نجيب الكيلاني .. سيرته بقلمه

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
نجيب الكيلاني .. سيرته بقلمه

أبو زيد المقرئ الإدريسي


تقديم

حاولت أن أبقي على تعابير صاحب العرض، أخي الأستاذ المقرئ الأدريسي أبي زيد ماوسع ذلك الإمكان، لأني وجدتها تعابير صادقة وكاشفة، تحكي عن حياة رجل ندب نفسه لخدمة الدعوة في سبيل الله في أكثر من ميدان، وعلى رأس هذا الميدان الطب والكتابة وقد وجدت حديث الأستاذ المقرئ حديث من عرف نجيب الكيلاني حق المعرفة فقدره قدره، وكأنه كان يعيش معه حياته لمحة لمحة...ووفاه شيئا من الجميل والعرفان بأنه قدمه من خلال هذه المحاضرة التي سأتشرف بإعدادها وتقديمها للقراء تقديما يليق بها قدمت يداه من صالح الأعمال التي نسأل الله عزوجل أن يجعلها ذخرا وشفيعا للفقيد الكيلاني يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.

وأشير الى أن ماكان لي من تدخل في نص العرض،إنما دعت إليه الضرورة اللغوية، كتنسيق العبارات بالتقديم أو التأخير، وحذف التكرار الشفوي أحيانا ، وربط بعض الجمل بما ينسجم معها داخل الفقرة، وإضافة بعض الروابط المعجمية والكلمات التي يحتاجها السياق والتي كان السرد الشفوي يتجاوزها من حين لآخر، وقد وجدت الأستاذ المقرئ سعى سعيا مشكورا في إنتاج ترجمة لحياة الراحل نجيب الكيلاني، في الوقت الذي تجاهلت كتب الأدب الحديث أن تؤرخ في مظانها لهذا العلم وأمثاله في الدرب من أعلام الأدب الإسلامي .


عرض المداخلة

1- قبلت المشاركة في هذه الندوة وفاء لروح الفقيد الكيلاني. وسيكون حديثي عبارة عن إشارات تتعلق بحياة الكيلاني من خلال قلمه وليس من خلال حياته المنفصلة عن هذا القلم لأنها حياة بسيطة وعادية، ولا تثير أي نوع من الإثارة مثلما تثيره الشخصيات الدرامية التي نعرفها في عالم السياسة والدعوة، وبإستثناء عشر سنوات من عمره، تنقسم إلى مرحلتين، من السجن، فليس في حياة نجيب الكلاني الخاصة ما يثير، ولكن حياة القلم عنده: القلم الإبداعي والقلم الفكري والقلم الدعوي والقلم النقدي تمثل حياة حافلة بالنشاط في ميدان الأدب والفكر والدعوة...فهو يشكل بقلمه أمة وحده.


2- ولد نجيب الكلاني يوم فاتح يونيو من سنة 1931 بقرية "شرشابة" التابعة لمركز "زفتي" في محافظة الغربية بجمهورية مصر العربية، تخرج من كلية الطب بجامعة القاهرة طبيبا ممارسا، انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، واعتقل مرتتن:الأولى عام 1954 وأفرج عنه سنة 1958، والثانية عام 1965 وأفرج عنه سنة 1969، وسافر بعد ذلك إلى الخليج، فعمل طبيبا في أول الأمر في دولة الكويت، وثانيا في دولة الإمارات العربية، ثم تقلب في مجموعة من المناصب المتعلقة بمهنته كطبيب، كان أهمها أنه قضى عشر سنوات كاملة مستشارا أول لوزير الصحة بالإمارات العربية، وكان لهذا المنصب أثر بالغ ودور كبير في تحسين التأطير الصحي بهذا البلد، ثم وصل بعد ذلك إلى منصب مدير الثتقيف الصحي بوزارة الصحة، وهذه الفترة هي التي عرفت كتاباته الطبية الناضجة، ولما أحيل على المعاش سنة 1992 عاد إلى مصر بعد غربة تجاوزت ثلاثا وعشرين سنة، وتوفي بالقاهرة في مارس من سنة 1995.


3- العلامة البارزة المسجلة على موته ـرحمه الله ـ هي الصمت الرهيب والتواطؤ الكامل على عدم التعريف بالرجل من خلال آخر حدث في حياته، وهو وفاته، حتى المفكرون والأدباء والسياسيون المغبونون لم يستثمروا هذا الحدث وهو آخر ما يمكن أن يحرمه شخص متميز مثل نجيب الكلاني، أن يغبن حتى في التعريف بعد موته، فقد جرت عادة الأمة المتخلفة ألا تقدر رجالاتها إلا إذا صاروا إلى التراب وأمنت منهم في هدأة القبور.

وقد تواطأ التآمر الإعلامي والثقافي والسياسي في مصر وغيرها على أن يحرم نجيب الكيلاني حتى في هذه اللحظة الوحيدة من حياته، لحظة أن يغادرة هذه الدنيا لكي تنزاح عن أعدائه إحساسات المزاحمة ليبدأ شيء من السعة، التي تكون في قلوب الأحياء تجاه الأموات...هذا الصمت الرهيب هو الذي جعل ثلة من الأدباء المغاربة يحاولون جهدالمستطاع تغطية هذا الحدث وذلك بعقد مثل هذه الندوات المباركة، وفاء بحق هذا الرجل الذي أعطى الشيئ الكثير للأدب والدعوة. وقد نهض هؤلاء الإخوة - مشكورين - ينوبون في أقصى المغرب عن هذا الصمت المطبق في أقصى الشرق ووسطه، فلو أن مغنيا يهوديا مات في مصر أو غيرها، لضجت وسائل الإعلام وأبواقه الرسمية والشعبية منها، والتقليدية كالصحف والعصرية كالتلفزيون والفيديو للتعريف به، ولكن واحد من قيادات الإخوان المسلمين الفكرية، وواحد من أبرز رموزها الذي أعتقل في فترتين، فلذلك جهل عليه حتى في وفاته.

ولا أظن - بطبيعة الحال - نجيب الكلاني يتملل في قبره - رحمه الله - لهذا، فهو الذي عاش هذا الإعراض بصدره الرحب في حياته، وضل يعيش المفارقة التي عاشها قبله أحمد با كثير، وبعده إلى اليوم، عماد الدين خليل، مفارقة أن يكون له جمهور ضخم، وإنتاج كبير ومتنوع ثم لا يكون له أثر في المجال الرسمي، لا في الإعلام ولا في التعليم ولا في الأبحاث الجامعية، ألا يكون طبيعيا أن يحصل هذا مع رجل أصر على التميز في دولة كانت لها سلطة الثقافة أبشع وأقوى ماتكون ومخلبها أحد من سلطة السياسة، فما كان يمارسه الإشتراكيون على عهد عبد الناصر من سطو على الثقافة المصرية بما فيها الإبداع والنقد عبر إحتكار وسائل الإعلام بأمر من "خورتشوف" الذي إشترط ذلك قبل أن تطأ قده في الستينات أرض مصر، لكي يدشن السيد العالي الذي موله، إشترط على عبد الناصر أن يخرجهم من السجن إلى أعلى منابر الإعلام . ويمكن لأحدنا أن يقرأ - في هذا الصدد" حبل لغسيل" لعلي أحمد باكثير، فيعرف من خلال هذا العمل الأدبي ما معنى ذالك الإحتكاروالإستباد الثقافي الذي كان سائدا على عهد عبد الناصر، ودليلي على ذلك أن واحد من النقاد المصريين هو أحمد عباس صالح سئل عن سبب تغييبه في كتاباته النقدية المشهورة لنجيب الكيلاني، وهو الذي يتابع الرواية المصرية، ويمارس التعريف بها، وتقويمها نقدا، فإذا به يجيب بكل بساطة : لأنه "إسلامستان"

وهذا ناقد و أديب و مفكر سياسي مشهور هو غالي شكري، يمارس التعتيم نفسه و القهر نفسه على كتابات علي أحمد باكثير، فلم تند من حقه كلمة منصفة إلا عندما تحدث عن ترجمة شكسبير إلى العربية ما أصعابها ... ما أصعب أن يترجم شكسبير بلغته الإنجليزية المتميزة إلى العربية ويبقى حيا بل ويبقى منظوما، فإذا به يعترف أن كل ترجما شكسبير كانت رديئة جدا، وعلى رأسها ترجمة نجل طه حسين، ويستثني فقط ترجمة على أحمد باكثير التي كانت جيدة، ومع ذالك، وفي نفس الكتاب نفسه "مذكرات ثقافية تحتضر" وبعد صفحات، وجدناه يتحدث - بكل غرابة عن المسرح الرجعي ورائده باكثير - لقد كان في باكثير عزاء لنجيب الكلاني، فذاك رحمه الله قمة أعلى - وقد سبقه إلى دار الآخرة- كما سبقه إلى دار الدنيا حظه من الغربة كحظه من التفوق...كان له عزاء فيه أن يحاصر هو أيضا كل هذا الحصار... ما معنى أن يسأل أديب مسؤول، ومثقف ومفكر سياسي : لماذا لا يتناول نجيب الكيلاني في دراسته النقدية والأدبية : فيجيب هدا الجواب الحزبي الهابط : لأنه إسلامستان...يالها من نزاهة أدبية وموضوعية نقدية تنبثق من ديمقراطية حزبية صريحة.


4- ويجيب نجيب الكيلاني - طبعا عن ذلك - في كتاباته، برفضه للمذاهب النقدية الغربية وغير الإسلامية، ويجيب كذلك بإصراره على التأصيل للمذهب الأدبي الإسلامي رغم أنه مغامرة ومخاطرة وغربة، ويجيب بإصراره على الإنتماء إلى التيار الذي لم يكن له طريق إلا طريق واحد مسدود، قعره غياهب السجون..هذا النوع من الإصرار على التمييز يقدم له المبدع والمفكر المسؤول نجيب الكيلاني بالمقابل ثمن أن يكون غريبا، وهو صاحب "ديوان الغرباء"هذا الديوان الذي يعتبر شجوا وبوحا ذاتيا أكثر منه تردادا لواقع أو لذات جماعية أو لرؤية عامة، وإن كان صدى هذه الرؤية العامة وهذه الذات الجماعية يتصادى وينطلق أساسا من هذه الذات الخاصة، التي لم تكن في يوم ما ذات نجيب الكيلاني كشخص وإنما كانت ذات نجيب الكيلاني ابن الحركة الإسلامية وابن الأمة الإسلامية المسؤول والمتابع. كانت حياة نجيب الكيلاني حافلة، فهو في حياته الشخصية الإنسان النظيف والمستقيم، وهو في حياته المهنية و العلمية المتفوق المخلص، سواء في مصر أو خارجها، وهو في حياته الإبداعية الفكرية الملتزم المتميز فلندع قلمه يؤرخ لذاته ولنفسيته ولرأيته...

1- لقد استعمل نجيب الكيلاني كل الأجناس الأدبية للتعبير عن ذاته، لكتابة سيرته الذاتية، أحيانا كامنة وأحيانا بارزة، نجيب - مثلا - في ديوان " أغاني الغرباء" وهو ديوان بطريقة متميزة من دواوينه المتعددة، التاريخ النفسي من خلال الجنس الأدبي الذي هو الشعر، نجد تاريخ السجون، وتاريخ الصمود الذي هو سلاح المؤمن في هذه السجون الرهيبة، وهو تاريخ السجون يغطي عقدا كاملا من العمر وكل يوم في غياهب السجون يعد بعام، وكل ساعة بشهر، ومن يقرأ" سراديب الشيطان" و" البوابة السوداء" "ومذابح الإخوان" يدرك حقيقة هذا الكلام ويبدو أن كل متتبع لأدبيات الإخوان الفكرية والإبداعية في ميدان السجون يعرف بأنها أدبيات بارزة و طامية، ومع ذلك فهي لا يمكن أن تفي بلحظة واحدة من لحظات المعاناة التي عاشها الإخوان المسلمون في السجون.


2- الجنس الأدبي الثاني الذي استعمله في التعبير عن ذاته هو الرواية، كتب "حكايات طبيب" وفيها يؤرخ لجانب آخر، فإذا كان للشعر يؤرخ للجانب النفسي لأنه يتوافق معه، فإنه في الرواية اختار أن يؤرخ للجانب المهني فكتب "حكايات الطبيب" وهذه المذكرات لو محيت منها اسم نجيب الكيلاني لظلت مجموعة قصصية منفصلة متداخلة في قصة كبيرة ولكن من يعرف نجيب الكيلاني يعرف سيرته، ويعرف مهنته، يدرك بأنها سيرة ذاته له هو طبيبا، وهنا أيضا يحضر السجن الذي كان ثقل دائم في إبداعه، لأنه كان له ثقل في حياته النفسية وفي حياته الزمنية حتى بالمنظور المحايد للعمر إذ نجد أن شطرا من هذه القصص في "حكايات طبيب" تتحدث عنه طبيبا في السجن: إما طبيب موظف عند الدولة بين فترتي سجنه في السجن، فقد أبوا إلا أن يسجنوه حتى إذا ما سرحوه وظفوه طبيبا في السجن وإما مسجونا يتطوع لإنقاذ حياة صحية متدهورة وهو الطبيب الماهر المتفوق في مهنته ودراسته، وهكذا قضى جزءا مهما من حياته طبيبا في السجون...

وسأحكي لكم حكايات طريفة في حياته أوردها في كتابه "لمحات من حياتي" حكى أنه كان عنده في السجن طبيب كان في الحقيقة ممرضا سمته إدارة السجن طبيبا، وكان جاهلا وفاسد الأخلاق، وكان يمهر في تعذيب الإخوان بوسيلتين: الأولى إذا ما طلب أحد الإخوان الحمية، فإنه إذ يطلب منه تقرير في الموضوع يبعث به إلى إدارة السجن يعجز عن كتابة مثل هذا التقرير لجهله ولكسله، فيرفض أن يصرفها له وكان السجناء يفضلون الحمية على أكل السجن، لأن الطعام كان رديئا جدا، ويكفي من رداءته أن السجناء كانوا يأخذون اللحم "المطبوخ" فيجدونه أصلب من الحجر وأنتن من الخنزير، وكان يغسلونه بالصابون ويفركونه عدة مرات ثم يعيدون طبخه، لا يؤكل، وإن أكل لا يهضم، فكانون يطلبون الحمية لأنها فيها بعض الرحمة فيمنعهم ذلك الطبيب منهم.

والوسيلة الثانية التي كان هذا "الطبيب" يعذب بها الإخوان، وهي أقبح من أختها، عندما يعرض أخ على عقوبة الجلد بموجب مخالفته للوائح فكان يعرض على الطبيب حتى يقرر في حالته الصحية، هل تتحمل الجلد وهل تتحمل الحد الأدنى أم الحد الأقصى، فكان يوقع من دون تردد على أن حالة السجين تتحمل أقصى من عقوبة الجلد.

المضحك أن "الطبيب" كان إذا مرض أتى نجيب الكيلاني ليفحصه ويشخص له الداء وقد كان له سلطان رهيب في السجن ولكنه إذا مرض أتىنجيب الكيلاني متذللا متوسلا..

هكذا وجدنا نجيب الكيلاني في "حكايات طبيب" يعتمد الجنس الروائي الذي هو مجاله الواسع والذي هو فارس حلبته لكي يؤرخ لرحلته المهنية التي هي أيضا شطر متميز من حياته، فنجيب الكيلاني صاحب المهنة النظيفة والنبيلة والمهنة الإنسانية الراقية مارسها تطبيقا بمعالجة المرضى، ومارسها تنظيرا بالإرشاد والتوجيه، وبالإدارة العامة وبالكتابة أيضا، فقد كتب عن الإيدز، وكتب عن الصحة والصوم ، وكتب عن المجتمع المريض وهو في السجن وكتب عن المشاكل الصحية، وحصل على جائزة دولية في هذا الباب، وجائزة وطنية في مصر، وكتب كتابات عديدة في مجال التوعية الصحية وأسلمة الوعي الطبي والثقافة الصحية، قد كتب هذا في الفترة التي كان يشغل فيها مديرا للثقافة الصحية بدولة الإمارات، وهي مهمة ليست موجودة في كثير من بلدان العالم المتخلف والعالم الإسلامي للأسف.


3- والجنس الثالث الذي اعتمده نجيب الكيلاني، وهو الجنس الصريح في التعبير عن الذات، هو السيرة الذاتية، فكتب" لمحات من حياتي" في خمسة أجزاء، عندما نقرأ "لمحات من حياتي" نجد أنها سيرة صريحة يتحدث فيها باسمه عن نفسه، ويتحدث عن مراحل حياته بشكل سريع، أي في "لمحات"بالفعل، فكان العنوان وفيا لمضمون الكتاب.

وقد حاول على مستوى اللغة والإبداع أن يكتب كتابة شبه فكرية ،فالرجل-بوعي منه أن السيرة تتأرجح بين الفكر والتاريخ وبين الإبداع الفني- حافظ في أسلوبه على الحد الأدنى من الأداء الجمالي، ولاحظت أن هذا الحد الأدنى هو الذي يمثل ما ينزل إليه أدب نجيب الكيلاني الروائي عندما تهبط به السردية إلى التقريرية، ولو كتب لي أن أتحدت عن نجيب الكيلاني روائيا لأفضت في هذه النقطة، ذلك أنه يستثيره أحيانا حدث تاريخي أو ملمح من ملامح الشخصية التي يكتب عنها فيستغرق كما ولو كان يركب فرسا يتهادى به ذات اليمين وذات الشمال، يقف عند لقطة نفسية أو عند مكون جمالي أو عند حدث تاريخي، وفي لحظة من اللحظات إذ به يحس أن عليه أن يقع الطريق فيستحث في قلمه عبر الكتابة المتوسطة التي تلامس أحيانا التقريرية، لنأخذ - مثلا - روايته الرائعة والضخمة، المكونة من جزأين"نور الله" في هذه الرواية وقفة على محطات رائعة في السيرة النبوية وجلاها، ولا أحسب أديبا مسلما قدم لسول الله صلى الله عليه وسلم بوسيلته الطاهرة هذه الخدمة، ما قدمه نجيب الكيلاني في روايته"نور الله" ولكن غالب الأحداث كانت مقتضية، لأنه يستحيل تغطية السيرة النبوية في عمل فني ، إلا إذا كان في عشرات المجلدات، ولأن كل حدث يحتاج إلى مجلد كامل، فهو يستحث الخطى، وخاصة في الأخير، حيث تسقط الرواية في التقرير من خلال الوصف التاريخي الموجز والمقتضب، هذا المستوى الذي يمثل الحد الأدنى من كتابات في الرواية، صار يمثل عنده الحد المتوسط في السيرة الذاتية، حاول أن يلتزم به نفسه في كتابه "لمحات من حياتي" والعجيب جدا أن "لمحات من حياتي" استغرقت خمسة أجزاء ولم تكن سوى لمحات، لماذا؟ هل شخصيته من الغنى والإثارة ما يقتضي كل ذالك التطويل ثم لا يكون ذلك سوى لمحات؟ أم هناك شيء آخر كامن وراء تسمية الكتاب بلمحات؟ وقد قلت إن شخصية الكيلاني خارج قلمه شخصية بسيطة وعادية، وهي شخصية داعية مخلص، مثقف نظيف، مهني ناجح ثم مبتلى بالسجون مهاجر إلى أن عاد إلى بلده ثلاث سنوات قبل وفاته، ولكن جانب التضخم – مع كونها لمحات - في كون نجيب الكيلاني لا يتحدث في ذاته إلا عن ذاته، فهو - حتى في اللحظة التي يستغرق فيها الإنسان نفسه يسرق فيها الإنسان نفسه من العالم الخارجي ليكتب عنها ، يكتب عن الآخرين "لمحات من حياتي" لا تجد من سيرة نجيب الكيلاني إلا لمحات، وتجد - عوضا عن ذلك - الواقع الذي تحركت فيه ذاته كنقطة في بحر، وهذا يمثل - بالطبع - تواضع المؤمن ورؤيته وغايته ... فعندما نقرأ الكتاب نجد من هذه الطفولة ولا نجد من هذه الطفولة تفاصيل كثير عن حياته بقدر ما نجد ذلك عن قريته بيئية نموذجية للحياة المصرية الريفية في عهد الملك فاروق، ثم نجد بعد ذلك إمعانا و إغراقا وتدقيقا عجيبا في المقارنة بين عهدي الملكية والجمهورية التي تلتها، والذي نستنتجه من هذا المجلد الأول هو أن عهد الملكية في مصر كان لا يقارن من حيث حقوق الإنسان والعناية الاجتماعية و الثقافية للإنسان المصري بما فعله عبد الناصر، في حين الشعارات التاريخية والكتابات السياسية و الديماغوجية الرسمية تقدم الصورة المناقضة تماما...ولو قرأ أحدنا "مصر بين عهدين" لصلاح الدين حقي، ثم قرأ"بشوات و سوبر بشوات" لحسين مؤنس لاكتملت عنده الصورة الحقيقية فالأول كتابة سياسية ،والثاني كتابة تاريخية، واللمحات كتابة أدبية، ولكن المجموعات الثلاث تتصادى في اتجاه واحد مفاده أن العهد الملكي صار حلما -على الرغم من مفاسده- بعد حكم جمال عبد الناصر والعساكر الأشرار .

ولهذا وعندما نقرأ المجلد الأول لا نقرأ ذات نجيب الكيلاني وإنما نقرأ فضاء مصر بين عهدين سياسيين . وأثارني أن الرجل يستوحي شيئا من كتابات سيد قطب - رحمة الله عليه- الذي كتب "طفل من القرية" فنجد النفس الريفي الحالم والرومانسي في هذا الجزء الأول عند نجيب الكيلاني .

أما الجزء الثاني فيتحدث فيه الكيلاني الشاب والطالب في الجامعة وابن الدعوة الإسلامية، وفي هذه الفترة -أيضا – لا نجد كثير الحديث عن شخصية نجيب الكيلاني الذي انتمى إلي الإخوان المسلمين عندما تحول من شرشابة إلى القاهرة وعندما بدأ يدرس في الجامعة، وإنما نجد العهد السياسي الزاهر والمتوثب الذي عاشه مع الإخوان المسلمين في هذه الفترة من حياته، ويختم هذا الجزء بالحديث عن إعتقاله ، عندما قبض عليه - وهو طالب بالسنة الرابعة في كلية الطب - ضابط سياسي كبير، فقاله وهو يمسك به :" أهلا بوزير صحة الإخوان"

والجزء الثالث من الكتاب يتحدث عن سجنه، وفيه تهيمن نفسية السجين، ولكن الإبداع الأدبي أيضا يحضر حضورا قويا، وفيه يتحدث عن قدرته على كتابة الرواية الأدبية، وهنا يبدأ الأديب المناضل، يبدأ قلم المجاهد، وليس قلم المسترخين على الأرائك، الآكلين بأقلامهم أصحاب الدعاوى الثورية المحدثين عن نظام اللغة كسلطة" عن الإبداع والتغيير" أما الرجل فكان يكتب في السجن حيث حق الحياة ممنوع وحق التفكير والإحساس ممنوع، أما القلم والورق –كأشكال مادية لهذه الحياة الإنسانية النفسية – فأمر مستحيل، فقد كان نجيب الكيلاني يمارس جريمة تهريب الورق والقلم وجريمة الكتابة في ظروف صحية ونفسية ملؤها الجلد والقهر والتعذيب والظلام والتجويع، والعساكر الذين سمتهم البلادة والأمية والبداوة القاسية، يتم اختيارهم لكي يمارسوا التعذيب بقساوة على الطريقة الصربية ووسط هذا الجو المحموم والرهيب كتب نجيب الكيلاني مجموعة من رواياته، ولا يقف به التحدي عند ممارسة الكتابة، بل يمتد، وهذا هو التحدي الأعظم ،إلى تهريب هذه الروايات بطرق -الله أعلم بها- ثم استطاع توصيلها مستغفلا الهيئات الحكومية العليا باسم مستعار، حتى تحصل على الجائزة الأولى للإبداع الروائي في مصر لكل سنة. وقد حصل على ثمان جوائز في سنوات متوالية كأحسن روائي وكان بعد أن يعطي الجائزة – يكتشف بأنه سجين، فينتقل في ظروف مضحكة مبكية من السجن، وقد ألبس ثيابا جديدة لكي يحضر حفل توزيع الجوائز والاحتفال به، ثم بعد ذلك يعاد إلى السجن في ظروف مضحكة مبكية من جديد، ويمكن العودة إلى كتاب "لمحات من حياتي " لكي يطلع القارئ على هذه الحكايات العجيبة. والجميل أيضا في هذه الفترة أنه كتب رواياته الوطنية "في الظلام" " الدرب الطويل" اليوم الموعود"، وفي هذه الروايات الثلاث نجد المفارقة الساخرة، حيث يستطيع الروائي الأديب بقلمه أن يسخر من العسكري بجزمه وبإعلامه وجاسوسيته، ولنتصور دولة يحكمها عبد الناصر ويسيرها المخابرات في صلاح نصر، ويستطيع سجين من الإخوان المسلمين رغم الكلمة الممنوعة كما لو كانت "هروينا" أن يصل إلى هذا المستوى الذي ذكر، وفي الروايات الثلاثة توجد هذه المفارقات الساخرة، وهي روايات يطبعها الحديث عن الإعتقال السياسي وتعذيب المناضلين السياسيين والوطنيين أيام الملكية، ثم كيف أنه لما جاءت الثورة خرج هؤلاء المناضلين من السجن وكأن الثورة جاءت استجابة لنضالهم، والحقيقة هي غير ذلك، ولهذا لا تأخذ الثورة حيزا ملحوظا في روايات نجيب الكيلاني، وإنما أشارة إليها حسب ما تقتضيه الظروف، لكونه سجين يقدم لرواته لجهة رسمية، وهي التي ستعطيه الجائزة، فطبيعي أن يكون منه بعض المداهنة للثورة أو حتى بعض التظاهرات بمجاملتها، إلا أنها لا تحض في الروايات الثلاثة إلا بجملة واحدة، وهي أنه لما قامت الثورة أشاد بإخراج هؤلاء المناضلين من السجون، ومن الطبيعي أن العسكري البليد على الطريقة الستالنية والبوكدانوفية، عندما يقرأ الرواية بسرعة، وغالبا ما يقرأها له المخبر، والمخبر ليس أديبا ولا فنان، يقرأ الرواية عن الفترة الملكية، وهم أسقطوا الملكية، فيريدون أن يشوهوها، ويقرا في الرواية عن الوطنيين الأحرار الذين يعذبون في أيام الملك فاروق فيسرهم ذلك، ويقرأون في آخر جملة أنه لما قامت الثورة خرجوا من السجون، ولكنك عندما تقرأ الروايات الثلاث، تجد أنه ضمن فيها ألوان التعذيب والقهر التي كانت أيام عبد الناصر، وأن الثورة كلمة بريئة من انقلابهم، وأن الثورة شيء آخر ينتظر لكي يخرجهم من السجون، هذه المفارقة كل حاكم توصل بالقوة إلى مرحلة اللاتمييز بين الألوان، فلا يسقط القيم المجردة على ذاته لكي يحاسبها، وإنما ينظر إلى المسألة نظرة تاريخية محضة . ولهذا استطاع نجيب الكيلاني أن يخدع النظام الحاكم ثلاث مرات :

خالف أولاً - لوائح السجن الصارمة وأبدع وكتب هذا الإبداع وهربه وحصل على جوائز جد هامة، وثقب عين الإعلام المظلم القامع.

واستطاع ثانياً: أن يوهم النظام أنه مع الثورة وهل يكون سجين سياسي تسجنه "ثورة انقلاب " إلا ضدها.

واستطاع ثالثاً: إن يمرر خطابه ضد الثورة من خلال الرواية التي خرجت من السجن لكي تعانق وتحضن في الهيآت الرسمية العليا، وهذا هو التحدي الذي مارسه نجيب الكيلاني في دولة السلطة الستالينية الرسمية وقمع الإسلاميين ومنعهم، فيحصل على الجائزة الكبرى من أجهزة الدولة الرسمية.

يحكي أنه في الرواية الأولى، عندما جاءوا من السجن، ومنعوا الناس من الإتصال به، كان بعض الصحفيين والمثقفين يحترق، يود أن يكتشف سر هذا الروائي السجين، لأنهم قالوا لهم: إنه سجين عادي لا سجين سياسي... فكيف يعقل أن مثقفا ذا إحساس وطيبا وأديبا يمكن أن يكون يمكن أن يمارس جريمة عادية من جرائم المنحرفين من ضحايا الأمية والجهل في الأحياء الفاسدة، ثم صار إلى السجن وقد حاول الصحفيين والمثقفين أن يتصلوا به، ولكن الشرطة منعتهم حتى داخل الحفل وهو ينتقل عبر التلفزيون، ثم ينقضي الحفل ويعاد الكيلاني إلى السجن في تلك الصورة المضحكة المبكية التي ذكرت ...


4- هناك نوع رابع من الكتابة، ظهرت فيه ذات نجيب الكيلاني، هي الكتابة النقدية، وهي ليست جنسا أدبيا، ولكنه جنس الكتابة الذي يوجهه هذه الأجناس الثلاث المذكورة، في كتاب "رحلتي مع الأدب الإسلامي" يظهر نوع من التأريخ للذات الأدبية المبدعة .... ففي الجزء الأول من كتاب " رحلتي مع الأدب الإسلامي " ضمن نجيب الكيلاني رؤاه وأفكاره وقناعته العامة التي تميز شخصيته الأدبية والإبداعية وتصوره للأدب الإسلامي وللنقد الإسلامي، وهي غالبا تمشي مع روح المقدمات التوجيهية التي يضعها للرواية والتي تنم عن حس أدبي أكاديمي، رغم أن الرجل ليس متخصصا في النقد، وهذا هو وجه قوة التميز عند نجيب الكيلاني قد لا يكون المبدع بالضرورة ناقدا أو دارسا للأدب أو أستاذا له أو حاصل على شهادات جامعية فيه، لأن الإبداع حالة مفارقة لحالة الوعي والدراسة، ولكن أن يكون ناقدا فهذا شيء لا يتميز به إلا بعض الإسلاميين مثل نجيب الكيلاني وعماد الدين خليل، فنجيب الكيلاني كان طبيبا، وبقي يمارس مهنة الطب إلى آخر حياته، وليس كبقية الأطباء الذين اشتهروا بالطب ليومين ثم صاروا مبدعين مثل يوسف إدريس الذي يعتبر عندهم من قمم الإبداع الأدبي المصري، وقد طلبوا وكتبوا عنه ، وكان يتقن فهما واحدا، هو فن المسرحية لا غيرها، وقد صار يوسف إدريس ناقدا وأديبا وسياسيا على الطريقة التي كان عليها شيخه والمهيمن عليه محمود أمين العالم وأحمد عباس صالح وغيرهما ...وهناك أيضا باحثون في تخصصات علمية عرف عنهم أنهم، لما ابتلوا بحرف الأدب، تركوا تخصصاتهم، أما نجيب الكيلاني فقد بقي يمارس مهنته طبيبا كأحسن ما تمارس، ويبدع فيها كتابتا وتوجيها وإدارة وتطبيقا حتى حصل على تقاعد وفي الوقت نفسه كان يبدع ويكتب كتابات نقدية .

وتحضرني الآن المقدمة التي كتبها لرواية "نور الله " والمقدمة التي كتبها لرواية " الظل الأسود" لقد أرخ لكل الثورات الإسلامية المعاصرة وللأقطار العربية الإسلامية المعاصرة، ولصراع الحركات الإسلامية مع العملاء والاستعمار فيها، فقد كتب "ليالي تركستان " عن تركستان وكتب "عذراء جاكارتا " عن جاكارتا، وكتب " الظل الأسود" عن إيتوبيا، وكتب "عمالقة الشمال" عن انقلاب أحمد وبيلو في نيجريا، وفي المقدمات التي ذكرت نجد الروح العامة التي تجمعت في هذا القسم الأول من الكتاب. أما الجزء الثاني من كتب "رحلتي مع الأدب الإسلامي" فهو يمثل وجه الأمانة العلمية لديه، حيث مجده عمل جهده في نقل أغلب ما كتب من نقد عن إبداعه الإسلامي بدون تدخل أو تعليق .


خاتمة

وفي الختام، وبشكل سريع أقول إن حياة نجيب الكيلاني خارج قلمه هي حياة عادية وهي حياة داعية مبتلى وحياة مهني ناجح، ولكن داخل قلمه هي حياة متميزة وصاخبة ومثيرة وقوية، قوامها ثمانون عملا بين إبداع ونقد وكتابة فكرية وكتابة طبية ، وهذا ليس هينا ، فقد غطي أغلب الأجناس الأدبية تنظيما وإبداعا من رواية وشعر وغيرها، وداخل القلم نجد حياته مصهورة وذائبة في أمته، في قطر، وفي حركته الإسلامية التي كان يحيا فيها، فهو بجنس الشعر أرخ للعالم النفسي ، وبجنس الرواية أرخ للعالم المهني، وبجنس السيرة أرخ لعالمه ولمحيطه الثقافي والسياسي العام ، أرخ كذلك بجنس النقد الأدبي لإبداعه ولرحلتهالأدبية..

وأحب أن أشير إلى أن نجيب الكيلاني استطاع إن يخترق حاجزا ضخما في حياته الفنية ، رغم كل الحصار الذي مارسه عليه النقاد المصريون والنقاد الذين كانوا لهم تبعا في العراق وسوريا والمغرب وغيرها، هذا الحاجز هو المصداقية و المحك، وهو عالم الإخراج الفني : فقد ظهرت له في التلفزيون روايته " في الظلام" وظهرت له بعض القصص القصيرة التي تحولت إلى تمثيليات تلفزيونية، أما في مجال السينما فقد تعاقدت معه مؤسسة الإنتاج السينمائي في القاهرة على إنتاج السينمائي في القاهرة على إنتاج فيلم "ليل وقضبان" المأخوذة من رواية " ليل العبيد " كما تعاقدت معه نفس المؤسسة على إنتاج رواية "اليوم الموعود" فيلما، تلك الرواية التي نالت جائزة المجلس الأعلى للفنون والأدب ، ولم ينتج هذا الفيلم لأن تكاليفه بدت باهظة جدا، أما إنتاج قصة "قلوب تائهة" فهناك شبه اتفاق عليه.

فليتخيل المتأمل رجلا كنجيب الكيلاني محاصرا إعلاميا على مستوى الإبداع الفني ومحاصر لأنه ينتمي إلى فئة الإخوان المسلمين المحظورة في المجتمع العربي، ومع ذلك يجد طريق إلى الجهات التي تمثل السلطة الحقيقية في أية دولة وهي التلفزيون والسينما، فإن دل هذا شيء فإنما يدل على أن الرجل استطاع بقدراته الذاتية الأدبية والفنية إن يخرق كل هذه الحجب، وأن يفرض نفسه في عالم غريب عنه غربة كاملة، يقرأها القارئ في ديوان "أناشيد غرباء" .

أما المحك الحقيقي، والنيشان المشرف، وعلامة الحقوق الحقيقي، فهي إقبال القراء على إنتاجاته الأدبية والفكرية بنهم متميز، وحسبك دليل ألا كتاب واحد لم ينقد من السوق في فترة قياسية ويعاد طبعه مرات ومرات، حتى سارت أعماله نهبا للسرقات العديدة في مجال الطباعة والنشر، رحمه الله حيا و رحمه الله ميتا ورحمه يوم يبعث من جديد وجعل لنا من هذه الرحمة نصيب آمين.