نحو المعالي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سلسلة رسائل العين
الرسالة الأولى .. نحـو المعالي


1- مذهب الإحتياط

في أول شبابي، يوم كنت صغيرا بعد في عداد ناشئة المساجد، وفي وقت مبكر قبل أربعين سنة: فطمتني عن اللهو تلك الهزة النفسية التي سادت الأمة عقب ضياع فلسطين، واستبدت بي عزائم الجد التي كانت تتصاعد كلما قرأت رسالة من رسائل فكر الدعوة الإسلامية، فلم أتردد في الاستجابة لأول داع يدعوني إلى " الدار "، دار الدعوة، فولجت مدخل الصدق بعد صلاة المغرب، فإذا شاعر الدعوة الإسلامية الأستاذ وليد الأعظمي يتوسط شبابا يقربون من عشرين يتدارس معهم فصلا من " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذري ، فالتقت نظرتي بنظرته برهة بعد السلام ، ثم قال : تفضل واجلس ، فكان أول أستاذ لي ....

ومنذ ذلك اليوم القديم كان يعظني ويعظ شباب جيلي، فيقف وقفاته المباركة في الجموع الحاشدة في حفلات المساجد وغيرها، فيزمجر تارة، ويرفق في أخرى ويتلطف، يتنقل بين معاني الخير، ويغرس غرسه في القلوب، كأن يقول:


كن رابط الجأش وارفع راية الأمل

وسر إلى الله في جد بلا هزل

وإن شعرت بنقص فيك تعرفه

فغذ روحك بالقرآن واكتمل

وحارب النفس وامنعها غوايتها

فالنفس تهوى الذي يدعو إلى الزلل

وكان أن استقرت مواعظه في قلبي، فنشأت معتقدا وجوب أنماط التربية الإيمانية في الطريق الدعوي، وأن تجاوزها إلى الشكل السياسي المحض محفوف بالمخاطر، وقد ينتج أفئدة فيها قسوة، ليس لها من الصفاء وفرة نصيب، ويؤدي إلى رجحان النفس الأمارة بالسوء على النفس الزكية، وهي التي عناها وليد بالمحاربة، وكل من يفقه آداب الإسلام وسننه يدرك تماما أن هذا السوء المعني ليس من شرطه أن يكون حالكا ثقيل الوطأة موغلا في الإغراب والإيذاء، وإنما يكفيه أن يكون لمما وصغائر وحالات ريائية وتحاسدية، مثلا، لأن الميزان الإيماني حساس جدا، ولفظ السوء يشمل هذه الأمراض القلبية، ومن ثم لزم أن يكون محيط الدعاة بريئا منها، بعيدا عنها.


•فخر عليهم السقف من فوقهم

ولذلك فهمت، ومنذ وقت قديم، وجوب وراثة الرعيل الدعوي الأول، وأن أرفع شعار " الاكتمال من خلال تغذية الروح بالقرآن الكريم والسنة المطهرة "، وأن أرصد نفسي للدندنة حول كل معنى تربوي يقود إلى تحليق الأرواح نحو المعالي.

وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله قد دخل مسجدا، فرأى فيه حلقة ظنهم في ذكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: "سبحان الله! هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل ، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين ، فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني أذى هذا المطر، فدخل، فإذا بيت لا سقف له. جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير ، على ذكر ، فإذا أنتم أصحاب دنيا " (1) .

وقد أسرني هذا المثل، وتجلت لي فيه حالة رهط الدعاة إذا غفل ولم ينشغل بالتريية، وكثر فيه ذكر الأموال والأسعار والنساء والسيارات.

رقاب منكسة... يرفضها طريق المعالي

والآيات زاجرة، تدعو إلى القناعة.

قال تعالى في سورة طه : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى } ..

وقوله تعالى: { أزواجا منهم } : أي أصنافا من الكفرة أو الفسقة.

( ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعُدَد الفسقة، في ملابسهم ومراكبهم، حتى قال الحسن : " لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب !!" ) (2).


وأنا وإياك لفي غنى عن معرفة لفظ غريب في كلام الحسن البصري، لنتجاوزه إلى رؤيته للظاهرة الواضحة في مواعظ الحياة، والتي لا يلحظها غير مسلم يصون نفسه، وهو تمييزنا لذل المعصية الثقيل على رقاب أهل الدنيا، فلقد صدق رحمه الله، وإنها لمسحة تعلو المترفين واللاهين فيسفلون، إذ طائع ربه العابد يسمو نحو المعالي.

فإنما نريد أن نعيذك بالله من الغفلة و الركون إلى زهرة الحياة الدنيا ، ليس غير ، و نحن الذين شجعناك - عبر روايتنا لك قصة صناعة الحياة - على أن تصفق وتسيطر على حصة الإسلام في الأسواق والمزارع والمصانع، ولكن ليكون المال في يدك .. لا في قلبك، وعلى نية منافسة حصة الفسوق والعصيان.

وإنك لتتقلب في البلاد العريضة، وتهاجر، وتقيم وتسيح، وتتاجر، وتتصدى لأنواع من الخير تظنها، وتطلب التمكين، وترجو السطوة والعز، فأنت وما يوفقك الله إليه، لا نحسدك على فضل تناله، ولا ننهاك عن طلب ثروة وسعة، ولا نسألك كشف حساب أو ضريبة أو حصة إرث، وإنما نسألك - أيها الأخ العزيز - عن دينك وتوحيدك وتوكلك وإخباتك ونوايا المعروف، ونتشبه بحرص يعقوب عليه السلام لما ( سأل البشير : كيف يوسف ؟


قال: هو ملك مصر!

فقال: ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟

قال: على دين الإسلام

قال: الآن تمت النعمة ! ) (1).

فإنما نريد أن تتم النعم على شباب يريد الإصـلاح في محيط قاس فيه أنواع الشبهات والشهوات، لنقول - إذ يطمئن القلب - مثل قول يعقوب عليه السلام.


لا ... ثم ... لا

وتذهب الفراسة التربوية فورا ومباشرة إلى أن تقرن الآية السالفة المزهدة بزهرة الحياة الدنيا بآية الاستقامة في سورة هود، في قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون }.

( يعني: فاستقم أنت، وليستقم من تاب عن الكفر ورجع إلى الله مخلصا ) .

( وعن الحسن: جعل الله الدين بين لائين: ولا تطغوا، ولا تركنوا ) (2).

فالطغيان : كل مجاوزة للحد تؤدي إلى الغفلة والإعراض عن الذكر . والركون إلى الظالم : يتناول صورا كثيرة، وليس هو أن نكون من جنده فحسب، بل ورجاء صورة خير منه أيضا، والثقة به، وطلب نصرته لنا، وتمني مثل ما عنده … كل ذلك كان سيؤه عند ربك مكروها.

وإن الواعظ ليدرك ثقل مثل هذه المعاني على النفوس التي تقادم عهدها في درب الإسلام، كأنها تتكبر عليها وتظن أن قد تجاوزتها، ولكن المجرب يدرك أن الشيطان يترصد، وله غزوات، وماذا على موعوظ إذا تقبل هذه الكلمات الممنوحة له مجانا فادكر ورأى اللاءات القرآنية ثانية وثالثة كما رآها أول مرة !!

وكان يقال: (النصيحة منيحة، تدرأ الفضيحة)

ويا لله كم من فضيحة غشيت مسلمين وثقوا بظالم وظنوا أن بيده مفتاح الفرج! ففريق منهم يثق بظالم فاسق من أبناء جلدتنا، وفريق يثق بظالم كافر يأتي من وراء دار الإسلام، وفاز وَقَّافٌ عند حدود الحلال والحرام واستعلى على جميع الظالمين وفاصلهم مفاصلة قلبية ولسانية وعملية .


حين تنصر الملائكة ورثة الأنبياء

ولذلك كان من موازين الحسن البصري رحمه الله: ترجيح مذهب التخويف في التربية، احتياطا وتعجيلا في الاستدراك، فيقول : ( لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تبلغ المأمن: خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف) (1).

ولا تستغربن ذلك، كأنك لست المعني، أو كأن جيلك بدعة في الأجيال، أو قومك ليسو على طبائع من سلف من الأقوام، بل النفس هي النفس دائما، وشكل عنفوانها واحد : يرخى لها، فتستكثر، وتستطرد، فتستكبر، وتغفل، فتخرج إلى ظلم، حتى يغلب على القرية الظلم، وتكون متمردة على وصايا الأنبياء، فيأتيها الحصاد. وكان يأتيها في الأيام الغابرة في صورة حجارة من السماء، وهو يأتي اليوم عبر هزة اقتصادية، أو حرب، أو تفكك اجتماعي، فيكون الضيق من بعد دهر من الترف :

{ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }

أي ( لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالا وخراجا فلا تقتلون. فنودي من السماء :

يا لثارات الأنبياء !

وأخذتهم السيوف .

فثم قالوا : يا ويلنا إنا كنا ظالمين . اعترفوا بذلك حين لا ينفعهم الاعتراف ) (1).


نعوذ بالله من سهو الخراصين وتدسية الخائبين

ولذلك كان الفقه الإيماني يرتكز كله على التفريق بين نفسين، والتحذير من اللهو أو السدر في السهو، ومقاربة أسباب الفتنتين، في دعوة للعلو، خوف الهبوط، وذلك هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكثر التخويف، استنباطا من مثل قوله تعالى : { قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون } فيقول: (أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة وما خلقوا له . وهذا يشبه قوله : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } .. فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة . ولهذا قال من قال: السهو: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. وهذا جماع الشر: الغفلة والشهوة.

فالغفلة عن الله والدار الآخرة: تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة. والشهوة: تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه، رائدا غير الله ، ساهيا عن ذكره، قد اشتغل بغير الله، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه) (2).

وواصل صاحبه ابن القيم رحمه الله طريقته، فيقول في مثل قوله تعالى: { قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها } :

(المعنى : قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله. وأصل التدسية: الإخفاء، ومنه قوله تعالى: { يدسه في التراب } ، فالعاصي يدس نفسه في المعصية، ويحمي مكانها، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به، قد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق . فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه، و مع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى، وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو) (1) .

وهذه منهما مواصلة لمذهب الحسن البصري وطريقته الآنفة، وكان قد وصل بينهما وبين الحسن جيل أوسط كثير عدده، جزيل قوله، وكأن ابن الجوزي قد انتصب لهم إماما أو فوضوه وكيلا يترجم خلجات صدورهم، عبر كشف تلبيسات إبليس، أو خلال اصطياده لخواطره، وكان رحمه الله يرى أن:

(من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل، فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط، ويقال لك: ابق بما اخترت. فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له: لم يزل في نزول) (2).

ثم رفع صوته ينادي : ( فالله الله في حريق الهوى إذا ثار، وانظر كيف تطفئه . فرب زلة أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع، والفائت لا يستدرك على الحقيقة، فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم ) (2)

فلئن كان الإجماع في فقه الأموال: إجماع الصحابة، أو إجماع جيل من أجيال المسلمين إذا وقعت بهم نازلة غريبة، فإن هاهنا في فقه الأحوال يتراكم إجماع الصحابة والتابعين وجميع الأجيال، وذلك سر شجاعتنا وعنادنا في الإصرار على هذا المذهب التربوي . وكان عبدالوهاب عزامرحمه الله، قبلنا بقليل، قد عرفه أيضا، حتى منحته معرفته الإيمانية ثقة، بها طفق يسيطر على نفسه ذات الخيارين - بإذن الله - حتى لكأن مفتاح التحويل القلبي بيده أسلس من مفاتيح الأبواب، ليس يحتاج إلا إلى لمسة ليستدرك أو يقصد الخير بعد كل ضياع، وروى تجربته في ذلك:

تسفل النفس بالصغائر حينا

وتضيق الحدود والآماد

فأحل القيود عنها فتسمو

فإذا بي الآزال والآباد (3)


وإنما يفهم قوله بمعاني المجاز وأبعاده.

فهو - بتمكين الله تعالى - مسيطر على ساحة المكان والزمان، يتجول في أعماقهما، بما وفقه الله إليه من فك الأسر وحل القيود.

وفي هذا تقرير لحقيقة إيمانية مهمة: أن مذهبنا في الخوف من الغفلات حق، ولكن هناك حقيقة أقوى من ذلك وأظهر وأجلى: أن الله يؤيد المؤمن بالعزائم، فتكون إرادته أقوى من نداء الشهوات، ومن هنا نستطيع أن نضع قاعدة في التربية الإسلامية: إن المؤمن يليق له أن يثق بنفسه، وأن يحسن الظن بها، وأنه مؤهل للأعمال الجليلة التي ندبه الله لها، من خلافة في الأرض، وإصلاح بين الناس، وتقويم كل اعوجاج، وما الخوف إلا طبيعة رقابية تتولى الحفظ والتنقية من الشوائب، لأن المحيط فيه غبار، الشيطان يثيره، ولأن الطريق فيه عثار، ابليس يمد رجله بين أرجل الراكضين ...

2- دعوة للسمو

يلحظ المراقب الناقد لصفات الأجيال الدعوية المتعاقبة نوعا من الهبوط في مستوى الالتزام بدقائق الأخلاق الإيمانية والذوقية، إذ ليس اللاحق على مثل جودة السابق، مع احتمال أن يكون أوعى منه سياسيا وعلميا، وأطلق لسانا، وأحكم تنظيما، ولربما وجدت اليوم شيئا من الغيبة، وسوء الظن، وسرعة الغضب، وورود اللفظ الخشن على لسان المتكلم، وعدم إباء أُذُن جليسه السامع لهذا اللفظ، بل وقد تطرب له، وهي أمور لم يبرأ الجيل الأول منها، ولكنها كانت نادرة، تأتي كالفلتات، أو يقل عدد المتورطين بها، بينما تترادف اليوم، ويزداد الاستدراج، بحيث أصابت الصورة المثالية التي كنا عليها ثلمة، وما زالت مثالية بحمد الله تعالى، لكن درجات الإحسان التي ندرج عليها توجب علينا براءة شبه تامة.

يظن البعض أن هذا التباين إنما هو ظاهرة طبيعية ناتجة من ارتفاع همة من يتولى التأسيس، تبعا لمعنى التحدي عند نشوء الدعوة في كل بلد، وهذا سبب صحيح، لكنه ليس السبب الوحيد ولا الأهم، والراجح أن هذه الثلمة إنما هي من تأثر بالمحيط العام والبيئة السياسية والفكرية والإعلامية التي تعقدت بعد التحولات الثورية في كثير من البلاد، فإن الداعية فرد في هذا المجتمع العام قبل انضمامه لتيار الدعوة، خاضع للمؤثرات فيه، ثم هو بعد انضمامه يخالط الفجرة مثلما يخالط البررة، في الجامعة أو عند أداء عمله المهني، وفي السوق والشارع والمنتديات العامة، بل يخالط فجرة من عائلته، من بين شقيق أو ابن عم وخال، فيقلدهم في أشياء، إذا غفل، ويسري إليه عيبهم دون أن يشعر، وتظهر على لسانه عبارات عامية يفترض أن يتعفف عنها طالب العلم وصاحب الفكر، بله المتوضئ، ويفعل النشاز الذي يأباه الذوق أو ترفضه المروءة، إذا شاهد فاجرا يذهب في الإسفاف إلى أبعد منه، كأنه يفتي نفسه بأنه أفضل من ذاك المسف المبعد، بدلالة الاقتصار منه ومدى الاختصار ، ذاهلا عن أن الثلمة الصغيرة التي لم يستكبرها يمكن أن تشوه الصورة وتعكر الصفاء أيضا، وأنها سبب في ضعف الحساسية الإيمانية التي تمنحه الأنفة عن الابتذال، والعزة على أهل السوء.

وليست هي الخلطة فقط، وإنما مثلها ردود الفعل لأساليب الأحزاب العلمانية وأنواع تصرفات منتسبيها وأفكارهم التي يعرضونها، إذ تكون ردود الداعية أحيانا على غير ما فقه صائب إذا استفزه الحزبيون، وكذلك اللغة الصحفية والإذاعية الرديئة المبنى والجرس والنبرة فضلا عما فيها من معنى منحرف وشتيمة وظلم واستهزاء وحشو، كل ذلك يقسي قلب المسلم عن طريق التقليد اللاشعوري لما يسمع ويرى، ويجعل الجرأة على الفاضل مستساغة عنده، فيقل احترام الكبير، من أستاذ أو شيخ مرب أو أمير متقدم، وتكون منه أنواع من المنافسة للقرين المماثل، من حسد خفي أو صريح، وتكذيب، ويصبح يضيق به ذرعا إذا رآه يأتي من العمل ما يعجز عنه أو يكون أفصح في درس أو كتابة مقال ، ولربما تجاوز عدوانه الكبير والقرين ليصيب المستجد والتلميذ والناشئ الصغير، فيتعامل معهم بلا رفق، ويكثر منه الزجر لهم والقسوة عليهم.

إنها فلتات لا يبرأ منها رجال منا، ولسنا نتكلف التهمة لهم، وإنما هناك قرائن تشهد وحوادث ترتكب، وابن آدم لا بد أن يلازمه خطأ، والشيطان يستزل، والموفق من لم يغالط نفسه ويغالط الآخرين، وتكون له مسارعة إلى التوبة والعلاج والترميم والاستدراك، بدل المكابرة والإصرار، وإذا كان أحد من منحرفي النفوس يعتاد التشهير بنا معتمدا على مثل هذه المكاشفة فإن المفروض أن لا يصدنا ذلك عن كمال المصارحة، إذ نكله إلى نيته الحائدة عن الحق والإصلاح، ونلوذ بعز التوبة.

إن ظاهرة نقص الأفراد هي من الظواهر المبتوت بصحة وجودها، وإنما أردنا أن نثبت بكلامنا آنفا ما هو أوسع من ذلك، من تأثر جيل بكامله برداءة المحيط والبيئة، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، وأما الغالبية فقد ألمت أو قارفت، وكأنها تورطت، لكن منهم الموغل المكثار، ومنهم المتخفف، ومنهم صاحب الفلتات النادرة.

إن هذه الملاحظات لا يلاحظها أفراد الأجيال الجديدة، لأنهم لم يعيشوا لذة صفاء الأجيال السابقة القديمة قبل أن تفسد الحزبيات والثورات البقية التي كانت باقية من جمال الحياة، مع قلة حجم تلك البقية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ويمكن أن يدرك ما نقول الأخوة القدماء الذين عاصروا بداية الدعوة ومراحلها الأولى، يوم كان الخير في الناس وافرا، وبين الدعاة عامرا، ويوم لم يكن الحاكم يتفنن في أذى الشعب كما يتفنن اليوم ويبتكر، ولا يرغمهم على سماع اللغو منه أو من إذاعته وتلفازه وصحفه كما يرغمهم اليوم.

ويظن البعض أن وجود ضعفاء من الجيل القديم تؤثر عنهم مثل هذه الأدواء ينقض صحة هذا الاستنتاج ويدفع التهمة عن الأجيال الجديدة . وليس هذا الظن على سعته، لأن الذي يرى ضعيفا من القدماء فهو إنما يرى نموذجا واهن التكوين أصابه المحيط الملوث أيضا، واستوى مع الجدد في ذلك، وتلك زيادة تأكيد على صحة ما ذهبنا إليه، فإن فساد البيئة إذا كان ينحت فضل القديم الراسخ فأحرى أن تلين أمامه قناة المستجد الطارئ، وإنما أردنا الإشارة إلى موقف هذا القديم في أيامه القديمة التي هي أقرب إلى النقاء وبيئته التي كانت محافظة على مزايا الصفاء: كيف أنه كان أنزه روحا، وأسلم قلبا، وأجود معدنا، وأشد ركنا.

والمتفحص للأمر، المقارن بين قصص الحياة اليومية الحاضرة والماضية، يجد أن التأثر بالسوء حاصل بصورة عامة لدى جميع الناس بصورة أعمق، وأن الخير والفعل الجميل في تناقص، بل أن الذي نسبناه للدعاة ما هو إلا بمقدار عشر المعشار منه، وتولدت في الناس غلظة وجفوة وقطيعة رحم ما كان يعرفها الجيل الذي عاصر حياة ما قبل الحرب العالمية الأولى مثلا، يوم كان العرق الأخير للدولة العثمانية ينبض، حتى أصبحنا نرى من عقوق الوالدين والعدوان على الجيران والغش في التعامل والبخل على الضيف والظلم عند المقدرة أشياء كان يتعفف عنها الناس سابقا، أغلب الناس .. وحتى أصبحت الحكايات الحقيقية لمكارم الأخلاق، والتي كانت اعتيادية: ضربا من الرمز والخيال المستبعد تكراره في تقدير من يسمعها، وهذا الوضع كان وما يزال مستمرا في بلاد عديدة، وبداياته تتزامن مع تطبيق مناهج التعليم الحديثة قبل ما معدله ستين سنة، أو أقل أو أكثر قليلا، ومع ما صاحب ذلك من انفتاح على الغرب والشرق، ومع نشوء الصحافة المقلدة للصحافة العالمية التي يسيطر عليها التوجيه اليهودي، بل نجزم أن بلاد النصارى في الغرب، وبلاد البوذية وأمثالها في الشرق، كانت حياتها الماضية لا تخلو من تراحم بين أهلها، وبقايا عفة، وآثار مروءة، هي خالية منها الآن.

إننا لا نريد بهذا الكلام أن نقذف يأسا في قلوب الدعاة، أو نولد إحباطا وشعورا من الأسف أو الزهد بالعمل الإسلامي ونتائجه، ولم نسرد خبر الأمس واليوم من أجل متعة تاريخية أو إثبات حقيقة إحصائية، وإنما أردنا توجيه الغد، وأن يكون لنا في التجربة موعظة. إن لكلامنا مقاصد خمسة:

•الأول: إيراد نمط من التحليل والتسبيب يوسع آفاق تفكير الدعاة إذا أرادوا فهم ظاهرة معينة في الحياة الدعوية، بحيث تتكشف جذور المسألة وجذور المداخلات التي تحيط بها، وضغط المجتمع، وتأثيرات السياسة.

•الثاني: إخراج الداعية من الإطلاق في الحكم على الأمور، إلى النسبية، ومن الاستعجال، إلى التأمل، ومن العفوية، إلى المنهجية، ومن الغفلة، إلى نقد الذات والتدقيق مع النفس، مع أن هذا المسلك خطر، إذ أن بعض المنافسين والحاسدين سينحرفون بهذا المقصد النقدي الإصلاحي الواعظ إلى جعل كلماتنا وثيقة اتهام لنا يدللون بها على ضعفنا، وما دروا أن الحساسية المفرطة هي التي تنطقنا، وإن صف الدعاة - بحمد الله - أنقى وأرفع من أي صف آخر رغم ملاحظتنا.

•الثالث: الانتصار للأجيال الجديدة! وإعادة الاعتبار لها إزاء أحكام يصدرها عليهم بعض المتشددين من أفراد الجيل القديم، بتقرير ما ذهبنا إلى ترجيحه من أن هذه الأجيال إنما هي ضحية البيئة الملوثة أخلاقيا وفكريا وسياسيا، وأن الخيرية مركوزة فيها أيضا، ولكن تغطى شيئا منها الأوساخ المحيطة أو تميل بها العواصف الداهمة! وأن هذا كله من دلالات الظاهرة التربوية العامة التي تجعل تأثر كل فرد بالمسموع والمنظور محتملا، ومن نتائج تضاد التربيات المتزاحمة.

•الرابع: إثبات وجوب التربية التي تعالج هذه السلبيات الأخلاقية، وضرورة أن يتواضع كل داعية أمام ما تستوجبه هذه الظاهرة من خضوع لمنهج يعظ القلوب بكثافة، ويعيد ذكر بديهيات الطريق وأسس الإيمان والأخلاق ، وليس بصواب أن يضع داعية نفسه فوق التربية، ويستعلي على حديث يزجره عن السوء ولو سمعه مائة مرة، فإن في النفوس - كل النفوس - قابلية لطيش في أوقات الغفلة، فتنزل إلى مستوى العوام، وان استقام صاحبها على دين الخواص الفقهاء العباد دهرا، أو حاز على أعلى شهادة وأرقى منصب وأضخم رصيد مالي، بل وإن ابيضت لحيته وتجاوز الكهولة سنه.

•الخامس: التخطيط الدعوي لإصلاح أخلاق الناس عامة وأذواقهم وأعرافهم، وإعادة إحياء عواطفهم، وتجديد الحس الإيماني بعد ضموره فيهم، ويبدأ هذا التخطيط والتنفيذ له ابتداء من يومنا هذا في مرحلتنا التي نحن فيها، رغم ثقل أحمالنا وجزالة همومنا، ثم يمتد إلى مراحل التمكين، بل يجب أن يتركز هذا التوجه آنذاك ويشتد، وليس من شأننا أن نخطط سياسيا واقتصاديا فقط، أو نبث علم اللسان فحسب، فإن طريقنا يمر قبل السياسة والاقتصاد وخلاف الفقهاء بتطهير الجنان. إن دعوتنا هي دعوة المروءة والنبل والعفة، ورقة التعامل والذوـق الرفيع، قبل أن تكون دعوة سياسية، أو حملة جهادية، أو مدرسة علمية، ولن ينزل الطغاة إلى نهاياتهم ما لم تتسام أخلاقنا صعدا، ونعود إلى بداياتنا..

3- زيادة هم لا نقص همة

دعاة الإسلام على خير إن شاء تعالى.

والدليل على هذه الخيرية الوافرة الجميلة : ما عندهم من حساسية إيمانية، لدى جميع طبقاتهم، تدعهم في سؤال دائم، يكاد أهل صنعة التربية فيهم يتلقونه من الجديد منهم والراسخ، يستفهمون فيه عن ظاهرة ضعف الهمة: ما أسبابها وما علاجها؟

إن هذا السؤال المتكرر يكشف لوحده عن همة ضافية، والقرينة تصرف الطلب إلى طلب كمال الهمة، ودرجاتها العالية، وطورها النموذجي، فإنهم إذ يسألون، يسدر غيرهم من المسلمين في الغفلة، بل قد يكون بعض الغافلين أحرص من الدعاة على صف الصلاة الأول، أو أظهر علما، أو أفصح لسانا.


•فرسان المدينة الفاضلة يرثون عمارة الإيمان

إن المفتش عن صور العمارة الإيمانية المأثورة عن السلف، من مجاميع زهاد يتجردون، أو أرهاط أقوياء يجاهدون، أو عشاق جنة يتهجدون: يجد الدعاة في هذا العصر قدر ورثوا أكثر بقاياها، واستبدوا بالحظ الأوفر من أسهمها، وغيرهم يقتتل على أسهم الشركات لا يدقق حلالها من غررها، ويلهيه الصفق بالأسواق، يستهويه نشاز ضجيجها وصخبها، أو تشغله المناصب ومفاتن النساء، وربما كان أعلى السائبين همة من يلهو بالمباح، ويظن أن التعفف عن الحرام أبعد المناقب وأشرفها، وإنها كذلك، لولا أن إنكار المنكر أشرف منها.

إن دعاة الإسلام اليوم، ومن على سنة التربية منهم بصفة خاصة: ليس فوقهم إلا الملائكة، بما لهم من نقاء قلب وطهارة جوارح، وغيرهم من الناس يأكل قلوبهم التحاسد، ويعمّهم التحايل، ويتربص بعضهم بعرض بعض وبماله، حتى لا يأمن الرجل ابن عمه فضلا عن جاره.

بل يتميز دعاة الإسلام حتى وفق المقياس المدني، فإن أحلام الفلاسفة المثاليين القدماء قد تبددت، ولا يمكن أن يجدوا اليوم رجالا تنطبق عليهم أوصاف المجتمع الفاضل الذي دعوا إليه في غير المتدينين . بل حتى أخلاق فروسية العصور الوسطى آلت إلى الاندثار، من النجدة والشهامة والمروءة، ولم تعد مجسدة في غير دعاة الإسلام.


لقد كان فضل الله علينا عظيما، ثم فضل التربية الدعوية التي ألهمها الله الرعيل الأول الذي أشاعها، حتى بتنا مرفوعي الرأس نتباهى بشرفنا وميزاتنا، ولكن مع ذلك يبقى السؤال عن علاج اللامبالاة والفتور وضعف الهمة سؤالا واقعيا، والجواب عنه واجب، وذلك لأن طلب الكمال سنة المؤمن، واتهام النفس بالتقصير علامة إيمانية، وإنما كان فخرنا بالخيرية والسمو على أناس يشوبهم النفاق لا على قوم مؤمنين.

كذلك تظهر واقعية السؤال من باب آخر: إن مجتمع الدعاة على طبقات، منهم القدوة السريع الهمام، ومنهم المقاد المتثاقل، والواجب أن نمد يدا من المساعدة جاذبة، وأخرى ماسحة حانية، لهذا الثاني البطيء.


علم الهندسة النفسية

لكن أهم ما يجب أن ننتبه له إذ نحن ننتظر وصفة العلاج: أن الجواب لا يمكن أن يكون نظريا بحتا أو أن يوضع من وراء حجاب، بل لا بد من معاينة وتشخيص من خلال التعامل، وإلا كنا مثل طبيب المجلات، يسأله القارئ، ويجيب عن بعد، دون أن يعد نبضات قلبه، أو يقيس ضغطه وحرارته، أو يتفرس في وجهه ويميز صفرته من حمرته، وجواب مثل هذا يكون الخطأ فيه كبيرا.

ومن هنا فإن مهمة مثل هذا الكلام أن يضع الموازين والقواعد لا أن يشخص الحالات، وسبب ذلك أن النفوس مختلفة، لكل نفس هويتها الخاصة التي لا تكاد أن تشابهها نفس أخرى، حتى لأنها مثل بصمات الأصابع في دلالتها على هوية الشخص، لا تتكرر أبدا، وإن كانت تتقارب، فهناك لكل شخص (هوية نفسية) يجب أن نفحصها ونتعرف عليها قبل أن نحكم عليه في قضية يتعلق الحكم فيها بهذه الهوية ويتأثر بنوعيتها، وقضية الفتور في العمل الدعوي من ضمن هذه القضايا. وإنما تنشأ اختلافات النفوس من حقيقة أن كل نفس هي عبارة عن (خلطة) أو (مزيج) أو (تركيبة) من صفات شتى متضادة، صفات خير، وصفات شر.

فمن جانب توجد الشجاعة، ويوجد الكرم والحلم والصبر، وبقية الصفات الإيمانية الحسنة، ومن جانب آخر يوجد الجبن والبخل والحسد وسوء الظن وبقية الصفات السيئة، ويختلط مقدار من هذه وهذه في بوتقة واحدة وبمقادير معينة، فتكون نفس فلان، وبمقدار آخر، فتكون نفسية أخرى، في تعدد وتنوع لا حصر لهما يجاريان كثرة الاحتمالات الرياضية للتوافيق والتباديل بين الصفات الجزئية .. وكما أن جميع معادلات الرياضيات نشأت من الأرقام العشرة، الصفر إلى التسعة، فإن جميع النفوس نشأت من تلك الصفات، فنفس فيها 10% من الكرم، ونفس فيها 90% منه، وبينهما درجات.

إن هذا الفهم للتركيب النسبي للنفوس هو أحد أهم القواعد في التعامل مع النفوس في كل أحوالها، وهو وإن ظهر للوهلة الأولى أنه البديهية التي لا يحتاج أحدنا إلى أن يذكر بها، إلا أن التجربة التربوية تشير إلى أن هذا الفهم كان كثيرا ما يغيب عن بال المربين وواصفي العلاج.

بل أكثر من هذا، فإن (الخلطة) الواحدة التي تتكون منها نفس شخص ما ليست دائمة، بل لها تغير كبير واضح في كل حقبة، وأصغر منه في كل سنة، وأصغر منه في كل موسم، وأصغر منه في كل يوم، ولو كانت النفوس جامدة لا تقبل التغير لما كان للوعظ دور، ولا للتربية معنى، لكن أغلب هذا التغير إنما يكون بالتطبع وقسر النفس على الظهور بمظاهر معينة والقيام بأعمال ثقيلة عليها، وإن كان طول التطبع قد ينسي النفس طبعها القديم وتتحول المغالبة إلى عادة ميسورة.

من هنا ينتفي صواب وصفة مطلقة للعلاج، بل لا بد من دراسة ميدانية للظواهر العامة وتشخيص أسبابها وتاريخ ظهورها، ولا بد من إقامة علاقة ثنائية مباشرة قبل الإفتاء في الظواهر الفردية الخاصة تتيح اكتشاف جذورها .


منحة... بين فطرة وآهة

ولعل من أهم موازين العلاج: إدراكنا تعلق المسألة النفسية ببقايا الفطرة في كل شخص كمثل تعلقها بالإيمان المكتسب، وهذا المعنى مستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) . فالذي لا يسعفه أساس فطري متين لا يرقى به إيمان مستحدث لأكثر من الدرجات الدنيا، ويبقى العلو صعبا عليه، وقد تكون الفطرة في شخص ما متلاشية ليس لها بقايا، وهي في الأنبياء أوفر ما تكون، باقية بتمامها، ويشير إلى ذلك قول جبريل عليه السلام: " أخذت الفطرة "، لما مد النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى اللبن في المعراج وترك الخمر (1)، وما بين الأنبياء وأصحاب الفطر المتلاشية درجات لا حصر لها .

ومن الموازين أيضا: اعتقاد وجود عنصر مؤثر ثالث غير الإيمان والفطرة، وهي المنح الربانية المحضة لمن يحسن إيمانه، مثل الإلهام، وصدق الرؤيا، وصحة الفراسة، والمحبة أو المهابة التي تلقى في قلوب الناس لمؤمن ما، وأنواع أخرى من الكرامات المعنوية، وهي من فروع الإيمان وثمراته بلا شك، لكنها فرع مستقل مكافئ، وهذا الاستقلال آت من أن حصولها لا ينضبط زمانا أو كمية وفق القوانين الحياتية الظاهرة المحسوسة التي يمكن أن تعرف بالقياس والمشاهدة والاستدلال وحتمية الارتباط بين المقدمة والنتيجة، وأمثال ذلك، وإنما تحصل بفضل بحت من الله تعالى، وصحيح أنها إنما تمنح لأهل الإيمان العالي، لكن هذه القاعدة لا تخضع لقياس، لأن الإيمان سر، ولا يدري حتى المؤمن نفسه في أي أجزاء الإيمان وأخلاقه تكمن الأهمية، لأنها متعلقة بالظروف المحيطة وبالأشخاص المقابلين الذين يتعامل معهم المؤمن، وقد تكون كلمة معروف في آن تجاه شخص، أو حكم بعدل : أفضل من عبادة طويلة، مثلا ، وكذلك ستر مؤمنة بل أنثى ولو كافرة، ويشهد لهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم للكلمة التي تدخل قائلها الجنة أنه (لا يأبه لها)، وتتوالى ظنون الخير في أفعال الناس - بله المؤمنين - حتى ليغفر لمومس تسقي كلبا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك من فضل الله عز وجل، ليس عليه بواجب كما توهم بعض المبتدعة، بل إن شاء.

ومن الموازين أيضا: أن (خلطة) الصفات هذه لا تكون اكتيالا لكل ما هو محمود منها، جزافا دون اختيار ومقدار، وإنما يجب أن يحل التناسب بينها إن لم يكن التكافؤ والانتقاء، فإن في القلب قناة وحيزا لكل صفة فاضلة، لو فرغ منها وملأته صفة أخرى تضاعف حيزها ومكانها لحصل طغيان في تلك الصفة زائد عن حد الاعتدال، فيخرج المرء إلى تطرف، ففي القلب مثلا أماكن للشجاعة والكرم والصبر والحلم، فما من مبالغ في صفة من هذه الصفات إلا كانت مبالغته على حساب الصفات الأخرى، ناحتة منها، وقد أشار الإمام الغزالي إلى قريب من هذا المعنى، وقد يكون هذا هو سر لغز انهيار بعض المبالغين في الحماسة والمناوشة والتحدي وحب الصدام عند المحن والفتن، لأن صفاتهم هذه نحتت من صبرهم وأزاحته وسكنت مكانه، واختل التوازن الكمي في خلطة صفاتهم، والله أعلم .. وقد قلت هذا بين يدي الأستاذ صلاح شادي رحمه الله مفسرا له ظاهرة سرعة انهيار دعاة الصدام في المحن، فاستحسنه مني . ومن الموازين أيضا: أن هذه الحياة لا تؤثر فيها الصفات النفسية الإيجابية فقط، بل يؤثر فيها السلب أيضا، بقدرة الله تعالى، فالمظلوم المتحرق، والحزين المنكسر، والملهوف المشتاق، والتائه التواق، كل أولئك في تعطل وانعزال وانسحاب وسكون وتسليم، لا يقدرون في أكثر الأحيان على شيء من المدافعة واتخاذ الأسباب، فإذا فوضوا أمرهم إلى الله تعالى: انتصر لهم بلا فعل منهم غير المعنى الذي تفور به قلوبهم، حتى الكافر ينتصر الله له من ظالمه.


نسبية التوثيق والتضعيف

ومن الموازين : أن لا تتعسف في نسبة فتور لداعية في ميدان لم يخلق له، بل كل ميسر لما خلق له، وليس الاتصال بالناس ونشر الدعوة بينهم هو المقياس الوحيد لجدية الداعية، بل يمكن أن يكون موهوبا في الفقه، فانسب له الفتور في التفقه إن عطل ذكاءه وموهبته، ويمكن أن يكون موهوبا في الأدب، ولك أن تفتش عن أسباب قلة كتابته وانسداد قريحته، وقد يكون ماهرا في التحليل السياسي، فتستغرب أن لا يكتب التقارير أو المقالات، أما أن تريد من الشاعر دق أبواب الناس، ومن السياسي التشمير مع الناشئة ورحلاتهم وتجوالهم، فقد أرهقت نفسك مثلما أرهقتهم.

الآن، بكل هذه الموازين حاكم هؤلاء أشباه الملائكة الأخيار إذا فترت هممهم أو قلت حركتهم، وستجد من جميل أخبارهم ما يثنيك عن التهمة والملامة.

إن التحقيق الذي يقترن به استحضار هذه الموازين في فهم النفس وأحوالها وما ينتظر لها أو يوهب لها: يبدي أن دارنا ليس فيها متهم، بل الكل ثقات، والجميع نبلاء، ولكن الهموم استولت فربطت أقداما مسرعة، ولفت أشرعة مبسوطة، وأثقلت أجنحة لطالما رفرفت.

إنها زيادة هم استولت فدوخت، ليس ثم كسل وتفريط وفتور ونقص همة.

نعم، هناك فتور وضعف في الهمة، لكنه لا يظهر كعائق نفسي أصيل، وإنما هو ظاهرة عرضية جانبية لواقع صعب، والكشف عن الأسباب والجذور المكنونة لهذا الواقع وتشخيصها أول العلاج، وثم مبتدأ الجواب.


طوق.. وحصار.. وإيغال في اللؤم

قد يكون الداعية مشتاقا للبذل، محبا للعمل، لكن تعقله متاعب تثيرها زوجه، أو رسوب في امتحان، أو خسارة في تجارة، أو علاقة متوترة مع رئيس في المهنة.

وهل من داعية اليوم تخلو حياته من أن يعكرها ظلم مركب متعدد الأنواع، من بين قتل قريب أو حبيب، أو سجن حتى قضبان الزنزانة تمل من طوله وتضجر من قسوة وراءها، أو تشريد إلى دار هجرة يقل فيها مورده من بعد عز، ويضطر فيها أن يداري، ويغض الطرف ويسكت ، وقد كان هو من قبل أستاذ الصراحة، فصيح اللسان رفيع الصوت؟

وأي داعية أصبح لا يقول للصعلوك الثوري في بلده، أو للحدث الحالي في دار هجرته: أيها الأستاذ، وأحدهما لا يساوي فلسين أحمرين؟

وأي داعية ليست تعركه مشكلة الوثائق وجواز السفر والإقامة والغرامات ومقابلة مانعي حقوقه؟

وأيهم لم تفركه تعقيدات أحوال الأولاد في المدارس؟

وأي مهاجر مشرد لا تشتاق زوجه إلى أمها وأخواتها وبنات عمها ولا تخنقها العبرات؟

وأي رجل تموت أمه ولا يحضر جنازتها ثم يصبر، ويموت أبوه ولا يصلي عليه؟

هذا كله إذا كان عديم الإحساس بقضايا الأمة، ولا يقشعر جلده لمذابح بورما والبوسنة، ولا تستفزه مأساة الأفغان، ولا تفجر شفقته مجاعة أفريقيا.

إنها بطولة حقيقية أن يصمد داعية أمام كل هذه الضغوط النفسية، الخاصة والعامة، وأن لا ينهار، وقد أرته السنون نجوم النهار...!

ويتوهم بعض الأخوة حين يظنون أن هذا النمط من الاعتذار عن أصحابهم والتوكل عنهم في التعبير عن أحاسيسهم وقضاياهم نوعا من التلقين لهم، وتشجيعا للفاترين أن يفلسفوا برودهم، وأن الحث أولى، والإدانة أدعى.

ولسنا نرى ذلك، فإنا إنما أردنا إثبات منقبة أولئك العاملين الذين ما زالوا يحلقون في الأجواء العالية ويسرعون في المدارج الصاعدة، فإنهم شركاء الفاترين في التعرض لكل تلك المتاعب، لكنهم تجاهلوها وتحدوها فكانت نفوسهم أكبر من هذه المثبطات، وفي الإشارة إلى منقبة هؤلاء موعظة لأهل الفتور أبلغ من التبكيت، إذ هي قصص يومية من التسامي على الظروف المعاكسة تدعو لاقتداء والتحاق بركب الجد واحتقار المصاعب والصبر على المكارة والنظر إلى أجر هو في الآخرة جزيل، وتطرد هذه المنقبة حتى لمن لم تصبهم بحمد الله محنة من أهل بلاد الغنى والترف، مثل الخليج، فإن المتجردين من الدعاة فيها، وفتنة المنصب الحكومي والجاه المتاح، ليستا أقل تسبيبا للفتور من المصاعب والآلام، وفي التعالي عليهما منقبة وبطولة.


فتش عما وراء الأكمة

هذا مقصد في تبرئة الفاترين والذين ابتلوا بأمراض اخرى، ومقصد آخر أردناه: أن الملامة لا تحرك متكاسلا، ولا تشفي مريضا، وأنه لا بد من التحول إلى التفتيش عن الأسباب الخفية ومعرفة الثغرة التي ولج منها الألم فأقعد، أو تسللت منها اللذة فأذهلت.

ومقصد ثالث قصدناه: أن بعض الفتور غير نفسي، وإنما تتهم في تسببه خطط التشغيل، وهذا مبحث تستوفيه الآراء المطروحة حول عوامل الجدية الجماعية، وفي ذلك إشارة إلى أن قضية الفتور لا يستوعبها نظر واحد من زاوية واحدة، بل يجب النظر إليها من زوايا كثيرة، وزاوية النظر هاهنا في هذا الكلام هي الزاوية النفسية.

لكن كل هذا النضال عن القوم الذين ظلموا ففتروا فتوهم العاملون ضعفهم وتسيبهم لا ينفي وجود أفراد في الصف ألهتهم عن الجد أمراض القلب، وركن بهم حب الدنيا عن نجدة إخوانهم المسلمين، ولو أنكرنا وجود هؤلاء لوقعنا في المبالغة المذمومة والمغالطة المفضوحة، لكنهم العدد الأقل، ويبقى ميزان التفتيش عن خلفياتهم النفسية صحيحا أيضا وضروريا للكشف عن أسباب فتورهم، فمنهم من تجده حسن التوجه ويفهم الدعوة، لكن قلبه ما زالت تعكره بقية من حسد يشغله عن العمل الصالح إذا ربح قرين له ربحا تجاريا أو نال مركزا مرموقا. ومنهم من يعشق الرئاسة والصدارة، فيظل ساخطا إذ أبعد عنها، فيصرفه سخطه عن التصدي لإرشاد الناس، وكل خلق آخر مذموم يمكن أن يؤدي إلى شكل من أشكال الحياة السلبية، وهؤلاء الرهط تنفع معهم الموعظة، فتكون بالإيماء، وإلا فبالصراحة وإلا فبالخشونة والتقريع، ولن ينفك مخلص عن اتعاظ إذا كان معدنه صافيا ولم يزد ذهوله عن أن يكون غفلة اعترت، وذو الشوائب يبتئس ويتعالى على النصحية، فينتكس، وليس الصف عليه بحريص، ونتأول لأنفسنا أنها تجربة تجميع معرضة للخطأ والصواب، أصابت كثيرا، والبركة فيمن ثبت وتواضع وانشرح قلبه لوجود ناصح له، وأخطأت قليلا، وسلوتنا أن السيرة المطهرة لم تبرأ من ظاهرة المخلفين.

كل هذه الموازين سهلة الاكتشاف والتطبيق إذا كانت الأخلاق المستولية على الشخص المدروس من الأخلاق المشهورة والصفات الواضحة الرئيسة، محمودة كانت أم سيئة، لكننا نكون أحيانا إزاء حالة مشكلة إذا كانت الصفات المسببة من الصفات الخفية.

من أمثال ذلك: ضيق الداعية ذرعا بمن يخالفه في الرأي، وعدم استيعابه له: هو من الأخلاق الخفية، وسبب عزوف المخالفين عن العمل.

وكذلك: قسوة الأمير على أعوانه، وفهمه وجوب الطاعة بشكل يابس، هو من خفي الأخلاق، وتسبب النفور الذي هو أبعد من الفتور، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رحيما، والرحمة وخفض الجناح تليق لكل أمير.

كذلك يحل بالأتباع إزاء هذين الخلقين ما هو مثيل لهما في السوء، فبمقابل ضيق الداعية برأي المخالفين يكون إلحاح التابع، وطول نفسه في الجدل والاعتراض حتى لكأنه يتنطع. وبمقابل قسوة الأمير يكون إسراف المقود في التفلت وعدم الاكتراث بالنصيحة وكثرة استنباط الأعذار وطول التشكي، وما إلى ذلك .. وإنما أردنا من هذين المثالين وعكسهما الإشارة إلى أن نقص النفس المؤدي إلى الفتور يكون في الطرفين، وليست الإمارة شهادة عصمة، ولا الانقياد مبرر تدلل واتكال.


إقبال .. و إدبار

ومع ذلك فإن الحذر في التشخيص واجب، إذ أن بعض حالات الفتور هي حالات وقتية طارئة، وعلينا أن نستقبلها كظاهرة طبيعية دونما جفلة واستكبار، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ( لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة) ، والشرة: أقصى الجد، ومن بعد كل جد فتور، وهذا يعني أن حياة المؤمن ضفيرة من سلسلتين، سلسلة جد وسلسلة فتور، تتداخلان، فبين كل جدين فتور، وبين كل فتورين جد، وتتشابك معهما سلسلة ثالثة من الأخلاط تطيل الفتور أو ترجح الجد، وفق ظاهرة (الخلطة النفسية) التي قلناها آنفا، والإيمان يزيد وينقص تبعا لذلك، ولأسباب أخرى علمها عند الله، أي كأن هناك ثوابت نفسية تسبب الشرة والفتور وتعاقبهما، لكن الأخلاط المتأرجحة غير الثابتة ترجح مدة ودرجة كل منهما، وقد رصد بعض الصحابة للقلوب إقبالا وإدبارا، فأوصى بإلزامها العمل عند إقبالها، والرفق بها عند إدبارها.


لا تخدش عزة النفس

فإن كان التشخيص فليكن العلاج الرفيق، فإن النفس لا تعاقب، وقد غلط الصوفية إذ سنوا سنة عقابها بحرمانها من المباحات، والإثقال عليها في الأعمال، يريدون استدراك تفريط الماضي بمضاعفة واجباتها، ومثل هدا الإرهاق قد يؤدي إلى نتيجة عكسية وإلى ملل بعد حين قد يجر إلى نكوص، والمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

أما أن بعض النماذج تتحمل الأثقال فتلك هي النفوس القوية، وحين يضرب عمر بن عبدالعزيز لها مثلا أو أضرابه فلكي يكون رمزا لو كنا على عشر ما كان عليه لكنا على خير وافر، وأما حرفية الاقتداء فتلك أمنية بعيدة المنال، يهب الزمان لها واحدا في الأمة على مدى قرن، ولكن نسدد ونقارب، والناس كإبل مائة، هزال مترنحة مسترخية، وراحلة شديدة سباقة واحدة.


الحصيرة... عرش الداعية

فإن لم يكن إرهاق النفس سائغا، ولا انتظار النفس الرمزية واردا: لم يبق لنا إلا الطريق الأوسط الأقرب، طريق تلاوة القرآن، والصلاة، واللبث في المساجد، وحلق الذكر، وتهجد الثلث الأخير، وزيارة القبور، ومجالس العلم، وغدوة النهي عن المنكر إذا انطلق، وروحة أمر الأصحاب بالمعروف إذا آب، وعلى هذا دل الهدي النبوي الشريف، ومن لم تحلق به روحه إذ هو على حصيرة المسجد البالية فلن يطير به بساط السندباد.

إن علاج الفتور لا يكون بتقريع، بل بانتصاب البعض قدوات، والقدوة إمامة بلا إمارة، وعنوان بلا تسمية، تنبثق تلقائيا دونما تكلف أو إشارة، وليس شرف من يوفق للتأسي بأقل من شرف مؤمن رائد استتم له النبل فصار بموضع الأسوة.

والدعاء من قبل ومن بعد هو الذخيرة، وقد وضع الأستاذ مصطفى مشهورمناجاة دعوية يتذلل بها الداعية بين يدي رب غفور ودود كريم لطيف، هي أول الطريق، وهي آخره، فليحرص عليها الدعاة، وليقولوا مثلها: تفتح لهم نفوسهم بعد إغلاق، وتفتح لهم قلوب الناس بعد إدبار، وتفتح لهم قلاع العدو بعد امتناع.


4- كتاب ومحراب

إذا كان الأمر كذلك، فإن في "العلم " حلا رئيسا. العلم يجفل صاحبه، ويقلقه عن حالة السكون، ويحركه نحو التمرد على الهواتف الصوارف وقواطع الطريق.

وفي الزمن القديم، أيام عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، كانت هناك مشاكل مشابهة وإحباط وحالة حزن ترهق المؤمنين، بسبب الفتن والمظالم التي تراكمت، فعالجها عمر بالعلم كما عالجها بالعدل، وبانتصابه قدوة للأمة في التجرد وابتذال النفس، فكتب لكل وال من ولاته أن: (أما بعد: فمر أهل الفقه والعلم من عندك فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم ومساجدهم). وقد كان منهم الأداء، فكانت النهضة العلمية التي قادها عمر هي التي رممت ما هدمته سيوف التأول وعواصف الخلاف من قبله.

وأمرنا شبيه، ولنا به اقتداء، وإذا كان تحليلنا ينتهي إلى أن في الأمة الإسلامية اليوم تخلف وفتن وافتراق، أو أن الدعوة الإسلامية تشكو من تعاكس المواقف، فإن العلم يتكفل بتوضيح الرؤية وتوحيدها، والتأثير إيجابا في أخلاق الرجال. ويجدر بنا أن نعلم فوق ذلك أنه منزلة اختصاص وتفضيل، كما فهمها أبو بكر الآجري حين قال:

(إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه: اختص من خلقه من أحب، فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب، فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم، وزينهم بالحلم) ..

فهذا الحلم هو الثمرة الأخلاقية الإيجابية التي نعنيها، وهو أساس علاج الفتن والافتراق، وما ينتجه الحلم من التأني وهدوء النفس هما أيضا أساس البحث المستفيض العقلاني الذي يدرأ تعاكس التأويل المسؤول عن تعاكس المواقف، لكن العاطفة حين تستبد: تشرق وتغرب، وذلك هو سر الخيرية الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عند البخاري، حين قال: (من يرد الله به خيرا: يفقهه في الدين) .


العلم الشرعي حقق وحدة أجيال الأمة

بل وأكثر من هذا، فإن داعية الإسلام إذ يعيش في مجتمع الصخب الحاضر إنما يقبل على الكتاب والعلم إقبالا يتعدى الحافز الشرعي والإحساس المحرك الإيماني ليجد سلوة وتحقيقا لحاجة نفسية يستروح لها تنسجم مع سمته الإصلاحي وإعراضه عن اللغو، لأنه يكره نفاق المداهنين وتحاسد الناس، فيجد في الكتاب الصاحب الوفي، كما قال الشاعر:

نعم الجليس إذا خلوت به

لا مكره يخشى ولا شغبه

فالكتاب أمين لا يغدر، صامت لا يهذر، ناصح لا يشاغب، وهذه أوصاف عالية وأخلاق صافية ليس في هذه الدنيا أحد أفرح بها من داعية مسلم أحاطه الجد فدق على صدره وقال: أنا للإصلاح. ثم يدق ثانية ويقول: أنا لمواصلة الدرب، وأنا صلة الأجيال. وذلك أن الأمة إنما بقيت حية نابضة القلب بحياة العلم الشرعي وحياة العلماء التي أفصح عنها الشاعر بقوله:

ما مات قوم إذا أبقوا لنا أدبا *** وعلم دين ولا بانوا ولا ذهبوا

فالوارث لهم يستشعر وحدة الأمة في كل أجيالها، وأنها طبقات متصلة مجتمعة حاضرة، غير منقطعة ولا متفرقة ولا غائبة، وذلك أن ثلة الفقهاء الأولين المتتاليين لم تمت، ولم تتناثر حلقاتها، وإنما هم أحياء بيننا بكتبهم وحروفهم، ويمكن أن نصدق أو نكذب في دعوى وراثتهم بمقدار الوفاء الذي نكنه لهم، وبمستوى الهمة التي تحركنا إلى مطالعة أوراقهم.


زيت و أحبار... لا خمر و أوتار

وكان قد قيل لبعض الحكماء: (بم كنت أعلم قرنائك؟ قال: لأني أنفقت في زيت المصباح لدرس الكتب مثل ما أنفقوا في شرب الخمر).

فهذا فرق ما بين الجمع العلمي المبارك والرهط الزكي، وبين آخرين من أبناء جلدتنا تلهيهم حفلات المعازف ورنات الكؤوس.

إلا أن الجهل قد تقطعه انتفاضة تتمرد على الاسترسال في الصدود، ولذلك وصف العلم بأنه: (بداية تذكرة للغافلين)، لكن خيريته لا تنقطع، بل تزداد وتتعاظم، فيكون أيضا: (سبب منافسة بين المطيعين)، وبذلك لا يقتصر على أن يؤدي دوره في تجديد حياة المعرض، وإنما هو دافع يدفع التقي على أن يعدد صوابه، ويوسع دوائره، صاعدا سلم ارتفاع يظل أبدا يسمو، ومستنيرا بشعاع هاد مستمر في الانتشار، تومض به قمة كل منار.


أبيض .. وأسود

لكن قابلية هذا العلم على التأثير في حملته والتعدي إلى آخرين متوقفة على شرطين مهمين:


الشرط الأول: صفاء بلا ابتداع:

بأن يكون على السنية المحضة، والاتباع الصارم، والانتساب إلى ما كان عليه السلف فهما وعملا، وهذا الانتساب معلم بارز من معالم تمييز البدعة أشار إليه النسفي في تفسيره لما وصف الله تعالى به نفسه أنه : " بديع السماوات والأرض "، فقال: (أي مخترعهما ومبدعهما لا على مثال سبق. وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له: أبدعت . ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة : مبتدع، لأنه يأتي في دين الإسلام ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم) (1).

ويجتمع هذا التمييز إلى تمييز آخر كامن في الوضوح الذي حواه الدعاء الذي لقنه الله تعالى لكل مؤمن فهو يقوله بكرة وأصيلا، ويتضرع أن: { اهدنا الصراط المستقيم } .. أي : ( ثبتنا على المنهاج الواضح)، كما قال النسفي.

فصاحب السنة ظاهر مفاخر مشاور، والمحدث باطن شائن مائن. وذو الاتباع أبدا في العرصات علانية، والمبتدع يهرب أبدا إلى الدهاليز والأقبية والظلام، يتوارى.

وكأن هذه الاحساسات هي التي أنطقت الشاعر في تشبيهه للسماء، فقال:

وكأن النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهن ابتداع

قال السكاكي:

(فإنه حين رأى ذوي الصياغة للمعاني شبهوا الهدى والشريعة والسنن وكل ما هو علم بالنور، لجعل صاحبها في حكم من يمشي في نور الشمس فيهتدي إلى الطريق المعبد، فلا يتعسف فيعثر تارة على عدو قتـّال، ويتردى أخرى في مهواة مهلكة، وشبهوا الضلالة والبدعة وكل ما هو جهل بالظلمة، لجعل صاحبها في حكم من يخبط في الظلماء فلا يهتدي إلى الطريق، فلا يزال بين عثور وبين تردد: قصد في تشبيه هذا تفضيل السنن في الوضوح على النجوم، وتنزيل البدع في الإظلام فوق الدياجي) (2).


اجتهادنا المنضبط في مواجهة الاعتزال الجديد

ثم إن الدعوة إلى (العلم الإسلامي) هي أبعد من مجرد دعوة تعميمية إلى علم إسلامي ملفق من أقوال علماء المسلمين بلا قاعدة تحدد الاختيار والانتقاء، وإنما هي دعوة تخصيصية للرجوع إلى علم شرعي على منهج الأصالة الذي تركته لنا واضحا جمهرة أئمة المذاهب الأربعة ومن قاربهم من السلف القديم، وهو علم وقاف عند النصوص الحديثية الصحيحة، مستنبط لما فيها من معان وفق قواعد فن أصول الفقه وضوابطه الدقيقة.

إنها إذن دعوة إلى العلم مرتبطة بمنهجية صارمة هي وحدها القادرة على أن تتكفل بتحجيم ( المنهجية العقلية ) التي رفعت رأسها مجددا على طريقة التوسع في التأول في إطار المدرسة الاعتزالية المعروفة، والتي ربما ستجلب مزايدات غير محدودة في الترخص والتسهيل والتجانس مع الحياة العلمانية السائدة تبعا لاختلاف عقول المشاركين في الإفتاء والتوصيف والتعليل، والدليل على ذلك أن من حاز علم الأصول من أصحاب هذه المدرسة لا زال أقل إغرابا من غيره وأسلم قولا.

نحن دعاة (الاجتهاد) والإبداع والنظر الشمولي، ولا فخر، ولنا في ذلك بحمد الله صولات، وتشهد لنا وثائق، ولسنا نقبل الجمود والتقليد وإلغاء العقل والوقوف عند أقوال الفقهاء الذين لا تسند النصوص ما ذهبوا إليه، ولكن الاجتهاد الذي نرومه إنما هو اجتهاد منضبط، ومحروس بسنن، وهو يتجول بحرية داخل العرصات الواسعة التي منحتها (القواعد الفقهية) للمتفقه والمفتي، بحيث يذهب مع المصالح والضرورات إلى أبعد مدى، لكن اجتهادنا قد ألزم نفسه أن يقترب ما أمكن من منطق الشاطبي في موافقاته، مثلما يقبس من جرأة ابن حزم في محلاه، متجنبا غرائبه القليلة، وأن يقترب من احتياطات ابن حجر في فتحه، ومن ترددات النووي بين التهيب وإحداث قول جديد في مجموعه، مثلما يساير ويماشي توسيعات ابن تيمية في فتاواه، وأمثال ذلك مما أتى به علم فطاحل آخرين كأن القدر جمع علم بعضهم إلى بعض لتكتمل صورة فقهية ناضجة تفرض نفسها علينا بقوة حججها ووضوح تقعيدها.

وغاية اجتهادنا أن يستجيب للمستجدات التي أتت بها الحياة المعقدة المعاصرة من خلال الارتباط الوفي باجتهادات السلف الأولين، وليست غايته نبش وقلب صورة الفقه التي تكونت في قرون الفضل الأولى من خلال ظنون وتأولات تترك الناس في فوضى أمام زخم العقلانيات التي قد تكون متضادة بنفس حجم تضاد العقول البشرية والخلفيات التي ينطلق منها الخائضون، حتى أن رغبات السلاطين باتت تشكل إحدى أهم هذه الخلفيات التي تحاول التمرد، فتحيص حيصة مفضوحة كلما حاصرتها عوازم الفقه وجوازم الإيمان .

ثم يحرس اجتهادنا نفسه مرة أخرى بمظلة من العقيدة السنية النصية، في وفاء ثان لحدود عقيدة الإمام أحمد بن حنبل التي ميزها عن الاستطرادات البدعية التي أوغلت في التعطيل والتمثيل، ونحن ندرك أن المدرسة العقلية الفقهية التي يريدها الاعتزال الجديد ستقوده إلى نزعة عقلية في الاعتقاد ولا بد، لأن المحركات واحدة.


الشرط الثاني: إخبات بمحراب

كما قال بعض الصالحين: (ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب) (1)، واستشهد بدعاء زكريا وكيف أن الله تعالى وهبه يحيى وبشره به وهو قائم يصلي في ا لمحراب.

والتأثير في الآخرين هو أسمى هذه الصور السنية التي نطمح لها، ولن تكون إلا من خلال المحاريب.

وإنما يحرك المحراب فينا معاني الرجاء والخوف معا، وهي أحوال قلبية وممارسات عملية معا.

أما الرجاء: فرجاء الكرامة والفوز والنجاة، وطريق هذه النعم معروف، بينته معادلة شرطية في القرآن في قوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم }.

قال النسفي: قال أهل الإشارة:

( أوفوا في دار محنتي، على بساط خدمتي، بحفظ حرمتي : أوف في دار نعمتي، على بساط كرامتي، بسرور رؤيتي) (2).

وأما الخوف: فمن فزع يومئذ، وأقل هذا الفزع ما صوره صالح المري لما قرأ قارئ: { وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع }.

فقطع صالح عليه القراءة وقال:

" كيف يكون لظالم حميم أو شفيع والمطالب له رب العالمين؟

إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم، حفاة عراة مسودة وجوههم، مزرقة عيونهم، ذائبة أجسادهم، ينادون: يا ويلنا يا ثبورنا، ماذا نزل بنا؟ ماذا حل بنا؟ أين يذهب بنا، ماذا يراد منا؟ والملائكة تسوقهم بمقامع النيران، فمرة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين، ومرة يقادون إليها مقرنين، من بين باك دما بعد انقطاع الدموع، ومن بين صارخ طائر القلب مبهوت. إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظرا لا يقوم له بصرك، ولا يثبت له قلبك، ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك.

ثم نحب وصاح: يا سوء منظراه! يا سوء منقلباه! "

وبكى وأبكى الناس.

فقام فتى فقال: أكل هذا في يوم القيامة يا أبا بشر؟

قال: نعم والله يا ابن أخي، وما هو أكثر.

فصاح الفتى: إنا لله، واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة، وا أسفا على تفريطي في طاعة الله، وا أسفاه على تضييعي عمري في دار الدنيا! ثم بكى، واستقبل القبلة فقال:

اللهم إني أستقبلك في يومي هدا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك، اللهم فاقبلني على ما كان في، واعف عما تقدم من فعلي، وأقلني عثرتي. ثم استقام حتى مات.

وهذا النمط من كلام صالح المري هو الأصل الذي وسعه سيد قطب في وصفه لمشاهد القيامة في القرآن. وإنما تتاح لك مثل هذه الذكرى التي تنفعك وتنفع المؤمنين إذا طالعت كتب الرقائق والمواعظ وقصص أهل الصلاح وأصحاب المحاريب، وهي تجربة ابن الجوزي رحمه الله، التي يشدد عليها. قال: (رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين، لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها. وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق، لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي وتكثير الأجزاء، وجمهور الفقهاء في علوم الجدل وما يغالب به الخصم، وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء؟

وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه: هديه وسمته، فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا، ليكون سببا لرقة قلبك) (1).

ولذلك حذرنا في مناسبة أخرى من طريقة الفقهاء في تجريد دراسة الأحكام، حين (جعلوا النظر جل اشتغالهم، ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير، وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة، ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب) (1).

وذلك لأن هذا النظر إنما يفتيك الفتاوى التي تحكم الجوارح والأبدان، وذلك نصف الإسلام، وأما نصفه الآخر فعلم يكشف لك أحوال القلوب ومكانتها من الإخلاص والتجرد والرضا والشكر والتوبة، في مائة منزل تنزلها قلوب السالكين إذ هي في مدارج الإيمان الصاعدة.

في ظلال التفويض

وكما يكون في أحكام الجوارح (اجتهاد) و (مذاهب): يكون في علم القلوب (اجتهاد) و (مذاهب) أيضا، وذلك أن المؤمن يظل يزداد تأملا في أحوال القلب حتى يدخل مرحلة (الاجتهاد الإيماني)، ربما، ويسعفه الإلهام والتوفيق، فيكون أقوى فراسة وأدق تمييزا وأكثر جمعا للمصالح. فمما لا يدركه كثير من الناس أن الاجتهاد كما يكون في أحكام فقه الحلال والحرام يكون في فقه الإيمان أيضا، فيفاضل بين منازل الأخلاق، أو يكون له ذوق في المزج بين منزلتين، أو تتابعهما، أو الفصل بينهما، مثلا. ومن أجمل وأبرع (الاجتهادات الإيمانية): اجتهاد البخاري رحمه الله - فيما يروى عنه في سيرته - بين الدعاء وتركه، وقوله أنه قد دعا الله تعالى مرتين فاستجاب له، فهو يستحي أن يستطرد في الدعاء، أو يخشى الاستدراج.

ولا يفهم الناس هذا التمنع، ويظنونه عدولا عن سنة، فإن الدعاء سنة إيمانية محكمة، بل هو مطلوب مندوب، وهو علامة ثقة المؤمن بربه وتعويله على إحسانه وكرمه، ولكن البخاري إنما ينتقل عبر هيبته تلك لله تعالى إلى سنة أخرى يراها في مذهبه واجتهاده أحكم وأبلغ في الإخبات والتواضع والتذلل بين يدي حكمة الله تعالى، وهي سنة (التفويض)، فإنه يكل الأمر إلى ربه يفعل به ما يشاء ويختار له الأصلح في دينه ودنياه، وهذا نوع آخر من الثقة بالله تعالى هو قسيم الثقة المحركة للدعاء، وتعبير آخر عنها، ويسع المجتهد في فقه الإيمان أن يفاضل بينهما.

ومما يزيد في توضيح معنى الاجتهاد الإيماني وإثبات وجوده أن تعلم ما ارتكبه بعض المسلمين من خطأ في السلوك باسم التصفية والتزكية والترويض والتربية ، مما كثر عند بعض المتصوفة، أو من خطأ في فهم العقيدة حتى استحال خطؤهم إلى بدع متتالية، وكل ذلك إنما هو (اجتهاد) لكنه خاطئ، و (مذهب) في التأويل، لكنه قاصر. وإذا كان هناك اجتهاد مثل هذا هو عن الصواب بمعزل، فإن ذلك يعنى إمكانية أن يكون هناك اجتهاد له من التوفيق والصحة نصيب.

وانظر في هذا ما يروى عن رابعة العدوية من عدول عن التعبد بنية الثواب أو خوف العقاب، مما هو عدول عن عبادة سنية محضة: يتضح لك مثل من أمثلة الخطأ في الاجتهاد الإيماني. وفي إرهاق النفس وفطمها عن المباحات مثل آخر فعله ويفعله آخرون خلاف السنة، وفي فعل الكرامية الذين يرتكبون القبائح لتكون توبتهم - بزعمهم - أوثق. ولكن بمقابل ذلك دارت اجتهادات أخرى في دائرة الممكن والسائغ والمقبول، كمفاضلة البعض بين الشكر والصبر أيهما أفضل وأعلى، مما هو مشهور في محاورات أصحاب القلوب، والتأمل في هذه الأمثال يفتح لك باب الفهم لمعنى الاجتهاد الإيماني.

ومن شعب هذا الإيمان: الاستسلام للقدر حين يرى العبد أن الأسباب الظاهرة المألوفة عند الناس ما عادت تجدي أو توصله إلى مبتغاه ومراده، فيدرك أن في الأمر سرا ربانيا وحكمة خفية، وأن الله سبحانه يريد به لطفا - ربما - حين يمنعه عن نيل ما يناله الناس، ربما حتى فاجرهم، بل كافرهم، فيطرح نفسه على باب ربه متذللا مفوضا، ويختط لنفسه مذهبا قدريا خاصا، فيفتي نفسه بأن يكون ريشة في مهب ريح القدر، وقد كان من قبل يصارع قدر الشر بقدر الخير على طريقة عبد القادر الكيلاني المشهورة الصحيحة السنية، وقد أتاها وحاول وأجهد نفسه وقواه ورصد الأسباب فسلكها وخاض الغمار وأوغل في العمق واحتال بكل الحيل، لكنه فشل، فيغمره إدراك حينئذ لموقعه، وأنه محروس، بلطف ورعاية إلهية، مما يظنه خيرا وهو شر له، أو هو معاقب ممنوع، من جبار منتقم بعدل، فيتميز له طريق التوبة إذ هو في حالة الإذعان المبالغ فيه والإخبات الذي يوصله إلى أدنى درجات المسكنة ونكران الذات والإزراء على نفسه وتوبيخها وردعها واتهامها ومنعها من الاعتذار والتأول، فيسد عليها مسارب التملص كلها، ويحملها المسؤولية كاملة، حتى يرهقها محاسبة، فعسى عندئذ أن يفتح له باب من التوفيق يلج من زاويته هاربا، أو يسلك في الدرب الذي بعده صاعدا، وهذا مذهب سني صحيح ليس له مع مذهب الابتداع القدري التقاء، وإنما يميزه قدماء أهل المعاناة فقط، ولن يؤذن لطارئ أن يقارب مغزاه، وهو شأن القلب وأحاسيس اللجج، لا شأن اللسان ودعاوى اللجاج.

فإذا استوى على أمواج القدر، وهتف به من جانب الأفق هاتف في صورة صاحب صلاة يتلو ويبشره أن { إن الله يدافع عن الذين آمنوا }، فليس في ذاك الأوان أسعد منه ولا أكثر منه وثوقا في المستقبل، فيدرك أن العاقبة للمتقين، وأنها محجوزة له محتكرة إذا استقام . وإذا قرأ { فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا } فإن قلبه يجد إلى الطمأنينة سبيلا، وكأنه يتناوش اليسر من مكان قريب أو يرمى به إليه هدية وعليها اسمه وعنوانه ملفوفة بوثيقة امتياز يؤهله لتصرف غير ذي حد ولا انتهاء، إلا أن يكون هو الناكل بعدما يتدخل حسد الشيطان، فينكبح، فتكون له قصة توبة ثانية ليست لذة الاستئناف فيها بأقل من لذة الرفل بتلك السكينة الأولى لو كان مستمرا.

أما إن سمع {وكفى بربك هاديا ونصيرا}، أو أحاطته معاني {ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا} فإنه سيبلغ ذروة عالية، وكأن زمام الصعاب في يديه، فما من شوارد، ولا صوائل. ويظل يزداد ثقة إذا قرأ أمثال {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى}.

وفي القرآن الكريم مبشرات كثيرة أخرى، وفي الحديث الشريف، وفي شعر المؤمنين، وهي البشائر التي نقلها عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، حين وصف صاحب اليقين فقال:

ولا يرى من فزع رهن أسى

يقينه كالطود في القلب رسا

يبصر في غور الخطوب قبسا

من نصرة الله إذا ما استيأسا (1)

ثم استطرد شعراء الإيمان في جمعهم للمعاني الكبيرة في ألفاظ صغيرة تهز قلب المؤمن هزة التمحيض، لتتركه يستقر ثابتا عند ركن التفويض، أو طائفا حول محاور العمل على سنة الترويض، فهو يكفيه موعظة أن يذكره شاعر بأن عيون الناس قد نامت قاطبة، (لكن عين الله لم تنم)، فيحس معنى الحراسة الربانية، وأن له أن يستريح، وأن يسيح، خافقا بجناحيه مع الريح، لأنه في كلاءة الله تعالى ولطفه، تلحظه عين الرعاية أينما انقلب، فترد عنه العدو وصور الشر، فتكون له جرأة على الاقتحام في مواطن يتلكأ عنها الغافلون المحرومون من تحسس تلك الكلاءة، ويقدم على التحدي وهو رابط الجأش، بفؤاد متين، ثم يحس في انعطافة مباشرة معنى الرقابة الربانية أيضا، وأنه محاصر بها أينما ذهبت به حيل التفلت، فيدرك عجزه عن الاختباء في زاوية أو في قعر كهف أو بين جدران، فهو مفضوح مكشوف أينما ذهب، وليس له إلا أن يذعن ويستسلم ويضع نفسه في تيار التعبد الدائب، وهكذا يظل المؤمن الموقن بأن (عين الله لم تنم) متقلبا بين هذين الإحساسين الإيجابيين، فهو رافل بسكينة اللطف من جانب، متدرع، من جانب آخر، بطمأنينة إبراء الذمة فيما يظن، بعد أن قدم من العمل شيئا ولاذ بركن الرجاء، طامعا ببر رب هو عند حسن ظن عبده به.

ومن فروع هذا التفويض أيضا: قبول المؤمن لوقوع الظلم عليه من آخرين، بلا مقاومة أو انشغال بالرد، وبلا سعي إلى التقاضي ورفع الخصومة لدى المحاكم، أو الشكاية إلى أولي الأمر أو إلى ذي مكانة يستطيع أن يردع الظالم، بل يسكن، ويتعفف، ويرى أن مكانته الإيمانية أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ذي العيوب الذي اعتدى عليه، ويرى أن المروءة تدعوه إلى أن يشمخ على الذي يبدي الإسفاف، وأن يترفع عن موقف يقوده إلى رفع صوت أو إثارة فضول الغرباء أو جدل أو لجاج، فيلوذ بالصمت، ويركن إلى معاني التوكل على الله: أنه هو سبحانه الذي سيعوضه خيرا مما سلب منه، إن كان مالا: فسيبارك له من مصدر آخر. أو كان ذما: فسيفتح قلوب الناس لمحبته ويحسن ذكره في الآفاق. أو كان حرمانا من منصب أو رئاسة: فسيهبه نقابة المؤمنين والصدارة في جماعة الخير. وأنا نفسي قد اخترت هذا النوع من التفويض في حياتي فوجدته لذيذا جدا، ووجدت الله كريما معي غاية الكرم، يعوضني الضعف إذا سلبني أحد دراهمي، ويبعث لي من يسمعني ألفاظا جميلة إذا تجاوز علي متجاوز فاستفزني، وهكذا صرت أتأول الخير وحسن العقبى حتى في صغار الأمور اليومية، كأن يأخذ أحد دوري في دخول محل أو ركوب حافلة، مثلا، أو حصول غش من بائع لي، فاستولت علي سجية الاسترسال مع رغبة المنافس أو الطامع، وبقلب بارد مطمئن إلى أن ما هو أحسن إنما هو في انتظاري، في حين أرى غيري يشتاط ويزمجر ويدخل المعارك في مثل ما أستقبله أنا بالتجمل.

ويتوسع الأمر السلمي ومفهوم الوداعة حتى يشكل سلسلة من الذوقيات الرفيعة التي وصفتها في تقريري الميداني المعروف، بل صغتها لأصحابي في قوانين تعاملية ذات حساسية مسرفة في التعفف والدماثة وهضم حقوق النفس في سبيل إرضاء الغير، مع حياء فيه مبالغة، وحرص على التشبه بأصحاب مكارم الأخلاق وتقليد النبلاء، وما زال يتوسع عدد الرهط الذين ارتضوا هذه القوانين، ولكن ما زال هناك من لا يصبر على اللأواء الظاهرية لهذه المسالمة، غير منتبه إلى ما في باطنها وعواقبها من لذائذ روحية حين يرى المسالم نفسه في الأماكن العوالي.

لكن هذا الباب إنما هو إزاء الحقوق الشخصية، أما الظلم السياسي فشأنه مغاير، وإنما شرع الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمثله، وتترجم معاني الإيمان إذا وقع هذا الظلم في صورة رفضه ومنازعته ومقاومته، لأن الظالم إنما سلب حقا إسلاميا عاما، واعتدى على شعيرة من شعائر الله، وقد ندب الله تعالى المؤمنين إلى أن يكونوا أعزة يعلمون الناس الإباء … والشوق إلى الحرية.


5- الاندفاع الواثق

إن هذا التفويض، الذي يهب صاحبه السكينة الداخلية وهدوء النفس، إنما يمنح لصاحبه أيضا صورة ظاهرية فيها هيبة، فتكون له مكانة محترمة بين الناس، ويأخذوا بمعاملته على أنه مثال المروءة، حتى ليظل ذكره الحسن بعد مماته زينة لأحفاده.

وتكمله العزة التي تحرك المفوض إلى الإنكار على الظلم السياسي لأن الناس مأسورة إلى صور الشجاعة، وتفتأ تشتاق إلى الحرية، فيكون لها اقتداء بمن يلقنهم إياها ، وتظل تعامله حتى بعد دهور وقرون على أنه رمز ومصدر إلهام وحث.

وتجتمع هاتان النتيجتان لتكوين صورة الجمال الحقيقي في الحياة الإنسانية، والتي اكتشفها عمرو بن معد يكرب فوصفها فقال:

إن الجمال معادن

ومناقب أورثن مجدا

وهو في ذلك ينطلق من إحساسه الإنساني العام، فيلتقي مع موازين الإيمان ، وذلك لأن الفطرة النقية إذا حركت أحدا فلن تبعده عن معاني الإسلام، وإذا كانت خطواتنا في طريقنا نحو المعالي توهم بأننا نخص التفويض وطلب الحرية بوصف الجمال، فإن الشعر يعمم، فكل معادن النبل جميلة، وكل ما يسلفه العاملون من صور الخير جميلة.

وليس هو التكبر، ولا الغرور، ولا تزكية الذات، وإنما هو التحدث بنعمة ربنا عز وجل علينا، حين ننظر إلى تاريخ الدعوة الإسلامية وواقع الدعاة المعاصر فنقرر أن الدعاة يحتلون مكانا مهما من بؤرة الجمال.

نحن الذين نمنح للحياة جمالها ومعناها ومغزاها.

ونحن الثقل الذي يمنع الأرض أن تميد.

وما من منصف إلا ويتساءل معنا أن:

كيف الحياة إذا خلت

منا الظواهر والبطاح؟

أين الأعزة والأسنة

ند ذلك والسماح؟

ستعوج الحياة، وتغيب المروءة بغيابنا.

والمقارنة توضح ذلك جليا.

ففي غياب دعاة الإسلام اليوم عن الصدارة صار غير الأعزة فيها، فترى تبعية للدول الكبرى، وخوفا من يهود، وترقيعا فكريا، وانهزامية نفسية. وبغيابنا غابت الأسنة، وما عادت رؤوس الحراب تلمع بين الروابي، ولا النبال . وافتقد السماح، وحضر للناس التعذيب والحديد والحبال.


•إني امرؤ مكرم نفسي ... ومتئد

هي مسألة محسومة إذن: أن نرشح أنفسنا لقيادة الأمة.

ليس لمارق حق، ولا لمن بيده سوط.

لكن بعض الدعاة يتلكأ، بسبب ضباب في الطريق، أو يتردد بسبب شبهات معترضة، وإنما الواجب عليهم أن يثقوا بأنفسهم، وأن يعزموا عزائمهم، لأن هذه المعوقات إنما هي جنس مألوف في الصراع، وهي ظاهرة من ظواهر الحياة السياسية والفكرية وتنافس الجماعات، وليس لنا أن نتوقع أن نكون بدعة في العاملين، بحيث نمضي بلا صعوبات، ولا متساقطين.

ينظر الداعية الجاد إلى نفسه، وإلى إخوانه في الرهط الدعوي، فيرى نقصا عن بلوغ الصورة المثالية التي تصفها أسطر فقه الدعوة، وتستوقفه بقايا ضعف أو طمع أو جهل، فيأخذ يتهم ذاته والآخرين، وتزيده الاتهامات الظالمة التي تطيرها أجهزة الإعلام المعادية إحباطا، وليس ذلك بصواب أبدا، وملاذنا قاعدة صريحة في الفقه: (إن عقد الإسلام لا ينحل بازدحام الآثام، وترتفع ألف حوبة بتوبة) (1).

فلو ذهبنا جدلا أن حياة بعض الدعاة تزدحم بذنوب، فإن التوبة تعدل ذلك وتعالج الأمر معالجة تامة، ونحن التوابون ولا فخر، ونحن أساتذة الاستغفار بحمد الله، لأن منهجية التربية الدعوية تفرض رقابة صارمة على الأداء والممارسات، وتعالج كل ظاهرة سلبية، فتكون النتيجة دوما نوعا من الاتزان الذي تكون كتلته النوعية في العموم ثقيلة راجحة على مجموع أحوال الإحسان الفردية التي يمثلها أشخاص متفرقون خارج محيط الدعوة، فقد يبلغ مسلم درجة في العبادة ومكارم الأخلاق لا يبلغها داعية، وتتكرر هذه الصورة في عدد من الأفاضل، و لكن المجتمع الدعوي يمثل حضورا تعبديا و أخلاقيا و علميا في حياة كل قطر إسلامي هو أنفذ وأقوى وأبعد تأثيرا من تأثير العناصر المفردة ، و ما النقصان في أفراد الدعاة - لو كان - إلا ظاهرة متوقعة محسوبة مهما وصفت الكتابات العلو المطلوب، لأن هذا العلو إنما يضرب كمثل ورمز وغاية، ليصل من يصل إلى نصف الوصف النموذجي وثلثيه وثلاثة أرباعه، وما يكاد يقارب الأعالي الحقيقية إلا قلائل، ولا يتقمص الملائكية أحد، إنما هو التسديد والمقاربة والتشبه والمحاولة والرجاء، وتزداد درجة المحاسن النسبية للدعاة وضوحا إذا كانت المقارنة بينهم وبين جمهرة السوء في المجتمع، وكل منصف يعلم أن الكثير من أبناء الأمة اليوم إنما هم غثاء، وفيهم من أنواع الغفلات والشطط والفساد والعدوان ما فيهم، وفيهم كل متردية ونطيحة وما أكل السبع، ومن لوثه الربا وأذهله الخمر، والدعاة بين ظهرانيهم يتفردون بالمناقب والصدق والعفاف والجد والهدي النقي، ومن لم يلحظ هذه المقارنة النسبية فهو عن ميزان العدل ناكب.

لذلك يليق بدعاة الإسلام اليوم أن يثقوا بأنفسهم ثقة تامة: أنهم أمثل من في الساحة، وأنهم أهل للإصلاح، وجدير بهم أن لا يلتفتوا إلى وسوسة شيطان أو أكاذيب الملأ الذين يتحلقون حول الظالمين، بل عليهم أن يشقوا الطريق صاعدين، بما حكر الإيمان لهم من أولوية وولاية.


وتنهض شبهة ثانية: أن عددنا قليل، وللباطل سواد عظيم.

وقد جوبه الشاعر بمثل ذلك، فكان جوابه القديم جوابنا، وذاك يوم قال:

تعيرنا بأنا قليل عددنا

فقلت لها: إن الكرام قليل

وما قل من كانت بقاياه مثلنا

شباب تسامى للعلا وكهول

فهي ظاهرة أخرى من ظواهر الحياة إذن، يجب أن ننتبه لها: أن الكرام قليل، وأما الأكثرين فدون ذلك، في درجات متنازلة، حتى يكون اللئيم والكاذب وآكل الحرام، فهي حكمة ربانية جعلت نقباء الفضل في الناس الأقل، كما جعلت النسر والصقر بين الطير قلة، أو أشجار الثمر بين أنواع النبات. لكن قوة التأثير إنما تأتي من وحدة المنهج العالي، ومن وحدة الأجيال حين تتوارث الخير، وذلك ما يعبر عنه الشطر الأخير:


شباب تسامى للعلا وكهول

فهو منهج يصعد بأصحابه (نحو المعالي)، ولا يحوم حول السفليات الدنيوية والمطامع وغصب الحقوق، وإنما هو منهج التسامي.

ثم هم شباب وكهول، في وحدة قلبية تربط الجيلين ومن قبلهما من فتيان ومن بعدهما من شيوخ، وتجعلهم يحسون بركة السلف والحاجة للمجرب، حتى تكون الوصية بينهم أن: كبروا، كبروا، وأهل الدنيا يلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ اللاحق من السابق، وينعته برجعية وتخلف، وينقم عليه طول اللبث.

وبذلك نحقق عنصر امتياز وتفوق، و {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين} . وصار التروي تهمة، ربما يتهم الداعية بها رهطه، يريد النتيجة العاجلة، وكأنه أصبح ضجرا من طول الدرب، في حين يُجمع الفقهاء والساسة والفلاسفة والأدباء على أن الحكمة لا تأذن بقفز يتجاوز التدرج، حتى الشاعر البدوي أدرك جوهر التخطيط بفطرته، فقال:

منا الأناة وبعض القوم يحسبنا

أنا بطاء وفي إبطائنا سرع

قال التبريزي: (المعنى: نحن لا نعمل عملا ولا نمضي رأيا إلا بعد التأني والتروي، فلذلك بعض القوم الذين لا تجربة لهم يظنون أنا بطاء، ولا يعلمون أن إبطاءنا فيه سرعة) (1).

أما كيف يكون الإبطاء سرعة فالحساب بسيط، ذلك أن الاستعجال يقود إلى فشل، فتضطر لتكرار العمل، ولو جمعت الوقت الأول ووقت الاستئناف الثاني لكان أطول من وقت واحد على الطريقة المحكمة المنتجة.


أولئك قوم إن بنوا : أحسنوا البنا

ويتنادى الدعاة اليوم إلى حملة تكشف فقه التخطيط الصحيح وقواعده وتورد أمثلة تفسيرية له، وقد بدأت بنجاح، وطرحت في أوساط الدعاة بحوث عديدة، وهذا المنحى هو في غاية الأهمية، وينبغي أن نواصل الكتابة فيه، وأن يأخذ مكانه البارز في المنهج، فإن المحيط معقد، ولن تنفعنا بدائية وجزافية، إنما يصل بنا تقعيد وتنظير، وتنويع لمصادر التأثير، وإحصاء للطاقات وسبل صرفها، واستدراك على النقص، وتطوير، وتقويم ناقد.


أجول على علم ... وأعرف ما أعني

وشبهة رابعة تنفي القوة عنا حين ترى الحصار المحكم الذي فرضه الخصوم علينا حتى احتكروا أشكال القوة العرفية، وحصرونا في الزاوية الضيقة كدعوة خالية الغمد.

وليس هذا التعميم بصواب، لأن قوتهم مقترنة بغوغائية يقودها جهل، وتأسرهم أذواق فاسدة منحرفة عن الفطرة، وتسيرهم أخلاق مصلحية نفعية هي عن المكارم نائية، مع فوضى في التفكير، ومزاجية في القرار، وخيانة في الأداء، وانظر كيف اجتمعت كل هذه العيوب في حزب صدام مثلا .

بينما ننطلق نحن من منهجية رصينة يخسأ الضالون أن يقاربوها، ومن قاعدة معرفية عريضة تنضجها تخصصات متكاملة، حتى أصبح عملنا يمثل سلسلة من المقدمات الحضارية المدنية التي تفرض نفسها في الساحة وفق قاعدة البقاء للأصلح، وهذا هو مكمن القوة عندنا، وذلك لأن مرجع الناس في الآخر إلى تحكيم العقل، مهما طاشت بهم السكرات، وأوبتهم إلى موازين الفطرة في المآل، مهما انتكست الأذواق أيام الغفلات .

ولقد وضع الفيلسوفان الغربيان بيكون وهوبز قبل أكثر من قرنين معادلة صحيحة أوجزا فيها خبر التاريخ وتجارب الصراع، فقالا: ( إن المعرفة معناها : القوة ) (1)

وهو شعار جد صحيح، ونظرة عميقة لحركة الحياة، والبرهان على ذلك: النتيجة التفوقية التي وصل إليها الغرب لما سيره بيكون في طريق المعرفة أثناء رئاسته لوزراء بريطانيا، ثم لما واصل من بعده الاندفاع في هذا الطريق المعرفي، فكانت القوة والقيادة والسبق وفنون الإدارة والمخترعات والنهضة الصناعية وقهر الأمم الأخرى وامتصاص أموالها، وكانت التخطيطات الاستراتيجية البعيدة المدى وتنفيذهم لها بصبر وصمت وإحاطتها بسر دفين، وبقي غيرهم تخدعه العواطف والارتجال، وانظر إلى الحرب العالمية الأولى وإجهازهم على الدولة العثمانية، ثم انظر إلى تكامل تدبيرهم في عاصفة الصحراء كمثل أخير، واعتماد صدام على الزمجرات وهتاف الغوغاء، ثم انظر إلى مسلسل تركيع الاتحاد السوفييتي وتمزيقه، ولم يصل المشهد بعد إلى نهايته.

وهكذا، فإن مواصلة الدعوة الإسلامية سيرها المنهجي على قواعد الإدارة المتطورة في طريق المعرفة الشمولية والعلوم التطبيقية التخصصية والفنون المدنية إنما هو ردها الحاسم على القوة الطائشة في الأيادي الملوثة .

منابر النهاة ترسم مسار الحياة

إن هذه التقريرات التي تدفع هذه الشبهات لتحتل اليوم أهمية بالغة في الإملاء النفسي الدعوي الذي يُنهي التردد ويُقحم الدعاة في معمعة المحاولة، في وقت تعرى فيه المنافس وأفلس، ومع وجود عاملين مهمين يرجحان الأمر لصالح الدعاة:

الأول: الامتداد العالمي المستغرق للقارات الخمس، انطلاقا من بؤرة العالم الإسلامي، وأصبح متاحا بفضل الله تعالى حشد الطاقات وتناغم الأداء وتناصر الجبهات، في وحدة معنوية وفكرية يعجز عن مثلها المنافسون، الذين استبدت بهم الأنانية والقطريات والتعصبات، حتى تفرقوا أيادي سبأ،....

وتشعبوا شعبا، فكل جزيرة

فيها أميز المؤمنين، ومنبر

كما وصفهم المساور بن هند بن زهير (1).

الثاني: نهينا عن المنكر، الذي يضعنا في مرتبة فريدة بين التيارات والجماعات والأحزاب، فهم لا يتناهون عن منكر فعلوه ويفعله غيرهم، وكأن المسلم ينفرد في فهم مغزى التاريخ وحركته عبر مفاد آية سورة هود، في قوله تعالى: { فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض } ..

معناها: ( أولو فضل ) .

وكان يقال: (في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا) (2).

فمرتبة الفضل: النهي عن الفساد في الأرض.

ومهنة الرجال أساتذة الرجولة: أن يكونوا نهاة في ثغر النذارة.

وحركة التاريخ التي توجه تعاقب القرون: كامنة في تفرد هذه الثلة المؤمنة فيما هي فيه من إنكار السوء، فيأتيها التمكين من الله تعالى .

وحق هذا العامل الترجيحي أن يُقدم ويُذكر قبل الأول وقبل ردود الشبهات، فإنما نصول ونجول بتوفيق من الله، وإنما تأخر إشارة إلى حشد الأسباب ثم التفرغ لاستشعار التوكل والاعتماد على الله تعالى، تشبها بصف النبي صلى الله عليه وسلم. صفوف المهاجرين والأنصار يوم بدر، ثم تنحيه جانبا يلح في التضرع والدعاء وطلب النصر الرباني، حتى وقع رداؤه عن منكبه الشريف، وإنما نصل هذا التضرع الأخير بذاك التفويض الأول، فيكون مبتدأ أمرنا وخاتمته: حسن الظن بالله تعالى.

لكنها سنة الحياة أن لا ننال الذي نرجو إلا بالبذل والجهد وتقديم الثمن، ليس بالمجان، وهي التي أدركها الشاعر لما قال:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها

تنال إلا على جسر من التعب

وكأن المفهوم الساذج يصرفه إلى تعب العضلات والأبدان فقط، وإلى احتمال لحر وبرد، وجوع وعطش، وقطع مفاوز وعبور جبال، وهو كذلك، ولكن فقه الصعود نحو المعالي يجاوزه إلى التأكيد على الخطة المعرفية ذات البعد الحضاري، وأول ذلك ومفتاحه أن ترجع إلى الحروف والسطور والكتاب، فتقرأ، ثم تقرأ، ثم تقرأ، مبتهجا مع تساقط …. الدموع الباسمة !

6- الدموع الباسمة

يشتهر بين الناس تشبيه الأولين لعمل المصلح المتجرد بشمعة، تحرق نفسها، لتضيء للآخرين.

وكان الكاتبون، أصحاب الأقلام، والتدوين، والتأليف، والصحف، يرون أنفسهم أصفى هذه الشمعات، ويظنون شعاعهم أوهج اللمعات، لما في وصف الناس للعلم بالنور من قرينة تصرف تفسير التشبيه إليهم.

وذاك شرف، نعمّا هو، يحق معه لهم ولغيرهم أن يتنافسوا في الانتساب إليه، والسباق إلى التحلي به.

ولكني رأيت من خفي الحكمة ما هو أبرع في وصف الأقلام، ودورها في التوجيه، والبهجة التي تبعثها، فقد أطل ذكي على ساحة الحياة، يتتبع مكامن البسمات بعد أن امتلأت أحزانا، فاكتشفها فقال: ( لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم )

هكذا هو الكاتب، وإنها لكذلك الأقلام حقا إذا سال منها المداد، وذرفت الدمعات السود.

يجوب صاحب القلم الكبير الميادين، وتكون له سياحة في آفاق الأعمال، كل الأعمال، وينقب في الماضي يستخرج السوابق، ثم يرجع يختلي، يقيس ويقارن، ويحلل ويعلل، لتسطر دمعات قلمه التجارب وما وجد، لتجف دمعات قلوب التائهين، ويكون ثم ابتسام.

إنها متاهات الحياة يهيم فيها أكثر البشر، فتأتي تجارب المربين، عبر دموع الأقلام، تعصم من الخطأ وتوجه، وتنتشل من التخبط وتسدد، وترسم الطريق وتخطط، فيعقل ساذج، ويتململ راقد، ويتنافس قانع، ويتأنى متهور، وما بين هذا التعقل والتنافس، والإسراع والإبطاء: تكون البصائر، وتتكشف أصول المباهج، فتغمر القلب برودة السكينة، بعد حرارة القلق ولذعات الحيرة، وتنفرج أسارير الوجه عن ابتسام وضاء، بعد عبوس أو ذهول.

هو هكذا واجب الأديب المسلم المربي، يتولى دوره هذا في إتمام دور الفقيه إذا بين دلائل التوحيد، وحدد قواعد السلوك الشرعي، فيشرب ويفسر، ويستشهد بتواريخ الناس وما كانت لهم من مواقف، ويذهب في الإقناع إلى مدى التفصيل والتبسيط والتمثيل بعد إجمال أوجزه الفقيه.

فابتسامة من يبتسم من الناس لن تأتي سهلة أبدا، والذين ما زالت أفواههم تفغر حيرة ليسوا بقادرين على تصور ابتسامة تبتسمها الصفحات، ولا على فهم دور الأقلام فيها، وجهد أصحاب هذه الأقلام.

أما أنها ليست كل كتابة ولا كل كاتب فنعم، فإن السطور الباسمة تستلزم خلفية من التجريب ومن الانغماس الفعلي في الأعمال والأحداث المحيطة، ولا يمكن أن توصف للكاتب التجارب وصفا مجردا، وتروى له رواية، لينقلها بين أسطره، فإن مثل هذا وهذا كمثل سائح وراكب طائرة، فإن من ركاب الطائرات من تنزل به طائرته قبل وصوله مقصده في مطارات مدينتين وثلاث، فيرى هذه المدن من مسافة بعيدة، ويأخذ يصف لك حسن روما وجنيف وباريس، ويحلف لك الأيمان أنه رآها، وما كذب، وإن كان لم يزر متحفا، ولا استمتع بشاطئ بحيرة، ولا صعد برجا، وإنما هو راء لها من نافذة الطائرة حين كانت تقترب من المطار وتنخفض، وحين كانت تقلع وتعلو.

كلا، بل هي ساعات تأمل، وخلوات تفكر، وسياحة تعرف، يضطر خلالها الأديب أو المربي إلى أن يعصر قلبه عصرا، لتسيل من قلمه الدمعات، لتبتسم على الورق الكلمات، تشارك في منح شيء للناس.... اسمه الابتسام.

ولهذا يكون الإعراض عن القراءة من كبائر الناس الكبيرة، ولعلها الموبقة الحادية عشر، بعد إذ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتناب العشر الموبقات، فإن المتلقين تجب عليهم همة للقراءة توازي تلك الهمة التي عصرت الحكمة من قلوب الكاتبين.

إن من مصائب أمتنا اليوم: أنها لا تقرأ، ومع ذلك فلا يتجه هذا الخطاب لها، لأن طريق الاستدراك طويل، ويبدأ بيقظة الخاصة من دعاة الإسلام، ليقودوا البقية، وإنما الخطاب متجه لهذه الخاصة الرائدة القائدة، بل ولفتيان الدعوة الميامين، الذين هم قادة المستقبل. فنعم الفتيان، فتيان الدعوة، لو قرأوا.

لقد عرفت شباب الإسلام، وصاحبتهم، واقتربت منهم، فوجدتهم من أنقى الناس سريرة، وأنصعهم طهرا، وأصفاهم عقيدة، وأجزلهم وعيا، ورأيت منهم تشميرا إلى الخير، في حرص دائب، وفرارا إلى الله تعالى من خلال طريق عريض لاحب، لكنها كثافة المطالعة تنقصهم، ولو أنهم أحنوا ظهورهم على كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ طويلا، واكتالوا لهم من الأدب والثقافة العالمية العامة جزيلا، لكملت أوصافهم، ولتفردوا في المناقب.

وإني لأعجب من دعاة الإسلام الذين أراهم اليوم، كيف يجرؤ أحدهم على إطالة العنق في المجالس، والنشر في الصحف، قبل أن يجمع شيئا من البيان جمعه الطبري في تأويل آي القرآن، وقبل أن يرفع له راية مع ابن حجر في فتحه، ولم ينل بعد من رفق أم الشافعي وحنانها، ولا كان له انبساط مع السرخسي في مبسوطه، أو موافقة للشاطبي في موافقاته؟

وكيف يقنع الداعية وهو لم يقرأ بعد المهم من كتب ابن تيمية، وابن القيم، والغزالي، وابن حزم؟ وكيف يسرع داعية إلى ذلك وهو لم يكثر من مطالعة كتب الأدب العربي القديم، ولم يعكف مع الجاحظ وأبي حيان، أو ابن قتيبة وأديبي أصبهان؟

وأعجب أكثر من هذا لداعية أثير حماسه لهذه العلوم والآداب فيقول: ليس لي وقت، كأنه غير مطالب بإتعاب نفسه تعبا مضاعفا، ولا شرع له السهر!

ثم أعجب أكثر إذا ذكرت له كتابا، فيأتيني من الغد مغاضبا، لخطأ وقع فيه كاتبه، أو بدعة طفيفة، كأن العلم لا يؤخذ إلا من صاحب سنة محضة وكتاب مصون!

وماذا عليك لو أنك قرأت ونقحت، وتخيرت وانتقيت، وأخذت وأعرضت؟

لا شيء، وأنت الرابح، إذ الأصل في التعليم: صحة المنهج، بأن تتلقى نصوص القرآن والحديث الصحيح بالتجلة والتعظيم، والتقديم لها، بلا تلكؤ ولا رد، فإنك إن التزمت ذلك: لم يضرك ما يقع بيدك مع كتب التفسير والحديث والفقه، من كتب الأدب والفكر العالمي وصحف السياسة، تقتبس منها ما لا يضاد النصوص، وتخضع صوابها لخدمة منهجك، مفترضا في نفسك الشجاعة والعقل والتمييز، فإنه لا داعي لاتهام نفسك بضعف أمام خطأ المفكرين وإغراب الكاتبين، ما دام منهجك صوابا، ونفترض فيك مقدرة وافية على اكتشاف الخطأ والميل والابتداع، وإنما ذاك هو المبتدئ الذي ما زال يحبو : نوصيه بالقرب وعدم الإيغال، وبالتجزيء وترك الاكتيال، وبالالتزام والإستئذان، نحجر عليه ونراقبه.

وتؤدي بنا هذه المعاني والحقائق إلى ميزان مهم يجدر بنا وبناقدينا اللجوء إليه، مفاده: أن كون المسلم من أعضاء جماعة الدعاة إلى الله لا يحتم علينا أن نمنحه شهادة براءة من البدع والرأي الخاطئ والتأويل البعيد، وإن كان انتماؤه قرينة على علو همته، وصفاء نيته، وإخلاص قصده، بل هو دارج على مدارج الفضل، سائر نحو تكميل وعيه وعلمه، وقد يجمع المرء بين نبل الهدف والجهل، وسمو الغاية والسذاجة، وإنما العلم بالتعلم، وما زال التتلمذ، وحوار الأقران، واعتكاف المطالعة: وسائل ضرورية لمن أراد الحكمة، وإنما يمنح السابقون اللاحق الهمام صفة الانتماء ليتاح له تحصيل العلم بهذه الوسائل، وليعينوه عن قرب، إذ هو في دارهم، وليس الانتماء نهاية سير، ولا هو دليل على اجتياز المراحل.

. فانظر أخي دمعات الأقلام: تجد خطها باسما.

. واقرأ: تعصم سيرك من الخطأ، ثم لا تزال باسما..

. وارفق بمبتدئ يرعاه الدعاة: يفقه، وتكتمل له الأسباب ما دمت له باسما.


7- شعارات

. الحازم من نظر في العواقب نظر المراقب، وعرف الإضاعة، ولم يجعل الحلم بضاعة، فإنما العمل الحقيق: عمل يصعدك ويرقيك.

. فالحذر الحذر أن يعجل للنفس سيرها، ويفارق القفص طيرها، وهي بالغرض الفاني متثبطة، وبصحبته مغتبطة.

. وإنك محتاج إلى جذبة توقد مصباح الهمة، في ديجور هذه الغفلة المدلهمة.

. فلا تكن مثل فلان، فإنما هو غريق، وتائه لا يبدو له طريق.

. اجعلن " أقلل من الدنيا " الشعار.

. فإن الدنيا منزل عبور، لا مستقرحبور، ومعبروممر، لا وطن ومستقر.

. أتطلب ما يطغيك، وعندك ما يكفيك؟

. وما الأموال إلا كالظلال!

. كل ما أغفل القلوب عن ذكره تعالى فهو... دنيا.

. وكل ما أوقف القلوب عن طلبه فهو.... دنيا.

. وكل ما أنزل الهم بالقلب فهو..... دنيا.

. فاستقم على طريقة السلف، واتجر في أسواق العمل بمالك لا بالسلف.

. وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها: هل راح منها بغير القطن والكفن؟

. وانظر كم تركت الفتن من قلب مقلب، وهوى مغلب، وكم سار في طريقها من كادح، وكثر الهاجي وقل المادح، وكم تعددت أسماؤها، واتحدت أرضها وسماؤها.

. إحدى يدي أصابتني ولم تردِ.

. الصدأ قد أتلف من النفوس وجهها الفطري الصقيل، فكيف ستستقبل ما يلقى عليها من قول ثقيل؟

. الخطب جليل، والمتفطن قليل، ولكن التنسيق يغني بإذن الله عن الكثرة. . وما الكف إلا أصبع… ثم أصبع.

. وليس سواء عالم وجهول.

. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى.

. فكن الحر.. وقدها بزمام.

. فيا رب نفس بالتذلل عزت.

. والقلب يصدأ إن لم تجله حينا.

. فجالس من تكلمك صفته، ولا تجالس من يكلمك لسانه.

. وقصر الأمل... وبالغ في العمل.

. فإنه ما طلعت شمس إلا وعظت بأمس.

. وإنك أسير عهد وشعور، وليس لك من فداء.

. حماك الله من الأوهام الطارقة، والعقول المفارقة.

. فافخر بزيت مصباحك، وبالأحبار، وليفرح الغافلون بخمر كؤوسهم وبالأوتار.

. واعلم أن الحصيرة عرش الداعية.

. وأن منابر النهاة ترسم مسار الحياة.

. واهنأ بالسكينة في ظلال التفويض.

. وليكن آخر ما تدعو... أن الحمد لله رب العالمين.