان المسلمين الذي عقد في شهر ذي الحجة عام 1374هـ - 1955 م وبذلك تجاوزت الحركة الإسلامية أخطر أزمة ألّمت بها منذ تأسيسها بفضل التناصح والتام الشورى في حسم القضايا التي تتباين فيها وجهات النظر .

وشهد عام 1954 م أيضا نهاية ما كان يعرف " بحركة التحرير الإسلامي" وكان الاسم الذي اختارته في عام 1949م أثرا لظروف خاصة تمثلت في الاحتلال البريطاني والتحدي الماركسي وقد تغيرت تلك الظروف في عام 1954 م مع استهلال عهد الحرية وانتخاب أول حكومة وطنية برياسة إسماعيل الأزهري ونمو الحركة الإسلامية وتقهقر النفوذ الشيوعي بين الطلاب , وحتى القلة من الأفراد الذين شاركوا في تأسيس " حركة التحرير الإسلامي" واعترضوا في مؤتمر العيد على تسمية الحركة بالإخوان المسلمين تخلوا باختيارهم عن الاسم الذي كانوا يعتزون به وسموا أنفسهم " الجماعة الإسلامية ".

أما الإشارة في قرار مؤتمر العيد إلى : " الاستقلال الإداري لحركة الإخوان في السودان عن أية جماعة إسلامية أخري " فكان المقصود بها – أساسا – أبعاد الحركة الإسلامية وهي في بداية الطريق عن دائرة الصراع الذي استعر أواره بين الأحزاب السودانية الداعية إلى استقلال السودان والأحزاب المؤيدة للاتحاد مع مصر وتجلت خطورة هذا الصراع في الأحداث الدامية التي وقعت في أول مارس عام 1954 في الخرطوم .

ومع أن مؤتمر العيد لم يعلن قراراته في بيان " رسمي " فقد أضحت الحركة الإسلامية – بموجب تلك القرارات- معلن لأعضائها ومعروفة باسمها مقرها وغايتها وقادتها وهيئتها التأسيسية ( مجلس الشوري ) المفوض من قبل أعضاء الجماعة على نطاق القطر ولها مكتبها التنفيذي المنتخب لإدارة شؤون الحركة في حدود السياسيات التي وضعها المؤتمر الأول والتوجيهات التي تصدرها الهيئة في اجتماعاتها السنوية المنتظمة وهذا ما كانت تفتقر إليه الحركة منذ ظهورها في السودان في عامي 1946 / ( الإخوان المسلمون ) و1949 م( حركة التحرير الإسلامي ) .

وبصدور قرارات مؤتمر العيد استكملت حركة الإخوان المسلمين بناءها الإداري والتنظيمي ووحدت صفها وانطلقت لأداء رسالتها في مناخ مفعم بالثقة والاطمئنان وقد غمرت السودان بشائر الحرية منذ إعلان نتائج الانتخابات العامة التي حقق فيها الحزب الوطني الاتحادي نصرا مبينا .

وفي 6 يناير من عام 1954 م انتخب السيد إسماعيل الأزهري رئيس للوزارة الوطنية وكان فوز حزب الأزهري مبعث فرحة عظمي لدعاة الاتحاد مع مصر في السودان والحكومة مصر وشعبها ونشرت احدي صحف القاهرة الخبر تحت عنوان ضخم:" هزيمة الإمبراطورية البريطانية في السودان " وكان على رأس الحكومة المصرية وقتئذ ( حكومة الثورة ) اللواء محمد نجيب .

غير أن عام 1954م شهد – بعد تلك الفرحة – أحداثا أليمة ودامية في مصر تمخضت عن آثار بعيدة الغور في مستقبل السودان السياسي وأفضت إلى أزمة في العلاقات السودانيةالمصرية . وعلى قمة تلك الأحداث القرار الذي أصدره مجلس قيادة الثورة المصري بحل جماعة المسلمين في مصر , في مساء 12 يناير عام 1954 استقالة اللواء محمد نجيب عندما خالف مجلس الثورة في بعض سياساته فعزل قبل نهاية شهر نوفمبر 1954 م واعتقل .

ولم يقف السودان بمعزل عن تلك الأحداث الخطيرة بل قال كلمته فيها بصراحة أهل السودان واتخذ حيالها موقفا محددا .

وألقت حركة الإخوان المسلمين في السودان قبل مؤتمر العيد وبعده – بثقلها كله في معركة دارت رحاها على أرض مصر بين الإخوان المسلمين والبكباشي جمال عبد الناصر وجماعته معركة أزهقت فيها أرواح بريئة وأهدرت فيها دماء غالية .

الفصل الرابع: الحركة الإسلامية في مضمار السياسة

  • الحركة في معركة الاستقلال .


معركة " الإخوان " في مصر :

درج طلاب جامعة القاهرة من الإخوان المسلمين على الاحتفال بذكري شهدائهم في حوادث القنال الطالبين : عمر شاهين وأحمد المنيسي وكان الاحتفال بالذكري الأولي في 12 يناير 1953 م في قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة بحضور اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية الذي ألقي كلمة أشاد فيها بروح الشهداء وتضحيتهم .

وفي مطلع عام 1954 م تأذهب الطلاب لإقامة الاحتفال الثاني في 12 يناير من ذلك العام ولكن مجلس الثورة – في غمرة صراع خفي بينه وبين الإخوان المسلمين – رأى ألا يسمح للإخوان الطلاب بإقامة الاحتفال بمعزل عن إشرافه فذكرت الصحف المصرية أن الاحتفال سيقام في 9 يناير بمشاركة الصاغ خالد محي الدين عضو المجلس ولكن الطلاب أقاموا احتفالهم وفق خطتهم وفي التاريخ المحدد ( 12 يناير 1954م) في ساحة الجامعة وكان أبرز المتحدثين قائد كتائب الفدائيين الأستاذ حسن دوح ومن الضيوف نواب صفوي رئيس جمعية فدائيان إسلام الإيرانية الذي استعرض في حديثه قضايا العالم الإسلامي وحمل على الاستعمار البريطاني . وحث الأستاذ حسن دوح في خطابه على نبذ طريق التفاوض مع سلطات الاحتلال البريطاني ومواصلة المقاومة في القنال ووجه حديثا صريحا إلى اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأعضاء مجلس الثورة وكانت الهتافات تدوي :" إلى القنال .. إلى القنال .. لا مفاوضات مع الاستعمار " وفي أثناء خطاب الأستاذ حسن دوح اقتحمت حرم الجامعة سيارة " جيب " تابعة للجيش المصري وتجمع حولها فورا مجموعة ضئيلة من الطلاب وكان بالسيارة ضابط يحمل مسدسا في يده , " كرابيج " داخل السيارة انطلقت هتافات من " ميكرفون " السيارة تبين الحاضرون منها أنها شعارات " هيئة التحرير " وخلال فترة قصيرة أوشكت هذه المجموعة أن تدخل في عراك مع بعض الطلاب ولكن بذلت مساعي لاجتناب الاشتباك غير أن الانفعال بلغ ذروته عندما أطلق الضابط من موقعه في السيارة بضع طلقات نارية كانت بداية اشتباك آخر بين مؤيدي مجلس الثورة ومعارضيه وبعد لحظات شوهدت سيارة الضابط وقد تصاعدت منها ألسنة النيران وقامت الشرطة الجامعة فورا بتطويق مكان الاحتفال واتخذت الأحداث بعدا جديدا , وفي الساعة الثانية من صباح اليوم التالي بدأت اعتقالات واسعة النطاق ولم يدر أحد وقتئذ أن هذا الحدث كان توطئة لإعلان قرار من مجلس قيادة الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين استنادا إلى اتصال مزعوم أجراه الإنجليز مع قادة الإخوان المسلمين لقلب الحكم على نحو ما سلف ذكره .

وصدرت صحف القاهرة في صباح الأربعاء 13 يناير 1954 وهي تحمل النبأ على صفحاتها الأولي وبيانا من مجلس الثورة وساد القاهرة صمت كان أبلغ من الكلام لأن المعلومات التي نشرت كانت ترد من مصدر واحد هو مجلس قيادة الثورة لقد بدأت الحرب بين جمال عبد الناصر و" الإخوان المسلمون ".

وفي اليوم التالي , الخميس 14 يناير 1964م صدرت صحف الخرطوم وعلى صفحاتها الأولي العناوين التالية :

" حل جماعة الإخوان المسلمين – اعتقال المرشد العام وثلثمائه من الإخوان – معارضة في مجلس الثورة حول حل الجماعة – إعلان حالة الطوارئ – اعتقال وطرد زعيم فدائيان إسلام – صلاح سالم وعبد الحكيم عامر يصلان الخرطوم "

وقال صحيفة ( السودان الجديدة) المستقلة :

" مجلس الثورة ( بمصر ) يتهم الإخوان بالتعاون مع الانجليز لقلب الحكم – الإخوان المسلمون ( أى في السودان ) يقومون أمس بأول مظاهرة في العهد الجديد – اعتقال عشرة وإصابة اثنين بكسور " ووصفت الصحيفة المظاهرة بأنها ضمت طلبة الكلية الجامعية والمدارس الأخرى وأنها خرجت احتجاجا على حل الإخوان المسلمين ف يمصر وأن المتظاهرين اتجهوا إلى مكتب الخبير الاقتصادي المصري لمقابلة الصاغ صلاح سالم وتسليمه عريضة باحتجاجهم "

وأوردت صحيفة " الرأي العام " الصادرة بتاريخ 16 /1/ 1954 م تفاصيل المظاهرة وتصدي رجال الشرطة لها فذكرت أن البوليس اعتقل عشرة من المتظاهرين منهم مدرسان سبعة من الطلاب وجريحان بالمستشفي والمعتقلون هم عبد الوهاب إبراهيم سليمان وطالب بالهندسة وعبد الله المبشر طالب بمدرسة الطب وعوض إدريس سعيد طالب بالآداب الجزولي دفع الله العاقب الطالب بمدرسة العلوم وأحمد عبد الحميد حمزة طالب بالآداب كما ألقي القبض على الأستاذ محمد أحمد محمد علي ( مولانا ) مدرس بوادي سيدنا الثانوية والأستاذ ياسين عمر الإمام مدرس بالأحفاد الوسطي والطالب عبد الله سيلمان العوض بمدرسة وادي سيدنا ودفع الله أحمد زين العابدين طالب بقسم لبساتين ومحمد الحسن محمد علي ترزي بالمخازن ( أى إدارة المخازن والمهمات ) وقد أصيب بكسر في ساقه كما أصيب الطالب أحمد عبد الحميد برضوض في رأسه .

أزمة العلاقات السودانية المصرية :

لم تعد معركة جمال عبد الناصر مع الإخوان المسلمين حدثا داخليا وإنما امتدت آثارها – مع تصاعد المواجهة – إلى بعض الأقطار العربية وفي مقدمتها السودان وسوريا بل كانت المعركة في الخرطوم أكثر ضراوة منها في القاهرة لأن الحركة الإسلامية في السودان كانت تتمتع بنصيب موفور من حرية التعبير – في ظل العهد الوطني – والقدرة على مخاطبة الرأى العام وإثارته , ولقي نداؤها استجابة عظمي , بعد وضوح الخلاف بين اللواء محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة برياسة عبد الناصر, وأفضي تفاقم الخلاف إلى استقالة اللواء نجيب في 22 فبراير 1954 م وأصدر مجلس الثورة في 25 فبراير 1954 م بيانا له وآزره ضباط سلاح الفرسان وأرغم مجلس الثورة على إعادته إلى السلطة وأصدر المجلس بيانا جاء فيه :

" حفاظا على وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته على ذلك وأصدر رئيس وزراء السودان السيد إسماعيل الأزهري بيانا قال فيه " إن الاستقالة كانت صدمة عنيفة لشعب السودان الذي كان يتأهب لاستقبال الرئيس محمد نجيب لافتتاح البرلمان في الخرطوم , ولكن الصدمة لم تدم طويلا وزالت سريعا "

وذكر محمد نجيب أنه عاد للحكم على أكتاف الجماهير ودماء الإخوان المسلمين كما قال :" إن موقف السودان كان أحد أسباب عودته ".

وبعودة نجيب إلى الحكم تحولت مظاهرات الاحتجاج في مصر والسودان إلى الابتهاج ونحرت الذبائح في أم درمان تعبيرا عن فرحة المواطنين وقد أشاد اللواء محمد نجيب بالسودان في خطاب ألقاه على جموع المواطنين في مصر في ميدان الجمهورية عقب عودته من الخرطوم بعد أحداث مارس الدامية قائلا :

" لقد أثبت السودان دائما أنه موطن الرجولة الحقة ومنبع قوة الأخلاق ولقد كانوا دائما الدرع التي تقي صدورنا والسند الذي يحمي ظهورنا .. إلخ .

غير أن مصر لم تنعم بالاستقرار بعد انتهار أزمة فبراير / مارس 1954 وما كان الهدوء الذي ساد العلاقة بين مصر والسودان لبضعة أشهر سوي مقدمة لأحداث جسام ففي 9 أبريل عام 1954 م سلب محمد نجيب سلطاته مرة أخري وصدر مرسوم بتعيين جمال عبد الناصر " حاكما عسكريا " لمصر وفي مساء الثلاثاء 26 أكتوبر 1954 م وقف جمال عبد الناصر خطيبا في حفل أقيم بميدان المنشية بالإسكندرية ابتهاجا بتوقيع الاتفاق الذي وقعه مع الحكومة البريطانية في 19 أكتوبر من العام ذاته , لجلاء القوات البريطانية عن قناة السويس وفي تلك اللحظات دوت رصاصات قيل إنها أطلقت من يد أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين لاغتيال عبد الناصر وقد وصف اللواء محمد نجيب حادث المنشية بأنه " مسرحية مدبرة لتحويل عبد الناصر إلى بطل شعبي ومحاولة لينسي الناس عوار اتفاقية الجلاء . ثم هي فرصة ليتخلص عبد الناصر من القوة الوحيدة الباقية وهي الإخوان المسلمون " وقد كان للإخوان رأى في تلك الاتفاقية بسطوة في مذكرة مستفيضة قدموها إلى رئيس وزراء مصر خلال الأسبوع الأول من شهر سبتمبر عام 1954 م ومما أخذه الإخوان المسلمون على الاتفاقية – على سبيل المثال – لمادة الرابعة التي أعطت انجلترا الحق المطلق في العودة إلى القنال واحتلال القاعدة بجنودها لمجرد حدوث هجوم على مصر أو دولة عربية أو تركيا ومعلوم أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلنطي ورأي الإخوان أن في هذه المادة مساسا بحرية مصر وتقييدا لها بحلف أرويي لا مصلحة لها في ارتباط به بصورة مباشرة أو غير مباشرة وجاء في رسالة أخري من المرشد العام للإخوان المسلمين الشيخ حسن الهضيبي إلى جمال عبد الناصر:

" ومن الخير لكم وللبلاد أن تسمحوا لمن يريد أن يتكلم وينقد المعاهدة بشئ من الإنصاف فينشر ما يريد حتى يحكم الناس علينا بفعلنا لا بقولك وحتى يستطعيوا أن يعرفوا حقيقتها من جملة الحجج ولا يكتفوا بسماع طرف واحد ".

وقال الهضيبي لعبد الناصر في رسالة ثالثة :

" ولعل الذي حملك على إبداء العداوة والبغضاء للإخوان المسلمين هو أنهم عارضوا المعاهدة فالإخوان المسلمون لن يؤمنوا بها بدون أن تناقش في برلمان منتخب انتخابا حرا يمثل الأمة أكمل تمثيل وخير لكم وللأمة ألا تخدعوا أنفسكم عن الحقائق فإن الأمة قد بلغت من حسن الرأي ومن النضج مبلغا يسمح لها بألا يتصرف أحد في شؤونها دون الرجوع إليها .

وكان رد جمال عبد الناصر على هذه الرسائل والنصائح " حادث المنشية " في 26 أكتوبر 1954م وفي اليوم التالي له ( 27 أكتوبر) وجهت حكومة عبد الناصر مظاهرة لحرق المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية تحت سمع رجال البوليس وبصرهم وتتابعت الأحداث في مصر سراعا لتلهب السودان على بكرة أبيه ولتوحد صفوف أهله الذين فرقتهم النزعات الحزبية بين مؤيد للإتحاد مع مصر وداعية إلى الاستقلال عنها ليقفوا كالبنيان المرصوص منادين باستقلال السودان ففي أول نوفمبر عام 1954 م اصدر مجلس الثورة قرارا بتشكيل محكمة جمال سالم ومحاكم الثورة وفي 14 نوفمبر 1954 م اعتقل اللواء محمد نجيب ( حددت إقامته) وكان اعتقاله وإقصاؤه عن السلطة لمرة الثانية مثار غضب شديد في السودان واستنكار لأحد له بل بعث في نفوس كثير من الاتحاديين ( أنصار الدعوة إلى الاتحاد مع مصر ) الخشية على بلادهم من أن تتعرض لمثل هذه السيطرة إن هي اتحدت مع مصر .

الحركة الإسلامية في معركة الاستقلال:

كان عاما 19541955 م من أخصب سنوات الحركة الإسلامية في مجال العمل السياسي بالسودان وكانت القضية المطروحة على الساحة يومئذ مستقبل السودان السياسي ولاقته بمصر التي كدر صفوها افتراء جمال عبد الناصر على اللواء محمد نجيب الذي قاد ثورة 23 يوليو 1952 م فى أدق مراحلها والحرب التي شنها عبد الناصر على الإخوان المسلمين وعلى من خالفه في الرأي .

كانت أحداث 12 يناير 1954 م ( حل جماعة الإخوان المسلمين في مصر ) والتهم الظالمة التي وجهها عبد الناصر إلى كل من محمد نجيب وحسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين وجماعته وألوان التعذيب التي تعرض لها الإخوان وإحراق دارهم بالحمية أمام أعين الشرطة الناصرية وتشكيل محكمة جمال سالم في أول نوفمبر 1954 م وإصدار أحكامها في 4 ديسمبر 1954 م بالإعدام لا على محمود عبد اللطيف وحده وهو المتهم بمحاولة اغتيال عبد الناصر بل على ستة من قادة الإخوان المسلمين في مقدمتهم الشيخ حسن الهضيبي وعبد القادر عودة ومحمد فرغلي قائد كتائب الإخوان المسلمين في حرب تحرير فلسطين عام 1948م ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب المحامي وهنداوي دوير وقد نفذت أحكام الإعدام فيهم باستثناء الشيخ الهضيبي الذي خفف عنه الحكم إلى السجن المؤبد وكانت هذه الأحداث الأليمة المتتالية موضع استنكار العالم الإسلامي بأسره وإبراق الرئيس عبد الناصر لإيقاف أحكام الإعدام من قبل الحكومة السورية ورئيس اتحاد المحامين العراقيين ووزراء خارجية جامعة الدول العربية الذين كانا في اجتماع لهم بالقاهرة .

أما في السودان فكانت الدماء التي أريقت في القاهرة وقودا لحركة سياسية عارمة ألقي فيها الإخوان المسلمين والشعب السوداني بكل قواهم .

كانت غضبة السودان الأولي على ما يدور في أرض مصر من أحداث خلال شهري يناير وفبراير 1954 عندما أدان الرأي العام السوداني حل جماعة الإخوان المسلمين ( 12 يناير 1954 م) وسياسة مجلس الثورة المصري التي أدت إلى استقالة اللواء محمد نجيب فقالت صحيفة الأيام المستقلة تحت عنان " هكذا تحكم مصر "

" اليوم لا يرتفع صوت في مصر ... لأن الجيش يريد ذلك لا يحتج متحتج لأن السجون مفتوحة الأبواب .. الدكتاتورية لا تعرف صديقا ولا حليفا .. الإخوان أنصار العهد في أمسه القريب أضحوا اليوم وبكلمة من مجلس قيادة الثورة خونة يتعاونون مع الانجليز في الظلام ... والشيوعيون الذين رحبوا بالثورة في بدايتها امتلأت بهم السجون حتى فاضت .. دخل اليوم السجن سراج الدين وصحبه .. إلخ " انتهي

وكتبت صحيفة النيل :

" مهما حاولت الحكومة العسكرية الدكتاتورية في مصر أن تجد مبررا لحل الإخوان كتهامهم بالمؤامرة ضد العهد الحاضر واتهامات أخري فإن هذه الخطوة لن تجد من يؤيدها أو يقتنع بوجاهتها إلا إذا كانت مصر العسكرية تريد أن تكمم الأفواه وتتخذ وتخذ ستارا حديديا مثل روسيا لتناهض الدعوة المسلمة "

ونشرت الصحف السودانية طائفة من قصائد كبار الشعراء ينددون فيها بما لحق الإخوان المسلمين واللواء محمد نجيب من ظلم وأذي ففي 3 فبراير نشرت صحيفة " النيل " قصيدة الشاعر حسيب على حسيب المحامي التي خاطب فيها صلاح سالم بقوله :

مهلا صلاح ففي بلادك ضجة
أولي بجهدك من جنوب الوادي
ارجع لمصر فإنها في ثورة
لم تبق حزبا خارج ا لأصفاد
أوكل حزب في بلادك خائن
ماذا تبقي بعد للإرشاد
قيدتموا النحاس وهو ممثل
للأغلبية ثابت الأمجاد
وحللتموا جند الهضيبي وهو من
وهب الشباب جرأة الآساد
فلأي شعب تركنون وكلهم
ما بين موتور وبين معاذ

ولم يقف نشاط صلاح سالم عند حدود الخرطوم بل زار بعض المدن في أقاليم السودان كعطبرى والأبيض ليدافع عن قرارات مجلس الثورة المصري ويدعو إلى وحدة وادي النيل لكنه استقبل بالإعراض والإنكار والهتافات المعادية أني حل وحيثما سار وأثناء زيارته مدينة عطبرة واجهته جماهير الإخوان المسلمين بالسخط وهجم عليه أحد الثائرين وشدة من ياقته وأمره أن يعود إلى بلاده ويترك السودان وشأ،ه . وفي مدينة الأبيض بغرب السودان هم بمخاطبة جمع من أهل المدينة فنبري له شاب بتلاوة الآية الكريمة :( يا أيها آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) الحجرات :6) فبهت صلاح سالم واعترت الجمع هزة أفسدت ما كان يرمي إليه الصاغ .

وفي تلك الأيام نشرت قصيدة الشاعر الكبير الأستاذ أحمد محمد صالح تحت عنوان " إلى نجيب في عليائه" فقال مخاطبا اللواء محمد نجيب :

ما كنت غدرا ولا خوانا
كلا ولم تك يا نجيب جبانا
يا صاحب القلب الكبير تحية
من أمة أوليتها الإحسانا
عرفتك منذ صباك حرا وافيا
فوفت إليك وآمنت إيمانا
طالبت بالشورى وتلك شريعة
يا ويحهم هل أنكروا القرآنا

ثم يقول عن الإخوان :

يا ويح مصر ما دهي أبناءها
فمضوا على أحقادهم عميانا
ركبوا رؤوسهم فكانت فتنة
هو جاء ما تركت لهم إخوانا

وجاءت غضبة السودان الثانية بعد إعلان حادث المنشية وتشكيل محكمة جمال سالم وإصدار أحكام بالإعدام وتنفيذ الأحكام في الشهيد عبد القادر عودة وصحبه فانفجرت المظاهرات الهادرة في الخرطوم ومدن الأقاليم وأقيمت الليالي السياسية والندوات والمؤتمرات الصحفية وتحدث الخطباء في المساجد وصدرت البيانات من الهيئات والأحزاب تندد بالظلم وسفك الدماء .

لقد حملت الحركة الإسلامية في السودان عبء التصدي للحملة التي تعرض لها الإخوان المسلمون في مصر – منذ إذاعة قصة المنشية – والكشف عن حقيقة المعركة الدائرة هناك بما كانت تملك من معلومات دقيقة لم تكن ميسورة لمن يعتمد علة سماع الأنباء العالمية أو البيانات " الرسمية " التي تصدرها السلطة الحاكمة في القاهرة فكان قادة الحركة في السودان يتلقون الرسائل التي وجهها الأستاذ حسن الهضيبي إلى جمال عبد الناصر وينشرونها في بعض الصحف السودانية كما كانوا يتلقون الأنباء من الطلاب الإسلاميين القادمين من مصر وما يحملون من معلومات لا تجرؤ الصحافة المصرية على نشرها نظرا إلى الرقابة الإعلامية الصارمة المفروضة عليها فكشف الإخوان المسلمون في السودان تلك الحقائق في أحاديثهم داخل المساجد والأندية والمؤتمرات التي عقدوها في الخرطوم وفي المنتديات التي أقامتها الهيئات السودانية كاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ( الكلية الجامعية ) والليالي السياسية التي عمت أنحاء السودان .

ففي 18 نوفمبر 1954 م عقد الإخوان المسلمون أول مؤتمر صحف لهم في دار ( نادي ) العمال الوطنيين بالخرطوم – وكان موقعه جنوبي المسجد الكبير – افتتحه الأستاذ على طالب الله بكلمة شكر فيها الصحافة السودانية الحرة وأشاد بموقفها الكريم في مناصرة الإخوان المسلمين ثم تحدث عن تاريخ " الإخوان " وملاحمهم في فلسطين وفي حرب القنال لتحرير فلسطين ومصر من العدوان الصهيوني والاحتلال البريطاني ثم أما ط اللثام عن الجريمة التي ارتكبتها السلطة العسكرة بقمع الأخوات المسلمات عندما خرجن في مظاهرة تندد باتفاقية " جمال - هيد" وبالحكم العسكري الذي استقبلهن بوابل من الرصاص فاستشهدت أربع منهن في الحال وأصيبت بعضهن بجروح دامية واقتيدت الباقية إلى المعتقلات والسجون .

ثم تحدث الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد – وقد وصل من القاهرة قبل بضعة أيام – فروي المآسي التي ارتكبها عبد الناص وجنده ضد شباب الإخوان المسلمين والأخوات المسلمات وذكر أن مالقيه أولئك الفتية والفتيات من ضروب الأذي والفحش فاق مالقيه الإخوان من إبراهيم عبد الهادي ( 1948م)

وتحدث صادق للمصلين في مسجد الخرطوم عقب صلاة الجمعة في 19 نوفمبر 1954م عن أحوال الإخوان المسلمين فيمصر وناشد المسلمين ألا يستمعوا إلى أكاذيب إذاعة القاهرة وصحفها .

كذلك عقد مؤتمر وطني يوم 20 نوفمبر 1954 م بدار اتحاد كلية الخرطوم الجامعية ضم عددا ضخما من أبناء السودان وأعيانه وجماهير الطلاب وممثلين للهيئات السياسية والشخصيات البارزة وكان من بين المتحدثين الشيخ محمد بخيت حبه عضو مجلس الشيوخ السوداني وأحد أعيان مدينة الأبيض والأستاذ حسن محجوب عن حزب الأمة والأستاذ محمود محمد طه وعلى طالب الله والرشيد الطاهر بكر المحامي والطالب [[ميرغني النصري من الكلية الجامعية وأحمد سيلمان المحامي ممثلا للجبهة المعادية للاستعمار ( الحزب الشيوعي ) ووصف الأستاذ الرشيد الطاهر ما يجري بين محمد نجيب والإخوان المسلمين من جهة وجمال عبد الناصر من جهة أخري بأنها معركة بين الاستعمار البريطاني الأمريكي والنزعات التحررية والإسلام ثم أهاب بالشعوب العربية أن تساهم في الإطاحة بالنظام القائم في مصر واتخذ المؤتمر قرارات هامة منها إبراق جمال عبد الناصر باحتجاج شديد على عزل اللواء محمد نجيب وتعذيب الإخوان المسلمين وإبراق هيئة علماء الأزهر باستنكار بيانهم بتكفير الإخوان المسلمين ومقاطعة الصحافة المصرية ومطالبة الحكومة السودانية بطرد جواسيس المخابرات المصرية المنبثين في السودان . وهبت الصحف السودانية للتعبير عن استنكارها لما يجري في مصر من مآس فصدرت " كلمة الأيام " بتاريخ 22 نوفمبر 1954 م تحت عنوان " مع شعب مصر ":

" غدا تحتجب الصحف السودانية احتجاجا على الدكتاتورية العسكرية في مصر التي كممت الأفواه وصادرت الحريات إننا لا نقف بجانب " نجيب " لكسب شخصي أو دافع فردي ولكننا نقف بجانبه لأنه يمثل لنا المثل التي يصبوا إليه شعب مصر في الحياة التي نرجوها ولأنه كان ضحية الطغيان والدكتاتورية "

وقالت صحيفة أخري :

" غدا تحتجب الصحف .. غدا تشارك الصحافة مشاعر السودانيين قاطبة في محنة مصر وغدا ينطوي علم صاحبة الجلالة وتنكس الأعلام حدادا على الحرية والإنسانية التي مزقها الضباط ف يمصر بالرصاص والقنابل وصاحبة الجلالة تقف اليوم وهي مملوءة بالحزن والأسي إلى جانب المعذبين في مصر والمعتقلين والمبعدين وراء الأستار وخلف الحديد والنار "

وفي 23 نوفمبر 1954 م احتجبت جميع الصحف في الخرطوم عدا صحفيتي " العلم والاتحاد " ولكن لفيفا من الشباب قام بجميع ما صدر من هاتين الصحيفتين وأحرقها في الطرقات العامة في أم درمان والخرطوم.

وقرر المحامون السودانيون – مع تباين مذاهبهم السياسية ومعتقداتهم الدينية – أن تقوم طائفة منهم بالدفاع عن الشيخ الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين عندما سمعوا بنبأ تقديمه إلى المحاكمة وشكلوا وفدا لهذا الغرض من المحامين المذكورين أدناه :

" رشدي بطرس وهو سكرتير نقابة المحامين ومحمد إبراهيم خليل وأحمد جمعة ويونس نجم وأمين الشبلي وأحمد سليمان والرشيد نايل وأحمد زين العابدين والفاتح عبود وعبد الله عبد الهادي وعبد الله الحسن والصائم محمد إبراهيم على محمد إبراهيم وعبد الحليم الطاهر "

وعقد اتحاد خريجي الجامعات المصرية اجتماعا بنادي الخريجين بالخرطوم واتخذ عدة قرارات تستنكر الوضع القائم وعزل اللواء نجيب وتناشد الشعب مقاومة الدكتاتورية العسكرية ".

وكان جهد الإخوان المسلمين في السودان في إثارة الرأي العام السوداني لمناصرة مصر في محنتها مصدر قلق عظيم للسلطات المصرية التي طلبت من حكومة السودان إيقاف النشاط السياسي للأستاذ على طالب الله , باعتباره موظفا ولم تكن الحكومة المصرية – فيما يبدو – تدرك أن حركة الإخوان المسلمين في السودان قد رسخت دعائمها واكتمل عقدها وأحكم تنظيمها ولم يعد نشاطها مرتبطا باسم شخص بعينه .

ثم جاءت غضبة السودان الكبرى والعالم الإسلامي عندما أصدرت محكمة جمال سالم أحكامها بالإعدام على قادة الإخوان المسلمين ونفذت الأحكام صباح اليوم السابع من ديسمبر 1954 م في عبد القادرة عوده وصحبه الذين سلفت الإشارة إليهم .

انفجر مرجل الغض1ب في أنحاء السودان وتدافعت المظاهرات الصاخبة في الخرطوم والأقاليم معبرة عن سخطها وتستمطر اللعنات على جمال عبد الناصر ومجلسه وأقيمت الصلوات على أرواح الشهداء وأغلقت المتاجر والأندية وتدفقت البرقيات على عبد الناصر من الهيئات والأفراد والمجالس النيابة ومن أهم تلك البرقيات البرقية التي وجهها نواب الأمة السودانية وشيوخها في البرلمان إلى جمال عبد الناصر ونصها :

" البكباشي جمال عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة , لقد قتلتم الحرية بإعدامكم الإخوان المسلمين وإنا نستنكر بشدة تجاهلكم لوساطة الدول العربية وشعور المسلمين والرأي العام السوداني بصفة خاصة وإنا نحملكم نتائج هذه المجازر الانتقامية التي لن يغفرها لكم التاريخ " انتهي.

هذا وقد طلب مجلس الناب السوداني ( رسميا )مناقشة الوضع في مصر من الحاكم العام البريطاني ( السلطة الدستورية العليا في السودان ) ولكنه لم يأذن بذلك وظلت التعبئة في السودان تتصاعد منددة بسياسات عبد الناصر ومجلسة وعمّت المظاهرات جل أنحاء السودان وكانت الهتافات تعلو وتتردد أصداؤها بسقوط الدكتاتورية العسكرية " لا اتحاد بلا إسلام" إشارة إلى دعوة الاتحاد مع مصر – و" يسقط جمال عبد الناصر ".

وكانت من أعمق المظاهرات أثرا في النفوس مظاهرة طلاب المعهد الفني ( جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا الآن ) بالخرطوم وقد رفعوا فوق رؤوسهم لوحة كبري تحمل صورة الشهيد عبد القادر عوده وهم يجوبون طرقات العاصمة السودانية يحيون أرواح الشهداء ويهتفون بسقوط الطغاة في مصر وخرج المصلون من المساجد يهتفون " لا اتحاد بلا إسلام " و" ولا اتحاد بلا إخوان ".

" وكتب صادق عبد الله عبد الماجد في صحيفة ( السودان الجديد ) : " إن أكف المسلمين لترتفع اليوم في كل شبر من أرض أرض الإسلام وإن قلوبهم وهي تخشع لهه المنتقم الجبار أن تزل على جمال وعصابته الخاسرة والفاجرة لعنة الله التي لا تبقي ولا تذر وتصيبهم في أنفسهم وفي أشياعهم وأتباعهم من شياطين الإنس بقدر ما أصابوا الإسلام وآذوا المسلمين ".

وعلى إثر تنفيذ أحكام الإعدام في عبد القادر عودة وصحبه , أقيمت صلاة الغائب على أرواح الشهداء في الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري والدامر وودمدني والمناقل وقرية التكينة, وفي مدينة الأبيض أدي صلاة الغائب حشد عظيم من المصلين بساحة المولد النبوي لأن المسجد ضاق على سعته بالمصلين واستمطروا الرحمة للأرواح البريئة التي أزهقت واستنزلوا اللعنات على عبد الناصر وعصابته وأقيمت حلقات لتلاوة القرآن الكريم على أرواح شهداء الإخوان بجامع أم درمان الكبير .

أما في الخرطوم فقد أدي أعضاء البرلمان السوداني صلاة الغائب على أرواح شهداء الإخوان عقب انتهاء جلسة اليوم التاسع من ديسمبر 1954م وقد أمّ المصلين الشيخ مدثر البوشي النائب الاتحادي بالبرلمان السوداني وقالت احدي الصحف في وصف ذلك المشهد :

" لقد كانت حقا ساعة رهيبة عندما كان السيد مدثر البوشي يدعو ويردد من خلفه الشيوخ والنواب رافعين أيديهم نحو السماء :" اللهم من شوش علينا فأصلح حاله وتب عليه وإن سبق في علمك أنك لا تصلح حاله ولا تتوب عليه فاجعل اللهم تدميره في تدبيره وكيده في نحره واقطعه قطعا يرده عنا وعن المسلمين .. آمين .

وقرر تجار مدينة أم درمان – كبري المدن السودانية – إغلاق متاجرهم ودعوة إخوانهم بقية تجار العاصمة لإغلاق متاجرهم في الساعة الحادية عشرة من ظهر اليوم ( 9 ديسمبر 1954) احتجاجا على إعدام قادة الإخوان المسلمين في مصر واستجابت أسواق العاصمة القومية ( المثلثة) وأغلق اتحاد كلية الخرطوم الجامعية داره مساء ذلك اليوم حدادا على شهداء الإخوان وفعل نادي العمال الوطنيين بأم درمان مثل ذلك .

ودعا الإخوان المسلمون في السودان إلى ملتقي سياسي بنادي أم درمان الثقافي مساء 7 ديسمبر 1954م ( يوم تنفيذ أحكام الإعدام في عبد القادر عودة وصحبه ) ولكن تدخل شرطة أم درمان حال دون ذلك .

وقد أوردت صحيفة السودان الجديد الخبر تحت عنوان :

" استدعاء لجنة نادي أم درمان الثقافي للتحقيق بشأن ليلة سياسية " على النحو التالي :

" كان من المقرر أن يقيم الإخوان المسلمون ليلة سياسية مساء اليوم ( 7 / 12 / 1954 م) في النادي الثقافي بأم درمان ولكن أعضاء النادي تلقوا استدعاء من حكمدار بوليس أم درمان للتحقيق في شأن هذه الليلة وعليه فقد تقرر إلغاؤها "

وقد أقيمت شعراء السودان عن سخط الأمة واستنكارها لما يحدث ف مصر في قصائد نقتطف منها – على سبيل المثال – أبياتا للشاعر صالح عبد القادر إذ يقول في قصيدة بعنوان " نهاية الأحرار في مصر " موجها الخطاب إلى جمال عبد الناصر ومجلسه :

هم أشعلوها فتنة مسعورة
ولغير ذنب قتلوا الإخوانا
ما نكبة الإخوان نكبة مصر بل
هي نكبة الإسلام أيا كانا
في الهند في الصين الفسيحة
في ربا أفريقيا في الشام في لبنانا
هذي نهاية كل حر في بلادك
عن بلادك نحن ما أغنانا
والوحدة الحمقاء إن تمت فما
أقسي نهايتنا وما أشقانا
ما أعظم السودان أصبح معقلا
عن نجدة الأحرار لا يتوانا

ونشرت صحيفة النيل قصيدة للشاعر حسيب على حسيب موجها الخطاب إلى عبد الناصر , جاء فيها :

أى ذنب قد أتوه
فاستحقوا منك قتلا
كلنا الإخوان فاعلم
واتخذ ما شئت سبلا
إن للحق انتصار
وجيوش الظلم تبلي

وخاطب الأستاذ عثمان فقير جمال عبد الناصر في قصيدة نقتطف منها ما يلي :

رويدك يا من بت للشعب طاغيا
ففرعون موسي كان يطغي ويفجر
ومهما تزد جورا وبطشا وقوة
فلابد يوما فيه تفني وتحشر

لقد حظيت دعوة " الاتحاد مع مصر " – منذ ظهور الأحزاب السياسية – بتأييد قوة لا يستهان بها في السودان تمثلت في نتائج انتخابات نوفمبر عام 1953م التي فاز فيها الحزب الوطني الاتحادي ( الداعي لوحدة وادي النيل ) بكثرة الدوائر الانتخابية وظفر بتشكيل الحكومة الوطنية الأولي , غير أن الأحداث التي شهدتها مصر خلال عام ذ954م بخاصة " حادث المنشية " وما أعقبه من محاكمات وبطش وتنكيل وقتل وتعذيب للإخوان المسلمين في مصر , وما أصاب اللواء محمد نجيب من كيد وظلم على يد جمال عبد الناصر ومجلسه , كل ذلك وضع الاتحاديين في السودان في مأزق لم يستطعيوا الخروج منه إلا بنبذ فكر " الاتحاد " جملة وتفصيلا والإذعان لدعوة " استقلال السودان " وكان لحركة الإخوان المسلمين في السودان ونشاطهم السياسي الدافق أثر عميق في تبصير أهل البلاد بخطورة الاتحاد مع دولة لا ترقب في مواطنيها إلاّ ولا ذمة فتنتهك الحرمات وتحرق دور خصومها في الرأي وتعذب الأبرياء وتذبح العلماء وتقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس . فمن خلال الحملة الإعلامية القومية التي قادتها الحركة الإسلامية وإثارتها للرأي العام بتقديم المعلومات ونشر البيانات وتنظيم المؤتمرات وقيادة المظاهرات وإحياء الليالي السياسية لكشف الماسي التي تعرض لها شعب مصر والمخازي التي باءت بإثمها حكومة عبد الناصر من خلال ذلك كله امتلأت صحف السودان ومجالسه ومنتدياته بالتعليق والاستنكار لما يجري في مصر من أحداث وتنبيه الحكومة الاتحادية التي يتولي رياستها السيد إسماعيل الأزهري بأن ليس لديها ما تحمي به نفسها أبناء السودان وأبناء مصر وأفضل من أن تنادي باستقلال السودان ولم يجد الأزهري وصحبه مناصبا من الاستجابة لنداء العقل واحترام إرادة المواطنين فأدلي إسماعيل الأزهري بأخطر تصريح لصحيفة الأيام المستقلة في 26 ديسمبر 1954 قال فيه : رأيي الشخصي الذي توصلت إليه الآن :

1- أ، يكون السودان جمهورية برئيسها ومجلس وزرائها كما أن مصر جمهورية .

2- أن يكون الرباط بين مصر والسودان مجلسا أعلي يضم مجلس الوزراء السوداني ومجلس ومجلس الوزراء المصري يجتمعون مرة أو مرات كل عام لبحث المسائل المشتركة .. إلخ .

ونظرا إلى أن التصريح لم ينص على استقلال السودان فقد أصدر اتحاد طلاب كلية الخرطوم الجامعية – وكان يرأس تلك الدورة دفع الله الحاج يوسف أحد شباب الإخوان المسلمين – يستنكر تصريح السيد الأزهري ويعتبره " تشويها لرغبة شعبنا الأكيدة في الاستقلال التام غير المقرون بأى ارتباطات مع مصر تمس سيادته " وقال البيان :

" إننا نطالب بأن يوقف قادة الحزب الوطني الاتحادي مسايرتهم للدكتاتورية العسكرية المصرية وأن يثقوا ثقة تامة في شعبنا وينادوا باستقلاله التام ".

وأصدر السكرتير العام للإخوان المسلمين في السودان الأستاذ الرشيد الطاهر بيانا جاء فيه :

" إن مصلحة الدعوة الإسلامية تقتضينا أن نطالب بإصرار بمبدأ الاستقلال لأننا سنجد فيه الحماية والطمأنينة التي تزدهر في ظلها دعوتنا ولأن الاستقلال يمكن الشعب السوداني المسلم من أن يمد يد العون للشعب لمصري المكنوب ليتخلص من الوضع الذي يرزح تحت وطأته ومن ثم ينطلق الإسلام السجين من وراء القضبان ليحرر مصر من طغيانها ".

في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ السودان كان الصاغ صلاح سالم يتنقل بين القاهرة والخرطوم لإنقاذ وحدة وادي النيل وليقنع الشعب السوداني أن " نجيبا" تآمر مع الإخوان المسلمين وأن هؤلاء تأمروا مع الانجليز من خلف ظهر الثورة لقلب الحكم في مصر !!

وعندما أدلي السيد إسماعيل الأزهري بتصريحه سالف الذكر ذهب صلاح سالم " إلى حد اتهام الأزهري بالتآمر مع الانجليز ضد الحركة الاتحادية في السودان ".

وتصدي أحد أقطاب الدعوة الاتحادية في السودان وهو الشيخ محمد بخيت حبة لمخاطبة " الصاغ " قائلا : " اسمع يا واد سالم ( أى اسمع يا صلاح سالم ):" لقد أقصيتم محمد نجيب وذبحتم الإخوان المسلمين فمع من تريدوننا أن نتحد ؟ مع شكوكو وإسماعيل ياسين ؟!"

وكان لأحداث أول مارس عام 1954م وتصريح السيد عبد الرحمن المهدي أنه يؤيد إقامة حكم جمهوري ديمقراطي ولا رغبة لأنصاره في إقامة نظام ملكي , كان لذلك كله أثر كبير في دعم الاتجاه نحو الاستقلال حتى بين دعاة الاتحاد مع مصر – وفي 19 ديسمبر 1955م أعلن البرلمان السوداني استقلال السودان وفي أول يناير عام 1956م رفرف العلم السوداني على القصر الجمهوري وطوي علما دولتي الحكم الثنائي بريطانيا ومصر إيذانا بميلاد جمهورية السودان .

وقد أكدت الحركة الإسلامية ( الإخوان المسلمون ) في بيانها سالف الذكر أن الاستقلال لا يعني جلاء القوات الأجنبية عن البلاد فحسب فقد يتحقق الجلاء وتظل الأوضاع الاستعمارية باقية – كما تدل على ذلك شواهد كثيرة – ولكن الاستقلال يعني " تحرير أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من نفوذ الاستعمار الذي صبغها بصبغته وسخرها لخدمة مصالحة ولن يتحقق الاستقلال إلا بإقامة هذه الأوضاع على أسس جديدة مستمدة من تاريخ الأمة وعقيدتها الإسلامية ".

ومن خلال هذه الرؤية , انطلقت الحركة الإسلامية في السودان لتشارك في وضع دستور البلاد وبناء نهضتها الاجتماعية والاقتصادية الثقافية .

نحو الدستور الإسلامي :

لم تنبع الدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في السودان من فراغ فقد تزودت الحركة الإسلامية بنصيب موفور مما كتبه فقهاء الإسلام السابقون وقادة الفكر الإسلامي المعاصر عن قضية الدين والدولة التي حسمت منذ فجر الإسلام بإجماع الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم على وجوب نصب الإمام ( أو الخليفة) الذي " ينوب عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به وبغض النظر عن اللقب الذي يحمله رئيس الدولة الإسلامية سواء أسمي إماما أم خليفة أم سلطانا أم رئيس جمهورية فإن المبدأ الذى أقر هو أن الإسلام دين ودولة وعلى الرغم من أن قلة من الناس – على حد تعبير ابن خلدون – " قد شذت عن هذا المبدأ فقالوا بعدم وجوب نصب الإمام لا بالعقل ولا بالشرع " والشذوذ أو الاستثناء يثبت القاعدة ولا ينفيها أثبت ابن خلدون هذه الحقيقة في عبارة موجزة جامعة حين قال :

" ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم , وكذا في كل عصر بعد ذلك ولم تترك الناس فوضي في عصر من الإعصار واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام ".

وقال الشيخ اللقاني :

وواجب نصب إمام عدل
بالشرع فاعلم لا بمحض العقل

ولئن حيل بين المسلمين وبين تطبيق شريعتهم أثناء الفترة التي اخضعوا فيها للحكم الأجنبي فقد لاحت بارقة الأمل – مع فجر الحرية – لتقويم هذا الاعوجاج وتنزيل أحكام الإسلام على واقع الحياة بعد تحقيق الاستقلال ومن ثم وجدت الحركة الإسلامية في استقلال السودان الحرية التي تنشدها فدعت إلى وضع المبادئ والأسس التي تكفل صياغة نظم الحكم في سودان المستقبل وفقا لتعاليم الإسلام وتجلت مبادرتها في تبني فكرة " الدستور الإسلامي " والاستعانة بأهل العلم والاختصاص في إعداد مشروع الدستور , وقد سبق القول أن قرارات مؤتمر العيد ( أغسطس 1954م) نصت في أحد بنودها على ( إقامة حكومة إسلامية تنفيذ تعاليم الإسلام ) وهو توجه واضح نحو وضع دستور البلاد على مبادئ الشريعة الإسلامية عندما يحين بحث هذا الموضوع , ومن ثم بدأ اتصال الحركة الإسلامية بقيادة الهيئات والطوائف الدينية والأحزاب السياسية لتأييد الفكرة في إطار تجمع شعبي شامل يتجاوز التقسيمات الحزبية والولاءات المحدودة وكانت الاستجابة ناجزة وواسعة النطاق .

وجّه الإخوان المسلمون " وجماعة التبشير الإسلامي والإصلاح" الدعوة إلى الهيئات الإسلامية في السودان لعقد اجتماع في دار جماعة التبشير الإسلامي بأم درمان للنظر في أمر الدستور حتى يجئ متفقا مع إرادة الشعب السوداني المسلم ومستندا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وعقد الاجتماع في يومي السبت والأحد العاشر والحادي عشر من شهر ديسمبر عام 1955م وحضره ممثلون للهيئات الموضحة أدناه :

اتحادات الختمية – هيئات الأنصار – الإخوان المسلمون – أنصار السنة – خريجوا المعهد العلمي – صوت الإسلام – جماعة القرض الحسن – الجمعية الخيرية الإسلامية – جماعة التبشير الإسلامي والإصلاح – مؤتمر الهيئات الإسلامية – نادي أم درمان الثقافي – جماعة المحافظة على القرآن الكريم بأم درمان - جماعة المحافظة على القرآن الكريم بشمبا – النادي الثقافي الإسلامي بالخرطوم بحري – جماعة اللواء الأبيض وجماعة السيرة المحمدية .

وشهد ذلك الاجتماع تأسيس جبهة الدستور الإسلامي وانتخاب الأستاذ عمر بخت العوض المحامي وعضو المكتب التنفيذي لحركة الإخوان المسلمين في السودان أمينا عاما ( وكان يسمي السكرتير العام لجبهة الدستور ) وشكلت لجان العلم تحت إشراف السكرتير العام وهي :

1- لجنة الاتصال ومهمتها الاتصال بالشخصيات والهيئات وشرح أهداف الجبهة ومبادئها .

2- لجنة الدعاية ومهمتها الإشراف على إعداد الليالي الإسلامية والمحاضرات وتنظيمها والدعاية لها .

3- لجنة الصحافة والإذاعة ومهمتها الاتصال بالصحف والإذاعة وإعداد المقالات والمحاضرات .

4- لجنة المال , ومهمتها النظر في وسائل جمع المال وحفظه والإشراف على إنفاقه في أوجه نشاط الجبهة .

5- لجنة الأقاليم التي نيط بها تنظيم الصلة بين المركز العام للجبهة وبين اللجان الفرعية في الأقاليم.

6- لجنة الأهداف ومهمتها وضع الأهداف العامة للدستور الإسلامي وإصدار النشرات الموضحة لتلك الأهداف .

وشكلت الأمانة العامة للجبهة من رؤساء اللجان المذكورة يتقدمهم السكرتير العام الأستاذ [[عمر بخيت العوض ومساعدوه وهم :

الأساتذة : عبد الله الغبشاوي ومحمد هاشم الهدية وسيد أمين وصادق عبد الله عبد الماجد ومحمد أحمد الهواري والصايم محمد إبراهيم وعبد الرحمن الصايم .

لقد باشرت الأمانة العامة لجبهة الدستور نشاطها على أوسع نطاق لتعبئة الرأي العام السوداني واستنفاره لمناصرة قضية الدستور الإسلامي موضحة أن قضية الدستور ذات طبيعة قومية " لأن العمل الإسلامي في مثل هذه الظروف يقع على عاتق كل المواطنين فردا فردا إذ هو واجب عيني يجب أن يقوم به كل إنسان في أى تنظيم سياسي أو أجتماعي ".

وجاء في تقرير الأمين العام لجبهة الدستور , أما مؤتمر اللجان الفرعية الأول المنعقد في شهر شوال 1375هـ - مايو 1956م " أن وضع دستور إسلامي للبلاد لن يكون إلا عن طريق الانتخاب الشعبي العام ومن ثم كان لزاما على جبهة الدستور أن تنزل إلى ميدان الشعب وتعمل على تعبئته في صورة قومية للمناداة بالدستور الإسلامي ومن أجل ذلك اتخذت التعبئة سبل الاتصال بالأفراد والهيئات والجماعات وقادة الأمة وإقامة الليالي الإسلامية والندوات العلمية والمحاضرات وجري الاتصال بالسيدين الجليلين السيد علي الميرغني والسيد [[عبد الرحمن المهدير ولقيت فكرة الدستور الإسلامي منهما كل تأييد وعطف وتشجيع وكذلك اتصلت جبهة الدستور بالسيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس الوزراء في مكتبه برياسة مجلس الوزراء برحب بالفكرة وجري اتصال بأعضاء البرلمان السوداني بمجلسيه ( الشيوخ والنهواب ) في اجتماعين متتالين عقد أحدهما بدار الصحف الاستقلالية ي الخرطوم والثاني في دار جماعة التبشير الإسلامي والإصلاح بأم درمان وكان لقاء مثمرا وكونت لجنة من نواب البرلمان لتكون حلقة اتصال بين جبهة الدستور والسادة النواب ضمت السادة ميرغني زاكي الدين ( نائب) ومحمد زاكي الدين الشيخ محمد بخيت حبة عضوي مجلس الشيوخ وفي قلاء شيوخ الطرق الصوفية أيد السادة التيجانية والسمانية والأحمدية الدعوة إلى وضع دستور إسلامي للبلاد كذلك وجهت حركة الدستور الدعوة إلى الاتحاد النسائي السوداني وأقامت في العاصمة المثلثة وحدها نحو خمسين ليلة إسلامية ومحاضرة وأصدرت بعض النشرات الخاصة في الأقاليم وطبعت ما يقرب من خمسين ألف نسخة لتوزيعها في أرجاء البلاد المختلفة وتوجهت وفود إلى أقاليم السودان شملت زياراتها في أرجاء البلاد المختلفة وتوجهت وفود إلى أقاليم السودان شملت زياراتها ودمدني ومناطق الجزيرة وعطبرة وشندي وبورتسودان والقضارف وسنار وسنجة والحصاحيصا ورفاعة وكوستي الأبيض وكسلا وطوكر وإقليم دار فور . وأصدرت قيادة الإخوان المسلمين توجيهات إلى أعضائها في مناطق السودان المختلفة ألا يدخروا وسعا في تعبئة الرأي العام لتأييد الدستور وحمل المسئولين السياسيين على إنفاذ أحكام الإسلام وجاء في التوجيه :" إنا نهيب بكم بأن لا تتركوا وسيلة للنشر في بلدكم إلاّ وحاولتم إتباعها ولا تدخروا أى وسع في الدعوة في كل ناد ومسجد وكل قرية يجب أن تسمع – بمهوداتكم – داعي الله منبها كل غافل موقظا كل نائم ".

اقترن ذلك الناشط بحملة إعلامية قوية وبخاصة بعد صدور صحيفة " الإخوان المسلمون" في شهر يونيو عام 1956 والتي تولي رياسة تحريرها الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد فقد نشر الأستاذ أحمد صفي الدين مقالات رصينة بعنان" معالم الدستور الإسلامي " في الإعداد التي صدرت في يومي 11, 22 أكتوبر و6 نوفمبر من عام 1956 م , تناول فيها بإسهاب مفهوم الدستور الإسلامي والأسس التي يقوم عليها والقضايا التي يعالجها كنظام الحكم وشكل الدولة والحقوق الأساسية للأفراد وغيرها من المسائل الدستورية الهامة وأعيد نشر تلك المقالات في كتاب بقلم المؤلف صدر في 20 يناير عام 1967 م بالخرطوم في سلسلة " معالم الإسلام " بعنوان " الدستور الإسلامي – دراسة مقارنة وعرض موجز لما تضمنه من أحداث النظم الديمقراطية وما كفله من الضمانات والحقوق والحريات ".

ووضع الشيخ حسن مدثر قاضي السودان في الخامس عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1376 هـ ( 18 نوفمبر 1956 م) رسالة موجزة بعنوان " مذكرة لوضع دستور السودان من مبادئ الشريعة الإسلامية " باللغتين الإنجليزية والعربية جاء في مقدمتها :

" إلى الأمة السودانية الكريمة , وإلى رجال اللجنة السودانية القومية للدستور السوداني وإلى كان المعنيين بوضع هذا القطر الناشئ الحريصين على مثله وتراثه إلى كل أولئك جميعا .

أقدم بعضا من مبادئ الشريعة الإسلامية الرشيدة لتكون نبراسا وسننا لوضع قواعد السودان الحديث وتشريعاته ولا ريب في أن ما جاء به محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم واقتفي أثره فيه أصحابه وسلفنا الصالح خير ما يكفل للإنسانية جمعاء الحياة الكريمة والصلاح العلاج ".

ووضح فضيلته أن الغرض من إيجاد دستور لكل أمة هو إيجاد أسس عامة من واقع تلك الأمة تسن في نطاقها قوانين لحماية مجموع القواعد التي وجد أفراد تلك الأمة أنفسهم ملزميت بإتباعها طبقا لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية .

وأبدي الشيخ حسن مدثر أسفه إذ وجد بعض القوانين التي وضعها المستعمرون – أى البريطانيون – في السودان قد أتت مخالفة لشريعة الإسلام ومبادئه العامة في كثير من الأمور فهي تسئ إلى عقائد المجتمع وتقاليده وعاداته الموروثة بدلا من أن تحميها وأكد أن الضرورة والواجب تحتمان في بلد مثل السودان أ، تسن أسس دستوره العامة من قواعد الإسلام أن تسن القوانين التي تحكمه في إطار تلك القواعد .

وقال : إن القوانين التي سنها المستعمرون – وهم ليسوا بمسلمين – أباحت ضربا من المعاصي التي حرمها الإسلام وقد فرضوها بما لهم من سلطان وقتئذ وهي قوانين لا ترعي عقيدة الأمة وتقاليدها ولئن اكره الناس على الإذعان لها في الماضي فليس ثمة ما يسوغ قبولها بعد زوال الحكم الأجنبي ويتعين على أهل السودان – وسوادهم الأعظم يدين بالإسلام – أن يضعوا دستورا إسلاميا وأن يتخذوا القوانين التي تحمي عقيدتهم وتقاليدهم العربية الأصيلة .

ثم تناولت المذكرة ما يشبه المواد المقترحة للدستور الإسلامي فتحدثت عن مبدأ الإخوة والمساواة ومبدأ العدالة ومبدأ التعاون والتضامن الاجتماعي والحريات الأساسية ( حرية العقيدة وحرية القول ) والدعوة إلى المثل العليا وتكافؤ الفرص والعمل والاحتكار وحقوق الامتياز وتأميم المرافق العامة وحرمة المنازل والوضع الاقتصادي وحكم الربا في الشريعة الإسلامية .

وقد لقيت الدعوة إلى الدستور تجاوبا عميقا في البلاد وكانت بداية هامة لتوحيد الصفوف حول هذا الهدف الإسلامي الكبير , كما كانت – بلا شك – معلما واضحا في طريق المجاهدة لتحكيم الشريعة الإسلامية وتنبيها لقادة الأحزاب السياسية والطوائف الدينية أن الشريعة أضحت من الثوابت التي لا يسهل تجاهلها أو تنحيتها من قبل أية حكومة تتصدي لحكم السودان في المستقبل .

الفصل الخامس: التربية والثقافة والفكر

  • موجة التمرد على القيم .
  • الأسر والكتائب والرحلات
  • دور الثقافة والمكتبات .
  • نادي أم درمان الثقافي .
  • نهضة المرأة المسلمة


موجة التمرد على القيم

لا يتأتي فهم المنهج التربوي والأبعاد الثقافية والفكرية في دعوة الإخوان المسلمين – وهي التي انبثقت منها الحركة الإسلامية في السودان – بمعزل عن ظاهرة الضعف والجهل التي سادت العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين وتمخضت عن سقوط دار المسلمين ودولة الخلافة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولي في قبضة الدول الأوربية وهيمنتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية ومن ثم تضافرت ظلال القهر والجمود والجهل تجعل الإسلام " رسما محيلا في قلوب البعض وصورة شوهاء في أذهان البعض الآخر "

واستكان المسلمون لواقعهم الأليم فقنعوا بما وعوا من العلوم النقلية علوم الفقه والتفسير والحديث والسير والبلاغة والصرف والنحو ومارسوا شعائر الدين في مجال العبادات الأحوال الشخصية وتركوا ما سوي ذلك " لقيصر" فاعتزلوا شؤون الحكم والقضاء والتشريع ( عدا الأحوال الشخصية ) والاقتصاد والاجتماع والتربية والثقافة والتعليم وأضحت كل هذه المسائل الهامة خارجة عن دائرة اهتمامهم بل أصبح الحديث عنها تدخلا في السياسة وهذه متروكة " لقيصر ".

ومن هنا دأبت سلطات الاحتلال الأوربي على توجيه السياسة التعليمية والتربوية على نحو الفصام في حياة المجتمع المسلم بين ما هو ديني وما هو دنيوي فأصبحت المعاهد الدينية دائرة لتلقي علوم الدين ما يتّصل بها من علوم العربية مدبرة عن العلوم الحديثة التي تمثل قاعدة التقدم والانطلاق للمجتمع المعاصر.

أما مناهل التعليم العصري فهي المدارس والمعاهد والكليات التي أنشأتها حكومات الاحتلال في الوطن الإسلامي ووضعت لها مناهجها وغاياتها فكان حصادها في مصر – مثلا – إثارة موجه من التمرد في بعض النفوس وفي الآراء والأفكار باسم التحرر العقلي ثم في المسالك والأخلاق والأعمال باسم التحرر الشخصي وكانت ثمة دعوة صريحة إلى الإلحاد والخروج على قواعد السلوك والتقاليد والقيم المرعية .

أما اثر الثقافة الأوربية في الجيل الجديد الذي نشأ في ظل الإدارة البريطانية في السودان فيحدثنا عنه أحد الإداريين البريطانيين – هو بنس بمبروك مدير مديرية دار فور عام 1926 م – بقوله :" لقد انقضت الأخلاق القويمة والسلوك الحميد الذي تحلي به الجيل الأسبق وفتن أبناء الجيل الحديث بمظاهر الحضارة الأوربية التي لا تتجافي مع العادات والأعراف السودانية فحسب بل كان أكثرها يتنافي مع المفاهيم الإسلامية ... ثم يتحدث بمبروك عن موجة انحلال الأخلاق لدي بعض موظفي الحكومة قائلا :" إن الفردية ونظام التعليم الغربي كانا من أسباب انحلال الأخلاق لدي معظم " الأفندية " أى لدي أكثر موظفي الحكومة من شاغلي الوظائف الصغرى الذي شرعوا في محاكاة رؤسائهم البريطانيين من ناحية السلوك والفلسفة الفردية وظل أثر هذه الموجة قائما إلى ما قبل ظهور الحركة الإسلامية ولعله كان من العوامل الهامة التي مهدت لبث الفكر الماركسي بين طلاب المدارس وكلية الخرطوم الجامعية فقد كان ( الشيوعيون ) يجاهرون بسخريتهم من الدين ومن الطلاب الذين يقيمون الصلاة ومن الكتب الدينية التي أطلقوا عليها ف يتهكم سافر اسم " الكتب الصفراء " ومن ثم جاءت التربية الإسلامية التي حمل لواءها الإخوان المسلمون ترياقا مضادا لظاهرة الضعف والاستلاب الفكري الذي أصاب المجتمع المسلم في طائفة من قادة مستقبله

منهج التربية الإسلامية :

إنها تربية فريدة تستمد مقوماتها من المنهج الإسلامي المرتبط بالعقيدة والكتاب والسنة وبفلسفة الإسلام ونظرته الشاملة للإنسان والكون والحياة وبإعادة بناء المجتمع على أساس تعاليم الإسلام والتفاعل مع مستجدات العصر . ذلك هو منهج الحركة الإسلامية في التربية . إنها تعد الفرد إعدادا روحيا وعقليا وبدنيا وثقافيا يهدف إلى بناء شخصيته وفقا لبرنامج دراسي وتربوي محدد يتناول الجوانب العقيدية والعبادية والسلوكية والثقافية والرياضية , فيما يعرف بنظام الأسر والكتائب والرحلات , ثم بإقامة المنتديات الثقافية على أوسع نطاق في البلاد .

الأسر والكتائب والرحلات :

الأسر :

هذا مصطلح يقصد به تنظيم ( الإخوان) في مجموعات صغيرة بحيث لا يجاوز عدد المجموعة نحو خمسة أفراد لكي يسهل اجتماعهم في أى وقت وفي أى مكان يتفق عليه لممارسة نشاطهم الديني والثقافي في مناخ تسوده روح التعارف والتكافل والتعاون على البر والتقوي , وأول ما تعني به الأسرة في برنامجها التفقه في الدين والالتزام بأداء الفرائض والسنن والنوافل واستشعار معاني الإحسان والإتقان والتجويد في القيام بالواجبات واجتناب المكروهات ومواطن الشبهات ومحاسبة النفس و تطبيق آداب الإسلام بالحق والتواصي بالصبر . ولعل في اختيار الإخوان لكلمة " أسرة" ملحظا للمعني الاجتماعي الذي يقيم العلاقة بين أفراد الأسرة على التراحم والتواد وهي تختلف على لفظ " الخلية" الذي اختاره الشيوعيون لتجمعاتهم الصغيرة والتي لا تحمل المعاني السامية المتمثلة في كلمة ( أسرة ) وفي مجال الثقافة والمعرفة تغرس الأسرة في نفوس أعضائها حب الاطلاع والإلمام بالمعارف الإنسانية عامة والثقافة الإسلامية بوجه خاص ويشمل برنامج الأسرة الدراسي :

1- حفظ قدر من القرآن الكريم , ومعرفة بأصول التفسير وقراءة في كتاب معتمد من كتب التفسير واصطحاب مرجع يستعان بع عند الحاجة .

2- حفظ قدر من الأحاديث النبوية ومعرفة بأصول الحديث وقراءة في كتاب معتمد في كتب شرح الحديث .

3- دراسة متعمقة للسيرة النبوية وسير الصحابة رضوان الله عليهم والاقتداء بها .

4- دراسة في الفقه الإسلامي والإلمام بأصوله .

5- دراسة التاريخ الإسلامي وواقع العالم الإسلامي المعاصر ومعرفة الصعاب التي تواجه البعث الإسلامي على الصعيد الفردي والاجتماعي والإقليمي والعالمي .

وتحرص الأسرة في برنامجها التربوي على الجانب التطبيقي بمعني أن كل ما يتلقاه العضو من دراسات نظرية أو معلومات ذات صلة بالعبادات والسلوك والمعاملات يجب أن يطبقه عمليا في حياته الخاصة والعامة ومن أهم ما يحققه برنامج الأسرة لأفرادها : ضبط السلوك والقدرة على التفاعل مع المجتمع وحب الاطلاع والبحث والدربة على الحديث والإبانة واستشعار المسؤولية وآداب الحوار واحترام الرأى المخالف وتوخي الدقة في النقاش .

وتجتمع الأسرة – عادة – مرة في الأسبوع بمنزل أحد الأعضاء أو في مكان يتفق عليه .

الكتائب :

يقصد بهذا الاصطلاح البرنامج الذي يهدف إلى تربية ( الإخوان ) تربية روحية عالية حيث يلتقون في مكان يتفق عليه صلاة العشاء – عادة – مرة كل شهر , للتهجد وتلاوة القرآن والتدبر والتفكر ويبدأ البرنامج بأداء صلاة العشاء جماعة , تتلوها مسامرة ومذاكرة ثم نوم على الأرض , والاستيقاظ قبل صلاة الفجر بساعتين فيبدأ لتهجد فرادي تعقبه تلاوة ما تيسر من القرآن الكريم ثم الاستماع إلى درس عن التكوين النفسي والروحي والعلمي للداعية الإسلامي ثم فترة للاستغفار قبل طلوع الفجر وبعد أداء صلاة الفجر جماعة يتلي الورد القرآني وربما اقترن بتفسير بعض الآيات ثم تتلي " الوظيفة" وهي أدعية من القرآن الكريم والسنة النبوية كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسي ..

وبعد تناول إفطار بسيط ينفض المجتمعون كل إلى منزله ثم مزاول أعمالهم العادية وللكتيبة آداب تحث على حضور القلب وخشوع الجوارح وحسن الاستماع لتلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته ومعانيه ومراقبة الله سبحانه وتعالي في كل لحظة ابتغاء مرضاته واستشعار معاني الحديث النبوي في فضل مجالس الذكر التي تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة :

" ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله , يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده "

رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجه واحمد عن أبي هريرة رضي الله عنهم .

الرحلات الرياضية :

وتجئ الرحلات الرياضية مكملة للبرنامج التربوي باعتبارها أحد الوسائل الناجحة لسلامة الأبدان وتقويتها وإعدادها لتحمل المشاق من خلال ممارسة رياضة تشمل السير على الأقدام مسافات طويلة والعدو البطئ وتسلق المرتفعات والقصد في تناول الطعام والشراب وترويض النفس على المكاره واستعلائها على نوازع الدعة والخمول . وهي إلى جانب ذلك ضرب من الترفيه عن النفس بإذهاب الرتابة في حياة الإنسان وتدريبه على الانضباط والنظام وفطام النفس عما ألفته من استمراء السلوك الفردي الذي يعزل الفرد ويحجبه عن إدراك قيمة العمل الجماعي وتوثيق التعارف بين أفراد الجماعة . وصفوة القول في فلسفة الرحلات الرياضية أنها تبث في القائمين بها قم " الانتماء " وتبعاته المادية والأدبية وما يرتبط بها من معاني الصبر والصدق والوفاء والإيثار .

وتبدأ الرحلة عادة في الصباح بعد شروق الشمس وتنتهي بغروبها ومن ثم يجد المشاركون فيها مجالا لأداء صلاة الضحي وصلاة الظهر والعصر والمغرب جماعة والاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم والمسامرة والحوار والحديث في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية .

دور الثقافة والمكتبات :

يمكن القول أن الحركة الثقافية الناشطة التي شهدتها دوائر الخريجين في مطلع العقد الرابع من هذا القرن ( جمعيات القراءة وإصدار مجلتي " الفجر والنهضة") لم تواصل مسيرتها إلاّ على أيدي شبان الحركة الإسلامية في مطلع العقد السادس من هذا القرن ذلك أن الدعوة الإسلامية بطبيعتها دعوة إيمان وعلم فليس بدعا أن يقترن نشاط الحركة الإسلامية منذ نشأتها بتأسيس دور الثقافة وإنشاء المكتبات التي تزود القارئ بذخيرة موفورة من المعارف الإنسانية عامة والثقافة الإسلامية بصورة خاصة فأنشئت " مكتبة الفكر الإسلامي " بودمدني ومكتبة أخري بعطبرة . وكانت مكتبة النهضة السودانية في الخرطوم لصاحبها عباس أبي الريش تفي بحاجة القراء في العاصمة ومكتبة سودان بوكشوب لقراء الإنجليزية .

وشملت الأندية الثقافية التي أسست في تلك الفترة نادي حي البوستى ( البريد ) ونادي بانت بيت المال بأم درمان والنادي الثقافي الإسلامي في الخرطوم بحري والنادي الثقافي الإسلامي في الحلة الجديد بالخرطوم ودار الثقافة الإسلامية في الأبيض ونادي أم درمان الثقافي .

و كان شبان الحركة الإسلامية في كلية الخرطوم الجامعية في جامعات مصر يقومون بإلقاء المحاضرات في تلك الأندية وينشرون مقالات في بعض الصحف اليومية المستقلة التي تصدر في الخرطوم ومجلة ( السودان الحديث 9 في القاهرة لصاحبها الأستاذ جمال الدين السنهوري ويشرف على تحريرها الطالب صادق عبد الله عبد الماجد.

ونذكر من مقالات أولئك الشبان على سبيل المثال :

مقالات الطالب مدثر عبد الرحيم الطيب , من طلاب كلية الخرطوم الجامعية في صحيفة " الجهاد" تحت عنوان : " ف منزل الوحي "

ومقالات الآنسة الزهراء – وهو اسم مستعار – كتبها مدثر عبد الرحيم في صحيفة الأيام بعنوان " اعتبارات أساسية " وحو تعليم المرأة ".

ويتمثل أدب الحركة الإسلامية بين الطلاب السودانيين في الجامعات المصرية في المنشورة في مجلة " السودان الحديث " " القاهرية " فيكتب صادق عبد الله عبد الماجد مقالا بعنوان إنما هو الإسلام والإسلام وحدة " ويكتب طالب آخر عن " واجب الحكومة الوطنية في السودان "" ومقومات الوحدة الحضارية " " وفي موكب الإسلام" .

ويتناول الطالب وداعة محمد الحسن عكود موضوع " انبعاث الوعي الإسلامي في السودان " والطالب أبو القاسم زين العابدين يتحدث عن " دستورنا " .

وسبق هذا النشاط الثقافي الجم إعداد الطلاب في المرحلتين الثانوية والجامعية – ذهنيا ونفسيا – لاكتساب المعرفة وحسن الاطلاع والحث عليه وبخاصة عندما يخلدون إلى الراحة في العطلة الصيفية فكانوا يتواصون بالحرص على اقتناء الكتب وتبادل المعلومات والإرشاد إلى الجديد المفيد منها لكي يتيسر للعضو إتمام ثقافته الدينية والسياسية .

فالطالب محمد يوسف محمد – أحد قادة الحركة الإسلامية في الكلية الجامعية – يكتب رسالة إلى أحد الطلاب أثناء العطلة الصيفية عام 1950 م , من ميدنة عطبرة حاثا على مواصلة العمل في العطلة ومنبها إلى أهميته وفيما يلي بعض فقرات الرسالة :

عطبرة – 20/4/ 1950م.

عزيزي ب. خ. ك.

بعد التحية .. أكتب إليكم في وقت مبكر أى قبل ( الإجازة ) ...

العمل سوف يستمر في الإجازة – وهو أمر هام – أرجو أن ألفت نظركم إلى ما يأتي :

كان العمل متواصلا في تجهيز الموضوعات الهامة لتكون سلسلة محاضرات , تعين العضو لإتمام ثقافته السياسية والدينية وأذكر على سبيل المثال منها :

الإشتراكية في الإسلام – المذاهب الاقتصادية – الشيوعية والإشتراكية – الاستعمار في وادي النيل .

وبالطبع تحتاج هذه الموضوعات إلى عمل كثير ولذلك لم نتمكن من إخراجها قبل الإجازة ... نظموا الدراسات الخصوصية وأحيوا الليالي الأدبية وغيرها وكونوا حلقات للمناقشة تتعرضون فيها لشتي الموضوعات الدينية والسياسية وإثارة المشاكل الاجتماعية وبحثها على ضوء التعاليم الإسلامية وأن يحاول كل عضو قراءة كثير من القرآن والأحاديث لتمتلئ روحه قوة وإيمانا من مصدر الدين وأن يحاول فهم ما يستعصي عليه بالبحث والاطلاع .

وفي ذيل الرسالة ذكر الكاتب أنه اتصل بمكتبة عطبرة راجيا استيراد بعض الكتب من مصر وهي :

1- الإسلام دين عام خالد , لمحمد فريد وجدي .

2- الإسلام على مفترق الطرق , لمحمد أسد .

3- السياسة الشرعية .

4- الشرع الدولي في الإسلام.

5- الإسلام والنظام العالمي .

انتهت رسالة محمد يوسف محمد .

وبعث ميرغني النصري الطالب بكلية الخرطوم الجامعية ( قانون ) – من رفاعة – إلى معاوية عبد العزيز رحمه الله في ودمدني ( وهو طالب في حنتوب الثانوية ) رسالة بتاريخ 8/ 1/ 1950 :" وادحضوا بالمنطق والبرهان كل حجة باطلة وكل فكرة خاطئة علقها المضللون بهذا الدين الحنيف وبهذه العقيدة المباركة ".

وفي رسالة من الطالب مدثر عبد الرحيم من الدامر ( بتاريخ 24 / 4/ 1950م) إلى معاوية قال الكاتب :" عندي الآن كتاب " روسيا الحمراء " لمحمد صبيح وفيه تحقيقات لطيفة ومعلومات مفيدة وقد أصر بعض القوم على شرائه منّي وآثرت أن أبلغكم الخبر قبلهم لأن جماعتنا عندها نسخة من هذا الكتاب وسنكتفي به وقبل أن نقوم من الوادي ( أى وادي سيدنا ) وصلتنا أربعة أعداد من مجلة الإخوان أرسلها إليك الأخ عبد الرحمن " وكتب الطالب بابكر كرار , إلى معاوية عبد العزيز رحمهما الله رسالة موجزة جاء فيها :

" الرجاء إرسال مبلغ 64 ( أربعة وستين قرشا ) لأرسل لكم نسختين من كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب , فالنسخ الآن محدودة وهي في طريق النفاذ بسرعة رجاء إرسال المبلغ بأسرع فرصة ".

وشكرا

بابكر كرار

أما برنامج المحاضرات في الأندية الثقافية , سالفة الذكر فكان يشمل شرح الدعوة الإسلامية وسمو مبادئها وصلاحيتها لتوجيه المجتمع في كل زمان ومكان على التوفيق بين مصلحة الفرد والجماعة والخروج بها من العزلة التي ضربت عليها في عصور الجهل عندما حصرت في دائرة العبادات والأحوال الشخصية ثم بيان التحديات التي تواجهها في العصر الحديث ومن هنا وجهّ المحاضرون عنايتهم إلى ربط الأمة بماضيها الإسلامي المشرق والتطلع إلى مستقبلها المأمول . فهناك محاضرة بنادي بانت عن " العمل والعمل في الإسلام " (الرشيد الطاهر ودفع الله الحاج يوسف ) وأخري بنادي بيت المال ( 28/ 4 / 1954م) عن " الإسلام الذي نريده" وثالثة بنادي حي العرب عن " ماركس أبو الإشتراكية " في 10/ 6/ 1955 م لمدثر عبد الرحيم وأخري بنادي أم درمان الثقافي عن " مقومات المجتمع المسلم " لعز الدين إبراهيم مصطفي ( الدكتور عز الدين إبراهيم) وهو من أبناء مصر .

نادي أم درمان الثقافي :

لائن وصف نادي المدارس العليا الذي أسس في القاهرة عام 1905 بأنه أول مظهر لروح اليقظة القومية في مصر وملتقي أعلام الفكر .

ولئن كان نادي الخريجين بأم درمان ( 1918م) معقل الحركة الوطنية في السودان فإن نادي أم درمان الثقافي ( 1952 م) كان مهد الحركة الإسلامية ومنارة الثقافة الإسلامية .

أسس هذا النادي في نهاية العقد الخامس ( 1948م) في مدينة أم درمان على أيدي طائفة من الشيوعيين فتعثر أداؤه وظل مغلقا لفترة ليست بالقصيرة ولم يمارس نشاطا يليق بالاسم الذي يحمله فرأت مجموعة من شبان الحركة – وكان بعضهم أعضاء فيه – أن يدعموا قوتهم العددية باستقطاب مزيد من الأعضاء واتخاذ خطوات جادة لإحياء نشاطه وانتخاب لجنة جديدة تعني بتحقيق رسالته الاجتماعية والثقافية فانضم عدد كبير من الإسلاميين إلى عضوية النادي ورفعوا على وثيقة سلمت إلى رئيسه الأستاذ مضوي خالد مضوي في الثاني من شهر يونيو عام 1952 م.

أشارت المذكرة إلى أن النادي :" أنشئ لأداء رسالة تخلت عنها كل الأندية لانتهاجها سبلا أبعد ما تكون عن رسالة الثقافة التي نري أن البلاد في حاجة ملحة لانبثاق نورها "

وذكر أصحاب المذكرة – ويربو عددهم على ثلاثين عضوا – أنهم لم يروا بعد افتتاح النادي أى نشاط ينم عن جد وتفان فى العمل ولذا يرجون أن يعقد اجتماع الجمعية العمومية في مساء الجمعة السادس من يونيو عام 1952 م للنظر في الأمر .

تمخض اجتماع الجمعية عن انتخاب لجنة جديدة من ثلاثة عشر عضوا برئاسة السيد مضوي خالد مضوي الذي قدم أعضاء اللجنة في رسالة باللغة الانجليزية إلى المسئول البريطاني وهو مفتش مركز أم درمان للموافقة عليها ومن ثم شرع النادي في تنفيذ برامجه وأهدافه المعلنة وهي :

1- إحياء روح العلم والتحقيق في البلاد مع تنشيط الحركة الثقافية في كل باب , إلا ما خدم أغراضا حزبية مما يهدد كيان النادي بالانهيار .

2- سد الفراغ الناشئ في نفوس الشباب خاصة والمواطنين عامة عن ابتعادهم عن الدين والأخلاق بما يبعث فيهم روح الإيمان والمسؤولية .

3- إنشاء مدرسة لمحو الأمية ( ليلية) للعناية بتثقيف المسلمين الجدد من الموجودين بدار التبشير الإسلامي علة وجه الخصوص .

ومن الوسائل التي حددتها إدارة لبلوغ الغاية المنشودة:

(أ‌) تقديم محاضرات علمية وثقافية كل نصف شهر .

(ب‌) إحياء حلقات للنقاش – أسبوعيا .

(ت‌) إنشاء مكتبة في النادي تعين الباحثين وتقدم غذاء دسما مفيدا للقارئين .

(ث‌) تقديم روايات مسرحية تخدم أهداف النادي عامة – خاصة فيما يتعلق بتاريخ الإسلام والسودان .

(ج‌) الاشتراك في عدد من المجلات العلمية والثقافية .

(ح‌) إصدار مجلة أو مجلتين متعاقبتين داخل النادي

(خ‌) موالاة التدريس في دورة محو الأمية للمسلمين الجدد ( أى حديثي العهد بالإسلام ) ولغيرهم من الراغبين في توسيع دراساتهم على النحو الذي يعين كلا منهم على النهضة بنفسه .

(د‌) الاستعانة بأية طريقة جديدة تبين جدواها في تحقيق تلك الأهداف كطبع بعض المحاضرات في شكل كتيبات أو نشرها في الجرائد إن كانت رائعة قوية الفائدة بشكل يحسن معه اشتراك بقية المواطنين فيها .

وقد لخص الأستاذ عثمان جاد الله النذير رسالة النادي قائلا :" فهذا النادي ليس إلا مؤسسة اجتماعية يرجو القائمون عليها أن تكون منارة تنبعث منها أضواء الثقافة الإسلامية .. ولذلك كانت رسالة النادي – في خطوطها العريضة- تثقيف العقول وتزكية النفوس وتربية الأبدان ". ثم قال : إن المظهر العملي لتلك الرسالة يتمثل فيما يلي :

1- يوم للمحاضرات العامة أسبوعيا .

2- حديث الجمعة الذي عقب صلاة العشاء ويتناول موضوعات دينية .

3- جمعية للأشبال لتربية الناشئين تربية إسلامية .

4- جمعية رياضية تمارس أنواع الرياضة المختلفة .

وشارك في ذلك النشاط أعضاء النادي أنفسهم كالأستاذ أحمد عوض الكريم وعبد القادر عثمان وأبو القاسم زين العابدين ومحمد محمد الخير القاضي رحمه الله غيرهم وعدد من كبار أستاذة الجامعات في السودان ومن خارج السودان , كالدكتور عبد الله الطيب أستاذ الأدب العربي بجامعة الخرطوم ومن علماء مصر الشيخ علي حسب الله أثناء توليه التدريس في كلية القانون بجامعة الخرطوم والشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف المصري وقتئذ والداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي الأستاذ عز الدين إبراهيم الشيخ الحافظ التجاني راعي الطريقة التيجانية في مصر ومن القارة الأوربية الأستاذ عمر مفتي زاده وهو من مسلمي ألمانيا وكانت محاضراته عن الإسلام في أوربا .

كذلك استأثرت المناسبات الدينية باهتمام النادي فكان القائمون بأمره يحتفون بأعياد الهجرة والمولد النبوي الشريف وذكري الإسراء والمعراج وغزوة بدر الكبرى فيقدمون محاضرات مفيدة وأحاديث شائقة وندوات علمية جذبت جموعا غفيرة من المستمعين بما استحدثته من أسلوب مبتكر في عرض وقائع التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية الشريفة .

وعني النادي عناية كبري بالنشاط الرياضي والمسرحي ورعاية الناشئة وتربيتهم على أيدي أساتذة متخصصين فيما عرف بـ " برنامج الأشبال "

والتزاما بتنفيذ برنامج محو الأمية , بعث سكرتير النادي الأستاذ عثمان جاد الله النذير رسالة إلى جماعة التبشير الإسلامي ومقرها مدينة أم درمان جاء فيها :

" إن لجنة نادي أم درمان الثقافي التي تأمل أن تؤد رسالتها قد تصدق لها بفتح مدرسة ليلية وهي ترجو أن تتعاون مع جمعيتكم الموقرة باعتبارها أكبر هيئة تعمل لنشر الإسلام... ومحو الأمية بين صفوف إخواننا المسلمين من أبناء الجنوب لذلك نرجو أن تخصوا مدرستها بعدد من الطلبة الذين أسلموا على يدها.. إلخ .. وقد اضطلعت مدرسة محو الأمية في النادي بمسؤوليتها على أفضل وجه وبتضافر تلك الجهود التي بذلها القائمون بأمر النادي في شتي المجالات أضحي نادي أم درمان الثقافي معلما من معالم الثقافة والفكر في السودان ومدرسة فريدة في تاريخ البلاد الثقافي ومركزا لنشاط الحركة الإسلامية وظل نشاطه قائما لأكثر من عقد من الزمان ..

نهضة المرأة المسلمة :

بدأ العمل في محيط المجتمع النسائي منذ تأسيس الحركة الإسلامية في كلية الخرطوم الجامعية عام 19491950 ولم يكن عدد الطالبات الجامعيات يجاوز وقتئذ الخمس طالبات انضمت واحدة منهن إلى حركة التحرير الإسلامي وهي الطالبة فاطمة طالب إسماعيل , رحمها الله ثم اتخذت الطالبة سعاد الفاتح البدوي – بعد التحاقها بكلية الآداب عام 19521953 م مكانها في مقدمة رائدات الحركة واستطاعت الحركة الإسلامية خارج الجامعة أن تستقطب مجموعة نشطة من الأخوات , أصبحن – إلى جانب أخواتهن في الجامعة – بمثابة القاعدة الأساسية لحركة الأخوات المسلمات والرعيل الأول للحركة النسائية الإسلامية في السودان التي عرفت فيما بعد بجمعية نهضة المرأة وهن :

1- فاطمة طالب إسماعيل

2- سعاد الفاتح محمد البدوي

3- ثريا امبابي 4- بثينة القوصي

4- كلتوم عمر 6- زكية مكي عثمان أزرق

6- عواطف الشيخ .

كان العمل يجري تحت إشراف المكتب التنفيذي ( قسم سؤون المرأة ) الذي انتخب في مؤتمر العيد أغسطس 1954 م ومن أعضاء هذا القسم الذين قام على أكتافهم صرح العمل الأساتذة أحمد عوض الكريموعيسي مكي عثمان أزرق – ومن الطلاب الجامعيين : مدثر عبد الرحيم ودفع الله الحاج يوسف .

اتخذ العمل ثلاثة محاور :

1- العمل المكثف بين أسر الإخوان وبين طالبات المدارس من خلال اجتماعات منتظمة تقدم فيها دروس إسلامية وإرشادات عامة .

2- المحاضرات العامة في دور العلم .

3- النشاط الإعلامي الكتابة في الصحف السودانية ثم إصدار صحف ومجلات خاصة بالمرأة .

اتجه العمل أولا إلى اسر الإخوان وإعداد برامج دراسية على غرار " نظام الأسر " الذي يقدم دروسا في الفقه والقرآن الكريم والثقافة العامة , والتنبيه إلى خطورة النشاط الشيوعي الذي شق طريقه في الوسط النسائي قبل ظهور الحركة الإسلامية وأصبح له نفوذ كبير على الاتحاد النسائي السوداني .

وكان لإسهام الأساتذة المصريين المقيمين في السودان أثر كبير في الإرشاد والتوجيه ومن هؤلاء الأستاذ جمال عمار رحمه الله الذي ألق محاضرة هامة في مدرسة أم درمان الثانوية للبنات والداعية الإسلامي سعيد رمضان رحمه الله الذي تحدث في حشد نسائي كبير في مدرسة الأحفاد الثانوية أثناء زيارته السودان في عام 1952م كذلك أفادت الحركة النسائية من المطبوعات التي كان صدرها المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة كرسالة الأسرة والمجتمع .

وسار العمل بخطي حثيثة ومشجعة بين طالبات المدارس وصدرت مجلة " النور " وهي مجلة صغيرة الحجم حافلة بالأفكار والمعلومات المفيدة وقد حظيت برواج عظيم بين الطالبات في بالعاصمة والأقاليم وكانت تنسخ بخط اليد .

ونشر في احد أعدادها نشيد الأخوات المسلمات ونقتطف بعض أبياته :

أى نور لاح في خدر النساء
مشرقا بالحق موفور الضياء
صافي الأغراض محمود النداء
داعيا لله في عرش السماء


أيها التاريخ قم سجل حقيقة
موكب الأخوات قد شق طريقه
سائرا في الدرب لا يعنو دقيقة
يسمد العوب من رب الخليقة
يا فتاة الجيل هيا للنداء

وقد شهدت الصحف السودانية اليومية المستقلة نشاطا بارزا للطالبة سعاد الفاتح إذ كانت تتناول بقلمها بعض القضايا الاجتماعية العامة تحت عنوان ( المرأة والمجتمع ) في صحف ( الأيام) و( الرأى العام ) و( السودان الجديد ) .

وتوج النشاط الإعلامي والفكري للحركة النسائية الإسلامية بإصدار مجلة المنار ) الشهرية في عام 1955/ 1956 م وكانت منبرا للرأي العام المستنير وظلت تصدر خلال النصف الثاني من الخمسينات ثم توقفت إثر الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958م . وعادت مرة أخري بعد ثورة أكتوبر 1964 م وصدر منها خمسة أعداد خلال الفترة من نوفمبر 1964م إلى مارس 1965 م. وتولت رئاسة تحريرها الأستاذة ثريا امبابي والأستاذة سعاد الفاتح .

الفصل السادس: الحركة الإسلامية والفكر المعاصر

  • رؤية غربية .
  • نقد المذاهب الغربية
  • نحو الأصالة وإسلامية المعرفة .


رؤية غربية :

عنيت بعض الدوائر العلمية في الغرب بدراسة الآثار الناجمة عن اتصال المسلمين بالغرب في العصر الحديث وبخاصة في مجال التطور الاقتصادي المناهج التعليمية والنظم الدستورية والفكر السياسي والاجتماعي والإصلاح الديني وقضية المرأة ... إلخ فذهبت طائفة من الباحثين إلى القول بأن العرب والمسلمين مدينون للغرب بنهضتهم الحديثة في تلك المجالات بمعني أن المسلمين – قبل اتصالهم بالغرب – كانوا في ركود وعزلة عن العالم ولم يستيقظوا إلا علي وقع أقدام الغزاة من الجيوش الأوربية التي احتلت ديارهم منذ نهاية القرن الثامن عشر .

وفي معرض الإشادة بآثار الغزو الأجنبي يقول أولئك الباحثون : إن الأوربيين لم يكونوا حملة سلاح فحسب وإنما كانوا مشاعل فكر وبناة حضارة وأصحاب رسالة وعندما غزوا دار الإسلام كانت بأيديهم مفاتيح الحضارة العصرية والفكر والمطبعة وفي صدورهم أسرار العلم الحديث ! لولاهم لما عرف المسلمون مقومات الحياة الحديثة من صناعة وعلوم وآداب وفنون وفكر سياسي واقتصادي واجتماعي وحكم نيابي ولا عرفوا مفهوم الحرية السياسية فإذا حرر المسلمون عقولهم من قيود الماضي وأخذوا عن الحضارة الغربية علمها وفكرها وقيمها ونظرتها إلى الحياة فقد كسروا طرق العزلة ووضعوا أقدامهم على أعتبا العصر الحديث !! هكذا كان يفكر الغربيون ولعلهم ما زالوا يفعلون !! وتلك دعوي خطيرة فيها بعض الحقائق وكثير من الأباطيل بل فيها إخفاء لكثير من الحقائق التي تمثل الوجه الآخر للغرب : المادية الطاغية وازدواج المعايير في السياسة والأخلاق والقيم وتجريد المجتمع المسلم من كل مقوماته الرفيعة ومثله السامية ورسالته الخالدة .

لا ريب أن الحضارة الغربية – كغيرها من الحضارات – لها مآثرها وفيها ما هو جدير بالإعجاب ولكن ذلك لا يسوغ قبول معطياتها بغير تمحيص . من أجل ذلك نهض العلماء والمصلحون في العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن يدعون إلى إيقاظ أمتهم وإقامة نهضتها على هدي الإسلام وتعاليمه, آخذين من حضارة الغرب ما يتفق مع العقيدة الإسلامية وقيمها ومثلها , واقتضي ذلك تناول الحضارة الغربية بنظرة ناقدة فاحصة تنفذ إلى مواطن القوة والضعف فيها والتعرف على مجالات الاقتباس منها وبيان مفرق الطريق بينها وبين الرؤية الإسلامية للفكر الإنساني ولمقومات المجتمع البشري التي تستند – في المقام الأول – إلى أن الإسلام عقيدة وشريعة ونظام شامل للحياة لا تنفصل فيه الشعائر عن الشرائع وأنه يستوعب خير ما أبدعه الفكر الإنساني وما تمخضت عنه تجارب الأمم ولكن في إطار ثوابته العقيدية وتصوره للإنسان والكون والحياة , وهو تصور منبثق عن عقيدة التوحيد كما بينها القرآن الكريم والسنة والنبوية المطهرة .

الرؤية الإسلامية:

لقد تتابعت جهود مفكري الإسلام منذ عصر الأفغاني ( 1839 – 1897م) محمد عبده ورشيد رضا إلى عصر إقبال مالك بن نبي وابن باديس حسن البنا والمودودي والندوي والسباعي سيد قطب لتأكيد المنهج القرآني في بناء الأمة الإسلامية ونبذ التيارات اللادينية والإلحادية واللاأدرية التي صحبت الغزو الفكري الغربي . ودار حوار طويل لأكثر من نصف قرن حول قضايا التجديد والتقليد والأصالة , " التغريب " ذلك الحوار الذي بدأ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بين الأفغاني ورينان وبين محمد عبده وهانوتو وما زال قائما حتى اليوم وانبثق عنه ما يعرف بالفكر الإسلامي المعاصر وكانت دعوة الإخوان المسلمين من أقوي التيارات التي شاركت في بناء ذلك الفكر والخروج به من نطاق الجدل النظري إلى آفاق جديدة يعالج فيها الفكر قضايا المجتمع المعاصر . لقد دافع الأفغاني ومحمد عبده وتلاميذها عن الإسلام في وجه حملة ظالمة قصدت إلى تشويه صورة ا في أذهان الأوربيين وبسطا رأييهما في الإصلاح والتجديد وجاءت دعوة الإخوان المسلمين في أحلك لحظات التاريخ التي بسط فيها الاستعمار الغربي سلطانه على أمة الإسلام لتذكر المسلمين أن الإسلام عقيدة ونظام شامل يهيمن على كل مظاهر الحياة .

فكر الحركة الإسلامية:

استنادا إلى هذا الفهم عرف الإخوان المسلمون أنفسهم بأنهم حملة دعوة سلفية لأنهم يحملون أنفسهم على العودة الإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله الله صلي الله عليه وسلم وبخاصة في العقائد والعبادات وهم إلى جانب ذلك حقيقة صوفية لأنهم يعلمون أن أساس لخير طهارة النفس ونقاء القلب والمواظبة على العمل والإعراض عن الخلق والحب في الله , هم هيئة سياسية لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج وهم رابطة علمية ثقافية لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على مسلم ومسلمة وهم شركة اقتصادية لأن الإسلام يعني بتدبير المال وكسبه من وجهه الصالح وهم فكرة اجتماعية لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولن الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها وهم جماعة رياضية لأنهم يعنون بالتربية البدنية ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف .

ومن هنا كانت دعوة الإخوان المسلمين تجديدية في جوهرها شاملة في مقاصدها واقعية في تطبيقاتها علمية في منهجها وهي تسعي إلى تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح ليعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية في كل مظاهر حياتها .

لقد تجاوزت دعوة الإخوان المسلمين بمنهجيتها عصر النقل والتقليد والانطواء على الذات باستقاء علوم الدين من مصادرها الأساسية واستيعاب علوم العصر بجميع فروعها وتخصصاتها .

ومن هنا تناولت رسائل حسن البنا الجوانب المتعلقة بالعقائد والعبادات والدعاء والأذكار والتعليم والتربية والاجتماع والاقتصاد السياسة والحكم والوحدة الإسلامية والقومية والعروبة والعلاقات الدولية والمرأة والمجتمع ووضع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ونقد المدنية الغربية وتطرق حسن البنا إلى مناقشة بعض القضايا الفلسفية التي كانت موضع اهتمام عالم الاجتماع الفرنسي لمعروف أوجيست كونت في سياق تحليله لتطور لعقل البشري ومراحله الثلاث المشهورة :

فتحت عنوان " بين العقلية الغيبية والعقلية العلمية " كتب حسن البنا :

" ولقد تذبذب العقل البشري منذ وجد الإنسان على ظهر الأرض إلى يومه هذا واغلب الظن كذلك حتى تتداركه هداية الله , بين أطوار ثلاثة أو إن شئت بين ألوان ثلاثة من ألوان التفكير والتصوير " ذكر منها الطور الأول طور الخرافة التسليم المطلق للغيب المجهول والقوي الخفية البعيدة عنه فهو ينسب إليها كل شئ ويفسر بها كل شئ كما ذكر ( أى حسن البنا ) الطور الأخير طور المادية والتنكر لهذا الغيب المجهول ومحاولة تفسير مظاهر الكون جميعا محاولة مادية وفق قوانين تجريبية اهتدي إليها الإنسان بتجاربه وبحثه وفكره وهذا هو الطور الأخير – من فلسفة كونت – الذي وصفه صاحبه بالمرحلة العلمية اليقينية التي تستند إلى معطيات العلم الحديث ثم يواصل البنا حديثه في نقد الفلسفة المادية دون إشارة إلى كونت أو غيره قائلا :

" وفي هذا الدور أنكر الإنسان المادي الإلوهية وما يتصل بالنبوات وما يمت إليها والآخرة والجزاء والعالم الروحي بكل ما فيه ولم ير شيئا إلا هذا العالم الأدني المحدود يفسر ظواهر ه فحسب قوانينه المادية الصرفة ".

ثم يوضح حسن البنا رأي الإسلام قائلا:" كلا هذين اللونين من ألوان التفكير ( البدائي والعلمي ) خطأ صريح وغلو فاحش وجهالة من الإنسان بما يحيط بالإنسان ".

" ولقد جاء الإسلام الحنيف يفصل القضية فصلا حقا فيقرر حق العالم الروحي ويوضح صلة الإنسان بالله رب الكائنات جميعا وبالحياة الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا ويجعل الإيمان بالله أساس صلاح النفس التي هي من عالم الروح فعلا ولا سبيل إلى صلاحها إلا بهذا الإيمان ويصف ذلك العالم الغيبي المجهول وصفا يقربه إلى الأذهان ولا يتنافي مع بدهيات العقول وهو مع هذا يقرر فضل العالم المادي وما فيه من خير للإنسان لو عمره بالحق ... هذا الموقف من ألوان التفكير هو أكملها وأتمها وأكثرها انطباقا على واقع الحياة ومنطلق الكون وأعظمها نفعا لبني الإنسان وذلك هو الجمع بين الإيمان بالغيب والانتفاع بالعقل "

لقد تناول حسن البنا في رسائله قضايا الفكر الإسلامي ومرجعيتها وصلتها بالمجتمع في شمول ووضوح على نحو جمع بين الإحاطة وسلاسة العرض كما جمعت ( الرسائل ) بين مسائل الاعتقاد وحرية العقل والنظر في الكون ورفع قدر العلم والعلماء وما يدخل في دائرتي النظر الشرعي والنظر العقلي , والأخذ بالحكمة وأجمل ذلك مله فيما سماه " بالأصول العشرين " وأولها " الفهم " إذ يقول :

" إنما أريد بالفهم أن نوقن بأن فكرتنا " إسلامية صميمة " وأن نفهم الإسلام كما نفهمه في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز " وتأتي الفقرة الأولي من تلك الأصول موضحة أن :

" الإسلام نظام يتناول مظاهر الحياة جميعا , فهو دولة ووطن , أو حكومة وأمة , وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة , وهو ثقافة وقانون أو علم قضاء , وهو مادة وثروة , أو كسب وغني وهو جهاد ودعوة , أو جيش وفكرة , كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء "

" وتبين الفقرة الثانية من الأصول" أن :

" القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف , ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات "

ويقول في الفقرة العاشرة :

" معرفة الله تبارك وتعالي وتوحيده وتنزيهه أسمي عقائد الإسلام وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة.. نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) [ آل عمران: 7]

ويقول في الفقرات الأربع الأخيرة ( من 17إلى 20) :

" والعقيدة أساس العمل , وعمل القلب أهم من عمل الجوارح وتحصيل الكمال من كليهما مطلوب شرعا وإن اختلفت مرتبات الطلب ".

" والإسلام يحرر العقل ويحث على النظر في الكون ويرفع قدر العلم والعلماء ويرحب بالصالح النافع من كل شئ , والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها ".

فقد يتناول كل من النظر الشرعي والعقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر ولكنهما لن يختلفا في القطعي فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة مع قاعدة شرعية ثابتة ويؤول الظني منها ليتفق مع القطعي , فإذا كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولي بالإتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار ".

" لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدي الفرائض – برأي أو بمعصية إلا أن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة , أو كذب صريح القرآن أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب العربية بحال أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الفكر "

لقد حدد حسن البنا القضايا الأساسية لحركة البعث الإسلامي وجاء من بعده علماء ودعاة ومفكرون ليفصلوا ما أجمل من تلك القضايا ويوضحوا ما غمض منها ويجيبوا على ما يثار حولها من استفسار فكان جهدهم غرسا لنهضة إسلامية واعية ومع ذلك تباينت الآراء في إدارك طبيعة ذلك الفكر فالكتاب الغربيون – بوجه عام – ر يرون فيه سوي اجترار للماضي وسباحة ضد تيار العصر يقول الأستاذ بايرود دودج في عبارة غامضة :" إن الإخوان المسلمين نحوا في تفكيرهم نحو الأفكار العتيقة في الإسلام "

ويري الأستاذ فليب حتى أن حركة الإخوان المسلمين " تستلهم الأفكار التي ترجع إلى القرون الوسطي فهي مخالفة الغرب ومخالفة الديمقراطية !!"

وفي بحث للأستاذ ألبرت حوارني جاوزت صفحاته الأربعمائة صفحة تحت عنوان " الفكر العربي في عصر الانفتاح " أفرد المؤلف اثنين وأربعين سطر للحديث عن دعوة الإخوان المسلمين حديثا ساذجا جاء فيه :

" إن الإخوان المسلمين يدعون إلى الشريعة الإسلامية ومحاربة البدع وتحكيم العقل ولكنهم يشترطون أن يتم ذلك في حدود مبادئ الإسلام , ولم يوضحوا ما هي المبادئ الإسلامية التي يريدون تطبيقها في المجتمع الحديث ولهم أفكار عن الاقتصاد والعدالة الاجتماعية غير دقيقة كما يدعون إلى إخضاع التعليم الأساسي لإشراف الدولة واتخاذ" العربية " لغة والدين أساسا للتعليم " بينما خصص المؤلف أربع صفحات وستة عشر سطرا للشيخ على عبد الرازق وكتابة " الإسلام وأصول الحكم " وبضعة أسطر للشيخ خالد محمد خالد وكتابه " من هنا نبدأ !!

وهذه المقولات التي ينشرها المستشرقون وأتباعهم لتشويه دعوة الإخوان المسلمين تتسم بتعميم خطير وتحامل وغموض وسوء فهم لا يتفق وروح البحث العلمي . وقد علق على بعضها الأستاذ سيد قطب بعبارة جاء فيها :

" يخلط الكثيرون بين النشأة التاريخية للإسلام وفكرة الإسلام المجردة القابلة للتوسع والشمول في التفريعات والتطبيقات هؤلاء حين يسمعون كلمة الحكم الإسلامي تقفز إلى خيالهم صور الخيام الساذجة في الصحراء وصور الأعراب الرحل على الإبل أو العرب المقيمين في الأكواخ ويتصورون بسذاجة أن معني الحكم الإسلامي هو العودة إلى تلك الحياة البسيطة الساذجة .. وإذن فلا عمارة ولا مدنية ولا صناعة ولا تجارة ولا علم ولا فن .... الخ ".

ويضرب سيد قطب مثلا لذلك في حوار جري بينه وبين احد هؤلاء فيقول :

" ولست أنسي أن أحد الدكاترة في التربية العائدين من أمريكا كان يتحدث معي عن المجتمع الأمريكي فقلت : إن لهذا المجتمع مزاياه ولكن الذي أنكره عليه هو أنه ينفي العنصر الأخلاقي من حسابه جملة ويعده ضربا دخيلا على الحياة فانتفض في حماسة وأستاذية يقول :" إذا كنا سنتحدث عن الأخلاق , إذن فلنرجع إلى عيشة الخيام".

غير أن المطلع على أدب الحركة الإسلامية يجد أنها ركزت في البداية على شرح الفكرة الإسلامية وشمولها وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي نسجت حولها في عصور الجهل أو في عصر الهجمة الغربية الاستشراقية ثم انبري بعض هؤلاء الكتاب لدحض الشبهات التي كانت تثار للتشكيك في صلاحية الإسلام والشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث وعزا أحدهم ما أصاب الإسلام إلى عجز علمائه عن أداء رسالتهم وإلى جهلا أبنائه بما يتعين عليهم معرفته من حقائق الإسلام وتمثل رسالة الشهيد عبد القادر عودة " الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه " هذا الاتجاه خير تمثيل وتنحو رسائل الدكتور عبد العزيز كامل الموجهة للشباب على يسرها وبساطتها – نحوا علميا لترسيخ المفاهيم الإسلامية العميقة في نفوس الشباب من خلال دراسته وتاريخ الدعوة الإسلامية في مرحلتيها " المكية " و" المدنية " كما نري في رسالته " البناء والهدم في الدعوات " و" المجتمع الإسلامي في" مكة " و" نحو جيل مسلم" وتولي الشيخ محمد الغزالي والشهيد سيد قطب ومحمد قطب الرد على الشبهات التي كان يروج لها العلمانيون الشيوعيون في محاولة لصد الشباب المستنير عن الانضمام إلى الحركة الإسلامية ( الدين والدولة , الربا , الرق , المرأى , مزاعم الدارونية .. الخ) وكان كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " و" معركة الإسلام والرأسمالية " لسيد قطب " وشبهات حول الإسلام " لمحمد قطب من أهم الكتب , في تلك المرحلة على الإطلاق التي صاغت تفكير جيل بأكمله وجذبت الشباب في السودان جذبا نحو الحركة الإسلامية كما كان رد الشيخ محمد الغزالي في كتابه " من هنا نعلم " على كتاب " من هنا نبدأ " للأستاذ خالد محمد خالد ذا أثر كبير على الشباب في السودان .

نقد المذاهب الغربية :

لقد اغفل كثير من الدارسين الدور الذي اضطلع به علماء الإخوان المسلمين في نقد المذاهب السياسية والاجتماعية الغربية وتقويم مناهج العلوم الاجتماعية ونظرياتها وافتراضاتها في التربية وعلم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية وعلم النفس والتاريخ والنثروبولوجيا وإبراز وجهة النظر الإسلامية في تلك المباحث أو على الأقل التحفظ على كثير مما اشتملت عليه من نظريات تفتقر إلى الإثبات ورفض ما لا يتفق منها مع حقائق الإسلام ومعتقداته.

فعندما كان طلاب النثروبولوجيا يلقنون نظريات دارون وجيمز فريزر حول ظهور الإنسان ونشأة الدين وطقوس المجتمعات البدائية بمعزل عن المعتقدات التي بشر بها الرسل والأنبياء أو بسخرية منها كان الأستاذ البهي الخولي يحدث مستمعيه وقراءة عن سيدنا آدم عليه السلام في منظومة دروسه عن قصص القرآن ويتحدث عن " أفق الروح " و" أفق الملائكة" و" معني السجود لآدم" ( مجلة المسلمون يناير 1953 م – القاهرة ) .

وعندما كان طلاب " علم الاجتماع " يستمعون إلى أساتذتهم في الجامعات وهم يشرحون في إعجاب نظريات أوجيست ونت وإميل درو كايم عن طبيعة الدين ," التموتمية" وتطور العقل البشري كان الطلاب الإخوان يناقشون هذه النظريات بذهن متفتح ويقومونها في ضوء العقيدة الإسلامية فيكشفون عن مزالقها وعوارها , فى الوقت الذي استقبلت فيه تلك النظريات بكثير من الانبهار من قبل الآخرين وربما قبلها البعض باعتبارها مسلمات .

نحو الأصالة وإسلامية المعرفة :

لقد أعاد علماء الحركة الإسلامية المعاصرة إلى الفكر الإسلامي أصالته ومنهجيه واستقلاله على نحو يعيد إلى الأذهان ومضات وإشراقات : أبي حامد الغزالي وابن حزم وابن خلدون وابن تيمية مع تباين ظروف الزمان والمكان والاختلاف بين قضايا الأمس واليوم والمجال الذي التقت فيه جهود هؤلاء وأولئك يتمثل بصفة أساسية في تأكيد القاعدة الإيمانية التي ينطلق منها العالم المسلم في تفكيره ومباحثه ويوضح الأستاذ سيد قطب هذه الحقيقة بقوله : " إن أى علم لا يؤدي إلى الاهتداء إلى الله ولا يقوم على إدراك وفي تسخير النواميس الطبيعية له , أى علم لا يقوم على هذه الأسس هو علم ضال .. إن هناك ارتباطا بين القاعدة الإيمانية وعلم الفلك وعلم الأحياء وعلم الطبيعة وعلم الكيمياء وعلم الطب ... الخ .إنها كلها تؤدي إلى الله حين لا يستخدمها الهوي المنحرف للابتعاد عن الله كما اتجه المنهج الأوربي في النهضة العلمية .. الخ "

ومع أن العلوم الطبيعية والاجتماعية وتطبيقاتها العملية تدخل في دائرة التراث الإنساني المشترك فإنها – عند العالم المسلم – تخضع للتصور الإسلامي إذا تجاوزت حدود التجريب والتطبيق إلى دائرة التفسيرات الفلسفية لنشأة الإنسان ونشاطه وتاريخه .

ومن هنا كان للفكر الإسلامي المعاصر تحفظ على مناهج الفكر الغربي في كل حقوله المعرفه , بل نقد لها وتصويب لأخطائها وكبح لشططها ورفض لما يكمن خلفها من راسب وثنية ونزعات إلحادية وإيحاءات لا دينية هي نتاج تطور الفكر الغربي من عصر اليونان والرومان إلى عصر " النهضة " الأوربية الحديثة .

ففي مدرسة علم النفس – مثلا – نجد الأستاذ محمد قطب يناقش نظريات فرويد وينقدها نقدا علميا في كتابيه :" الإنسان بين المادية والإسلام " ودراسات في النفس الإنسانية " يقول الكاتب " لكن النقد الأول الذي ينبغي أن يوجه إلى فرويد هو في أساس نظرته إلى الإنسان على أنه كائن ارضي بحت لا يرتفع بمشاعره وعواطفه عن عالم الأرض إلا في حالات الشذوذ !"

" وإن نظريات فرويد هي الامتداد الطبيعي لنظريات دارون أو هي تخصيص لها في ميدان الإنسان وعلى ذلك ينبغي أن نحترس مما فيها من المزالق الخطيرة ".

ثم يمضي محمد قطب قائلا  :" ومن هنا أعطي فرويد صورة مزورة للنفس الإنسانية خلاصتها أن الكيان الحقيقي للإنسان هو الطاقة البهيمية البحتة ... الخ ".

ويقول الكتاب عن دارون :" إن عيب نظريته ليس في الوقائع العلمية التي بسطها في كتبه وتابعه فيها أعوانه , وإنما هو في إيحاءات تلك النظرية التي خلفت طابعها الخطير لافي الجماهير وحدها بل في اتجاه العلماء كذلك منذ عهده إلى العصر الأخير "

ولم تقف جهود مفكري الحركة الإسلامية عند نقد المذاهب الغربية وإنما تجاوزت ذلك إلى تقديم دراسات ناضجة عن مناهج التربية الإسلامية والاقتصاد والقانون الجنائي الإسلامي والنظريات السياسية الإسلامية وغيرها من المباحث , كما تشهد بذلك مؤلفات عبد القادر عودة وسيد قطب ومحمد قطب والدكتور محمد عبد الله العربي والشيخ محمد أبي زهرة وغيرهم وقد نشر هؤلاء بعض الأستاذ سعيد رمضان في القاهرة خلال عامي 1952 , 1953 م ثم انتقلت إلى دمشق ثم إلى جنيف .

وتلقي مقدمة الأستاذ عبد القادر عودة لكتابه القانون الجنائي الإسلامي الضوء على ما تميز به بحثه من قيمة علمية إذ يقول :

"وبعد فهذه دراسات في التشريع الجنائي الإسلامي, مقارنة بالقوانين الوضعية , وفقني الله فيها إلى إظهار محاسن الشريعة وتفوقها على القوانين الوضعية وسبقها إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية والنظريات العلمية والاجتماعية التي لم يعرفها العالم ولم يهتد إليها العلماء إلا أخيرا . وسيري القارئ مصداق هذا القول بين دفتي هذا الكتاب ".

ويقول محمد قطب في مقدمة كتابه " منهج التربية الإسلامية " : ومنهج التربية الإسلامية فريد في كل مناهج الأرض , وإن التقي ببعضها في التفصيلات والفروع , فريد في شموله ويقظته لكل دقيقة من دقائق النفس البشرية وكل خالجة وكل فكرة وكل شعور , وفريد في أثره في داخل النفس وفي واقع الحياة ".

ويقول الدكتور الريس عن الدوافع التي حملته على إعداد بحثه :" النظريات السياسية الإسلامية ":

" ولطالما كنت أسائل نفسي وأن أدرس هذا العلم مرة بصفة إجمالية في مصر وأخري بصفة تفصيلية في أوربا وأنا أري أن النظريات التي تدرس إنما هي فقط نظريات الإغريق والرومان وأمثالهم من المفكرين الأوربيين وأين مكان الفكر الإسلامي بين هذا الإنتاج الإنساني العام ؟ ألم يكن في الإسلام مفكرون سياسيون ؟ ألم ينتج الإسلام تفكيرا سياسيا ؟... إلخ "

وقد حظي هذا البحث إثر ظهور طبعته الأولي عام 1953 م باهتمام الدوائر العلمية والسياسية في مصر فقالت عنه الدكتور عائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) :

" والحق أني لا أعرف فيما قرأت حديثا من مؤلفات المشتغلين بهذه المادة بحثا كهذا , امتزج فيه النظر الفلسفي بالتحقيق التاريخي . وإذا كانت الدراسات الجامعية تقاس بسلامة منهجها ومدي جدواها على العلم .. فإن ... كتاب " النظريات السياسية الإسلامية" جدير بأن يأخذ مكانه بين هذه الدراسات دون أن يجحد ناقد منصف ما فيه من نضوج وأصالة "

ويمكن القول أن جهود أولئك العلماء الإسلاميين كانت إضافة ضخمة في مجال الفكر الإسلامي المعاصر كما كانت بمثابة الخطوة الأولي أو الفجر الصادق لما عرف فيما بعد بمصطلح :" إسلامية المعرفة "

لقد تلقت الحركة الإسلامية الناشئة في السودان تلك التجربة المتكاملة وهذا الرصيد الفكري من جهود الإخوان المسلمين في مصر فكان عونا لها في اختصار الطريق وقاعدة للانطلاق في وقت كانت تتطلع فيه إلى كل من يمد إليها العون في خضم " الأيديولوجات " المتصارعة وقتئذ .

وكان من أهم ثمار ذلك العون تعرف أبناء الحركة الإسلامية على مباحث المتقدمين من أئمة الإسلام واستقاء المعرفة من مصادرها الأصلية في مجال العلوم الإسلامية المختلفة فكان منهم من يقرأ " الموافقات " للشاطبي " و" منهاج السنة النبوية " لابن تيمية " .

خاتمة

تناولت هذه الدراسة نشأة الحركة الإسلامية المعاصرة في السودان خللا فترة هامة من تاريخ البلاد السياسي كانت في حقيقتها فترة انتقال من عهد الحكم البريطاني إلى عصر الحرية والاستقلال .

ولئن شغلت الحركة الوطنية – المتمثلة في مؤتمر الخريجين والأحزاب السياسية المنبثقة عنه بقضية التحرير ومقاومة الحكم الأجنبي فإن الكسب الذي حققته ذلك النضال أتاح للحركة الإسلامية أن تستشرف المستقبل وأن تتجه بكل قواها نحو قضية " البعث الإسلامي وإعطاء الاستقلال المرتقب مضمونه الحقيقي في ظل الدعوة الإسلامية التي شكلت تاريخ الأمة على مدي خمسة قرون .

لقد أدركت الحركة الوطنية منذ فجرها الباكر مكانة الإسلام والثقافة العربية في حياة المجتمع السوداني ( انظر الفصل الأول ) وكان قادتها يستلهمون أمجاد العروبة والإسلام في كفاحهم الوطني ويستمدون من الإسلام وقيمه ومثله القوة الروحية التي أذكت ضرام الجهاد في صدروهم وأعانتهم على التصدي لمقاومة " الاستعمار " فنشيد مؤتمر الخريجين الذي تردد صداه بين المثقفين وطلاب المدارس على اتساع القطر , يستنهض الهمم ويلهب المشاعر لاسترداد المجد الآفل وربط الأمة بجذورها العربية الإسلامية والاقتداء برسول صلي الله عليه وسلم .

إلى العلا ..... إلى العلا

ابعثوا مجدنا الآفلا ... اطلبوا لعلاه المزيد

أمة أصلها للعرب .. دينها خير دين يحب

عزها خالد لا يبين

قد نفضنا غبار السنين .... ونهضنا بعزم مكين

لنعيد فخار الجدود

مهر هذي المعالي الحياة ... فابذلوا الروح للمكرمات

واحتذوا في نبيكم مثال

إلى العلا ... الخ

ويصدر أحد أدباء الحركة الوطنية البارزين رسالة صغيرة يقول فيها :

" وأثر الدين الإسلامي والثقافة العربية في هذه البلاد أظهر ما يكون فيما وصل إلى أيدينا من مخلفات الجيل الماضي من الأدباء أمثال حسين زهرا , والشيخ الضرير والشيخ أبي القاسم أحمد هاشم والشيخ البنا الكبير .. والمثل الأعلى للحركة الفكرية في هذه البلاد أن تكون حركة فكرية تحترم شعائر الدين الإسلامي وتعمل على هداه وأن تكون للبلاد ثقافة إسلامية تسندها ثقافة غربية مكتسبة .. مع تسامح شامل وأفق فكري واسع وطموح يجعلنا نقبل على الثقافات الأخرى .. إلخ .

غير أن العاطفة الإسلامية التي عبر عنها أدباء الحركة الوطنية وشعراؤها وقادتها في ثلاثين القرن وأر بعينه لم تتمخض عن خطة عملية لتحكيم الإسلام في واقع الحياة بصورة حقيقية لا مظهرية عندما لاحت بارقة الاستقلال , فنجم عن ذلك فراغ " أيديولوجي" وخواء فكري أتاح للحركة الشيوعية أن تخترق صفوف المثقفين والطلاب ونقابات العاملين ومجتمع المرأة زاعمة أن الفكر الماركسي قد اهتدي إلى فهم القوانين التي تحكم تطور المادة وتطور المجتمع الإنساني على السواء من خلال المادية الجدلية والمادية التاريخية والصراع الطبقي , وأن الإشتراكية العلمية " وقد أحاطت بأسرار الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي ومصدره الحقيقي باكتشاف نظرية " فائض القيمة " وأخيرا زعمت الماركسية أن ما تطرحه من حلول وتصورات لمشكلة الإنسان في الأرض إنما هو الحل النهائي والبديل الحتمي للفكر الرأسمالي ناهيك عن الفكر الديني , وأن هذا الحل إنما هو امتثال لقانون من قوانين الكون .

وخاطب زعيم الحزب الشيوعي السوداني طليعة الحركة الإسلامية بقوله :" إن التاريخ لم يستقر – كعلم – إلا بعد اكتشاف قوانين الحركة والتغيير في المجتمع بالتفسير المادي للتاريخ ".

كان لهذا الطرح الفلسفي أثره لدي كثير من المستنرين وبخاصة طلاب الجامعات والمدارس العليا ولعل كثرتهم لم تكن تدرك – لأول وهلة – أن هذه الفلسفة البراقة تنبثق من قاعدة إلحادية قوامها المادية الجدلية ورفيقها المادية التاريخية . ومن هنا كانت معركة الحركة الإسلامية مع الشيوعية معركة على قدر كبير من الأهمية انتهت بانتصار الفكرة الإسلامية في كلية الخرطوم الجامعية والمدارس الثانوية وأفول نجم التيار الماركسي وأوبة الشباب المثقف إلى الدين وإقبالهم عليه دراسة وفهما وسلوكا, ولم تعد الكتب " الصفراء " مبعث سخرية وتندر بل أضحت المراجع الأساسية في العلوم الإسلامية لطلاب العلم من أبناء الحركة الإسلامية .

أما الاتجاه الأساسي للحركة فكان يتمثل في إعداد جيل جديد يجمع بين التربية القرآنية والروح الجهادية والثقافة العصرية وألفهم السليم لحقائق الإسلام ومقاصده والتزام آدابه وحدوده وأوامره واجتناب نواهيه واليقظة في استيعاب الثقافات الأخرى والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية الناجمة عن طبيعة الحياة المتجددة وتطبيق تعاليم الإسلام في واقع الحياة بحيث تصبح الدعوة الإسلامية واقعا معايشا لا في دائرة العبادات والمواريث وقضايا الأحوال الشخصية فحسب بل في سائر ميادين الحياة .

وكانت ثمرة ذلك التوجه مشاركة الحرة الإسلامية مشاركة فاعلة معالجة قضايا الوطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على نحو ما سلف تفصيله وظلت تباشر نشاطها حتى السابع عشر من نوفمبر عام 1958 م عندما تسلم الفريق إبراهيم عبود السلطة ولم يعد المناخ السياسي ملائما لاستمرارها, حتى إذا ما انفجرت ثورة 21 أكتوبر 1964م دخلت الحركة مرحلة لا تدخل في نطاق هذه اللمحة التاريخية نأمل أ، تجد من الباحثين من يوفيها حقها من الدراسة في وقت من الأوقات .

والحمد لله رب العالمين وصلي الله علي نبيه ورسوله الكريم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

الملحقات

الملحق الثاني: قرارات مؤتمر العيد

أغسطس ذو الحجة 1373هـ - 1954 م

1- الاسم : أن يكون اسم الجماعة " الإخوان المسلمون " مع استقلالهم إداريا عن أية جماعة إسلامية أخري .

2- الغاية: تحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام.

3- إبلاغ الناس جميعا دعوة الإسلام وشرح الإسلام شرحا دقيقا يوضحه ويبرزه في نقائه وشموله وعرضه عرضا سليما يرد عنه الشبهات ...

4- إيجاد الفرد المسلم الذي يؤمن بالله إيمانا عميقا ويستشعر صلته بالله في كل لحظة من حياته .

5- تحرير السودان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على أساس المبادئ الإسلامية والمشاركة في بناء المجتمع العالمي الإسلامي .

6- تنمية الثروة القومية .

7- تحقيق العدالة الاجتماعية .

8- إقامة حكومة إسلامية تنفذ تعاليم الإسلام وأحكامه في الداخل وتبلغها في الخارج .

9- تأييد الحركات التحررية ضد الاستعمار في العالم والدفاع عن الحريات والحقوق والمشاركة في بناء السلام العالمي والحضارة الإنسانية على أساس المثل العليا التي جاء بها الإسلام وتنسيق الجهود مع الهيئات الإسلامية في العالم لتحقيق الوحدة الإسلامية .

10- الدعوة لاجتماع الهيئة التأسيسية في العام القادم لإجازة دستور الجماعة

الملحق الثالث: وثائق الدعوة إلى الدستور الإسلامي لجمهورية السودان

مذكرة قاضي قضاة السودان حسن مدثر

15 ربيع ثاني 1376هـ 18 نوفمبر 1956م

الدستور الإسلامي

حسن مدثر : قاضي قضاة السودان , ربيع الثاني 1376 هـ - نوفمبر 1956م.

" مذكرة لوضع دستور السودان من المبادئ الشريعة الإسلامية ".

إلى الأمة السودانية الكريمة .

وإلى رجال اللجنة السودانية القومية للدستور السوداني .

وإلى كافة المعنيين بوضع هذا القطر الناشئ الحريصين على مثله وتراثه . إلى أولئك جميعا :

أقدم بعضا من مبادئ الشريعة الإسلامية الرشيدة لتكون نبراسا وسننا لوضع قواعد السودان الحديث وتشريعاته .

ولا ريب في أن ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه واقتفي أثره فيه أصحابه وسلفنا الصالح خير ما يكفل للإنسانية جمعاء الحياة الكريمة والصلاح والعلاج .

وصدق الرسول الأمين حين يقول :" تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنة رسوله ".

والله أسأل أن يوفق الأمم الإسلامية عامة والأمة السودانية خاصة إلى الهدي والرشاد إنه سميع مجيب والسلام عليكم ورحمة الله .

حسن مدثر , الخرطوم في 15 ربيع الثاني سنة 1376 هـ الموافق 18 نوفمبر 1956م

" إن الغرض من إيجاد دستور لكل أمة هو إيجاد أسس عامة من واقع تلك الأمة تسن في نطاقها قوانين لحماية مجموع القواعد التي وجد أفراد تلك الأمة أنفسهم ملزمين بإتباعها طبقا لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية ".

هذا الناموس الأدبي هو وليد المعتقدات الموروثة والعادات المتأصلة وما جري به العرف من استحسان أمر وتقبيحه وتواضع عليه الناس وللدين أكبر الأثر في تكييفه .

" ولا شك أن قطرا إسلاميا كالسودان قد قام نظام جماعته على العادات العربية والنظم الإسلامية وتقوم عقائد أكثر سكانه على الإسلام فالضرورة والواجب تحتمان في بلد مقل هذا أن تسن أسس دستوره العامة من قواعد الإسلام وتسن قوانينه التي تحكم هذا المجتمع الإسلامي في نطاق أسس دستور إسلامي لا يتعارض ومبادئ الإسلام الذي قام عليه ذلك المجتمع ".

ولقد يؤسفني أن نجد بعض القوانين في الوقت الحاضر أتت مخالفة لشريعة الإسلام ومبادئه العامة في كثير من الأمور فهي بذلك قد خرجت عن الغرض والسبب الذي لأجله تسن فبدلا من أن تحمي عقائد هذا المجتمع وتقاليده وعاداته الموروثة وما تواضع عليه من أسس عامة سنت لتحاربه في أعز ما عنده منها سنها المستعمرون لتسئ هذه الجماعة في مشاعرهم وعقائدهم الموروثة فهي تبيح الخمر ولم تعتبر الرضا بالزنا جريمة إذا كان من شاب أو شابة تجاوز عمرها ست عشر سنة ولم تك ذات بعل ومعني هذا إباحة الزنا . وكلا الاثنين , إباحة الخمر والزنا محرم في الإسلام الذي نشأ عليه ذلك المجتمع وبني عليه نظمه وعقائده وعاداته ولا شك أن أولئك الذين سنوا القوانين ليسوا بمسلمين ولا يجوز لمسلم أن يتولي تطبيق مثل هذا القانون ولا ذلك المجتمع الذي تطبق عليه براض عنها لأن جل أفراده لا تؤمن بها وهم غير ملزمين بطاعتها حسب عقيدتهم " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".

الجبهة الإسلامية للدستور

نقدم المبادئ الأساسية للدستور الإسلامي

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) هذه هي المبادئ العامة التي تري الجبهة الإسلامية للدستور تضمينها في الأبواب المختلفة للدستور . وقد قامت لجنة الأهداف بوضعها حتى يكون المسلمون على بينة من أمر المبادئ الأساسية التى يجب أن يقوم عليها دستور البلاد على أساس من الإسلام وشريعة الله .. وستوالي الجبهة الإسلامية للدستور إخراج نشرات قصيرة تشرح هذه المبادئ وتردها إلى أصولها الإسلامية وعلة وجه الخصوص المبادئ الخاصة بعمل الفقه الإسلامي مصدرا للتشريع ونظام الشورى والحريات العامة .

أولا : قواعد التوجيه لسياسة الدولة :

1- على الدولة أن تمكن المسلمين من صوغ حياتهم أفرادا وجماعات وفقا لتعاليم الإسلام , وذلك بالوسائل الآتية :

(أ‌) التعليم وتعميمه على أسس تهدف إلى خلق جيل مسلم مؤمن بالله عامل للمصلحة العامة في تضامن وإخاء .

(ب‌) نشر الثقافة الإسلامية في نطاق واسع يمكن العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين .

(ت‌) وضع التشريعات اللازمة لمحاربة الفساد الاجتماعي في كل مظاهره مع اتخاذ الخطوات المناسبة لذلك .

2- على الدولة أن تمكن المواطنين من غير المسلمين من صوغ حياتهم ومزاولة عباداتهم وثقافتهم وتعليمهم الديني وفقا لأديانهم وعقائدهم ومذاهبهم وعاداتهم دون إخلال بالنظام العام أو الآداب

3- أن تحرر الدولة المواطنين من الفقر والمرض والجهل والخوف بتوفير القوت والمسكن والملبس والعلاج والتعليم من غير تمييز في الجنس أو العنصر أو الدين أو العقيدة أو الطائفة وذلك عن طريق :

(أ‌) إيجاد العمل للقادرين .

(ب‌) جمع الزكاة لتأسيس الضمان الاجتماعي للذين فقدوا أعمالهم بسبب التعطل أو المرض أو لأى سبب مشابه .

4- على الدولة بناء هيكل الاقتصاد السوداني على أساس العدالة الاقتصادية الإسلامية ومحاربة الربا والاحتكار والاستغلال وأن توجه نحو رفع مستوي المعيشة ورفاهية المواطنين من غير تمييز في الجنس أو العنصر أو الدين .

5- على الدولة أن تضع التشريعات لتحديد الأجور مع مراعاة نوع العمل وكيفه وذلك لضمان مستوي معقول للمعيشة .

6- أن تعدل التشريعات القائمة وإصلاحها أو إلغاؤها بحيث لا تتعارض مع الدستور وأحكام الشريعة الإسلامية في فترة لا تتجاوز الخمس سنوات.

7- أن تعمل الدولة على توطيد الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية مع الدول العربية وبقية دول العالم على أساس المبادئ الإسلامية .

ثانيا : الرئيس الدستوري :

8- أن يكون منتخبا ويجوز عزله ويخضع للقانون كبقية المواطنين .

9- لا يجوز لرئيس الدولة أن يلغي الدستور أو يعطله كليا أو جزئيا ولحالات الطوارئ يضع المجلس النيابي قانونا مناسبا في حدود الشريعة الإسلامية ودون إخلال بالقواعد الأساسية للدستور .

ثالثا: نظام الحكم :

10- أن يكون الفقه الإسلامي مصدر التشريعات بالبلاد .

11- يقوم نظام الحكم على أساس الشورى ( ديمقراطي ) .

12- المجلس النيابي هو المهيمن على التشريع والسلطة التنفيذية والمالية العامة .

رابعا : السلطة القضائية :

13- تدعيم استقلال القضاء وفصله عن السلطة التنفيذية .

14- أن تمنح المحاكم حق الفصل في دستورية القوانين .

15- أن يعين عدد من العلماء المسلمين من ذوي المقدرة والكفاءة وسعة الأفق أعضاء في القوانين المدعي تعارضها مع الشريعة الإسلامية .

خامسا : الحريات والحقوق الأساسية :

16 - كفالة الحريات والحقوق الأساسية لكافة المواطنين في حدود الشريعة وذلك من غير تمييز في العنصر أو في الدين .

عدم سلب هذه الحريات إلا بعد إجراءات قضائية وأن ينح كل مواطن حق الدفاع عن نفسه أمام المحاكم القضائية قبل توقيع أى عقوبة .

سكرتير الجبهة الإسلامية للدستور

عمر بخيت العوض

المقر المؤقت للجبهة : دار جماعة التبشير الإسلامي بأم درمان

ص. ب 524 أم درمان

بسم الله الرحمن الرحيم

الجبهة الإسلامية للدستور

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ومولانا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم .

أيها السادة الفضلاء :

باسم المركز العام للجبهة الإسلامية للدستور أحيي جمعكم الكريم ولقاءكم في سبيل ومرضاة الله رب العالمين وأهنئكم بالعيد السعيد الذي نأمل أن يهل علينا في عامنا المقبل ونحن نستظل بلواء القرآن ونسير على المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام .

أيها الإخوان الكرام : إن المركز العام للجبهة الإسلامية للدستور يشعر بالغبطة تملأ صدور أعضائه حين نري هذا الجمع الكريم الذي ارتبط على قلب رجل واحد لا في سبيل غاية دنيوية ولا شهوة أرضية إنما لمرضاة الحق رب العالمين والمناداة بحكم الله العظيم امتثالا لمر ربنا وفرارا من الكفر والظلم والفسوق .

إننا نحيي هذا المؤتمر الأول للقوي الإسلامية الزاحفة في عزم في عزم ويقين والمتجمعة من كل أصقاع السودان لتخوض معركة الجهاد النبيل في صدق وإصرار ابتغاء مرضاة الله ورضوانه تلك المعركة التي عدتها الإيمان بالله وبأن الرسالة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام كلها حق وعدل , كلها خير وبركة كلها مساواة وإخاء كلها إنسانية وسمو فما أشرف الغاية وما أنبل المقصد حين اتحدت قلوبكم للمناداة بدستور إسلامي تتطور في هداه بلادنا العزيز وتنعم تحت ظله بالرخاء والرفاهية والنعيم لما من الله على بلادنا بالحرية والاستقلال وخرجت جيوش الاستعباد والاستعمار وعاد الحق المسلوب إلى أهله وكان لزاما على العاملين بدعوة الله والمنادين بحكم السماء وعدالة القرآن أن يوحدوا صفوفهم ويضموا جهودهم لمواجهة الموقف واغتنام الفرصة المتاحة للعاملين في حقل النضال العام حتى يجئ الدستور النهائي للبلاد متفقا مع إرادة الشعب السوداني المسلم ومستندا إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .

وإزاء هذه الظروف السانحة وجّه الإخوان المسلمون وجماعة التبشير الإسلامي الدعوة إلى الهيئات الإسلامية لتتدارس الأمر وتواجه الموقف في جهاز موحد ولأن هذه الهيئات إسلامية رغم اختلاف الميادين الفرعية وأساليب العمل المؤدية إلى الغاية النهائية وهي حكم القرآن .

وكان من توفيق الله أن تم أول اجتماع في دار جماعة التبشير الإسلامي بأم درمان في يوم السبت 10/ 12/ 1955 وتلاه اجتماع في يوم 11/ 12 / 1955م وحضر الاجتماعين مندوبون عن الهيئات الآتية :

اتحادات الختمية – هيئات الأنصار – الإخوان المسلمون – أنصار السنة – خريجوا المعهد العلمي – صوت الإسلام – جماعة القرض الحسن—الجمعية الخيرية الإسلامية بالخرطوم – جماعة المحافظة على القرآن بأم درمان – مؤتمر الهيئات الإسلامية – جماعة التبشير الإسلامي والإصلاح – جماعة المحافظة على القرآن بشمبات – النادي الثقافي بأم درمان – جماعة السيرة المحمدية .

وانعقدت بعد ذلك اجتماعات تمهيدية انتهت بانتخاب سكرتير عام للجبهة ومساعد له وترك للسكرتير اختيار سكرتارية لتعاونه وتم انتخابها وتنظيمها في جلسات تالية على الوجه التالي لتزاول نشاطها العام بإرادة الله وتوفيقه .

1- لجنة للاتصال : ومهمتها الاتصال بالشخصيات الهيئات وشرح مبادئ الجبهة وأهدافها .

2- لجنة الدعاية : ومهمتها الإشراف على إعداد الليالي الإسلامية والمحاضرات وتنظيمها والدعاية لها وكذلك تنظيم الوفود إلى الأقاليم .

3- لجنة الصحافة والإذاعة : ومهمتها الاتصال بالصحف والإذاعة وكتابة المقالات والمحاضرات .

4- لجنة المال : ومهمتها التفكير في وسائل جمع المال وحفظه والإشراف على إنفاقه في أوجه نشاط الجبهة .

5- لجنة خطب المساجد : ومهمتها إعداد الخطب المنبرية وتوزيعها على الأعضاء لإلقائها في المساجد .

6- لجنة الأقاليم : ومهمتها تنظيم الصلة المكتبية بين المركز العام للجبهة وبين اللجان الفرعية في الأقاليم وحفظ المكاتبات والدوسيهات بالمركز العام .

ويشرف على كل لجنة من هذه اللجان عضو مسئول ومن هؤلاء الأعضاء المسؤولين تتكون السكرتارية العامة للجبهة وهم عمر بخيت العوض سكرتيرا عاما والباقون سكرتيرون مساعدون وهم الأستاذ عبد الله الغبشاوي – الأستاذ محمد هاشم الهدية – والأستاذ سيد أمين – والأستاذ صادق عبد الله – والأستاذ محمد أحمد الهواري – والأستاذ الصايم محمد إبراهيم – والأستاذ عبد الرحمن الصايم .

7- لجنة الأهداف : ومهمتها وضع الأهداف العامة للدستور الإسلامي وإصدار النشرات الموضحة لتلك الأهداف .

الملحق الرابع: نماذج من أدب الحركة الإسلامية

بأقلام بعض الطلاب السودانيين

في مصر والسودان ( 19501956)

بسم الله الرحمن الرحيم

في منزل الوحي

إنما الأعمال بالنيات

1- غاية الحياة في القرآن الكريم : العبادة الخالصة لوجه الله تعالي .. لهذا يقول تعالي : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات : 56).

2- والعبادة في عرف القرآن والإسلام لا تكون إلا بالعمل الصالح بعد التصديق والإيمان في القرآن الكريم ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا ) ( فصلت : 33) وفيه : ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) وفي الحديث الشريف ( ليس الإيمان بالتمني بل الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل ) .

وإذن فلا إيمان ولا إسلام إلا بالعمل الدائب والجهاد المستمر – وفي كل ميدان من ميادين الحياة وفي البيت والمدرسة والمصنع ودار الحكومة وساحات القتال .. إلخ كما فضل رسولنا الكريم وفقهاؤنا الأجلاء عليهم رضوان الله وسلامه .

3- والعمل بعد لا يعتبر مرضيا تمام الرضي في مقاييس الإسلام إلا إذا كان صالحا كما تري في الآيتين السابقتين من أى القرآن الكريم وإلا إذا كان مقنا كما يقول الرسول الكريم :" إن الله يحب العبد المتقن عمله " فالإتقان على هذا الوجه أمر أساسي في صلاح العمل .

4- غير أن جماع ذلك كله وملاك أمره النية الخالصة المجردة لوجه الله تعالي بحيث لا يكون رياء أو نفاقا أو جريا وراء الشهرة والسمعة أو تصيدا للذة أو للصالح الشخصي فإن خلوص النية والتجرد لله في الأعمال أمر لا يصلح شئ بغير صلاحه وإن عظم في أعين الناس وجل في أنفسهم وعقولهم ولذا عني رسولنا عليه السلام بتبيان ذلك كل العناية حتى لا تختلط على الناي الأمور وحتى لا يكونوا من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فكثيرا ما يندفع الإنسان في عمل ما لأنه يتلذذ نفسيا أو عقليا بذلك وهو يحسب أنه إنما في سبيل الله فيكون نتيجة ذلك الخلط بين الغرائز والميول الهاصة وبين ما يقتضيه الإيمان الصحيح فيصبح العمل هباء منثورا , فصدق إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعل النية ملاك الأمور وذروة سنامها فقال : " إنما الأعمال بالنيات ".

5- هذا ومن تمام الإيمان وصلاح العمل ألا يكتفي الإنسان بمجرد العمل المتقن الخالص لوجه الله , بل أن يسأل العبد ربه قبول ذلك العمل كما يسأله التجاوز ن سيئاته وخطاياه فمن يدري ربما أوصدت أبواب السماء دون ذلك وبعد ذلك كله إلا أن يشفع بدعاء غايته من الضراعة وحرارة الابتهال .

نسأل الله تبارك وتعالي أن يضئ قلوبنا بمعرفته وذكره وأن يثبتنا على الإيمان به ودوام عبادته وأن يكتب لنا الشهادة في سبيله والوفاة على سنة رسوله إنه خير سميع وأكرم مجيب

مدثر عبد الرحيم – كلية الخرطوم الجامعية

بسم الله الرحمن الرحيم

المرأة ...والمجتمع ..

( أ) اعتبارات أساسية

بقلم : الآنسة " زهراء "

قضية المرأة, كما يحلو للكثيرين أن يسموها , من المسائل التي كثر فيها الأخذ والرد واللغط والغلط . وهي على كل حال من المواضع المهمة التي يجب علينا أن نفكر فيها بجد ولا نجري وراء العواطف والأهواء وبصراحة لا نسعي إلا للحقيقة كيف كانت : ذلك أننا إذ نحاول تشخيص قضية المرأة والتماس العلاج لها إنما نمس مسألة بالغة الحساسية يوشك الخطأ فيها أن يودي بسلامة المجتمع .

وقبل الخوض في هذا الموضوع نود أن نوضح الأسس التي يجب أن ينبني عليها البحث والكلام في هذا الموضوع فيما نري :

1- الشمول لا الانحصار :

أ- درج كثير من الناظرين في قضية المرأة على التحدث عنها باعتبارها مسألة اقتصادية كما سمعنا آخرين يعتبرونها قضية سياسية خالصة بينما سار فريق آخر على هذا المنهج في الحصر الضيق ونظروا إليها من الزاوية الدينية أو الفكرية فقط .

ب- وعندنا أن هذه القضية متعددة الجوانب والوجوه ولن يفيد فيها علاج لا يستقبل منها إلا وجهة واحدة فلإصلاح الوضع الوضع الذي تعيش فيه المرأة نري أنه لابد لنا من رفع مستواها الاقتصادي , والمبادرة إلى تقديم تربيتها و الدينية والخلقية إلى جانب العناية بنموها الفكري وتنمية وعيها السياسي أما إذا حصرنا أنفسنا في زاوية واحدة من هذه الزوايا فلن نصل إلاّ إلى حلول عرجاء ضررها أكثر من نفعها

(2) الواقعية لا الخيال

جميل جدا أن نحاول الاستفادة بتجارب المرأة في البلاد الأخرى في التماس العلاج لمسائلنا في السودان وأجمل منه أن نتحمس لهذا الأسلوب بصفته واحدا من أساليب نستطيع استخدامها كي ما نصل إلى بر السلامة في أقرب فرصة .

ولكن.. ألا ننجرف في ذلك مع الحماس الدفاق والعاطفة الهائلة حتى نعمي عن الواقع الذي نعيش فيه فنصبح قرودا تقلد دون وعي أو أصالة أو تفكير . يجب أن ،ذكر دائما أن المرأة في البلاد الأخرى – شرقية أو غربية – قد نظرت في واقعها هي واستوحت تاريخها هي وبذلك توصلت لحلول تلائمها وترضاها فيجب علينا إذن أن نفعل مثلها – لا في تطبيق النتائج والحلول – بل في أسلوب البحث ومنهاج النظر فنضع نصب أعيينا واقع مجتمعنا ونستوحي تاريخ بلادنا وثقافتنا أولا وقبل استعارة النتائج والتحليلات في كسل مريض وقزامة مخجلة من نساء الشرق والغرب.

(3) تخصص اجتماعي

فوق هذا وذاك جميعا يجب علينا أن نذكر أن المرأة إنما تولد وتعيش وتموت مع الرجل وفي ظله – فلابد لنا إذن من تذكر هذه الحقيقة الأساسية وربط جميع حلولنا على قاعدة منها وهنا باعتبارها منافسة الرجل ومنازعته في الحياة , والحقيقة التي نريد أن نلفت إليها الأنظار بقوة وإصرار هي أن الصلة بين الرجل والمرأة ليست إلا صلة التخصص الاجتماعي من أجل إنتاج سليم , وليست صلة التنافس والنزاع الهدام و لا نقول هذا من عند أنفسنا وإنما هي الحقائق التي ينطق بها واقع كل منهما واستعداداته الطبيعية في الجسم والنفس والعقل ,كما ينطق بها تاريخ الحياة الإنسانية في كل زمان ومكان على هذه الأسس الثلاثة سنحاول الماركة في بحث هذا الموضوع بأسلوب جديد يلتزم الحقيقة والواقع لا يجري وراء العواطف والأحلام ومجاراة الآخرين

" الزهراء "