من بقايا الأيام (الجزء الأول)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
من بقايا الأيام ( الجزء الأول )

بقلم / الأستاذ عصام العطار


مقدمة وإهداء

هذه بقايا قليلة ممّا ذهبت به الأحداثُ والأيّام، من كلماتِ ومقالاتِ وخطبِ وأحاديثِ الأخ عصام العطّار، على امتداد عشراتِ السّنين

وقد كتبَ بعضَها كتابةً أو أملاه إملاءً، وبعضُها خُطبٌ خطبها، أو أحاديثُ تحدّث بها، فلخّصها في وقتها بعضُ من كانوا يستمعونَ إليها من الشّباب، أو نقلوا ما كان مسجّلاً منها على الوَرَق، وسننشرها أجزاء متوالية إن شاء الله

وكنّا نحبّ أن نرتّبها على حسب موضوعاتها ترتيباً يعطي القارئ صورةً متناسقة متكاملة عمّا اشتملت عليه في مختلف المجالات؛ ولكنّنا آثرنا -استجابةً لإلحاح القرّاء- ألاّ نؤخِّر الْبَدْءَ في إخراجها حتّى تجتمعَ عندنا أو تُعَدّ سائرُ موادّها، وحتّى يتمّ لنا ترتيبُها كما نحبّ، على أن نستوفي ذلك في طبعة تالية إن شاء الله

وإنّنا لنسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الكلمات والمقالات والخطب والأحاديث مجتمعةً كما نفع بها متفرّقة، وأن يتقبّل منّا جهدنا خالصاً لوجهه، ويجعله ذخراً لنا يوم نلقاه


الإهداء

إلى رفيقةِ روحي وفكري، وطريقيَ الإسلاميِّ المستقلِّ المتميّز، وعمليَ المتواصلِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ إلى المسلمةِ المشرّدةِ الغريبةِ التي لم تجد في العالم الإسلاميِّ كلِّه مأوىً صغيراً لها ولأسرتها في حياتها، ولا مثوىً بسيطاً لجثمانِها الطّاهرِ بعدَ وفاتِها، فرقَدَتْ بعيدةً بعيدةً في ديارِ الغرب: في مقبرةِ "هُلْس" بمدينة آخن

إلى زوجتي المجاهدةِ الصّابرةِ، الشَهيدةِ الغاليةِ الخالدةِ: "بنان علي الطنطاوي" أهدي هذا الكتاب؛ فشطرٌ كبيرٌ ممّا فيه قد شهدتْ -رحمها الله- ولادتَه، أو خَطَّتْهُ يدُها المحبّةُ المخلصة، وأنا أمليه عليها من فراش المرض

عصام العطار

نَمْشي إلى الْغَايَةِ الكُبْرى على ثِقَةٍ

وأَنْفُسٌ قدْ شَرَاها اللّـهُ صادِقَةٌ

ما طَأْطَأَتْ قَطُّ للطّاغوتِ صاغِرَةً

لَنْ يَغْلِبَ الْحَقَّ طَاغوتٌ فَلا تَهِنُوا

اللّـهُ أكبرُ والأَقْدارُ ماضِيَةٌ

سَنَصْدَعُ الْلَّيْلَ مَهْمَا اشْتَدَّ غَيْهَبُهُ

فَجْرٌ منَ الْعَدْلِ و الإسلامِ مُؤْتَلِقٌ

عَزْمٌ حَدِيدٌ ونَهْجٌ غَيْرُ مُنْبَهِمِ

أَقْوَى منَ الْمَوْتِ والتَّشْريدِ والأَلَمِ

خَوْفاً وعَجْزاً وما أَلْقَتْ يَدَ السَّلَمِ

ولو تَسَلَّحَ بالأَفْلاكِ والرُّجُمِ

أينَ الطَّواغِيتُ مِنْ عادٍ ومنْ إِرَمِ؟

ونَحْمِلُ الفَجْرَ لِلإِنسانِ والأُمَمِ

نُهْدي سَنَاهُ لأَهْلِ الأرضِ كُلَّهِمِ

كلمات

● أنْ نَرْفَعَ كلامَ المخلوقِ إلى مستوى كلامِ الخالقِ في التّسليمِ والتّعظيمِ والطّاعةِ المطلقةِ، شِرْكٌ نَبْرَأُ إلى اللهِ منه، وسُخْفٌ نَرْبَأُ بأنفسنا عن الانحطاط إليه، مهما بلغ أصحابُ هذا الكلامِ في أنفسنا، واستأهلوا عندنا، من المحبّةِ والثّقةِ والتّقدير

● إنّنا مرحلةٌ من مراحلِ الطّريق، ولسنا نهايةَ الطّريق؛ وجسرٌ للمستقبل، فَلا بُدَّ من تجاوُزِنا للوصول إلى المستقبل

أمّا الذينَ يقفونَ عند ما صَنَعْناهُ وكتبناه، فلن يقتربوا منَ الغايةِ الْمَرْجُوَّة، ولن يُحقّقوا للإسلامِ والمسلمينَ والإنسانِ، ما يُؤْمَل فيهم، ويُنْتَظَرُ منهم، من الخير

● لا يصلُ الإنسانُ إلى الكمال، ولكن يقتربُ بسَعْيهِ وهدايةِ اللهِ مِنْهُ، ففيه دائماً -مَهْما حاولَ- نقص، ولا تكونُ له العِصْمَةُ -حاشى الأنبياء- فعنده دائماً -مهما حاولَ- خطأ، ولا بُدَّ أن يظهرَ أَثَرُ نقصهِ وخطئهِ فيما يقولُ أو يعمل

● انظروا إلى أقوالِنا وأعمالِنا بعينٍ واعيةٍ ناقدة، فتداركوا الْنّقص، وصحّحوا الخطأ، فذلك حقٌّ للهِ وللنّاس، وضرورةٌ للسّلامة والتّقدّم، وهو أفضلُ هديةٍ وأكرمُ يَدٍ تُسْدونَها إلينا في الحياة وبعد الممات



الغياب الإسلاميّ المذهل

إن غيابَ الإسلام، وغيابَ الحركات الإسلاميّة، وغيابَ العناصر الإسلاميّة البارزة، عن ساحة الأحداث المصيريّة الكبرى، في العالم العربيّ والإسلاميّ لَهو أمرٌ مُذْهِل -كما يقول عدد كبير من قرّائنا فيما أرسلوه إلينا من رسائل-

فالإسلام، والحركاتُ الإسلاميّة، والعناصرُ الإسلاميّة البارزة، غائبون عن أضعف التأثير في المواقف الرسميّة، غائبون عن أضعف التأثير في المواقف الشعبيّة، غائبون حتى في مجال الفكر والكلام الْمُجَرَّد، لا يكاد يُحَسُّ لأكثرهم في هذه الأيام التاريخيّة وجود، ولا يُسْمَعُ لأكثرهم في هذه القضايا المصيريّة صوت، ولا يُعْرف لأكثرهم موقفٌ أو رأي

أينَ هو الإسلام الآنَ في حياة العرب والمسلمين؟ أين دورُه الكبير المأمول؟ أين حركاتُه وجماعاتُه؟ أين رجالُه، أو الذين يَدَّعون أنّهم رجالُه؟..

أينَ الكلمةُ الإسلاميّة الجريئة؟ أين المواقفُ الإسلاميّة الشامخة؟ أين آثارُ الوجودِ الحقيقيّ الفعّال، إن كان للعاملين للإسلام حقاً وجودٌ حقيقيّ فعّال..

أينَ آثارُ هذا الوجودِ على الصعيد الرسميّ؟

أينَ آثار هذا الوجود على الصعيد الشعبيّ؟

أينَ آثار هذا الوجود على الصعيد المحليّ والدوليّ؟

أينَ أينَ آثارُ هذا الوجود؟!!

إنّه الغِيابُ الْمُذْهِل -كما يقول الإخوة القرّاء- الغيابُ الذي يُحِسُّه الإنسانُ ويراه، ويحسُّ رهبتَه وعمقه وسعته أشدَّ إحساس.. إلاّ أن يكون ممّن يسرحون مع الأحلام، ويخدعون أنفسهم بالأوهام؛ الأوهام التي تُبَدِّدُها أبسطُ نظرةٍ صادقة واعية للواقع الذي نواجهه كل يوم

هل كُتِبَ على المسلمين يا تُرى أن يعيشوا في بلادهم وعالمهم على الهامش، أو هامش الهامش؟ هل كتب عليهم أن يعيشوا خارجَ إطارِ الزمنِ والأحداثِ الكبرى، وخارجَ إطارِ التأثيرِ في الزمن وأحداثِه الكبرى؟ هل انحصرت مهمّةُ المسلمين في هذا الواقع الجاهليّ الفاسد، بالفروع والجزئيّات، حَبسوا أنفسَهم فيها، وحدّدوا أهدافَهم وآفاقَهم بها، ترتفعُ أصواتُهم في كلّ مكانٍ من أجل هذه الجزئيّات والفروع: هذا فلمٌ سينمائيّ فاسد، وهذا موظفٌ صغير مرتشٍ، وهذه سِلعة تباعُ بضِعْفِ الثمن.. ولا ترتفعُ أصواتُهم بنفس العدد، وبنفس الحماسة والْمَدى، وبنفس الجرأة والقوّة، في القضايا المصيريّة الكبرى.

لقد قَبِلَ أكثرُ المسلمين الواقع الجاهليّ الفاسد بأُسُسِهِ وأركانه، وجذورِه الضارِبَةِ في أرض الباطل والضلال، وعارضوه معارضةً سطحيّة في بعض الأجزاء والفروع، مُتهيِّبينَ أشدَّ التَهَيُّب أن يَقْربوا الأسُسَ والجذور والأركان

ولقد خضعَ أكثرُ المسلمين لبعضِ حكّامهم أو المتحكِّمين فيهم، في أمور كبيرة خطيرة، خرجوا فيها على حكم الله عزَّ وجلَّ، وخانوا بها مصلحةَ الأمّة والبلاد، وعارضوهم في أمور صغيرة لا تقدِّم ولا تُؤَخِّر، ولا تجرُّ على من يعارض فيها أذىً في أكثر الأحوال، وبخاصّةٍ عندما تكونُ هذه المعارضةُ مع الولاء الأصليّ، ومع السمع والطاعة واللفّ والدَّوَران.

الحكمُ في بلادنا الآنَ لغير الإسلام!

والمعارضةُ في بلادنا الآن من غير المسلمين!

يتكلّمُ حكامُنا فإذا أكثرهم أمريكيّ أو روسيّ، وغربيّ أو شرقيّ، أو شيءٌ آخرُ غير هذا وذاك، ولكنّه لا يصدر عن الإسلام

ويتكلّم المعارضون للحكّام فإذا هم كالحكّام حرباً للإسلام، أو بعداً عن الإسلام، أو إهمالاً للإسلام.. فأين هو في حياتنا الإسلام؟!

إنّنا نناشدُ المسلمينَ جميعاً أن يواجهوا بصدقٍ هذه الحقيقةَ الفاجعة، وأن يشعروا بمسؤوليتهم عن إسلامهم، وعن أمّتهم وبلادهم، في هذه المرحلة التاريخيّة الحاسمة

وإنّنا لندعو العاملين للإسلام، حركاتٍ وجماعاتٍ وأحزاباً وأفراداً، إلى الثقة بالله عزَّ وجلَّ، وإلى إيثار الآخرة على الدنيا، وإلى أداء الأمانة، وتبليغِ الرسالة، وإعلانِ كلمة الإسلام بجرأة، وسلوكِ سبيله في مختلف الميادين، وعلى كلِّ المستويات

أيّها المسلمون

الإسلام إنَّما يعملُ عملَه، ويؤدّي دورَه، برجاله الذين يؤمنون به، ويفهمونه، ويسلكون سبيله، ويعلنون كلمته، ويجاهدون به لاقتلاع جذور الطاغوت، وقيادةِ الأمّة والبلاد، وقيادةِ البشريّة كلّها، إلى خَيْرَيِ الدنيا والآخرة.. فإذا أنتم لم تسلكوا سبيل الإسلام، ولم تعلنوا كلمته، ولم تجاهدوا لانتصاره، وانتصار المسلمين به، فإنّكُم تخونون الإسلام والمسلمين، وتُمَكِّنونَ للطاغوت، وما يريده الطاغوتُ، على كلِّ صعيد

ثوروا -أيّها المسلمون- على أنفسِكم أفراداً، وثوروا على أنفسِكم حركاتٍ وجماعاتٍ وأحزابا.. وارفعوا أنفسَكم حقيقةً -لا أوهاماً ولا كلاماً- إلى مستوى إسلامِكم ومهمّتِكم وعصرِكم..

إنّه لم يَعُدْ يجوز -ولم يكن يجوز- أن تَبْقوا على هامش الوجود البشريّ، تُخَدِّرون أنفسَكم بالأوهام، وتُعَلِّلون أنفسَكم بالأحلام، وتُنْفِقونَ أوقاتَكم وأفكارَكم وجهودَكم المحدودَة في الصراعِ على الصغائرِ والتفاهات، وأنتم جميعاً على الهامشِ أو هامشِ الهامش، وفي الكيدِ بعضِكم لبعضٍ من خلفِ الظهور، ووراءِ الكواليس.. مُتخلِّينَ بالواقع والفعل، أو مشغولين، عن قضية الإسلام والمسلمين، في هذا العالم والعصر يا طلائعَ الإسلامِِ العظيم!

وأنتم يا طلائعَ الإسلامِ العظيم، يا طلائعَ الإسلامِ في كلّ مكان.. يا منْ أحسَـسْتُم مسؤوليّتَكُم، وعرفْتُم مهمّتَكم وواجبَكم، وربطتم مصيرَكم ربطاً نهائيّاً بالإسلام، وصمَّمْتُم على أن تبيعوا لله أموالَكم وأنفسكم بأنّ لكم الجنّة، وعلى أن تخوضوا المعركةَ مهما كان الثمن، وكانت الظروف أنتم يا طلائعَ الإسلامِ العظيم.. تَقَدَّموا للقيام بالواجب في كلِّ مكانٍ وفي كلّ مجال.. مُدّوا أيديَكم لكلِّ يدٍ مخلصةٍ عاملة.. نسِّقوا جهودَكم مع كلّ الجهودِ الصادقة الواعية.. ولكن لا تتوقَّفوا أبداً بانتظار من لا يتحرّكون، أو لا يريدون أن يتحركوا، على مستوى حاجة الإسلام والمسلمين.. فلم يعد عندنا وقتٌ للتوقّف والانتظار

إنّنا يا طلائعَ الإسلامِ العظيم.. إنَّنا نرفُضُ الواقعَ "الإسلاميّ!" الراهن، نرفُضُه من أسسه وجذوره، نرفضه بطواغيته ومستغلّيه، نرفضه بما يُفْرِزُه من إلحادٍ وانحلال، ومن تخلّفٍ وظلم، ومن فرقةٍ وَوَهْن، ومن ذلَّةٍ وخضوع، ومن حقارةٍ وعار..

إنّ هزائمَنا كلَّها إنّما هي ثمرةٌ مُرَّةٌ لهذا الواقع.. إنّ استسلامَنا المخزي لإسرائيل إنّما هو ثمرةٌ مرّة لهذا الواقع.. إنّ عبوديّتَنا للشرق أو للغرب إنّما هي ثمرةٌ مرّة لهذا الواقع..

إنّنا نرفض هذا الواقع الراهن، وندعو إلى تغييره من الأسس والجذور، وإلى الوصول بالمسلمين إلى الواقع الإسلاميّ الحقيقيِّ المنشود

ونحن -أيّها الإخوة- أكبرُ من هذا الواقع، وقادرون على تغييره بعون الله عزَّ وجلَّ

نحن أكبر من هذا الواقع بإيماننا، وارتفاعنا على المخاوف والشدائد والمغريات، واستعدادنا الدائم لكلّ تضحية في سبيل الله عزَّ وجلَّ

وليسَ يخيفُنا أبداً طواغيتُ هذا الواقع ولا مستغلّوه، ولا من يسيرون رَغَباً أو رَهَباً في ركبِ هؤلاءِ الطواغيتِ والمستغلّين

إنّ الله معنا -أيّها الإخوة- ما ذَكَرْناهُ، وأخلصنا له، وصدقنا معه، واستقَمْنا على طريق الإسلام والجهاد.. و ... حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ● فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ● إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 173-175]

أيها المسلمون

أيّها المسلمون.. استمعوا إلينا ولو كان حديثنا محزناً مؤلماً، ولا يَلْفِتَنَّكم عن الحقائق الفاجعة من يريدون إخفاءها عنكم، أو قلبَها لكم، ومن يحاولون أن يلتمسوا لواقعنا الفظيع الرّهيب مختلف المبرّرات والأعذار، ليستمرّ على ما هو عليه، ولو كان في ذلك دمارُ الإسلام والمسلمين والإنسان إنّ الفوارق بين البشر في قدراتهم ومستويات حياتهم تتحوّل بسرعة مذهلة إلى فوارق "نوعية" لا "كمّيّة"، وإنّنا لنرى جميعاً -أنّى التفتنا- مظاهر ذلك ومؤشّراته أوضح ما تكون

ما أبعدَ الفوارقَ الآن بين الغِنى والفقر، والقوّة والضّعف، والعلم والجهل، والتقدّم والتأخّر ما أبعد الفوارق بين الشّمال والجنوب، والدّول المتقدّمة والدّول المتخلّفة، والعالم الأوّل والعالم الثّالث.. ونحن -يا عارَ الإسلام بنا- من الدّول المتخلّفة، من العالم الثالث، نزحف وراء غبار الرّكب البشريّ مع الزّاحفين المنقطعين، رغم رسالتنا الإلهيّة العظيمة، وما حبانا الله عزَّ وجلَّ به من موارد هائلة، وإمكانات كامنة، كانت تؤهّلنا -لو أخلصنا لله، وأحسنّا العلم والعمل- لِنكون من طلائع الرّكب، ومن قواه الأساسيّة الكبرى..

ما أبعد الفوارق بين المسلمين الذين يموتون كالحيوانات المهملة (عفواً، لم أحسن التّشبيه، فلم يعد في الغرب حيواناتٌ مهملة تُتْرك لتموت كما يموت المسلمون) بالمئات والألوف ومئات الألوف من الجوع والظّمأ، والأمراض والأوبئة، وعدوان وحوش البشر عليهم، في أثيوبيا، وإفريقية، ومناطق أخرى من العالم.. لا تصل أيديهم ووسائلُهم إلى ما يُمْسِكُ عليهم أدنى رَمَق من أرماق الحياة من الطعام العفن والماء الآسن، ولا إلى ما يكفل لهم أبسط ضرب من ضروب الوقاية من العدوان.. وبينَ الغربيّين الذين تَنْبُتُ في أرضهم، أو تُصنع عندهم أو تُجبى إليهم طيّباتُ الأرض وثمراتُها، والذين يَرودون الفضاء، ويزورون القمر والكواكب، ويستعدّون لما يسمّى الآن ب "حرب النّجوم"، والذين يطمح بعضهم ويسعى إلى احتكار السّيطرة المطلقة على الدّنيا في البرّ والبحر والجوّ والفضاء الخارجيّ!!

ما أبعد الفوارق بين زهاء ألف مليون من المسلمين العاجزين المتخلّفين الممزّقين الضّائعين.. وبضعة ملايين من اليهود الذين ننعتهم بحثالة الأمم والشّعوب!!

لقد أوشكت الفوارق أن تكون بيننا وبين هذه "الحثالة" نوعيّة لا كميّة، وأن نكون دونها بمراحل لا حصر لها، فنحن ننهزم أمامها في كلّ معركة، ونخسر في مواجهتها كلّ قضيّة، ونجثو أمامها على ركبنا عاجزين مستسلمين، نستنجد ونستغيث، ونبتغي إليها الوسيلة بكلّ عدوّ وصديق، ونتنازل لها عن الأرض والعرض والكرامة والشّرف.. ثمّ لا تلين ولا ترِقّ، ولا تتكرّم بقبول ما نقدّمه من آيات التذلّل والخضوع، ولا تُطامِنُ من كبريائها وعدوانها، ولا تُهَدْهِدُ من مطامعها وتهديدها لوجودنا كلّه في الحاضر والمستقبل.. هذه إشارة سريعة إلى حقيقة من حقائق عالمنا وعصرنا -أيّها المسلمون- وإلى مكاننا في دنيانا، وموقعنا في موكب الأمم والشعوب، وفي مرحلة اليوم والغد

وهذا إنذار وتحذير من قلوبنا الفيّاضة بالمحبّة والغيرة والحسرة، لنستيقظ وننهض ونجاهد حقّ الجهاد لتغيير هذا الواقع الأليم الخطير الرّهيب قبل فوات الأوان، وقبل أن يستحيل تجاوزُ التخلّف والعجز، وقبل أن نُوَقِّعَ بجهلنا وغفلتنا، واستسلامِنا لواقعنا، وخيانتِنا لمهمّتنا وواجبنا الإسلاميّ والإنسانيّ والتاريخيّ، صَكَّ عبوديّتنا الدّائمة، وانحلالنا الشّائن البائس في المستقبل

يجب أن نستيقظ -أيّها المسلمون- قبل فوات الأوان، فالزّمنُ والعملُ قد أصبح لهما حسابٌ آخر غير حسابهما في خاليات القرون، ونتائجُ أخرى في حياة البشر، ومصائرِ الأمم والشّعوب

إن بضع سنوات في هذه المرحلة من مراحل التاريخ البشريّ تتجاوز في إنجازاتها وآثارها ونتائجها المذهلة عشراتٍ من القرون التي عاشها البشر في الماضي

إنّ الفوارق ستزداد، والنِّسَبَ ستختلف، وسيزدادُ المتقدّمُ تقدّماً، والمتخلّف تخلّفاً، والقويّ قوّة، والضعيف ضعفاً، والطّاغوت طغياناً في كلّ مكانٍ ومجال

إنّ القضيّة -أيّها المسلمون- هي قضيّةُ وجودنا المعنويّ والماديّ، قضيّةُ حياتنا وموتنا، ودنيانا وآخرتنا، وقضيّةُ المستقبل البشريّ إلى أمَدٍ بعيدٍ بعيد فهل نستطيع أن نستوعب هذا الواقع بكلِّ أبعاده، وكلِّ تحدّياته التي يطرحها، في كلّ مجال وعلى كلّ صعيد، وأن نرتفع بإيماننا ووعينا وإرادتنا وعزيمتنا وطاقتنا وقدرتنا وجهدنا وإنجازنا وتضحيتنا.. إلى مستوى مواجهة سائر هذه التحدّيات، وانتزاعِ حقّنا في البقاء والحياة الكريمة، كبشرٍ لهم خصائصُهم وقِيَمُهم، ورسالتُهم السّامية في الأرض

إنّه ليتوقّف على جوابنا على هذا السّؤال وجودُنا كلّه؛ المعنويُّ منه والماديّ، وقيمةُ هذا الوجود ومغزاه، وما أحقرنا وما أخيبنا وما أضيعنا في دنيانا وآخرتنا على السّواء، إنْ خَنَسْنا أو انهزمنا أمام التحدّيات، أو قنعنا من الوجود بمجّرد استمرارنا الفيزيائيّ بأيّ شكل من الأشكال، أو شرط من الشّروط، ولو عشنا بلا غاية ولا إرادة ولا كرامة ولا شرف.

جريمة الجهل والغفلة والانقياد الأعمى

إنّنا ندعو العرب والمسلمين في كلّ مكان إلى متابعة ما يجري على مسرح العالم العربيّ والإسلاميّ من الأحداث الخطيرة الكاشفة للحقائق والخفايا، البعيدة الدّلائل والآثار، وإلى أن يستوعبوا هذه الأحداث والحقائق والدّلائل، ويضعوها في مكانها من التّاريخ ومن تسلسل الأمور، وفي إطارها الواسع من هذا العالم والعصر

إنّنا ندعو العرب والمسلمين إلى المتابعة، وإلى النّظرة الشّاملة مَكاناً، الممتدّةِ زَماناً، التي تتجاوز بأصحابها الظّواهر إلى البواطن، والسّطوح الخارجيّة إلى الأعماق وأعماق الأعماق، وإلى التّأمّل الطّويل، والتّفكير العميق، لفهم ما يجري في بلادهم وعالمهم، ورؤيةِ الرّوابطِ والعلاقات، والأسبابِ والنّتائج، واحتمالاتِ الحاضر والمستقبل

يجب علينا -أيّها المسلمون- أن نضع أيديَنا بعلمٍ ووعي ومنهجيّة ووضوح على الأسباب الحقيقيّة لهزائمنا وكوارثنا وانحدارنا المذهل على كلّ صعيد، وأن نصل إلى تحديدٍ علميّ منهجيّ شجاع للمسؤوليّات والتّبعات، وإلى استبانةٍ موضوعيّة لطريق التّحوّل والخلاص، وتحقيق ما يجب أن نحقّقه من الأهداف

إنّ الجهلَ، وانعدامَ التفكير، والانقيادَ الأعمى بروح القطيع، في هذه المراحل المصيريّة من التّاريخ، خيانةٌ للإسلام والمسلمين، وضياعٌ، وهلاك

إنّ الجهلَ وانعدامَ التفكير والانقيادَ الأعمى.. هو الذي يتيح لأعداء الإسلام والمسلمين، ولمن يسير في ركابهم من الخونة والمستغلّين والانتهازيّين، أن يخدعوهم ويسخّروهم وينتصروا عليهم في مختلف المعارك والمجالات.. وهو الذي يسلب المسلمين إمكانيّة الكشف عن الخداع والاستغلال، ومعرفة الحقائق والبواعث والأغراض، واتّخاذ الوسائل والأسباب الموصلة إلى النصّر، وإلى إحباط مخطّطات الأعداء إنّ جريمةَ الجهلِ والغفلة، وإهمالِ ما أعطانا الله من نعمة السّمع والبصر والعقل والتفكير.. إنّ جريمة ذلك في حقّ الإسلام والمسلمين لا تقلّ عن جرائم أعدائهم من الصّهيونيّين والصّليبيّين والإمبرياليّين فمتى نستيقظ أيّها المسلمون؟

متى نشعر شعوراً حقيقيّاً صادقاً بمسؤوليّاتنا وتبعاتنا الكبرى؟

متى نتّخذ الأسباب الكافية، ونبذل الجهود اللازمة، للنّهوض بهذه المسؤوليّات والتّبعات، والارتفاعِ إلى مستوى حاجة الإسلام والمسلمين في هذه المراحل المصيريّة الحاسمة من التّاريخ

لا بدّ لنا -أيّها المسلمون- من المتابعة الصّادقة، ومن المعرفة والفهم والتفكير الدّائم المستمرّ، ولا بدّ لنا مع ذلك، وقبله، وبعده، من الإيمان العظيم، والإرادة الصّارمة المصمّمة، والعمل الدّائب البصير، والتّضحية التي لا تقف عند حدّ من الحدود

لا بدّ لنا من ذلك كلّه إذا أردنا لأنفسنا النّجاة والخلاص والنّصر.. فهل تستمعون إلى ندائنا -أيّها المسلمون- أم يكون -وا أسفاه- مجرّدَ صرخةٍ في واد

إنّنا لم نفقد الأمل رغم كلّ خيبة، ورغم كلّ شيء، ولن نفقد الأمل أبداً وفي قلوبنا الإيمانُ، والعزمُ، واليقينُ بنصر الله إن نصرناه.. واتّخذنا لذلك ما أمرنا باتّخاذه من الوسائل والأسباب

دعوة إلى العمل.. وإلى التعاون

يجب أن يقف الانحسارُ الإسلاميّ في أنفسنا وفي مجتمعنا وفي عالمنا

ويجب أن يبدأ المدُّ الإسلاميّ من جديد في كلّ مكان يوجد فيه مسلمون مخلصون

كلُّ مسلمٍ صادق حيثما كان يجب أن يكون مركزاً ومنطَلَقاً للإسلام، وكلُّ مجموعةٍ إسلاميّة مهما صغرت يجب أن تكون قاعدةً ومنطلَقاً للإسلام، في الحدود الإسلاميّة الأساسيّة التي يفرضها الإسلام نفسُه، والتي لا يختلف -أو لا يجوز أن يختلف- فيها مسلمٌ ومسلمٌ يجمعهما الإيمانُ والفهمُ السليمُ للإسلام

إنّ هؤلاء المسلمين العاملين الذين سيتحرّكون في أماكنَ متباعدة، والذين لا يعرف بعضهم بعضا.. إنّ هؤلاء سيتلاقون ويتعارفون من خلال الزمن والعمل الحقيقيّ، وتجتمعُ جهودُهم على طريق الإسلام لِيُكَوِّنوا بعضُهم مع بعضٍ قوّةَ الإسلامِ الناميةَ التي لا تُهزم، المنتشرةَ التي لا تُسجن، وليُوَلِّدوا التيّارَ الإسلاميَّ الهادر على كلّ المستويات، الذي يجرف الباطل والظلم في كلّ ميدان


هناك فقط شرطان أساسيّان لا بدَّ منهما معاً ليكون الانطلاقُ سليماً، وليتمّ اللقاء بين الطلائع الإسلاميّة، وبين جهودِها المختلفةِ الأماكنِ والأفرادِ والمجموعاتِ، في المستقبل هذان الشرطان هما:

1- الإخلاص

2- العلم والوعي

إنّنا نحن المسلمين نلتقي بإسلامنا، ونفترق بجهلنا وأهوائنا.

فبالعلم والوعي نرى الأهداف الصحيحة، ونتبيّن الطريق الموصل، وبالإخلاص نلتزم ما استبان لنا من الحقّ، فلا نتركه ولا ننحرف عنه

وكم وُجِدَ في المسلمين ناسٌ ملكوا العلم والوعي، وعرفوا الطريق القويم، ثم انحرفت بهم عنه أهواؤهم وهم يعلمون

وكم وُجد في المسلمين ناس مخلصون أضلَّهم الجهلُ وفقدُ الوعي سواء السبيل

لا بدّ لنا إذن في وقت واحد من الإخلاص ومن العلم والوعي، لنميِّز الحقّ ونلتزمه.. ولا بدَّ لنا مع ذلك بالطبع من الطاقة والقدرة والعمل والتضحية، لنكون على مستوى القيام بالواجب، ممّا لا نريد أن نتحدّث عنه الآن.

فلْيَنطلقْ كلُّ مسلمٍ من المسلمين إذن من مكانه الذي يوجد فيه، ولتنطلق كلُّ مجموعة، وكلُّ جماعة، وكلّ حركة.. ولا خوفَ أن تفترقَ الجهودُ في المستقبل، أو تصطدم، ما دامت تنطلق من الإخلاص ومن العلم والوعي: العلمِ بالإسلام، والعلمِ بالواقع والعصر، والعلمِ بالأسلوب المناسبِ للانطلاق حيثُ ينطلقُ العاملُ أو العاملون للإسلام في أمكنتهم وظروفهم.

إنّ الإسلام والمسلمين هذه الأيّام يحتاجون إلى جهود كلّ فرد، وإلى جهود كلّ مجموعة، وإلى جهود كلّ جماعة، وإلى جهود كلّ حركة.. وإلى أن تأتلف على طريق الجهاد الخالص المبصر، على الزمن، سائرُ هذه الجهود، في خدمة الإسلام والمسلمين على كلّ صعيد.

وكلُّ خطوةٍ يخطوها العاملون للإسلام إلى الله عزَّ وجلَّ هي في نفس الوقت خطوةٌ نحو بعضهم بعضا.. وكلُّ خطوة يخطونها في طريق العلم بالإسلام، والوعي لمقاصده وقواعده ومنهجه ومصلحته في الحاضر والمستقبل، هي في ذات الوقت خطوةٌ في طريقِ التلاقي الحقيقيّ الوثيق، وتوحيدِ الجهودِ على أساس ثابت متين.. إذ لا لِقاءَ إلاّ على الإسلامِ الحقّ كما أنزله الله تعالى، فبمقدار ما يكون عندنا من الإسلام إيماناً وعلماً ووعياً، يكون اللقاء


إنّنا ندعوكم أيّها المسلمون حيثما كنتم من الأرض.. ندعوكم أفراداً أو مجموعاتٍ أو داخلَ جماعاتٍ وحركات إلى العمل الصادق، وإلى تقديم أقصى ما تستطيعون للإسلام والمسلمين، وللعالم، في الحاضر والمستقبل

إنّ قصوركم أو عدم اكتراثكم، ضياعٌ للإسلام، وضياعٌ لكم بإضاعته دنيا وآخرة

وإنّ شعوركم بمسؤوليتكم ونهوضكم بواجبكم، حياةٌ لكم بالإسلام، ولأمّتِكم وبلادِكم وعالمِكم، وخيرٌ لكم في الدارين..

وإنّنا -أيّها الإخوة العاملون للإسلام- لنمدُّ أيديَنا إليكم جميعاً حيثما كنتم.. أيديَ الأخوّةِ والمحبّة والتعاون الصادق على ما أوجبه الله عزَّ وجلَّ علينا من الجهاد والجهاد في سبيله.. وسيكون لنا النصر إن شاء الله ...وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40

بعض المفاهيم والأسس في العمل الإسلاميّ

الأصل هو الإسلام والحركات كلّها وسائل

الأصلُ في حياة المسلمين هو الإسلام، وكلُّ حركة من الحركات، أو جماعة من الجماعات، أو حزب من الأحزاب، وسيلةٌ لخدمته، وإقامة نظامه وحكمه، وهداية الناس به إلى سواء السبيل

ولا يجوزُ بحالٍ من الأحوال، أن نضعَ الوسيلةَ في مستوى الغاية، أو أن نُعْطِيَها مكانَها، ونُحلّها محلّها.. فهذا -إن حصل- انحرافٌ خطير عن الإسلام نفسه، وضلالٌ يتّسع مداه على الأيام

وقيمةُ كلّ وسيلة من الوسائل، إنّما تكون بمقدار ملاءمتها للغاية، وانسجامها معها، وإيصالها إليها. وبالغاية يُحْكَمُ دائماً على الوسائل، فتُقبلُ أو تُرفض، ويُسْتَمْسَكُ بها أو تُترك، وتثبتُ أو تُعَدَّل وتطوّر وقد تكون وسيلةٌ من الوسائل صالحةً في زمن، وغيرَ صالحةٍ في زمن، ومناسبةً في بلد، وغيرَ مناسبة في بلد، ومساعدةً في حال، ومعوّقةً في حال

المهمُّ أن نفهم الوسيلة على أنّها وسيلة، وأن نضعها في مكانها الطبيعيّ لها، وأن نجعلها في خدمة الغاية باستمرار، وأن نُحكِّم فيها الغاية، لا أن نُحَكِّمها هي في الغاية، فهذا هو الموقفُ الإسلاميّ المستقيم، وهذا هو أيضاً السبيلُ السليم لتقويم الوسائل باستمرار، وتصحيحها، وتطويرها، وجعلها أكثر ملاءمة، وأشدّ انسجاماً، وأكملَ تحقيقاً للغاية التي وُجدت من أجلها.


جماعة من المسلمين لا جماعة المسلمين

وكلُّ حركةٍ إسلاميّة، أو جماعةٍ إسلاميّة، أو حزبٍ إسلاميّ، إنما هي جماعةٌ من المسلمين، وليست جماعةَ المسلمين، لأنّها لو اعتبرت نفسها جماعةَ المسلمين، لرأت كلَّ خارج عليها، أو عاملٍ خارجَ نطاقها، خارجاً على جماعة المسلمين، بما يستتبعه ذلك من أحكامٍ ومواقف، وما يقود إليه من خصامٍ وصدام ٍ هو من أشدّ ما يُبْتَلَى به المسلمون في هذه الأيّام

أمّا إذا اعتبرت نفسَها جماعةً من المسلمين، فإنّها تقبل وجودَ جماعاتٍ أخرى مستقلّة عنها، وأفرادٍ عاملين لا ينتمون إليها، وتعترفُ بهم، وتكون مستعدّة للتعاون معهم، في خدمة الإسلام والمسلمين، في الأمور المشتركة، ممّا يُحِلُّ الوئام محلَّ الخصام والصدام، والتعاونَ محلّ التدابر والتناحر، ويقوّي بعضَ المسلمين ببعضٍ في مواجهة الطاغوت، وفي تحقيق الأهداف الإسلاميّة، في المجالات المشتركة بينهم، أو في المجالات التي يختصّ بها فريقٌ دون فريق.

الأخوّة الإسلاميّة أخوّة بالإسلام نفسه

والأخوّةُ الإسلاميّة إنّما هي أخوّةٌ بالإسلام نفسِه، فهي تشمل المسلمين جميعاً، وتربط بينهم من فوق حواجز العناوين والتكتّلات والاجتهادات أفراداً وجماعاتٍ، مهما اختلفت هذه العناوين والتكتّلات والاجتهادات، في حدود ما يسمح به الإسلام

وليست هذه الأخوّةُ -ولا يمكن أن تكون- محصورةً بين أفراد حركة من الحركات، أو جماعة من الجماعات، أو حزب من الأحزاب، تقتصرُ على أفرادها، أو تكونُ بالانتماء إليها وحدَها

واللهُ تعالى لا يقول في كتابه العزيز: إنّ أفراد الحركةِ الفلانيّة، أو الجماعة الفلانيّة، أو الحزب الفلانيّ إخوة، ولكنّه عزَّ وجلَّ يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ... [الحجرات: 10] إخوةٌ بأصلِ الإيمان، لا بالانتماء إلى هذه الجهة أو تلك، أو هذا البلد أو ذاك.

التعاون من أوجب الواجبات

والتعاونُ بين المسلمين حركاتٍ وجماعاتٍ وأحزاباً وأفراداً، وموالاةُ بعضِهم بعضاً، من أوجب الواجبات التي أمر الله تعالى بها، والتي تقتضيها قواعدُ الشريعة، وأخلاق الإسلام، وتُمْلِيها ضروراتُ العمل، وحقائقُ الواقع.. فأهدافُنا الإسلاميّة، وواجباتنا الأساسيّة، وتبعاتنا الكثيرة الخطيرة، في الحاضر والمستقبل، أكبرُ من أن ينهض بها شخصٌ بمفرده، أو حركةٌ من الحركات القائمة بمفردها، بل لا بدَّ لها من التّعاون الصّادق الدّائم بين العاملين المخلصين جميعاً، ومن تآزر الجهود وتكاملها.. وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.


ثمار هذه المفاهيم والأسس

هذه بعضُ المفاهيم والأُسُسِ الإسلاميّة التي إذا فهمها العاملون المخلصون للإسلام، واتّفقوا عليها، وعملوا بمقتضاها، تهيّأت لهم الأجواء الفكريّة والنفسّية، والشروطُ الموضوعيّة الضروريّة، لتجاوز بعض العوامل الخطيرة التي تفرّق بينهم، وتشتّت جهودهم، وتضع بعضهم أحياناً في وجه بعض، وتجعل معركتهم فيما بينهم، بدل أن تكون بينهم وبين الباطل بمختلف فئاته وصوره، الباطل الذي يصول في بلادنا ويجول كما يريد، ونحن خاضعون له، صابرون على ظلمه وأذاه، قائمون عنه باسـتنـزاف بعضِنا بعضاً، وكيدِ بعضِنا لبعض، ومحاربةِ بعضِنا بعضاً أحياناً بمختلف الوسائل والأساليب..

وهذه المفاهيمُ والأسس الإسلاميّة، تتهيّأُ بها أيضاً للعاملين المخلصين للإسلام الأجواءُ والشروط الضروريّة للأخوّة، والتعاون الصادق الذي يحتاجون إليه جميعاً، ويعزّز مواقفهم جميعاً، ويرتفع بهم وبحصيلة جهودهم، إلى مستوى حاجة الإسلام والمسلمين في زمانهم ومكانهم وعالمهم وعصرهم وإذا انطلق العاملون للإسلام -كما يجب أن ينطلقوا- من خلال الإخلاص والتجرّد والعلم والوعي والأخوّة والتعاون والولاء المتبادل.. فإنّ الممارسةَ العمليّة، والخبرةَ الحركيّة، والضروراتِ الواقعيّة، والمواقفَ المشتركة، جديرةٌ بأن تشدّ المخلصين الواعين من العاملين الجادّين، بعضَهم إلى بعضٍ باستمرار، وبأن تعزّز الجوانب المشتركة بينهم، وتوسّعها على الدوام، وبأن تسير بهم يوماً بعد يوم، إلى مزيد من الوحدة في الفكر والشعور والعمل، وبذلك تولد في واقعنا على الزمن الحركة الإسلاميّة الواحدة المستوعبة، وإن تعدّدت في نطاقها العناوين ومجالات العمل والاختصاص

يجب أن يتطوّر العمل الإسلاميّ

يجب أن يتطوّر العملُ الإسلاميّ على مستوى الحركات والمؤسسات والأفراد، حتى يصبح على مستوى مهمّته وعصره.. وإلاّ فإنه يُضيع قضيّتَه، ويُكْتَب عليه الإخفاق.

ومن أخطر ما يُبتلى به العملُ الإسلاميّ:

أ- الانعطافُ إلى الماضي بَدَلَ الاتجاهِ إلى المستقبل، واجترارُ ذكرياتِ ما كان، بَدَلَ التفكيرِ والإعدادِ والكفاحِ لما يجب أن يكون.

ب- الانزلاقُ إلى التبرير المستمرّ للنواقص والأخطاء بدل الاعترافِ بها والسعيِ المخلص الجادّ لتجاوزها والتحرّرِ منها.

إنه لا يكفي أن يكون العمل الإسلاميّ قد أثبت وجوده في مرّة من المرّات، أو نما نموّاً طيّباً في فترةٍ من الفترات، لِيُعْفِيَ بذلك نفسَه من واجبه في إثبات وجوده في كل مرّة، وموالاة نموّه في كلّ فترة، والارتفاع إلى مستوى مهمّته وواجبه في كلّ يوم.

إن معركة الإسلام بمختلف أبعادها لم تكن قطّ ولا يمكن أن تكون معركةَ فترةٍ زمنيّة محدودة، يعيشُ العاملون للإسلام من بعدها على ذكرياتها، منتشينَ فخورين بالقليل القليل الذي ربحوه للإسلام، أو ربحه غيرهم فيها، وهم يخسرون في كلّ يوم معركة.. بل وهم معزولون عن الميدان، يعيشون على هامش الأحداث والتطوّرات، دون تأثير مذكور

إنّ معركةً الإسلام معركةٌ مستمرةٌ في مختلف المجالات والجبهات، وإنّ على المسلمين العاملين أن يخوضوا هذه المعركة باستمرار، وبكلّ ما يملكون من إمكانات.

يجب أن يحاولوا جهدهم أن يربحوا معركة الإسلام في كلّ يوم، وأن ينظروا إلى الحاضر والمستقبل وواجبهم فيهما على الدوام، وأن يكون "الماضي" لهم حافِزاً لا قَيْداً، ومنبِّهاً لا مخدِّراً، ومُبَصِّراً لا شاغِلاً، فجهادُ الأمس لا يُغْني عن جهاد اليوم والغد، وأهدافُنا الغالية ما زالت كلُّها أمامَنا بعد، والنصرُ الموعود ما زال أمامَنا.. ما حقّقْناه، ولا وفّرنا لتحقيقه الأسباب.

أما الانزلاقُ إلى التبرير المستمرّ فقد أوشك أن يكون هو الأصل في العمل الإسلاميّ على مستوى الحركاتِ والمؤسساتِ والأفراد

تبريرٌ للنواقص، وتبريرٌ للأخطاء، وتبرير للضعف، وتبرير للعجز، وتبرير للهزائم.. وإلقاءُ التبعاتِ كلِّ التبعات على الظروف وعلى القوى الخارجية

ولا شكّ بأن للقوى الخارجةِ عنّا، وللظروف المحيطة بنا، تأثيرها القويّ.. ولكنّ السبب الأول فيما صِرْنا إليه، وصار إليه الإسلام والمسلمون، إنّما هو نحنُ أنفسُنا.. نحن في غَلَبَةِ أهوائِنا أحياناً على إيمانِنا وإخلاصنا، وفي قصورِ معرفتِنا ووعينا، وضعفِ طاقتنا وقدرتنا، وقلّة عملنا وتضحيتنا.. وفي أشياء كثيرة أخرى لا مجال لتعدادها الآن

إنّنا نخشى أن يصبح العملُ الإسلاميّ في كثيرٍ من حركاته ومؤسساته وعناصره -إن استمرّت هذه الحال- قيداً للإسلام والمسلمين بدلَ أن يكون انطلاقاً، وثقلاً يجذب إلى الخلف بدل أن يكون قوّة تدفع إلى الأمام، وعاملَ ضياعٍ بدلَ أن يكون عاملَ هداية، وأداةَ تشتيتٍ للجهود والصفوف بدل أن يكون أداةَ توحيدٍ للجهود والصفوف على الغاية والأهداف والطريق الموصل..

يجب إذن أن يتطوّر العملُ الإسلاميّ على مستوى حركاته ومؤسساته وعناصره..

ومن أجل هذا التطوّر الضروريّ على مستوى الحركات والمؤسسات والأفراد..

من أجل هذا التطوّر الضروريّ على أساس الإسلام الذي من أجله وُجدت الحركاتُ والمؤسساتُ، وعَمِلَ الأفراد.. من أجل هذا التطوّر الضروري المستوعب لسائر الظروف الزمانية والمكانية، ولسائر القوى المؤثّرات المحلّية والدوليّة..

من أجل هذا التطوّر الذي يتطلّبه الإسلام، وتستوجبه أوضاعُ المسلمين، وحقائقُ العصر.. نمدُّ أيدينا للتعاون مع العاملين للإسلام؛ حركاتٍ ومؤسساتٍ وأفراداً، لا نفرّق بين حركة وحركة، أو مؤسسة ومؤسسة، أو فرد وفرد، إلاّ بمقياس الإسلام، ومصلحة الإسلام، ولا يكون لأيِّ عاملٍ من العاملين عندنا إلاّ الموضع الذي يضعه فيه الإسلام.

مصارحة

يجب علينا أن نصارح أنفسنا، ونصارح العاملين للإسلامِ في كلّ مكان، ونصارح كلّ مسلم من المسلمين الغيورين، بغاية الصّدق والأمانة والإخلاص، بأنّ ما نقدّمه جميعاً، وما نحن عليه الآن أفراداً وجماعات ومجتمعات، لا يكفي لخلاصنا من العبودية والهوان والعجز، وسائر ما نعانيه من الشدّة والبلاء، ولا يرشّحنا لصنع الحياة الكريمة، وبناء المستقبل الإسلاميّ والإنسانيّ المنشود

يجب أن نثور ثورةً عميقةً شاملةً صادقةً واعيةً على أنفسنا وواقعنا، وتخلّفنا الفاحش عن إسلامنا ومهمّتنا وعصرنا، وحاجات أمّتنا وبلادنا، وحاجات الإنسانيّة والإنسان في هذا العالم والعصر يجب أن نتجاوز بإيماننا وإخلاصنا، وعلمنا وعملنا، وتخطيطنا البصير، وجهادنا العظيم، وتضحياتنا الرّائعة الكبرى، أنفسَنا وواقعَنَا، وكلَّ ما يُثْقِلُ ضمائرنا وعقولنا وخطانا من القيود والأغلال، والعلل والأدواء

يجب أن نثور على أنفسنا وواقعنا؛ فأين هم الثّائرون المؤمنون الواعون المخلصون؟

وأين هم المجاهدون الصّادقون الصّابرون المصمّمون؟

وأين رُوَّاد الحياة الكريمة والمستقبل الإسلاميّ والإنسانيّ المأمول؟

أين الطّلائع الإسلاميّة في كلّ مكان، وفي كلّ مجال، وعلى كلّ صعيد؟

إنّنا نحتاج إلى قَفَزاتٍ نَوْعِيَّةٍ تختصر لنا الزّمن والمسافات وتعبُرُ بنا الْهُوَى السّحيقةَ الواسعة إلى أهدافنا الكبرى، ولا يكفينا ولا يحلّ مشكلتَنا هذه الخطواتُ الرّوتينيّة البطيئة المتردّدة الواهنة، التي لا ننتقل فيها من خطوة إلى خطوة إلاّ بقرن من الزّمن، ونحن في عصر الصّواريخ ومراكب الفضاء وأشعّة الليزر وحرب النّجوم

ونحتاج إلى نوعيّات استثنائيّة من الرّجال والنّساء والشّيوخ والشّباب والقادة والجند المؤمنين المخلصين العاملين المجاهدين المترابطين المتكاملين المصمّمين على أن يربحوا معركة الإسلام والإنسان أو أن يموتوا دون ذلك.. لِيُحَقِّقوا القفزاتِ النوعيّةَ المطلوبة، ويفجّروا في شعوبنا، وفي الإنسانيّة كلّها -إن استطاعوا- كل ّ ما تنطوي عليه من طاقات وإمكانات وفضائل، ويفتحوا لها وبها احتمالاتٍ جِدِّيّةً جديدة لحياةٍ أكرمَ وأفضلَ وأجدرَ بالإنسان.

دعوة إلى كلّ مسلم

إنّنا نتوجّه بكلماتنا هذه إلى كلّ مسلم من المسلمين، في كلّ مكان، وفي كلّ مجال، ندعوه بها إلى اليقظة، والنّهوض، والتّقدّم إلى ميادين العمل؛ فالإسلام ليس حِكْراً على أفرادٍ مهما كان هؤلاء الأفراد، وعلى حركاتٍ مهما كان هذه الحركات؛ والمسؤوليّةُ عن الإسلام والمسلمين والإنسان هي مسؤوليّةُ كلّ مَنْ شهدَ ألاّ إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسولُ اللهِ، على تفاوتٍ في الدّرجات، بتفاوُتِ الاستعداداتِ، والقُدراتِ، والمواقعِ، والظّروف

والعملُ للإسلامِ حقُّ كلِّ مسلم وواجبُه، ولا يجوزُ له -ولا لغيره- أن يُهْدِرَ هذا الحقَّ والواجب، وأن يقصِّر في النّهوض به على أفضلِ ما يستطيع

ويجبُ أن يعلمَ كلُّ مسلمٍ حيثما كان، أنّ الإسلام والمسلمين والإنسانَ بحاجة إليه، وإلى ولائه وجهده، في هذه المرحلة الخطيرة الحاسمة من التّاريخ الإسلاميّ والإنسانيّ

إنّنا نقول بغاية الصّدق والمسؤوليّة والوضوح:

إنّ جهود العاملين للإسلام -أفراداً وحركات- لا تكفي كَمّاً ولا كَيْفاً، لتلبية أدنى حاجات الإسلام والمسلمين والإنسان في بلادنا وعالمنا وعصرنا؛ ولا تُسْقِطُ واجبَ العملِ عن غيرهم من المسلمين، فالمسلمون جميعُهم آثمون بترك هذا الواجب، مهدّدون إذا استمرّوا على تركه بالضّياع والهلاك في الدّنيا والآخرة

فيا أيّها المسلمون القاعدون في بيوتكم، أو المنشغلون بدنياكم، أو الغافلون اللاهون عن واجباتكم، وعن أحوال المسلمين وأحوال الإنسان الفاجعة المفزعة في عالمكم وعصركم، إنّنا ندعوكم من أعماقنا: دعوةَ القلبِ قبلَ دعوةِ القلمِ واللسان، فاستمعوا إلينا، واستجيبوا لنا، بل استمعوا واستجيبوا لله وللرّسول، فاللّـهُ عزَّ وجلَّ يناديكم ويُهيبُ بكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ... [الأنفال: 24]

إنّ ميادينَ العملِ والجهادِ الظّامئةَ المشتاقَةَ إلى مؤمنينَ صادقينَ، وعاملينَ جادّينَ مخلصينَ، تَنْتَظِرُكُم، وتفتح صدورها وقلوبَها لكم.. فهيّا بنا يا إخوة العقيدةِ والطّريقِ والمصير، ولْنَجْتَمِعْ على الله قلوباً وصفوفاً، ولْنَتَكامَلْ في سبيله تفكيراً وجُهوداً، ولْيُقَدِّمْ كلٌّ منّا كلَّ ما يستطيع، فنحن على مفترق طريق بين الهزيمة الدّائمة أو النّصر، والذّلّ الْمُقيمِ أو العِزّ، والهلاكِ المحيط أو النّجاة، وشقاءِ الدّارين أو سعادةِ الدّارين

ولعلّه يبرز من بينكم على الزّمن والعمل -أيُّها الإخوةُ الذينَ تقفونَ الآنَ خارجَ إطارِ العمل الإسلاميّ المنهجيّ المستمرّ- من يكونون أغنى منّا مَوْهِبَةً واستعداداً، وأَوفرَ علماً ووعياً، وأصحَّ نَظَراً وفكراً، وأعظمَ طاقةً وقدرة، فيحقّق اللّـهُ على أيديهم ما فاتَنا حتى الآن تحقيقه من النّصر على الأنفس والعقباتِ والطّاغوت، وإقامةِ الحياةِ الإسلاميّةِ والحكم الإسلاميّ، لخيرِ أمّتِنا وبلادنا، وخيرِ الإنسانيّةِ والإنسان

طبيعة المعركة التي نخوض

كثيرون من الشّباب الذين يعملون للإسلام في بلادنا لا يدركون طبيعةَ المعركة التي يخوضونها، ولا يتبيّنون أبعادَها وأغوارها، مع أنّ هذا هو من أوّل الواجبات، ومن أهمّ المتطلَّبات..

إنّهم مثلاً يحسَبون أنّ معركتهم محلّيةٌ داخليّةٌ، وجزئيةٌ سياسيّةُ، فلا يُعِدّون لها كِفاءَ ما تحتاج والذي يجب أن يعرفه شبابُنا هو أنّ معركة الإسلام في بلادنا لا يمكن أن تكون محلّيةً أو جزئيّة أبدا إنّنا عندما نواجه الشّيوعيّين في بلادنا مثلاً، إنّما نواجه في الحقيقة الشّيوعيّة الدوليّة كلّها، والفكر الماركسيّ على كلّ صعيد

وعندما نواجه الاشتراكيّين في بلادنا، إنّما نواجه التيّارَ الاشتراكيَّ العالميَّ؛ الفكريَّ والاقتصاديَّ والاجتماعيَّ والسّياسيَّ، بكلّ ما لَه من قوّة ونفوذ..

وكذلك نحن عندما نواجه القوى الرّأسماليّة في بلادنا، نواجه معها المصالح الضّخمة التي تمثّلها داخلَ البلاد وخارجَها، والفلسفاتِ والقِيَمَ التي تساندها وتعزّزها

معركتُنا إذن معركةٌ شاملة لا يُستطاع حصرُها في النّطاق السّياسيّ، وعالميّةٌ لا يمكن حبسها في الإطار المحلّي، أو هي عالميّةٌ حتّى وهي ضمن هذا الإطار.. ولا بدّ لنا لنربحها من أن نكون على مستواها المرتفع، أي على المستوى العالميّ من حيث الفكر، ومن حيث التّنظيم، ومن حيث العمل والبذل.. وأن نعدّ لها أعظم الإعداد

ولنعلمْ أيضاً بأنّ معركتنا هذه العتيدة التي نخوض، إيجابيّةٌ أكثر منها سلبيّة، وأنّ انتصارنا الحقيقيّ فيها لا يكون بإسقاط حكومة أو هزيمة حزب، ولا بوصول عدد من النّواب مثلاً إلى مجلس نيابيّ عندما يكون هنالك مجلسٌ نيابيّ، وإنّما يكون الانتصار الحقيقيّ بالانقلاب الجذريّ العميق الشّامل على كلّ ما يناقض أو يغاير شريعة الله عزَّ وجلَّ، وفي إقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ على مستوى العصر وحاجات العصر، وهذا هو ما ننشده ونسعى إليه، ونستغلّ له كلّ جهد، ونسترخص في سبيله الحياة.

بناء الحركة الإسلاميّة واجب لا بدّ منه

إنّنا نحاولُ جهدَنا، ونحن نتابع طريقنا الأصيل، وعملَنا من أجل المستقبل المنشود، أن نقوم بكلّ ما نستطيع، لإنقاذ أمّتنا وبلادنا، من المِحَنِ الكبيرة، والأخطار المحدّقة، والمصير الرهيب، إن استمرت هذه الحال.. ولدفع الأمّةِ والبلاد إلى طريق الخلاص، والخروج بها من الوضع السلبيّ إلى الوضع الإيجابيّ على كلّ صعيد، ومواجهة ما لا تحتمل مواجهته التأجيل، في حدود الإمكانات الراهنة

إنّنا نحاول ذلك جهدنا، فنكشف للناس الحقائق، وندلّهم حكّاماً ومحكومين على الواجب، ونتّخذ المواقف الصحيحة، ونعين المخلصين على اتّخاذها.. ولكنّنا في ذلك كلّه، ومع ذلك كلّه، لا نخدع أنفسنا، ولا نغفل عن إعطاء القيمة الحقيقيّة لكلّ خطوةٍ من خطواتنا، وعن وضع كلّ خطوةٍ في مكانها الحقيقيّ من التأثير، وفي موضعها بالضبط من تصوّرنا للأمور، ومن مجموع واجباتنا على المدى القريب والمدى البعيد

إنّ تأثير الحركات والعناصر الإسلاميّة في مجرى الأمور لن يكون تأثيراً حقيقياً قويّاً، إلاّ إذا أصبح لهذه الحركات والعناصر وجودُها الحقيقيّ القويّ، الذي يَضطرّ العدوَّ والصديق إلى سماع ما تقول والعناية به

أما إذا بقيت الحركاتُ والعناصرُ الإسلاميّة ضعيفةً متفرّقة لا يَقْوَى بها مُحِقّ، ولا يَخْزَى بها مُبْطِل، فلن يكون لكلمتها وزنٌ ولا تأثير

إنّ قيمةَ الكلمةِ هي بمقدار ما يكونُ وراءَها من القوّة، كما هي بمقدار ما يكمن فيها من الحقّ.. وكم أصغى الناس لكلمة الباطل يقولها أقوياء، وأعرضوا عن كلمة الحق ليس وراءها قوة لا بدّ للحركات والعناصر الإسلاميّة إذن من أن تعزّز وجودها، وتنمّي طاقاتها وإمكاناتها، لتكون على مستوى نصرة الحق الذي تؤمن به، وتدعو إليه، وليكون لها كلمتُها المسموعة، وتأثيرُها الحقيقيّ.. وإلاّ فلن تكون كلمتها في كثير من الأحيان إلاّ صوتاً ضائعاً، أو حبراً على ورقٍ يُلْقى في سلّة المهملات، ويظنّ أصحابُه، أو يخدعون أنفسهم بأنّهم أَدَّوُا الواجب بما قالوه أو كتبوه، وهم لم يؤدّوا في الحقيقة شيئاً، إن لم يصلوا بأنفسهم وحركاتهم إلى درجةٍ من القوّة تجعلُ لقولهم الأثرَ المطلوب.. ولكن هل تنحصر مهمّةُ الحركاتِ والعناصر الإسلاميّة في تقديم رأي، قد يُقبَل وقد يُرفض، وفي تحبيذ موقف أو معارضة موقف.. والأوضاعُ كلُّها تقومُ في أصولها على فساد، وعلى أسسٍ غير أسس الإسلام، أو معارِضةٍ لأسس الإسلام

إنّ هذا يعني التخلّيَ عن الإسلام نفسه، وعن الدور القياديّ الذي يجب أن يكون للمسلم الحقّ في قيادة مجتمعه وعالمه، والتسليمَ بالقيادة للطاغوت، والرضى بالتَّبَعِيَّةِ لغير الحقّ، والحياةِ على الهامش، والانشغالِ بالجزئيّات، وبالدمار للأمّة والبلاد على الزمن.. وهذا ما لا يفعله ولا يقبله مسلم يعي حقيقة الإسلام

إنّ مهمّتنا الرئيسية -كما يجب أن نعرف بوضوح- تتجاوز كثيراً كلّ ما تقدّم.. إنّها إقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ

وفي نهوضنا بهذه المهمّة التي يفرضها الإسلام مرضاةُ الله عزَّ وجلَّ وهي غايتُنا القصوى

وفي نهوضنا بهذه المهمّة أيضاً، إنقاذُ أمّتِنا وبلادنا وعالمنا

إنّ المآسيَ والمشكلاتِ التي نواجهُها إنّما هي أَعْراضٌ ونتائج لعلل أخرى أكبر وأخطر، والإسعافُ السريع لا يغني عن العلاج الجذري العميق.. والعلاجُ الجذريّ العميق هو الإسلام.. ولن ينتصر الإسلام في حياتنا إلاّ بأعظم الاستعدادات والجهود والتضحيات

وهكذا يتبيّن أنّه لا بدّ لنا لتحقيق أيّ هدف من أهدافنا الصغيرة أو الكبيرة، القريبة أو البعيدة، الجزئية أو الشاملة، من بناء أنفسنا بناءً متيناً، وتنميةِ قوانا وزيادتِها زيادةً عظيمةً كَمّاً وكَيْفاً وإذا كان تحقيق هذه الأهداف واجباً، فالبناءُ وتنميةُ القوى وزيادتُها واجبٌ أيضاً، لأنّ تحقيق الأهداف لا يتمّ إلا بذلك، وما لا يتمّ الواجبُ إلاّ به فهو واجب

ومن هنا إلحاحُنا المتواصل على بناء الحركة الإسلاميّة -أو استكمال بنائها- في كلّ مكان، وفي كلّ مجال، وفي كلّ جانب، وعلى تنمية طاقاتها وإمكاناتها باستمرار..

ومن هنا أيضاً إعطاؤنا الأولويّة في جهودنا الآن لعملية البناء والتكوين والتنظيم والتنمية والتطوير.. بل إنّ مواقفنا العامّة الفكريّة والعمليّة -على أنها مستهدَفةٌ في ذاتها- هي أيضاً جزءٌ أساسيّ من عمليّة البناء والتكوين الصحيح، فالحركةُ الإسلاميّة لا يمكن أن تُبْنى بالعزلة والسلبيّة والهرب من التبعات.. إنّما تُبْنى الحركة، وتبنى عناصِرُها، بالعمل الإيجابيّ الصادق الواعي الشجاع، ومن خلال الجهاد والتضحيات في سبيل الله.

يجب علينا أن نتجاوز -نحن العاملين للإسلام- بقوّة وتصميم وسرعة واقعنا الحاليّ على كلّ المستويات، وأن نرفع أنفسنا إلى مستوى أهدافنا، وإلى المستوى الواجب لتحقيق هذه الأهداف.. وسنفعل ذلك كلّه إن شاء الله.

التنظيم والتخطيط

التنظيمُ والتخطيطُ هما طريقُ الحركة الإسلاميّة إلى أهدافها في العصر الذي نعيش فيه إذا كنّا نريد أن نقوّض كلَّ حكمٍ جاحد، وأن نَجْتَثَّ كلّ نظامٍ فاسدٍ، فطريقُنا إلى ذلك التنظيم والتخطيط وإذا كنّا نريد إقامة الحياة الإسلاميّة وحكم الله عزَّ وجلَّ، فطريقُنا إلى ذلك التنظيم والتخطيط أمّا الأعمالُ الجاهلةُ التّائهة، وأمّا ردودُ الفعل العاطفيّةُ السطحيّةُ المؤقّتة، فلن يكون من ورائها إلاّ تبديدُ الطاقات، وإضاعةُ الأوقات، وإعطاءُ الفرص لأعداء الحركة الإسلاميّة لضربها وتصفيتها والخلاص منها منذ سنواتٍ طويلةٍ كانت مشكلاتُ الحاضر ومطالبُه اليوميّة تستهلك كلَّ تفكيرنا وجهودنا، وتشغلُنا عن التنظيم والتخطيط والتهيّؤ للمستقبل بما يكفل للدعوة النّصر وكان هنالك من يقول:

إنَّ الزمنَ لا ينتظرُ الإعداد

وبقيَ الحاضرُ على تعاقب السنين يشغلُنا بمشكلاته الوقتيّة، ومطالبه اليوميّة، عن النّظر إلى ما وراءه، والإعداد للمستقبل البعيد

وبقينا نحن بإمكاناتنا دونَ مهمّتنا وواجبنا وحاجة كلّ مرحلةٍ وموقف، وأضعفَ من أن نستفيد من أيّ فرصة

ولو أنّنا لم نقف عند حدود الحاضر، ونظرنا في أعمالنا للمسقبل.. لو أنّنا نظّمنا وخطّطْنا وأعْدَدْنا لكنّا في كلّ حاضرٍ مضى أفضلَ ممّا كنّا عليه، وَلَكُنَّا في حاضرنا الآن أقدر على مواجهته ومواجهة أعداء الإسلام فيه، وأقوى على الاستفادة من فُرَصِه المختلفة، وبلوغِ ما ننشد من أهداف

والزمنُ ما يزالُ دائماً يقدّمُ الفرصةَ إثرَ الفرصة، فكلُّ نظامٍ غير نظام الله عزَّ وجلَّ لا بدّ أن يظهر على التجربة فسادُه، وكلُّ قوّةٍ تخرج على إرادة الله عزَّ وجلَّ لا بدّ أن تضمحلّ وتزول، ولكنّنا لن نستفيد من ذلك كلّه ما لم نكن قد تهيّأنا وأعددنا وسلكنا طريق التنظيم والتخطيط.

العمل الإيجابي

قلنا لكم في كلمةٍ سابقة: "إنّ التنظيم والتخطيط هما طريقُ الحركة الإسلاميّة إلى أهدافها في العصر الذي نعيش فيه"

ونقول لكم الآن: إنّ العمل الإيجابيّ هو الطريقُ الوحيد إلى التنظيم والتخطيط والتقدّم، وإلى بناء الحركة الإسلاميّة على الوجه المنشود

لو بقينا أيّاماً وشهوراً وسنواتٍ نذكر نواقصنا ونعدِّدُ أخطاءنا، لما زالت هذه النواقص والأخطاء لو غَبَرْنا أيّاماً وشهوراً وسنواتٍ نتحدّث عن أهدافنا وآمالنا، لما تحقّقت هذه الأهداف والآمال، فالعملُ الإيجابيّ وحدَه هو سبيلُنا إلى التحرّر من النواقص والأخطاء، وإلى بلوغ الأهداف والآمال على الدوام بعضُ الأشخاصِ في الصفّ الإسلاميّ يُثْبِتون وجودهم، ويُزَكّون أنفسهم، بالنقد الدائم لكلّ شيء، وبالمواقف السلبية وحدها، لا بالعمل الإيجابيّ المنتج

إنّهم يقفون في خِضَمِّ المعركة موقفَ المتفرّج، لا يكافحون وإنّما يحرّجون المكافحين، ولا يعملون وإنّما يضعون العراقيل في طريق العاملين، ويهدّمون ما لعلّهم يشيّدون

إنّهم يحاسبون إخوانَهم العاملين أعسرَ حساب، إذا استفرغوا جهودهم كلَّها، فنهضوا بخمسين في المائة من الواجب المقّدَّر، ويهاجمونَهم لذلك أشدّ هجوم، لِمَ لَمْ ينهضوا هم حتى بواحدٍ في المائة من الواجب؟! إنّهم يُلْقون على غيرهم الأعباء، ويقفون من بعيد يراقبونهم وهم يتعثّرون في المسير، وينقدون أقسى النقد سيرَهم المتعثِّر البطيء.. ولو حمل كلُّ واحد منهم جانباً من العبء، لَخَفَّ العبءُ على الجميع، وانطلقوا بخطواتٍ قويّةٍ ثابتةٍ إلى الأهداف

إنّهم لا يَرْضون عن شيء، ويطالبون بكلّ شيء، ولا يعملون أيَّ شيء.. فإذا وضعتَ الواحدَ منهم أمامَ مسؤوليّتِه وواجبِه، في إزالةِ ما يُنْكِر، وتحقيقِ ما يَطْلُب، وَوَقَفْتَه أمامَ عملٍ إيجابيٍّ محدّدٍ لأجل هذا الغرض، لم تجدْ إلاّ التهرّبَ والنكوص والفرار من العمل المجدي

مثلُ هؤلاء الأشخاص -إذا حَسُنَتِ النوايا- ثُغَرٌ في العمل الإسلاميّ، وأدواتُ تهديم لا أدوات بناء. وإنّ منهم مع ذلك لَمَن يقصِد إلى الإساءةِ والتهديم قصداً، لعِلَّةٍ في نفسه، أو خدمةً لجهاتٍ تناوئُ الإسلام. وإنّ منهم أيضاً لَمَن يقعُد به الكسلُ أو السأَمُ إذا استطال الطريق، أو تطويه على جانبيه المغريات، أو يخافُ تَبِعاتِ العمل الإسلاميّ، في عصرٍ تكالبتْ فيه القوى الباغيةُ على العمل الإسلاميّ، أو تشغلُه مصالِحُه الشخصيّة، أو غيرُ ذلك من أشباه هذه الأسباب، ولكنّه يَجْبُنُ عن كشف هذه الحقيقة لإخوانه ومحيطه، ويخجل من إعلانها وظهورها، فيذهبُ يَتَلَمَّسُ لقعوده ونُكوصه أسباباً منتحَلَةً غيرَ أسبابه الحقيقيّة، ومبرّراتٍ تُفْسِحُ له عند إخوانه جانبَ العُذْر، وتفتحُ له طريق العودة عندما يكون من مصلحته العودة، وتُسْبِغُ عليه أحياناً صورةً مثاليّةً هي أبعدُ شيءٍ عن صورته الواقعيّة.. ولا تكونُ هذه المبرّراتُ أحياناً إلاّ انتقاصاً للعمل والعاملين، وطعناً ذات الشمال وذات اليمين، ومثالِيَّةً في المطالب لا تكلّف تضحيةً ولا جهداً، ولا تقتضي إلاّ تحريكَ هذه الألْسُنِ التي طالما كَبَّتْ حَصائدُها أصحابَها على مَنَاخِرِهم في النار..

ومقياسُ الغَيْرة الصادقة عندنا، والإخلاصِ في النقد، أن يرى الرائي الخطأ والنقص، فيسعى لتلافيهما بالطرق المشروعة المنتجة التي يُقَرِّرُها الإسلام، وتَقْتَضيها أصولُ العملِ الإسلاميّ ومصلحتُه، ويضعُ من أجل ذلك جهدَه وفكرَه مع العاملين.. لا أن يجعل الخطأ والنقص سبباً للتشهير، ومبرّراً للتهديم، يدور بهما على كلّ فردٍ إسلاميّ أو غير إسلاميّ، مُنْتَظِمٍ في العمل أو غيرِ منتظم، إلاّ على مَنْ يُفيدُ تنبيهُه إليهما، والحديثُ معه فيهما، ويذكرُهُما لا ليعينَ على الخلاص منهما، بل لِيُحْدِثَ مع الخطأ خطأ، ويُوَلِّد مع النقص نقصا.. والمجرِّبون في العمل الإسلاميّ ممّن كُتِبَ عليهم أن يحملوا من مسؤوليّاته وتبعاته، يعرفون بتجربتهم، أنّ كثيراً من النواقص والأخطاء التي يشتكون ويشتكي غيرهم منها، لم يكن السببُ فيها أنّها غيرُ معروفةٍ مكشوفةٍ للعيون، ولا أنّ المسؤولين في العمل لا يرغبون في إزالتها والتحرّر منها، بل السببُ فيها، أنّه قد قصَّرَتْ بهم عن ذلك الوسائلُ والجهود، فليس السبيلُ إذاً لمحاربةِ النواقصِ والأخطاء عن المخلصين الواعين، والغيورينَ الصادقين، أن يشير المشيرُ فيقول: هذا خطأ، أو هذا نقص، وهو يقف متفرّجاً من بعيد، وإنّما السبيلُ الحقُّ أن يشيرَ إلى النقص أو إلى الخطأ، وأن يقدّم جهدَه ويضمَّه إلى الجهود المبذولة لإزالته، والسير في طريق التمام.. فالعملُ الإيجابيُّ -إذا اقترن به الإخلاص والعلم والوعي- هو سبيلُنا الوحيدُ كما قدّمنا، لكلّ ما نرجوه للحركة الإسلاميّة، ونرجوه عن طريقها، للإسلام والمسلمين، وللعالم

لا يريدون أن يعملوا

يأتي إليَّ مباشرةً أو عن طريق إخواني الحينَ بعد الحين، شبابٌ يقولون إنهم يريدون أن يعملوا معنا للإسلام، ولكن لهم قبل ذلك أسئلةٌ يطلبون عليها الجواب

ويسألُ هؤلاء الشبابُ ويسألون..

يسألون عن الأهداف والوسائل، ويسألون عن التنظيم والقائمين عليه، ويسألون عن رأينا في المسائل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعن مواقفنا الغابرة والحاضرة..

وكلّما سمعوا جواباً على سؤال انتقلوا إلى سؤال، وكلّما اتضح لهم أمر قفزوا إلى أمر، حتى إذا وصلوا إلى مشكلة ما تزال تفتقر إلى الحلّ، أو إلى نقص ما يزال ينتظر التمام، اتخذوا ذلك ذريعة إلى التوقف والإرجاء، ومبرّراً للبقاء خارج حدود العمل، وأعلنوا لرفاقهم أنّهم على استعداد للتعاون والعمل، ولكنْ عندما يُحَلُّ كلُّ مُشْكل! ويكتملُ كلُّ نقص! "أي عندما لا يكونُ ثمّةَ حاجةٌ إليهم في العمل!" وكما يأتي هؤلاء إليّ، يذهبون هم أنفسهم إلى غيري من العاملين، وكما يطرقون أبواب جماعتنا، يطرقون أبواباً أخرى، وكما ينتهون معنا إلى السلبيّة وعدم العمل، ينتهون مع غيرنا إلى السلبيّة وعدم العمل، وقد تختلف المبرّرات والحجج، ولكن لا تختلف النتيجة..

هؤلاء الشبابُ -أو أكثرُهم على الأصحّ- لا أملَ فيهم ولا فائدةَ من التعب معهم وإضاعة الوقت، بعضُهم لا يريدون في حقيقة الأمر أن يعملوا، وإنّما يريدون فقط أن يظهروا بمظهر الراغبين في العمل، الذين ينشدون الأمثل والأكمل، ويرتفعون بالفَهْمِ على بقية الناس، وهم يخادعون في ذلك أنفسهم، أو يخادعون رفاقهم ومحيطهم. وبعضُهم يسألون ما يسألون ليكشفوا عمّا قد يكون في الحركة من النّقص، وليشكّكوا ويشهّروا بها، لمرض في أنفسهم، أو لحساب من يعملون لتهديم الحركات الإسلاميّة في الدّاخل والخارج. وبعضُهم يسألون استدراجاً ليحصلوا على معلومات سُخِّروا للحصول عليها.. إلى آخر هذه الأصناف التي يدخل فيها أيضاً طيّبون تائهون، أو مضلَّلون قد غاب عنهم وجه الطّريق

الشباب المرجوّون

أمّا الشبابُ الْمَرْجُوّون الذين يُثمر معهم الوقت والجهد، فهم أولئك الذين يسألون وهم يريدون العمل حقّاً، يسألون ليفهموا، وليكونوا على بصيرةٍ من أمرهم، وعلى معرفةٍ بمواطئ أقدامهم، وعلى ثقةٍ من أنّهم سيكونون على الطريق القويم، الذي يوصل إلى مرضاة الله عزّ وجلّ، وإلى ما ينشدونه لأنفسهم وأمّتهم وبلادهم من الخير.. فإذا استبانَ لهم الأمر، وظهر لهم سلامةُ الأُسُسِ والمقاييس، وصحّةُ المنهج، وضعوا أيديهم بأيدي العاملين، وانغمسوا بكلّيتهم في العمل، وحملوا نصيبهم من الأعباء، وشاركوا بالأفكار والسواعد في إتمام البناء، وفي استكمال كلّ نقص، وتقويم كلّ عوج، وتصحيح كلّ خطأ..

هؤلاء الشبابُ لا يقولون أبدا: لا نعملُ حتى يكتمل كلُّ شيء! لأنّهم يدركون بصدقهم ووعيهم أنّه لا يكتمل أيُّ شيءٍ إلاّ بتوافر الطاقات، وتكاتف الجهود، وإسراع كلّ مخلص قادر إلى مكانه من الصفّ، وقيامه بما يتوجّب عليه فيه، وأنّ عليهم أن يتمّموا بإمكاناتهم وجهودهم إمكاناتِ غيرهم وجهودَهم، وإلاّ استمرّ النقص واستمرّ القصور.. ويدركون أنّ العمل هو واجبُهم أيضاً كما هو واجب غيرهم من العاملين، وأنّهم لا يقومون به من أجل خاطر أحد، وليس لهم فيه فضلٌ ولا منّة على أحد، وأنّهم إنّما يقدّمون به لأنفسهم الخير قبل كلّ شيء يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيـمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17]

وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت: 6]

هؤلاء الشبابُ إذا رأوا في الحركة نقصاً، أو أبصروا في الطريق عقبة، لم يسْتَدْعِ ذلك عندهم التوقّفَ، أو الانكماش، أو النكوصَ والهرب، وإنّما زادهم ذلك شعوراً بالمسؤوليّة، وإحساساً بضرورة العمل، وإقداماً وتصميماً على الجهاد، حتى لا يبقى عقبةٌ ولا نقص.. لأنّهم مؤمنون حقّاً، غيُورون حقّاً، واعون حقّاً، ولأنّ العمل الإسلاميّ عندهم ليس حِلْيَةً ولا وجاهة ولا تسلية ولا منفذاً إلى كلّ سهل قريب، وليس ثوباً يُخْلَعُ ويُلْبَس على حسب تقلّب الأمزجةِ والظروف، وليس شيئاً إضافيّاً كماليّاً يُمكن أن يكون، ويمكن أيضاً ألاّ يكون!..

العملُ الإسلاميّ عندهم هو حياتُهم ووجودُهم الحقيقيّ، وسبيلُهم إلى إرضاء ربّهم، وإنقاذِ أنفسهم، وتحقيقِ ذواتهم، وبلوغِ ما ينشدون في دنياهم وآخرتهم من الخير، فلا يَرِدُ عندهم البتَّةَ هذا السؤال: "هل نعمل أو لا نعمل؟" إنّما يَرِدُ عندهم فقط هذا السؤال: "كيف نعمل بالشكل الذي يحتاجه الإسلام ويرضاه؟" وما أسرع ما يجدون ما يطلبون، وينضمّون إلى ركب العاملين المخلصين للإسلام.

نقول ببساطة ووضوح

ونحن نقولُ ببساطةٍ ووضوح للذين يتطلّعون إلينا، ويرغبون في أن يكونوا معنا من الشباب، لا نخدعهم، ولا نهوِّنُ عليهم الأمر:

إنّنا في أوّل طريقنا الطويل الشاق.. ولقد اكتشفنا هذا الطريقَ من خلال التجارب والمصاعب والمحن والجهد المستمرّ، واتّضحت لنا فيه المعالم. خطونا خطوةً وما يزال أمامَنا ألف، وصَعِدْنا، ولكنَّ أقدامَنا لم تُجاوزْ بنا بَعْدُ السفح. عندنا كثيرٌ من النقص، وأمامَنا كثيرٌ من العقبات والأخطار، ولكنّ إيمانَنا أكبرُ من كلّ نقص، ومن كلّ عقبة، ومن كلّ خطر، وثقتَنا بربّنا، وبمستقبل دعوتنا، ثمّ بأنفسنا، لا تقف عند حدّ.

قلوبُنَا وصفوفُنا مفتوحة، ولكنْ للمؤمنين الصادقين الذين يدخلونها على بصيرة، فلنْ يصبرَ معنا إلاّ كلُّ مؤمنٍ صادق الإيمان، أرادَ وجه الله عزَّ وجلَّ، ووطّنَ النفس على مشقّة المسير، وكان جديراً بشرف التضحية والجهاد.. ولسنا نملك للمسلمين، وللعمل الإسلاميّ، إلاّ نوايانا الخالصة، وإلاّ حياتنا وجهودنا، نبذُلها رخيصةً في سبيل الله، ونجدُ في ذلك الكسبَ كلَّ الكسب، والفوزَ كلَّ الفوز.

جيل الشكوى والعجز

لا تكونوا -يا شبابَ الإسلام- من جيل الشكوى والعجز، الذي يشتكي نواقصَ العمل الإسلاميّ وأخطاءَه؛ يشتكي الحقيقيَّ والوهميّ، وما يُشتكى وما لا يُشتكى؛ ولكنّه لا يبذُل جهداً يُذْكَر لمعرفة أسبابِ ما يشتكيه، واكتشافِ طريقِ تَجاوزِه والخلاصِ منه، والوصولِ إلى ما يتطلّع إليه من الأصْوَب والأكْمَل على كلّ صعيد، ولا يسلكُ هذا الطريقَ إن اكتشفه، أو كشفه له سواه، ولا يتحمّلُ تكاليفَه ومشقّاتِه وتبعاتِ السير فيه شكوى وشكوى وشكوى.. وليس من شيءٍ وراءَ هذه الشكوى التي تتكرّر بتكرّر اللقاءات، وتتعدّد بتعدّد الأماكن والمناسبات

شكوى مَرَضِيّة، وشكوى تَبْريرِيّة، وليست هي الشكوى التي تلتمس العلاج، وتَنْشُد الشفاء، وتنتهي إلى التشخيص الصحيح، والرّؤية الواضحة، والنّهج القويم، والعمل الإيجابيّ المثمر.

شكوى مرضيّة: يُدْمِن عليها أصحابُها فينتشون بها، ويعانون عقابيلَها، ولا يستطيعون تجاوزَها والخلاصَ منها.. فهم فيها كمُدمِن الخمر والأفيون.

وشكوى تبريريّة: يُبَرِّرُ بها أصحابُها لأنفسهم، ولإخوانهم وأصدقائهم، نكوصَهم عن العمل، وانصرافَهم عن الواجب، وهربَهم من المسؤوليات، وخوفَهم من حمل التبعات.. وانصرافَهم -كغيرهم- إلى الدنيا، واستسلامَهم لها.


إنّنا -يا شبابَ الإسلام- نريدُ جيلاً من طرازٍ آخر غيرِ هذا الطراز.

إنّنا نريدُ جيلاً مؤمناً، واعياً، مفكّراً، مصمّماً كلَّ التصميم على كسب معركة الإسلام، مستعداً لحمل كلّ تَبِعَة، وبذلِ كلّ جهد في هذا السبيل؛ جيلاً يقظاً قويّاً، يرى النواقص والأخطاء، ويضع يده عليها؛ ولكنّه لا يَغْرَقُ فيها، ولا يقف عندها، ولا تنكسر نفسه في مواجهتها، ولا يغلبُه اليأس، ولا العجزُ والكسل؛ جيلاً يعيش بفكره وشعوره وكلِّ كيانِه مآسِيَ أمّته وآلامَها وآمالَها على كلّ صعيد، ويملك الإيمانَ والإخلاصَ والإرادة، والمعرفةَ والوعيَ والمنهج، والطاقةَ والقدرةَ، والعمل والتضحية؛ للخروج بأمّته الإسلاميّة، وبالإنسانيّة كلّها من بَعْدُ، من هذا الواقع الفاجع الذي تتخبّط فيه، إلى الواقع الإسلاميّ المنشود، الذي نرجو أن يتحقّق بعون الله.

الصدق.. وتحمّل التبعات

نحن في واقعنا الحالي لسنا على مستوى إسلامنا ومهمّتنا وعصرنا.. وعلينا أن نرتفع إلى مستوى إسلامنا ومهمّتنا وعصرنا، إن أردنا أن نربح معركة الإسلام

ومن أشدّ ما نُبْتَلى به أن نتوهّم أنّ مشكلتنا تكمن في عالمنا الخارجي، أو في ظروفنا الخارجيّة وحدها، وهي إنّما تكمن بالدرجة الأولى في أنفسنا، ومفتاحُ هذه المشكلة في أيدينا نحن قبل أن يكون في أيِّ يَدٍ أخرى

ولو أنّنا فَتَّشنا في أنفسنا أفراداً وجماعاتٍ عن الشروط والصفات المؤهِّلة لنصر الله عزَّ وجلَّ كما وردت في القرآن الكريم، وكما تمثَّلَت فيمن تحقّق بهم النصر من أصحاب رسول الله  وسواهم على توالي العصور.. لاَفْتَقَدْنا في أنفسنا كثيراً من هذه الصفات، أو لافتقدنا على مستواها المطلوب على الأقل ولقد تعوّدنا مع الأسف أن نبرّر فشلنا وإخفاقنا، وأن نتهرّب من تَبِعَتِنا وواجبنا، بإلقاء التبعة كلّها على الظروف، وعلى العوامل الخارجة عنا. ولا ننكر دور الظروف والعوامل الخارجيّة وأثره، ولكنّ ذلك كلّه يأتي بالدرجة الثانية، ولا يكفي لتفسير واقعنا الراهن بحالٍ من الأحوال؛ بل إنّ في ظروفنا ما هو إيجابيٌّ أيضاً، وما هو عونٌ لنا لو كنّا مؤهَّلين للاستفادة من الظروف والفرص والإمكانات المتوفرة

أيّها الإخوة

إنّ تجاهل العلّة الحقيقيّة لا يُلْغي وجود العلّة، ولا يساعد على علاجها، بل يضلّل عن العلاج الناجع.. والعلّةُ تشتدّ وتستشري وتزداد استعصاءً على العلاج يوماً بعد يوم

وموقفُ التبريرِ والتهرّب من التّبعة هو في ذاته موقفٌ غيرُ إسلاميّ، موقفٌ يدلّ على أنّ الإسلام في صاحبه لم يتجاوز العنوانَ وبعضَ المظاهرِ والمشاعر الباهتة، ولم يتغلغل كما ينبغي في الفكر والشعور والضمير، ولم تتحوّل به الشخصيّةُ كلّها إلى شخصيّة إسلاميّة، والأخلاقُ إلى أخلاق إسلاميّة، والمواقفُ إلى مواقف إسلاميّة.. فالشّعورُ بالتَّبِعَةِ والنّهوضُ به من أخصّ خصائص الشّخصيّة الإسلاميّة والأخلاق الإسلاميّة، والأمانةُ التي انفرد الإنسانُ بحملها في قول الله عزَّ وجلَّ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب: 72] إنّما هي بِحَقٍّ أمانةُ الابتلاءِ بِتَبِعَةِ التكليفِ وحريّةِ الإرادةِ ومسؤوليّةِ الاختيار كما يقول بعض المفسّرين وإيمانُ المسلم بمسؤوليّته بين يدَيِ اللهِ عزَّ وجلَّ عن عمله، وعمّا كلَّفه الله القيام به، جزءٌ من عقيدته لا يقبل الجدال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ● عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92-93]

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ● فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ  وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ● وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 6-9]

وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ● اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13-14]

وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ● وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ● ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم: 39-40]

ولا أطيل عليكم في سرد الشواهد فهي كثيرة، وقد مرَّ بنا شيء منها في دروس التفسير، ولا يجهلها أكثر المسلمين، ولكنّهم لا يتفكّرون فيها، ولا يدركون أبعادها، ولا يتأثّرون بها، ولا يعملون بمقتضاها.. وهذا هو شأنهم في كثير ممّا ورد في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم

وإذا كان غيرُ المسلم يقبل لنفسه التبرير والتهرّب ومخادعة الناس.. ويظنّ نفسه رابحاً بذلك، فإنّ المسلم الحقّ يأبى بإسلامه هذا الْمَسْلَكَ، ويحسُّ إحساساً عميقاً بمسؤوليّته أمام الله تعالى فيما يُضْمِر ويُظهر

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ● يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 29-30]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد [ق: 16]

... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235]

والصدقُ -كما يقول ابنُ تَيْمِيَّة- هو الفاروقُ بين الإيمان والنفاق، فالْمُظْهرون للإسلام ينقسمون إلى مؤمن ومنافق، والفارقُ بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإنّ أساس النفاق الذي يُبْنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر الله حقيقةَ الإيمانِ نعته بالصدق كما في قول تعالى:

قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ● إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 14-15]

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8]

ولذلك فإننّي أدعو الطلائعَ الإسلاميّة على الدوام إلى الصدقِ في مواجهةِ النفس، ومواجهةِ الواقع، وإلى تحمّلِ التبعاتِ مهما ثَقُلَتِ التبعات، وإلى رفضِ المخادعةِ والتبرير والفرار من الواجبات

قد يكون ذلك مُحْرِجاً وثقيلاً على النفس ومؤلماً أشدَّ الألم، ولكن لا بدّ لنا أن نضع أيدينا على مكامن العلّة، وأن نغوص بها إلى أعماق الجراح، إذا أردنا التشخيص الصحيح، والمنطلَق الصحيح في العلاج، وإذا طلبنا راحةَ ضميرِنا لا إشباعَ غُرورنا، وإرضاءَ الله لا مخادعةَ الناس.. ولْنَتْرُكِ المخادعةَ والتبريرَ لغيرنا من الذين لا يريدون أن يُغَيّروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم.

إنّنا نريدُ أن نكون صادقين مع ربّنا، صادقين مع أنفسنا، صادقين مع الناس ونريدُ للإسلام جيلاً صادقاً شجاعاً في مواجهة نفسه وواقعه، وحمل تبعاته على كلّ صعيد، جيلاً يملك القدرة على الاعتراف بالواقع الأليم المخجل، لا لِيَسْتَسْلِمَ له ولكن لِيُغَيِّره من الجذور، جيلاً يحمل تبعتَه الخاصّة وتبعةَ سواه من المسلمين الذين يتهرّبون من الاعتراف بالواقع وحملِ التبعات إنّ هذا الجيل، بهذه الصفات، وبالصفات الأخرى التي طالما تحدّثنا عنها في هذا المكان، وفي غير هذا المكان، هو الجيلُ الذي يمكن أن تُحَقَّقَ على يديه الآمال الكبار.

يجب أن نتفوق في مختلف الصفات والخصائص والميادين

قال لي أخٌ كريم ونحن نتذاكر ما يُنشر الحينَ بعد الحين في صحف الغرب ومجلاّته من الطّعن على الإسلام والدّسّ الرخيص عليه:

- كم من المسلمين في كلّ دولة من دول الغرب يا ترى يملك من المعرفة بالإسلام، والمعرفة بلغة البلاد التي يسكنها، والقدرة على الكتابة بها، ما يمكّنه من دحض الافتراء، وبيان الحقيقة -إن توفّرت له الغيرة والرغبة.. وقليلاً ما تتوفّر هذه الأيام!-

وفكّرنا معاً واستعرضنا -في حدود معرفتنا- إمكانات المسلمين في بعض الدول، فخرجنا من ذلك بما لا يحزن عدوّاً ولا يسرّ صديقا

وليس يظهر نقص المسلمين وعجزهم في هذا المجال وحده، ولكنّه يظهر في مجالاتٍ عديدةٍ أخرى عند الفحص. لقد سألني صديقٌ من الأصدقاء منذ أيّام عن قصصٍ إسلاميّةٍ توجيهيّةٍ يدفعها إلى أبنائه، يتعلّمون منها وهم يستمتعون، وتربطهم بدينهم وتاريخهم ربطاً عاطفيّاً مع الربط العقليّ، وتجذبهم إلى مطالعتها فيقرؤونها بالرغبة الذاتيّة لا بالإكراه..

فعددتُ لهذا الصديق ما أعرفه من هذه القصص فإذا هو شيءٌ قليلٌ يفرغ منه قارئه بزمنٍ غير طويل، فقال لي الصديق:

- ألا يوجد غير هذه الكتب؟! لقد كانت ذُكِرت لي فطلبتُها، وفرغ بعض أولادي من قراءتها، ولا أجد ما أقدّمه إليهم من القصص الإسلاميّ الآن، في الوقت الذي يجدون أمامهم من القصص الأجنبيّ ما لا يكاد ينتهي ولم أستطع مع الأسف أن أقدّم للصديق السائل ما ينفعه في هذا المضمار

وهذا كلّه في جانبٍ صغيرٍ من الجوانب الفكريّة والثقافيّة والأدبيّة، فكيف في بقيّة الجوانب؟! ثم كيف في مجالات الحياة الأخرى، مما لا أريد الآن أن أعدِّد وأن أُفنِّد

الحقّ أنّ نقصنا نحن المسلمين في هذا العصر نقصٌ كبير، وقصورنا قصورٌ كبيرٌ أيضا

ولقد تعوّدنا أن نبرّر نقصنا وقصورنا باستمرار، بإلقاء التَّبِعَةِ واللوم على الظروف، وعلى الحكّام، وعلى الاستعمار والتبشير.. ولا شكّ أنّ كثيراً من التبعة واللوم يقع على الحكّام المعادين للإسلام، وعلى الاستعمار والتبشير، ولكن لا شكّ أيضاً بأنّ كثيراً من التبعة واللوم يقع علينا نحن المسلمين إنّ هنالك كثيراً من الحاجات الحيويّة، والأمور الضروريّة الأساسيّة للإسلام والمسلمين في هذا العصر، ممّا نستطيع اتّخاذ الأسباب لتلبيته والنهوض به، ولا يحول بيننا وبينه -لو أردنا- حائلٌ من طغيان حاكم، أو عدوان ظالم، أو مقاومة عدوّ.. ولكنّنا مع ذلك لا نفعله على حيويّته وضرورته، لحوائلَ مِن أنفسنا التي استعبدتْها الدنيا، وإن لم نعترف بذلك، ولا ننبعث في الغالب بجدٍّ واجتهادٍ لِما لا يوصلنا لمكسبٍ ماديّ، أو هدفٍ دنيويٍّ قريب، ونلتمس لأنفسنا شَـتَّى المعاذير لتفريطنا بحقًّ من حقوق الله عزَّ وجلَّ، ولكنَّ هذه المعاذير كلّها تزول إن صادف في الأمر المطلوب هوى النفس، أو منفعةٌ عاجلة من منافع الدنيا

إنّ الشابّ من الشباب المسلمين الراغبين في إتمام دراستهم العالية، عنده الاستعدادُ كلُّ الاستعداد لقضاء سنوات من الدراسة والبحث والكتابة، لتحضير رسالة دكتوراه ينال بها اللقب والمنصب، ولكنّه -إلاّ مَنْ ندر- لا يكلّف نفسه في سبيل الله مثل هذه الدراسة والبحث والكتابة، في موضوع يفتقر إليه المسلمون، وينبني عليه وعلى أمثاله أخطرُ النتائج

وأذكر مرّة أنّني كنت أتحدث في موضوعٍ من الموضوعات الأساسيّة التي كانت وما زالت تمسّ الحاجة إلى الكتابة فيها، مع عالمٍ مسلمٍ من المؤهَّلين باختصاصهم وإمكاناتهم لدراسة هذا الموضوع، والكتابة فيه بما يفيد المسلمين ويخدمهم خدمة جُلّى، وكان هذا العالم من رأيي في أهميّة الموضوع وضرورته القصوى

وقلت له: - إذا كان رأيك كذلك يا فلان فلماذا لا تتجرّد لدراسته والكتابة فيه بما يرضي الله عزَّ وجلَّ، ويحقّق هذه الخدمة الكبرى للإسلام والمسلمين، وهو لا يحول بينك وبين عملك الوظيفيّ، وقد وسَّع الله عليك فلا تحتاج إلى فائض وقتك في الكسب؟

فاعتذر هذا العالِمُ في ذلك الحين بأعذارٍ ما ظننتُ معها أنّه يمكن أن يجد وقتاً لهذا العمل بحالٍ من الأحوال.. ولكن ما كان أشدَّ دهشتي عندما رأيته بعد وقتٍ يسيرٍ يجد وقتاً أفسحَ لعملٍ آخرَ لا يعود على الإسلام والمسلمين بأيّ خيرٍ من قريب أو بعيد؛ ولكن يعودُ عليه بكسبٍ ماديّ كبير


وأعود إلى أصل الحديث قبل أن يتشعّب بنا أكثر، فالحديثُ -كما يقولون- ذو شُجون

أَصْلُ الحديث يصلُ بنا إلى قصورنا وعجزنا -الذي يُمْكِنُنا ويجب علينا أن نتخلّص منه- وإلى ضرورة عدم التهرّب من مسؤوليتنا، أو إلقاء التَّبِعَةِ واللوم على غيرنا، فيما تقع علينا التبعة فيه، أو فيما نشارك في حمل تبعته على الأقل

إنّ الصدق في مواجهة أنفسنا، ومواجهة واقعنا، والاعترافَ الجريء بمسؤوليتنا، شرطٌ في كلّ تغييرٍ حقيقيٍّ لِمَا نحن عليه..

وأنا أظنّ أنه لو سقط في بلادنا كلّ حكمٍ محاربٍ للإسلام، وزالت من أمامنا كلّ عقبة خارجية تحول بيننا وبين العمل، لما أمكننا -ونحن على هذه الحال- أن نصنع لأمّتنا وبلادنا وسائر البشر ما يوجب علينا الإسلام أن نصنع.. فالمشكلةُ إذن لا تكمن في ظروفنا الخارجيّة المحيطة بنا، بمقدار ما تكمن فينا، بل إن ظروفنا الخارجيّة لا يمكن أن تتغيّر إلاّ إذا تغيّرنا نحن، وملكنا أسباب التغيير لما حولنا وليكن معلوماً تمامَ العلم: أنّنا لن نكون قادرين على تبليغ رسالة الإسلام في عالمنا وعصرنا كما ينبغي، ولن نكون قادرين على أن نحكم مجتمعنا ومستقبلنا بالإسلام، إلاّ بعناصر متفوّقة إلى أبعد حدود التفوّق في مختلف الصفات، والخصائص، والميادين

يجب أن تنشأ فينا وتنموَ بيننا عناصرُ عالميّةُ المستوى في كلّ مجال من المجالات، ليكون للإسلام مكانه القياديّ المؤثر في عالمنا.. وإلاّ بقينا دون مستوى مهمّتِنا، ودون مستوى التأثيرِ في عالمنا ومجتمعنا، وفي حاضرنا ومستقبلنا.. واضطررنا إلى مزيد من الهامشيّة والعزلة والخضوع والضياع وهذا الهدفُ الكبير الذي نرسمه، والمطلبُ الجليل الذي نطلبه، لا يمكن أن نصل إليه إن تجاهلناه، وتجاهلنا قصورنا الرهيب عنه، كما لا يمكن أن نبلغه بالأماني، وبأحلام اليقظة، إن اعترفنا به، وتطلَّعنا إليه..

لا بدَّ من جهودٍ خارقةٍ تبذلها الطلائعُ الإسلاميّةٌ في كلّ مكان وكلّ مجال، لتتجاوز واقعها الحالي، ولتصل إلى مستوى إسلامها الحقّ، ومستوى مهمّتها التاريخيّة العظيمة، ومستوى عالمها وعصرها الذي تعيش فيه، وليتحوّل المسلمون بها من التبعيّة إلى القيادة الحقيقيّة لمجتمعهم وللعالم وهذه الجهود الخارقة الدائبة الهادفة الخالصة، لا تكون إلاّ بإيمانٍ صادقٍ يُصَغِّرُ عند أصحابِها الدنيا وما فيها من المكاسب والمغريات، ويُهَوِّنُ عليهم المشقّاتِ والتضحيات، ويَحْفِزُهم دوماً إلى استفراغ غايةِ الجهد في طاعة الله عزَّ وجلَّ.

من أجل جيل إسلاميّ قويّ

إنّنا ندعو إلى جيلٍ إسلاميّ قويّ

جيلٌ قويٌّ بروحه، قويّ بفكره، قويّ بإرادته، قويّ بعلمه ووعيه وخبرته.. وقويّ بصحّته وإمكاناته الجسديّة أيضاً إلى أبعد الحدود، ف «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْر...» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم)

وإذا كانت القوّةُ في الحديث المتقدّم تنصرفُ أوّلَ ما تنصرفُ إلى القوّة في الحقّ، فهي تتضمّن فيما تتضمّن القوّةَ في الجسد، فهي نِعْمَ العونُ على الحقِّ وعلى الواجب في مختلف المجالات

وليس في الإسلام تناقضٌ بين القوّة الرّوحيّة والقوّة الجسديّة، بل تكاملٌ هو من أَظْهَرِ ما امتازت به رسالةُ الله الأخيرة الخالدة، التي تُفَجِّرُ كلَّ طاقاتِ الإنسان وتُلائمُ بينها وتوجّهُها الوجهةَ الواحدة المنتجة، التي تحميها من التّعارض والتّبَدُّد، وتصلُ بها إلى أبعد مدىً ممكن في تحقيقِ ذاتِ الإنسان، وفي تحصيلِ خيرِه في دنياه وفي آخرته على السّواء، وفي إعلاء كلمةِ الله كذلك كلمةِ الحقِّ والعدل والسّلام في حياة البشر على هذه الأرض

ولقد كان الرّسولُ صلى الله عليه وسلم أقوى النّاس روحاً وأقوى النّاس جَسَدا.. وكان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَجَنَّهَمُ الليلُ رُهْباناً، وإذا طلع عليهم النّهار فُرْساناً، لم تَعرفِ الدّنيا أقوى منهم ولا أبرعَ في ميادين القتال..

وبقوّة الرّوح أوّلاً، وقوّة الجسد، وقوّة التّدريب، وسائِر ضروب القوّة الأخرى، انتصرَ الحقُّ بالرّسول  وبأتباعه على الزّمن..

ولكنَّ ابتعادَ المسلمين عن إسلامهم، وجهلَهم بتعاليمه الحقيقيّة، أو تَحَلُّلَهم منها، أنشأ أجيالاً ضعيفةً عاجزة؛ أجيالاً ضعيفةً في روحها، وفي فكرها، وفي أخلاقها، وفي أجسادها على السّواء.. أجيالاً كُتِبَ على المسلمين بها العبوديّةُ والهزيمةُ في كثيرٍ من الأحيان، وكثير من الميادين

ولقد دخل على بعض المشايخِ المسلمينَ مع الأسف وَهْمُ الانفصال بين قوّة الرّوح وقوّة الجسد، أو غَلَبَ عليهم ما غَلَبَ على العصور الأخيرة المتخلّفة من تجزئة الإسلام الذي لا يمكن أن يتجزّأ، والجهلِ بوحدته العُضْوِيّة التي لا يجوز أن تُجْهَل.. فرأينا أكثرهم يُعْنَون بالرّوح -في زعمهم- ويُهْمِلون الجسد، كأنّ العنايةَ به لم يأمر بها الإسلام، وكأنّ التّربيةَ الإسلاميّةَ والْقُربى إلى اللهِ تكونُ في جانبٍ دون جانب، وببعضِ الإسلامِ دونَ بعض

إنّنا ونحن نرى في ديار الغرب أسبابَ الصّحةِ والقوّة، وقابليّاتِ الجسمِ البشريِّ المذهلةَ التي يحقّقها التّدريبُ الرّياضيّ والوسائلُ الأخرى، ونفكّر في ذات الوقت بأمّتنا وبلادنا، وبالشَباب الإسلاميّ على الخصوص.. لَيَحُزُّ في أنفسنا ما نراه من تفوّق الشّباب الغربيّ الكبير، بل الشّباب غيرِ الإسلاميّ في بلادنا نفسِها، على الشّباب الإسلاميّ في هذا المجال، بما لذلك من آثارٍ تتعدّاه إلى سواه من المجالات الأخرى إنّنا لَيَحُزّ في أنفسنا ذلك، ونرفضُ التّسليم به واستمراره في الحاضر والمستقبل، فالإسلام يأبى للمسلمين الضّعف، سواء كان ضعفاً في العقيدة، أو في الإرادة، أو في العلم، أو في الجسم، أو في أيّ مجال من المجالات الفرديّة أو الجماعيّة، المحليّة أو العالميّة، المعنويّة أو الماديّة، النّظريّة أو العمليّة، ويحرِّرُهم منه ومن أسبابه مهما كان مجاله أو نوعه

و الإسلام يريد للمسلمين القوّة في كلّ مما تقدّم من الأمور، ويأخذ بأيديهم إليها.. ومن ذلك قوّةُ الصّحة والجسم، حيث تكون في إطاره قوّةً على طاعة الله، وعلى القيام بتبعات الخلافة في الأرض، وعلى إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل.. قوّةً محكومة بمبادئ الإسلام وشريعته الغرّاء، فلا تكون إلاّ في خدمة الحقّ، ولا يكون منها إلاّ الخير


والصّحةُ والقوّة الجسديّة تنعكس في حياة المسلم -عندما تتوفّر له مع الإيمان والمنهج الإلهيّ- تفاؤلاً وأملاً وثقةً في النّفس، وحيويةً في التّفكير والتّنفيذ، وسلامةً في التّصوُّر والتّخطيط، وجرأةً في مقارعة الباطل والطّاغوت، وقدرة على مواجهة المصاعب والعقبات، والنّهوض بالأعباء والواجبات ولذلك كلّه

فإنّنا نطالب المسلمينَ عامّة، والطّلائعَ الإسلاميّة خاصّة، بأن يجعلوا التّربيةَ البدنيّة والألعابَ الرّياضيّة جزءاً من حياتهم في بيوتهم ومجتمعاتهم

ونطالبُهم بأن يوفّروا لأنفسهم ولأبنائهم أسبابَ التّقدّم والتّفوّق في هذا الميدان، كما نطالبهم بأن يوفّروا لأنفسهم ولأبنائهم أسبابَ التّقدّم والتّفوّق في كلّ ميدان، بشكل متوازن متكامل، يهتمّ بالقَدْرِ المشترك، كما يهتمّ بالاستعداد والاختصاص

إنّنا نريد جيلاً قويّاً.. جيلاً متفوّقاً في مختلف الميادين

إنّنا لن نربح معركة الإسلام ومعركة الإنسان إلاّ بجيلٍ قوّيّ متفوّق

نداءات المثقفين الفرنسيين!!

كثيراً ما أقرأ في الصحف الفرنسيّة نداءات من المثقّفين الفرنسيّين من أجل مسجونين أو معتقَلين أو مضطهَدين في هذا البلد من بلدان العالم أو ذاك.. وأجد تحت هذه النداءات تواقيع -لا يكاد يختلف معظمها- لمفكّرين وأدباء معظمهم من الماركسيّين واليساريّين..

وهؤلاء المفكّرون والأدباء يتحرّكون باسم الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان

وأنا من حيث الأصل بجانب كلّ صوت يرتفع دفاعاً عن الحريّة وحقوق الإنسان في عصر كثر فيه عدوان القوى الباغية على الحريّة وحقوق الإنسان في كلّ مكان، وسكتت عن إنكار هذا العدوان الألسنُ والأقلام رهبةً أو رغبة أو عدمَ شعور بمسؤوليّة الإنسان عن أخيه الإنسان، وعن القيم العليا التي يصبح المجتمع البشري دونها كمجتمع الغاب

ولكنّ الذي ألاحظه أنّ هؤلاء المثقفين الفرنسيّين لا يكادون يتحرّكون إلاّ دفاعاً عن ماركسيّين أو يساريّين آخرين، كأنّ غير الماركسيّين واليساريّين ليسوا بشراً يستأهلون أن يُدفع عنهم الظلمُ والعذاب والموت في بعض الظروف، وكأنّ الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان ليست عندهم أكثر من شعارات يرفعونها عندما يريدون، وينسونها عندما يريدون، بل إنّ الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان تُلغى أحياناً من الوجود إن كان رفاقُهم الماركسيّون واليساريّون حاكمين لا محكومين، وظالمين لا مظلومين، ومضطَهِدين -بكسر الهاء- لا مضطهَدين.. وإلاّ فلماذا لا يرفع هؤلاء المثقّفون في مناسبات كثيرة صارخة أصواتهم بالدفاع عن ألوف وألوف من المسجونين والمعتقلين والمضطهدين الآخرين غير الماركسيّين واليساريّين؟! بل لماذا لم يرفع هؤلاء أصواتهم دفاعاً عن شعوب بكاملها تحكم بالحديد والنار، وتقاد بالسلاسل والسياط كما يقاد العبيد؟!

إنّ العالم يحتاج في هذه الظروف العصيبة إلى أحرار حقيقيّين من كلّ مكان، يقفون مع الحقّ والعدل في كلّ مكان، ويدافعون دفاعاً مخلصاً عن الحريّة حيثما تُسلَبُ الحريّة، وعن حقوق الإنسان حيثما تنتهك حقوق الإنسان، لا يفرّقون في ذلك بين بلد وبلد وشخص وشخص ووضع ووضع

وما أحرانا نحن المسلمين أن نأخذ مكاننا الأساسيّ في هذا الميدان، وما أحرى مثقّفينا ومفكّرينا وأدباءنا أن يرتفعوا بمستواهم إلى أعلى ما يستطاع من الدّرجات، ليكون لهم أيضاً أثرهم العميق، ووزنهم الكبير، وكلمتهم المسموعة في العالم، في هذه الأمور وفي كلّ الأمور ولا يجوز لنا أن نبقى هكذا مكشوفين، وفريسة سهلة لكلّ عدوان أثيم، لا يرتفع بالدفاع عنّا صوت مسموع، ولا يبلغ ما يصيبنا آذان العالم الكبير، ولا يهزّ ضمائر البشر الذين يستحقّون هذا الاسم.

إقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ

إنّ ما تهدف إليه حركاتُنا الإسلاميّة من إقامة "الحكم الإسلاميّ" يجعلنا أمام قضيّتين متلازمتين لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى:

أ- أن نصل إلى السلطة

ب- أن نحقّق الإسلام عن طريقها

ووصولُنا إلى السلطة دون القدرة على تحقيق الإسلام عن طريقها، يظهرنا بمظهر الانتهازيّين الوصوليّين، ويصمنا بالعجز، ويخيّب فينا الأمل، ولا يحقّق ما هدفنا إليه.

كيف نحقّق الإسلام عن طريق السّلطة؟

إن أداتنا الرئيسيّة لتحقيق الإسلام عن طريق السلطة هي ما نُعِدُّ لذلك من الرجال والأجهزة والمخطّطات، وما تعطيه السلطةُ نفسُها من وسائلَ وإمكانات

أمّا كيف نُعِدّ الرّجال والأجهزة والمخطّطات، فذلك يكون بتطوير إمكانات شبابنا على حسب اختصاصاتهم، ليكونوا قادة الحركة الإسلاميّة، وقادة الأمّة والبلاد في مجال هذه الاختصاصات، وعمادُنا في ذلك بالدّرجة الأولى شبابُنا المتخرّجون، أو الأعداد المختارة لهذه المهمّة منهم، فالمتخرّجون من شبابنا يوزّعون على حسب اختصاصاتهم، وعلى حسب وزارات الدولة ومجالات العمل فيها قَدْرَ الحاجةِ والإمكان، فيكونُ منهم قسمٌ يضمّ المختصّين بالاقتصاد ويقابل وزارةَ الاقتصاد، وقسم يضمّ المختصّين بالقانون ويقابل وزارة العدل، وقسم يضمّ المختصّين بالطّب ويقابل وزارة الصحّة.. الخ

ولنأخذ مثلاً لذلك شبابَنا المختصّين بالاقتصاد. إنّهم، أو المختارين لهذه المهمّة منهم، يشكّلون الحلقة الاقتصاديّة التي يكون من برنامجها الخاصّ بها -بالإضافة إلى البرنامج التربويّ والثقافيّ المشترك بينها وبين غيرها، وإلى مهمّاتها التنظيميّة والعمليّة-:

1- متابعةُ نموِّها العلميّ ودراساتها الاقتصاديّة، واتّصالها بما يستجدّ من معطيات ومشكلات وآراء

2- أن تكون لها دراسةٌ إسلاميّة موازية تساعدها على وضع حلول إسلاميّة للمشكلات الاقتصاديّة، وتمكّنها من تخطيط اقتصاديّ إسلاميّ على مستوى العصر وحاجات العصر

3- استيعابُ الجهد الإسلاميّ السابق في هذا الميدان وتطويرُه، وتقويمُه، والوصول به إلى المدى المطلوب

4- تخصّصُ كلّ فرد أو أفراد من المجموعة بموضوع يحتاج إلى الدراسة والجلاء، أو مشكلة تفتقر إلى الحلّ، بحيث يكون الأخُ على الزمن مرجعه المختصّ، ويصل فيه إلى النتيجة المتوخّاة

5- دراسةُ واقعِ البلاد الاقتصاديّ، وسياستها الاقتصاديّة القائمة، والكشفُ عمّا فيها من الخلل، والتخطيطُ لمستقبل البلاد الاقتصاديّ، في ضوء واقعنا وحاجاتنا وأهدافنا، وفي إطار العالم الذي نعيش فيه

6- أن يُعَرَّف الناس بالنّظام الاقتصاديّ في الإسلام، ويُكشَفَ لهم بالمقارنة، عن مزاياه وتفوّقه على سواه، ويُبيَّن بقوّة ووضوح أنّه السبيلُ الأقوم لنا، ولما ننشد من عدالة أو من تقدّم وازدهار، وذلك عن طريق الكتب والمجلاّت، والأحاديث والمحاضرات، وكلّ ما يناسب من وسائل الإعلام

وهذه المجموعةُ من المختصّين بالاقتصاد، هي جهازنا الاقتصاديّ الفنيّ، وهي التي ستتولّى إذا وصلنا إلى السلطة أمورَ وزارة الاقتصاد، وتطبيقَ المنهج الاقتصاديّ الإسلاميّ، كما تتولّى قبلَ الوصول إلى السلطة، في حدود اختصاصها، التمهيدَ لذلك، والإسهامَ في إبرازِ معالم الحياة الإسلاميّة، وحفزِ النّاس إليها بالقدوة والدعوة والحجّة والإقناع

وما قلناه عن إخواننا المختصّين بالاقتصاد على سبيل المثال، يمكن أن يقال عن إخواننا في بقية الاختصاصات على حسب اختلاف المهمّات والمجالات.

ملاحظة

إنّ عنايتنا بتطوير إمكانات الشباب المسلمين على حسب اختصاصاتهم يجب أن تبدأ في وقت مبكّر، فكما نُعْنَى بوصل ناشئتنا وشبابنا بالله تعالى، وبأخذهم بالسلوك الإسلاميّ، وبتعريفهم بمعالم الإسلام الكبرى، وبتوثيق أواصر بعضهم ببعض، وبربطهم بقيادتهم، وبتنظيم نشاطهم لدعوتهم، علينا أن نعنى باكتشاف استعداداتهم العلميّة والفكريّة والعمليّة، لتغذيتها وتنميتها، وتوجيههم في طريقها، لنصل بهم إلى التفوّق في مضمارها، أثناء الدراسة الثانويّة، والجامعيّة، وبعد التخرّج.. وبذلك تكون إلينا قيادةُ البلادِ الفكريّة والعلميّة، ممّا لا بدّ منه -مع سواه- لإنجاح دعوتنا، وتحقيق رسالتنا، وإحداث انقلابنا الجذريّ الذي ننشد، وبذلك أيضاً نتيح لشبابنا فُرَصَ الاستفادة من البعثات والمسابقات، ونمهّد لهم الطريق إلى المناصب الحساسّة -التي لا يتعارض وجودُهم فيها مع الإسلام-، وإلى مراكز الإشعاع والقيادة الفكرّية والعلميّة في الجامعة وغيرها

جمعيّات الدّراسات

هي جمعياتٌ يُمْكِن أن تكون مكملة لعمل الحركات الإسلاميّة الداخليّ، والغرضُ منها هو تنظيم التعاون العلميّ والفكريّ بين الشباب المختصّين المنتظمِين في حركة، وبين أصحاب الاختصاص من الإسلاميّين الذين لا يمكن أن يتمّ التعاون معهم داخل الحركة، مع فائدة هذا التعاون، وضرورة الاستفادة من طاقاتهم العلميّة والفكريّة، وتوجيهِهَا ودَفْعِها في طريق الإثمار. كما أنّ هذه الجمعيّات تستطيع في حدود متفاوتة، بمظهرها العلنيّ الرسميّ، ووجهها العلميّ والثقافيّ، أن تنظّم التعاون مع قادة الفكر الإسلاميّ من العلماء والمفكّرين في كلّ مكان، في دراسة بعض الموضوعات، وإنارة الطريق في كثير من الأمور

وهكذا فإنّنا عن طريق أقسام المتخرّجين، وعن طريق جمعيّات الدّراسات -أو ما يمكن أن يقوم مقامها- نتوصّل إلى ثلاثة أمور:

1- تكوين الرجالِ والأجهزةِ الاختصاصيّة على نطاق منظّم واسع للمستقبل

2- الاستفادة الراهنة ممّن بلغوا مرتبة النُّضْجِ والعطاءِ في معالجة المشكلات، وفي مساعدة السائرين في الطريق من علماء المستقبل

3- الوصول على الزمن إلى التخطيط الإسلاميّ المنشود: النظريّ والعمليّ الحيّ المتطوّر لكلّ جوانب الحياة


والذي نودّ أن نشير إليه هنا، هو أنّنا بهذه الصورة التي قدّمناها، نحلّ مشكلة التخطيط حلاًّ جذريّاً، لأنّنا في بلادنا لا نفتقر فقط إلى مخطّطات إسلاميّة لحياتنا، بل المشكلةُ أعمقُ من ذلك، إنّنا نفتقر أيضاً إلى ما هو أسبقُ من المخطّطات، وما لا توجد إلاّ بوجوده المخطّطات.. نفتقر إلى الرجال المؤهّلين للتخطيط الإسلاميّ على مستوى العصر وحاجات العصر، وإلى الأجهزة الاختصاصيّة المتعدّدة المتكاملة المكافئة لهذه المهمّة


وما قدّمناه هنا يُكَوِّن لنا الرجالَ والأجهزة، أي يُكَوِّنُ لنا الأداةَ الحيّةَ النّامية القادرة التي تستطيع أن تستجيب دائماً استجابة إسلاميّة علميّةً واعيةً لكلّ حاجات الحياة ومتطلّباتها، والتي تستطيع أن تواجه مواجهة إسلاميّة متجدّدة مبدعة كلّ ما يجدّ في بلادنا وعالمنا من تطوّرات، وهو -أي ما قدّمناه- في نفس الوقت الذي يُعِدُّ فيه للمستقبل، يستفيدُ من كلّ ما يمكن أن يعطيه الحاضر على الصّعيد العلميّ والفكريّ، وعلى صعيد التّخطيط وكلّ صعيد

ولا بدّ أن نؤكدّ هنا أنّ تكوينَ الرجال والأجهزة الاختصاصيّة، ورسمَ المخطّطاتِ الإسلاميّة، مهمّةٌ تاريخيّةٌ من أخطر الْمُهِمّات في هذا العصر، وأنّ النهوض بها خدمةٌ تاريخيّة حاسمة للإسلام في كلّ قطر من أقطاره، وخطوةٌ لا بدّ منها إذا أردنا ألاّ ينحسر الإسلام من حياتنا وحياة العالم، وكنّا صادقين في قولنا: إننا نريد إقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ.

العناصر المؤهّلة وتكامل الاختصاصات والخبرات

هنالك أسباب قريبة وبعيدة لعجزنا وهزائمنا ونكباتنا المتوالية، فالنظرُ إلى الأسباب القريبة وحدها لا يكفي لإدراك المشكلة والوصول إلى الحلول المناسبة، والنظرُ السّطحيّ لا يؤديّ إلى اكتشاف الأسباب الحقيقيّة ومعرفتها وفهمها وفهم نتائجها وآثارها، وعلاجها العلاجَ البصير الناجع. ولا يَقِلُّ الخطأُ في تبيّن الأسباب الحقيقيّة، وطرائق علاجها، ضرراً ولا خطراً عن الجهل بها، ولذلك فلا بدَّ لنا في تشخيص واقعنا، واستبانة أسباب عجزنا وهزائمنا، واكتشاف طريق الخلاص، من عناصرَ مؤهّلةٍ لهذه المهمّة التاريخيّة الحيويّة الكبرى

1- بإخلاصها وتجرّدها

2- بعلمها واختصاصها ووعيها وتجربتها ومواكبتها لتطوّرات عالمها وعصرها

3- بموضوعيّتها ومنهجيّتها ودقّتها وجديّتها وصبرها

4- بشجاعتها الكبيرة في رؤية الحقائق واستخلاص النتائج والجهر بما توصّلت إليه مهما كان في ذلك من الآلام والأخطار

5- بشعورها بمسؤوليّتها، والتزامها بما تبيّن لها من الحقّ والمصلحة والسّبيل الموصل، والوقوف معه بالقلم واللسان والعمل الدّائب على كل صعيد


إنّ هذه العناصر المؤهَّلة ضرورةٌ إسلاميّةٌ وتاريخيّة للإدراك السّليم والوعي الصّحيح والانطلاق البصير والسّير السّديد والعمل المثمر والنجاح المرجوّ

وكلُّ جهد نبذُله لتكوين هذه العناصر والاستفادة ممّن يوجد منها، وكلُّ جهد يبذُله شابّ مسلم مخلص ليكون من هذه العناصر، إنّما هو عبادة لله عزَّ وجلَّ، وجهادٌ مفروض محمود، وخدمةٌ من أجلّ الخدمات للإسلام والمسلمين في هذا العالم والعصر

أيّها الشّباب المسلمون

لا يستطيع أيّ واحد منكم دون جهد ونموّ وتأهيل حقيقيّ، أن يُشَخِّص أدواءَ الواقع وعللَه، بظواهرها وبواطنها، وأسبابها ونتائجها، وأن يرسم طرائق العلاج، كما لا يستطيع أيّ فرد من الأفراد لم يدرس الطبّ ولم يمارسه، أن يشخّص حالة إنسان مريض، فيحدّد المرض ويصف الّدواء

وكما يضُرُّ من يعالج المرضى دون دراية بالطبّ أو يقتل وهو يريد لمن يعالجه المنفعة والحياة، كذلك يضرّ الجاهل الذي يعالج أدواءَ أمّته وبلاده بجهله وقلّة خبرته، وقد يكون سبباً من أسباب الهلاك ولم يعد هنالك الآن طبيبٌ واحد يعالج معالجةً حقيقيّة وافية كلّ مرض من الأمراض، وكلّ جارحة من جوارح الإنسان، فقد تعددّت الاختصاصات وتفرّعت وتعمّقت، وما تزال تتفرّع وتتعمّق على الأيّام، ولم يعد هنالك بدٌّ من تكامل الاختصاصات والخبرات، لمعالجة مختلف ما يطرأ على الإنسان جسديّاً ونفسيّاً، من الإصابات والأمراض، بل ربّما احتاج أصحابُ الاختصاص الواحد في الجانب الواحد إلى التّعاون والتّداول للوصول إلى التّشخيص الأفضل والعلاج الأكمل..

وعِلَلُ الأمم والشّعوب والمجتمعات في عالمنا وعصرنا أكثرُ تعقيداً وعسراً من عِلَل الأفراد؛ فهي بالتالي أحوجُ إلى ما يكافِئُها من الاختصاصات والخبرات، وتكامل الاختصاصات والخبرات في مختلف المجالات، بإخلاص وجدٍّ وتواضع، ويقظة دائمة، واستعداد مستمرّ، لتدارك كلِّ خطأ والاستفادة من كلِّ إمكانيّة جديدة للفهم الأصحّ، والعلاج الأنجع على كلِّ صعيد

وليس هنالك أيُّ غضاضةٍ على أيِّ فردٍ أو جماعةٍ إسلاميّةٍ تعترفُ بشجاعةٍ وصدقٍ وإخلاصٍ بقصورها ونقصها وأخطائها، وتسعى جاهدةً دائبة إلى التّعلّم والنموّ المستمرّ، لتكون مُكافِئَةً لإسلامها، ومهمّتها التاريخيّة الكبيرة، وعالَمها وعصرها المتغيّر المتطوّر الحافِل بالأعاجيب والمفاجآت الكبار.. إنّما الغَضاضةُ كلُّ الغضاضةِ على كلّ فردٍ أو جماعةٍ تخدعُ نفسها، أو تخدع المسلمين عن الحقائق، وتحشو عقولَهم ونفوسهم بالأوهام، وتقودهم، -واعيةً أو غيرَ واعية- إلى الفشل والإخفاق والهلاك

الارتفاع إلى مستوى العالم والعصر

إنّنا نؤكّد باستمرار وإلحاح يعجب لهما كثير من النّاس ضرورةَ ارتفاعِ المسلمينَ إلى مستوى عالمهم وعصرهم؛ أي إلى مستوى فهمِ عالَمِهم وعصرهم، والتأثيرِ في عالمهم وعصرهم، وامتلاكِ كلِّ ما يمكن أن يضعه العصرُ في أيديهم من المعارف والوسائل لتطوير أنفسهم وإمكاناتهم على كلّ صعيد، وأداء رسالتهم على أفضل وجه ممكن

ولا يمكننا -نحن المسلمين- أن نفهم عالمنا وعصرنا في واقعه الرّوحيّ والنّفسيّ والخلقيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ والعسكريّ، وفي واقعه العلميّ والتّكنولوجيّ، وفي مختلف جوانبه وظواهره إلاّ من خلال عددٍ كبير من العناصر المؤمنة المخلصة الواعية التي يصلُ كلٌّ منها في مجاله إلى أعلى درجات المعرفة والاختصاص، والتي تتكامل معارفُها واختصاصاتُها وجهودها في خدمة الإسلام

وإذا لم نفهم عالَمَنا وعصرنا -فهماً حقيقيّاً لا وهميّاً، علميّاً لا عامّيّاً، شاملاً لا جُزئيّاً- كنّا متخلّفينَ ضائعينَ منقطعينَ عن ركب العالم والعصر، عاجزينَ عن مجرّدِ الحياة -كما هو شأننا الآن-، فضلاً عن التّحرك البصير، والتّصرّفِ السّديدِ، وخدمة الإسلام والمسلمين والإنسان في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد

والعصرُ الذي نعيش فيه يُمكن أن يضع في أيدينا -كما يضعُ في أيدي سوانا- من المعارف والوسائل ما يُمَكِّننا من إحداث تغيير عميق في واقعنا، ويزوّدُنا بقدرات مذهلة في تحقيق أهدافنا

ويكفي أن أذكر هنا على سبيل المثال استخدامَ الحاسباتِ الإلكترونيّة في ميدان المعرفة والإعلام، والثّورةَ الإداريّة في التنظيم والتّسْيير، هذه الثّورة الكبيرة الخطيرة التي عاشتها وما تزال تعيشها الدّولُ المتقدّمة، والتي كان لها نتائجُها الضّخمة في مختلف الميادين، والتي نفتقر إليها أشدَّ افتقارٍ في بلادنا وفي حركاتنا وفي سائر أعمالنا

إنّنا ما نزال مع الأسف نفكّر بعقليّة القرون الماضية، ونستخدم في معظم أعمالنا من المعارف والأساليب ما تَجاوزه الزّمنُ بألوف المراحل. إنّنا في تخلّفِنا وجهلِنا وكسلنا كمن يستخدم "الدّابّةَ" في تحرّكاته ومواصلاته وإنجازاته في عصر "الجامبوجيت" و"الكونكورد" وسفن الفضاء؛ عصرِ الثّورةِ الإداريّة والتكنولوجيّة في مختلف المجالات؛ عصرِ الحاسبات الإلكترونيّة وأشعّة الليزر وغير ذلك ممّا سخّره الله تعالى للإنسان.. ومن هنا بعض أسبابِ انحطاطِنا عن عالمنا وعصرنا، وعجزِنا وهزائمنا وضياعنا.. ومن هنا هتافُنا المستمرُّ بالمسلمين: أن يَرتفعوا إلى مستوى عالمهم وعصرهم، كما نهتفُ على الدّوام بهم: أن يرتفعوا إلى مستوى إسلامهم ومهمّتهم

وارتفاعُ المسلمين إلى مستوى العالم والعصر؛ بل إلى مستوى القدرةِ على اكتشاف احتمالاتِ المستقبل أيضاً، والتّأثيرِ فيه بشكل علميّ منهجيّ فعّال، ليس أمراً تحسينيّاً كماليّاً، ولكنّه أمرٌ ضروريّ كلَّ الضّرورة؛ أمرٌ يرتبط به الآن أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى مصيرُ المسلمينَ ومصيرُ الإنسان.

الطلائع الإسلاميّة

عندما ينسجم عمل المسلم للإسلام مع مصالحه ومطامحه ووجاهته وظروفه يكثر العاملون للإسلام؛ وعندما يتعارض عمل المسلم للإسلام مع مصالحه ومطامحه ووجاهته وظروفه يقلّ العاملون

وقد يحدث أن يقع هذا التّعارض في مجال دون مجال، وفي بلاد دون بلاد، أمّا إذا شمل هذا التّعارض كلّ مجال وكلّ مكان -وهذا ما قد يحدث في بعض الظّروف الاستثنائيّة للمسلمين الصّادقين الفعّالين المؤَثِّرين- فهنالك تكون مفارقُ الطّرق بين الاستقامة والانحراف، والإقدام والاستسلام، والإيثار الكامل لجانب الله عزَّ وجلَّ، أو الوهن واليأس والاستسلام.. ومن أولئك الذين يختارون طريق الاستقامة والإقدام في هذه الظّروف، ويؤثرون إيثاراً كاملاً جانب الله عزَّ وجلَّ، تتكوّن الطّلائع الإسلاميّة التي تحملُ في جوانحها حقيقةَ الإسلام، لا مجرّدَ عنوانِه الخارجيّ ولفظِه المفرغ من محتواه، وتجسّمُ في حياتها ومواقفها وعملها الإسلام ومستقبلَ الإسلام وآمالَ المسلمين وسائرِ البشر

إنّ هذه الطّلائع الإسلاميّة لم تكن لِتَخْتار هذا الاختيار، وتسلك هذا السّلوك، إلاّ وقد تحرّرت في داخل أنفسها من العبوديّة للطّاغوت، ومن إسار الدّنيا، وربطت مصيرها ربطاً نهائيّاً بالإسلام ومستقبل الإسلام، وباعت أنفسها وأموالها لله عزَّ وجلَّ بأنّ لها الجنّة؛ فملكت بذلك مفاتيحَ التّغييرِ الحقيقيّ، وإقامةِ الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ

وهذه الطّلائعُ الإسلاميّة بطبيعتها، وطبيعةِ خيارِها العسير الخطير، وارتباطِها العميق الوثيق بالله وبالإسلام.. صادقةٌ كلّ الصّدق مع ربّها، ومع نفسها ومع النّاس، وهي بمقدار إيمانها وإخلاصها، وتصميمها على العمل والجهاد، واستعدادها لكلّ تضحية في سبيل الله عزَّ وجلَّ، تدركُ البَوْن الشّاسع بين واقعها وواجباتها، وبين إمكاناتها الحاليّة ومهمّتها التّاريخيّة الكبيرة في حياة المسلمين وحياة العالم، فهي تجاهد جهاداً صادقاً مستمرّاً لرفع نفسها إلى مستوى إسلامها وعالمها وعصرها، ومستوى القدرة على تحقيق أهداف الإسلام في هذا العالم والعصر، وهذا يحتاج إلى مجهود يوميّ هائل على كلّ صعيد؛ فالارتفاعُ إلى مستوى الإسلام، والقدرة على تحقيق أهداف الإسلام في هذا العالم والعصر، لا يتحقّق بالأحلام والأوهام، ولا بالنّزَواتِ العارضة، والاندفاعاتِ الجاهلة، والوسائلِ المتخلّفة القاصرة، والطّرقِ المختصرة السّهلة، والأعمالِ السّطحيّةِ الضّـيّقةِ الأفق، القصيرةِ النّظر

إنّنا نحتاج مع إيماننا العظيم، وإخلاصنا الكامل لله عزَّ وجلَّ، إلى المعرفة بإسلامنا وعالمنا وعصرنا، وإلى الوعيّ والخبرة والطّاقة والقدرة والعمل والتّضحيّة

إنّ أهدافنا كبيرة، وطريقنا صعبٌ شاقّ طويل؛ فلا بدَّ لنا من الكفاح المتواصل البصير، ومن المعاناة والألم الشّديد، ومن الصّبر الجميل الذي لا يعرف الحدود، ومن المضيّ على طريقنا العتيد بكلّ ثقة وإصرار، ومن توطين النّفس على دفع ثمن ذلك -مهما غلا الثّمن- لنستأهل نصرَ الله عزَّ وجلَّ، ونهيّئ أسبابَه لأنفسنا ولأجيالنا المقبلة، ولنلقى الله -عندما نلقاه- وهو عنّا راض والطّلائعُ الإسلاميّةُ في جوهرها نوعيّةٌ لا كمّـيّة؛ فهي تنطلقُ أساساً من الكَيْف، ولا يمكن أن تنطلق من الكمّ بصرف النّظر عن المواصفات، وإلاّ فقدت ذاتَها، ومغزاها التّاريخيَّ التّغييريّ، ومبرّرَ وجودها، وقدرتَها على تحقيق أهدافها الكبرى

إنّ قيمةَ الطّلائع الإسلاميّة -حيثما وجدت هذه الطّلائع- وسرَّ قوّتها وإمكاناتها التّغييريّة المستقبليّة، إنّما هو في خلوصها ونقائها واستقامتها ووعيها، وصدقها في تحرّي الواجب، والنّهوض به على أفضل وجه تستطيع، مستعليةً في ذلك كلّه على حظوظ النّفس، وعلى المخاوف والشّدائد والمغريات، وعلى الدّنيا كلّ الدّنيا

ومن خلال الزّمن والجهاد.. من خلال الإخلاص والعمل والتّضحيات.. سيأتي -إن شاء الله- ذلك اليومُ المرتقب الذي يتمّ فيه اللقاء الحقيقيّ والْعُضْويّ الأصيل في حياة المسلمين بينَ الكَمِّ والكَيْف، بينَ المسلمين و الإسلام كما أنزله الله على كلّ صعيد.. وثَمَّ نصرُ الله

بيننا وبين القرّاء

س: هل عندكم جوابُ كلِّ سؤال، وحلُّ كلِّ مُشْكلة أو مُعْضلة يطرحُها واقعُ العربِ والمسلمين، وواقعُ العالم والعصر؟

ج: ومن يدَّعي ذلك لنفسه إلاّ جاهلٌ أو مخادع أو مجنون؟

عندنا جوابُ بعضِ الأسئلة الجوهريّة، وحلُّ بعض المشكلات الأساسيّة، وهذا ما نجيب به، ونقدّمه فيما نتحدّث أو نكتب، وما لا نملك جوابه وحلّه الآن، لا نتجاهلُه، ولا نُهَوِّنُ من شأنه، ولا نهرب من مواجهته، وإنّما نحاول أن نصل إلى جوابه وحلّه العلميِّ البصير المسؤول الذي نطمئنّ إليه، بمتابعة الدّراسة والجهد والتّفكير، ومحاورةِ أربابِ الغَيْرَةِ والخِبْرَة والاختصاص؛ ولا نقدِّمُ أبداً جواباً أو حلاً أو خادعاً، مهما كانت الظّروف والأحوال، فالجوابُ الجاهلُ أو الخادعُ أكبرُ الكبائر عند الله، وخيانةٌ لله وللرّسول وللمؤمنين، وضياعٌ وهلاك لأصحابه ولمن يقبله من النّاس

وهكذا نجدُنا دائماً على الطّريق المنهجيِّ الواضح القويم، تُسْلمنا فيه خُطْوةٌ باتّجاه الغاية والأهداف، فلا نَخْبِطُ خبطَ العَشْواء، ولا نتناقض من بلدٍ إلى بلد، ومن موقفٍ إلى موقف، ومن وقتٍ إلى وقت، ولا نضطرُ إلى نَقْضِ غَزْلِنا أنْكاثاً الحينَ بعدَ الحين، وإنّما تتكاملُ معرفتُنا وخبرتُنا وجهودُنا وإنجازاتنا على الصعيد النّظريِّ والعمليّ تكاملاً منهجيّاً شاملاً واعياً، وتنمو نموّاً حقيقيّاً حيّاً دائماً؛ يُنَقِّحُها ويُصَحِّحُها نقدٌ ذاتيّ مستمرّ، ويُطَوّرُها ويُحَسّنُها إرادةُ التّجاوز، وطلبُ الأفضلِ والأكمل، في كلِّ قضيّةٍ، وفي كلِّ لحظةٍ من لحظاتِ الحياة

إنّ الزمنَ في جَرَيانه المتواصل ينقلُنا في كلّ يوم جديد إلى مستوىً جديد، وإلى مرحلةٍ جديدةٍ متقدّمة على طريقنا العتيد، ويزوِّدُنا بإمكاناتٍ أكبر، ووسائلَ أعون، ويقرّبُنا إلى الغاية والأهداف، وإلى ما ننشدُه من مرضاة الله عزَّ وجلَّ

ولا يزالُ الواقعُ المتحرّك على كلِّ صعيد، والأحداثُ والتطوّرات المتجدّدةُ المتعدّدةُ المتوالية، على المستوى العربيّ والإسلاميّ والإنسانيّ، وعلى مستوى العالم والعصر، تطرحُ المشكلةَ بعد المشكلة، والمعضلة بعد المعضلة، فلا بدّ من متابعةٍ يَقِظَةٍ خبيرةٍ دائبةٍ لا تنقطع، ودراسةٍ علميّة منهجيّة جادّة لا تَكِلّ، واستيعابٍ شامل عميق دقيق لا يتوقّف، وتفكير حيٍّ أصيل أمين لا يَفْتُرُ ولا يشيخ، ومن مراقبةٍ صادقة لله عزَّ وجلَّ في القول والعمل، والسّرِّ والعَلَن، لا تُغْمِضُ ولا تُغضي ولا تُبَرِّرُ ولا تضعفُ ولا تروغ ولا بدَّ قبل ذلك، وبعد ذلك، من هداية الله، وعنايته، وتوفيقه، في سائر الأوقات والأحوال والأمور اللّهمَّ اهدنا الصّراط المستقيم، ولا تكلْنا إلى أنفسنا طَرْفَةَ عيْن ولا أدنى من ذلك، ووفّقنا إلى مرضاتك، وإلى ما أوجبتَه من خدمة الإسلام والمسلمين، وخدمة الإنسان

يا شباب الإسلام

إنّ عليكم أن تخوضوا معركتَيْن، وأن تُحرزوا نصْرينِ حاسِمَيْن:

معركةٌ في أنفسِكم

تنتصرون فيها على الضعفِ وعلى الخوفِ وعلى المغريات

ومعركةٌ في مجتمعكم

تنتصرون فيها على الإلحادِ وعلى الفسادِ وعلى الاستعباد

إنّ الإسلام يريدُ في هذه الأيّامِ أنصاراً.. أنصاراً يندفعون بروح الشهداء لا بروح التجّار

ويطلبُ في هذه الأيّامِ أعواناً.. أعواناً يسيرون سَيْرَ الْمُبْصِرين ولا يَخْبِطون خَبْطَ الْعَشْواء

ولن تكونوا الأنصارَ ولا الأعوان، إلاّ إذا كنتم كما يريدُ الإسلام إيماناً وإخلاصاً، وكما يريدُ علماً ووعياً، وكما يريدُ عملاً وتضحية

فيا شباب

آمنوا بربّكم، وأخلِصوا له أنفسَكم، وتبيّنوا أهدافَكم وسُبُلَكم، وتغلغلوا في مجتمعكم، لتكونوا:

قلبَ هذه الأمّةِ بكم تَشْعُر

وعقلَ هذه الأمّةِ بكم تُفَكِّر

ولسانَ هذه الأمّةِ بكم تَنْطِق

ويدَ هذه الأمّةِ بكم تهدِمُ وبكم تَبْني، وبكم تَمْنَعُ وبكم تُعْطي، وبكم تَدْفَعُ عن نفسها الأخطار

كونوا أنتم هذه الأمّة، لتكونَ كما قال الله عزَّ وجلَّ: ... خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ... [آل عمران: 109]


ولا تيأسوا أبداً أبداً

إنّ وعدَ اللهِ حقّ

إنّ وعدَ اللهِ حقٌ يا شباب

فانظروا من وراءِ الظلامِ إلى الفَجْر

ومن وراءِ الهزيمةِ إلى النّصْر

ومن وراء حُجُبِ المستقبل، إلى اليوم المنشود، الذي نكونُ فيه على رأسِ القافلة، نقودُها إلى الحريّة، ونقودُها إلى الكرامة، ونقودُها إلى العدالة، ونقودُها إلى التقدّم، ونقودُها إلى النصر.. إذ نقودُها إلى الله عزَّ وجلَّ


إنّ عدوَّنا كثيرٌ كثير.. ولكنَّ اللّهَ معنا

وقد عاهدناه عزَّ وجلَّ وتعاهدنا أنّنا:

سنتجاوزُ العقبات

ونتحدَّى الضربات

ونقتحمُ العاصفات

إلى الأمل المرتقَبِ المنشود: أمّةٌ مسلمةٌ لها الصدرُ من هذا الوجود.. وما ذلك على الله بعزيز.


أيّها الإخوة المؤمنون

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يتقبّل طاعتكم، وأن تكون حياتكم مع القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، الذي أُنْزِل فيه القرآن، وكانت فيه غزوة بدر فيصلاً بين عهدين: عهدِ الذلِّ وعهدِ العزِّة، عهدِ الضعفِ وعهد القوّة:

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ... [آل عمران: 123]

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26]

..وأن يكون صيامُكم وقيامُكم في ليلةِ القدْر، وسائرِ الشهر، قد زادَكم إيماناً إلى إيمانكم، وصِلَةً بربّكم جلَّ وعلا، وارتفاعاً على هذه الدنيا ومغرياتها ومخاوفها.. وتوجّهاً إلى الله عزَّ وجلَّ، وطلباً لمرضاته، وتصميماً على الحياة له، والموت في سبيله، والجهاد المتواصل لإعلاء كلمته، وإقامة حكمه، وإنقاذ البلاد والعباد بدينه، والوصول بهم إلى سعادة الدنيا والآخرة..

إن مهمّتكم -أيّها الإخوة- في هذه المرحلة التاريخيّة الحاسمة، التي يقف فيها الإسلام والمسلمون على مفارق الطرق، وتقف الأمّة والبلاد على شفير الهلاك، موقفَ الهزيمةِ والهوان.. إن مهمّتكم في هذه المرحلة أعظمُ المهمّات، ومسؤوليَّتَكم أكبرُ المسؤوليات، وليس سواكم من يمكن أن يكون فجر الأمل، ومعقد الرجاء، ونقطة التحوّل، وقاعدة الجهاد، وطليعة الركب..

ولقد كنّا نتوقّع ما صارت إليه أحوالُنا، ونُكبت به أمّتُنا وبلادُنا في مختلف المجالات.. وكنّا نرى مقدّماتِه البعيدةَ والقريبة، وأسبابَه الخارجيّةَ والداخليّة.. وكنّا نُحَذِّر ونُنْذِر، ونُبَصِّر بما رآه النّاس الآن عياناً من هذا المصير الرهيب.. وكافحْنا ما وَسِعَنا الكفاح، وصبرْنا على ما أصابنا أجملَ الصبر.. ولكن يبدو أنّه لم يكن بدٌّ من هذه التجارب المرّة، والكوارث الرهيبة، حتى تصحو العقول، وتنفتح القلوب، وتصغي المسامع لصوت الحق، ويتوفّر الاستعداد للرجوع إلى الله، وسلوك الطريق القويم.

لقد تَنَكَّبَتْ أمّتُنا الإسلام زمناً طويلاً، ودفعتها القوى الرهيبةُ الظاهرةُ والخفيّةُ للاستعمار و الصهيونيّة والتبشير بعيداً عن الإسلام ونظامه الخالد، الذي كان هو وحده الجدير بأن يحرّرها من كلّ سلطانٍ أجنبيّ: ماديّ أو معنويّ، ويسلك بها سبيل العدالة والكرامة والقوّة الصامدة التي لا تُغلب..

ولقد جرّبت أمّتُنا راضيةً أو كارهةً ما أرادوا لها أن تجرّب من رأسماليّة، واشتراكيّة، وتبعيّةٍ للغرب أو للشرق، وقشور حضاريّة غريبة، فما حصدت إلاّ الشوكَ والخرابَ والهوان، وما يتهدّد وجودَها كلَّه الآن.. ولم يبق لها من ملجأ ولا سبيل إلى النجاة.. إلاّ الإسلام..

إنّ الإسلام وحده هو الذي يعطيها الحريّةَ ومعها العدالة، والعقيدةَ ومعها التقدّم، والقوّةَ التي تحرّرُ بها أرضها، وتقهرُ بها عدوّها، وتكونُ في خدمة الحقّ حيثما كان، والأصالةَ والرسالةَ التي يحتاجها العالم كلّه الآن.. وأنتم أيّها الإخوة المؤمنون، أنتم رجالُ الإسلامِ العظيم وحملته وجنده، والمسؤوليةُ هي مسؤوليّتُكم بالدرجة الأولى، أمام الله عزَّ وجلَّ، ثمّ أمام الأمّة والتاريخ

وثقوا أيّها الإخوة -مهما كانت المصاعب والعقبات، ومهما كانت قوّة العدوّ الظاهر والمقنّع- أنّنا سنحوّل الجزر إلى مدّ، والهزيمة إلى نصر، بإيماننا العظيم بالله وباليوم الآخر، وبثقتنا بالله وصدق اعتمادنا عليه، وبوعينا العميق لديننا، وواقع أمّتنا وعالمنا، واستبانتنا الواضحة لأهدافنا ووسائلنا، وتصميمنا القاطع على الجهاد الدائب، والتضحية المستمّرة، حتى تُكتب لنا الشهادة أو النصر..

ولا بدّ أن ينتصر الحقّ.. هذه عقيدتنا التي لا نكون إن جحدناها مسلمين

لا بدّ أن ينتصر الحقّ، مهما طالت جولة الباطل، وأوْهَمَتْ بخلاف ذلك الظواهر، ولا بدّ أن ينتصر جندُ الله المؤمنون، عندما ينصرون الله، ويأخذون بما أوجب الأخذَ به من الأسباب

إنّ الله عزَّ وجلَّ يقول في كتابه العزيز:

...وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشورى: 24]

...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]

...وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ● الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 40-41]

هذا وعد الله لكم يا مؤمنون ...وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ... [الحج: 47]

وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم: 6]

والسلامُ عليكُمْ ورحمةُ الله.

لا تيأسوا أيّها المسلمون

لا تيأسوا أيّها المسلمون

لا تيأسوا من أنفسكم

لا تيأسوا من مستقبلكم

لا تيأسوا من ربّكم

لا تيأسوا، فإنّ اليأس هو الموت، وهذا ما يريده لكم أعداؤكم: هذا ما تريده إسرائيل، وما يريده الشّرق والغرب، ومَنْ يعيشون بينكم من عبيد الشّرق والغرب واعينَ أو غيرَ واعين ما يقترفون


لا تيأسوا أيّها المسلمون

لا تيأسوا رغم هزائمكم في كلّ مكان، وتخلّفكم في كلّ ميدان، وانقسامكم على كلّ صعيد، وانشغالكم بالتّوافه والصّغائر عن عظائم الأمور

لا تيأسوا فإنّ بإمكانكم أن تتجاوزوا كلّ هذه السّلبيّات بمعرفتها ومعرفة أسبابها، وبالألم الصّادق منها، والرّفض الكامل لها، والتّصميم القاطع على تجاوزها مهما كلّف ذلك من جهد وصبر وتضحيات


لا تيأسوا أيّها المسلمون

لا تيأسوا، فلعلّ النّكبات التي نزلت بكم، والتّجارب التي روّعتكم ولوّعتكم، والنّيران التي أحرقتكم وصهرتكم، قد كشفت عن أعينكم الحجب، ونفت عن نفوسكم الخَبَث، وميّزت لكم بين الحقّ والباطل، والصّحيح والزّائف، والصّدق والكذب، وبيّنت لكم بما لا يدع مجالاً لشكّ أو لَبْس أنّه لا مُعْتَمَدَ لكم إلاّ الله، ولا طريقَ لكم إلاّ الإسلام، وأنَّ ما انخدع به كثيرٌ منكم من الشّعارات والدّعوات، ومن صداقة الشّرق والغرب لم يكن في حقيقته إلاّ ... كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا... [النور: 39] وهذا كلُّه يُعِدُّكم من خلال الآلام العميقة، والتّجارب المريرة والرّؤية الدّاخليّة والخارجيّة الواضحة، لانطلاقةٍ جديدةٍ واعيةٍ مصمّمةٍ على طريق الإسلام العظيم؛ طريق المستقبل العظيم لكم ولكلّ البشر


لا تيأسوا أيّها المسلمون

لا تيأسوا، فالإسلام -إن رجعتم إلى الإسلام- يضع في أيديكم مفاتيح التّغيير الضّروريّ المنشود اقرؤوا قولَ الله عزَّ وجلَّ:

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] وقول الله عزَّ وجلَّ:

... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ... [الرعد: 11]

ففي هاتين الآيتين الكريمتين سرُّ دائكم ودوائِكم، وتخلّفِكم وتقدّمِكم، وضعفكم وقوّتكم، وهزيمتكم ونصركم في كلّ زمان ومكان وميدان


لا تيأسوا أيّها المسلمون

لا تيأسوا، فالإسلام -إن صدَقْتُم الرّجعة إلى الإسلام- يمنحكم عقيدة أرسخ من الجبال، وأقوى من الطّاغوت، وأبقى من الدّنيا، ويرفعكم إلى مستوى أهدافه الكبار الكبار، ويوحّد بعقيدته وأهدافه ومنهجه قلوبَكم وصفوفَكم المفرَّقة، ويجمع عليها جهودكم وطاقاتكم المبعثرة المبدّدة،ويحفزكم ويولّد فيكم طاقات لم تكن من قبل، ويقود خطاكم وخطى البشر بكم إلى خير الدّنيا والآخرة


لا تيأسوا أيّها المسلمون

لا تيأسوا، فإنّنا نملك كلّ أسباب التّغيير، وكلّ أسباب النّهوض، وكلّ أسباب النّصر.. إن صدقنا مع الله، وصدقنا مع أنفسنا، وصدقنا العمل والجهد والجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ


إنّنا نملك الإيمان والإرادة والثّقة المطلقة بنصر الله إن نصرناه

إنّنا نملك المنهج الإلهيّ الأقوم في كلّ جانب من جوانب الحياة

إنّنا نملك الإمكانات البشريّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة الضّخمة

إنّنا نملك كلّ المؤهّلات اللازمة لتجاوز واقعنا الفاسد الوضيع، وسلبيّاتنا الكثيرة المهلكة

فتعالوا -أيّها المسلمون- نغيّر ما بأنفسنا، حتّى يغيّر الله ما بنا.. تعالوا نحدث الانقلاب الإسلاميّ المنشود في حياتنا ومجتمعاتنا، حتّى تنطوي صفحة الماضي الذّليل الحقير، وتنفتح صفحة المستقبل العزيز الجليل.. تعالوا تعالوا ولا تعودوا إلى الغفلة والضّلال، وإلى سبل الفرقة والضّياع والهلاك


ولْيَعْمُرِ الأملُ صدورَكم أيّها المسلمون

الأملُ في أمّتكم

والأملُ في أنفسكم

والأملُ في مستقبلكم

والأملُ في ربّكم وفي نصره الموعود

ولتقرنوا الأملَ بالعمل الجادّ المخلص البصير، فلا جدوى لأملٍ دون عمل

ولا تيأسوا أبداً أبداً مهما كانت الظّروف، فاليأسُ والإيمان ضدّان لا يجتمعان

... إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف: 87]

عودة الرائد

وتعود "الرائد" إلى الظّهور، رغم ما يقومُ في طريقها من عقبات، ويفرضه ظهورُها من تضحيات وتبعات تعود لتستأنف رسالتها التي حملتها، وطريقها الذي بدأته، وهي أشدُّ شعوراً ووعياً بمسؤوليّتها ودَوْرِها التّاريخيّ في حياة العرب والمسلمين، في هذه الظّروف الدّقيقة الخطيرة، والمنعطفات التي تقود إلى الهدى أو الضّلال، وإلى الكرامة أو الهوان، وإلى التّقدّم أو التّخلّف، وإلى النّصر أو الهزيمة على كلّ صعيد


العالَمُ الإسلاميّ حيثما نظرتم -أيّها الإخوة القرّاء- إلاّ من رحم الله، يأسٌ وإحباطٌ واستسلام، وتبريرٌ وتَنْظيرٌ لليأس والإحباط والاستسلام، وصَرْفٌ للمسلمين عن الأهداف الجوهريّة، والمعارك الرّئيسيّة، إلى أهداف عَرَضيّة ثانويّة، ومعاركَ وهميّةٍ أو جانبيّة، تحتلُّ مكان المعارك الحقيقيّة أو الأساسيّة.. لقد غدت أهدافُنا الكبرى، وانتصاراتُنا الكبرى، وأفراحنا الكبرى، أن نربح مباراة في كرة القدم على سبيل المثال، أو ما شابه ذلك من الأمور.. أمّا معارك الإسلام والمسلمين المتعدّدة الجوانب والجبهات، في ديار العرب والمسلمين، وفي هذا العالم والعصر، فلم نعد نفكّر فيها، أو نهتمّ بها، فضلاً عن أن نجعلها هي المحور والأساس


ظلامٌ مُطْبِق (نكاد نقول) في كلّ مكان

ظلامٌ مطبق (نكاد نقول) على كلّ صعيد

ظلامٌ من اليأس والإحباط يملأ القلوب والنّفوس والحياة

ظلامٌ من الجهل وعمى القلب والفكر يُضِلّ السّارين سواء السّبيل

والمسلمون (أكثرهم) مستسلمون للظّلام، مستسلمون لتيّار الهزيمة واليأس والإحباط، تائهون عن الأهداف والطّريق الموصل إلى الأهداف، يتخبّطون على غير هدىً، ولا علم، ولا بصيرة، في أودية الضّياع والهلاك


ظلامٌ، فأينَ هوَ النّور الهادي في هذا الظّلام؟

وضياعٌ، فأين هو الدّليل الأمين في هذا الضّياع؟

ويأسٌ وإحباطٌ واستسلام، فأين الأملُ؟ وأين الثّقة؟ وأين الإباءُ والإقدام؟ في هذا اليأس والإحباط والاستسلام

لقد أصبح أعداءُ الإسلام (يا للمهزلة)، ومستغلّو الإسلام، هم الذين يتكلّمون باسم الإسلام؛ فكيف يُسْفِرُ على ألسنتهم وأقلامهم وجهُ الإسلامِ الحقِّ كما أنزله الله

وأصبح أعداءُ الإسلام ومستغلّو الإسلام، هم الذين يمسكون بأيديهم (أكثر) أَزِمَّةِ الرَّكْب؛ فكيف يقودونه إلى الأهداف الإسلاميّة الأصيلة، وإلى الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ

وفي ركب هؤلاء وهؤلاء، المستغِلّين والأعداء، ينساقُ كثير من المسلمين المنهزمين اليائسين المستسلمين، وعبيدِ الدّنيا الظّاهرين أو المقنّعين، والانتهازيّين -وما أكثر الانتهازيّين في حياة الأمم والشّعوب في مثل هذه الظّروف-

وفي أيدي هؤلاء وهؤلاء (المستغِلّين والأعداء)، القوّةُ والسّلطان، وجحيمُ الدّنيا وجنّتُها عند من يريدون الحياة الدّنيا، ولا يَمْدّون أبصارهم وآمالهم مِنْ وراء الدّنيا إلى الآخرة، ومن وراء الحاضر إلى المستقبل

وفي أيديهم، مع القوّةِ والسّلطانِ، والتّرهيبِ والتّرغيبِ، كثيرٌ ممّا يضعه العصر في الأيدي من أسباب الاتّصالِ والتّأثير، ووسائلِ الإعلام الحديث المقروء والمسموع والمرئي، الذي يحيط بالإنسان، وبعقل الإنسان، ونفس الإنسان، وحواسّ الإنسان، من مختلف الجهات، وينفذُ إليها بمختلف الأشكال والحيل؛ ليُخَرِّب ويُضَلِّل، بروحِ الشّيطان، وعنوانِ الشّيطان، وأثوابِ الشّيطان؛ أو بروح الشّيطان، وعنوانِ الملاك، وأثوابِ النّاصحِ الصّادق التّقيّ الأمين


في هذه الظّروف الدّقيقة، وفي هذه المنعطفات التّاريخيّة الخطيرة، تعودُ "الرائد" إلى الظّهور تعودُ لتكون شُعْلةً من شُعَلِ الأملِ والثّقةِ والجهادِ في القلوب التي أطبق عليها اليأس، وعصفت بها الشّكوك، وجرفها الاستسلام

أملٌ وثِقَةٌ بالله عزَّ وجلَّ، وبوعده الصّادق لمن ينصرونه من المؤمنين العاملين

وأملٌ وثقةٌ بالنّفس، فالذين لا يثقون بأنفسهم -بعد ثقتهم بربّهم- لا يمكن أن يكونوا من أصحاب الرّسالات

وأمل وثقة في المستقبل، فذلك هو الثّمرةُ الطّبيعيّةُ للثّقة باللهِ، ثمَّ الثّقةِ بالنّفسِ، وتوطينِها على العمل والجهاد المتواصل، مهما كانت الظّروف، ومهما بلغت التّضحيات


وتعودُ "الرّائد" دليلاً من الأدلاَّءِ المبصرين الواعين المجرّبين الأمناء، الذين يخرجون بالمسلمين من الجهل والتّخبّط والأخطاء المتكرّرة والجهود المهدرة والضّياع العقيديّ والفكريّ والخلُقيّ والسّياسيّ، ويضعونهم على الطّريق العلميّ المنهجيّ الأصيل الصّحيح المؤديّ إلى الغاية والأهداف.. لا تَكْذِبهم ولا تخدعهم -وإن أغضبتهم- ولا تأخذها في الله لومة لائم


إنّنا نقولُ من أعماق قلوبنا لليأس والإحباط والاستسلام: لا

ونقولُ للجهل والتّخبُّط، وإهدارِ العلم والفكر: لا

ونقول للخنوع والتّبعيّة، والقعود عن العمل والجهاد: لا

إنّنا نهتِفُ بالمسلمين -كلِّ المسلمين- أن يتمرّدوا على واقعهم، وواقعِ أمّتهم وبلادهم، وعالمِهم وعصرهم؛ وأن يتحرّكوا من خلالِ الإيمان والإخلاص، والعلمِ والوعي والتّفكير والتّخطيط، والرّؤيةِ العلميّة المنهجيّة العميقة الواضحة للماضي والحاضر والمستقبل، والأهدافِ الموضوعيّة القريبة والبعيدة، والطّريق القاصدِ إلى هذه الأهداف؛ وأن يرفعوا إمكاناتهم باستمرار إلى مستوى القدرة الحقيقيّة على سلوكِ طريقهم، وتحقيقِ أهدافهم، والنّهوضِ بتبعاتهم الجسام؛ وأنْ يربطوا مصيرهم ربطاً نهائياً، في كلّ وقت، وفي كلّ مكان، وعلى كلّ صعيد، بالإسلام وبقضيّة الإسلام والمسلمين والإنسان، وأن يَصْدُقوا العمل والجهاد بالمال والنّفس في سبيل الله؛ فإنّ هذا هو سبيل الخير والكرامة والفوز في الدّنيا والآخرة


يجب أن نربح معركةَ الإسلام -أيّها المسلمون-

يجب أن نربح معركةّ الإسلامِ والإنسان، وأن تتكاتفَ سائرُ جهودِنا المادّية والمعنويّة في هذا السّبيل يحب أن نصمُد على الشّدائد والمكائد، والضّربات السّافرة والغادرة، من أعداء الإسلام ومستغلّي الإسلام، ومن يسير في ركب هؤلاء وهؤلاء؛ وأن نتابع المسير مهما كانت العقبات، وكانت التّضحيات؛ لِتَكُونَ للإسلام طلائعُه الحقيقيّةُ التي تتقدّم الصّفوف، وتقتحم المخاطر، وتفتح أبواب المستقبل الكريم العظيم -إنّ شاء الله-

يجب أن نقدّم في سبيل الله كلّ ما نستطيع، وأن نكون كالبينان المرصوص وكالجسد الواحد في الإعداد والجهاد، وحملِ تكاليف الإعداد والجهاد

يجب أن نصمُدَ ونصبرَ ونتقدّم وننتصر؛ ولا بدّ أن ننتصر، إذا صَدَقْنا وصمدنا وصبرنا، وأخذنا بكلّ أسباب النّصر، وكان معنا الله عزَّ وجلَّ، والله معنا عندما نكون معه بصدق وإخلاص والتزام بهداه فكونوا مع الله -كما يُحِبُّ الله- أيّها المسلمون! والله أكبر، والعاقبة للمتّقين

بإمكاننا أن ننهض

الإرادة والوسائل والعمل الجادّ

في 8/5/1985 م مرّ أربعون عاماً على انهيار ألمانيا وسقوطها واستسلامها التاريخيّ الذي انتهت به الحرب العالميّة الثانية في أوروبا

ولكنّ ألمانيا التي انهارت وسقطت واستسلمت واحتُلّت أراضيها، وحُوكم قادتها وحُكموا كمجرمي حرب، وأدينت بكلّ ضرب من ضروب الإدانة القانونيّة والأخلاقيّة.. لم تلبث أن نهضت من تحت أنقاض هزائمها العسكريّة والسّياسيّة والمعنويّة، وأنقاض قِيَمِها ونُظُمِها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتّربويّة، وأنقاض مدنها ومصانعها وبيوتها ومرافقها العامّة والخاصّة، وركامِ مصائبها ومشكلاتها التي تستعصي على الحصر.. وأصبحت في سنوات مَعدودة أهمّ دولة في أوروبا، وواحدةً من أهمّ دول العالم في الصّناعة والتّجارة والاقتصاد والتّقدّم العلميّ والاجتماعيّ، وفي دورها وأثرها الملحوظ في العالم والعصر إنّها الإرادة الإنسانيّة المصمّمة، والوسائل والأسباب المناسبة الموصلة، والعمل الجدّي البصير المستمرّ


وألمانيا تذكّرنا من هذه الناحية باليابان التي يمرّ على هزيمتها واستسلامها أيضاً أربعون عاماً في 15/8 من سنتنا هذه 1985 م

لقد نهضت اليابان أيضاً من تحت أنقاض هزائمها وكوارثها ودمارها الماديّ والمعنويّ، ومن تحت أنقاض القنبلة الذريّة في هيروشيما، والقنبلة الذريّة في ناجازاكي؛ لتصبح -رغم ضيق مساحتها، وحرمانها من الثروات الطبيعيّة الضروريّة لها ولدورها- الدولةَ الثانية في العالم بمقياس التقدّم الصناعيّ والتجاريّ والتكنولوجيّ

إنّها أيضاً الإرادة الإنسانيّة الصّارمة، والوسائل والأسباب المكافئة للحاجة والأهداف، والتكامل والتكاتف والدّأب المخلص المنقطع النظير


ونسأل أنفسنا بهذه المناسبة:

أين نحن من أهدافنا الأساسيّة الضروريّة ومن عالمنا وعصرنا؟

أين كنّا قبل أربعين سنة؟ وإلى أين وصلنا الآن؟ وماذا صنعنا في عشرات السنين الماضيات؟ وماذا كان يجب أو كان يمكن أن نصنع؟ وإلى أين كان يجب أو كان يمكن أن نصل؟

نسأل ولا نجيب في هذا المكان، فالجواب الفاجع المخزي ماثلٌ أمامنا حيثما كنّا، وحيثما نظرنا على امتداد العالم الإسلاميّ، يراه ويعرفه كلّ مسلم له عينٌ تبصر، وأذنٌ تسمع، وعقلٌ يفكّر

إنّ العالم الإسلاميّ يتفكّك على الزّمن ويتجزّأ وينهار، وتتّسع الهوّة على الدّوام بينه وبين أهدافه الموضوعيّة الجوهريّة، وبينه وبين القوى الحيّة في عالمه وعصره

إنّنا لا نمتلك -وا أسفاه- امتلاكاً حقيقيّاً إرادة التحرّر والتقدّم والحياة، ووسائل التحرّر والتقدّم والحياة؛ ولذلك فإنّنا نزداد عبوديّةً وتخلّفاً وإمعاناً في سبل الضّياع والهلاك، وليس أمامنا -إنّ استمرّت بنا هذه الحال- إلاّ العبوديّة والتخلّف والضّياع والهلاك

يجب علينا -أيّها المسلمون- أن نغيّر ما بأنفسنا حتّى يغيّر الله ما بنا

يجب أن نمتلك الإرادةَ أَمْضَى الإرادة، والوسائل أنجعَ الوسائل، وأن نخلص القصد والقول والعمل، ونجاهد الجهاد الحقّ على كلّ صعيد

إنّ بإمكاننا نحن أيضاً أن ننهض من تحت أنقاض هزائمنا ومصائبنا وتخلّفنا وعجزنا وهواننا وواقعنا الرّاهن الفاسد الحقير، كما نهضت ألمانيا واليابان وشعوب ودول أخرى في الحاضر والماضي، وكما سبق لنا أن نهضنا بإيماننا وإسلامنا، وإرادتنا وإقدامنا، وجهادنا وتضحيتنا، وأَخْذِنا بما أوجب الله علينا من الوسائل والأسباب، من سقطاتنا ونكباتنا الكبرى على توالي العصور

والله أكبر والعاقبة للمتقين