الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مذكرات ووثائق سرية لثورة يوليو»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
(أنشأ الصفحة ب''''<center><font color="blue"><font size=5>مذكرات ووثائق سرية لثورة يوليو</font></font></center>''' '''بقلم: د.مصطفى عبد الغني...')
 
ط (حمى "مذكرات ووثائق سرية لثورة يوليو" ([edit=sysop] (غير محدد) [move=sysop] (غير محدد)))
(لا فرق)

مراجعة ٠٩:١٣، ٢٣ فبراير ٢٠١٢

مذكرات ووثائق سرية لثورة يوليو


بقلم: د.مصطفى عبد الغني

الإهداء إلى الشعب العربي ذكرى لزمن عربي آت

بدلاً من المقدمة

لماذا رد الاعتبار الآن؟

سؤال يطرح أسئلة أخرى ..

وإجابة تستعيد إجابات كثيرة.

لنسأل ونحاول الإجابة ..

ـ لماذا عبد الناصر الآن؟

ـ أو لماذا نتذكره الآن أكثر (وهل نسيناه؟)؟

ـ ولماذا نستعيد الآن قضاياه ومشروعه الثوري (وهل غابت حقاً؟) ؟

أو لنكن أكثر حيدة ونسأل من جديد:

ـ هل نحاول إعادة تقييمه..؟ ولنسأل بحيدة أكثر:

ـ ما هي حقيقة بحثنا عن رد الاعتبار لعبد الناصر الآن بعد أن سهدت أجيال كثيرة تغييبه أو إغفاله؟ وينفرط عقد الأسئلة ..

ـ ما هو موقفه من رفاقه ومثقفيه؟

ـ وهل كان ـ كما يردد عن جهل أو حقد ـ وراء عمليات (التعذيب) فى السجون مع مختلفيه؟

ـ وما هى حقيقة الديموقراطية فى عصره؟

ـ ثم ما هى طبيعة الخلاف بين الثورة والقانون؟

ـ ولماذا اتجه إلى حركات التحرر العالمية ـ والعربية منها ـ سواء بالتأييد المطلق، أو التأييد العسكرى؟

ـ ولماذا كان وراء تجسيد فكرة الوحدة العربية؟

ثم يدفعنا الماضى إلى الحاضر من جديد، ونعود إلى طرح السؤال لماذا نتذكره ويدفعنا السؤال إلى إعادة طرح الأسئلة البدهية؟

ـ لماذا يطرح فكره فى زمن الاجتياح الإسرائيلى و (السور الواقى) بين المثقفين وترفع صوره عبر الشوارع العربية؟ وتردد شعاراته عبر البحث عن مواجهة القوة..؟

ـ ثم ما هو موقفه من عديد من القضايا عبر (مشروعه) الذى رحنا منذ أكثر من ربع قرن ـ عقب رحيله ـ بعثرته أو بيعه مع ما بعنا وبعثرنا أو ضيعنا..؟

أسئلة عديدة تطرح علينا الآن، ونحاول كما حاول غيرنا كثيراَ ـ محاولة الإجابة بعد نصف قرن من ثورة يوليو. أو بشكل أدق: محاولة لرد اعتبار لثورة يوليو ..

والأن الأسئلة كثيرة؛ تظل الإجابات كثيرة، فلنحاول الإجابة إذن عبر ملاحظة أو سبب واحد؛ سبب بدهى نعيشه جميعاَ الآن؛ ليس مضى نصف قرن على ثورة يوليو وحسب، وإنما الدعوة (للمقاومة) ضد صلف ومذابح الإسرائيليين الآن فى جنين وأخواتها ..

إنه رد الفعل (المقاومة) ضد العنصرية الصهيونية ـ الأمريكية اليوم فى وقت مازالت الحكومات العربية غائبة .. فى الوقت الذى كانت القوات الإسرائيلية تعصف بكل شئ فى جنين ونابلس وطولكرم .. إلى آخر المدن العربية، لم تتحرك فى بلاد العرب إلا الشعوب خلال الشارع العربى ومظاهراته التى استعلت لفترة طويلة .. حين كانت طائرات الأباتشى تصب نيرانها على العزل من أعلى والبلدوزرات والدبابات زنة 80 طناَ تهرس العزل من أسفل وتحاصر كنيسة المهد ويطلق عليها النيران .. فى هذا الوقت رأيت مسيرة ضخمة تخرج فى ميدان التحرير فى القاهرة وأمام السفارة الأمريكية تحمل اللافتات ضد التتار الصهيونى وفى الوقت نفسه تعلو بين أيديها صورة عبد الناصر، فى حين أننى رأيت فى نهاية المسيرة فتاة عربية تحمل يافطة كتب عليها عبارة مؤسية "هش.. سكون.. العرب نائمون" ..

وقتها لم أسأل نفسى: لماذا صورة عبد الناصر فى هذا الوقت وفى هذه المسيرة؟

لم أبحث عن إجابة، فقد كانت الإجابة تطوى فى القلوب، إنه ـ عبد الناصر، حتى ولو كانت الصورة تظل الرمز على المقاومة ..

الرمز على المشروع الدى تبناه عبد الناصر ورحل شهيداَ من أجله.

إنه الرمز الباقى فى هذه الفقرة العصيبة من تاريخنا ..

إنه الرمز/الواقع الذى نتأمل فيه أكثر.

إنه رد الأعتبار إذن الذى نسعى إليه الآن ..

وبادئ ذو بدء؛ لابد أن نضع فى حسباننا وتصورنا ـ ونحن نكررها دائماَ، إننا نبحث عن إعادة اعتبار لجمال عبد الناصر .. هذه هى الحقيقة الغائبة الحاضرة دائما. وهو ما نسعى إلى بعضه الآن. والعودة إلى السبب البدهى، فإن الأحداث الجارية، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلى للأرض الفلسطينية 29 مارس الماضى وعملية غزو العراق التى كانت تنقل عبر الهواء مباشرة وتشاهد عبرها الأسلحة الأنجلو أمريكية تحصد أرواح العراقيين بين شامت وساكت وشاجب..!!، أثارت فينا، أو دفعت بالشارع العربى ـ دعك من المثقف ـ الأثر الكبير الذى تركه عبد الناصر أو الزمن السحيق (هل هو سحيق حقاَ..؟) والذى مازال يدفعا الآن ـ وكأننا بعد قرون من منتصف القرن الماضى ـ لاستدعاء عبد الناصر، ربما كانت الإجابة العفوية الصادقة، ألأنه صاحب شعار القوة، نقصد شعاره الذى بعث فينا جميعاَ نبض الحياة عشية 1976 أن: “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.

بيد أن هذا يدفعنا إلى سؤال أكثر مرارة:

وهل كان الواقع حولنا وبنا يشى بغير ذلك؟

هل كان ما تفعله إسرائيل فى الحرب العالمية الأولى ـ 1984 أو الثانية 1956 ـ أو الثالثة 1976 ـ ثم الرابعة والخامسة 1973 و 1982.. وما عرفناه عبر الممارسات الدموية ضد أطفال الانتفاضة الأولى أو الثانية.. غير كاف لئلا ننسى هذا الشعار؟

لعله من الأوفق أن نقول أن الشعار ظل بيننا، لم يغب أبداَ، وإنما جعل الاجتياح الإسرائيلى والعمليات الاستشهادية والمقاومة المجيدة فى جنين قد جعلتنا نراه اكثر.

الواقع المر على الأرض هناك، وهنا، دفعنا لنرى أكثر.

أو دفعنا لنرى أكثر وكأننا كنا نياماَ ..

هل هى مصادفة أن تبدأ الأنتفاضة الثانية فى 28 سبتمبر منذ قرابة عامين (28 سبتمبر كانت تاريخ رحيل عبد الناصر) ؟

هل مصادفة ألا يعقد أى مؤتمر عربى الآن منذ الاجتياح الإسرائيلى 29 مارس دون أن يكون “الإلهام الحقيقى للزخم الذى حدث فى هذا المؤتمر ـ أو ذاك ـ تعبيراَ عما يحدث فى الشارع العربى هو ثورة يوليو وأفكارها ومبادئها وشعاراتها” بل (كما ردد البعض فى ندوة “رامتان” أخيراَ) زعيمها جمال عبد الناصر..؟

فضلاَ عما أحدثته هذه الثورة داخل المصريين من تجسيد الوعى القومى العربى وقد كان قيل ذلك وحتى توقيع بروتوكول اسكندرية 1944 لجامعة الدول العربية.

ولهذا، ولغيره، نقول: إنه سبب بدهى أن نتذكر عبد الناصر الذى غابت دولته وراء (هزيمة) 1967، نقول دولته وبقى مشروعه الثورى الحضارى المقاوم الأول حتى الآن ..

بيد أن مشروعه الفكرى المقاوم لابد أن يتحدد بشكل أكثر فى الحاضر.

إننا حين نتذكر مشروع عبد الناصر الآن لابد أن نضعه فى سياقه. وبعيداَ عن الأسئلة التى يرفضها التاريخ والتى تبدأ دائماَ بعلامة التمنى: (لو) ..

ـ لو كان عبد الناصر بيننا الآن فكيف كنا سنقاوم القوى العنصرية الغريبة فى إسرائيل؟

ـ لوكان عبد الناصر بيننا فكيف كنا سنقاوم التحالف الأمريكى البريطانى لاغتصاب العرا ونهب ثرواته.

ـ لو كان عبد الناصر بيننا كيف كان العم سام يستطيع الجلوس على عرش الشرق الأةسط فى الخليج وبلاد ما بين النهرين..!!

الإجابة بالقوة طبعاَ، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. كما ردد كثيراَ.

ونعيد طرح السؤال:

ـ وعبد الناصر ليس بيننا الآن فكيف سنقاوم..؟

الإجابة بالقطع نؤكد: بالقوة.

ـ ولا يلبث الواقع أن يضيف ويلفت النظر بعنف:

ولكن القوة تغيرت.

إن القوة الآن تحددت أكثر فى السياسات التكنولوجية والفجوة الرقمية الهائلة التى أصبحت بيننا، ولم نصبح نحن بينها.

أصبح العالم الغربى يتقدم عنا كثيراَ فى هذه القوة ليست القوة فى حد ذاتها، وإنما القوة بمجموعها حين يكتمل مشروع جمال عبد الناصر فنرى القوة ضرورة تلاشى الفجوة الرقمية القائمة بين الأقطار العربية، والبحث عن طريقة مثلى سريعة لامتلاك هذه القوة.

لتضييق هذه الفجوة المهنية خلال فترة زمنية ضئيلة جداَ لحجم المخاطرة الضخمة التى تواجهنا. لا تواجهنا نحن فقط فى الأرض المحتلة.

عبر أهلنا واطفالنا الذين يقتلون أو يسجنون يومياَ.

وإنما، عبر أقطارنا العربية التى تواجه ـ أمام القوة فى القطاعات الغربية والعنصرية ـ تكنولوجيا رقمية متقدمة عنا كثيراَ..

وبدهى أن القوة هنا تمضى على ثلاث مستويات.

الصناعة التكنولوجية.

الصناعة التكنولوجية العربية عبر (استراتيجية) جديدة.

وعلى هذا النحو، يكون علينا أن نعيد ما سبق أن رددناه كثيراَ من أن غياب القوة الآن يعنى غياب مشروع عبد الناصر.

وغياب عبد الناصر يعنى غياب التنسيق الواجب بين الدول العربية فى الصناعة التكنولوجيا، ومن ثم التقصير فى التأهب السريع فى مجال تطور التقنية، خاصة أنها تؤثر الآن ليس فى مجال حياة المواطنين فحسب، أو فى مجال سيطرة العولمة الاقتصادية والثقافية، وإنما ـ فى هذا السياق ـ فى مجال (القوة) ـ بما فيها العسكرية ـ لمواجهة القوة المضادة.

إن غياب عبد الناصر، يعنى، تماهى الشعوب العربية فى غياهب العولمة الأمريكية بعد (عسكرة العولمة) وتحولنا من مقاومين للأمركة إلى تابعين لبوش الثانى ..إن واضعى السياسات فى عالمنا العربى اليوم يجب أن ينتبهوا أولاَ إلى أن القوة هى السبيل الوحيد لاسترداد الحق.

وأن القوة تغيرت نوعيتها بعد نصف قرن على ثورة يوليو.

وأن القوة يجب أن تمضى فى تفعيل الدور العربى وليعبر كل قطر فى الوسائل التجارية أو القياسات العالمية أو شركات الإنترنت .. إلى غير ذلك، وإنما بالإضافة إلى ذلك كله القوة التى تتمثل فى النهوض بقطاع التكنولوجيا الرقمية ليمكن مواجهة القوة الأخرى المضادة.

وفى غيبة القوة لن نستطيع أن نسترد ما أخذ بالقوة.

وبغير القوة لن نستطيع ان نتمثل الأية الكريمة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة و ..} إلى آخر ما تحثنا الأديان السماوية.

لكن يعود إلينا السؤال من جديد:

لماذا رد الاعتبار الآن؟

يعود السؤال وتطل علينا إجابة آحرى..

إنها الشهادة الغائبة بعد ثورة يوليو بنصف قرن..

وبعد رحيل عبد الناصر بأكثر من ثلث قرن.

لماذا نتذكر هذا كله الآن..؟

لنقترب من إجابة آخرى من جديد.

"ـ.. كان كل ما كان يضايقنى .. أن القدر قد أتاح لأناس كثيرين أن تتكلم ووالدى لم يتح له الكلام .. و .. (و) .."

كان هذا ما جاء على لسان هدى عبد الناصر بالحرف الواحد فى حوار معها على الشاشة الزرقاء قبل فتة ليت بالقريبة، ورددته بعض الصحف فى صيف 2002.

وكان هذا أكثر ما كان يؤرقنى كتلميذ فى مدرسة التاريخ، رددته كثيراَ بين نفسى، وكتبته أكثر من مرة، وقلته فى أوقات كثيرة لعل آخرها الندوة التى أقيمت بالأهرام منذ أكثر من عام حول (الوثائق) ونشرها "الأهرام الدولى".

كان سؤال هذه الندوة ـ وكانت د. هدى بيننا ـ أين وثائق الثورة؟

وعدت أردد بشكل أكثر دقة فى هذا المقام:

ـ أين شهادة الرئيس عبد الناصر؟ أين شهادة أهم من عاصر ثورة يوليو ـ على الإطلاق..؟

إن الجميع قالوا أفكارهم وشهاداتهم عن ثورة يوليو ـ الأعداء والأصدقاء ـ كتاب المذكرات وكتاب الذكريات ـ المؤرخون والهواة والمتربحين وحتى الفنانات ـ وغيرهم كثيرين.

(أضفت بأسى) إلا واحداَ هو جمال عبد الناصر بنفسه.

إن حياة عبد الناصر ـ التى هى أحداث مصر: واقعها ومصائرها طيلة الخمسينات والستينات غائبة إلى حد بعيد.

ومشروع عبد الناصر الذى رحل من أجله غائب ويغيب يالتقادم.

رغم الكثير مما قيل فيه وعنه ..

حاضر إلى حد بعيد .. رغم القليل مما يقال فيه وعنه.

وإذا كنا قد استمعنا إلى الكثيرين.

وإذا كان الأرشيف البريطانى قد فتح أمامنا.

وإذا كان الأرشيف الأمريكى تعرفنا عليه.

وإذا كان الأرشيف الروسى أفرج عن الكثير (وبريما كوف ضمن بعضها الآن فى آخر كتاب له).

وإذا كان القاضى والدانى تحدث كثيراَ عن الأحداث والمواقف والشخصيات.. إلى آخر ما يصنع حركة التاريخ ويحكم عليها .. إذن، أين هى شهادة جمال عبد الناصر..؟

ثم كانت فرصة (حلقة نقاشية) أخيراَ أقامتها د. هدى عبد الناصر وحضرها عدد كبير من القوميين والناصريين والشهود من عصر عبد الناصر ـ فى أغلبهم ـ ووجدتنى، أنتظر الجميع حتى يدلون بشهاداتهم ثم أسأل السؤال الذى حيرنى طويلاَ بعد أن رحل عبد الناصر فجأة فى سبتمبر 1970، سألت، وأنا أوجه السؤال إلى إبنة الزعيم:

ـ سمعنا شهادات كثيرة جداَ، ولم نعرف شهادة أهم شخصية فى ثورة يوليو؛ جمال عبد الناصر ..

لقد قرأت كثيراَ وعرفت ـ وكنت أحد شهود هذه الفترة ـ أن عبد الناصر كان صريحاَ إلى أبعد الحدود، وأنه كان ـ فى الوقت نفسه ـ واعياَ للمرحلة التى يعيشها إلى أبعد حدود، ومن هنا، فإنه ما كاد ينهى لقاءه مع شخصية سياسية كبيرة أو دبلوماسى كبير إلا وكان أول ما يفعله أن يمضى؛ يجلس مباشرة إلى مكتبه ويكتب ـ بعد اللقاء مباشرة ـ كل ما دار، بالحرف والنص.

كان واعياَ للتاريخ.

وواعياَ لدوره الحيوى فى التاريخ.

فأين ـ عدت إلى سؤالى قبل أن أتحول إلى غيره ـ .. فأين هذه الشهادة؟

شهادة عبد الناصر؟

تحدثت ابنة عبد الناصر وبمرارة شديدة قالت بالحرف:

"شهادة عبد الناصر، إنها فى محاضر الجلسات التى كان يحضرها فى مجلس الوزراء وفى الاتحاد الاشتراكى وفى المباحث .. إلخ". من هنا ـ أضافت ـ كان اهتمامى بنشر محاضر اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى وقد حصلت عليها بالمصادفة.

وسوف تنشر ناقصة جلستين بعد أن يأست من تعاون البعض معى (!!)

أما عن محاضر الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكى التى نشرها البعض، والذى يقول فيها أنه أستطاع الحصول عليها حين أعطاها له فى يده أنور السادات وقال له أنشرها .. هنا؛ أنا لا أعرف؛ هل مانشر هو النصوص الحقيقية بغض النظر عن تعليقاته الخاصة؟ هل فى النصوص الحقيقية؟ هل حذف منها شئ ـ مثلاَ ـ الإجابة: لا أعرف؟ لماذا؟ سألت أجابت ـ لأننى ببساطة لا أستطيع الوصول إلى النسخة الأصلية لها بدار الوثائق المصرية ولا بأى مكان آخر .

أمر آخر يحيرنى كثيراَ .. أضافت فى حيرة شديدة ومع ذلك أين محاضر مجلس الوزراء التى كان يرأسها جمال عبد الناصر وقت الأزمات؟ وأيضاَ أين محاضر اللجنة التنفيذية العليا؟

أين هذه الجلسات؟ إن هناك محاضر وجلسات عثرت عليها بالمصادفة .. وجدته عنده فى مكتبه ـ أى فى مكتب الرئيس ـ لكن يظل السؤال قائماَ، مادمنا لم نعثر إلا على بعض المحاضر ، ، أين باقى محاضر مجلس الوزراء التى كان يحضرها؟ فالمعروف أن عبد الناصر كان يحضر اجتماعات مجلس الوزراء خاصة فى فترات الأزمات ـ مثلاَ ـ باللجنة التنفيذية العليا .

ومع ذلك، نعود لنسأل:

ـ أين محاضر مجلس الوزراء التى كان يرأسها جمال عبد الناصر وقت الأزمات؟ وأيضاَ أين محاضر اللجنة التنقيذية العليا؟

كان جمال عبد الناصر يسجل جميع المباحثات، وكلها كانت محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات .

عبد الناصر "عمره ماعمل مباحثات تحت الشجرة" كل شئ مسجل وموجود، وأنا أجزم بذلك. وقد عملت فى سكرتارية الرئيس للمعلومات الفترة من سنة 1967 إلى 1970 .. وبالتالى فأنا على دراية بما كان موجوداَ.

إذن، كان جمال عبد الناصر موجوداَ فى كل الأجتماعات التى كان يحضرها على جميع مستويات الدولة.

وجمال عبد الناصر يؤكد مشرعه ويسجله فى كل الاجتماعات التى يحضرها على جميع المستويات.

لماذا؟

ـ لأن ياسته كانت واحدة فى العلن والسر، لم يكن هناك أى شئ مخفى أو شبه علنى، لا، كانت هناك فقط أشياء لا تعلن لدواعى الأمن، لكنها موجودة ومكتوبة ومدونة فى هذه المحاضر .. كل شئ كان موجوداَ وموثوقاَ ولهذا أريد أن أصل إلى هذه المحاضر بأية طريقة.

تنتهى شجون ابنة عبد الناصر ولا ينتهى البحث عن شهادته.

ولا تنتهى هذه المحاولة منا هنا، والآن، لمحاولة رد الاعتبار لعبد الناصر بعد نصف قرن من يام ثورة يوليو وأكثر من ثلث قرن على رحيله.

المحاولة رغم غياب الوثائق، وغياب الحافز الفردى فى وقت يتعرض فيه عبد الناصر أهم رموز ثورة يوليو لنزاع الخلط والخطأ والؤامرة أما الخلط، فهو لغياب المصادر والوثائق.

والخطأ لغياب الحيدة والوعى.

والؤامرة، لأن العنصرية الغريبة / الإسرائيلية تبذل كل جهد لغياب الوجه الوطنى العربى المقاوم لجمال عبد الناصر.

وإنما ماذا نفعل ـ فى ضوء التاريخ ـ لنعرف ماذا سيحدث فى المستقبل؟

أصبح الماضى ـ فيما نرى ـ هو الدافع الكبير لتحريك الفكر (المضارع) وإدراك (الوعى) الحاضر من أجل امتلاك الإدارة (بالمستقبل).

ولأن عبد الناصر جزء من خيوط الماضى؛ فإنه ـ فى ضوء المضارع ـ يظل نسيجاَ حياَ من مصادر الوعى بالحاضر، ومن ثم، الوعى (بمشروعه) هو الوعى باكتمال النيج فى امتداد المستقبل.

عبد الناصر مازال بيننا:

ورغم أن هذه المحاولة ليست الأولى (أنظر إلى كتابنا: المثقفون وعبد الناصر، الطبعة الثانية، دار غريب 2000) .. فإننا حاولنا هنا أن نستعيد الوعى بعبد الناصر عبر عدد من القضايا الحية، وأذكر أن كل فصوله كانت ـ فى الأصل ـ أبحاثاَ ومجالاَ لمطارحات بين كاتب هذه السطور وبين عدد كبير من الجماهير العربية ـ ليس المثقفين فقط ـ فقط طرحت أغلب هذه الأبحاث بين باريس ومدريد، كما بعضها الآخر بين تونس والأردن والقاهرة .. إلخ.

وفى جميع الحالات استفدت عن عبد الناصر العربى (ولي المصرى فقط) .. وأقول العربى، لأن عبد الناصر كان واعياَ للعبد العربى وعياَ حاداَ رغم الهزائم التى شارك فيها العدو والصديق وأعترف أننى استفدت كثيراَ بهذه المطارحات والحوارات سواء مع (شهود) عصر عبد الناصر قبل ربع قرن، أو الجماهير العربية خارج مصر وداخلها.

كما يجب أن أعترف أننى وإن اجتهدت طويلاَ للحصول على الوثيقة لتأكيد دور ثورة يوليو، فقط نجحت كثيراَ فى الحصول على كثير من الشهادات ـ المصادر الحية ـ ومن شتى التيارات، وهى شهادات ـ كما نرى ـ غاب بعضها، ومازال البعض الآن بيننا وقد أرجأنا بنشر الشهادات، على أهميتها، للجزء التالى .. استكمل فيه عملية رد الاعتبار فى ضوء الشهادات الحية.

أما عن المنهج الذى اتفدت به ـ فضلاَ عن السطور السابقة ـ فقد كان المنهج التاريخى والموضوعى خاصة، والوثائ بوجه أخص؛ ثم هذه المصادر الحية عبر (محاضر نقاش) موثقة ومسجلة.

خاصة أننى أحاول أن أستعيد "مشروع" عبد الناصر/ ثورة يوليو فى عصر العولمة .. أى بعد نصف قرن من رحيله، ومن ثم، تحررت من حجاب المعاصرة وإن لم أستطيع أن أتخلص منه تماماَ.

حاولت ذلك عبر عديد من القضايا المعلقة: أهل الثقة وأهل الخبرة؟؟ ، قضية الديمقراطية، والتعذيب، العلاقة بين القانون والثورة، حقيقة تأميم القناة؛ قناة السويس .. إلى غير هذا من أصداء غامضة رغم مضى نصف قرن على ثورة يوليو.

وفى جميع الحالات فإننى أقول ـ كما قلت ـ منذ قرابة ربع قرن ـ أننى سعيت كثيراَ إلى الحيدة فى الكتابة عن ثورة يوليو خاصة وعن عبد الناصر على وجه أخص، غير أنه "مع يقينى أن الحيدة محض وهم فى العلوم الإنسانية، فإننى أزعم أننى جهدت أن أكون محايداَ بالدرجة الأولى" كما أقول دائماَ.

ولكننى مازلت أسأل نفسى ـ كما فعلت من قبل ـ هل امتلكت ـ بالفعل ـ ادعاء بالحيدة المطلقة؟ أسأل ومازلت أجيب أننى أزعم أننى أحرص على الحيدة، ولكن، أية حيدة عصر الغرب الأمريكى الامبريالى الشرس الآن الذى يحاول أن يطوى دافعاَ تاريخياَ قوياَ بالقضاء على القاومة العربية سواء فى نابلس أو البحرين أو القاهرة أو الدار البيضاء.

الذى يريد الآن القضاء على مشروع ثورة 1952 ورمزها الحى فى ضمائرنا لا أريد أن أستطرد أكثر فى مؤامرة الغرب و "عسكرة العالم" عقب 11 سبتمبر، وإنما أرد أو سعيت لرد اعتبار عبد الناصر الذى وجدناه لدى أبنائنا فى الشوارع العربية، وفى بعض الفضائيات غير المدجنة .. وفى بعض وسائل الإعلام التى تركت (صورة) عبد الناصر، وربما ترديد (مشروعه) كتنفيس للجماهير العربية التى افتقدت فى عصر المهانة شعار رفع "الرأس" الذى دعا إليه عبد الناصر منذ نصف قرن أو ينيف.

بقى أن نوجه الشكر الخالص إلى د. هدى عبد الناصر، التى أبدت الرغبات فى مراحعة النص، وأفادتنا ببعض الملاحظات المهمة وامدتنا ببعض الوثائق الغائبة فى هذا الصدد.

وبعد، هذه المحاولة لإعادة اعتبار لثورة يوليو ومشروع "عبد الناصر" الذى مازال صالحاَ لاشتعادته عبر شروط الحاضر لتجسيد (الفعل) الذى يجب أن ينتقل بنا إلى المستقبل..

وآخر دعوانا أن الحمد لله،،

مصطفى عبد الغنى

القاهرة 2004

القسم الأول: دراسة

الفصل الأول: عبد الناصر وقضية الولاء

فى البدء كان الولاء.

فى البدء كان التباين والخلاف بين عبد الناصر والمثقفين، أو بدا أنه التباين بين الطرفين، الأول بحكم ما يمتلكه من سلطة ثورية والآخر بما يعرفه من سلطة ثقافية، ومن هنا، ارتبطت العلاقة بين الطرفين بطلب الولاء.

كانت واو العطف هنا فى علاقة الثورة (و) المثقف علاقة بدهية، المثقف هنا اسم معطوف على عبد الناصر، ومن ثم، فإن كايهما شئ واحد، فتصبح أطراف المعادلة متساوية.

فعبد الناصر كان رمزاَ (للسلطة الثورة) أى صاحب القوة، الذى يتعرض لمعارضة قوة كثيرة فى الداخل والخارج، ويسعى لمواجهتها بجبهة واحدة.

والآخر ـ المثقف ـ كان رمزاَ ( لسلطة ثقافية) أى صاحب كلمة وإن تكن مجردة من أسباب القوة العملية فإنها تسعى لتأكيد سلطة الكلمة وأهميتها دون التنبه لخطورة الغرب ضدنا حينئذ.

ولما كان صاحب القوة أكثر فعالية.

ولما كان صاحب الثقافة أقل فعالية.

فإن العلاقة بين متساويين لم تكن متساوية لم تكن لتشير إلى متعادلين، فقط، اللهم إلا فى الحجج التى يسوقها الاخر، وهى أيضاَ، تخضع كغيرها ـ لقانون القوة؛ ومن ثم نشأ الصراع.

كان الصراع هو عنوان العلاقة بين سلتطين.

وكان حسم هذا الصراع مرهوناَ بقناعات بكل طرف وآليات تطوره فى الواقع العربى فى النصف القرن الأخير من القرن العشرين، ومن هنا، فإن التعرف على طبيعة هذا الصراع تمر بنا عبر عدة مشاهد:

فلنتمهل قبل كل شئ عند وعى عبد الناصر للمثقفين قبل أن نصل للعلاقة بينهما عبر هذه المشاه.

تمهيد : المثقف : المفهوم والدور

ترتبط صورة المثقف عند عبد الناصر بالنظام أو محدد من خلال منظوره العام.

فما هو المثقف عند عبد الناصر؟

من الملاحظ أن عبد الناصر منذ منتصف الخمسينات أو قبل ذلك بقليل، حين يد للجماهير حكومة الثورة ويربط بينها وبين الدولة. فيرى أنها تمثل رمزاَ عاماَ لكل الفئات والرموز العاملة فى ذلك الوقت المبكر فهى تسمى (حكومة المثقفين) والطلاب وأهل الرأى. إذ كانت "حلم هؤلاء المثقفين، كتبوا لها وخطبوا وهى مشغولة البال بأداة الحكم "وفى منتصف الستينات كان يرى أن (طليعة المثقفين) هم الذين يقودوا " العمل والإنتاج والكفاح" فى إطار الدولة القديمة.

ومراجعة خطب الرئيس عبد الناصر وتصريحاته طيلة الخمسينات والستينات تؤكد أكثر على أن مفهومه بالنسبة إلى المثقفين لم يكن ليزيد على أهم فئة فاعية تضيف إلى قوة الدولة وقوداَ وتعمل خلالها وهو ما يفسر تعريفه للمثقف خاصة فى الفترة المبكرة من قيام ثورة 1952.

وهنا تحدد مفهوم عبد الناصر للمثقفين.

كان المثقف عنده هو من "من يكدح ذهنياَ ويعطى للمجتمع نتاج عقله وفكره، سواء كان مهندساَ فى الصحراء أو عالم الذرة أو عاملاَ نقابياَ أو كاتباَ أو طبيباَ أو باحثاض أو فناناَ أو أستاذاَ أو طالباَ،إن هذه العناصر الكثيرة رغم الرابطة الوحيدة التى يمثلها وصف المثقفين لا تمثل مظلة واحدة لأن المثقفين ضمن تحالف قوة الشعب العاملة ليوا طبقة وإنما هم على وجه الدقة قوة".

وفى هذا الإطار، الثقفون هم القوة التابعة، نستطيع أن نتمهل عند كثير من صفات المثقفين، فالمثقف عنده هو غير المتعلم وإنما هو أكثر وعياَ وفعالية بجانب الدولة وهو (المثقف الاجتماعى)، و (المثقف الثورى) و( المثقف الملتزم) و (المثق الطليعة) و(المثقف المحلل) ويتبلور المعنى أكثر مع الوقت فيضيف إلى الثنائية بين المثقف والمتعلم ثنائية السلفى والتغريبى وثنائية البيروقراطى والثورى، ثم تتسع الدائرة أكثر لديه حين يشير فى أكثر من موضوع إلى (المثقف الملتزم) فيضيف إلى المثقف الواع بقضايا المجتمع وعياَ آخر على المستوى الومى والدولى.

ويتبلور المفهوم والدور أكثر فى الستينات.

إنه ففى الستينات ـ وقد تحدد الدور أكثر ـ يراه قوة فى التحالف الشعبى وفى نفس الوقت قوة فى فهم أصول اليادة الوطنية وتحقيق الوحدة العربية. ومن هنا "فإن المثقف المتكامل عند عبد الناصر هو الذى يدرك حقائق الوحدة القومية والتطور الدولى بد إدراكه وفهمه لقضايا التنمية وإدارة المجتمع وطريقة مواجهة تناقضاته مرحلة التحول".

كان يقول أن المثقفين يمكن أن يتفرقوا فى ماقف ذاتية وطبقية، لكنه يستدرك دائماَ فى أكثر من مناسبة ـ بأنه "يجمعهم دور طليعى" فعال.

إنهم ليوا طبقة خارج المجتمع أو متميزة فيه، وإنما هم ضمن تحالف قوى الشعب العاملمة. إنهم "ليسوا طبقة وإنما هم على وحه الدقة قوة".

ولنا أن نتوقف هنا طويلاَ، لنتأمل فى لفظه (ضمن) أى داخل تيار التغير الثورى وليس خارجاَ عنه بأيه حال. إن المثقف ـ بوضوح شديد ـ قوة (ضمن) قوى أخرى كبيرة يمثل حاصلها نموذج الدولة التى تحارب على جبهات شتى داخلية وخارجية.

معنى هذا كله أن عبد الناصر انطلق فى موقف من المثقف من عدة ملاحظات:

ـ إن المثقف يمثلون (قوة) ضمن التنظيم الشعبى (الوطنى) وليس خارجاَ عنه أو متخذاَ منه موقف المعارضة.

ـ إن المثقف هو الذى يدرك الوعى الاجتماعى وليس عبر (تنظيم) اجتماعى معاد.

ـ إن المثقفين هم أقرب إلى العربى منه إلى الوعى الشعبى الضيق.

ـ إن المثقف لا ينتمى بالولاء لفترة وإنما خلال أطر الدولة وتنظيماتها.

إن المثقف لا يقود الجماهير ضد القيادة وإنما هو (المثقف الثورى) أى الوسيط بين القيادة الحاكمة الجماهير الشعبية.

إنه أقرب إلى (المثقف العضوى) ـ كما نعرفه عند جرامشى منه من المثقف (التقليدى) ويجب أن نشدد هنا على القول أن عبد الناصر كان يؤثر أن يكون المثقفون (من شتى ألوان الطيف) كادراَ واحداَ داخل منظومة الكفاح الداخلى والخارجى، ومن ثم، فإن الطابع العملى لديه كان يواجه ـ من الناحية الأخرى ـ شيئاَ من التوجه الماغير بحكم تكوين المثقف ووعيه فى هذه الفترة.

كان المطلوب من المثقف فى هذه الفترة ( الولاء) حين كانت قيادة عبد الناصر تحشد جميع القوى ضد الأخطار الداخلية والخارجية.

وكانت مواقف المثقفين الخارحين من الفترة الليبرالية تعدد بين عديد من المواقف والأنماط.

فى أول قيام الثورة بدا أن (التأييد) المطلق للمثقفين هو السائد فى العلاقة بين الثورة والمثقف، لكن مع أزمة 1954 تعددت المواقف، فأضيف إلى المثقف المؤيد ـ الذى بدا العديد من رموزه تتراجع ـ المثقف المتمرد والمتردد والمثقف الصامت.

ومع توالى الأحداث وقرب النخبة السياسية من النخبة العسكرية بدأت كثير من المواف تتراجع وتتحول إلى أنماط مغايرة فى وقت كان النظام يحرص ـ لتأمين نظامه ـ على قيمة الولاء فى المقام الأول.

ولأن موقف الثورة تواقف مع البعض، فإنه تعارض مع البعض الآخر، ومن هنا، كان علينا أن نشهد فترات متباينة فى التاريخ فى علاقة عبد الناصر مع المثقفين.

وهى فترات أخذت صور العلاقة بينهما شكل الصراع لضمان قيمة (الولاء) فى فترة توالى المخاطر على النظام المصرى ومحاولة النيل منه.

المشهد الأول : قضية الولاء

بدهى أنه لايكمن أن نتحدث عن علاة عبد الناصر بالمثقفين دون أن نعثر ـ خاصة منذ باية الخمسينات ـ على نخبتين: العسكرية والثقافية.

الأولى نخبة قيادية، والأخرى (تابعة) لها.

وقد كانت العلاقة التبعية بينهما تستمد قيمتها من عنصر (الولاء) و (الأمن) السياسى.

ولأن الثورة كانت تريد نأمين نفسها فى السنوات الأولى، فقد كانت قضية (الولاء) ـ كما أسلفنا، هى أهم القضايا التى أنجبت قضايا أخرى، أهمها ما يسمى (بأهل الثقة وأهل الخبرة) وبدهر أن التفضيل لأهل الثقة يعنى التضحية بأهل الكفاءة.

ومن البدهى هنا أن الولاء كانت تعنى مصطلحات كثيرة ترددت فى هذه الفترة من مثل (التعاون) أو (أهل الثقة) ، وهو ما نفهم معه أن النخبة من ذوى التوجه الفكرى مثل قسماَ تابعاَ تم تجنيده من بيروقراطية الدولة على أساس مهنى وتمثيلى وليس على أساس انتماء سياسى مستل (أى انتماء حزبى مستقل)، وعلاقته بالنخبة الياسية أو مؤهلاته الأولى كانت (الولاء).

والذى يراجع هذه الفترة يلاحظ أنه فى حين بدا (التعاون) مرهوناَ ببدايات قيام الثورة لإبداء حسن النية بدا أكثر صعوبة بعد أزمة 1954 بوجه خاص ووصلت إلى قمتها مع حرب السويس 1956 وهى الفترة التى تمخضت عن سمتين هامتين:

ـ نهاية الفترة الليبرالية.

ـ تحول النظام إلى شرعية خاصة بعد انتهاء الحرب.

ومع تشديد يد السلطة العسكرية على النظام بدا التشديد أكثر على قيمة (الولاء) وتفضيله، خاصة، أن عبد الناصر وجد نفسه ـ على الأقل عقب أزمة 54 ـ وسط معاد أو محافظة بالنسبة لخط العهد الجديد وهو مازاد الهوة بين العسكريين والمدنيين.

بين عبد الناصر ـ الذى أصبح الآن رئيساَ متوجاَ بانتصاره فى حرب السويس ـ والمثقفين المعادين للثورة فى جملتهم خاصة أن الصراع أيديولوجياَ كان قد وصل إلى مناطق خطيرة مع عدد كبير من الليبراليين الإخوان واليسار الماركسى.

وهو ما انعكس فى إثار العسكريين أكثر من المثقفين، وإثار فئة التكنوقراط والكوادر الفنية أكثر من ذوى الاتجاه الإنسانى والسياسى.

وعبوراَفوق مظاهر كثيرة لقيمة (الولاء) وأثرها، سوف نتمهل عند بعض النماذج من المؤسسات لنرى إلى أين أتجه عبد الناصر فى تعامله مع المثقفين لحماية النظام.

ويمكن تأكيد هذا العامل ( الولاء) عبر إجازه فى عدة نقاط دالة كالتالى:

ـ كان الولاء ـ كما أشرنا ـ الباعث الرئيسى فى اختيار المثقفين خاصة فى تشكيل الوزارات، وهو ما تأكد منذ أول تشكيل وزارى للثورة إذ يلاحظ أنه فى وزارة 7 سبتمبر 1952 تم تشكيلها من عدد سبق انتماء بعضهم إلى الحزب الوطنى الجديد. وكان الباعث الرئيسى أن هذا الحزب لم يشارك فى أى تنظيم سياسى قبل الثورة كما لم يكن له أنصار تخيف.

الحكام الجدد، وكان يرأسه فتحى رضوان المثقف الذى تربطه بعبد الناصر علاقات وثيقة فضلاَ أنه شارك فيه.

اثنان من الإخوان المسلمين ممن كانا قد رشحا من المرشد العام دون الرجوع غلى كتب الإرشاد.

ـ مع اختفاء المثقفين الذى ارتبطوا بأحزاب شعبية أو أفكار يمكن أن تعادى النظام الجديد، يلاحظ أن معظم من تولوا الوزارة فى الخمسينات (كما نلاحظ من الجدول) كانوا من المتخصصين وليسوا من السياسيين بأية حال أو ممن لم يمارسوا العمل السياسى قبل الثورة.

ـ وهنا يمكن أن نلاحظ أثر الاطراد العكسى بين النقص المستمر فى التخصصات القانونية والإسنانية من عام 1952 والاطراد المستمر فى التخصصات التكنولوجية والعلوم، ويلاحظ دو كجيمان هنا أن نسبة المثقفين من ذوى التخصصات الإنستنية انكمشت، فبد أن كانت 18,8% فى سبتمبرانخفصت إلى حد التلاشى تماماَ علم 1964.

ـ كان هذا يعنى أن اختيار المثقفين فى المناصب الرسمية يخضع لتدقيق شديد: وعلى سبيل المثال نجد أنه من تولى وزارة الثقافة والإرشاد القومى اثنان من المثقفين: فتحى رضوان وحسنين هيكل كانوا ينتمون إلى النظام بصلة تعاطف بل وعلاقات وثيقة بعبد الناصر نسفه.

كان تأمين النظام أهم ما يهم عبد الناصر فى تلك المرحلة لمواجهة أية من المشاكل الخارجية والداخلية.

فيقومون بدورهم كما هو تصور عبد الناصر داخل التنظيم الرسمى وليس ضده بأية حال.

ـ هذا يفسر إذن ابتعاد عبد الناصر عن المثقفين ممن لهم خلفية سياسية أو يعملون فى المجال السياسى، ومن هنا، ظل الاعتماد على أولئك من أصحاب فكر المستقبل والنخبة المدنية ممن لا يشكلون قاعدة مستقلة عن السلطة المركزية.

لقد بدا أن العلاقة بين عبد الناصر والتكنوقراط أكثر منها بين عبد الناصر والمثقفين الذين لا يرضون عن قيم الانتماء للنظام والعمل فى ركابه.

ـ وعلى هذا النحو، بدا الاعتماد أكثر على العسكريين إلى جانب استبدال المثقفين التقليديين بنوع آخر من التكنوقراط ممن يضمن ولاءهم ـ على الأقل ـ بالتحييد أو عدم العمل بالسياسة التى تتعارض مع توجهات النظام مما بدا معه أن وجود المدنيين فى التشكيلات الوزارية الخاصة.

وهذا يعنى ما سبق أن رددناه كثيراَ من أن المعيار الوحيد ـ للوزراء ـ على سبيل المثال ـ كان خضع اقيمة (الولاء الساسيى)، ومن هنا ، كان من الطبيعى أن نلاحظ أن العدد الحقيقى للوزراء من المدنيين كان قليلاَ جداَ بل أقل من عددهم المثبت فى الجدول الخاص بالوزراء ومما جاء فى الإحصاءات الرسمية وهو ما وجدناه أيضاَ فى كثير من مؤسسات الدولة كالنظام والجهاز التشريعى والنشاطات الاقتصادية ومجلس الوزراء والوزراء بل وفى الصحافة أيضاَ.

ومع أن هذه النسبة تراجعت قليلاَ بعد هزيمة 1967، فإن النبة التابعة للنظام المدينة للولاء، التى لا تنتمى لأى تيار سياسى مستقل أو تتبع (تنظيماَ) سياسياَ مهما يكن تعاطفه مع النظام، وهو ما ستلقى به أكثر حين نترب من عبد الناصر الذى دعا المثقفين ـ بوضوح وصراحة شديدتين ـ أن يستعدوا عن أى تنظيم أو أى ولاء مغاير ليلعبوا دوراَ إيجابياَ.

وفى التعامل مع المثقفين استخدم معهم أكثر من وسيلة: إما رفض أى تنظيم معارض وإما محاولة استقطابهم بشروط الولاء أو السيطرة على مؤسساته ومجالسه النيابة لحمايتها من المعارضينله وسوف نتوقف عند الجانب الأول: رفض أى تنظيم معارض وتطويعه.

إنه دعاهم ـ فى الغالب ـ ليقوموا بدور تبشيرى لتأكيد أفكارهم، خاصة؛ التيار اليسارى.

المشهد الثانى : سان بيترز

كانت خشية عبد الناصر من أصحاب التنظيمات خارج الإطار الرسمى للدولة أكثر ما يجسد خوفه من العقائديين، وهو ما يظل يردده مرة بعد مرة.

وكما كان يردده بالنسبة لجماعة الإخوان والمنتمين لهم من ذوى التوجه الفكرى، كذلك ظل يردده بالنسبة للشيوعيين إما بزجهم إلى السجون أو إزاحتهم عن كافة المناصب اولئك الشيوعيين، ومن شهادة لطاهر عبد الحكيم نقرأ أن عبد الناصر سعى إلى "إزاحة هؤلاء الشيوعيين من كافة التشكيلات والتنظيمات والمؤسسات ذات الطابع الجماهيرى، فمن فصل ما يرب إلى مائة من الصحفيين والشيوعيين والديموقراطين من جريدة الجمهورية والمجلات التى تصدر عنها، إلى فصل الطلبة الشيوعيين والديموقراطين من الجامعة إلى تحريم الوظائف العامة على الشيوعيين".

كانت سياسة الولاء لا تفيد فى التعامل مع الماركسيين كنتظيم أو إطارات مؤسسية ـ على سبيل المثال ـ ومن ثم، فقد اتخدم معهم سياسة عنيفة لأنهم كانوا عقائدين يسعون ـ فى رأيه ـ إلى النظام وليس إلى تغيير بعض الأفكار أو العمل تحت إمرة (الحكومة المصرية) فى هذا الوقت، وقد سجلت الفترة بين عانى 1958 ـ 1964 موقفاَ عنيفاَ من عبد الناصر ضد هذه الكوادر فى محاولة استمالتها إلى سياسة الولاء.

كانت هذه هى الفترة التى التقى فيها أنور السادات ـ بناء على تعليمات جمال عبد الناصر ـ عضو المكتب السياسى للحزب الشيوعى المصرى عام 1958 لإرغامه على حل الحزب الشيوعى المصرى، فى هذا اللقاء بين مندوب عبد الناصر بمندوب الشيوعيين المصريين قال أنور السادات لمحمود العالم بصراحة شديدة:

ـ عاملين تنظيم ليه؟

تنظيم يعنى سلطة، احنا عملنا تنظيم الضباط الأحرار وأخذنا السلطة، أنتم تصرون على أن تبقوا بالحزب الشيوعى ليه وهو تنظيم، يعنى عايزين سلطة يا محمود.

وحين أبدى الأتاذ محمود أمين العالم رغبة شديدة فى (التعاون) مع النظام "محتفظين بمنبرنا المستقل، رفض هذا النظام وتم القبض على على جميع الكوادر السياسية الشيوعية والإخوان الذى تمثل محاولة قريبة الشبه بتلك فى فترة مبكرة من إنشاء هيئة التحرير، وقد ظل النظام لسنوات بعدها ـ كما يقول طاهر عبد الحكيم ـ معادياَ لفكرة وجود تنظيم سياسى مستقل عنه، ومن هنا، كان الضغط المستمر والمتصاعد من أجل حل الحزب الشيوعى المصرى.

كان من الواضح أن عبد الناصر حريصاَ أشد الحرص على أن يكون المعارضين (تابعين) للتنظيم الرسمى، وأنه لا مجال هناك للصراع بين التنظيم الرسمى وأى تنظيم آخر ـ يسارى أو إسلامى ـ لقد اتخذ موقفاَ عنيفاَ من اليسار لأنه رفض حل الحزب والانضمام للاتحاد الاشتراكى.

واتخذ موفاَ عنيفاَ من الإخوان لأنهم رفضوا ـ قبل ذلك ـ الانظمام إلى هيئة التحرير.

لقد كان المثفون فرادى ـ مهما عارضوا ـ غير خطرين، أما حين يقوموا بدور مناقض من داخل تنطيمات معادية فهنا الخطر الذى يخشى منه عبد الناصر.

كان يدعو إلى الولاء ليتعامل مع المثقفين.

وهنا ثمة مفارقة تؤكد هذا، فكثير من المقبوض عليهم داخل السجون كانوا يعلنون (الولاء) لعبد الناصر، لكنهم مع ذلك لم يفرج عنهم، أو ـ حتى ـ تحسن معاملتهم ـ يفسر هذا محمد سيد أحمد مندهشاَ:

(ـ .. لأننا لم نكن ندين "بالولاء" لتنظيم عبد الناصر الرسمى أو لنظامه، لقد كان عبد الناصر يريد منا ـ بوضوح شديد ـ حل التنظيم، حل الخطر المنظم المخيف كما كان يراه .. ).

والغريب أنه ـ حتى ـ بعد أن تم حل الحزب وخرجوا من السجن كانت الخشية منهم قائمة، كان عبد الناصر يؤثر أن يظلموا بعيداَ عن العمل السياسى بأية حال، وهو ما ترجمه موقفه منهم بعد خروجهم حين لم يعمل منهم الكثير، كما لم ينضم منهم للتنظيم الرسمى الكثير.

كان الأمر لا يخلوا من تخوف لدى النظام القائم.

وقد كان اللقاء الأخير الذى تم بين عبد الناصر والمثقفين فى عام 1969 دافعاَ لتبرير هذا الموقف وداعياَ إليه.

لقد استبدل عبد الناصر بمفهوم الولاء مفهوماَ مرادفاَ له فى المعنى مؤكداَ له فى القيمة.

ففى حين اشتكى فيه اليساريون بأنه يجرى تمييز عنيف ضدهم فى الاتحاد الاشتراكى ليسقطوهم حين طلب منهم أن يظلوا بعيداَ عن التأثير السياسى، ففى هذا اللقاء طلب عبد الناصر منهم الابتعاد عن العمل السياسى إلى التبشير بأفكارهم الاشتراكية وإن كانت على طريقة القديس سان بيترز.

والمعروف أن سان بيترز قضى الجزء الأخير من حياته مبشراَ بالمسيحية، مكتفياَ بالتبشير دون اللجوء إلى التنظيم العقيدى أو العنف بأية حال، وربما كان عبد الناصر ـ كما يذهب أحد الحاضرين أن دور سانت بيتر اقتصر على الصلب، ولما كان هو مؤسس الكنيسة الكاثوليكية الذى صلب فى روما بالفعل، فيبدوا أن عبد الناصر ـ كما لاحظ لويس عوض طلب من الشيوعيين أن يلاقوا مصير هذا الديس الذى طلب منهم الصلب من أجل آلامهم.

ويضيف أحد الحاضرين حينئذ عبارة عبد الناصر بشكل قريب من هذا، يقول أبو سيف يوسف إن عبد الناصر قال لهم:

ـ يجب أن تكونوا مثل سان بيتر، أى بشروا بالاشتراكية. أى ـ بمعنى أدق ـ ابعدوا عن السلطة.

ويبدو أن عبد الناصر كان يريد تحقيق الاشتراكية بدء من أول الستينات ولكن لم يكن ليريد أن يشاركه معه اولئك الذين يمكن أن يمثلوا خطراَ على النظام، فحاول أن يحقق الاشتراكية (بدون اشتراكين)، اولئك الذين كانوا فى السجون إبان محاولات عبد الناصر الدؤوبة لتحيق العدل الاجتماعى وتأكيد قيمة المثقف ولكن داخل النظام لا خارجه.

إنه الولاء الذى يطالب به ثانية من أجل التفرغ، لم يكن يريد للتناقضات الداخلية أن تستنفد جهوده للمعارك الخارجية بأية ثمن .. وهناك سؤال طرح فى هذا اللقاء يحمل معنى دالاَ، فقد كان أول ما سأل عبد الناصر عنه فى هذا اللقاء، هذا السؤال:

ـ من تقدم للانتخابات النيابية هذه الفترة؟

لستمع عبد الناصر قليلاَ لمن قال: نعم، غير ان أبو سيف يوسف قال وحده : لا، لم أتقدم للانتخابات.

فقال عبد الناصر بما يجب تجيله لأهميته هنا:

ـ اللى اتقدموا غلطانين وأبو يوسف صح..

ـ من حقكم أن تبشروا بالاشتراكية مثل القديس بطرس، لكن غير مسموح لكم أن تتقدموا أو تستندوا للجماهير ضدى.

ومهما يكن من درجة الاختلاف حول موقف عبد الناصر، فإن إيثاره لقيمة (الولاء) أو دعوته (للتبشير) هنا، إنما كان وراءها مفهوم آخر، لا يمكن فهمه إلا فى عصر جمال عبد الناصر، وهو أن المعارك التى دخلتها مصر بقيادة عبد الناصر فى الخمسينات والستينات كانت تحتاج إلى وحدة فى القصد، لم يكن هناك مكان ـ أى مكان ـ لإفرازات عقيدية أو أيديولوجية ـ ولم يكن هناك وسيلة للتحدث عن الديموقراطية فى وقت كان ينبغى توحيد الجهود لمعركة شاملة.

التنوع أو الاختلاف هنا لن يفيد أمام عدو متحد لا يوزع الولاء فيه أكثر من مكان فى الجبهة الرئيسية.

ويبدوا أن الاشتراكيين أنفسهم أدركوا هذا فى الفترة الأخيرة لوجود عبد الناصر بيننا.

ويبقى أن نتنبه نحن ـ لآن ـ لهذا الدرس فى الصراع الدائر الذى يجب ألا يكون بيننا، ولكن بيننا وبين الغرب.

وبعد، بقيت عدة إشارات لا بد من العودة إليها:

ـ لم يكن عبد الناصر ليترك المثقفين المعادين له لتهديد النظام، وكما اتخذ مواقف عنيفة من بعض المثقفين الذين كانوا مستقلين، ولكن من ذوى الاتجاه السياسى المعارض (مثل إحسان عبد القدوس)، فإن موقفه كان أشد قسوة من اولئك الذين انتموا إلى تنظيمات عقيدية أو اشتراكية وبوحه خاص من الماركسيين المنظمين.

(وعرفنا من هؤلاء فى سوريا ـ فترة الوحدة ـ البعثيون، والقوميون الاجتماعيون.

كان عبد الناصر يرى أن النظام الجديد هو الذى يمثل (المثقف)، وعلى المثقف الواعى ـ وقد وضع تعريفات كثيرة له كما رأينا ـ هو الذى ينضم إلى الحكومة القائمة التى يمكن أن تسمى حكومة الثورة أو الحكومة المثقفة، وكثيراَ ماردد فى خطبة هذه العبارة الدالة "إن حكومة الثورة هى حكومة الأمة بطبقاتها جميعاَ".

وهذا هو ماشكل (المرجعية) الفعلية لعبد الناصر فى تعامله مع المثقفين.

كان (الولاء) أهم ما يحرص عليه فى التعامل مع أولئك المثقفين.

ـ إن استخدام الولاء فى السنوات الأولى كان ـ بوجه خاص ـ لحماية النظام، وإن تداخلت معه عوامل أخرى فيما بعد، غير أن الحرص على النظام كان المحل الأول لحمايته من أعداء كثيرين، كانوا ـ فى أغلبهم، ينتمون إلى قوة منظمة فى الداخل والخارج.

كان يرى أن المعركة مع العملاء الداخلين أو الخارجين إنما يستلزم توحيد الجهود، وأياَ كانت المسميات من إفرازات أيديولوجية أو معارضة، فإن العدو المتربص بنا يستوجب منا الحيطة، فلا نتوزع هنا وهناك بمسميات أو تيارات مختلفة، وإنما يكون (الاستقطاب) لمواجه عدو شرس خطر أمامنا.

ـ إن عبد الناصر لم يكن ليعادى أحداَ على المستوى الفردى، وإنما كان أى مثقف ينتمى إلى مؤسسة (كالجامعة) أو تنظيمات (كالتنظيمات الإخزانية أو الماركية) ممن يمكن أن يمثلوا خطراَ على النظام.

ولدينا أمثلة كثيرة لمثقفين عبروا عن آرائهم ضد النظام لم يتخذ ضدهم عبد الناصر أى إجراء، وعلى سبيل المثال كان العقاد يهاجم عبد الناصر فى بيته وجلساته الخاصة، وكان الحكيم قد كتب أكثر من مسرحية تهاجم النظام وهو وهو ما فعله بشكل أكثر قسوة نجيب محفوظ .. إلخ.

ـ يرتبط بهذا أن النظام كان حريصاَ ألا يستعين بمثقفين من ذوى الماضى السياسى المغاير أو السياسى المختلف لحماية النظام، والدليل على هذا أن التشكيلات الورازية لو تضم غير كفاءات إدارية وتنفيذية عالية، من المثقفين الذين لا يحملون أى ماضى سياى أو فكرى مستقل، وعدا كل من حلمى مراد وعبد العزيز كامل نلتقى بأسماء مثل عزيزة صدقى وسيد مرعى وعبد العزيز حجازى، وحين أخرج حلمى مراد من الوزارة عين بدلاَ منه محمد حسين هيكل.

وهو ما يبدو معه غلبة فئة التكنوقراط أكثر من المثقفين (المسيسين) أو من الشيوعيين أو أياَ من أعضاء التنظيمات السياسية المعادية سابقاَ رغم خروجهم من السجون.

كان (الولاء) فى بداية الخمسينات هو أكثر ما حرص عليه عبد الناصر فى معركته فى الداخل والخارج، وهو ما يمكن أن نفسر به كثيراَ من معاركه مع المثقفين بشكل فردى أو جماعى، سواء أطلقنا كلمة (الولاء) أو (التعاون) أو (التبشير).

كان هدف الرئيس مجابهة العدو بجبهة قوية متراصة.

هو الدرس الذى لم يستفد منه المثقفون الآن، حيث تعدد، مواقف المثقفين بين أنماط شتى ومن مرجعيات شتى حيث تحول عصر العولمة إلى مصطلحات وتوجيهات شتى حيث نتعرف على مصطلحات جديدة مدمرة: كأن نتحدث عن مثقف السلام أو التطبيع أو ضروة التمويل أو البحث عن حقوق الأقليات .. إلى غير ذلك.

وأمانا الآن فى الوطن العربى، كما فى الغرب كله نماذج حادة شتى لهذا التصنيف؟؟ والغادر المخيف.

الفصل الثانى: عبد الناصر وقضية التعذيب

لا يمكن أن ننزع ظاهرة من سياقها..حدثت نفى فى هذا الشهر ونحن نسمع إثارة قضية حقوق الإنسان ـ ضمن قضايا كثيرة عن الثورة ـ .. أصوات غاضبة، مشهورة فى أغلبها مشحونة بالغضب، تتحدث عن إنجازات الثورة، وأصوات أخرى خافتة ممرورة تتحدث عن المصير الذى لاقاه النثقف وخاصة حين مورس ضده (التعذيب) وأصبح المثقفون فى سجون عبد الناصر يلاقون الإعانات لسنوات عرفوا فيها الكثير من صنوف التعذيب وأنواعه العديدة التى وجدناه فى أدبيات السجون فى هذه الفترة.

وعلى هذا النحو وجدنا أنفسنا فى زمن تفرق فيه الجميع بين صورتين مؤيد لثورة يوليو، ومعارض لها. مؤيد لإجراءات زعيم الثورة.

معارض له.

محللين للظاهرة فى الإطار الأشمل للدولة الاستبدادية فى الشرق، وأشكال قمعها المتوارث بحيدة تجهد أن تكون علمية.

وتصل درحة التأييد أو المعارضة ـ وما بينهما ـ إلى حالة تشبه (النوستالوجيا). نرى فيها ندابات ومغنيين ووجوه قديمة نعرفها ووجوه جديدة لا نعرفها مع تقدم السن وقلة المعرفة.

وفى جميع الحالات نعيش كثيراَ من قضايا الثورة فى مناخ غريب، ولا أمس من أن تعتقد الندوات وتقام المؤتمرات، ويمضى الشهر الحزين مردداَ من ورائه أنه لا المعارضون ولا المؤيدون يعرفون حركة التاريخ جيدا، فقط حجاب المعاصرة هو الذى يسدل على التاريخ فيغيب أهم ما فيه ويزيد من كثافته تصفيق المتفرجيت واستياء المغرضين.

وقبل أن نصل إلى إحدى الظواهر المثارة فى هذه الحقبة، ثمة ملاحظات أولية لابد من الإشارة إليها قبل كل شئ.

ملاحظات أولية :

لايمكن أن نتحدث عن انتهاك انتهاك لحقوق اإنسان فى الإطار الكبير له من حيث علاقة الثورة بخصومها دون أن نشير إلى ظاهرة التعذيب.

وبداية، فإن ظاهرة (التعذيب) أهم ظوافر حقوق الإنسان محرمة كل التحريم فى الوعى الإنسانى، وهى، على المستوى البشرى لا يمكن تبريرها تحت أى ستار، فتبرير الظاهرة دون تأكيد وجودها فى سياقها يصبح خروجاَ على الحكم الخاطئ فى مباراة ارتضى جميع الأطراف فيها حكماَ من الخارج.

ومن هنا، فإن القضية مرفوضة تحت أية دفوع فى محكمة التاريخ أو فى الواقع خارج التاريخ حيث نعيش جميعاَ المعاصرة، ونتعامل مع مفردات الحياة الراهنة، ومن هنا، يجب أن نذكر فى هذا السياق مكانة هذه الظاهرة فى القانون الدولى وبصفة خاصة فى الإعلام العالمى لحقوق الإنسان الذى ينص فى مادته الخامسة على أنه "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الإطاحة بكرامته".

ونستطيع فى هذا السياق أيضاَ ذكر عشرات من تقارير مجلس الأمم المتحدة للوصاية وعديداَ من القواعد النموذجية التى أقيمت تحت إشراف الأمم المتحدة لحماية المسجون السياسى وكثيراَ من المؤتمرات التى عقدت منذ عام 1955 حين أقيم أول مؤتمر للأمم المتحدة لحماية السجناء وحتى آخر مؤتمر عقد العام الماضى فقط تحت رعاية الأمم المتحدة أيضاَ تركيزاَ على ما حدث فى البوسنة.

وقبل كل هذا فإن الأديان كلها لا تبرر أى تعذيب، كما أنها ضد امتهان كرامة الإنسان وآدميته. وإن كان يخرج عن سياقنا الآن أنه مع أول مؤتمر حتى آخر مؤتمر لم يتغير شئ، غير أن مبادئ الإنسانية تظل هى القاسم المشترك التى لا بد من التنبه إليه والتمسك به بصفتنا بشراَ فى النهاية.

إن حقيقة رفض التعذيب والبرهنة عليه فى رفض (آلياته) عبر المؤسسات الدولية والأديان السماوية، هى الملاحظة الأولى، فهى ما يلاحظ من أن هذه الحقيقة تصطدم لدى الإنسان بكثير من النوازع النوازع البشرية، فنحن لا نستطيع أن نمنع أنفسنا فى هذا السياق من مشاعر شتى، خاصة، ونحن ما زلنا نعيش بشكل ما فترة حكم عبد الناصر بالسلب أو الإجابية ـ كما أسلفنا ـ وهو ما يسلمنا، مع هذا، أو رغم هذا، إلى شئ من الحيرة عند الحكم على ظاهرة ما زلنا فى معظمها من شهودها بشكل ما.

نقول هذا بشكل أكثر بساطة.

إن ظاهرة (تعذيب) عبد الناصر لخصومه ما زالت أكثر الظواهر المحيرة.

هذه الحيرة تنعكس فى ردود الفعل الحادة التى ما زلنا نصطدم بها.

فالبعض ما زال يرفض أن يردد أن التعذيب يمثل السمة الرئيسية فى عبد الناصر، وأنه راح يضيع كل إنجازات الثورة التى ظلت سنوات طويلة تعمل وتحارب من أجلها وأن صاحب هذا الرأى يرى أن الدولة كانت مطالبة بالحفاظ على نظامها، وأن خصوم الثورة كانوا يستطيعون ـ لو تركوا طلقاء، بأسم الحرية ـ أن يهتبلوا الفرصة ليقضوا على الثورة، وهاجس الخوف من المثقفين وتنظيماتهم نجدها فى كثير من مواقف عبد الناصر.

وتصريحاته، يقول جمال عبد الناصر ـ على سبيل المثال ـ فى اجتماعات اللجنة التحضيرية المنعقدة عام 1962 مخاطباَ خالد محمد خالد وهو يطالبه بالديموقراطية والحرية.

"ـ يوجد شيوعيون طلقاء، وأنت تعرف ذلك، وأنا أعرف ذلك، وكل الناس يعرفون أنه يوجد ماركسيون خارج السجن .. فالحزب الشيوعى المصرى يأكذ تعليمات من "صوفيا"، وقياداته موجودة فى صوفيا، ويأكذ تعليمات من بلغاريا، كيف أقول عن هؤلاء الناس أنهم وطنيون، وآمن لهم أن يتصدوا قيادة هذا الشعب .. إلخ". وهو ما يقوله مرة أخرى.

"ـ إن أى واحد يتلقى تعليمات من الخارج اعتبره غير أمين على بلده، وأنا متأكد بكل أسف أنهم يأخذون تعليمات من الخارج".

وكانت هذه هى الفترة التى قال فيها إلهام سيف النصر فى معتقل أبو زعبل : " .. بعد إيقاف التعذيب مباشرة، حضرت لجان طبية للكشف على بعض المعتقلين، وكان السبب فى حضورها .. و .. والدور العظيم الذى لعبته الدول الاشتراكية فى المناداة بالإفراج عنا وإيقاف التعذيب".

إنها الحيرة المزمنة فى قضية لها أطراف كثيرة.

وهذه الحيرة لم تنجم عن نقض المادة أو ندرة الشهود، وربما لكثرة المادة وأصوات الشهود التى تحدث ضوضاء أكثر مما تحسم فى القضية، خاصة وأن كثيرين ممن هبطوا إلى سجون عبد الناصر أدلوا بدلوهم فى هذه القضية حسب مواقفهم وانتماءاتهم .

وفى هذا يمكن أن نذكر بعد هذه الأسماء: عبد العظيم أنيس، لويس عوض، إسماعيل صبرى عبد الله، طاهر عبد الحكيم، محمود أمين العالم، فتحى عبد الفتاح، خليل قاسم، إلهام سيف النصر، صلاح حافظ، مصطفى طيبة، محمود السعدنى، محمد سيد أحمد، عبد الستار الطويلة، صنع الله إبراهيم وكثير من الشعراء فؤاد حداد وزكى مراد وكمال عمار .. وغيرهم.

وهذه الحيرة، التى ندين فيها فى نهاية الأمر التعدى أياَ كانت مبرراته، تصيبنى، على المستوى الشخصى بحيرة مضاعفة.

وهو ما يصل بنا إلى الملاحظة الثالثة.

أعرف أننى ظللت لسنوات حائراَ، ما أكاد أصل إلى رأى وأستريح إليه حتى يفاجئنى آخر، فيزلزل كيانى، وأعاود من جديد رحلة البحث والشك، وما كاد يصلنى الشك إلى اليقين مرة أخرى حتى أعاود رحلة الشك من جديد.

ويفسر هذه الحيرة التى وقعت أسيراَ لها لسنوات، أننى أنتمى إلى هذه الفترة بحكم تكوينى الفكرى، والفترة الزمنية التى عشتها صبياَ فى إنجازات الثورة وشاباَ أشهد انتصارات الخمسينات، طالباَ بمدارس عبد الناصر وجندياَ بالجيس المصرى فى هزائم الستينات من هذا القرن. محبطاَ من انفصال 61 منتشياَ بإنجازات الثورة الاجتماعية ومنهزماَ فى هزيمة 1967 منطوياَ على نفسى عازفاَ عن أى مشاركة ـ حتى ـ بالقول قترة غير قصيرة فى ذلك الوقت.

وهو ما يفسر كيف حملت أوراقى طيلة السبعينات لأجلس أمام عدد كبير من المثقفين باحثاَ عن درجة علمية أو للوصول إلى حقيقة تاريخية، وقد كنت كل مرة أستخدم جهاز التسجيل أو أقرأ وثيقة فى سياق مغاير أجهد أن أتأمل وأن أكون محايداَ.

التقيت بمن عرف سجون عبد الناصر أو لم يعرفها، لكننى التقيت أكثر بخصوم عبد الناصر من نزلاء سجون الثورة، علنى أتفهم الطرف الأخر، وأقترب من دفوعه فى قضية (التعذيب).

وظللت لسنوات رحلة البحث عن الحقيقة.

غير أن الحقيقة ظلت ـ بالنسبة إلى ـ باب ضخماَ مفتاحه السؤال ومن هنا ، كان على، وأنا أضع فى الاعتبار كل ما قيل عن الظروف الأمنية، وحماية الدولة من أعدائها، والبحث عن أمن لتحقيق الدولة لإنجازاتها .. إلخ ظل بجانب هذا كله سؤال أكثر تطوراَ يلح على، ولم يتوقف أبداَ:

هل كان يعرف عبد الناصر بهذا التعذيب؟

وهنا أصل إلى السؤال التالى:

هل كان يعلم؟

هل كان عبد الناصر يعلم؟

هذا سؤال ..

ثم وهل كان عبد الناصر يأمر بالتعذيب؟

وهذا سؤال آخر..

إن الكثيرين لم يخفوا أن عبد الناصر كان يعلم بالتعذيب، ولكن لي بالحجم الذى تم تصويره به، غير أن خصوم عب الناصر أكدوا أنه كان يأمر به فىتعمد يقصد منه الإساء إلى عبد الناصر قبل أن يحاولوا وقوع التعذيب أو تفسيره فى سياق بناء الدولة منذ عصر محمد على حتى اليوم، وعلى سبيل المثال فإن أحد خصوم عبد الناصر أثناء الوحدة بين مصر وسوريا ـ وهو أكرم حورانى ـ راح يتذكر فى أحد الصحف العربية (فى مذكراته التى نشرت بعد رحيله) أن عبد الناصر كان يأمر نائبه فى حكومة الوحدة ـ عبد الحكيم السراج ـ بسجن الشيوعيين وتعذيبهم .. (و) .. إنه بعد أن اطلع عبد الناصر على صور التعذيب فإنه عبد الناصر قد أظهر عدم اطلاعه على هذه الأمور".

وكأننا ملزمون بتصديق أحد ألد أعداء عبد الناصر فى فترة الانفصال وما بعدها بعد رحيل عبد الناصر. معنى هذا ـ لو صدقنا خصومه، وهم الآن كثيرون ـ أن عبد الناصر كان يعرف بالتعذيب، وكان يأمر به، غير أن التهمة ـ مثل أية تهمة كبيرة تصل إلى حد الجناية ـ تحتاج إلى دفوع أكثر لتأكيدها أو لنفيها. وما يتوفر لنا الآ أكثر دفوع خصوم عبد الناصر، خاصة الذين كانوا ضيوفاَ فى سجونه لسنوات. وهو ما نتمهل عنده أكثر.

ترى، ماذا يقول خصوم عبد الناصر فى سجونه؟

وماذا يقول عبد الناصر نفسه؟

لنتوقف عند الطرف الأول.

فحين واجهنا أمين هويدى حول التعذيب، وأشار واجماَ يسئل عبد الناصر، لم يلبث أن أضاف فيما يشبه النفى عن مسؤلية النظام الناصرى.

"ـ إن أى إنسان من أبناء الثورة ضد التعذيب الجدى والمعنوى".

وهو ما يشير إلى رفض التعذيب من هذا الجانب.

ولكن ما هو موقف الخصوم؟

منذ سنوات، كنت قد سألت أحد خصوم الثورة من الإخوان عن مألة التعذيب.

ـ هل كان عبد الناصر يعلم..؟

فأجاب بدون تردد:

ـ قطعاَ .. لا يمكن إنكار ذلك.

وعبوراَ فوق ملامسات كثيرة فنحن بين رأيين.

أحدهما يؤكد أن النظام كان يعلم ويمارس التعذيب.

ولآخر، كان ينفى، فعبد الناصر لم يأمر به، ولم يكن ـ على الآقل ـ ليعلم حجم هذا النعذيب. لنستمع إلى الحيثيات قبل أن نصل إلى الحكم الآخير.

ـ راح البعض يؤكد أن عبد الناصر كان يعرف التعذيب، بل كان ـ أى التعذيب ـ أحد أشكال الضغط علينا ، وأسأل محمود أمين العالم:

ـ الضغط ، لأى شئ؟ ويجيب:

ـ من أجل الحل.

ـ والحل ـ حل الحزب الشيوعى ـ كانت له أساليب كثيرة يحددها المناضل الماركسى.

ـ الحل بالتعذب.

ـ الحل بالسجن.

ـ الحل بالإغراءات.

ـ ويرى محمد سيد أحمد الذى عرف تعذيب الشيوعيين فى سجن أبو زعبل، أن التعذيب كان من أجل الملاء، كان عبد الناصر يطلب الولاء قبل كل شئ، وكان هذا يتأثر بالمواقف بين القاهرة وبغداد أو القاهرة وموسكو،المهم هنا أن محمد سيد أحمد يرى أن النظام كان يمارس التعذيب.

ونترك اليسار لنتمهل عند اليمين.

فى التيار الإسلامى راح أحمد رائف يطرح السؤال فى الزنزانة رقم 210 (كتابه البوابة السوداء) :

ـ "وهل كان عبد الناصر يعرف ما يدور فى أروقة السجون وظلام الزنازين؟" ويجيب بسرعة.

ـ " .. نعم يعرف والأدلة على ذلك كثيرة والشواهد متعددة لا يستطيع تجاهلها".

وما يقوله رائف يقوله أكثر الإخوان المسلمين مثل كتابات الشيخ محمد الغزالى ومذكرات زينب الغزالى .. إلخ. وتتأكد هذه المعرفة من أقرب الشهود للنظام، يقول الأتاذ هيكل (من كتاب حسنين كروم، عبد الناصر المفترى عليه،) : "عبد الناصر يعلم بها. إنى سمعت بحدوث تعذيب".

وهنا نصل إلى إجابة السؤال الأول، نعم، عبد الناصر كان يعرف بالتعذيب، لكن يبقى السؤال الآخر، وهل كان (يأمر)بالتعذيب؟

والفارق واضح بين أن يعرف عبد الناصر ويصمت، أو يتعمد، فيأمر؟

وبغض النظر عن حجة البعض أنه كان يدافع عن نظامه، وتجربته الثورية، الت لو وضعت فى يد أحد خصومه لما فعل أقل ما فعل، بغض النظر عن هذا، سوف نحاول أن نجيب عن السؤال الآخر:

هل كان يأمر، وكيف، ولماذا..؟

وهنا ننطلق إلى نفس الهدف ولكن نغير الطريق.

وكيلا نقع فى محظور الدفاع عن عبد الناصر، فإننا نكرر ثانية ـ ما سبق أن أشرنا إليه ـ من أن عبد الناصر كان يعرف ـ بشكل ما ـ أن هناك نوعاَ ما من العنف والتعذيب ضد معتقليه فى السجون، لكنه ـ بالطع ـ لم يكن ليعلم درجته.

كما أنه لم يعرف عنه أنه أصدر أوامر محددة بإجراء التعذيب أو ممارسته بالشكل البشع الذى عرفناه به.

كان يعرف أن هناك معاملة تصل إلى درجة التعذيب، لكنه لم يكن ليدرك القيض على المعارضين داخل السجون فى دولة شمولية، لم تعرف المؤسسات الديموراطية كما يجب،ويمارس رئيسها الحكم بديكتاتورية .. إن هذا كله يمكن أن يؤدى إلى أنواع من التعذيب البشع الذى أودى مرة بشهدى عطية (مريض القلب) ومرة أخرى بعديد من شهداء الإخوان، بل بولغ أحياناَ فى معاملة عبد الناصر لمعتقليه وسجنهم إلى درجة أن عبد المنعم الشرقاوى يزعم أنه علق من ساقيه، وأن عيوناَ أليكترونية كانت مصرعة بجدران السجون.

وهنا يختلط الواقع بالخيال.

وفى الوقت نفسه يفسر غلو البعض فى وصف تعذيب عبد الناصر، فى حين أن البعض الآخر ـ من مؤيديه ـ يرفضون هذا الرأى، ويذهبون إلى الرفض إلى درجة نفى التعذيب كلية.

وهناك أكثر من حادثة نختار منها حادثة معينة تؤكد أن عبد الناصر لم يأمر بالتعذيب كما صوره البعض (قط)، فالمعروف أنه أثناء نظر قضية الحزب الشيوعى المصرى (وكان المتهم فيها كل من د. فؤاد مرسى ود. إسماعيل صبرى عبد الله).

وأثناء تواجد المتهمين فى المحكمة فوجئ الجميع أن إسماعيل صبرى رفض الدفاع، وام هو بنفسه ليقدم دفاعاَ قانونياَ جديداَ أمام المحكمة، فى هذا (الدفاع السياسى) راح السجين يشير إلى الأسباب التى جعلت اليسار يدخل السجون، ةما هى أباب اختلافه مع عبد الناصر، وكيف أن اختلاف التوجهات ـ كما أشار ـ هى السبب فى الخلاف بين أعضاء الحزب الشيوعى وبين عبد الناصر رغم اتفاقهما فيما بعد فى التوجه إلى المجتمع واعتناق الاشتراكية وإن كانت ألوان الطيف تحدد لنا ألوان كثيرة من الاشتراكية فى ذلك الوقت.

وكان الدفاع المجيد الطويل الذى يدلل فيه صاحبه بما يقول بعشرات الأمثلة والمجتازءات والأحداث التى لا تتوفر إلا لباحث يقطع حياته فى مكتبه ليكتب مثل هذا الدفاع الضخم .. كان هذا دافاَ لرجال المخابرات لإرساله لعبد الناصر بتقارير قدمت له، مشفوعة فى نهاية كل تقرير أن الشيوعيين (المساجين) قالوا كل شئ، وبتأن، وبدون تخوف أو تردد، فاندهش عبد الناصر لهذا، وقال بسرعة:

"ـ النا دى نازلة فى لوكاندة".

وهذه الحادثة التى ذكرها لى د. إسماعيل صبرى عبد الله ـ فى محضر نقاش ـ كان دافعاَ ليلقى جمال عبد الناصر كلمته التى فهم منها أنه لا بد من التعامل معهم بقسوة أكثر من ذلك، لأن هذه الحرية التى تمتعوا بها للتعبير عما يريدون خلال دفاع منظم لا تتفق مع حياة سجين سياسى، وأضاف د. إسماعيل أن درجة العزاب زات بعد ذلك مع تشديد كبير على منع الأوراق والأقلام والاتصالات الداخلية أو الخارجية، وكان هذا محل دهشة الدكتور لويس عوض فى ذلك الوقت، ففى لقاء شخصى معه، أشار إلى أنه كان معتقلاَ فى معتقل الفيوم وكان الاعتقال كما يقول يتم (باحترامنا)، وهنا يضيف د. لويس عوض.

ـ أنه حينما انتقلنا من الفيوم إلى "أبى زعبل" تعذبنا عذاباَ شديداَ لا طاقة لبشر به.

وكانت هذه الفترة هى التى شهدت دفاع المعتل السياسى إسماعيل صبرى، والتى علق فيها عبد الناصر عما تم فى المحكمة، وبناء على ذلك، تحولت المعاملة اليومية الطبيعية فى الجون إلى (تعذيب) شديد.

ربما كان يعرف عبد الناصر بعض ألوان التعذيب فى سجونه، لكنه بالقطع لم يأمر به، ولم يحث عليه بالشكل الذى تم به بالفعل: لقد تحول المعتقل من عزل السجناء، وإعطائهم أرقام، وإساءة معاملتهم، إلى قطع الأحجار والضرب المبرح والتعذيب لدرجة الموت، وهو ما يعود إلى جهاز الدولة أكثر من أوامر عبد الناصر، ولأبى سيف يوسف تعليق مهم هنا عما حدث من تعذيب، يؤكد: "الدولة حين تقع تحت سلطة بيروقراطية .. وتبدو فى حالة جديدة من حالاتها .. تبدو كجهاز لا قلب له، كل ما تنزل الأوامر تزيد درجة".

وأقاطع أبو سيف يوسف:

ـ هل نفسر بهذا ملابسات قتل شهدى عطية؟

يجيب السجين السياسى السابق:

ـ لا ليس إلى هذه الدرجة .. لا تنسى أن شهدى عطية كان مريضاَ بالقلب وإن كان هذا لم يمنع من التعامل معه بقسوة، كغيره، كما أن عبد الناصر حين علم بموت شهدى عطية ـ وكان فى أحدى دول شرق أوروبا الشيوعية غضب بشدة، وأمر بوقف (كل) عمليات التعذيب السياسى.

وعبوراَ فوق ملابسات وأحداث كثيرة، فنحن نعلم أن شهدى عطية الشافعى ـ وهو مثقف تقدمى كبير ـ توفى فى 15/6/1960 فى ليمان أبو زعبل تحت وطأة التعذيب، وحين عرف عبد الناصر ـ وكان فى رحلة للكتلة الشرقية ـ غضب كثيراَ، وحين عاد إلى القاهرة "ثار كما لم يثر من قبل" كما يقول الأستاذ هيكل وقام على الفور بفصل مدير السجن من عمله وتم إتخاذ إجراءات محاكمة المسئول بأمر عبد الناصر

ونعود إلى ما كنا فيه فنستعيد ما قاله أبو سيف يوسف ـ من محضر نقاش أجرى معه ـ ملخصاَ الأمر كله أن المسئول كان يبدى عبارة أو يلقى أمراَ بالتشديد على المسجون السياسى، لكن كانت هذه العبارة أو ذلك الأمر يتحول، كلما هبط كورس التنفيذ ـ إلى أمر صريح بالتعذيب.

كان عبد الناصر يعرف بالتعذيب، نعم، لكن ليس بالشكل البشع الدى يقال عنه، والذى ما زالت ترتفع الأصوات فى عديد من الصحف القومية أو المعارضة لإظهار عبد الناصر بصورة الحكم المتعطش للدماء العنيف إلى درجة الأمر بالتعذيب حتى الموت، كما أن جملة الأحداث الداخلية والعربية والخارجية تدعو إلى هذا الواقع وتدفع إليه.

مكان التعذيب موجوداَ ومعروفاَ فى عصر عبد الناصر، يقول هيكل (الحسنين كروم أن "عبد الناصر يعلم بها. إنى سمعت بحدوث تعذيب واعتقالات آلاف الأشخاص فكتبت مامحاَ لذلك فى الأهرام، وكانت النتيجة أن غضب شمس بدران وقاطعنى".

ويقول شمس بدران:

"ـ أول للقضاء المصرى والرأى العام. أننى أتحمل المسئولية الكاملة عن كل ما وقع فيما يسمى بالتعذيب فى القضايا التى شرفت على التحقيق فيها، وكان الهدف مصلحة عليا".

وما قاله هيكل وشمس بدران قاله صلاح نصر فى التحقيقات التى أجريت معه أو فى كتبه التى نشرها، مؤكداَ أن ما حدث كان للدفاع عن القضايا القومية وكان ضرورة للدفاع عن التجربة الوطنية فضلاَ عن أن هذا ألوب معروف فى كوادر المخابرات العالمية.

وعود على بدء، أن يكون عبد الناصر قد علم بالتعذيب، الإجابة بنعم، لكن أن يكون قد أمر به أو حرض عليه، فإن هذا ـ بحيدة كاملة ـ لا يتفق مع روايات الشهود واء داخل سجون عبد الناصر أو خارجها وإلا فليفسر لنا البعض ثورة عبد الناصر العنيفة عقب قتل شهدى عطية، وكيف تعامل عبد الناصر بغضب عات مع المسئولين، وخاصة، مأمور السجن الذى عذب فيه وقتل شهدى عطية.

لقد آن الأوان لنظر إلى (تعذيب) عبد الناصر فى إطار بناء الدولة العصرية، وأيضاَ، فى إطار عيوب الدولة الاستبدادية وويلاتها.

وكما كان يمكن أن نذهب إلى ما ذهب إليه خصوم عبد الناصر من موقف عبد الناصر من التعذيب، كذلك، يمكن التدليل على العكس، من خصومه أيضاَ.

وهو ما يصل بنا إلى شهادة أهم هؤلاء الخصوم، خاصة، إذا كان هذا الخصم قد عاش مع ممارسات الثورة بشكل عبنى، بل ودخل تجربة السجن ـ كما سنرى .

الشهادة : الجامعة والثورة

كان المحامى الشهير والذى رحل فى الفترة الماضية. أحد شهود الفترة الناصرية، وأحد أبناء الجامعة الذين دخلوا فى صدام مع رجال الثورة، ورغم أن عبد المنعم الشرقاوى ـ هو شقيق الأديب عبد الرحمن ـ كان قد اتهم النظام فى الستينات بسجنه وتعذيبه، فإن نيابة أمن الدولة العليا رفضت هذا الاتهام/ التعذيب ـ بعد تحقيق طويل استغرق الفترة بين 14 ـ 20 يوليو 1966.

وما حدث فى منتصف الستينيات لم يكن لينفصل عما حدث فى بداية الخمسينات عقب قيام الثورة، ففى السنوات الأولى كان الصراع حاداَ بين فئات المثقفين ـ ومن بينها الجامعة ـ وبين مجلس قيادة الثورة، فى الوقت الذى كان فيه عبد المنعم الشرقاوى سكرتير عام هيئة التدريس بجامعة القاهرة، ومن ثم، انسحب موقفه من الثورة، وموقف الثورة من الجامعة منذ فترة مبكرة، على العلاقة بينهما فيما بعد.

وعلى هذا النحو، فإن هذه الشهادة ـ التى نقرأها من العالم الآخر ـ أدلى بها صاحبها قبيل رحيله بفترة بسيطة (وهى مكتوبة ومسجلة) ، وهى تحاول أن تعيد تركيب صورة هذه العلاقة بين الجامعة والثورة.

كنت قد حدثته عن موقف الجامعة إبان قيام ثورة يوليو، كيف كان.

فأكد أنه، وقد كان سكرتير هيئة التدريس بجامعة القاهرة، كان أول ما فعله أن قام بدعوة عدد من أساتذة الجامعة إلى منزله (الدكاترة سعيد النجار، محمد حسن الجمل، توفيق الشاوى، أمين صندوق الجامعة .. إلخ) وكان هذا فى مساء 25 يوليو، وكتبنا هنا بياناَ نؤيد الثورة وطالبنا فيه بالحرية والديموقراطية، وحين تم كتابة البيان، أوصلته بنفسى إلى باب الإذاعة، وقال لى الضابط المسئول هناك، أن هذا البيان هو ما كانت تنتظره الثورة. كان البيان مكتوباَ بأسم أساتذة جامعة القاهرة، ليس بيان تأييد فقط، وإنما بيان تأييد مشروط ويمكن العودة إلى هذا النص فى جريدتى المصرى والأهرام يوم 26 يوليو.

وهذا موقف يشهد للجامعة، خاصة، وأن الملك كان فى الاهرة.

وقد استمرت علاقاتنا بالدولة فى ذلك الوقت على أحسن وجه، وكنا نجتمع بشكل مستمر مع كمال الدين حسين، وكان هو المختص فى ذلك الوقت بالاتصال بالجامعة، وأذكر أنه طلب منا تغيير اللائحة (بناء على رأينا) ، وبالفعل تم تغيير لائحة الجامعة، وكان فيها الدكاترة حلمى مراد وعبد العظيم أنيس وعبد الرحمن بدوى ولأدلل أكثر على علاقتنا الطيبة بالثورة، أذكر أننى عينت فى عام 1953 عضواَ فى لجنة إصلاح التعليم الجامعى التى رأسها على ماهر فى ذلك الوقت، وكان من أعضائها ـ فيما أذكر ـ لطفى السيد والدكتور السنهورى. وقد قدمت اللجنة تقريرها لإصلاح التعليم الجامعى.

ولكنك متهم بأنك كنت فى لجنة التطهير التى شكلتها الثورة، وقات بأخراج العديد من أساتذة الجامعة، سألت، وأجاب:

التطهير كان ظاهرة يمكن أن تجدها فى عديد م الهيئات فى هذا الوقت، ولم تكن قائمة من أجلى أنا، ففى نهاية 1952 أرادت الثورة القيام (بالتطهير) ـ وهذا لفظ فرض علينا ـ وكنت أنا فى اللجنة، لجنة تطهير الجامعة ـ كما كان يطلق عليها ـ وكان معى فى اللجنة جامعيون ممتازون مثل الدكتور عبد الله الكاتب ووالأستاذ همام محمد محمود، وكنت أنا ثالثهم، وكان رئيس اللجنة محمد حسنين رئيس النيابة، وصحيح أن اللجنة قامت بناء على طلب الثورة، لكن قيامها الفعلى كان بناء على انتخاب جرى بين الجامعيين من أساتذة طبيقاَ لقانون التطهير، وقد قمنا بالفعل بما طلب منا، وكانت ضمن طلباتنا انتخاب مدير الجامعة من بين أساتذة الجامعات.

ولكن هذه اللجنة متهمة بالانحياز إلى الثورة، وبإجراء التطهير من بين الأساتذة.

أستطيع أن اقول لك أننا لم نطبق قانون التطهير بإخراج الأساتذة من الجامعة إلا على أثنين فقط، وكانوا من جامعة القاهرة وبوجه خاص من كلية الآداب لأسباب لا أريد الخوض فيها.

إذا كان الأمر كذلك، من العلاقة بين الجامعة والثورة أول قيامها فكيف بدأ الخلاف؟

.. بدأ الخلاف فى فبراير حين دعانا كمال الدين حسين للاجتماع فى مجلس قيادة الثورة، وبالفعل، اجتمع معنا وطلب منا بياناَ لتأييد الثورة، كنا نجتمع مع كمال الدين حسين باستمرار، وفى كل مرة نعالج قضية من قضايا العلاقة بين الثورة والجامعة، كان الخلاف الأول بيننا وبين الثورة قد انتهى بالقبض على عدد ممن كانوا فى اجتماع بالجامعة وكان من بينهم توفيق الشاوى .. ثم فصل هؤلاء، وكان الواضح أن السبب فى فصلهم أنهم من الإخوان الذين قبض على عدد كبير منهم فى ذلك الوقت.

القضية أننى أنا كنت صاحب فكرة هذا الاجتماع الذى قبض فيه على الأساتذة، ومن هنا كان غضبى كيف يذهب بعض الأساتذة إلى سجن الأجانب على أثر دعوتى للاجتماع، ذهبت إلى وزير المعارف وقد كان عباس عمار وقابلت فتحى رضوان، وأظهرت غضبى الشديد وانتهى الأمر بالإفراج عنهم.

بيد أن الانشقاق الأكبر الذى حدث بين الثورة والجامعة كان تحديداَ فى أزمة مارس 1954، فقد أصدرنا ضمن المثقفين الآخرين (الطلبة والمحامين .. إلخ) عدة بيانات تؤيد الديموقراطية وتطالب بالحريات، ولم نكن نعرف أن قرارت 25 مارس كانت مناورة، ومن هنا، أصدرنا بيانات أيدنا فيها هذه القرارات التى تعيد الجيش إلى الثكنات و .. إلى آخر هذه القرارات، وهنا، استنتج الضابط أننا ضدهم، وقد زاد الأمر سوءاَ أنه قد صدرت بعض القوانين للجامعة بموافقة د/ إسماعيل القبانى، فاعترضنا عليها، فألغيت، وهو ما زاد حجم الغضب ضدنا.

لم يشهد مارس بداية الخلافات فقط، وإنما استمرت الأسباب أكثر فيما بعد أليس كذلك؟

نعم ـ أضاف سكرتير نادى هئية التدريس ـ فى 5 إبريل تحديداَ جاءت رسالة من سكرتير عام الجامعة، قال فيها أن جمال عبد الناصر يريد الاجتماع بأعضاء مجلس الإدارة، اجتمعنا بالأساتذة قبل الاجتماع الذى حدد لنا الساعة الثانية عشر ظهراَ، كان هناك اعتراض عام من الذهاب لدى الأساتذة وتخوف من نيات الثورة تجاه الجامعة.

لم أجد بداَ من الذهاب، دعيت الأساتذة (وكانوا قرابة ثلاثين أستاذاَ) إلى مجلس الجامعة، كان عن كل كلية 3 أساتذة و2 أستاذ مساعد و1 مدرس.

كان هناك اتجاه اتجاه عام بألا نذهب إلى هذا ااجتماع، رفضت هذا الموقف وأصررت أن نذهب، ونقول ما نريد لا أن نرفض ولا يعرف أحد ما نريد، وفى حين وافق البعض على أن نذهب واشترط ألا يعلن عن هذا الاجتماع، وفى هذا الوقت، فوجئت بالدكتور حسام سكرتير الجامعة يهمس بأذنى عبد الناصر يأمر أن يكون الاجتماع فى منزله وليس بمجلس الوزراء كما كان قد قيل لنا من قبل، اعترض البعض، وحين جاء وقت أخذ الأصوات جاءت الأصوات 14 مع الرأى الذى يؤيد الذهاب فيه إلى بيت عبد الناصر ضد 13 رفضوا.

كان المثقفون فى ذلك الوقت حرصين على كرامتهم ومواقفهم.

المهم، ذهبنا إلى منزل عبد الناصر، وهناك جلسنا من الساعة الثانية عشر ظهراَ حتى الثالثة، جلس عبد الناصر فى مواجهتنا، وقال بالحرف الواحد:

ـ "لقد قمنا بالثورة قبل ميعادها، ولم يكن لنا أى برنامج، واعتمدنا على أن تقوم الجامعة بعمل برنامج لنا، ولكن يبدو أن الجامعة ضدنا، وبها أساتذة لديهم ميول كثيرة ضدنا .. مش كده ولا إيه يا شرقاوى".

فوجئت بالسؤال :

فأجبت : نحن لسنا ضد الثورة، ونحن أسهمنا فى الثورة، والجامعة كانت ضد فاروق، وحين جاء فاروق إلى الجامعة منذ سنتين فى عيد العلم لم يقابله أستاذ واحد ولم يجد أحداَ فى صالة الاجتماعات، بل قمنا بحرق صورة فاروق، والأكثر من هذا رفضنا إعطاء هدية لفاروق ـ كغيرنا ـ بمناسبة زواجه.

على أية حال نحن لسنا مختلفين مع الثورةربما كان الخلاف فى الوسيلة إنما الغاية واحدة.

قال عبد الناصر بحيدة أكثر: الكلام ده كلام روز اليوسف، كلام إحسان عبد القدوس وأخوك عبد الرحمن، ويبدو أن عبد الناصر كان يريد الإيقاع بينى وبين الأساتذة، على أية حال، اعتدل وقال بلهجة عنيفة:

"ـ شوف بقى، أنا يهمنى الجيش، وأنا هنا لا أعرف النوم من يومين، لماذا، لأنه حدث انقلابين فى يومين فقط، عايز ترجع لى يا شرقاوى العهد الماضى".

ودارت الاتهامات فى هذا اللقاء بين العسكر والجامعة، العسكر يقولون أن الأساتذة يحرضون الطلبة، ويدفعون بهم إلى المظاهرات والهتافات، والأاتذة ينفون ، ويقولون ربما كانت وسيلتكم أفضل، المهم التجربة.

لم يمض وقت طويل ـ عاد الشرقاوى ـ أنا وفوجئت بقرار الفصل، فصل حوالى خمسين أستاذاَ جامعياَ منهم لويس عوض وعبد العظيم أنيس وتوفيق الشاوى وأمين بدر .. إلخ، فضلاَ عن نقل العديد من الأساتذة، وراحوا لإرضاء من بقى من الجامعين فأصدروا لائحة كنا قد طلبنا بها، وأضافوا ـ كإغرائات ـ استثناءات لبعض أساتذة الجامعة مثل كامل مرسى (ونحن نتذكر أن كامل مرسى كان أحد رجال صدقى عام 1946 وجئ به رغم خروجه على المعاش).

وبدأت قضية أهل الثقة وأهل الخبرة.

لكن قضية أهل الثقة ـ كانت لحماية الثورة قبل أن تكون ضد المثقفين، سألت وأجاب مثقف بدت شهادته منحازة ضد الثورة : بالعودة إلى السنوات الأولى لقيام الثورة، أثناء أزمة مارس تحديداَ، أذكر أنه حين سأل البعض جمال عبد الناصر لماذا توليتم السلطة بدل المدنيين ؟ أجاب عبد الناصر:

"ـ كنا نضع ضابطاَ فى كل وزارة، ومع الوقت كنا نلاحظ أن الضابط هو الذى يحكم، لأن المدنيين لا يريدون أن يحكوا، وأن يتحملوا مسئولية، ففكرنا، بدلاَ من ترك المدنى لاتخاز قرار، ثم نقوم بإلغائه، فكرنا فى أن نحكم نحن، خاصة فى السنوات الأولى، فوضع عسكرى فى كل موقع، لم يكن فقط لتمثيل الثورة، وإنما ـ أيضاَ ـ لهد آخر، فقد لاحظنا أن العسكرى فقط هو الذى ينصاع للأوامر فيلبى ما يراد منه، ففى فترة كنا متأهبين لإقامة التنمية وخطط خمسية واتخاذ قرارات سياسية واجتماعية .. إلى آخر قرارات الثورة الاجتماعية والسياسية والإدارية الهامة، كنا نحتاج إلى الضبط والربط وليس إلى الأخذ والرد".

ثم هل تعرف أننى سجنت وبرأت دون سبب واضح؟

أجبته بنفس السرعة: "لا التحقيق أشار إلى علاقتك بالإخوان" فعاد ليقول بسرعة "كل ما وجدوه من أدلة على هذا بعض أسماء الإخوان فى نوتة التليفون، كان توفيق الشاوى وعبد الحكيم عابدين، أحدهما عرفته فى مصر والآخر فى لبنان، وكل منهما كانت تربطه بى علاقات عادية فقط.".

لكن هل تعرف أننى سجنت وعذبت؟ أجبته وأنا أقرأ حكم المحكمة العسكرية "المحكمة لم تقتنع بصحة ما قرره الدكتور الشرقاوى من وقوع تعذيب جسيم عليه أثناء استجوابه فى المخابرات العامة وقضت ببراءة المتهمين فى القضية".

صمت الصوت، وعدت أحدث نفسى: ربما كانت قضية التعذيب غير صحيحة، خاصة، أن الحكم صدر إبان حكم عبد الناصر، كما أن الدكتور الشرقاوى لم يرفع قضية بعد رحيل عبد الناصر كما فعل آخرون.


(نموذج) عن يوسف صديق

كل مرة يذكر فيها أمامنا مفهوم حقوق الإنسان في معرض الحديث عن سلبيات ثورة يوليو، ويذكر معه ظاهرة التعذيب.

تعذيب المعارضين لها المختلفين معها.

وهي ظاهرة من أكثر الظواهر التي يقف إليها أعداء ثورة يوليو مباشرة متهمين إياها بتعذيب الإنسان، وهو ما ساد بين المثقفين المنتمين بشكل خاص إلى تيارات أيديولوجية في الفترة الناصرية.

وبادئ ذي بدء فلا بأس من أن نكرر ما قلناه سابقاً وأصيح بدهياً من أن ظاهرة (التعذيب) أهم ظواهر حقوق الإنسان ومحرمة كل التحريم في الوعي الإنساني، وهي على المستوى البشري لا يمكن تبريرها تحت أي ستار، فتبرير الظاهرة دون تأكيد وجودها في سياقها يصبح خروجاً على الحكم الخاطئ.

ومن هنا فالتعذيب تحت أية مسميات مرفوض مرفوض مرفوض.

بيد أن العودة إلى السياق.

والعودة إلى الملابسات ثم العودة إلى وثائق التاريخ وشهودها من الأحياء (المصادر الحية).

.. هذا وغيره يمكن أن ينير لنا أكثر نهاية النفق.

ونعود لنسأل بشكل مباشر:

ـ هل تم تعذيب (يوسف صديق) كما رددت وكالات الأنباء الغربية؟

وكان راديو صوفيا قد أشاع في بداية الستينات أنه يعيش وراء أسوار عالية وأنه يعذب ويجلد داخل السجن ويجلد ويصرخ ويستغيث وما من مغيث ويصيح وما من سامع.

ويزيد من أهمية الظاهرة وخصوصيتها هنا أن يوسق صديق لم يكن أحد هؤلاء المثقفين ممن أضيروا وعذبوا من شتى الاتجاهات والأحزاب، فرغم انتمائه إلى الحزب الشيوعي (حدتو) منذ نهاية الأربعينات كان ولأنه للحس القومي والعربي أعلى من أي ولاء، فضلاً عن أنه كان من أول الضباط وأكبرهم رتبة (قائمقام) من الذين شاركوا في إنجاح الثورة.

أضف إلى هذا ـ وهو مرتبط بتكوينه ـ أنه كان إنساناً جريئاً، لا يتردد في قول ما يريده، ولا يتبدد يقينه في أمر إلا ويقوم على إنجازه مباشرة، ثابت في الحق، قوي في التعبير.

ففي الوقت الذي كانت شخصية جمال عبد الناصر تميل إلى المناورة والعمل في هدوء كانت شخصية يوسف صديق تميل إلى العمل المباشر ومواجهة الخصم والتصرف بشكل تلقائي.

وهو ما أسلمه، ولما يمض على قيام ثورة يوليو قرابة سنتين، إلى التصرف العنيف ضد أعضاء مجلس قيادة الثورة في مواقف كثيرة.

وسوف نختار منها موقفين.

وبعيداً عن الاستطراد الطويل، ففي أول خلاف بين مجلس قيادة الثورة وضباط المدفعية، وهو خلاف كان ضباط المدفعية يدعون فيه إلى أن يكون تمثيل الجيش في مجلس قيادة الثورة عن طريق الانتخاب .. لم يجد يوسف صديق أمامه إلا الانتفاض بعنف ليقدم استقالته.

كان مجلس قيادة الثورة قد دخل في نفق الخلافات الحادة بين الضباط في شتى الأسلحة، ولما بدا أن ضباط المدفعية يتخذون موقفاً مغايراً استقر الرأي بين ضباط الثورة فيما بينهم على استخدام العنف.

وبحركة مفاجئة تم اعتقال ضباط المدفعية من الثائرين وعددهم يصل إلى 35 ضابطاً في 15 يناير 1953، وقد أودعوا سجن الأجانب برتبهم وملابسهم العسكرية، الأمر الذي لم يسبق له نظير في تاريخ العسكرية المصرية تحت القيادة المصرية.

وعبثاً حاول محمد نجيب وقد كان رئيساً للجمهورية في ذلك الوقت أن يستبدل بالسجن (ميس) الجيش رفض مجلس قيادة الثورة، وقرر اتخاذ موفاً عنيفاً كيلا يتحرك زملاؤهم، وكي يكونوا عبرة لغيرهم.

وقد كان هذا التصرف كفيلاً بتفجير الغضب لدى عدد كبير من الضباط وفي عدد كبير من الأسلحة.

ففي سلاح المشاة ـ على سبيل المثال ـ استقال القائمقام يوسف صديق ومن مجلس قيادة الثورة وأصر على استقالته رغم محاولات البعض إثنائه.

رفض يوسق صديق أن يتعامل مع الضباط والجنود في سلاحه بعد الثورة بمنطق آخر.

وكان صلباً حاداً في اتخاذ الموقف، فتذكر مصادر هذه الفترة صفات ديموقراطية أخرى اتسمت بها شخصية هذا الضابط، يقول محمد نجيب:

(كان يوسف صديق شديد الوضوح في معارضته لقانون تنظيم الأحزاب، ولضرب الوفد على غير أساس ديموقراطي.

وكان يدعو للتمسك بالدستور. ودعوة البرلمان للانعقاد لتعيين مجلس الوصاية. كما أنه كان شديد الثورة والرفض لاعتقال الزعماء السياسيين دون اتهام، وطالب كثيراً بإلغاء الرقابة على الصحف وتكوين اتحاد عام للعمال. وكان حديث يوسف إلى المجلس يستهويني لأنه شاعر يملك زمام اللغة ولا ينقصه التهاب العاطفة والحماسة. ولم يكن مثل جمال سالم تتدفق ألفاظه قبل أفكاره. ولكن يوسف صديق كان يقف دائماً في الأقلية، لا يجد معه أصواتاً تشكل الأغلبيةً، وكثيراً ما اتفقت معه في الرأي، وكثيراً ما تغلب علينا الرأي المضاد).

وكان موقفه واضحاً أشد الوضوح في قضية تمثيل الجيش في مجلس القيادة عن طريق الانتخابات كان يوسف صديق ـ كما لاحظ عبد العظيم رمضان في كتابه عن أزمة مارس ـ في هذا يبدو موقفه الديموقراطي، حين سأله أحد الأعضاء عما إذا كان يضمن لنفسه النجاح في الانتخابات، أجاب يوسف صديق قائلاً:

ـ هذا لا يهم، إنما المهم هو الانتخاب ـ والمعروف أنه في أزمة إعدام خميس والبقري من عمال كفر الدوار كان يوف صديق (إلى جانب جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين ممن اعترضوا على هذا الإعدام.

كان يوسف صديق من الذين إذا رأوا في شيء أنه صواب يتمسكون به تمسكاً تاماً إلى درجة أنه حين قرر أن يقدم اتقالته قدمها غير سامع لتوسلات محمد نجيب قائلاً:

ــ أنا لا يمكن أن أرتبط مع مجموعة لا أوافق على سياستها.

ــ وحين حاول عبد الناصر التعويض عن هذا وفي الوقت نفه إرضاءه بتعيينه سفيراً للهند رفض، وتردد بعض المصادر أنه واجه عبد الناصر مواجهة عنيفة في ذلك الوقت.

وعلى هذا، فبعد أن قدم استقالته دخ في مسلسل استمر طويلاً من الاستبعاد فالنفي فتحديد الإقامة فالسجن دون أن تثنيه أية وسيلة عن القرار الذي كان يراه صالحاً.

كان عنيفاً في الحق.

غير مداور أو مناور. صريحاً أكثر ما تكون الصراحة.

ولهذا كله، ولغيره، كـان لابد أن يكون في موقف مواجه للضباط الآخرين وهم يتحلقون ـ في أغلبهم ـ حول عبد الناصر، ويؤثر أن يقف ــ كما لاحظ محمد نجيب ــ في جانب الأقلية التي كان يرى أنها على حق.

هذا هو الموقف الأول، أما الموقف الآخر، بعدذلك تحدد في خروجه إبان الصراع العنيف على السلطة بمطالب كتبها في شجاعة نادرة وقدمها لمحمد نجيب (وقد كان رئيساً للجمهورية) معدداً فيها فيها ما يجب أن يفعله الضباط الأحرار بعد نجاح الثورة، منتهياً إلى أحد حلين، أحدهما: دعوة البرلمان المنحل ليتولى حقوقه الشرعية، أما الآخر، فهو تأليف وزارة ائتلافية تمثل التيارات السياسية المختلفة القائمة فعلاً في البلاد .. إلى غير ذلك منتهياً بعبارات عنيفة.

وقد نشرت هذه الرسالة حينئذ في جريدة المصري في 24 مارس 1954.

ومن هنا، ظل يوسف صديق في طيلة حياته صلباً نبيلاً.

وهو ما يعود بنا إلى ما شاع بشكل كبير في الكتلة الشرقية وخرج من وكالات الأنباء والإذاعات هناك. ذهب إلى أكثر من مسئول وانتهى الأمر به إلى محمد حسنين هيكل في ذلك الوقت، وما كاد يجلس إليه حتى قام شأنه دائماً حين يغضب وقال:

ــ سوف أذهب الآن بنفسي إلى سفارة بلغاريا، لأقول لهم صراحة أن هذا الكلام الذي تردده إذاعاتهم لا يضر بنا قدر ضرره بهم .

وخرج غاضباً، فلم يكن ليعاني من العذاب وإنما من ابتعاده من القيادة أو المناصب أو المشاركة في الحم، وهي كلها مناطق حساسة آثر عبد الناصر أن يبعد عنها هذا الرجل الجريء.

ذهب إلى سفارة بلغاريا، دلف بسرعة سأل عن السفير، لم يجده، وجد سكرتير السفارة، صاح فيه أن كل ما يقال ليس له نصيب من الصحة، وأن حكاية (التعذيب) هذه غير صحيحة، أجاب سكرتير السفير:

أنه لا يستطيع أن يتحمل مسئولية نقل كلام إليه شفوياً ـ إلى حكومته.

أخذ يوسف صديق ورقة وجلس أمام المسئول البلغاري ليكتب فيها بالحرف الواحد هذه الرسالة:

(السيد المحترم القائم بأعمال السفارة البلغارية بالقاهرة

بعد الاحترام

مقدمه القائمقام "ح" يوسف منصور صديق" عضو مجلس الثورة السابق، أعرض الآتي:

دأبت إذاعة صوفيا في الأيام الأخيرة على ترددي اسمي في إذاعاتها في أخبار ليس لها ظل من الحقيقة.

فهي تزعم أنني معتقل وأنني ألاقي التعذيب في المعتقل ــ وتردد ذلك في مناسبات متعددة الأمر الذي دعاين للحضور بنفسي إليكم لتأكيد عدم صحة هذه الأخبار.

ولما كـان ترديد مثل هذه الإذاعات لا يفيد شعب بلغاريا ولا شعب الجمهورية العربة المتحدة فإنني قد أتيت لسيادتكم راجياً وضع حد لهذه الإذاعات البعيدة عن الحقيقة والتي من شأنها أن تعكر الجو بين شعبين صديقين يعملان معاً في معسكر السلام.

وأنني أرجو أن تقبلو تحياتي وشكري.

قائمقام أ.يوسف منصور صديق

وتنتهي رسالة يوسف صديق، غاضباً من القوى الخارجية التي تريد الإيقاع بأبناء الوطن الواحد وغن حمل في الوقت نفسه غضباً آخر، هو نبل الفرسان ووعيهم.

الفصل الثالث:إشكالية الديمقراطية وثورة يوليو

أهمية البحث

لا يمكن أن نتحدث عن "إشكالية الديمقراطية في الفترة الناصرية" دون أن نؤكد على أهميتها الآن، فرغم مضي أكثر من نصف قرن على تجربة عبد الناصر، وغياب (حلم الديمقراطية في الربع قرن الأخير .. فإن التوجه إلى الديموقراطية مهما تكن ممارساتها أو سلبياتها تسعى للخروج بنا من الماضي إلى وعي المضارع للوصول من ثم إلى أفق المستقبل .

فالمعروف أننا ل يمكن أن نحوّل التجربة إلى وعي معاصر لنا دون البحث عن علامات يمكن أن تُعيننا على فهم طبيعة الحضور والغياب في السعي إلى حياة سياسية مثالية .

بيد أننا قبل أن نصل إلى التجربة / الإشكالية هنا لابد لنا من أن نتمهل عند بعض الملاحظات التي تشير إلى المنهج الذي سعينا إليه هنا لفهم هذه التجربة وتجاوزها.

المنهج

المنهج الذي نمضي به يتكون من عدة مداخل تستمد مشروعيتها من عدة ملاحظات:

ـ أهمها ما جاء في شكل (محضر نقاش) أو شهادات قمت بتسجيلها وتحريرها في الفترة في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وبقيت في حوزتي ـ التسجيل والتحرير _ بعد أن رحل أغلب أصحابها.

وقد تعاملت معها كنموذج Paradingm, Type لممارسة الديمقراطية والتعامل معها بالسلب أو بالإيجاب .. وقد ركزت بشكل خاص على العلاقة بين المثقف والنظام لكن في إطار النموذج لا خارجه.

- وبدهي أن طبيعة هذه العلاقة بين النظام ومثقفيه (الشهادات) الدالة على الإشكالية التي نحن بصددها هنا، وهي إشكالية خاصة، جاءت نتيجة لمد تاريخي بعينه، فالفترة التي أعقبت ثورة 1952 تميت بالعلاقة بين المثقفين والنظام العسكري، تلك النظم التي دعمت نمطاً خاصاً بها اتجه في الغالب إلى الواحدية ـ لا التعددية ـ وتعامل مع الأحداث الواقعية ـ وليس المثال في الحياة السياسية والاجتماعية، ومن ثم طرأت علاقة من نوع خاص تحدد الإشكالية التي نحن بصددها.

كان الرصد، إذن، حول (العلاقة) لا المثال، جدلية هذه العلاقة في الواقع وليس فيما يجب أن يكون .. - تلمست عدة مداخل أخرى كالمدخل التاريخي Historical approach لدراسة الأحداث الماضية في إطار زمني عبر الشهادات التي بين أيدينا تبعاً للفترة الزمنية مجال البحث، ومنها أيضاً البعد الموضوعي في دراسة الظاهرة ما يوفر لي قدر كبير من الوعي بالظاهرة في إطار جهدت فيه أن أكون محايداً، ومنها كذلك، تحديد المفهوم Concept في الفترة الزمنية مجال البحث بشكل خاص قبل أن أجاوزها إلى غيرها.

- لا يمكن أن نفصل (إشكالية الديموقراطية) هنا في الفترة الناصرية عن أسئلة الإشكالية في بدايات الألفية الثالثة، فتجربة الخمسينات والستينات يجب ألا تكون غائبة عن أسئلة اليوم، وعصر النظام الذي كان قائماً إبان الحرب الباردة في القرن الماضي يختلف ـ وإن يكن في الظاهر ـ عن عصر العولمة الآن، فالواقع يحمل الكثير من المتغيرات، لكنه يحمل ـ بالقطع ـ الكثير من التشابه في عالمنا العربي حيث الأنظمة العسكرية مازالت توم بأدوارها في تأكيد طبيعة السلطة وآليات الحكم في البلاد العربية.

- إن الجديد هذه المرة أن أسئلة الديموقراطية في الفترة الناصرية لم تعد لتطرح من زاوية المنظور السائد، وإنما أصبحت تطرح من محاولة الإجابة عن السؤال (كيف) إلى ما يجب أن ننتهي إليه (لماذا)، وهو ما نسعى إليه عبر المنهج العلمي.

وإذا كانت الإشكالة معلقة منذ منتصف القرن، فإنها الآن أقرب إلى التحديد أكثر حين نضعها على النحو التالي:

هل للديمقراطية مستقبل في البلاد العربية؟ وما هو مصير الديموقراطية التي نتعامل معها؟

هل غابت الديموقراطية العربية المأمولة؟

هل ليت حتفها أم لا تزال تنتظر إجابة واحدة لمسائلات متعددة؟

فلنترك هذه الأسئلة الأخيرة لنتمهل ـ أكثر ـ عند السؤا الأول:

كيف نرى (إشكالية الديموقراطية) في الفترة الناصرية؟ ..

أولاً : عن الديموقراطية :

الديموقراطية قيمة من بين أهم القيم التي تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية في وقت واحد، وهي الوقت الذي تمثل فيه مفهوماً عالمياً ومن أقدم العصور، فإنها ـ تتحدد ـ بالنسبة لنا في العصر الحديث ـ بشكل أكثر تحديداً وضرورة، وفي ظل التباينات العديدة في المفاهيم التي تمنحها هذه القيمة، فإننا نستطيع تجاوز المعاني المتعلقة بالتباين الحضاري والديني إلى واقعنا العربي لئلا تغيب بعض الخطوط العامة للديموقراطية كما نريدها.

وعبوراً فوق مفاهيم عديدة للديموقراطية، فإن التعبير عنها عندنا يتحدد في البنية السياسية ثم البنية الاجتماعية والثقافية .. ويستخدم للدلالة على نظم الحكم التي تتمتع بقدر ملحوظ من الشعبية خاصة في الشكل الجمهوري.

ويتطور المفهوم الحديث أكثر خاصة في العالم الثالث حيث يرتبط بحق تقرير المصير بعد معارك الاستقلال، فبعد حصول الدول المستعمرة على استقلالها أعلنت نفسها نظماً ديموقراطية. وربطت ذلك بمضامين اجتماعية واقتصادية. ومعظم دول العالم الثالث "تعتبر أن هذه الجوانب الاجتماعية والاقتصادية أبلغ دليل على تبنيها نظماً ديموقراطية رغم أنها لا تأخذ بالمضامين السياسية القائمة على التعدد الحزبي ولا بالبرلمان النيابي صاحب الدور الإيجابي ولا بالحريات السياسية .

وتمنح الديموقراطية في العالم العربي خاصة مفاهيم أو عناصر ترتبط بالواقع الجغرافي أكثر يحددها د. برهان غليون على أنها تتعدد فيما يلي:

- سيادة القانون.

- ظهور أطر ومؤسسات سياسية.

- السيادة الشعبية.

- الحرية الفردية.

فالديموقراطية بعكس ما هو شائع عنها تماماً لا تُعني بالحرية السياسية الشكلية بصورة جوهرية ولكنها تعني مشاركة في جميع القرارات العمومية، أي السياسة، التي لا تتم من دون الحرية الفردية. فهذه الحرية هي الشرط الضروري لوجودها وتشغيل جميع عناصرها الأخرى. فلا يمكن تحقيق مبادئ السيادة الشعبية ولا الدولة القانونية ولا المؤسسة الموضوعية، وضمان اشتغالها جميعاً خارج جو الحرية الذي يتيح لجميع الأفراد ممارسة المراقبة والمحاسبة على أصحاب المناصب السياسية في الوقت نفسه.

وإذا كان للديموقراطية شروطاً معينة، فإنها لدينا في الأقطار العربية تتخذ منحاً خاصة، وفي النظم العسكرية العربية على وجه أخص؛ وهنا تتخذ الديموقراطية (إشكالية) خاصة بها عندنا .

فالتجربة الناصرية كانت لها مع الديموقراطية، في ظروف الخمسينات والستينات في مصر، سمة خاصة، حيث التبست التجربة بعديد من الظروف المحيطة بها سواء في بطء حركة المجتمع في اللحاق بالعالم ومن ثم افتقاد شروط المجتمع المدني أو مواجهة الاستعمار الذي كان جاثماً ما يزال على صدر البلاد، واتخاذ سمة الحكم المركزي شكل خاص في ضوء شيوع أفكار جديدة نتيجة للحركة العسكرية التي قامت ومن ثم مجابهة هذا العالم الجديد بنظامه الليبرالي السابق على عام 1952 وانعدام التعاون بينهما بشكل هادئ.

ويلاحظ ـ كما سنرى ـ أن التجربة الديموقراطية في ظل وجود المجتمع الجديد عانى من الناحية التنظيمية الطبيعية التي تحتمها الظروف الجديدة من محاولة الهيمنة على كل دولاب الحركة الإدارية والوظيفية والخشية من الحزبية أو النظام البرلماني السابق، ثم تأكيد هذه المركزية التي تتبلور عن "أوليجاركية" لا مناص أمامها من تفضيل سمات معينة عن غيرها في إدارة المجتمع، وما يرتبط بالفترة الناصرية أو النهج الناصري خاصة أنه ـ أي النظام الناصري ـ "بحكم دوره البارز في هذا المجال، إن ما تمتعت به ثورة يوليو 1952 من تأييد شعبي كاسح ـ ربما لم يتيسر لغيرها ـ لم تستطع قيادة الثورة أن تصبه في كيان سياسي منظم، ولعلها لم تشأ أو على الأل لم تهتم بذلك".

ويرجح البعض أنا استغنت عن ذلك بما سيطرت عليه من مقدرات جهاز الدولة، إدارة وأمناً وإعلاماً، واستخدمت كل ذلك، مع التأييد الشعبي غير المنظم، فضلاً عن نقاط الضعف في الحياة الحزبية، وذلك في تصفية الأحزاب، ولعل هذا النجاح قد أكد لديها منطق الاستغناء عن التنظيم الشعبي، أو على الأقل عدم الاهتمام به كعنصر ضروري للبقاء.

وعلى هذا النحو، فإن التجربة الناصرية في الديموقراطية التبست كثيراً في هذه الفترة خاصة أنها لم تكن قد تجسدت عبر ممارسات وصور سياسية ودستورية ثابتة، بل إن تطورها عبر سياسة التجربة أو الخطأ والصواب أثرت أكثر في تأكيد مركزية السلطة وارتباطها بالأطر المؤسسية الخاصة بها أكثر من (المثال) في التجربة الديموقراطية، وخاصة، في علاقاتها باثنين:

- عبر القوى السياسية التي كانت سابقة عليها من أحزاب ومؤسسات وسياسيين.

- عبر موقف القوى الثقافية أو المثقفين الذين يمثلوا إسهاماً واعياً (بالشهادة) هنا.

وهو ما يقترب بنا أكثر من هذه الإشكالية في علاقة النظام الجديد بمثقفيه خاصة وهو ما نحاول رصده في هذه (الشهادات).

ثانياً : قراءة "نقدية":

إشكالية الديموقراطية تتحدد عبر عدد من الممارسات التي تمثل قيماً تعبر عن الديموقراطية المفقودة أو الديموقراطية المأمولة في آن معاً .

وهي في الحالتين ترددت في عديد من شهادات المثقفين عبر مفردات كثيرة نختار منها الآتي:

(1) أهل الثقة وأهل الخبرة:

إن رصد العلاقة بين النظام ومثقفيه في الخمسينات والستينات يرينا أن النخبة الحاكمة في الفترة الناصرية كانت تحرص في ممارستها السياسية على (أهل الثقة) أكثر من (أهل الخبرة)، على أن تكون طبيعة العلاقة بينهما هي علاقة الولاء و(الأمن السياسي) في المقام الأول.

ولطبيعة الدور الذي كان يطلب من أهل الخبرة، فإن دورهم لم يتعد قط درجة (التعاون) مع النظام، وبرصد العلاقة بين الطرفين نستطيع أن نلحظ أن الهوة اتسعت بينهما بعد أزمة مارس 1954 بوجه خاص وتصل قمتها بعد حرب السويس عام 1956 (نهاية الفترة الليبرالية).

إن د. إبراهيم بيومي مدكور. وقد كان من كبار السياسيين والمثقفين قبل ثورة يوليو وشارك في بعض لجانها عقب الثورة مباشرة أكد أن النظام السياسي للفترة الناصرية حاول الاستفادة من المدنيين من أصحاب الخبرة بإشراكهم معه، غير أن التعويل الأول كان لصاحب الثقة، قال من حوار طويل معه:

(كان عدم الثقة بين الثورة وأهل الخبرة؛ بل إنني سمعت بأذني (جمال عبد الناصر) يقول إن الاقتصاديين يقولون كذا، وأنا أقول بالقطيعة واقعة لا محالة بين المدنيين والعسكريين، بين سياسيي قبل الثورة ومثقفيها والثوار من أبناء العهد الجديد وخبرائهم؛ من وقتها رفضت أن أشارك في السياسة، وانسحبت إلى المجمع اللغوي).

كان من الواضح أن ثورة يوليو حاولت الإفادة من خبراء أو فنيين الفترة السابقة فور قيامها بطريقتها الخاصة، ومراجعة المذكرات المرفوعة في ذلك الوقت ترينا أن وزير المعارف ـ وكان إسماعيل القبَّاني ـ يختار أسماء لجنة دراسة نظم التعليم الجامعي من بين أفرادها لطفي السيد وعبد الرازق السنهوري وإبراهيم مدكور وشفيق غربال ومحمد عوض محمد ومحمد خلف الله وعباس رضوان .. وغيرهم ممن حاولت الثورة الاستفادة منهم، لكنها ـ مع مضي الوقت ـ آثرت الاستفادة أكثر بأهل الثقة من حكومة الثورة.

وإذا كانت الفترة الناصرية في البدايات تجنبت أهل الخبرة ـ ولدى العلمانيين من الفترة الليبرالية السابقة ـ فإنها آثرت هذا، وأصرت عليه أكثر في السنوات التالية خاصة لدى رموز التيار اليساري، وربما كان الخلاف الرئيسي بين النظام والمثقفين في هذه الفترة يعود إلى المثقف الأيديولوجي كأهل اليسار حتى لو كانوا من أهل الخبرة عن النظام، حتى وإن كان عبد الناصر يميل بشكل شخصي إلى بعض أفكارهم، غير أن اللعبة السياسية كانت تحتم عليه أن يكون حريصاً ألا ينتموا إلى التنظيم الرسمي، فإذا انتموا بعد أن خرجوا من السجون، فكان بشكل فردي وبشروط محددة، أهمها أن يبتعدوا عن العمل (ككادر) ضد النظام القائم؛ إن أبو سيف يوسف في شهادته يؤكد هذا ويكرره لأكثر من مرة مع تغيير الألفاظ لا المعاني، إنه يقول على سبيل المثال بالحرف الواحد:

(كان عبد الناصر مستعداً لأن يتعاون مع الماركسيين في حدود أن يلتزموا بدور معين لا يتجاوزونه وهو أن يكونوا دعاةً ومبشرين بالاشتراكية).

وعلى أن يبتعدوا عن لعبة التواجد في مؤسسات السلطة المختلفة وفي موضع آخر، إن عبد الناصر قال للاشتراكيين حين جاءوا إليه شاكين من أنه يجري تمييزاً عنيفاً ضدهم في الاتحاد الاشتراكي بعد أن أصبحوا أعضاءً في حزب الثورة فُرادى وكانوا قد خرجوا من السجون بعد حل الحزب الذين انتموا إليه، قال من حديث طويل: (يجب أن تكونوا كسانت بيتر، أي بشروا بالاشتراكية، أي ابعدوا عن السعي إلى السلطة وبشروا بالاشتراكية).

وفي شهادة د. إسماعيل صبري عبد الله كان يردد هذا طويلاً معي، ومما قال:

(عبد الناصر كان يتعامل معنا كماركسيين، وكان يودُّ أن يستوعب في الجهاز الطليعي كل رموزنا الفاعلة وإن يكن بشكل فردي .. و ... وأذكر أن عبد الناصر في حوار معنا قال: الناس التي تعمل بالسياسة خايفين منكم، بيقولوا لو أننا فتحنا الباب هاتكلوا التنظيم السياسي . وضحها بهذه الصراحة والوضوح، وقال أنتم صنعتم التبشير بالاشتراكية مثل القديس سانت بيتر).

ويسهب حول إيثار عبد الناصر والمحيطين به (أهل الثقة) ممن لم يكن التيار اليساري ينتمي إليهم، وهو هنا يسجل هذا الحوار:

(قال عبد الناصر لأبي سيف يوسف) :

- وأنت يا أبو سيف، اترشحت فين؟

- لم أترشح.

- والله جدع.

وهو ما يعني أن عبد الناصر كان حريصاً على ألا يزج باليسار إلى (أهل الثقة) مهما تكن كفاءتهم حرصاً على النظام الذي ينتمي إليه، وهو ما يعني أن عبد الناصر كان مهتماً بأهل الثقة، لكنه في الوقت نفسه لم يكن ليترك لهم الحبل على الغارب، وإنما كان يتعامل معهم انطلاقاً من اللعبة السياسية أن يكون النظام حريصاً على رموزه الواعين لسياسته؛ الموقف الواضح من خلال الشهادات يشير إلى اتخاذ هذا الموقف الرافض لكل العناصر السياسية التي تنتمي للعنصر السابق من يسار وإخوان ووفديين ويساريين.. إلخ

واياً كان اسم هذا الموقف الذي يتخذه النظام، فقد كان الهدف في النهاية يؤدي ـ كما يردد إسماعيل صبري عبد الله:

(الموقف هو الحرص على آليات السلطة وافتقاد الديموقراطية..)

بل إن محمد سيد أحمد يـؤكد أن عبد الناصر كان قد اقترب من الشيوعيين لسنوات لكن على مستوى الفكر (لا كادر قط)، ولا بأس أن يكون الشيوعيون هنا عنصر (إثراء وتصحيح) ـ على حد قوله ـ لكن ما كان يهمه قبل أي شيء كما يضيف محمد سيد أحمد هنا هو:

(مسألة الولاء، قضية عبد الناصر كانت هي الانتماء السياسي، كان يعتقد أن انتمائنا إليه كان يثري النظام والتنظيم الرسمي، لكن أن ننضم فرادى بدون تنظيم، ولذلك حين دخلنا "التنظيم الطليعي" كنا قد حلننا التنظيم الشيوعي، وربما كان عبد الناصر هنا يشير إلى أن يكون للشيوعيين تنظيم سري، لكن أن ينتهي عند سامي شرف، أي ـ بشكل ادق ـ كان الولاء هو الذي يحدد السلوك السياسي له).

(الأكثر من هذا أن فكرة "أهل الثقة وأهل الخبرة" كانت هي الضية المحورية في العلاقة بين النظام والمثقفين حينئذ).

مُسهباً كثيراً حول هذا التوجه.

وقد يكون لويس عوض أكثر من عبر عن هذا التوجه لعبد الناصر، فبعد أن أشار لعديد من السلبيات التي تحسب لعبد الناصر أضاف (اقتلعت الثورة الناصرية، بحل كافة التنظيمات السياسية، وتحريم كافة التجمعات المنظمة، وتجريم كافة التجمعات غير المنظمة، وإقامة حياتنا السياسية على مبدأ تحالف قوى الشعب العاملة داخل وعاء واحد تسيطر عليه الدولة هو هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي، اقتلعت الثورة الناصرية حق الأفراد في التفكير السياسي وحريتهم في العمل السياسي، وبعد أن جردت الثورة المصريين من حقوقهم السياسية وعزلت الشعب المصري برمته عزلاً سياسياً إلا من سار في مسيرتها بالولاء الشخصي و..) غير أن ذلك كله يمكن تفهمه حين نتفهم موقف النظم العسكرية في بلد كمصر بنظام الحزب الواحد أو الهيئة الواحدة وراقبت أفرادها أو تحمست (لأهل الثقة) فيهم لكن لهدف أساسي حرصت عليه والأخطار تحيق بها، هذا الهدف يكون محاولة استكمال الهدف الثوري، هدف الإصلاح الثوري السريع الحاسم.

كانت القضية هي (أهل الثقة وأهل الخبرة) لكن مضمونها الأكثر دقة كان يشير إلى الولاء أكثر منه إلى إيثار الخبرة هنا وهناك .. والتأني في الإصلاح السياسي لمواجهة القوى السياسية المعادية في الداخل ـ الليبراليين السابقين ـ أو في الخارج ـ الإنجليز ثم التحدي الصهيوني وراءه المساندة الرأسمالية الأمريكية .. بيد أن هذا يظل له ـ مع التقادم ـ ثمناً لابد من دفعه.

(2) حرية التعبير :

ترددت في شهادات المثقفين أيضاً قضية التعبير، وهي إن تكن قد ارتبطت بقضية الولاء بشكل ما، فإنها تحددت أكثر في منح قدر كبير من حرية التعبير في التجربة السياسية في الفترة الناصرية، ومن يرصد لكتابات هذه الفترة يلحظ إطلاق هذه الحرية في القضايا التي لا تطوي فكراً وأيديولوجيا مغايرة للنظام، أي المثقف الذي لا ينتمي بوضوح لأي انتماء سياسي مضاد للنظام القائم، كأن ينتمي للأجهزة التي تهاجم النظام بشكل مباشر، وفي صدد حديثه عن الحالات التي كان يحرص النظام فيها على المحافظة على السلطة؛ وقد كان أهم هذه السبل تجريد أعداء النظام أو (الشرعية الثورية) من أسلحة كثيرة لعل من أهمها عند عبد الناصر سلاح (الصحافة).

رأينا كيف أن عبد الناصر لم يكن ليطبق حرية الرأي التي تعتمد على أيديولوجية مناهضة له خارجة عن الولاء و(الأمن) السياي خاصة في تياراتها الليبرالية أو الدينية أو الشيوعية؛ وعبوراً فوق ملابسات بلغت درجة كبيرة انطلاقاً من رؤية النظام الناصري نفسه، وتحت مظلته. ومن هذا المنطلق بدت حرية التعبير السياسي تمضي في تيار (الولاء) ولا تنهض ضده .. وهنا توالت شهادات كثيرة.

ونحن نعلم أن عبد الناصر رفض مصادرة كتاب (الديموقراطية أبداً) لخالد محمد خالد، ورغم الخلاف الذي كان يبدو بين خالد محمد خالد والنظام، فإن هذا الأخير لم يتردد أن يذكر بالثناء هذه الدرجة من حرية التعبير التي جاءت إليه لأكثر من مرة ومن أعلى سلطة في النظام، إنه يدلي بهذا في شهادته منذ البداية عقب أحداث الفترة الأولى من مجيء الثورة، يقول:

(كان أول ما فعلته، أن أغلقت غرفتي على نفسي بالمنزل، واستعنت بالله جاهداً كي أنجز في أقرب وقت كتاب "الديموقراطية أبداً".

وبالفعل، أنجزت هذا الكتاب في عشرين يوماً فقط.

كنت أرى بوضوح أنني في صراع مع الثورة التي بدأت عهدها المجيد ـ كما يطلع عليها ـ بالديكتاتورية؛ وقلت في هذا الكتاب ما أريده صراحة حول الديموقراطية:

كيف غابت عن حياتنا؟

ولماذا حدث ما حدث؟

وانتظرت ما سيحدث، فإذا بي أمام نشر الكتاب، وعلمت ـ فيما بعد ـ أن بعض الضباط بادروا بالفعل بمصادرة الكتاب، غير أن عبد الناصر رفض المصادرة..)

كان التعبير السياسي لا غبار عليه مادام لا ينطلق من كادر سياسي أو موقف أيديولوجي وما يقال عن تأكيد الحرية السياسية للتيار الإسلامي، يقال كذلك لبقية التيارات.

ففي شهادة لإسماعيل صبري عبد الله، ذكر ولأكثر من مرة، أنه لم يكن ليعاني من الحرية في التعبير السياسي بأية حال: (حين خرجنا من السجن وبدأنا نكتب في مجلة "الطليعة" كانت هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى نقد Critique، وقد كنت أكتب في حرية مطلقة وأعبر عن نفسي بغير قيود، وقد لاحظنا أن الكثيرين يسألوننا لماذا يترككم النظام تكتبون بهذا الوضوح وتلك الحرية).

ويفسر السجين اليساري (السابق) أنه بعد الخروج من السجن لم ننتم لتنظيم ضد النظام القائم كما أننا حرصنا من ناحيتنا بدقة ألا ندخل في صراع الشلل السياسية حول عبد الناصر).

وهو ما يردده بشكل ما محمد سيد أحمد في شهادة أخرى، فحين وضعت أمامه السؤال: راح يجيب بوضوح: (هل توفرت حرية التعبير السياسي ـ بعد حل التنظيم ـ كماركسيين مصريين؟

- طيلة حياتي لم أشعر قط بالقيد وأنا أكتب في الصحف ــ كالأهرام مثلا ــ كنت أمنح حرية الكتابة تماماً، الشيء الوحيد الذي عانيت فيه من الكتابة بوضوح كان قضية (الصراع العربي الإسرائيلي)؛ وكان السبب أن الحديث الصريح يترتب عليه التزام أو موقف و.. كتبت الكثير عن عيوب الديموقراطية وعيوب الاشتراكية وإن كانت الرسالة تتوجه للطليعة أو للمثقف الواعي لما أريد..).

معنى هذا أن عبد الناصر لم يهتم بالمثقف على صعيد الكلام النظري العام، غير أنه راح يوجه بعنف شديد الذين انتموا إلى تنظيمات أو أحزاب انطلاقاً من توجههم الخطر.

وحتى بعد أن خرج الشيوعيين من السجون كان عبد الناصر يترك لهم حرية التعبير لكن لا يترك لهم حرية العمل السياسي وإن يكن بشكل فردي او جماعي، والتعبير عن هذا بالكتابة في الصحف.

غير أن المثقف من ذوي التيار العقيدي كان يرتبط باللعبة الدولية، ومن ثم، كان يضاف إلى محظور الانتماء لكادر سياسي داخلي الميل إلى لعبة السياسة الخارجية، ومن ثم، ينتفي إطار حرية التعبير السياسي، ويكتفي عبد الناصر بمرجعيته في العلاقة مع المثقفين في (الولاء) .

بيد أننا نحن هنا نشير إلى أن حرية التعبير كانت لها حدود معينة؛ فمن الشائع لدى البعض أنه لم يعتقل صحفي او مثقف يعمل بالكتابة خلال حكم عبد الناصر، كما لم يضيق عبد الناصر الخناق على صاحب (رأي) مجرد، ومن اعتقل في الفترة الناصرية كان يعود في تفسيرة إلى نشاطات غير صحفية.

وفي جميع الحالات، فإننا يمكن القول أن عبد الناصر لم يكن ليسمح لأحد قط، في جميع الحالات، أن يعبر بما يسيء إلى النظام من منطق خارجي (أعداء الأمة العربية) أو من الداخل (عبر كوادر وتنظيمات معادية)، وفي النهاية، كان حريصاً على أن تكون (جبهة النضال الداخلي) في صراعه مع الأعداء في الخارج أو الداخل .. جبهة متينة صلبة .

فلم تكن المعركة لتسمح بالصراع في وجود صراع مصيري بين الأمة وأعدائها الكثيرين.

وهو ما ننتبه إليه أكثر حين يتحول الاهتمام من حرية التعبير السياسي إلى حرية التعبير الاجتماعي ـ الديموقراطية الاجتماعية.

وهو ما ننتبه إليه أكثر حين يتحول الاهتمام من حرية التعبير السياسي إلى حرية التعبير الاجتماعي ـ الديموقراطية الاجتماعية.

ولا نستطيع أن نتحدث هنا عن الشهادات التي تتحدث حول الحرية السياسية دون أن نتمهل أكثر عند الحرية الاجتماعية، فمراجعة شهادات العديد من معاصري هذه الحقبة من المثقفين أو السياسيين نرى أن الديموقراطية كانت هي الحرية السياسية أما الاشتراكية فكانت الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بينهما ولا يمكننا الحديث طويلاً عن الجانب الاجتماعي وكيفية تحقيقه لدى شعوبنا دون التنبُّـه إلى الخبرة السياسية في التعامل مع الديموقراطية.

ننقل هنا شهادة أمين هويدي التي تناثرت في أكثر من مقالة أو كتاب فيما بعد، يقول:

(إن الحرية السياسية في الديموقراطية ليست نقلاً عن واجهات دستورية موضوعة كذلك فالحرية الاجتماعية أي الاشتراكية ليست تطبيقاً جامداً لنظريات وتجارب الآخرين ولا نزاع في أن النظام السياسي في الدولة هو انعكاس مباشر للشئون الاقتصادية السائدة فيها وتعبير حقيقي دقيق عن طبيعة المصالح التي تتحكم في اقتصادها فإذا كان الإقطاع هو القوة الاقتصادية التي تتحكم في دولةٍ ما فإنه لا شك في أن الحرية السياسية فيها سوف تقتصر على الإقطاعيين فما دام هؤلاء يتحكمون في المصالح الاقتصادية فإنهم سوف تكون لديهم القدرة على فرض الشكل السياسي للدولة).

إن العلاقة بين السياسي والاقتصادي علاقة جدلية لا يمكن الفص بينها في القضية الديموقراطية، وهو ما ننبه إليه عدد كبير من مثقفينا من شتى التيارات، يقول إسماعيل صبري عبد الله عن فترة تطور الحزب الشيوعي المصري قبل ثورة 1952 وبعده، في شهادته:

(كان عندنا في الأصل القضية الوطنية واستقلال مصر هي البداية والنهاية في الكفاح ضد المستعمر، أما البعد الاقتصادي الذي نما لدينا وتعمق فينا، هو البعد الجديد الذي تطور في ذلك الوقت ..

إن هذا البعد الأخير للديموقراطية أعطى لنا بعدين:

البعد الأول : أن الاستعمار ليس ظاهرة سياسية فقط، وإنما ـ أيضاً ـ ظاهرة اقتصادية في الأساس الأول ..كنا نقول وقتها أن الجلاء عن مصر لابد أن يكون عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.

كنا نقول هذا ولم نكن لنعرف ــ كما تؤطر فكرنا الآن ــ أن مفهوم (التنمية المستقلة) هو من أهم واجبات الوعي الديموقراطي، حتى بعد أن استقلت بلادنا.

بيد أننا ابتداء من البعد الاقتصادي اكتشفنا أن تشابك المصالح بين الفئات "البرجوازية الكبيرة المصرية والمحتلين" وقد كان القصر في ذلك الوقت البعيد يعرف منا كراهية شديدة لأنه يقوم في سياسته على الاستبداد السياسي، ولأنه معاد للوفد السياسي، ومع الاختلاف بين القصر والأحزاب من آن لآخر، تعمق لدينا في هذا الوقت البعيد الجانب السياسي دون التنبه إلى القدر الكافي للجانب الاجتماعي.

غير أننا حين عرفنا العلاقة الأكيدة في الوعي بالديموقراطية، ونقصد بها الجانب الاقتصادي، أدركنا، إلى أي مدى يمكن أن يكون الاقتصادي والاجتماعي من ضرورات الوعي بالديموقراطية.

إلا أننا، أدركنا تماماً ذلك ونحن نتحدث عن الطبقة البرجوازية الكبيرة التي كانت تتحالف مع الاستعمار ويعتمد عليها من آن لآخر، ويستدعيها.

وابتداء من اليقين الذي تولانا، فقد عرفنا أن الاستعمار كان في الأساس بلاء اقتصادي، لقد بحثنا وتوصلنا جيداً عمن يستفيد من الاستعمار، وتعرفنا على العامل الاقتصادي.

ومن هذا المنطلق كانت تحالفاتنا قبل الثورة نحن الماركسيين مع الوفد .. كان هناك الوعي الاجتماعي ينمو ويتطور داخلنا.

وعبوراً فوق أحداث كثيرة في النضال الوطني في الأربعينات، كان لدينا الوعي إبّان المظاهرات أن نتجه إلى العمــال ــ لا إلى صر عابدين فقط ــ كـان الوعي الاجتماعي بدأ يتطور في أعماقنا .. ومن هنا، لاحظنا أن عناصر ماركسية نشطة كانت تتحرك بين العمال بوعي اجتماعي واقتصادي، ومن هنا، ظهرت الفكرة الجبهوية في مصر "جبهة مصر" وهي اللجنة الوطنية للطلبة والعمال الذي كـان لها سكتيرين عاملين: فؤاد محيي الدين وحسن كاظم.

كان الاتجاه نحو الجماهير والعمال لا الملك.

وعلى هذا النحو، توصل التنظيم الجبهوي إلى أهمية العامل الاجتماعي الاقتصادي، وهو ما تطور معنا أكثر في الخمسينات والستينات حين أدركنا أهمية البعد الاقتصادي والاجتماعي في بناء الديموقراطية).

بل إن شهادة إسلامي واع مثل خالد محمد خالد كانت تؤكد النضج الشديد في الربط بين السياي والاجتماعي في البحث عن الديموقراطية .

ورغم أن الجانب السياسي أكثر ما يلحظ في كتاباته، فإن الجانب الاقتصادي تسلل رويداً رويداً إلى هذه الكتابات، إنه يقول: أمّــا الرئيس عبد الناصر في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1961، وهو ما أكــده لنا في شهادة خاصة:

(..إن النظام السياسي والاقتصادي مرتبطان أجل إنهما مرتبطان. ونحن حين نقول النظام الاشتراكي. إنما نعلن ذلك لنقسم طريقنا تماماً كما نقول: حرية الكلمة، حرية التصرف، حرية الملكية، حرية التجارة .. كل ذلك مسميات لشيء واحد هو الحرية.

إن الاشتراكية والديموقراطية شيء واحد، لأن الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة، بل يؤثر فيها ويحركها كما قال سيادة الرئيس، وهذا ما يدعوني إلى ان أحفز في نفسي الإيمان بالديمقراطية..).

وهو مــا كرره كثيراً عدد كبير من المثقفين حينئذ من شتى التيارات، وأكــده عبد الناصر كثيراً قبل هذا وبعده.

ملاحظات أخيرة :

وبعد، هذه أمثلة من الشهادات حاولنا خلالها الإجابة عن السؤال (كيف؟) حول واقع (إشكالية الديموقراطية) في هذه الحقبة في الخمسينات والستينات .

والسؤال (كيف؟) يصل بنا لا محالة إلى (لماذا؟) وما يرتبط به من الوعي بالماضي وصولاً إلى فهم الحاضر للوصول، من ثم، إلى إرهاصات المستقبل والعمل له؛ فإذا كان الإدراك القيمي للديموقراطية يعني أن النظام الديموقراطي يجب أن يتحدد بتمثيل الأغلبية عبر مؤات ودساتير واستفتاء حر فضلاً عن ضرورة السماح بحرية التعبير السياسي وترشيد الواقع الاجتماعي .. وما إلى ذلك، فإن القضية تظل في حالة التمهل عند فهم الماضي (لماذا؟) التأمل عبر الوعي بالحاضر للوصول ــ كما أشرنا ــ إلى الإجابة عن تصور ديموقراطي مثالي للمستقبل.

وعلى هذا النحو، لابد من العودة لهذه الإشكالية في الفترة الناصرية ونحن أمام هذا الواقع الذي ولد أزمات لابد من التمهل عندها أكثر:

(1) أزمة الواقع :

"فقد تحددت الفترة الناصرية بسمات معينة كان على رأسها الشخصية الكارزمية للزعيم، وتحولت الديموقراطية إلى (إشكالية) مع الأخطار الداخلية في مواجهة الاستعمار وتحدي الصهيونية فضلاً عن وراثة نظام سابق لم يجد النظام الجديد أمـامه سوى الاصطدام به كفساد الأحزاب وشتات من القوى المتصارعة إلى غير ذلك.

وأما هذه التحديات التي واجهت النظام في الخمسينات كان لابد أن تتماهى شخصية الحاكم مع الإرادة الشعبية خاصة في دولة مركزية كمصر. تلعب فيها الظاهرة المركزية دوراً كبيراً ينسحب فيها السلطات التنفيذية ويفسرها المجتمع الأبوي وما ينجم عنه من السيطرة على رأس النظام، هذا وغيره يرينا أن شخص الحاكم متداخل في وعي جهاز السلطة وفي وعي الجماهير، مع شخصية الدولة، ولهذا فإن الولاء السياسي يظل في المقام الأول، ولاء لشخص الحاكم الأعلى، والخلاف مع شخص هذا الحاكم، الذي تطلق عليه كثير من الأنظمة القيادة السياسية تجهيلاً لحقيقته وتلاعباً بالمصطلحات والألفاظ في أمــر لا يحتمل التلاعب، هذا الخلاف يصنف على أنه خلافٌ مع الدولة ونقص في الولاء".

ومهما يكن من تبريرنا لنظام يوليو، فمما لا شك فيه أنه حال دون قيام مؤسسات سياسية وأحزاب كان يمكن أن تلعب ــ مع التطور ــ دوراً ما في التخلق الديموقراطي.

لم يكن دراسة الواقع يحمل لنا هذا فقط، وإنمـا أكـد شهادات هذه الفترة من المثقفين خاصة.

(2) أزمة الحرية :

وما يقال عن قضية الولاء يقال عن أزمة الحرية السياسية، فالتعبير السياسي أصبح ـ بالتبعية ـ تابعاً لنتائج الكارزمية والظروف المحيطة بالبلاد، فقد بدت قضية الحرية تابعة للمركزية.

ولا نريد أن نُسهب هنا كثيراً، غير أنه من المؤكد الآن أن حرية التعبير السياسي لم تمض دائماً في الطريق الديموقراطي، فرغم أننا وجدنا صوراً كثيرة لجرع التعبير السياسي؛ كما شهدنا في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني في بداية الستينات عبر الكثير من المثقفين، ووجدنا كذلك في عديد من نشر الروايات والأعمال الأدبية التي تفتقد النظام وإن يكن تحت مظلة النظام، فإن رصد التجربة يرينا أن كثيراً من صور التقييد السياسي في هذا المجال نالت الكثيرين في الممارسة، وقد وصلت إلى درجة الحبس في حالة مصر بالنسبة للصحفيين ومضت إلى حالة الرقابة اللاحقة على المطبوعات، وهو ما وجدناه في حركة التنظيم السياي والنقابات المهنية والعمالية .

الأكثر من هذا إن حرية التعبير ضاقت خاصة لدى المثقفينن الأيديولوجيين مع الوقت، فمع أننا نلاحظ في الحقبة الأخيرة أن ثمة حالات تمارس وجودها من خلال الديموقراطية في بعض الأقطار العربية (كما نرى في بعض الأقطار المغارية) فإن المجال كان متسعاً أيضاً للحديث عن التضييق في حرية التعبير بل وممارسة التعذيب وعدم احترام القضاء أو تنفيذ أحكامه .. إلخ.

إنها أزمة الحرية التي مثلت أحد وجوه الفترة الناصرية، والتي مازلنا نعاني منها حتى الآن .

(3) أزمة المجتمع :

وكما لم تمارس الحرية السياسية في أكثر من جانب بالقدر المفروض، كذلك استبدل أو عُمق فرضياتها بالقدر الكافي للديموقراطية الاجتماعية، فرُحنا نسمع عن مجتمع الكفاية والعدل، ورُحنا نلاحظ تركيزاً كبيراً ومستمراً في خطابات الرئيس عبد الناصر عن ضرورة اختيار طريق العدل الاجتماعي قبل أن نبحث عن الطريق السياسي في الديموقراطية، ورحنا نلاحظ التطور عبر المؤسسات الاقتصادية (الإصلاح الزراعي 1952 وتأميم قناة السويس 1956 والمشاريع الأنجلوفرنسية 1957 .. إلخ).

إن ممارسات الدولة ـ مهما تكن المركزية ـ لم تكن لتسمح بنظام ليبرالي يعمق الديموقراطية، وخاصة وقد "أضافت المفاهيم والأساليب التي حكمت التطورات الاقتصادية والاجتماعية أوضاعاً مؤسسية جديدة تكاملت مع النسق السابق وصبت في رصيد سلطة الرئاسة".

إن النظام تشكل في الخمسينات وفق اعتبارات المناخ القائم الذي كان يهدد الواقع العربي بالتحديات الخارجية والداخلية، وهو ما يفسر كيف اكتسبت ظروف الفترة الناصرية مشروعيتها السياسية، بل وتلاحم الأمة حولها.

(4) أزمة المثقفيــن :

لا يمكن أن نوجه النقد فقط للنظم السياسية، وإنما أيضاً للمثقفين، فشهادات المثقفين أنفسهم كانت تشير إلى أننا لا يمكن أن نعفي أغلبهم من حالة (انفصام) مع النظام، بل مع مواطنيهم.

إننا في الفترة الناصرية لم نفقد هذا التقصير لدى المثقفين خاصة من معاناتهم من قضايا كالولاء أو التركيز على الأيديولوجية المحددة لهذا المثقف أو ذاك، خاصة، وأن المثقفين كانوا خارجين من الفترة السابقة لثورة يوليو ــ الفترة الليبرالية ــ ولم يحسموا مواقفهم بعد من التطورات التي قد تطرأ على المجتمع.

لقد رأينا توزيع مثقفي اليسار بين الرفض والتأييد عقب قيام الثورة، وحينما احتدمت الأزمة بين محمد نجيب وبقية الضباط الأحرار كان اليسار على حد تعبير أو سيف يوسف "متوزعا على منظمات عديدة .. (و) .. لم يكن لدى المثقفين "الديموقراطيين" على اختلاف تياراتهم مشروع يوحد (أو يرفع التناقض) بين قضية التغيير الاجتماعي و"الصيغة الليبرالية" التي تخدمها أو تصادر عليها".

(5) أزمة العولمة :

ويبدو أن (إشكالية الديموقراطية) مازالت تلقي بشباكها في عصر العولمة مع تغيير المناخ وزيادة وطأة الآليات الجديدة في عصر (عولمة العسكرة) خاصة في المجال الاقتصادي، فمن الملاحظ أننا بين عدد كبير من النخبة الثقافية بوجه خاص تتكامل مع آليات العولمة بازدواجية لابد من التنبه إليها حيث يندمج الاقتصاد المحلي في الاقتصاد العالمي الكلي ليؤدي دوراً مرسوماً ومحدداً له عبر هذه القلة من المثقفين التي "تعيش في وضع مالي متميز من كل النواحي وتقوم بتعليم أولادها في مدارس وجامعات أجنبية عادةً ـ أمريكية ـ هي التي تستفيد من مظاهر الديموقراطية السياسية، فإن الغالبية العظمى من الشعب وبسبب ضغط ظروف المعيشة لا يفكرون مطلقاً في مظاهر هذه الليبرالية السياسية خاصة أن الوعي بها متدن جداً.

الأمر الذي يعني ــ كما يلاحظ أكثر من مثقف ـ أن ممارسة الديموقراطية هُنا ستكون مقصورة على النخبة وأولادهم.

وهذا له مخاطر كبيرة، فإلى جانب العودة ـ مستقبلاً ـ إلى نظام سياسي تتحدد فيه القيم الديموقراطية الواعية في عصر العولمة للحفاظ على الدولة والوعي بمقدراتنا الاقتصادية خاصة، فإذا بنا نفقد ـ مع الدخول في منظومة ـ ومما يعيد بنا الفترة الناصرية مع تزايد (إشكالية الديموقراطية) التي تتخذ الآن أبعاداً أكثر سوءاً وأقل وعياً بالتطورات العالمية بعد عاصفة مانهاتن بوجه خاص.

الفصل الرابع: الثورة والقانون / عبد الناصر والسنهوري

ما هي طبيعة العلاقة بين الثورة والقانون؟

في هذا الإطار نعيد طرح السؤال عبر أسئلة أخرى:

كيف تجسدت العلاقة بين رموز الثورة وأهم رموز القانون حينئذ؟

وهل حرضت الثورة على الاعتداء على السنهوري؟

وكيف يمكن الحكم على مواقف الثورة في هذه الفترة المضطربة في تاريخنا الطويل؟

هذه الأسئلة الحائرة طرحت أكثر من مرة على مدى نصف قرن، ورغم تعدد طرحها، وتباين الإجابات حولها، فإننا لم نجد إجابة واحدة مانعة لها كما يقول المناطقة؟

ورغم أننا، في السعي إلى إجابات كثيرة، مازلنا نفتقد الوثيقة أو نعاني من حجب المعاصرة في هذه الفترة، فإن نصف قرن بعد كافياً ليقدم لنا بعض ما يؤكد هذا الفرض أو ينفيه.

وهو ما نحاول الإجابة عنه الآن.

لقد كانت مصر تحيا الفترة السابقة على ثورة يوليو حالة من الغضب والفوران؛ ولم تكن مواقف الثورة وتداعياتها المتسارعة غير تعبير عن هذه الفترة.

وقد كانت العلاقة بين الثورة والقانون ـ بالتبعة ـ غير جزء دال من هذه الفترة.

وقد مرت العلاقة بين الثورة والقانون فى الخمينات فى عدة دوائر تحددت معها العلاقة فى نهاية هذه الفترة من التعاون إلى الصدام إلى التخبط والاعتداء .

وكان الاعتداء على السنهورى يعنى تداخل حركة الدوائر فى مركز واحد.

دائرة التعاون

ومن هنا، كان أول فعل للسنهورى ـ كغيره ـ فور قيام الثورة مسايرتها والتعاون معها، ولم يكن هذا الموقف مشيناَ، وإنما لجأ إليه الكثير من المثقفين والسياسيين الواعين بقصد التمهل لتفهم مواقف الثورة واتجاهاتها، فضلا عن أن قيام مسئول كبير مثل السنهوري بالتعاون مع الثورة كان بقصد أن يحتويها أو يردها إلى الطيق الصحيح إذا شطت، وهو عمل في حد ذاته ـ في وقته ـ يمكن النظر إليه بكثير من التقدير.

لقد كان السنهوري يعرف بحدته ورصانته طيلة الأربعينات خاصة، وهي الصفات التي عرف بها حين كان وزيراً مسئولاً في عدة وزارات (وزيراً للمعارف العمومية (وزارة النقراشي 1945 ـ 1946 / والثانية 1946 ـ 1948) ثم وزيراً للأوقاف في وزارة إبراهيم عبد الهادي 1948 ــ 1949) ورئيساً لمجلس الدولة (من أوائل عام 1949)، أو بين زملائه وعارفيه، أو على صفحات الصحف برسومها القاسية وأعمدتها الجادة.

من هنا، كان لقاؤه مع شباب الثورة والعمل معهم .. إماناً بهم أول الأمر، وترويضاً لجموحهم فيما بعد، ولم يكن خضوعاً لإرادتهم بأية حال، ومن يعرف شخصية السنهوري جيداً يؤيد هذا الرأي ولا يرجعه ـ كما يردد البعض ـ إلى انتصاره للحزب السعدي الذي كان منتمياً إليه ضد الوفد.

وحتى على فرض أن السنهوري لم يستطع أن يروض من جنوح هؤلاء هؤلاء الشباب وغلوائهم لصراعاتهم المتباينة، فإنه سعى بهذا الموقف إلى أن يعد مصالحة بين القانون والثورة.

وإذا كان بعض المثقفين يتهمون النهوري اليوم بأنه أيد الثورة تأييداً مطلقاً أو ذهب إليها ساعياً فإن دارس هذه الفترة يلاحظ أن الثورة فور قيامها سعت إليهم هرولة في أول الأمر، وقرارات هذه الفترة وإعلامها وقراراتها كانت عود إلى رأي المثقفين.

إذن، فالتعاون مع الثورة أول عهدها لم يكن عيباً يمكن أن نشير إليه أو نلوم صاحبه عليه.

نقول هذا لعديد من الكتاب والمؤرخين الذين راحلوا يلومون السنهوري في أول قيام الثورة إلى (التعاون) معها أو مسايرتها في كثير من الأمور، فالتعاون لم يكن بالنسبة لمثقف مثل السنهوري ضرورة اقتضتها ظروف هذه الفترة وتغييراتها، ولم يكن ليستطيع رجل مثل السنهوري أن يكن غير ما كانه.

كان السنهوري يسعى ـ عبر ما يمثله من القانون ـ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وكانت الثورة ــ بصراعاتها وتكوين أصحابها ــ ماضية في طريق محفوف بالمخاطر والمصاعب. وكان لابد أن يعقب المسايرة التعاون فالتأييد المحسوب، والدخول في جدلية الحركة المستمرة في السنتين الأوليتين قبل أن تعصف بالمثقف رياح الصراعات التي هبت على الثورة بشكل عنيف.

فلنتمهل أكثر عند بعض صور هذا الاتفاق قبل أن نصل إلى صور الافتراق.

كان علي السنهوري رئيس أعلى هيئة استشارية أن يتهاون مع النظام الجديد في وقت كانت (الحركة المباركة) ــ كما أطلق عليها فور قيامها .. أن تحاول التهاون مع المثقفين أو الإفادة منهم.

من أمثلة هذا التعاون أن السنهوري كان أول من اشترك في صياغة وثيقة تنازل الملك عن العرش يوم رحيل الملك عن البلاد، وما كاد الملك يرحل عن البلاد في 26 يوليو 1952 حتى راح يهم بشكل فاعل في تشكيل مجلس الوصاية على العرض.

والحاصل أن حل مشكلة الوصاية على ملك صغير يقتضي أن يجتمع البرلمان بمجلسيه: مجلس الشيوخ ومجلس النواب خلال عشرة أيام على الأكثر من تاريخ إعلان وفاة الملك؛ فإذا كان مجلس النواب منحلاً، وكان ميعاد انعقاد المجلس الجديد يجاوز اليوم العاشر، فإن المجلس القديم يعود للعمل رغم مرسوم حله، وذلك حتى يؤدي الملك الجديد ـ إن كان يافعاً ـ سن الرشد، أو يؤدي أوصياء العرش إن كان قاصراً اليمين الدستورية أمام البرلمان بمجلسيه.

وهنا اختلفت وجهات النظر حول قضية الوصاية وعلى وجه التحديد حول وجوب دعوة البرلمان للانعقاد خلال عشرة أيام من تاريخ إعلان التنازل عن العرش لاختيار الأوصياء على العرش وتمكينهم من أداء اليمين الدستورية ليمارسوا صلاحيتهم.

وبالتباين في الآراء: هل يستعجل دعوة البرلمان .. أم يتم الاستغناء عن ذلك؟

المهم هنا أنه اتفت كلمة مجلس الوزراء وقادة حركة الجيش بزعامة محمد نجيب على عرض المشكلة الدستورية على مستشاري قسم الرأي بمجلس الدولة لاستطلاع وجهة نظرهم والنزول عليها.

واجتمع السنهوري مع أعضاء المجلس، ووافق الجميع ــ عدا د. وحيد رأفت ــ على عدم جوار دعوى مجلس النواب المنحل في حالة نزول الملك عن العرش، ويجب إجراء انتخابات جديدة.

وبدلاً من هذا اقترح قسم الرأي بالمجلس أيضاً طالما أن الانتخابات ستأخذ وقتاً غير قصير، فالحل يمكن أن يكون في إيجاد نظام للوصاية المؤقتة، وهو ما يستدعي إضافة مادة إلى الأمر الملكي رقم 52 لسنة 1932 تنص على أنه في حالة نزول الملك عن العرش وانتقال وصاية الملك إلى حـالة خاصة، يجوز لمجلس النواب إذا كـان مجل النواب منحلاً، أن يؤلف هيئة للعرض من ثلاثة تتولى بعد حلف اليمين أمام مجلس الوزراء سلطة الملك إلى أن تتولى هي هيئة الوصاية الدائمة.

تقول وثائق هذه الفترة أنه "اقترح السنهوي نصاً جديداً يعالج خصيصاً هذه الحالـة .. حالة نزول الملك عن العرش وانتقال وصاية الملك إلى صفة خاصة، وفي وقت يكون فيه مجلس النواب منحلاً .. وتم بهذا استبعاد دعوة هذا البرلمان إلى الانعقاد كما كان يقتضيه الدستور القائم لو قيست حالة تنازل الملك عن العرش حـالة وفاته، إذن فإن جاء مجلس الوزراء إذا كـان مجلس النواب منحلاً أن يؤلف هيئة وصاية مؤتة للعرش يختارهم .. (و) .. تتولى هيئة الوصاية بعد حلف اليمين أمام مجلس الوزراء سلطة الملك إلى أن تتولااها هيئة الوصاية الدائمة.

وإذن، ابتدع الوصاية المؤقتة بالوصاية الدائمة.

وعلى هذا النحو، أمكن تجنب دعوة البرلمان الوفدي للانعقاد.

وهنا، يثار سؤال:

لماذا آثر السنهوري ـ عبر أكبر مؤسسة دستورية ــ هذا الموقف؟

الإجابة ـ في رأيي ـ أن السنهوي حاول أن يجني البلاء غلواء الثورة، وكان يميل أن يأتي إلى الشبان بنوع من الإصلاح الراديكالي بحيث يتواءم فيه مع غلواء العهد الجديد وليس بالضرورة الصدام معهم.

كان القانون متمثلاً في السنهوري يسعى للتصالح مع الثورة وترويضها بدلاً من الصدام الذي يمكن أن يخرجه من الساحة فيترك الأمور على غاربها.

ونحن هنا لا ندافع عن السنهوي أو ندفع عنه تهمة (عدائه للوفد) التي كانت برأي البعض وراء اتخاذ هذا الموقف، فلا يمكن أن يكون موقفه القديم من الوفد ، وهو موقف مخالف ـ هو وحده، وراء (التعاون) الذي أظهره في هذا الشأن، وإذا كان يقال ذلك على إطلاقه علي سليمان حافظ، الذي تؤكد المصادر التاريخية أنه "لم يكن يخفي كرهه لمصطفى النحاس رئيس الوفد وبطانته"، فإننا لا نستطيع أن نول مثل ذلك على السنهوري، فلم تكن واعي النكاية بالوفد وحدها وراء هذا الأمر، كما لم يكن ليحمل ما يدفع به القضاء على الحياة الحزبية تماماً، بدليل أنه كان أول من دعاء للبقاء على الأحزاب، كما أن آخر مقالاته في الصحف كانت تدعو إلى عودة الأحزاب، ويؤكد هذا د. وحيد رأفت أنه كان أكثر من غيره لوماً للدكتور السنهوي، فرغم تصريحه أو اعترافه بعد ذلك بإلقاء اللوم على السنهوري، فإنه نفى أن يكون موقفه من الوفد هو السبب الوحيد وراء جعل "حلف يمين الأوصياء المؤقتين أمام مجلس الوزراء بينما يؤدي الأوصياء الدائمون تلك اليمين الدستورية أمام مجلس البرلمان مجتمعين حسب نص المادة 52 من دستور 1932 "أو" وراء تجنيب دعوة البرلمان الوفدي للانعقاد".

وعلى هذا راح السنهوري يسعى للتعاون ــ التأييد بالضرورة ـ مع الضباط، فبعد إعداد وثيقة التنازل والإفتاء بعدم دعوى البرلمان راح يوافق على قانون الإصلاح الزراعي ويشترك فيه، كما لم يتردد في ترشيح رئيس الوزراء من بين العسكريين مؤثراً على نفسه، بل ويشترك في إصدار تقرير اللجنة الخماسية لبحث نظم الحكم ثم يوحي بإعلان الجمهورية، بل لا يتردد في الاتصال بالإخوان لإصلاح ذات البين مع ضباط الثورة، ومن وراء ظهر الضباط يوم 26 مارس 1954.

ولأن طبيعة الأشياء أن يخلف الخلاف الاختلاف، فقد دخلت علاقة السنهوري بالضباط في دائرة أخرى، إنها دائرة محكمة كان يحتم فيها الصدام.

دائرة الصدام

رغم أن البقاء مع الثورة كان يمثل اتجاهاً يصل إلى أقصاه .. فإن طبيعة السنهوري القانونية كانت تحول بينه وبين أن يتحول إلى (أداة) في يد النظام الجديد.

كان القانون بالنسبة إليه هو أقصى ما يطمح إليه ويتمسك به.

ولم يكن التعاون مع النظام الجديد ليـحول بينه وبين تقديم تنازلات لقناعاته القانونية، ومن ثم، كان لابد أن يحدث الخلاف في هذه الفترة المضطربة.

وقبل أن نشير إلى درجة الخلاف لابد وأن نشير إلى أن هه الفترة بين عامي 1952 ــ 1954 ؛ كانت مرحلة تتصارع فيها أضداد كثيرة ومتباينة: الأحزاب القديمة وصلت إلى مفترق الطرق والثورة وصلت إلى قبضة التغيير / القوى القديمة لا تملك السلطة والقوى الجديدة لا تفلتها / القوى البريطانية تجهد للبقاء والولايات المتحدة الأمريكية تسعى لمنطق الإزاحة / مفاهيم الديموقراطية تتناقص / قوى الصراع تتحول بين قديم وجديد .. وبالإجمال كانت هناك قوتان تتصارعان ..إرادتان متصادمتان.

كان لابد أن تتصاعد حركة الدراما لأقصاها إلى نقطة الصدام.ولأن الاتفاق مع قوى ون أخرى في ذلك الوقت كان مستحيلاً، ولأن السنهوري جهد أن يروض القوى الجديدة ويستعير من القوى القديمة أفكارها المثالية في الحرية والديموقراطية، ولأنه حاول أن يتفادى الغلو والعنف إلى التغيير والإصلاح ولأن قضية السنهوري الرئيسية أن يحول الثورة إلى القانون. أو كان حلمه أن يمضي مع الثورة الفتية التي تخول القانون بمنطق يخلو من الغلو والعنف.

لهذا كان لابد أن يحدث الصدام.

ورغم ما كان يبدو من نقاط اتفاق بين السنهوري ورموز النظام الجديد، فقد بدا مؤكداً نقاط الافتراق..؛ وقد ظهرت دواعي الافتراق منذ فترة مبكرة بين الدكتور عبد الرازق السنهوري رئيس مجلس الدولة وبعض رموز النظام، وكيف أن الدكتور السنهوري سوف يتخلى عن منصبه.

توالت الإشاعات إلى مواقف غامضة ــ وهي كثيرة ــ نظراً لطبيعة المرحلة وتشابكها ـ كأن يستقيل السنهوري ــ فجأة ــ من عضوية اللجنة العليا للإصلاح الزراعي بعد انضمامه لها وتحمسه الشديد إليها أول الأمر. ومع ذلك، لا يقال شيء أو تفسير مقنع لهذا.

وتتعدد الخلافات وتتحدد مع مضي الوقت، وتتصاعد درجات الصراع بين الثورة والقانون .. وتتعدد مشاهد الصراع أكثر.

ــ كان السنهوري حريصاً أشد الحرص على أن يقنن كل ممارسات الثورة وإجراءاتها في إطــار (قانون) أو (قرار) كيلا تغيب المشروعية، وتستقم الأمور بعيداً عن الارتجالية والتخبط ويلحظ أن من كان يجرؤ أن يسلك مسلكاً غير معبد من رجال الثورة، لم يكن ليتردد إزاءه في اللوم، كان كثيراً ما يقول أن هذا خروجاً عن المبادئ الستة والتي كان يطيب له أن يسميها (عقد الثورة).

كان يقول هذا للجميع دون أي تردد وكان يقال هذا باسم القانون دون تردد.

- حرص السنهوري على الدعوة إلى إعادة الأحزاب القديمة على العكس مما هو شائع .. وخاصة، في الأيام الأولى من قيام الثورة، وحتى الأيام الأخيرة من شهر مارس عام 1954 .. فمن الثابت أنه راح يعارض مشروع قانون لتطهير الأحزاب السياسية تقدم به سليمان حافظ ـ وزير الداخلية في ذلك الوقت ـ بدعوى "أن العرف الدستوري لتنظيم الأحزاب هو ترك الأمر لها".

- غير أنه تحت إلحاح وزير الداخلية وإقناعه لضباط مجلس قيادة الثورة، وافق على مضض، وإن كان أضاف شرطاً يقول فيه "على ألا تتدخل الإدارة إلا عند الاقتضاء لتحقيق أغراض القانون، وإنما سيكون تدخلها تحت رقابة مباشرة من القضاء بمجلس الدولة".

القانون مازال يغالب.

ــ حين انتهت قرارات لجنة نظام الحكم والسلطة التنفيذية والتشريعية حينئذ بأن يكون تأليف البرلمان من مجلسين، وأن يترك تحديد عدد أعضاء كل من المجلسين إلى لجنة قانون الانتخاب .. راح السنهوري يدعو إلى ضرورة تأليف مجلس الشيوخ من ثلاث عناصر :

أ- التعيين والكفايات.

ب- الانتخابات للمصالح الاقتصادية.

ج- الانتخاب لمجلس البلدية ومجالس المديريات.

ومازال القانون يغالب.

ــ في أزمة مارس 1954 بين نجيب وعبد الناصر، والذي راح يعود فيها إلى حياة ديموقراطية أو يتظاهر بهذا .. فإن السنهوري حـاول استعادة أحد أوجه الحياة الدستورية على غير رغبة النظام.

لقد اقترح ــ بصراحة شديدة ــ على الضباط إعادة دستور 1923 فوراً لأنه يشعر بالقلق؛ فإن هذا الحل مازال القانون يغالب.

وتضاف إلى أسباب الخلاف أسباب أخرى خلّفتها أحداث الاعتداء على السنهوري بين يومي 26_29 مارس فلنشر إلى الاعتداء خطفاً قبل أن نرقب تغيير مشاهد الصراعبين القانون والثورة .. بين السنهوري والنظام الجديد.

نشرت أخبار اليوم صبيحة يوم الاعتداء خبراً كاذباً مؤداه أن السنهوري تولى رئاسة الجمعية العمومية لمجلس الدولة، وأن الجمعية على وشك إصدار قرار ضد مجلس الثورة وضد الإجراءات التي اتخذها المجلس فيما يتعلق بالحريات.

والرواية التي تشير إلى الاعتداء على السنهوري ـ كما جاءت في المراجع الموثوق بها ــ تبدأ من مظاهرة مديرة تقوم من مبنى هيئة التحرير، مكونة من عمال مديرية التحرير وضباط وجنود البوليس الحربي تحت قيادة حسين عرفة قائد المباحث العسكرية وعدد آخر من قادة البوليس الحربي مع قوات الحرس الوطني ومنظمات الشباب.

ونفضل أن ننقل الأحداث بعيون د. السنهوري نفسه هنا:

(ـ.. اتصل بي تليفونياً الدكتور حسن بغدادي ــ وزير التجارة والصناعة ــ وسألني عما نشر في جريدة "الأخبار" فأظهرت له ارتياحي لهذا السؤال لأنه أتاح لي فرصة في توضيح الحقيقة للمسئولين، وأفضيت له بالغرض من الاجتماع على الوجه السابق ذكره، وأضفت أنني أستحسن أن يقوم هو بإبلاغ من يراه من المسئولين عن حقيقة الأمر، فأجاب أن البكباشي جمال عبد الناصر بجانبه وهو يتحدث بالتليفون فطلبت منه أن يحدثني البكباشي جمال عبد الناصر، وأعدت له ما ذكرته للدكتور البغدادي، وعلم على هذا الوجه بحقيقة اجتماع الجمعية العمومية لمجلس الدولة، وانتهى الحديث التليفوني وكان أهم مصدر علم منه بخبر المظاهرة ضابطاً عرفت فيما بعد أنه الصاغ حسين عرفة ــ وكيل البوليس الحربي ــ فقد دخل علي في غرفتي في الساعة الثانية عشرة والربع وقد ارتسمت على وجهه علامات غير طبيعية من الانزعاج.

وقال أن هناك مظاهرة عدائية قادمة إلى مجلس الدولة وقد أتيت لأخطرك بها، ولو قال لي وقت ذاك أن المتظاهرين كانوا ينادون بعبارات علمت فيما بعد أنها "الموت للسنهوري ــ الموت للخائن ــ نريد رأس السنهوري"، ثم علمت أيضاً أن الهتافات كانت تقرن اسمي باسم علي ماهر، لو علمت بكل هذا، وكــان الضابط حسين عرفة يعرفه ــ لأيقنت تماماً أنني سوف لا أواجه مظاهرة من الشجاعة البقاء لمواجهتها، بل سأواجه عصابة من السفاكين، من التهور البقاء أعزل لملاقاتها، ولكني على وجه اليقين دبرت الأمر على وجه آخر وأخبرني الضابط حسين عرفة أن رأيه إزاء هذا أن أبقى في مكتبي حتى يقدم المتظاهرون، وعند ذلك أخرج إليهم وأتحدث بحقيقة الأمر فينصرفون .. ويضيف (حسين عرفة) أني علمت أن المتظاهرين إذا حضروا إلى المــركز ولم يجدوك فيه فسيتعقبونك في كل مكان حتى في المنزل فمن الأفضل البقاء في المكتب لملاقاتهم .. في نحو الساعة الواحدة بعد الظهر أدركت المظاهرة المجلس .. وعلمت أن الضابط حسين عرفة أمر بفتح الباب الخارجي للمجلس وكان مقفلاً ــ وقادني بيده إلى خارج الغرفة، وما كدت أخطو خطوة نحو السلم حتى شعرت بأن بعض المتظاهرين يجذبني من الخلف، وأن آخرين يدفعونني إلى الأمام، وذلك كله قبل أن أصل إلى المكان الذي كنت أقدر أن أخاطب فيه المتظاهرين، فهنا علمت أن الأمر ليس مظاهرة أخاطب فيها المتظاهرين بل أمر اعتداء مبيت، وما لبث المتظاهرون أن دفعوني دفعاً إلى الحديقة، وتوالى الاعتداء على رأسي وكنت أدفعه بيدي فجرحت الرأس واليدان، ورأيت أحد المتظاهرين ومعه حديدة طويلة يصوبها إلى عيني..، واستطعت بعد وقت غير قصير الاتصال بالبكباشي جمال عبد الناصر، وقلت له أن عندي المتظاهرون يريدون قتلي، فأجاب أن الأعصاب متوترة، وقلت له أن يحضر بنفسه، وكررت هذا الطلب فقال سأحضر، وأقفلت التليفون وبقيت مدة نصف ساعة حتى حضر الصاغ صلاح سالم..، وقد سمعت إشاعات كثيرة أن ممن اعتدى علي في المجلس صولات جيش مرتدين ملابس بلدية، ولعل الذي أخبرني بهذه الإشاعة الأستاذ محمود لطفي السكرتير العام للمجلس، ومما سمعته أيضاً من الإشاعات أن الصاغ صلاح سالم خرج إلى المتظاهرين ليقول لهم كيف تعتدون على السنهوري وهو ليس بخائن، قالوا له ولماذا إذن أسلمتموه لنا للاعتداء عليه..؟.

ومما سبق يتضح أن المظاهرة كانت مدبرة من جهة ما، وأنها سارت في طريقها لا تنوي على شيء حتى وصلت إلى مجلس الدولة على أثر خبر ملفق، وأكد لي البعض أن هذا الخبر جاء من وزارة الداخلية، وأنه لم يكن ليستطيع أحد أن يرفض طلباً من الداخلية، فإن الداخلية في هذا الوقت كانت هي مجلس قيادة الثورة كما هو معروف .

والواقع أن ما حدث كان تدبيراً، وهو تدبير قوي متعمد، لا خبطات عشوائية ــ فمقولة أن الجمعية العمومية كانت على وشك الانعقاد قولاً كاذباً، فإن دعوتها في هذا اليوم لم يكن لإصدار أي قرار وإنما كان بدعوى لترشيح مستشار لمحكمة القضاء الإداري بدلاً من آخر، كما أن الجمعية لم تكن قد انعقدت بعد، ولم يحن الموعد المقرر لانعقادها، وإنما كان السنهوري في ذلك الوقت يرأس مداولة الدائرة الأولى لمحكمة القضاء الإداري. وهنا نصل إلى تماس الدوائر وتداخلها إلى مركز واحد، يعني مركز الاعتداء.

اعتداء الثورة على القانون حيث سادت سمة الاضطراب ونحن نسأل عن أهم الرموز القانونية حينئذ د. السنهوري:

من اعتدى على رئيس مجلس الدولة في هذه الفترة؟

وعبوراً فوق اجتهادات كثيرة، فأنا لا أريد طرح قضية الاعتداء على الدكتور السنهوري بهدف الإجابة عن السؤال الظاهر:

ــ أي فريق اعتدى عليه: هيئة التحرير أم الحرس الوطني أم منظمات الشباب؟

وإنما أحاول أن أجيب ــ بل هذا ــ عن سؤال آخر هو:

ــ هل كان وراء الاعتداء على السنهوري قصد مدبر بالفعل؟ وإذا كان كذلك، فهل كان عبد الناصر وراء ذلك، أو ـ على الأقل ــ يعلم ذلك؟

ــ أم أن الاعتداء على القانون من رموز الثورة كان يصب في فعل الصف الثاني من الضباط الأحرار حيث كان يتصرف من تلقاء نفسه دون العودة إلى جمال عبد الناصر؟

بشكل مباشر، وأكثر وضوحاً، فإنني أميل إلى الرأي الأخير.

لقد انتىه الصراع بين الثورة والقانون بغلبة الثورة وإن يكن تحت إلحاح الفترة وتأمين أصحاب الشرعية الجديدة في الشارع المصري.

لقد انتهى الصراع بين الثورة والقانون إلى غلبة النظام والاعتداء على أعلى سلطة دستورية في البلاد وهنا نقترب أكثر من تداخل الدوائر إلى نقطة المركز.

دائرة الاعتداء

الواضح من ملابسات الأحداث في ذلك الوقت أن السنهوري رئيس مجلس الدولة كان يتمتع بمكانة فريدة، دفعت بالكثيرين في أوقات كثيرة إلى أن يعرضوا عليه رئاسة الوزراء (على سبيل المثال: محمد نجيب، سليمان حافظ..) ورأى البعض أنه سعى منذ فترة مبكرة إلى أن يتخذ موقفاً محدداً لا مع محمد نجيب ولا مع جمال عبد الناصر، هذا هو الموف المتحرر من أية ضغوط وإغراءات معاصرة.

وفي جميع الحالات، فإن مكانة السنهوري المتميزة، فضلاً عما يتمتع به من استقلالية حددت حياد القانون إلى حد كبير مثلت عليه الخطر الكبير.

بيد أن الخطر الحقيقي أنه خشي منه، لكل هذه الحالات أن تكون له أغراض في السلطة، أو أنه يمثل خطاً مــا في فترة الاضطراب بين من ينادون بالديموقراطية مع محمد نجيب أو الداعين ــ في الوقت نفسه ــ إلى عودة الضباط إلى الثكنات.

ومن ها، تتحدد أكثر مسئولية الصف الثاني من الضباط.

ولا يخلو من معنى هنا أن المظاهرات التي بدأت في نهاية مارس تهتف ضد السنهوري كانت تردد ما يفهم منه أنه جرؤ على مؤازرة محمد نجيب وتشجيعه على التعجيل بدعوة جمعية وطنية تأسيسية منتخبة لإقرار مشروع الدستور الذي أعدته لجنة الخمسين، وإنها الفترة الاستثنائية القائمة منذ فجر 23 يوليو 1952 .. وهو ما يدفعنا للإسهاب أكثر.

والواضح من ملابسات الأحادث أن العلاقة بين السنهوري وبقية الضباط ــ بما فيهم محمد نجيب ـ كانت في أول الأمر ودية، غير أنه مع مضي الوقت، وكشف الأحداث عن كثير من المخبوء من مطامع .. دفع بالسنهوري إلى الانحياز إلى محمد نجيب الذي كان يدعو في صراعه مع الضباط إلى الديموقراطية.

لقد كان محمد نجيب ــ على الأقل في الظاهر ــ يدافع عن الجبهة الديموقراطية، بدليل دفاعه عن الأحزاب والدعوة إلى إعادة دستور 1932 في فترة من الفترات، كما أن كتابات السنهوري بالأهرام قبل الاعتداء مباشرة كانت تشير إلى الديموقراطية وعودة الأحزاب بأية شكل.

وهذا الانحياز لم يمنع السنهوري من أن يلوم نجيب في "المرحلة الأخيرة" على حد قول سليمان حافظ، ومع ذلك فإن وعي السنهوري وحنكته القانونية تنفي الموافقة على رأي سليمان حافظ بانحيازه إلى نجيب. ويزيد من ملابسات الموقف ان البعض كان يعتقد أن السنهوري يستطيع بالتحالف مع أكثر من جهة من الانفراد بالحكم ومن السيطرة عليه، خاصة وأن محمد نجيب كان قد رشحه لرئاسة الوزارة المدنية، ومحمد نجيب كان الخصم الوحيد حينئذ، كما كان السنهوري دائم الترشيح من جهات أخرى سياسية ومناوئة للنظام لمناصب أخرى، خاصة أن السنهوري في ذلك الوقت كان قد بلغ من الشهرة حداً كبيراً لاسيما وأن استفتاء أجرى قبل الثورة مباشرة أجمعت فيه الآراء على أن الوزارة التي تحتاج إليها البلاد (النموذجية) إنما يمثل فيها السنهوري (وزير العدل).

نصل من هذا كله إلى أن حادث الاعتداء على السنهوري هو حادث مدبر: إن اضطرابات هذه الفترة إذن تحيلنا إلى عديد من الأطراف التي يمكن أن تكون وراء هذا الاعتداء: ربما كان أحد ضباط الصف الثاني من الضباط، أو ربما للتخبط العشوائي من الجهات الكثيرة التي كانت تعمل لأطراف كثيرة حينئذ. وفي هذا السياق، يشير خصوم عبد الناصر أنه كان وراء هذا الاعتداء.

إن ثمة إشارات عامة تشير ــ ضمن ما تشير ــ إلى عبد الناصر، لكنها لا تمتلك الحجة والمنطق .

إن أمامنا شهادات لكثير من شهود هذه الفترة سواء أكانوا بعيداً عن مجلس قيادة الثورة أو قريباً منه من زملاء عبد الناصر، وعلى سبيل المثال فإن عبد اللطيف البغدادي يشير إلى أن عبد الناصر اعترف بأنه هو الذي دبر أحداث انفجارات يوم 20 مارس قبل هذا بقليل لإشعار الناس بفقدان الأمن إذا عادت الحياة الديموقراطية، الأكثر من هذا أنه بسؤال خالد محيي الدين عن أحداث اضطرابات العمال المؤيدة للثورة في 26/29 مارس الفترة التي اعتدي فيها على السنهوري قال:

ــ أخبرني عبد الناصر أنها تكلفت أربعة آلاف جنيه.

ويشير سياق الأحداث كذلك أن السنهوري كان قد أجرى اتصالاً تليفونياً بعبد الناصر حين علم أن جماعة معادية في طريقها إلى مجلس الدولة، وأخبر عبد الناصر تليفونياً قبل وصول هذه الجماعة طالباً منه ــ كوزير داخلية حينئذ ــ اتخاذ التدابير الكفيلة بوضح حد للاعتداء عليه.

وعلى هذا النحو، فإن الأصابع لا تشير ــ بوضوح ــ إلى أن عبد الناصر كان وراء الاعتداء.

إن مراجعة الأحداث بحيدة كاملة ترينا أن عبد الناصر ما كان ليستطيع ــ في هذه الفترة المضطربة ــ الاعتداء على السنهوري، كما أنه لم يكن صاحب مصلحة مباشرة في هذا الاعتداء .

ومع هذا، أو رغم هذا، إذا كان عبد الناصر بريئاً من هذا الاتهام، فهل كان ـ على الأقل ـ يعلم بتوقيت المؤامرة، ولم يكن ليتحرك لوقفها.

وحتى إذا كان متهماً، فإننا لا يمكن أن نصدق أن أحداً من رجال الصف الثاني ـ وقد كان بالقطع وراء ما حدث ـ قادراً على إبلاغ عبد الناصر لما سيفعله مع غيره، وإنما خرجت جموعهم في اضطرابات عامة، لأهداف عامة أو خاصة، ليست من بينها ـ بالقطع ـ الاعتداء على رئيس مجلس الدولة. وبشكل أدق ليس من بينها قط الاعتداء على رئيس مجلس الدولة بإيعاز من عبد الناصر.

ويمكن أن يقال هنا أن عبد الناصر لم يكن ليعلم بهذا، ولو علم ما كان باستطاعته وسط كل هذه الفوضى وذلك الاضطراب أن يفعل شيئاً لمنعه أو وقفه .

إن روايات هذه الفترة متضاربة إلى حد بعيد، ففي حين تشير الأحداث أنه "في 12 إبريل نوقش ـ في مجلس القيادة ـ إصدار قرار مجلس الثورة بحرمان كل شخص من تولي الوظائف .. وأن الغرض منه هو التخلص من السنهوري من مجلس الدولة بطريق غير مباشر"، في حين أن عبد الناصر في أكثر من مرة بعد ذلك حين عرض القانون أمامه وذكر السنهوري على أنه سيطبق على السنهوري امتعض عبد الناصر لم يعلق.

ونصل من هذا كله إلى أنه أسفر عن هذا القانون ـ بالفعل ـ أن حرم السنهوري من تولي الوظائف العامة أياً كانت الوظيفة، وانتهت العلاقة بين القانون والثورة بانتصار الشرعية الثورية التي كان السنهوري أول من نادى بها، فوقع تحت عجلاتها.

ومهما يكن، يتبقى أن نوجز هذا كله بعدة ملاحظات: - إن السنهوري كان ابن طبقته المتوسطة، وابن عصره، وفي حين كان ابن الطبقة المتوسطة يدافع عن العلمانية من دستور وحرية وديموقراطية، فإنه كان حريصاً على جانبها التشريعي، ومن ثم، كان لابد أن تختلط الشرعية الدستورية بالشرعية الثورية التي روج لها .

ومن ثم، انتهى التعاون إلى الصدام بين السلطتين.

ولأن الفترة كانت فترة اضطراب، فقد سقطت السلطة الأولى أمام السلطة الثورية.

كان الزمن يدخل بنا إلى الشمولية بعيداً عن الشرعية.

وهي شمولية اقتضت التطورات في الخمسينات أن يعمل بها لتحسم كثيراً من القضايا المعلقة من الفترة السابقة. - يمضي في هذا الاتجاه أن اتجاه السنهوري قبل الثورة كان اتجاها فكرياً أكثر منه حزبياً، ومن ثم، لم يستطع أن يظل (كادراً) في أي حزب، وإنما غلب انتماؤه القانوني ـ فيما بعد ـ للفكر الليبرالي أكثر من الحزب والانتماء الشمولي.

الاتجاه الليبرالي بق الاتجاه الحزبي.

والاتجاه الليبرالي حاول اللحاق بالأفكار الديموقراطية والحزبية إلى النظام الجديد، غير أن طبيعة المرحلة لم تمكنه من تأكيد فكره السياسي، ومن ثم، خر صريعاً أمام ضباب الفترة وشموليتها.

- يلاحظ أن القانون سعى للتعاون مع الثورة ومسايرتها.

وكان الهدف ـ وإن بداً غريبا ـ فقد كان نبيلاً.

أن ينجح في جر قاطرة الثورة إلى الفكر السياسي المعتدل.

غير أن (أبو القانون المدني المصري) لم يستطع أن يلعب دوره الرائد في زمن كانت الحروب تدور باسم الديموقراطية والليبرالية وحب، كما أن عداءه زاد حنقهم حين أجرى استفتاء بإحدى المجلات المصرية حول أقوى رجل في مصر، فجاء ترتيبه الثاني.

ولم يكن هذا كله مطلوباً في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الثورة: لا القانون الذي تناول الديموقراطية، ولا الرجل القوي في زمن كان الصراع يعلو فيه بين رجال أقوياء سعوا إلى السلطة.

وقبل هذا كله في مناخ مضطرب لم يستطع القانون أن يثبت أقدامه فيه.

- كان الصراع بين السنهوري والضباط الأحرار هو صراع بين القانون والثورة.

- لقد جهد القانون ليحول الثورة إلى الحكم بوسائل، غير راديكالية، غير أنه في محاولته للتعاون مع الثورة طوراً ومسايرتها طوراً آخر وقع تحت عجلات هذه الثورة.

- لقد حاول أن يتواءم مع آليات النظام في حركته الثورية ليؤكد ذاته، في حين أن القانون ــ مهما التمس القيم الديموقراطية أو الفردية ــ يمكن أن يلعب دوراً معوقاً، ومن هنا كان عبث التعاون بين القانون والثورة مؤكداً.

باختصار، بدا أن الصراع بين القانون والثورة في بداية الخمسينات هو صراع غير متكافئ. القانون بصرامته لم يكن ليجدي مع الثورة بشرعيتها الجديدة والمسايرة للقانون مع الثورة ــ وسط كل هذا الاضطراب ــ كان قميناً أن يسقط بصاحبه تحت العجلات، وإن لم يسع أحد إلى دفعه أو النيل منه .

فقد استبدلت الثورة راديكالية المناخ السائد بالشرعية الثورية، ولم تكن في حاجة إلى شرعية أخرى تحول بين حركتها الفاعلة ــ بقوة ــ إلى التعبير، الجذري العنيف.

وهو حال الثورات في أول قيامها، دائماً.

الفصل الخامس: عبد الناصر وتأميم القناة

هل أخطأ عبد الناصر في تأميم قناة السويس؟

هذا سؤال من أسئلة عديدة مازالت تطرح ـ بعنف ـ على العقل العربي رغم مضي كل هذه السنوات على تأميم القناة وما أعقبها من العدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر بسبب ــ وهو السبب الأول الظاهر لتأميم القناة ـ والسؤال الذي يطرح هذا بسوء نية أو حتى ـ بحسن نية ـ لعدم فهم الظواهر التاريخية يعود إلى اتهام عبد الناصر بأن مبادرته إلى تأميم القناة إنما كان مبعثها سبب واهٍ، أو بتقدير يعوزه الوعي وهو ما يعود بنا إلى الأسئلة السقيمة المعادة أو المرتفعة فوق رؤوسنا كصخرة برومثيوس .

هل حقاً تسرع عبد الناصر؟ يرددون .. أم هو ـ يرددون أكثر ـ بحثه عن (بروباجندا) تتيح له كاريزما أكبر؟!! ولم تكن هذه الأسئلة الرافضة لموقف عبد الناصر تطرح من أقلام عادية، وإنما كان وراءها أصوات يتمتع أصحابها بحيثية سياسية عالية، وأحياناً بحيثية أدبية وثقافية عالية أكثر.

ـ ولماذا لم ينتظر عبد الناصر حتى ينتهي أجل الاتفاقية بين مصر وبريطانيا بعد ذلك لسنوات قليلة؟ ماذا لو..)..؟

وهو ما نحاول هنا، بعد مضي نصف قرن على ثورة يوليو الإجابة عنه لنحاول ..

إن مراجعة قصة حفر القناة والتضحيات التي عاناها المصريون في سبيلها ترينا أنها كانت في المقام الأول مصرية بحكم الجهود البشرية التي بذلت فيها التضحيات التي دفعتها البلاد من أبنائها.

بل إن التفكير في حفرها المرة الأولى لم تكن عن فكرة فرنسية أو غربية كما يردد؛ فالتاريخ يؤكد أنها حفرت مرات في عصر سيتي الأول 1310 ونخاو عـام 610 ق.م. ودارا الأول عـام 510 ق.م إلى غـير ذلك مما يشير إلى أن المرة التي تم فيها احتكار حفرها في العصر الحديث من ديلسبس (30 نوفمبر 1854) الذي كان يشق قناة السويس لم يكن الأول في دوره "لشق برزخ السويس واستخدام طريق صالح للملاحة الكبرى" إلى غير ذلك من مواد فــرمان الامتياز الأول قرب منتصف القرن التاسع عشر.

وتوالت الفرمانات والاتفاقيات الدولية التالية (يناير 1856، فبراير 1866). وغيرها مما يشير إلى بدهيات أن القناة وإن جاء بفرمانها الفرنسي ديلسبس وتوالت اتفاقات وضمانات الدول الكبرى وفي مقدمتها (بريطانيا العظمى) ـ كما هو واضح في اتفاقية 1888 عقب الاحتلال الإنجليزي لمصر، فإنها كانت في الأساس الأول مصرية واء في الفكرة أو التنفيذ رغم الأطماع الغربية التي كانت تقترن بها. وكان تأميم قناة السويس الذي أعلنه الرئيس عبد الناصر في 26 يوليو فاتحة الغضب الذي أعلنته الدول الغربة، خاصة إنجلترا (بريطانيا العظمى) وعرفنا استنكارات كثيرة في العواصم البريطانية لأن مصر أردات تأميم منشأة ملاحية خالصة في أرضها.

ويذكر شهود عام 1956 في مصر أن عدداً كبيراً من الحكومات الغربية عمدت إلى ضغوط اقتصادية بتجميد أموال الشركة المنحلة بعد إعلان التأميم بل وتجميد الأرصدة الإسترلينية التي لمصر على إنجلترا، كما وضعت تحت الرقابة جميع رؤوس الأموال المصرية .

الأكثر من هذا أنه بدأت كل من فرنسا وإنجلترا تلوح وتهدد باستخدام القوة لإرغام مصر على التراجع .. وما إلى ذلك مما انتهى إلى عدة مداولات وتهديدات ضد مصر أسفرت جميعها عن العدوان الثلاثي الذي صدمت إزاءه مصر وإن عانت الكثير من العدوان الحربي من دول غربية قوية وربيبتها إسرائيل، لكنها خرجت من هذا كله بالانتصار عقب إثبات مصر وجودها على الأرض أولاً ثم تدخل بعض الدول الكبرى ثانياً .

على أن الأمر الذي انتهى مشرفاً لمصر، بدأ يستغل، ليس في هذه الفترة فقط، بل ومنذ تأميم القناة في 26 يوليو 1956 حتى اليوم.

كان ما ردد أن الحكومة المصرية خاصة، وجمال عبد الناصر بوجه أخص قد تسرع في تأميم القناة، وأنه لو كانت تمهل في التأميم لكان الامتياز الذي حصل عليه الغرب بإدارة القناة وتحمل مسئوليتها بموجب مرسوم الحفر حتى عام 1968. قد انتهى وعادت القناة إلى أصحابها بدون عدوان أو حروب (واعجب ما شئت).

كان ما تسرع به أعداء الثورة المصرية خاصة، أنه لو كان عبد الناصر انتظر قليلاً لكان امتياز القناة قد انتهى في نهاية الستينيات وما كانت البلاد في حاجة لدمار أو عدوان كبدها الكثير من الخسائر.

والواقع أن حقائق التاريخ ودروس النهب الاستعماري وإداراته الاستعمارية على الشرق يشير إلى العكس من ذلك تماماً.

إن دراسة (الحالة) ـ بالنسبة لقناة السويس ـ ودراسة الاستراتيجية الغربية في مواجهة الإرادات الوطنية ترينا أن الإنجليز ما كانوا يتركون قناة السويس بأية صورة سواء عام 1968 ــ بموجب مرسوم الحفر والإدارة ــ أو بعد ذلك.

والغريب في الأمر أن من لام الثورة على اتخاذ قرار التأميم لم يكن غربياً فقط، وإنما العديد من المصريين والعرب أيضاً.

ودراسة التاريخ ترينا ـ خلال الوثائق ـ والمبادرات الاستعمارية ـ أن الغرب لم يكن ليترك قناة الويس بأية حال وتحت أي اتفاق.

نكرر أن الغرب لم يكن ليترك قناة السويس قط، وانظروا إلى الاتفاقات التي مازالت جارية حتى الآن على جبل طارق بين الإنجليز وإسبانيا.

إن مصالح الغرب هي الشيء الوحيد الذي كانت تخصص له القرارات المهمة في الغرب. أو هي القرارات المستلهمة من المصالح الغربية التي نجد أحسن الأمثلة لها فيما يجري في العالم اليوم.

وتأمل هذه الأقوال التي كانت ترى خطأ موقف عبد الناصر في التأميم إنما كانت تطوي كراهية خاصة للشعب المصري، بل إنها تزيد الآن ـ وتابعوا معي الحملات الضارية على عبد الناصر!!.. ـ كانت تطوي التحامل على عبد الناصر لأنه اتخذ مثل هذا القرار الوطني الشجاع بعد دراسة وتأن ووعي شديدين .. ولم نكن في حاجة لعديد من الخبراء والمثقفين المحايدين ليؤكدوا لنا بالحرف الواحد أن قناة السويس وقاعدة قناة السويس جزء من شيء مركب واحد والذي يدعي أن الإنجليز كان يمكن أن يتركوا القاعدة والقناة بدون تأميم واهم كثيراً والواقع أن مراجعة قصة النهب الغربي لمقدرات الأمم يرينا أن هذا الحكم خاطئ تماماً، ونستطيع أن نشير إلى عدد كبير ممن برهنوا على ذلك ـ وفي مقدمتهم الأستاذ هيكل ــ بموقف إنجلترا من جبل طارق كقاعدة بحرية مثل قناة السويس كانت تصب في مصالح الإمبراطورية الإنجليزية وتؤكد سيطرتها على إمبراطوريتها الاستعمارية .. يقول الأستاذ في بساطة حتى هذه اللحظة إنجلترا موجودة في جبل طارق لأن البحر المتوسط هو عقدة كل اتصالات الإمبراطورية، وليس مسموحاً باللعب فيه / وبعد تأميم قناة السويس نجد أن الإنجليز اضطروا إلى الانسحاب شرقاً بعد السويس .. هل نحن من السذاجة أن نرى أن القوى الاستعمارية يمكن أن تفرط ـ ببساطة، وتحت مسميات قانونية ــ في مثل مركز استراتيجي كقناة السويس أو موقع استراتيجي كجبل طارق..؟

هل هو الخطأ في الحساب أو ضغينة على زعيم الثورة عبد الناصر؟

لنترك الأسئلة ولنذكر للقارئ الكريم ــ وليس لأعداء ثورة يوليو ــ أن من يعود إلى الوثائق البريطانية في هذه الفترة ـ وهي بين أيدينا ـ يستطيع أن يتأكد أن الإنجليز لم يكونوا مستعدين لترك قناة الويس بأية حال خاصة بعد انتهاء الامتياز الذي حصلت عليه من الحكومة المصرية قرب نهاية الستينات إذ تكثر في هذه الوثائق التعبير عن ضرورة (التدويل) للقناة بعد الفترة المسموح بها سياسياً؛ كما كان يتردد الكثير من التصريحات السرية عبر المراسلات الخاصة بأنه يمكن فصل (قناة السويس) عن مصر نهائياً .

إن الوثائق البريطانية التي بين أيدينا تؤكد أن إنجلترا لم تكن لتترك قناة السويس تحت أية ذريعة وتحت أي معاهدة تسمح بهذا، وهي الوثائق التي تقع في النصف الأول من عقد الخمسينات من القرن العشرين إن هذه الوثائق (وهي مرفقة هنا...) تشير لأكثر من مرة إلى ضرورة مواصلة سيطرة بريطانيا على القناة بأية وسيلة بل وتشير الوثائق ـ لأول مرة ـ إلى التوجه الإنجليزي لإشراك القوة الإمبريالية الصاعدة الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ على منطقة قناة السويس.

ونتمهل عند وثيقة واحدة وتسمى (خطة برملي bramly ) ولأهميتها نكتفي هنا بوضعها بين يدي القرئ ليرى نيات الغرب الاستعماري في التأكيد على القبضة الحديدية التي يزمع وضع قناة السويس فيها وهذه هي الخطة:

خطة برملي لتدويل قناة السويس 1951 ـ 1952

أولاً : خطاب مكتب الخارجية البريطانية في مصر إلى رئاسة الوزراء البريطانية المؤرخ في 9 نوفمبر 1951

السيدرئيس الوزراء:

هذا تقريرنا الموجز بشأن الخطة المقدة من الكولونيل برملي المقترحة حول (ضرورة عزل سيناء كإقليم بريطاني وتحريك القادة البريطانية في مصر إلى منطقة سيناء).

إننا نرى أن حكومة صاحب الجلالة ليس لها أي حق شرعي في إدّعاء أن سيناء بريطانية.

وكذلك لا يمكن بأية حال تحريك القاعدة العسكرية البريطانية إلى شرق القناة نظراً إلى التكلفة الباهظة لهذا الاقتراح ولذلك نوصي بالتفاوض مع الحكومة المصرية بشأن عقد اتفاقية دفاع مشترك بعدها ربما تكون خطة برملي جديرة بالمتابعة.

9/11/ 1951

ثانيــــاً : الخطاب الموجه من رئاسة الوزراء للرد على خطة برملي المؤرخ في 6 ديسمبر 1951 إنه في خطابكم الموجه إلينا في 9 نوفمبر بشأن خطة (برملي) المشيرة إلى اعتبار سيناء كإقليم بريطاني أو تدويلها فإننا بعد مشاورات وجدنا أن تلك السياسة غير عملية ولا نملك المبررات لادّعاء ملكية بريطانيا لشبه جزيرة سيناء.

ومن الحكمة الأخذ بتوصية مستشارن القانوني في مكتب وزارة الخارجية والتي ترى (ضرورة وضع سيناء تحت السيطرة المصرية) وهو الأفضل بلا شك.

أما مسألة فصل سيناء واعتبارها إقليماً بريطانياً فعبر ثلاثين عاما وبالأحرى منذ الحكم العثماني فلم يحدث أن اقترحت أي حكومة بريطانية هذا المطلب.

ومن وجهة نظرنا فإننا نرى أن خطة برملي تعود إلى رأيه الشخصي وتأكيد لهذا ما جاء في الرد على سؤال طرحه السيد (فتزاوي ماكلين) بمجلس العموم بجلسة 21 فبراير الماضي.

ثالثاً : وفي الخطاب الموجه من مكتب الخارجية البريطانية في 3 ديمبر 1951

عزيزي (كولفيل)

بق لكم مراسة السيد (إيفلين شوكبورج) في 19 نوفمبر الماضي مستفسراً عن خطة الكولونيل جينجز برملي بشأن سيناء وهذا تقرير واف عن الخطة قام بإعداده مكتب الخارجية البريطانية في مصر.

نود أن نشير بداية إلى أن الكولونيل برملي المدير السابق لإقليم سيناء من قبل الحكومة البريطانية قد عرض فكرة عزل سيناء عن مصر ومعاملتها كإقليم بريطاني وألحّ كثيراً على تنفيذ خطته وقد تراسل مع السفارة البريطانية ومكتب الخارجية مباشرة وكذلك كتب إلى جهات بريطانية سياسية عديدة في هذا الشأن وعلى رأسها أعضاء بارزين في مجلس العموم من ضمنهم (فتزاوي ماكلين) الذي طرح القضية في شك سؤال على المجلس بجلسة 21 فبراير 1951.

.. وبما أن هذه القضية أصبحت موضع نقاش وبحث يموله مكتب الخارجية والخبراء القانونيين فقد توصلنا إلى نتائج هامة بهذا الشأن تتلخص في الآتي.

(1) في اتفاقية 1841 بشأن الحدود الأربعة لشبه جزيرة سيناء والمثبتة بالخرائط بهذا التوصيف (سيناء تقع جنوب وشرق خط رفح السويس وجنوب وغرب خط رفح العقبة) هذه الحدود لم تكن ضمن الأقاليم التي ورثها الخديوي.

والحقيقة أنها وقعت تحت إدارته دون أن تخول له السلطة من (الباب العالي) بهذا الشأن.

(2) في 1892 كفل الباب العالي للخديوي سلطة إدارة شبه جزيرة سيناء.

ولكن تلك السلطة لم تكن لورثة الخديوي ومن هنا يمكننا القول أن حق الخديوي الشرعي في إدارة سيناء يختلف كلياً عن حقه الشرعي في إدارة مصر كلياً.

(3) إن تركيا فقدت حقها الشرعي في إرث أو إدارة شبه جزيرة سيناء طبقاً لمعاهدة لوزان.

(4) إن استمرار مصر في إدارة شبه جزيرة سيناء طبقاً للاتفاقية المبرمة من قبل ومحاولة انتزاع سيناء من سيطرتها بالقوة واعتبارها إقليماً بريطانياً فإنه طبقاً لرأي المستشار القانوني البريطاني الذي أكد أنه إذا لم تكن سيناء مصرية فسوف تكون منطقة معزولة.

كما إن بريطانيا إذا حاولت ذلك ستلجأ مصر إلى المحكمة الدولية لتدافع عن الحق المصري ومن المحتمل أن يكون قرار المحكمة في صالحها.

وللاطلاع على مزيد ممن التفاصيل فقد أرسلنا إلى قسم الأبحاث بحزب المحافظين مذكرة دبلوماسية توضح المكانة التاريخية لسيناء والوضع القانوني للإقليم.

ولذلك نرى أن الحلّ الوحيد يتلخص في إقامة قواعد عسكرية بريطانية في منطقة قناة السويس فإن فشلنا في ذلك الأمر فعلينا أن ننتظر تحقق الاحتمال الآخر وهو بعيد المنال والذي يتلخص في إمكانية تنازل المصريين عن شبه جزيرة سيناء لنوري باشا رئيس وزراء العراق وإذا لم تكن هناك تسوية لهذه القضية فإنه من الصعوبة بمكان محاولة نقل القوات البريطانية وبناء قاعدة عسكرية على الضفة الشرفية للقناة لأن التكلفة ستكون بلا شك باهظة جداً.

وملخص ذلك إنه ليس من الحكمة عزل سيناء وادعاء أنها إقليم بريطاني في الوقت الحاضر. والجدير بالاهتمام العمل على إمكانية بناء قاعدة عسكرية صغيرة شرق القناة وتأسيس هيئة (بريطانية مصرية) للسيطرة على سيناء.

لاحتمال أن تطلب الحكومة المصرية مستقبلاً التفاوض مع بريطانيا من أجل عقد اتفاقية دفاع مشترك.

رابعــــاً :وفي الخطاب الموجه إلى مكتب وزارة الخارجية في 19 نوفمبر 1951.

السيد سكبرج:

لقد لكم نسخة من (مذكرات سيناء) التي تتضمن خطة الكولونيل برملي والتي تقترح مدى إمكانية فصل وعزل منطقة السويس وسيناء عن مصر ووعهما تحت وصاية الأمم المتحدة والتي اطلع عليها رئيس الوزراء بمعرفة السيد (ليوإميري) وقد أثارت الخطة اهمامه وطالب بإعداد تقرير شامل عنها يقوم به مكتب الخارجية البريطاني ونأمل لا يزعج ذلك السيد إيدن ونطمح أن يرغب في قراءتها والاطلاع عليها.

شيكبرج

مكتب الخارجية 19 ـ نوفمبر 1951

خامـســـــاً : وفي الخطاب الموجه إلى (وينستون تشرشل) في 12 نوفمبر 1951 جاء الآتي:

عزيزي وينستون:

أذكر حضرتكم أنه قبل الانتخابات الأخيرة قد كتبت إليكم مذكرة دبلوماسية بشأن عزل منطقة السويس وسيناء عن مصر والتوصية بوضعها تحت وصاية الأمم المتحدة.

وقد اطلعت ــ مصادفة ــ على خطة الكولونيل برملي المدير البريطاني السابق لسيناء والتي أوضحت أن الجزء الأكبر من شبه جزيرة سيناء إضافة غلى عدة أميال من الضفة الشرقية من الضفة الشرقية للقناة لم يكن إقليماً مصرياً بشكل مؤكد.

والحقيقة المحتملة أن منطقة سيناء والقناة ليست سوى جزء من إقليم كبير تنازل عند الحلفاء لتركيا بعد الحرب العالمية الأولى وإذا كانت تدار من قبل الحكومة المصرية ولذلك نرى أن القانون والمنطق يخولان وضعها تحت وصاية الأمم المتحدة.

وأخيراً أوضح أنني اقتنعت كثيراً بما ورد في خطابك ليلة الجمعة الماضية وأتمنى لك حظاً سعيداً في مهمتك الصعبة الملقاة على عاتقكم ولا أريد إجابة.

المخلص لك

ليوإميري

مذكرات المدير السابق لسيناء الكولونيل جينجز برملي

أغسطس 1951

في 1841 تم ترسيم الحدود بواسطة اتفاقية بين تركيا ومصر في عهد محمد علي والتي اعتبرت الحد الشرقي لمصر هو الحد القديم الذي تم تخطيطه في عهد الدولة الرومانية العظمى طبقاً للخريطة القديمة التي أعيد طباعتها سنة 1927.

وبعد أن تم تنصيب محمد علي والياً على مصر طلب تصريحا من تركيا يخول له إنشاء نقطة شرطة حدودية في (نــخل) وظلت هذه النقطة تشرف على أمن سيناء شمالاً وجنوباً والعمل على استتباب الأمن وحماية السائحين والزائرين وخاصة على طريق الحج بالنسبة لقاصدي مكة.

وفي 1892 تولى عباس باشا ولاية مصر وفكر في إلغاء نقطة الشرطة الحدودية في (نخل) ولكن المندوب السامي (اللورد كرومر) أصرّ من جانبه على وجود قوات لحرس الحدود في (نخل).

بل أصر على إعلان ولاية عباس باشا على مصر دون انتظار صدور فرمان تركي يخول له الولاية أو يشير إلى وجود قوات في نخل وبعد مباحثات مطولة خرج الفرمان التركي مماثلاً لذلك الفرمان الذي صدر بشأن ولاية (توفيق باشا) والد عباس.

الورقة البيضاء ــ مصر 1906

وفي 1906 قررت تركيا أن تتولى الإشراف على مقاطعة جنوب سيناء ونشر قوات حدودية فيها رغم أن طريق الحج لم يعد مستخدما بكثرة ولم تعد القوافل الصحراوية تجوبه واستبدلت به البواخر القاصدة ميناء جدة ومع ذلك فقد أشـار اللورد كرومر إلى عباس بضرورة مطالبة تركيا بجنوب سيناء ولكن الخديوي عباس رفض نصيحة كرومر وأعلن أنها ليت ضمن الحدود المصرية واحتج بأن هذه المقاطعة ــ جنوب سيناء ــ لم يتضمنها الفرمان التركي الذي كان مرفقاً بخريطة مصر.

ولكن اللورد كرومر أشار إلى أنه سوف تنشب الحرب أو ستكون إعلان حرب إذا تقدمت القوات التركية إلى سيناء وتولت أمر حمايتها وادّعت أن لها الحق والوجود في جنوب سيناء باعتبارها مقاطعة تركية.

وبعد ذلك تعرضت تركيا إلى ضغوط سياسية كثيرة مما اضطرها إلى الموافقة على رسم خط الحدود من رفح إلى العقبة كحد إداري لمصر ولكن احتفظت لنفسها بحق السيطرة على جنوب سيناء.

ملحوظـــة :

إن تداعي الأحداث وارتفاع حدة التوتر بين مصر وتركيا بشأن الفرمان التركي الخاص بادعاء تركيا الحق في شبه جزيرة سيناء قد بدأت تهدأ بعد صدور الفرمان التركي والسماح برسم الحدود.

ولكن اللورد كرومر قد أشار إلى أن الخريطة المرفقة بالفرمان قد فقدت وأن الخريطة الموجودة لدى المصريين قد ضاعت.

وعندما أعاد زيور باشا طبع الخريطة الملحقة بالاتفاقية المصرية الإيطالية قال نادماً (يجب أن نندم على اليوم الذي سُمح فيه بذلك).

وفي 1926 طلب اللورد ليود من بريطانيا اتفاقية 1906 ــ والتي ما زال المصريون يتمسكون بها ــ رفض الإنجليز ذلك المطلب وأشـاروا إلى أنها أضحت غير سارية المفعول وفي 1918 خضعت كل المستعمرات التركية حتى الحدود الآسيوية ومن ضمنها جنوب سيناء إلى سلطة المندوب السامي.

وفي 1927 وطبقاً لشروط معاهدة لوزان تخلّت تركيا عن كافة مستعمراتها وتم تسيمها ما عدا جنوب سيناء ولكن إنجلترا لم تطالب بجنوب سيناء على الرغم من أنها ورثت منها أحقية السيطرة طبقاً لشروط معاهدة 1906 وأصبحت سيناء اليوم طبقاً للشئون والأعراف الدولية (أرض لا صاحب لها) وأن مصر قد دُعيت لإدارتها ولبريطانيا الحق الآن في الادعاء بأن شيه جزيرة سيناء إقليم بريطاني.

هذا هو الوضع القائم الآن ولا أفهم الأسباب التي تمنع مكتب الخارجية والسفارة البريطانية من المطالبة والادعاء بأحقية إنجلترا في شبه جزيرة سيناء وأنا أعتقد وبلا شك أن لنا ـ بريطانيا ـ حق المطالبــة بها والسيطرة عليها والآن الظروف مواتية لذلك ولو كانت مصر صاحبة حق في سيناء ما طلبت التصريح لها من تركيا بدخول جنوب يناء عندما كان جنوب سيناء تحت السيطرة التركية.

ولو أن السفارة البريطانية ومكتب الخارجية في مصر لديه أسباب وجيهة تؤكد أحقية المصريين بجنوب يناء ما استطاع القائمون على الشئون الدولية إطلاق مصطلح (أرض لا صاحب لها) على شبه جزيرة سيناء.

وأنا قد أتفق مع وجهة نظر مكتب الخارجية في اعتبار سيناء مصرية ولكن منطقة (جنوب سيناء) ذات وضع خاص وذات أهمية وقيمة استراتيجية لبريطانيا واليهود يشجعون ذلك لأنهم يعرفون أن مصر لي لها حق المطالبة بجنوب سيناء وليس لها الحق في فرض نفوذها على منطقة القناة بدعوى حمايتها.

ولذلك أقترح على حكومة بريطانيا حـلاً للوضع القائم أن تعرض على المصريين التخلي عن جنوب يناء مقابل تعويضهم عن فترة إدارتها منذ 1906.

هناك نقطة حيوية تجعل (جنوب سيناء) له فائدة استراتيجية لبريطانيا.

وثمة أميال خمسة من قناة السويس لا تقع ضمن الحدود المصرية.

ومن هنا سيكون موقف بريطانيا قوياً وخاصة عند محاولة نقل (مجلس إدارة قناة السويس) من السويس إلى بور توفيق وبناءً على ما تقدم نعتقد أن (بريطانيا إذا حركت قواتها العسكرية إلى بور توفيق للمشاركة في الدفاع عن القناة) ستعتبر مصر أن القوات الأجنبية (البريطانية) لم يعد لها وجود في التراب الوطني المصري.

ومن هنا سوف يمكن موقف بريطانيا قوياً وخاصة حول التساؤلات المتتالية عن مجموعة السفن التي تستخدم القناة.

ومستقبلاً تتحول بور توفيق إلى مركز تجاري دولي بمساعدة حكومات التحالف التي ستقدم قروضاً ميسرة للشركات التجارية العاملة وهو ما لا تقدمه مصر.

وقد وردت إلينا معلومات استخباراتية أن مصر ستعزل بور توفيق وتقطع عنها المياه وتوقف دخول العمال إلى هناك.

وبناء على ذلك نقترح إمكانية الاعتماد على الودان كمورّد للعمالة داخل بور توفيق .. أما عن المياه فيمكننا مدّ جنودنا بالمياه الجوفية من سيناء.

ويمكن استغلال الدعاية المضادة لإظهار مصر بالوحشية والترويج بمحاولاتها طع المياه عن شعبها وتحاول عزله. وخطة مصر في عزل بور توفيق لن تنجح لأن مصر تعتقد – بل وتعي – تماماً أنها تعتمد علينا كخطوط حماية من يعود إسرائيل ولأغراض أخرى.

وأنا أعتقد أن الخطوة التي يجب أن تُتخذ الآن : هو الترويج إعلامياً وسياسياً لفكرة ( أن خط جنوب رفح هو الحد الفاصل لسيطرة مصر ) لأنه منذ بداية التاريخ وجنوب سيناء تعتبر عربيـّـة وعلينا أن نروج لخطتنا ونحاول طرحه ومناقشته دولياً وإعلامياً للضغط على مصر حتى تسعى للتوقيع على اتفاقية حدودية معنا.

إن هدفنا الحقيقي هو احتلال جنوب سيناء لا مناشة عملية إعمارها.

ولعل المناقشات الموسعة ستظر مشكلة جديدة حول ملكية خليج تيران والجزر الواقعة نطاقه ويُخشى أن تدفع مصر بقواتها العسكرية عاجلاً أو آجلاً إلى هذا الخليج مما يوقع السفن البريطانية في مرمى نيران المدفعية المصرية المتجهة من وإلى العقبة.

الفصل السادس: عبد الناصـر السياسي، المثقف

هل السياسي يجب أن يكون مثقفاً؟


نعيد طرح السؤال، في هذا الشهر بشكل مباشر:

- هل كان عبد الناصر مثقفاً؟

وعبوراً فوق 482 موقعاً احتفالياً في هذه الأيام ــ بتعبير وزير الثقافة ــ تشهد مصر احتفاء واحتفالات بذكرى مرور 50 سنة على ثورة يوليو عام 2002.

وعبوراً فوق عديد من الاحتفالات المشابهة في عديد من أقطار العالم العربي.

ثم عبوراً فوق هذه الكتابات الغربية التي زادت هذا الشهر حتى وصفتها بعض المواقع الإليكترونية إنها نوعاُ من النوستالجيا (الحنين) الذي يبديه العديد من الكتاب الغربيين عن عبد الناصر (العروبي) في عصر الإسلام السياسي والاضطرابات الغامضة في العالم العربي.

نقول عبوراً فوق كل هذا؛ فإن التوقف عند (وعي) عبد الناصر كسياسي يمتلك قدراً هائلاً من وعي المثقف يلفت النظر إزاء كل هذه الندوات والتحليلات والكتابات المكثفة والمراجعات المتباينة في ردود أفعالها ثم إزاء ما يمثله عبد الناصر ومشروعه الفكري من قيمة مازالت بيننا حتى اليوم.

ومع ما يثيره الاحتفال بذكرى يوليو من قضايا إشكالية، قد نعود إليها مرة أخرى، فإن أكثر ما يلفت النظر في وعي زعيم مثل جمال عبد الناصر هو أنه لم يكن سياسياً وحسب، وإنما سياسي جمع إلى التكوين السياسي الوعي الثقافي، حتى إننا نتطيع أن نعيد طرح السؤال الذي نعرف إجابته جيداً الآن:

هل كان مثقفاً حقاً؟ فنجد الإجابة أمامنا بغير جهد كبير.

فلنحاول الإجابة معاً، ونفكر بصوت عال؛ هل....؟

على المستوى الشخصي، فقد لمست هذا الوعي الثقافي، ليس بين أوراقي الدراسية وحسب، وإنما بين الجماهير العريضة في أنحاء العالم العربي، بل وبين الجماهير العربية والتي تعيش بشكل أو بآخر في الغرب؛ بل وفي السياسيين والمثقفين أنفسهم ممن شهدوا هذه الفترة وعرفوا عبد الناصر عن قرب .

ولأضرب مثالاً واحداً، فأذكر أنني كنت في إحدى العواصم الغربية، وعقب إلقاء كلمتي عن عبد الناصر والتي أسهبت فيها عن الوعي الثقافي الفائق له، روعت أن عدداً كبيراً من الحاضرين ـ وأغلبهم من الشباب العربي المغتربين ـ راحوا يلفتون نظري إلى أن عبد الناصر كان مثقفاً.

ألم أقل هذا؟ حدثت نفسي، ومع ذلك يبدو أنني في حاجة ماسة لأعيد ما قلته، فأستبدل بالكلام الذي يلقيه المحاضرون بالورق الذي بين أيدي؛ لم تفتني الدلالة ورحت أدلل من جديد على وعي عبد الناصر الفائق بدور المثقف حتى أنه لا يكف عن إيراد وعي المثقفين في خطبه الكثيرة وقيمهم على أن يكون هذا الوعي وهذه القيمة تمارس (ضمن تحالف قوى الشعب العاملة .. لأن المثقفين ليسوا طبقة وإنما هم على وجه الدقة قوة).

ورحت أسهب ـ أكثر ـ في ضرب الأمثلة من الخطب المتناثرة لعشرين عاماً ووثائق مركز الدراسات السياية والاستراتيجية بالأهرام (يناير 1967 ـ ديسمبر 1968)؛ وأكثر ما لفت نظري كما أشرت، أنني رغم إشارتي إلى وعي عبد الناصر بالمثقفين ومصادر وعيه الشخصي (كمثقف)، فإن القاعة راحت تكرر، وكأنها لم تسمع منذ قليل، أن عبد الناصر كان مثقفاً، وكأنها تريد التأكيد على هذه الحقيقة .

بل رحت أورد لأدلل ـ في قضية لا تحتاج لدلالة أو برهان ـ من كتابات معاصريه أن أحد رفاقه خالد محيي الدين ـ على سبيل المثال ـ لم يكن ليمل من التأكيد في كتابه الأخير أن عبد الناصر كان:

"قارئاً ممتازاً سواء قبل الثورة أو بعدها، وحتى بعد أن أصبح حاكماً متعدد المسئوليات كان يولي مسألة المعرفة اهتماماً خاصاً. وكان هناك جهاز خاص مهمته أن يلخص له الكتب المهمة وأن يترجم له العديد من الكتب والمجلات والصحف".

وإبان استعداده للسفر إلى أوروبا، في كل مرة، يجد رغبة عبد الناصر الوحيدة في المعرفة فيضيف:

" ــ و.. طلب مني أن أرسل له كل ما أعتقد أنه مفيد من كتب ومجلات ولعل شغفه بالقراءة هو الذي جعله يهتم بمسألة المعلومات، وكان عبد الناصر لا يتخذ أي قرار إلا بناء على معلومات وكان يهتم دوماً بالمعلومات ليس فقط من أجل تحقيق إمكانية اتخذ قرار صحيح، وإنما من أجل التعرف على من يتعامل معهم تعاملاً وثيقاً ودقيقاً".

والمعروف أن هيئة الاستعلامات كانت أهم هذه الأجهزة التي تحددت مهمتها الأولى في إطلاع عبد الناصر على أحدث ما يصدر في العالم، فكانت ترصد ما ينشر وتحصره بل وتترجم له ما تترجم وتلخص ما يجب تلخيصه.

وفي مكتبة دار الوثائق حتى اليوم أعداد كبيرة من الكتب المهمة المترجمة لعبد الناصر خصيصاً.

ولعل معاصري عبد الناصر كانوا أكثر ما لاحظوا النهم الشديد عند عبد الناصر للمعرفة والقراءة المتواصلة وتدوين ملاحظاته في أوراق عامة أو خاصة، وكتاب جورج فوشيه المعروف (عبد الناصر وجيله) يرينا أن الكاتب حين ذهب إلى الكلية الحربية ليراجع قائمة ما قرأ عبد الناصر وجد أن دائرته امتدت إلى آفاق بعيدة خاصة حين راجع كشوف الاستعارة في السنوات الدراسية.

والأكثر من هذا لفتاً للنظر أوراقه الخاصة وأحلامه التي حرص على تدوين أغلبها ونشر بعضها بالأهرام ترينا حرصه الشديد على تدوين العديد من خطبه، والتعبير عن أفكاره الخاصة بيده في الخمسينيات والستينيات .. وقد كان اهتمامه قد جاوز الواقع إلى الأحلام البعيدة التي كان يختلط فيها الوعي الجاد ومحاولة الإفادة من المشروعات المعاصرة له خاصة تجربتي الهند وباكستان، فهو يتحدث عن ولعه بإنشاء العديد من المشروعات الثقافية بالقاهرة والإسكندرية، ويصل إلى الأحياء الشعبية ليدون عنها أفكاراً حميمة ثم يصل من الأحياء الشعبية إلى عواصم المديريات وعواصم المراكز، بل يخصص صفحات كاملة لإعادة إعمار القرى وإدخال الكهرباء وإنشاء السينما التي يمكن أن تتحول إلى مسرح في الوقت المناسب، بل يولي عناية خـاصة بالأزهر، ويمكن أن نلاحظ اهتمام عبد الناصر منذ فترة مبكرة بالأزهر كصرح ديني عملاق في مصر يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في التثقيف والتنوير والإصلاح ليس في مصر وحسب بل وفي عديد من المناطق الإسلامية البعيدة عنا وهو ما يحتاج إلى دراسة خاصة عن وعي عبد الناصر عبر الكتابة المدونة، ففيها الكثير من وعيه السياسي / الثقافي الذي لا يمكن إنكاره، والذي يحتاج إلى عناية خاصة لأهميته.

وهذا الوعي المثقف لدى الزعيم، يشهد به أنصاره أو أعداءه على السواء .

لقد ظللت قرابة خمس سنوات أستمع وأسجل وأكتب (كل) ما سمعته من (شهود) عبد الناصر ـ أثناء كتابة أطروحة عن يوليو ـ وفي كل مرة كنت ألاحظ أن المثقفين / الشهود من شتى المواقع ـ لا يترددون في أن يؤكدوا على أن عبد الناصر كان يمتلك وعياً فائقاً يجاوز به رؤية السياسي وفعله مجراد رؤية المثقف وذكاء المفكر.

من ذلك، كان الحوار الطويل مع أحد أهم رموز اليسار في الفترة الناصرية في حوار حول عبد الناصر الذي عانى منه اليسار كما عانى هو أيضاً من اليسار، ووجدتني أسأل المثقف اليساري فجأة:

- وهل كان عبد الناصر فيما ترى مثقفاً؟

وقبض أبو سيف يوسف ـ المناضل اليساري المعروف ـ قلمه وراح يكتب بالحرف الواحد:

(ــ كان عبد الناصر قارئاً جيداً، حين تجلس معه تحس أنه ليس مجرد قارئ عادي وإنما قارئ متمرس، يعرف جيداً الاشتراكية، اقرأ ـ مثلا ـ محاضرة في اللجنة الوحدوية تكتشف على الفور أن لديه دراية عالية عن الاشتراكية.

كان أول ما يقرأه صباحاً مجلة (الطليعة) .. وعلى فكرة. لم يكن عبد الناصر يقرأ (الطليعة) ليعرف منها اليسار، كان عبد الناصر يعرف اليسار جيداً).

- وسألت المثقف اليسار السؤال نفسه، فراح يقول لي خالد محمد خالد ــ رحمه الله ــ أي عبد الناصر ــ كان يشتري، قبل الثورة، نسخاً كثيرة له من جيبه الخاص من كتاب (مواطنون لا رعايا) ويقوم بتوزيعه بنفسه على زملاءه، وقد كــان يفعل ذلك مع كتب أخرى لكتاب آخرين.

بل إن خالد محمد خالد أسهب أكثر في أن عبد الناصر بعد الثورة ظل مستمراً في قراءة الكتب، ومستمراً في مناقشة أصحابها، بل إنه ــ وهذا مسجل في إدارة الرقابة ــ أن عبد الناصر أفرج شخصياً عن كتب خالد محمد خالد كانت في طريقها إلى المصادرة أو صودرت بالفعل، وهو ما أكده عبد الناصر نفسه لصاحب هذه الكتب في اجتماع على الهواء في اللجنة المركزية في بداية الستينيات (ونعتذر عن إيراد النص لطوله).

- أيضاً راح المثقف الليبرالي يؤكد على هذا، فقد أسهب إحسان عبد القدوس لأكثر من مرة على وعيه السياسي والذي "يكن احتراماً بالغاً للمثقفين" والذي ـ يشير إلى صورة عبد الناصر بعد أن رحل ـ:

".. كان يقرأ كثيراً، ويرغب دائماً في الحصول على كتب، ويطلب مني عناوين محددة، وكان يأخذ مني الكثير، وفي كل مرة يجد معي كتاباً ويجدني أقرأ كان يسألني على الفور: ماذا أقرأ، وفي حالات كثيرة أثناء الحديث الفطري معه كان يسأل بعمق أو يغيب عنا بعمق، وهو ما يبرر حين يحس بهذا فيعتذر مردداً من أنه كان يفكر فيما يقرأ".

نحن لا نريد أن ندلل ـ بعد هذا كله على أن عبد الناصر كان سياسياً مثقفاً، أو سياسياً واعياً ـ أكثر من كثير من السياسيين ـ بما يحدث حوله، ومراجعة مواقفه وخطبه يرينا أنه يريد أن يقدم حكومة الثورة فيربط بينها وبين الدولة فهي (حكومة المثقفين) ــ هكذا ــ ، ومراجعة خطبه في الخمسينيات والستينيات تؤكد أكثر على مفهومه بالنسبة للمثقفين.

ولدينا عشرات المراجع التي تؤكد على وعي السياي / المثقف بشكل يلفت النظر كثيراً.

إن عبد الناصر كان مثقفاً كبيراً بقدر ما كان سياسياً كبيراً.

هل يحتاج هذا لسؤال...؟

الفصل السابع: الوعي الخائن والمثقف

يحار المرء أين يضع صاحب هذه الحلقات التي تنشر في إحدى الصحف العربية التي تصدر من لندن .

نحن أمام تفسيرين لهجومه الأرعن على مصر والمصريين الذين فتحوا له صدورهم من 15 عاماً:

هل نضع "بعد الاستغراق في القراءة" في حالة غياب الوعي بحكم الن، أو ما يسمى في خبرة التحليل النفي بغواية العقل أو تغييبه أو غيابه mindedness absent وهو ما يفسر إذا أحسنا النية بعدم الانتباه لجوانب الموف الذي يعتبره الآخرون ذا الأهمية الكبرى، وهي غفلة يكون صاحباً مجبولاً عليها. أم نضعه "وهذه هي الحالة الأخرى" في خانة حضور الوعي بحكم التعمد، أو ما يسمى في خبرة التحليل السياسي أيضاً "بحكم الانتهازية التي يظل أهم وجوهها هنا العمالة، وهو ما يفسر "إذا دققنا النظر فيما ينشر حتى الآن بخداع الآخرين في مصر" سياسيين ومثقفين "لقرابة خمسة عشر عاماً قضاها في مصر، وفي هذه الحالة الأخيرة فنحن الآن أما سمات سلبية هي "بخلاف اللف والدوران" تكون بوضوح شديد العمالة.

ونحب أن نلفت النظر هنا إلى أن هاتين الحالتين لا تتنافران فيمكن أن يكون الإنسان "في فترة زمنية متقدمة" قد ناله الوهن العقلي، وفي نفس الوقت يكون قد جاء من معسكر العمالة الصريحة، مما يشير بعد مراجعة ما ينشره إلى أنه صحفي نال منه الصدق وفي الوقت نفسه نال هو من الموقف العربي ..وعلى هذا النحو، فنحن أمام حالتين :

"غياب الوعي المتعمد"

"حضور الوعي الخائن"

لنتوقف عند غياب الوعي قبل أن نصل إلى نقيضه ..وهما سمتان "كما أشرنا" يتوافران في ناصر الدين النشاشيبي فيما ينشره بعنوان (سنوات مصر).

وقبل أن نستطرد أكثر يمكن أن نكرر أن غياب الوعي هنا يكون متعمداً، ولا يكون بالضرورة (حالة) سيكولوجية .. ومن ثم فإن غياب الوعي يكون داعياً إلى النيل من كثيرين ممن عرفتهم مصر في بداية القرن العشرين حتى نهايته.

وسوف نشير إلى هذا عبر اتهام أو قل عبر موقف واحد من مواقف الصحفي الذي آوته مصر وأعطته أكثر مما أعطى في بلد آخر بعد مجيئه من القدس ماراً بعدد من الدول الأخرى.

وليكن الموقف هنا إغفال الصهاينة بالعمد أو التأكيد.

وسوف نشير إلى هذا عبر شهادات النشاشيبي التي تكفي وحدها للبرهنة على غياب الوعي الذي هو غياب الإنصاف والتحليل الصحيح للأمور. أو غياب الوعي، الذي هو نقيض العداء والادعاء معاً.

فمن الغريب أن نسمع من الحلقة الأولى من النشاشيبي أن قضية فلسطين ليست معروفة لدى تسعين في المائة من شعب مصر.

فهل كان ما يحدث في فلسطين غائباً عن الوعي في مصر في هذا الوقت. الإجابة بالنفي بالطبع.

فقد كانت الكثير من الأحداث تشير إلى ما كان يفعله الصهاينة في فلسطين في الأرض المحتلة كان معروفاً وكان يردد في الصحف بشكل مكرر، وجاءت نكبة 1948 لتؤكد هذا الوعي الذي تجسد أكثر في كل أنحاء مصر، فلم يكن ليخلو بين في هذا الوقت دون ان يكون فيه محارب أو شهيد أو موتور بشكل ما مما يحدث في فلسطين .. رغم أن ما كان يدبر لليهود في بداية الأمر بقي طي الكتمان.

إن الواقع في مصر وفي العالم كله لم يكن ليوحي بأن اليهود "الذين يعيشون في الأقطار العربية على الأقل" يمكن أن يكونوا مثل هؤلاء الصهاينة الذين يتكاثرون في فلسطين، كانوا يفعلون هذا بمساعدة إنجليزية.

لم يكن يدرك المواطنون العرب في أنحاء العالم العربي أن الآلة التي تحرك وجود الصهاينة في فلسطين كان وراءها تقف العقول اليهودية هناك كان هربرت صموئيل المندوب السامي الأول، والأدون نمورمان بنويش النائب والمستشار القضائي للمندوب، ومن ورائهما (الوكالة اليهودية) التي ورد ذكرها في هذا الوقت في صك الانتداب.

بل إن التاريخ يذكر وعد بلفور نفسه على لسان اللورد ارثي بلفور وزير الخارجية الإنجليزي إلى روتشيلد اليهودي في 2 نوفمبر 1917 بقي طي الكتمان لفترة من الزمان .

ومراجعة تاريخ هذه الفترة ترينا أن الأحداث في فلسطين كانت تجري بمساعدة الإنجليز، ويزيد اليهود "على سبيل المثال" في سنوات قليلة من 35000 إلى 103000 وتضاعفت مساحة الأرض التي بيعت إلى اليهود بشكل يلفت النظر .. غير أن هذا كله كان خارج الوطن.

كانت تمضي المؤتمرات الفلسطينية، وتدور المعارك ضد اليهود، وتدخل القضية إلى الأمم المتحدة وتخرج منها. كان الجميع يعرف ما يحدث خارج كل قطر، لكن داخل كل قطر عربي، كـان اليهود يعيشون مع أبناء أوطانهم، يتمتعون بحق (المواطنة) يصبح كل منهم مسئولون كبار "حتى أصبح منهم وزير" ويمتلكون اقتصاديات كثيرة هنا وهناك، وتنتشر صحفهم وإعلامهم، لكن كل هذا كان يجري في إطار الوطن، فالأديان الثلاثة في مصر "على سبيل المثال" كان أصحابها يتمتعون بقدر كبير من التواؤم والاحترام.

كل هذا كان يحدث حتى حرب 1948 والعرب من شعب مصر يعرفونه جيداً، لكنهم يفرقون كثيراً بين ما يحدث خارج الوطن حين كان يغضب الفلسطينيون من قرار التقسيم فتدمر المباني والمخافر وتفجر الأنابيب وتنسف الجسور حتى تقوم الحرب .. وبين أبنا وطنهم من اليهود الذين لم يبدوا "على الأقل في النصف الأول من القرن العشرين" أي تأييد لليهود في فلسطين التي تحتل، ويعلن استقلال (احتلال) عصابات من الصهاينة فيها.

كان ثمة يقين لدى أبناء الشعب أن اليهود المصريين هم مواطنون (بحق المواطنة) من الدرجة الأولى كما المسيحي والمسلم، ولم تكن العقيدة لتحول بين الانتماء لمصر في المقام الأول (وإن ظهر بعد ذلك عديداً من العناصر والتنظيمات السياسية الشيوعية وغير الشيوعية كانت تعمل لصالح إسرائيل).

وهو ما يفسر أن المثقفين المصريين أنفسهم لم يكونوا ليتخذوا مواقف عدائية من اليهود.

لم تكن درجة العداء ضد اليهود "كأصحاب رسالة سماوية" قد وجدت من يغذيها حين بدأت أطماع الصهيونية تكشف عن نفسها وهو ما يفسر به (ويبرر) أيضاً موقف العديد من زعماء مصر أو المثقفين الذين اتهمهم بالتجاوب مع الصهاينة.

إنه مرة أخرى غياب الوعي الذي بدا متعمداً من النشاشيبي في اتهامه للمثقفين المصريين خاصة.

وهو اتهام كرره أكثر من مرة بشكل يوحي بأنه متعمد، وليس عن عدم تبين للحقيقة أو الواقع أو الأحداث، ونضطر هنا إلى اثبات ادعاء الصحفي الذي تعمد أن يفقد وعيه، يقول عن المثقفين والسياسيين المصريين أنهم كانوا غير إيجابيين إزاء ما يحدث في فلسطين، وإنهم كانوا أكثر إلى الخيانة منه إلى حسن الظن أو فهماً واضحاً لطبيعة العصر وأنهم .. إلخ.

إنهم يتهم لطفي اليد بأنه كان يذهب لكي يحضر الاحتفال بوضع حجر الأا لمبنى الجامعة العربية على جبل سكوبس في القدس عام 1923 !! وكان لطفي السيد يتعمد أن يفعل ذلك في وقت "كما أشرنا" لم يكن ليخطر على بال أحد أن ما يحدث كان بوازع من الصهاينة، فضلاً عن أن دوره هنا اتسم بالرحابة التي كانت توليها المواطنة في مصر في بدايات القرن العشرين، الأكثر من ذلك، وهو ما لم يعلمه النشاشيبي أنه كان يذهب بشكل رسمي لتأكيد الدور المصري الوطني الخلاق وهو دور يحسب لمصر التي لم تعرف العنصرية التي يتحدثون عنها الآن في دير بان. الأكثر من هذا أنه راح يطعن في وطنية زعماء وطنيين كبار مثل إسماعيل صدقي وعلي الشمسي بل وسعد زغلول ومصطفى النحاس، ويطعن في تاريخهم الوطني بشوفونيه (شامية) أو مقدسية أو نرجسية لا نعرف مبرراً لها اليوم غير غياب هذا الوعي الذي يتعمده صاحبه.

الأكثر من ذلك، أنه يقفز إلى الاتهامات الصريحة ضد عدد من المثقفين المصريين وفي مقدمتهم مثقف مصري واع مثل طه حسين فيظل يغمز عنه ويهاجمه في أكثر من حلقة، فعميد الأدب العربي لا يجد منبراً ليتحدث في عن : آثار اليهود في الأندلس سوى النادي اليهودي في الإسكندرية .. ويغلو في تطرفه واتهامه (ويكاد المريب أن يقول خذوني كما نرى..) إلى أنه يشير بالريبة إلى أن طه حسين بعد أن ألقى محاضرته، فإنه ترك نشر النص إلى جريدة الشمس .. لسان حال الطائفة اليهودية. ثم أن طه حين أشير إليه بإساءة بالغة مرات كثيرة طيلة نشر هذه الحقات خاصة حين كان عميد الأدب العربي مسئولاً عن جريدة (الجمهورية) في الخمسينات.

ولا نكون في حاجة هنا لنذكر المواقف العديدة الوطني لمثقف واع كطه حسين الذي أصبح مسئولاً عن مجلة (الكاتب) التي يمولها الأخوة هراري، دون أن تظهر في أي منها، داخل المجلة أو خارجها ما يشير إلى أنه تخلى عن وعيه الوطني.

فلم يكن الوعي الوطني يشير إلى ضرورة التعاون مع اليهود، وإنما كان يعني "بوضوح يفتقده الكثيرون الآن بحن نية أو بسوء نية" أن المثقف يتعامل مع اليهود الوطنيين وليس مع الصهاينة الذين يستخدمون العقيدة في السياسة، والذين أصبحوا يمتلكون قبضة أمريكا ليحاربوا بها معاركهم في الوطن العربي .

ولا نكاد ننهي هذه السطور دون أن نعود إلى نصيحة أنطون الجميل رئيس تحرير الأهرام للنشاشيبي ففي كل مرة كان هذا الأخير يظهر الكثير من (الوقاحة) "وهي صفة أطلقها على نفسه" كان يستدعيه وينهره، ويذكر أنه يتدعيه إلى مكتبه ليلقي عليه درساً طويلاً في التزام الحياد (والتمسك بفضيلة الترفع عن الذم والشتيمة) ومن ذلك، أنه خاطبه طويلاً في مكتبه في إحدى المرات ليقول في نهاية كلامه الكثير هذه العبارة: (قد يصفق لك البعض إن أنت ألحقت الأذى بالبعض، ولكن الأذى الذي تلحقه بنفك يفوق كل أذى).

لقد رحل أنطون الجميل ولم ينتفع بنصيحته النشاشيبي. رحل أنطون الجميل، وبقي غياب وعي النشاشيبي، أو تغييبه.

ثورة يوليو .. الوعي الخائن

وإذا كنا تعرّفنا في المرة الماضية إلى غياب الوعي أو تغييبه (على طريقة الحكيم رحمه الله..) قد بقي أن نرى الوجه الآخر؛ المريب .. لتفسير ما يكتبه النشاشيبي في الصحيفة العربية التي تنشر حلقاته .. فإذا كان الوجه الأول هو وجه الكشف عن غياب الوعي المتعمد (المتعمد) للإساءة للدور المصري والنيل منه (وهي سمة أصبحت لدى الكثير من إخواننا العرب الآن خارج مصر)، فإن الوجه الآخر الآن، هو الوجه الأكثر وعياً، وهو لفرط وعيه أو لنقل (وقاحته) وهي صفة يستخدمها صاحبها منذ الحلقة الأولى ليس غير تفسير واحد هو الريب فيما يقول.

الريب الذي يصل إلى درجة الجزم بهذا الدور المريب حقيقة لا مجازاً .. سواء في تغيير أسلوب الهجوم على مصر وعبد الناصر أو في كشف نفسه بشكل مباشر في هذه العلاقة المريبة بينه وبين الجهة المضادة التي بعمل لها. هكذا، بغير زياة أو نقصان.

إن غياب الوعي هناك يساوي حضور الوعي بما يفعل هنا.

وكي لا نتهم بالإفراط أو الإسراف، لنتمهل عند بعض ما يكتبه النشاشيبي عن (سنوات في مصر) .

ورغم أن سنواته التي قضاها في مصر وتزخر بضروب الهجوم عليها:

المسئولين والمثقفين.

ورغم أن أقل ما يقال عنه في هذا الصدد هو غياب الوفاء، فإننا نستطيع أن نترجم هذا كله إلى موجة عاتية من موجات الانحياز للعدو الذي كان يحاول النيل من مصر: مكانتها وتأثيرها .. ومن عبد الناصر: وعيه ودوره.

وهو دور يلعبه كيفما يبدو صاحبه حتى الآن.

ورغم أن الهجوم على عبد الناصر الآن أصبح النغمة السائدة لدى الكثيرين، فإنها تعكس هنا طبيعة (الدور) الذي اكتشفناه فيه بعد أن لعب هذا الدور جيداً هنا ثم فارقنا إلى حيث يكمل دوره جيداً خارج مصر .. ولنرى صورة من صور مواقفه من عبد الناصر قبل أن نصل إلى علاقته المريبة (بل الأكيدة) بالإسرائيليين والأمريكيين.

إن اتهاماته لعبد الناصر وهي في أغلبها الاتهامات التي كانت توجه إليه من أعدائه إنه في الحلقة الأولى وبعد انتهاء حصار الفالوجا على عبد الناصر وزملائه، يقول بالحرف .. (انتهت مأساة أو جريمة حرب فلسطين. ورأى الناس في القاهرة الاستقبال النكتة الذي أعده فاروق لأبطال الفالوجا وأبطال غزة وأبطال أسدود وعلى رأسهم الضبع الأسود والضيع الأبيض والضبع الذي بلا لون! ورأيت أنواعا من المهازل اليومية..) هذه تلاحظ دلالة هذه اللهجة ونحن نثبت هذه الفقرة بغير تعليق عليها لنشير إلى دلالة حضور الوعي بهذه الصورة التي أرادها صاحبها هذه الفقرة بغير تعليق عليها لنشير إلى دلالة حضور الوعي بهذه الصورة التي أرادها صاحبها سواء قبل ثورة يوليو أو بعد أن جاء عبد الناصر أو بعد أن ذهب عبد الناصر إنه يتهم عبد الناصر وبعد ذلك بأنه لم يهتم بغير زعامته، فالمسئول الأول في دنيا القاهرة التفت إلى تركيز زعامته في العالم الخارجي، إلى جانب نهرو وتيتو ونكروما وكيندي، وأقطاب العالم، وترك الجبهة الداخلية..(!!) وعلامات التعجب من عندنا.

وردد في مرة أخرى بأنه لم يهتم بغير تحقيق العدالة الاجتماعية أو في شعار العدالة الاجتماعية والقيام بدور استبدادي لتثبيت زعامته، يقول متسائلاً .. (وهل كان ضرورياً الإصرار على إلغاء كل حزب سياسي من أحزاب مصر وسوريا إكراماً للثورة أو مشتقاتها وهل كان ضرورياً أن تداس الديموقراطية بالأقدام وتترك الساحات أمام الأجهزة الأمنية وحدها كي تحكم وتعتقل وتسجن وتشرد دون أي رقابة من الشعب، وهل كان من الضروري أن يقبل جمال عبد الناصر بمبادرة روجرز في عام 1970).

ويسهب أكثر في أحكام غير دقيقة بالواقع التاريخي، أو عبر الوثيقة، أو تحديداً خلال الرأي المنصف لما كان يحدث خاصة أنه كان شاهداً على ما كان يحدث، بل شاهد أكثر حساسية من غيره فقد جاء من القدس وعاش في أكثر من قطر عربي حتى استقر بفضل عبد الناصر وحمايته في القاهرة لسنوات طويلة، ثم ها هو يقول الآن أشياء مثل التي كانت تقولها دوماً أجهزة مخابراتية ضد عبد الناصر وفترة حكمه!!

إن قبول عبد الناصر تحديداً لمبادرة روجرز لها في التاريخ ما يبررها، فقد كان من اللازم أن يقبلها عبد الناصر الذي كان في مهمة في الاتحاد السوفيتي حينئذ لإنقاذ مصر من ويلات التدفق بكل أنواع الأسلحة الأمريكية إلى إسرائيل، ومحاولة إنقاذ الداخل الذي كانت تتسلل إليه إسرائيل في أبو زعبل وبحر البقر .. إلى غير ذلك مما يعرفه المؤرخ جيداً، الذي ليس مكانه الإسهاب هنا .

وليس لوم النشاشيبي أو عجبه الآن إلا حلقة من حلقات الكراهية التي تسببت في هزيمة النظام الناصري نفسه في الستينيات؛ فقد كان أعداء عبد الناصر في الداخل أخطر وأبقى رغم أنهم في الخارج كانوا يتحينون الفرص للإيقاع به منذ بدايات الستينيات (منذ حرب اليمن..).

بل إن زعامة عبد الناصر (العربية موقف الشعب العربي في مصر) أيضاً كان موضع شك من الرجل الذي كان يعيش بيننا؛ إنه حين يصف موجة العروبة التي زحفت إلى مصر في عهد عبد الناصر يقول .. ونؤثر أن ننقل هنا كلماته:

(كان عبد الناصر يدفع للعرب ثمن زعامته عليهم، وثم تأييدهم له. وثمن ولائهم لمصر).!

وبعد أن يشير إلى هذه الموجة في عهد الملك فاروق قبل ذلك الذي كان يسعى للخلافة يهبط بهجومه المريب على الجماهير وعلى المثقفين سواء بسواء، وهو في هجومه، وإن بدا ناقصاً للوعي أو او متشبعها بالجهل لهذه المرحلة، فإنه (وهذا أقرب إلى التفسير) كان هو الدور الذي رسم له والذي راح يعبر عنه، وظل يعبر عنه بعد أن خرج من مصر منذ ثلث قرن حتى الآن.

انظر إليه، يعود ليربط ربطاً عشوائياً مريباً بين الفهم المقصود للجماهير أو المثقفين حينئذ حيث يضيف: (لم تكن تلك الموجات في رأي العروبة، متجاوية مع كل ما كان يتمناه الشارع المصري .. بأغلبيته، ولم يكن طه حسين، وحده، يحمل تلك الآراء المعروفة عن مستقبل الثقافة في مصر ولا إسماعيل صديق باشا .. إياه .. ولا الدكتور عزمي ولا..).

ويعدد أماء كثيرة ليؤكد حقيقة مغرضة يريد أن ينفذ إليها ومنها ليؤكد عبث عروبة مصر واتجاهها في ذلك الوقت .

ومع ذلك، أو رغم ذلك فقد نجد النشاشيبي أن يخدع عبد الناصر نفسه وكما سنرى الذي قال عنه في الحلقة التاسعة تحديداً إنه (لولا رضى الله ورحمته، وقلب عبد الناصر ومحبته، لما عدمت محرراً أو كاتباً أو موظفاً أو زميلاً يفرغ رصاص مسده في صدري..).

لقد لعب الدور جيداً، واستطاع أن يكسب كل القلوب حوله لتحقيق الهدف الذي جاء إليه ومن أجله في مصر وهو ما يتبدى أكثر في علاقاته الوثيقة والحميمة (والموظفة) جيداً مع الصهاينة والأمريكان في ذلك الوقت.

إنه يمارس هذا الدور بأكثر من طريقة: إما أنه يستخدم أسلوب النقل عن الآخرين، وإما ينقل لنا ما يريده بشكل مباشر من المصادر المعادية لأمتنا العربية أو إنه كثيراً ما يردد أحداثاً خطيرة (تصب بالطبع في التيار المضاد للأمة العربية) خلال السما ع والنقل عن الآخرين، فكثيراً ما يقول (سمعت عن..) أو قال لي صديقي إنه (سماع عن المبعوث الأمريكي روبرت أندرسون..) وعرفت أن ابن جوريون يصرح بأن .. (و) قيل لي في واشنطن بلسان رجال الخارجية الأمريكية ورجال البيت الأبيض بأن .. بل لا يتردد في أن يقول لنا بضمير المتكلم (التقيت مع السفير الإسرائيلي موشيه ساسون ثاني سفير لإسرائيل في مصر..) ويطيل في حلقات كاملة وينقل عنه ما يريد نقله.

وما يقوله عن ساسون (صديقه!!) يقوله عن موشي ديان الذي التقى به أيضاً.

ويعجب المرء ويتساءل مع البعض هنا سر العلاقة التي سمحت له بأن يقابل موشي ديان في مكتبه بتل أبيب في الحادية عشرة مساء، وأن يتشاور معه في عدة قضايا حساسة لا يمكن إثارتها مع شخص لا تربطه صلة سابقة مع الإسرائيليين ولا يعرف موشي ديان معرفة شخصية!! بل ويسمح له وحده بالدخول إلى مكتب ليفي أشكول برئاسة الوزارة الإسرائيلية (وكان رئيساً للوزراء حينئذ) ليتحدث معه في قضايا سياسية على جانب كبير من الخطورة، ورغم تحذيره من أن رئيس الوزراء مريض بالقلب فإن لقاءه به طال لأكثر من ساعة .. وطال قضايا في غاية الخطورة.

الأكثر من هذا أننا نفهم قرب نهاية الحلقات أنه كان يكتب (مذكراته) عما كان يحدث في مصر، فهل كانت مذكرات حقا .

يسأل المرء وهو يتابع رواياته التي يفترض معها أن قارئه يغفل التاريخ ويغفل دلالة الأحداث أو الشخصيات التي كانت تتحالف من أجل هزيمة الجبهة العربية، إنه يتحدث عن هذه (المذكرات) حين يقول في براءة مقيتة أو يسأل بشكل يبدو فيه حائراً أو متحيراً: (ولا أدري كيف وصلت تلك المذكرات إلى الخارج، حتى أن البروفيسور برنارد لويس، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة برنستون الأمريكية..) وهو يفترض في هذا أننا لا نعرف أن برنارد لويس أشهر مستشرق يهودي يلعب أدواراً كثيرة ضدنا، وأنه رأى برنارد مازال يلعب أدواره الصهيونية بالاتفاق مع الدولة الصهيونية في خطورة لا تمر هكذا على القارئ اللبيب فضلاً عن المتابع للأحداث من المثقفين والباحثين.

لقد كـان محل ثقة موشي ديان إلى حد بعيد، وكانت علاقاتـه بأشكول وساسون وغيرهم من الإسرائيليين تستعصي على الفهم، لكننا الآن خلال اعترافاته بنفسه ندرك أن لها دلالات كثيرة تؤكد أنه لعب دوراً مريباً في هذا الوقت إلى درجة أن البعض مازال يسأل عن سر العلاقة التي سمحت له بأن يقابل وزير الدفاع الإسرائيلي بمكتبه بتل أبيب (أحمد حمروش) ودفعت بآخر بأن يسأل سؤالاً له إجابة أيضاً: هل كان النشاشيبي جاسوساً على عبد الناصر وعلى المجتمع المصري طيلة السنوات التي قضاها في القاهرة. وعندما انتهى من مهمته سافر إلى القدس والتقى مع رؤسائه ديان وأشكول (وائل الإبراشي) ويقول قريباً من هذا وائل قنديل .. وغيرهم كثيرون ممن وعوا أن حضور الوعي كان من الوضوح بحيث يعبر عن نفسه بهذا الدور الذي لعبه ضد الأمة العربية ومع أعدائها .. إن حضور الوعي الطاغي هنا ليس له غير تفسير واحد نعرفه جميعاً ..

يقول الكاتب في الجزء 24

فهل يجوز يا معلمي الكبير أن يترك تحديد العلاقة بين أكبر دولة عربية "مصر" وأكبر دولة في العالم "أمريكا" إلى حفنة من الجواسيس الهواة من أمثال مايلز كوبلاند، وإيفلاند، وكيم روزفلت، وإيجلبرجر ..

الفصل الثامن: أصداء غائبة

عبد الناصر .. رومانسي أم ثائر ؟!

هل كان عبد الناصر رومانسياً؟

هذا ؤال يلح على المدقق في حياة عبد الناصر الأولى ـ بل الثورة وبعدها.

هل كان عبد الناصر ثورياً؟

سؤال آخر يحاول أن يفرض نفسه حين تمضي السنوات بعبد الناصر إلى حقبة بعيدة من ثورة يوليو.

وهو ما يضعنا في دائرة الحيرة؛ أو في دائرة السؤال الذي نجده في العنوان:

عبد الناصر رومانسي أم ثائر؟

ويظل السؤال معلقاً، ليس مع مراجعة مواقف عبد الناصر وخطبه فقط، وإنما ـ أيضاً ـ مع ملاحظة بعض كتابات معاصريه من المثقفين، حين كانوا ينظرون إليه من بعيد ويرددون الكثير عن هذه الرومانسية أو يتهمونه، وكانوا جميعاً يعودون إلى موافه الكثيرة أو كتاباته المتناثرة هنا وهناك.

غير أن الوثيقة التي يمكن الاقتراب بها من حافة السؤال كانت دائما كتابه (فلسفة الثورة) الذي نشر قرب منتصف الخمسينيات من هذا القرن.

ورغم أننا نستطيع أن نضيف إلى (فلسفة الثورة) كثيراً من الوثائق الأخرى مثل (الميثاق) أو (بيان 30 مارس) وخطب عبد الناصر وتحولاته وممارساته في هذا الاتجاه، فإن التوقف عند (فلسفة الثورة) له أهمية تفوق غيرها، فهي تحمل الملامح الأولى المكتوبة للفكر الرومانسي والذي لن يلبث أن يتحول من الحلم إلى الواقع عبر الممارسات التجريبية في السنوات التالية حتى نهاية الستينات.

فضلاً عن أن التمهل عند (فلسفة الثورة) كان يعني ـ منذ البداية ـ أن الفكرة العربية تعني تصعيد إنجازاتها من مصر منذ البداية، فعلى الرغم من أن أفكار القومية العربية وتنظيراتها الأولى كانت تعرف في المشرق خاصة مع ظهور حزب البعث، فإن (فلسفة الثورة) كانت تعني تحول هذه الفكرة وتجسيدها في الوطن / الإقليم (مصر).

فعبد الناصر فيما يبدو في الفترة الأولى من الخمسينيات كان يجد أن الدور المصري هو الدور الأول في إنجاز عملية الوحدة، وهذا قدرها ومصيرها.

كماهو قدر البطل صاحب الدور ومصيره.

وفي هذا نستطيع أن نشير ـ عرضاً ـ إلى العديد من كتابات خالد محمد خالد وفتحي غانم ولويس عوض .. وغيرهم، غير أن أهم الكتابات التي تلقي بأضواء ساطعة على المرحلة الأساسية في حياته، والتي نستطيع أن نتعرف فيها أكثر أو نقترب من هذا السؤال يظل هذا الكتيب صغير الحجم كبير القيمة (فلسفة الثورة) لجمال عبد الناصر. وربما كان لوي عوض أقرب هؤلاء إلى التحليل لشخصية جمال عبد الناصر في ذلك الوقت، او إلى (الدور) الذي اقتنع عبد الناصر نفسه أن الدور الذي يجب أن يضطلع به.

كان عبد الناصر في الفترات الأولى التي نضج فيها وعيه وتهيأ ليلعب دوره في الحياة العامة إنه كثير الشرود، كثير التفكير في الواقع حوله، وفي فلسفة الثورة التي كتبت في مرحلة قريبة من قيام الثورة يلاحظ أنه لم تفارقه هذه السمة "الشرود المستمر"، وهو يذكر هذا بوضوح شديد حين يذكر أنه وهو جالس شارداً في إحدى المرات مع أفكاره ألحت عليه قصة مشهورة للشاعر الإيطالي بيرانديللو، وأطلق عليها هذا الاسم (ست شخصيات تبحث عن ممثلين).

وهنا نلاحظ دلالة تغيير اسم المسرحية وعنوانها الأصلي (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) ويلتقط لويس عوض هذا الخطأ غير المقصود، موجهاً تفسيره إلى ما أسماه (الخطأ والنسيان الفرويدي) لم تحمله هذه العبارة من معنى أن عبد الناصر كان يسعى إلى دور البطولة ولي المؤلف.

أو بدور البطولة التي تقوم بصنع الأحداث، أو إعادة صياغتها كما تحددها صياغة أفكاره الآتية من هذا الشرود (الفرويدي) الذي يحمل معان لم يكن ليقصد الكاتب الاعتراف بها، بينما تجيء على اللان على شكل إسقاط غير مقصود.

إن العبارة الخاطئة تحمل دلالة صحيحة في معناها الخفي.

وسوف نذكر عبارة عبد الناصر قبل أن نعود إلى وضعها في سياقها العام، يقول عبد الناصر في كتابه (فلسفة الثورة. ص ص 69، 70) بعد أن يتحدث عن الدوائر الفاعلة في المنطقة العربية:

"إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدواراً بطولية مجيدة قاموا بها في ظروف حاسمة على مسرحه.

وأن ظروف التاريخ أيضاً مليئة بأدوار البطولة المجيدة التي نجد بعض الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل إلي دائماً أن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يحيل إليّ أن هذا الدور الذ أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا قد استقر به المطاف متعباً منهك القوى على حدود بلادنا يشير إلينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدي ملابسه فإن أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به.

وأبادر هنا فأقول أن الدور ليس دور زعامة، إنما هو دور تفاعل وتجاوب مع كل هذه العوامل، يكون من شأنه تفجير الطاقة الهائلة الكامنة في كل اتجاه من الاتجاهات المحيطة بها. ويكون من شأنه تجربة لخلق قوة كبيرة في هذه المنطقة ترفع من شأن نفسها وتقوم بدور إيجابي في بناء مستقبل البشر".

ويعود بعدها عبد الناصر ليستطرد حول دوائره والدور الذي يتحدث عنه أو يبحث عنه في اللاشعور.

الخروج من الميثولوجيا

وعلى هذا النحو، نستطيع أن نرى كيف تخرج الرومانسية مع مرور الأحداث وتراميها وتحديها لكثير من العوائق التي تأتي من الشمال .. من الحلم المكبوت في اللاوعي إلى الواقع، تخرج من الذات إلى المجتمع.

كانت هذه الرومانسية تقترب من المجتمع العربي بقدر ما تبتعد عن الفرد لدى عبد الناصر.

ورغم أن شخصيته منذ فترة مبكرة غلب عليها ح غامض بالحزن والحيرة فضلاً عن الغضب مع تطور الأحداث كما رأينا في حرب 48 وبعدها (هناك رصد واف لفكرة القومية العربية في هذا الإطار لدى (مادلين نصر) في كتابها عن عبد الناصر .. فإن هذه الشخصية لم تستطع أن تظل في إطار الفردية المطلقة، إذ سرعان ما تنحو إلى الفعل في فترة محددة، يكون التقاطع فيها بين العام والخاص دافعاً لمغادرة الذات إلى المجتمع كما رأينا بالفعل (نستطيع رصد هذا الخروج في الأدب خاصة سواء في الغرب في القرن الثامن عشر أو في مصر مع عشرينات هذا القرن..).

وهنا، يكون القائد قد خرج من إطار الميثولوجيا الفكرية إلى التطور العملي، وبدت الفكرة الرومانسية في حالة تجسيد مع الفكر العملي، وبدأ السياسي يتماهى مع الاجتماعي.

إن فترة التحول من الفكر الرومانسي إلى الفكر الثوري نجده لديه منذ فترة مبكرة في كثير من المواضع في هذه (الفلسفة..)، إن أحد أفراد القوة المحاربة التي كانت تمثل معه قوى (مجلس قيادة الثورة فيما بعد) اقترب من عبد الناصر أثناء الحصار للفالوجة، وقال له في نبرة عميقة وفي عينيه نظرة أعمق:

(لقد قال لي: اسمع..، إن ميدان الجهاد الأكبر هو مصر).

وهنا يستطرد عبد الناصر أكثر أنه لم يجد في فلسطين الأفـراد الذين يمكن أن يشاركوه في الكفاح والتصدي للقوى الإسرائيلية وإنما أيضاً التقى "بالأفكار التي أنارت أمامه السبيل".

وهو يعني أن هذه الفترة كانت الرومانسية مازالت تسيطر على فكره، وإن كانت تعمل ـ جنباً إلى جنب ـ على تحويل هذا الحلم إلى واقع، أو كان يسير الحلم جنباً إلى جنب بجانب الواقع، فما كان يحدث في فلسطين نبه القائد إلى أنه "ما كان يحدث في مصر، والمهم، كيف يمكن تحويل الحلم ـ قبل أن يتخثر ـ إلى واقع، ولكن هنا، في الدولة الإقليم مصر، حيث يمكن ـ بعد القضاء على الأعداء الداخلين ـ إلى رأس حربة ضد القوى المعادية ليمكن تحقيق الوعد العربي بالوحدة.

على أن مراجعة التطور الذي كان يحدث في دخيلة عبد الناصر كان يشير أن الأمر لم يستمر طويلاً في الحديث عن الواقع وحسب، وإنما كان لابد من الخروج عن السؤال القوي الطاغي على كل ما عداه لقسوته (كيف)، كيف يحدث كل ما حولنا، إلى سؤال آخر، هو (لماذا) .

لماذا يحدث هذا كله دون أن نتحرك.

الحركة كانت هي الدافع الجديد وراء كل ما حدث طيلة الخمسينات.

إن (فلسفة الثورة) تزخر بالغضب والسخط، ولكنها ـ أيضاً ـ تنذر بكيفية الخروج من هذا كله.

الوسيلة للخروج كانت هي الشاغل في المرحلة التالية أو نتيجة لها.

والجغرافيا هنا كانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوسيلة.

تظل الوسيلة هي الشغل الشاغل لعبد الناصر في إطار هذا الواقع لكي يتم الانفلات منه.

كانت الوسيلة هي كيفية الخروج من معنى (الانقلاب) ــ بعد 23 يوليو إلى الوعي (بالثورة).

وكانت الوسيلة هي كيفية الخروج من الحلم الذي عاش فيه طويلاً إلى تجسيده في أحد ـ وأهم ـ دوائر التغيير التي شغلته في (فلسفة الثورة) وهي الدائرة العربية.

بل كانت الوسيلة من الجموح، بحيث أنها أرادت أن يحدث التغيير بسرعة بعد تحويل الحلم إلى واقع بقيام ثورة يوليو، وربما كان هو الباعث الرئيسي لسخط عبد الناصر على الجماهير في هذه الفترة.

فبمجرد أن قامت ثورة يوليو كانت ينتظر عبد الناصر الجماهير لتجسيد الوسيلة، وسيلة التغيير، لكنه، لم يجد ـ كما تحدث ـ هذه الجماهير تحوطه لتحول الحلم إلى واقع آخر فاجأه، يقول:

"ــ فاجأني الواقع بعد يوليو 23 يوليو.

قامت الطليعة بمهمتها واقتحمت سور الطغيان، وخلعت الطاغية ووقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة الهدف الكبير.

وطال انتظارها.. (و) .. ولكن ما بُـعد الحقيقة عن الخيال.

لم يتنبه القائد أن الجماهير كانت في حاجة للتنظيم وإلى منح الفرصة للظهور وكان الخيال عند عبد الناصر غير هذا الواقع، فالجماهير العربية في مصر ـ مثل أي جماهير عربية في الأقطار الأخرى ـ يحول بينها وبين التعبير مئات الأشياء، ثم أنها تحتاج لمن ينبهها أكثر إلى وسيلة التغيير، ولمن يشحذ إرادتها أكثر، ويجلي بصيرتها أكثر، فقد كانت سنوات الطغيان والاستعمار طويلة بما يكفي لإحداث الصدمة النفسية لدى الجماهير.

كان الحلم الرومانسي أقوى من الواقع وأبعد عنه إلى حد ما.

المعركة الحقيقيـة

بيد أن عبد الناصر سرعان ما عاد إلى الحقيقة، ليكتشف ذلك. لقد اكتشف أن معركته ليست أن يبحث عن الجماهير، فهي سوف تتحرك معه أبى أم رفض، وإنما تظل المعركة ضد هذه القوى الداخلية الطاغية، التي تحول بينه وبين نمو أحلامنا بعيداً عن أن تتحول ـ بفعل الطغيان ـ إلى كابوس مدمر.

اكتشف هذا أكثر، حيث لاحظ أن هذه القوى المعادية للثورة في الداخل أو الخارج كانت تسعى للقضاء على حلم القائد / الجماهير.

وعلى هذا النحو، اكتشف عبد الناصر أن الوسيلة هي الطريق إلى ما يريد، إنه يستهل الجزء الثاني من (فلسفة الثورة) بهذين السؤالين:

ولكن ما الذي نريد أن نصنعه..؟

وما هو الطريق إليه..؟

ويؤكد أن كان يعرف الإجابة عن السؤال الأول أما الإجابة عن السؤال الثاني "طريقنا الذي نريد" فأنا أعترف أنها تغيرت في خيالي كما لم يتغير شيء آخر.

لقد اكتشف عبد الناصر أن العمل الإيجابي للخروج من أسر الحلم هو الطريق الوحيد للوصول إلى غايته.

وعلى هذا النحو، نكتشف أن أكثر الطرق وعياً كان قد توصل غليها في الخمسينيات، أو أن الطريق إلى الرومانسية قد تخلله أو سار معه طريق العمل المنظم للجماهير ـ ومع ـ الجماهير العربية.

لقد كان امتزاج الرومانسية بالوسيلة هو الطريق الذي مهد لتجسيد القومية العربية في الخمسينات.

إن عبد الناصر بعد أن يتحدث عن هذا الدور الذي يبحث عن بطل، يستعيد في القسم الثالث ـ وهو دائم استعادة الحلم ـ كيف تبلور فكره منذ كان طالباً في الكلية الحربية لدروس التاريخ التي كانت تؤكد الوعي العربي إزاء الحملات الصليبية (الغربية) المضادة، ثم بدأ الفهم يتضح أكثر وهو طالب في كلية أركان الحرب في فلسطين، ثم بدأت الفكرة تصل إلى أقصاها حين توصل إبان الحرب في فلسطين إلى أن القوة، والقوة العربية وحدها هي التي تستطيع أن تكون اللغة ـ الوحيدة في هذا العالم ـ التي يفهمها العدو وتأكد هذا من مدفعية أحمد عبد العزيز ونضال فوزي القاوقجي، كما يذكر تجربة كان لها الأثر الكبير في تأكيد الوعي القومي وتحويل الأسطورة إلى واقع، فهو حين يذكر سراً من أسرار فلسطين (يذكر في قرب منتصف الخمسينيات، لاحظ الموقع الجغرافي)، ويسرده على هذا النحو :

"كان البعض وضع خطة جريئة للقيام بعمل حاسم "وعربي" ضد القوات الإسرائيلية".

(كانت الخطوط البارزة في تلك الخطة هي أن قوات التحرير العربية لا تملك طيراناً يساعدها في المعركة ويرجح النصر إلى كفتها، ولو أنها حصلت على معونة من الجو بضرب مراكز فوق ميدان العملية، لكان ذلك عاملاً فاصلاً، ولكن من أين لقوات التحرير العربية بالطيران لتحقيق هذا الحلم).

البطل الملحمي

بقية الخطة أن يقوم سلاح الطيران المصري بمهمته لو كان بمساعدة المطارات السورية، كان لابد أن يشارك العرب في خطة واحدة.

ورغم أنه لم يقيض لهذه الخطة أن تتم، فإنها تشير إلى هذا الوعي المتطور لدى البطل العربي في مصرب، وعثوره على الوسلية التي سيطورها أكثر فيما بعد في الخمسينات لتحويل الرومانسية إلى واقع حين أصبح خاصة بعد مارس 1954 ــ هو القائد / البطل الملحمي المنتظر.

ثمة إشارات كثيرة كانت تؤكد نمو الوعي العربي عبر (الوسيلة) الفعالة، كان يتأثر لما يحدث للفلسطينيين اللاجئين الممزقين عبر الخيام، أو يكاد يبكي ويسهر للصباح لمرأى طفل تحت براثن الحصار فتخرج إلى الخطر أمام سياط الجوع تبحث عن لقمة عيش .. إلخ.

غير أن المهم، أن عبد الناصر في الخمسينات كان قد حول (الحلم) الرومانسي إلى (وسيلة) فعاجل لتحقيق الوحدة العربية.

لقد تحول عبد الناصر من بطل درامي "إلى بطل ملحمي، أو إذا جاز لنا استخدام مجازه، غدا الشارع الذي يروي سيرة مصر على ربابته، بدلاً من أن يحركه كالدمية على مسرحه" على حد تعبير لويس عوض.

كان على البطل الملحمي الآن أن يقوم بدوره بعد أن توصل إلى (الوسيلة) لذلك فقد بدأ بالفعل يوالي تحقيق انتصاراته على المستوى العربي، ويصعد الثورات العربية ضد المحتل الأوروبي، بيد أنه عبر ذلك النضال المستمر لتعبئة الشارع العربي وتحرير الأوطان العربية لم يتنبه أنه دخل في منطقة الخطر، منطقة المصالح الأمريكية.

وعلى هذا النحو، بدأت سلسلة من المعارك من أجل القومية العربية مع العدو الأمريكي ثمن عبد الناصر ثمنها كثيراً.

ثمن الثورة العربية

كان على جمال عبد الناصر أن يحول حلمه إلى حقيقة، فبدأ الصراع الكبير مع الغرب يأخذ أبعاده المعروفة بتأميم القناة ومبادئ 61/62 وتأميم القطاع الأجنبي والإقطاعي الداخلي وحاول أن يحول مبادئه الستة التي أعلنها صبيحة قيام الثورة، وتحويلها لتأكيد الوجود الوطني المصري، ومن ثم العربي، ثم بدأت متاعبه الحقيقية لا مع الغرب الأوروبي ولكن مع الغرب الأمريكي.

وقد حدث هذا عقب عدوان 1856 مباشرة (بانفصال سوريا) وبدأ دوره الإيجابي في (الحرب الأهلية اللبنانية) وحرب اليمن، ثم كانت هزيمة 1967 وأعقب ذلك حرب الاستنزاف التي شارك فيها عدد كبير من الأقطار العربة التي تأثرت بجهود عبد الناصر العربية.

على أنه بمجيء الهزيمة (1967) حتى كان عبد الناصر قد أدرك أن وسيلته الفعالة لتحدي الغرب ــ والأمريكي خاصة ــ توشك أن تأخذ شكلاً جديداً، ومن ثم، فإنه راح يغير استراتيجية المواجهة بعد حدوث العديد من الأحداث التي اعترضت مركبته العربية في المحيط الكبير.

نقول تغيير استراتيجية المواجهة؛ لا تغييبها.

لقد انتهى الآن عصر الرومانسية وبدأ عصر الواقع الحقيقي.

لقد خرج عبد الناصر (بوسيلته الفعالة) الواعية عبر المركب العربي إلى التحديات التي أودت به إلى الهزيمة.

وهو ما يقال معه، أن الحلم الذي تحول إلى حقيقة لم يستطع أن يكتمل إلى نهايته كان عبد الناصر قد عبر من زمن بعيد عصر الرومانسية الثورية إلى الثورية العربية الفعالة.

وكان عبد الناصر قد اجتهد طويلاً لتظل الراية العربية مرتفعة قدر ما يستطيع، ودفع الكثير من أجل هذا، من أموال مصر وأبنائها، ثم من سنوات عمره التي أراقها وأنفاسه القليلة؛ انطلاقاً من حقيقة مؤداها "أن العمق الاستراتيجي العربي لمصر يحميها في مواجهة الصهيونية التوسعية.."، ومن ثمَّ، فإن حصاد السعي إلى الوحدة مع سوريا ــ على سبيل المثال ـ أو مرارة الانفصال؛ لم يرتد به إلى موقف مغاير رغم صدمة هزيمة 1967 وإحباطها .. وهو ما يطرح ـ بالتبعية ـ أسئلة بدهية.

هل انتهى الثائر مع هزيمة 1967؟

هل غاب البطل في الظلال وما لبث أن سقط على خشبة المسرح؟؟.

المسرح العربي الكبير المليء بالجثث العربية الأخرى.

وهل أسدل الستار على نهاية الثائر؟.

ثم هل راح الجمهور العربي يؤكد (بصورة الكورس) أن البطل الملحمي سقط لكي يبعث من جديد، كما ايزوري في الأسطورة العربية القديمة؟

باختصار لم نعد في حاجة لنسأل : هل كان عبد الناصر رومانسياً أو ثورياً؟

إنما الإجابة التي أحكمها التاريخ أنه بدا بطلاً ملحمياً ننتظره جميعاً.

لم يرحل أو رحل وسيعود ثانية، فالواقع العربي اليوم ينتظر عبد الناصر الثوري، الذي يستطيع أن يقف في وجه محاولات الغرب الأمريكي الوقح والمتفجر كراهية لنا، وفي حاجة لمن يقف في وجه الرأسمالية البشعة المتوحشة التي تعى إلى فرض إرادتها على الواقع العربي عبر الأسواق المفتوحة والشركات متعددة الجنسيات.

والإعلام المجتمعي الآتي إلينا من الغرب في عصر العولمة (=الأمريكي) البغيض، وانتهى ثورياً عربياً واعياً. رحل الثائر لكننا مازلنا ننتظره ليقوم بالدور الذي حدثنا عنه في أحلامه / أحلامنا الأولى، وغضبه / غضبنا الذي كان.

بعيداً عن الثرثرة .. قريباً من الثورةِ !

وبعيداً عن ثرثرة الورق التي تنهض في آن لآخر لتقييم عبد الناصر وثورة يوليو .. هذه محاولة لإعادة النظر في الناصرية وهي ـ أي الناصرية ـ في الأصل تعبير عن اتجاه سياسي عملي تجريبي أكثر منها تعبيراً عن (دوجما) بعينها.

الكتاب لا يسعى مثل كثير من كتابات هذه الأيام إلى تصفية حسابات أو اتجاه يعمق رأي بعينه وإنما يتنبه وهو يتحدث عن (الناصرية والسلام) ـ تحرير عبد الحليم قنديل ومشاركة عدد كبير من مثقفينا ـ إلى أن العنوان فرضه وصول الرأسمالية الشرية إلى ذروتها في نهاية القرن العشرين .

وبهذا المعنى، فإن الناصرية التي يعاد النظر فيها الآن بمنطق نهاية القرن العشرين، تسعى إلى التنبه لما أصبحنا فيه وقد سقطت الكتلة الشرقية وتهاوى سور برلين وزاد الحديث عن (العولمة..) وآليات النظام العالمي الجديد خاصة فيما يعقب هذا من عسكرة العولمة إبان 11 سبتمبر وبعدها.

إن الناصرية في الخمسينات والستينات تحدت الغرب الذي كان يريد السيطرة على مقدراتنا واتجهت نحو التنمية والتأميم والتحول الاجتماعي والتنظيم الاقتصادي كما ساعدت قوى التحرر العربي ودخلت في حروب داخلية وخارجية كثيرة لئلا يترك الغرب يجوس بين ديارنا.

والناصرية كتجربة متطورة يمكن أن تسعى الآن إلى هذا الهدف لو أحسنا قراءتها في ضوء نهاية هذا القرن.

وبمراقبة سياسة أهل العولمة الآن وأدبياتها نعثر على يقين يتلخص في تأكيد سيادة العالم الغرب على أهل الجنوب في كتاب "هنتنجتون" الأخير عن (صراع الحضارات) نراه يرصد لأطروحة "فوكوياما" مؤيداً ما فيها من انتهاء الحرب الباردة وانتهاء الصراعالكبير في السياسة الكونية وظهور عالم جديد هو عالم (الأمركــة) في حين يرى "فوكوياما" أن "نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وتعميم الليبرالية الديموقراطية العربية على مستوى العالم كشكل نهائي".

إن "هنتنجتون" يؤكد في أكثر من موضع على انتهاء حرب الأفكار "فالديموقراطية الليبرالية الشاملة قد انتصرت" وحين يصل إلى عبارة "فوكوياما" أن صراع الأفكار انتهى وبدأ صراع آخر اقتصادي وفني نراه يعلق على "فوكوياما" بأنه ينهي كلامه بأسف قائلاً أن "ذلك سيكون مضجراً".

وكان "فوكوياما" ـ وراء "هنتنجتون" ـ يريد أن يقنعنا أن حرب الأفكار كانت خيراً من الهيمنة التي تتخذ أبعاداً سياسية واقتصادية ومعرفية الآن لتحويل العالم إلى (سوق) للغرب الأمريكي.

وعلى هذا النحو، فإن الناصرية الآن ـ إذا أحسن قراءتها ـ يمكن أن تكون فاعلة في زمن يتم تدويل الرأسمالية فيه بالشركات الاقتصادية متعددة الجنسيات. وتدويل الثقافة والحضارة والرؤية الغربية عبر شركات إعلامية عابرة للقارات، وهناك عدد صغير من هذه الشركات (خمس عشرة شركة) تتحكم في كافة المواد والوسائل والمؤسسات والتقنيات الإعلامية والإعلانية في العالم. بل إن أربع وكالات أنباء رأسمالية وهي (رويتر – اسوشيتد برس – يونايتد برس – فرانس برس) تحتكر فيما بينها 80% من إجمالي تدفق المعلومات الدولية، وتكرس هذه الوكالات من أنبائها لدول الشمال.

وتتصدر وكالات ومؤسسات الأنباء التابعة للولايات المتحدة مجمل وسائل الهيمنة الثقافية والإعلامية في العالم، وتسيطر على 75% من إجمالي الإنتاج العالمي من البرامج التليفزيونية، و90% من إجمالي الأخبار المصورة و82% من إنتاج المعدات الإعلامية والإليكترونية و90% من المعلومات المخزنة ـ المعطيات ـ في الحاسوبات الأليكترونية .. وغير بعيد هنا حين أعلن ـ في بعض الصحف الغربية ـ أن جميع أجهزة الكومبيوتر الأمريكية فيها أجهزة حساسة في غاية الضآلة تابعة للمخابرات الغربية، تتحكم في أكثر آليات العولمة شراسة.

وهو ما يشير في النهاية إلى أن السياسة الأمريكية ـ بوجه خاص ـ أصبحت الآن تسعى (باقتصاد السوق) للسيطرة على مقدراتنا العريبة و(باقتصاد المعرفة) على مقدراتنا العلمية والإليكترونية .. إلى آخر هذه المنظومة الغربية التي تريد القضاء على شعوب الجنوب ليمكنها السيطرة على عالم تحرك فيه الدمى كما تشاء دون عنف أو مواجهة رجل من نوع عبد الناصر.

ومن يراجع سياسات الشمال وأدبياته في السبعينات ـ بعد رحيل الزعيم ـ يعرف أن الناصرية إذا أحسنا قراءتها يمكن أن تكون فاعلة ويعرف أن السياسات الأمريكية المخابراتية ـ كما أوكد في وقتها ـ لن تسمح بعودة عبد الناصر مرة أخرى والقضاء لا يكون الآن على الرمز وحده وإنما يتسلل إلى الواقع نفسه.

وهو يعزز هذه الاجتهادات التي بين أيدينا لنشير ـ فيما يشبه التأكيد ـ على أن السياسة العملية لعبد الناصر في مواجهتها للعالم حوله لم تكن لتتعارض مع أية عقيدة ومن هنا، نجد كتابنا يعود بنا إلى قضايا هامة في الإشارة لتجربة عبد الناصر وفكره.

من هذا هل الناصرية تتعارض مع الإسلام؟

وهي قضايا نضطر للعودة إليها لبداهتها في هذه الأيام التي مازالت الناصرية تهاجم من بين أهلها.

والنظر إلى بعض ثوابت الناصرية يمكن أن نعثر فيها على بعض الملاحظات البدهية أيضاً كما يوردها عبد الحليم قنديل، وسوف نشير إلى بعضها بشكل ريع: فالأيديولوجية الناصرية هي أيديولوجية مساواتية، تؤمن مع الكفاية الإنتاجية بعدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، وتؤمن بقيمة العمل كحق وواجب، ومصدر للسلطة والثروة والمكانة الاجتماعية. فالمساواة في الإسلام حرة وقيمة مقدسة، والمساواة لا تعني "المثلية" بل تعني أن تتساوى الفرص كأساس مقبل للثواب أو العقاب في الدنيا والآخرة، كما كان عبد الناصر دائماً يقول دائماً والإسلام لا يعترف بأي ثروة أو جاه لا يكون مصدره العمل أو الميراث ويحرم الاستغلال والربا تحريماً قاطعاً .. والمساواة قيمة لعبت أبلغ الأدوار في التاريخ الإسلامي ويذهب في هذا "ليونارد بايندر" إلى أن مبدأ المساواة الإسلامي تجسد في رغبة عبد الناصر بإنشاء مجتمع سياسي موحد، واستعاضته عن نظرية الحسم الدموي لصراع الطبقات في الماركسية بمبدأ المساواة، وهو ما يفيد في دعم وحدة الشعب ضد الإمبريالية ويوجد الطبقات الحضرية والريفية وصغار الملاك.

ثم إن الناصرية أيديولوجية شعبية، ليست أيديولوجية فئة أو طبقة بذاتها (قرأنا أول أمس من يتهم الناصرية بأنها طبقية)، إنها أيديولوجية أغلبية الشعب الحالمة بالمساواة والوحدة، أيديولوجيا الشعب المهاجر إلى المثال منشود، ناصرية تنحاز للكثرة الكادحة ضد القلة المسيطرة و..إلخ.

بيد أن أهم القضايا هنا تتحدد في علاقة عبد الناصر بالوحدة العربية.

وهي قضية تزداد أهميتها الآن في عصر الكتب الضخمة القومية أو غير القومية التي تحاول أن تؤثِّر بالإيجاب ـ لصالحها ـ (في الاقتصاد العالمي والأدوات المعرفية الصاعدة) فما موقف الناصرية من هذه القضية.

إن الأيديولوجية الناصرية توحيدية، والتوحيد القومي ـ يتفق في هذا كل من عبد الحليم قنديل ومحمد عمارة وعدد كبير من أصحاب الإسهام في هذا الكتاب ـ هي الوجه الآخر للتوحيد الديني.

إن هذا الرأي يتفق فيه عدد كبير من المشاركين في هذا الكتاب نذكر منهم عبد الحليم قنديل ومحمد عمارة، كما يمكن أن نضيف إليهم مع تعدد الزوايا أحمد صدقي الدجاني وطارق البشري ومجدي رياض وعلي مبروك وأحمد بن بله وقاسم عبده قاسم .. وغيرهم.

لقد كانت وثنية الجاهلية تجد رموزها في تعدد آلهة القبائل، وجاء التوحيد الديني ليوحد هوية القبائل والشعوب المستعربة ويدمجها في أمة ودولة، ومن هنا كانت "العروة الوثقى" بين التوحيد الديني والتوحيد القومي، وبلغ من ارتباط التوحيد القومي بالديني حداً اعتبرت معه وحدة الدولة حقاً تقتضيه فريضة الزكاة الدينية، ومن ثم كان قتال خلافة أبي بكر لمن ارتدوا عن وحدة الدولة القومية رغم إيمانهم بأصول الدين.

فضلاً عن أن للناصرية عدد من الأقلية الإسلامية ـ كما يحددها عابد الجابري ـ هي الله والإنسان والطبيعة ونظرة ونظرة الناصرية إلى الله هي النظرة المستقرة إسلامياً ذات الطابع التوحيدي بلا شبهة، الناصرية تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسالاته، أما الطبيعة فإنها محكومة بسنن تتبدل، والمجتمع بتطور قوانينه وصراعاته "التي لا يمكن إنكارها" وكل شيء يبدأ بالإنسان قائد التطور التاريخي والاجتماعي والعمل الإنساني هو المناخ الوحيد للتقدم، وكل ما يعيق إرادة الإنسان، ويحد من فاعلية دوره، مواقف غير إنسانية وغير أخلاقية وجب على الإنسان التصدي لها كما يقول جمال عبد الناصر.

وإذا كـان عبد الناصر تنبه كثيراً في كتابه المبكر (فلسفة الثورة) إلى الدائرة العربية، فإنه لم يغفل معها الدائرة الإسلامية، على اعتبار أن الدوائر الثلاثة ـ الثالثة الأفريقية ـ يمكن أن تمثل (بيان) الثورة في سنواتها الأولى.

ومن هنا، فإن الدائرة الإسلامية كانت تحت لديه مكانة ملحوظة.

فمن الملفت للنظر أن الحضارة الإسلامية الآن في عصر العولمة أكثر ما تستحوذ على فكر أصحاب العولمة.

ويلاحظ هنتنجتون ـ منذ البداية ـ أن الصراع القادم بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى (وفي مقدمتها الإسلام) لن يكون أيديولوجياً أو اقتصادياً، بل سيكون ثقافياً، يفصل فكرته أكثر حين يقول أنه بعد الحرب الباردة سوف يتم الصراع بين حضارات تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة، وسوف يكون هذا الصراع عند خط جديد "هو الآن الخط الفاصل بين شعوب المسيحية الغربية من ناحية والشعوب الإسلامية والأرثوذكسية من ناحية أخرى. العلاقات الاجتماعية والعادات والنظرات الشاملة للحياة تختلف تماماً.. " إلى آخر تأكيده لهذه الخلافات العميقة التي ستكون ـ في المستقبل ـ وها نحن في مستقبل الغرب أو نهاية التاريخ كما يرى ـ في الحد الفاصل بين هذه الحضارة العربية ونظيرتها الإسلامية.

لا نريد أن نلخص كتاب هنتنجتون عن صراع حضارة الغرب التي هي الآن الحضارة الأمريكية في الشمال و(إعادة صنع النظام العالمي) ــ وهو العنوان الثاني في كتابه، ولكي أصل إلى ما نريده تأكيده هو أن العولمة الآن تفرض رسم خريطةيستخدم فيها كل التاريخ وكل الجغرافيا لانتصار حضارة الغرب على غيرها وذلك في غيبة الدولة الوطنية التي عرفناها مع عبد الناصر والحكومة القوية التي تستطيع مجابهة الشركات متعددة الجنسيات وآليات العولمة..إلخ.

والعودة إلى الناصرية، سوف تذكرنا باهتمام عبد الناصر الكبير بالعقيدة ـ كأحد وأهم أدوات الصراع ضد الغرب ـ منذ فترة مبكرة، وبهذا، فإن المطلوب هنا لا يكون باختلاق الصراع كما يحاولون هم ذلك، ولكن أن يصل الوعي إلى أقصاه حين ننتبه إلى أن خريطة إدارة الأزمات التي يضعها الغرب إنما يريد خلالها القضاء على حضارتنا باستخدام الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وهو ما نلاحظ التنبه إليه في فلسفة الثورة منذ فترة مبكرة عند عبد الناصر والذي اختزل كل المحاولات ؟؟؟ سواء في دعوة حسن البنا (عصبة إسلامية) أو مالك بن نبي في (الكومنولث الإسلامي) أو ما كان قد دعا إليه عبد الرحمن الكواكبي في بداية القرن.

وهو ما يعود بنا إلى تفسير عديد من المعارك التي خاضها عبد الناصر مع بعض الحكام الرجعيين سواء من العرب أو الإسلاميين أو هذه العشائر والقبائل التي من الداخل أو القوى الشرسة في الغرب ضد العولمة قبل أن تظهر العولمة.

وقبل أن نعرف ثرثرة الورق في نهاية القرن.

بين الماضي والمضــارع

أيضاً كان السيناريو الذي سينتهي إليه ما حدث في اليمن الآن : الوحدة، الانفصال، الاستنزاف (الأرجح هو الأخير) .. فمن المؤكد أنه سيخلف في الوجدان العربي دوياً عميقاً.

وهي آثار حاول جمال عبد الناصر منذ نيف وثلاثين عاماً أن يتحاشاها حين أعلنت الحركة الانفصالية في سوريا (28 سبتمبر 1961)، ففي هذه التجربة الدامية حاول عبد الناصر أن يخفف من آثار ما حدث بألا يقع في خطأ مثل الذي ارتكبه من دعا إلى الانفصال وحاول تنفيذه بقوة السلاح .

نفس الحدث أو قريب منه حدث في عالمنا العربي لأكثر من مرة، ومع ذلك، لم نستفد به مرة واحدة، وكان التاريخ حسب المقولة الخاطئة يكرر نفسه، في كل مرة، بنفس الأسباب ونفس النتائج ..إنه الحدث بين الماضي القائم "والمضارع المستمر" ..

لقد أعلنت الوحدة بين اليمنين ـ الشمالي والجنوبي ـ بنفس الشكل الذي أعلنت فيه الوحدة بين القطرين ـ الشمالي والجنوبي، مصر وسوريا ـ، وفي الحالتين انتهت كما بدأت، غير أن النهاية رسمت في كل تجربة خطأ مغايراً لغيره، من حيث تطور الأحداث وتفاقمها، وبعيداً عن خلفيات الوحدة اليمنية والملابسات التي أجهضتها في النهاية، وكلنا نعرفها الآن، فإن الوحدة المصرية ـ السورية، وطريقة إجهاضها تحتاج أكثر للتذكر، ليتأكد لنا أن الوحدة لا تتم بمعزل من الشعوب ولا تفصم بمعزل عن الشعوب (مـا هو الفارق بين علي صالح، وحيدر الكزيري؟) وإنما لابد وأن تتم بوعي الشعوب الذي لابد وأن يسبقه التطور الاقتصادي والثقافي قبل أن تنتهي إلى التطور الاقتصادي والثقافي قبل أن تنتهي إلى التطور الدستوري .. وهذه بدهية تحمل لنا مشهدين اثنين: الأول في وحدة اليوم، والآخر في وحدة الأمس؛ الأول تمثل في رفض أن تكون سوريا الأمس هي (يمن اليوم)، والآخر تمثل في رفض الزعيم العربي اليوم ألا تكون سوريا الأمس هي يمن اليوم، إن اليمن الجنوبي الآن نراها: مستشفيات تكتظ بالجرحى، وتحتاج إلى أطباء، وأدوية، وبيوت تحترق ومدارس ومباني تهدم، ومياه تنقطع، وأوبئة تنتشر، والقصف حتى في المستشفيات والمطارات لا ينقطع، الصواريخ تحط يومياً على أحياء كالمنصورة والقاهرة والشيخ عثمان، ويمتد المشهد ليحمل يومياً الدمار لمحطات توليد الكهرباء وحرائق وانفجارات وقتلى وجرحى ودمــار، ويظهر في الصورة علي صالح ليختفي ويحل محله بسرعة متشددين عسكريين يساندهم تجمع من النواب يرفض وقف إطلاق النار أو وساطة عربية أو غربية، وتستمر المذبحة في عدن وحضرموت والمطار الرئيسي والمكلا..إلخ.

ونبتعد قليلاً عن المشهد المعاصر، لنعود إلى مشهد الأمس يعلن في سوريا الانفصال، فيغضب عبد الناصر ويرفض ويصيح في إذاعة القاهرة (.. واجب أن نمنع هذه الجريمة)، وعلى الفور تصدر أوامر عبد الناصر لإرسال قوات إلى سوريا للقضاء على الحركة الانفصالية، ولكن يدرك فجأة أن ما يمكن أن يحدث يمكن أن يكون ضد الوحدة نفسها، ولنترك لعبد الناصر يقول في اليوم التالي للانفصال (29 سبتمبر) بحكمة وحنكة شديدتين:

(أصدرت الأوامر بنقل لوائين من المظلات إلى اللاذقية .. أُصدرت الأوامر إلى القوات البحرية لتتحرك .. وأصدرت الأوامر بمصادرة كل سفننا واستخدامها في نقل القوات / وكان الموقف يستدعي التفكير .. هل يُسفك دم العربي بالعربي؟ فأصدرت الأوامر قبل منتصف الليل بقليل بأن تعود جميع الطائرات التي كانت متجهة إلى اللاذقية .. أما الآخرين أدّيْنا لهم أمر بالرجوع .. وأصدرت الأوامر للقوات التي نزلت اللاذقية بألا تطلق طلقة واحدة وبأن تقدم نفسها وتسلم نفسها..)

قال عبد الناصر بعد ذلك بقليل أن الوحدة يجب أن تكون اقتصادية أولاً، وثقافية، أولاً، قبل أن تكون عسكرية أو (دستورية .. وأدرك أن التعامل مع الانفصال بالعنف يمكن أن يكون ضد فكرة القومية العربية في ذاتها.

ونعود إلى المشهد المعاصر لنكتشف أنه مقطوع الصلة بمشهد الأمس، ونكتشف أن العالم تغير، ولكننا لم نتغير قط، تفكك الاتحاد السوفيتي بفعل الحرص على الوحدة (بالعنف)، وتوحدت القارة الأوروبية بفعل الحرص على الوحدة (بالفكر)، الأو استخدم السلاح والآخر (الاقتصاد)، الأو جنى سوء فهمه للواقع، والآخر سيجني ثمار فطنته في الواقع .

أعلم أن العالم تغير حولنا، لكن أعلم أيضاً أننا لم نتغير بعد بدليل أننا نعرف، ونعيش، مازلنا في "المضارع المستمر".

إذا ذهبت لزيارة السد العالي، وتوقفت أمام تمثال ضخم لزهرة اللوتس، ونظرت إلى الجزء الأعلى فيه ستجد شيئاً مروعاً، ثمة حفر أسود لصورة جمال عبد الناصر باللون الأسود وقد أعيد الحفر عليها بلون أسود قان صورة الرئيس السادات تسأل ولا تعرف، وإذا عرفت لا تفهم .. وإذا فهمت فلابد لك من أن تكون قد عدت إلى الشمال قليلاً، لمدينة طيبة (الأقصر) وتتجول بين جدرانها ومعابدها ومقابرها البحرية لابد لك من أن تتوقف عند طريق الكباش بمعبد الكرنك، وتعرف ـ والعهدة على الحفر والخراب ـ أن رمسيس الثاني قد اغتصب الكباش من ملك قبله يرجح أنه حور محب الذي شيد البيلون الثاني الذي ينتهي به طريق الكباش الأصلي.

فيما بعد، نعرف أيضاً، أن كاهناً جاء جاء ومحـا بدوره ـ طمعاً في السلطة المجد ـ اسم رمسيس الثاني من على الكباش ونقش اسمه بدلاً منه ولا تكون في حاجة شديدة لتدرك أن رؤوس الكباش القائمة أعلى رقبة الحيوان انتزعت من مكانها رأس آخر لملك آخر يحمل سمات أخرى تنتقل في كثير من المعابد أو بين القصور القديمة، لتدرك، أن حتشبسون أممت ما قبلها من الآثار، ومحت الكثير من أسمائها، واستبدلت به اسمها وأمجادها تعود إلى معبد الأقصر، تمر فيه، فتجد على اليمين هيكلاً شيدته حتشبسوت وأمامه صف من الأعمدة الرشيقة من الجرانيت الوردي يمثل كل عمود منها حزمة من سيقان البردي تمضي قليلاً لتكتشف ـ أيضاً ـ أن تحتمس الثالث قد محى اسم حتشبسوت من على الأعمدة وسجل اسمه بدلاً منها تحدق أكثر، فتكتشف أن رمسيس الثاني، نفسه، بقوته وجبروته، لم يتردد في محو اسم حتشبسوت ليضع اسمه هو مكانها فإذا مضيت إلى الجدار الشرقي قليلاً، ستجد خرطوشة منقوشة باسم حور محب الذي اغتصب البهو باسمه، فقد كان نفس البهو هو الذي يقدم فيه الملك رمسيس الثاني البخور والقرابين المقدسة.

ثم جاء أمنحتب الثالث ليسطو ويدمر ويمحو آثار الجميع.

هدم هيكل أبيه!!.

ثم هدم هيكل تحتمس الثاني!!.

كما هدم معبد حتشبسوت!!.

واستخدم آثار كل هؤلاء لبناء معابده وقصوره .. إلخ.

ثم يجيء الابن إخناتون، ليدمر الكثير، ويمحو الكثير، ونستطيع أن نميز ببساطة في معبد الكرنك كيف أحدث إخناتون ـ او رجاله ـ كشطاً لعديد من أسماء آمون من داخل الخراطيش الملكية .. ثم يجيء كهنة آمون ـ فيما بعد ـ ليقوموا تحت إمرة زوج ابنته بمحو الكثير من آثار الشاب الذي يدعو لإله جديد وتقاليد جديدة .. وتتوالى سور المحو أو الحفر أو التخريب في كل العصور الفرعونية حتى يجيء أبسماتيك الثاني في نهايات العصر الفرعوني ليمحو الكثير من آثار الملوك السابقين، ويسجل اسمه هو، وتتوالى موجات الغزاة والملوك حتى ليعجب المرء أن يجد في معبد واحد (هو معبد الأقصر) آثار تخريب أو استبدال لكثير من الملوك بدءاً من ملوك الأسر الأولى إلى حرائق الفرس، وتماثيل الإسكندر الأكبر المحفورة، وأشكال بطليموس الرابع المفروضة، وتتوالى آثار من كنيسة وجامع و.. إلخ.

وتعود إلى الرمز الزهري المنصوب أمامك لتجد الحفر على زهرة اللوتس أمامك يتكرر، وكأنه يريد أن يمحو عصر عبد الناصر.

ونعود غلى سؤال يلح عليك: ماذا تبقى من جمال عبد الناصر ؟

ليس الشاهد بالقطع؛ وإنما "المشروع" .. المشروع الوطني.

حين يتحول المهادن إلى بطل

لا يكفي هذا التفسير!! .

لا يكفي هذا التفسير لموقف فتحي غانم الغاضب من ثورة يوليو حتى نرى في كتابه الذي صدر نقداً موضوعياً لثورة يوليو ولزعيمها الراحل في مثل هذه الأيام من ربع قرن، وإنما هي طبيعة المثقف المصري، الذي يتحول فيه إلى (نمط) معين من أنماط المثقفين، وهو نمط يتغير دوماً ـ لدى الأغلبية ـ من عصر لعصر، وفي كل مرة يحاول المثقف القفز من عقدة الذنب إلى تبريرها، وفي ؟؟ هذا التبرير كثيراً ما يغير الأحداث ويبدل الزوارق، ويتحول المثقف المهادن إلى (بطل) في زمن آخر.

وليس هذا وقفاً على كاتب كبير مثل فتحي غانم في كتابه (معركة بين الدولة والمثقفين)، وإنما ـ أيضاً ـ على عدد كبير من المثقفين الذين كانوا نجوماً في عصر عبد الناصر، حتى إذا ما انقضت السنوات بعد رحيله، وخفت نجم الزعيم وقوته ودولته حتى عادوا ليملئوا عن بطولاتهم ومصادرهم ومواقفهم الشجاعة.

إنهم يحاربون طواحين الماضي بسيف "دون كيشوتي"، في غيبة رموز هذا الماضي ومصادر قوته.

ومما يؤكدعلى هذا في حالتنا أن فتحي غانم هو يحاول إعادة تركيب الأحداث (كما يريد) لا يجد وثائق أو مواقف محددة يستطيع التدليل بها، فيقع في محظور الخلط، وتصبح حالة إنتاج الذاكرة تزييفاً لوقائع في غيبة أصحابها أو شاهدي العيان عليها والأخطر من هذا كله، أنها تكتب لأجيال جديدة لم تعرف هذا العصر، ولم تختبر فيه طبيعة النمط أو ذاك من أنماط مثقفينا التي تغيرت وتبدلت كثيراً.

إن الكاتب لا يتوقف عن سرد أحداث ـ كأنه عاشها وحده ـ مبرراً كثيراً من المواقف ـ نشرت لأول مرة في جريدة أسبوعية لقارئ محدد ومتعجل ـ، مستغرقاً في الحكي عن حالات التعذيب المريعة، بالتعميم، ودون مسئولية لإحداثها قط، كما يزعم أن له دور بطولي اقتضاه أن يحكي عنه الآن، كذلك يزعم أن الأمن كان أقوى من الثقافة والمثقفين، وهو زعم، لا ننكره ـ ولكنه يجيء هنا في معرض تبرير مواقف المثقفين وحسب.

وهو بعد ذلك كله، يزعم أنه شهد عدداً من الأحداث كان بريئاً منها، وفي أحسن الحالات لم يأخذ غير دور المتفرج فقط، وعلى سبيل المثال، فإن المثال الأخير يتوقف بنا حينما قرر عبد الناصر تأميم الصحافة أو السيطرة الكاملة على الصحافة).

ويزعم فتحي غانم هنا أن هذا القرار ـ قرار تأميم وتنظيم الصحافة ـ كان مفاجأة بالنسبة له، متجاهلاً وإنه كان أحد رجالات العصر، عرف كثيراً من الأحداث أو الرارات قبل وقوعها، ببساطة ـ ليقوم بدور الممهد والمبرر لكثير منها، وفي حالة تأميم الصحافة، فقد ذكر أنه عرف موجات التأميم الكبرى من علي صبري، وفي الوقت نفسه يزعم ـ لا نعلم كيف ؟ ـ أنه لم يكن لديه أي تصور لما حدث من تأميم الصحافة في 24 مايو 1960 حين قرر عبد الناصر تأميم الصحافة.

إن صاحب (الرجل الذي فقد ظله) يرسم لنا صورة كيف استدعاه مساعد سامي شرف صباح هذا الحادث وذلك أثناء تناوله لفطوره (الليدو) بنادي الجزيرة (!!) ويبلغه، بشكل درامي، أراد أن يضيف إليه مشاهد من الإرهاب ـ كيف تقرر حضوره لاجتماع قرره عبد الناصر، مع بقية الصحفيين.

ويزعم هنا الكاتب الكبير أنه أسرع إلى الاجتماع المفاجئ، وكأنه أراد أن يقول لنا أنه لم يكن ليعلم بالسبب الذي استدعي من اجله، وكأنه أراد أن ينسينا أنه كان أحد الأدوات التي استعان به النظام ممهداً لقرار التأميم.

والواقع أن فتحي غانم كان قد عرف اتجاه الريح مبكراً من علي صبري ـ أو من غيره ـ. بل كان عليماً بالمقالات التي يكتبها علي صبري في ذلك الوقت بإيحاء من السلطة العليا لتغيير كثير من المواقف والأحداث، ولا نغالي إذا قلنا أن فتحي غانم كان مهيئاً مع غيره من السادة المسئولين الكبار ليلعب دوره المنتظر منه ليمهد لقرار عبد الناصر لتأميم الصحافة.

ويبدو أن عدداً ليس بالقليل من رؤساء التحرير في ذلك الوقت كانوا قد عقدوا صفقة خفية بينهم وبين النظام خاصة، ليلعبوا دوراً في التمهيد لهذا القرار. بدليل أن رؤساء التحرير بعد تنظيم الصحافة الذي أجري في المرة الأولى أثناء وجود الاتحاد القومي ظلت أسماؤهم في مقدمة الأسماء التي حصلت على أكبر قدر من النفوذ في صحفهم، ولم ينتقص من نفوذها السابق شيئاً، ومن هؤلاء ظل إحسان عبد القدوس في روز اليوسف مضافاً إليه فتحي غانم كما هو.

ولا يعني هذا أن كل المثقفين شاركوا مبكراً في التمهيد لهذا القرار، وإنما كان السبب لدى البعض ـ كإحسان عبد القدوس ـ ظروف مادية اضطر إليها فطفق يدعو إلى التأميم، لكن ذلك لم يكن بمعزل عن التنبه إلى اتجاه الريح، غير أن هذا التنبه لما تريده السلطة دفع بالبعض أن يدعو إلى تأميم السلطة فيكون ملكياً أكثر من الملكيين، حتى أن عبد الناصر ـ كما أكد لي إحسان عبد القدوس ـ أخذ مقالة لإحسان ووقع عليها أمر بالتأميم بما يدل للعلاقة بين المثقف والسلطة وطبيعتها في ذلك الوقت.

ويتسق مع هذا الكثير من مواقف المثقفين الآخرين وفي مقدمتهم فتحي غانم نفسه.

لا يعني هذا أننا ندافع عن قبضة الأمن في الفترة الناصرية، ولكننا لا ندافع عن تخاذل كثير من المثقفين الذين أصبحوا في موقف المهادنين والمؤيدين بدون تردد، متنقلين بين المكاتب الفاخرة والمناصب العالية، والنوادي التي كانت ماتزال مفتوحة لأولاد الباشوات والطبقة السوبر الجديدة.. إلخ.

ومن أجل هذا ارتاح عديد من المثقفين إلى توجهات النظام وتأييده بشكل مسرف، تحول إلى شكل آخر ـ في نظام آخر ـ إذ أصبحنا الآن أمام من يزعم أن هناك معركة كانت تدار بين الدولة والمثقفين (لاحظ الإجمال في التحدث عن المثقفين)، وأن هؤلاء المثقفين، خاصة من كان منهم في مناصب رفيعة، واضطروا تحت الضغط الديكتاتوري إلى اتخذ مواقف لم يرضوا عنها في ذلك الوقت.

ينتهي كتاب فتحي غانم ولا نخلص من سؤال: هل كانت المعركة حقاً بين المثقفين (على إطلاقهم) والدولة؟ أم كانت بين عدد من المثقفين حرصوا على مكاسبهم فهادنوا وعرفوا الصمت الجميل حتى إذا ما جاء زمن آخر نزعوا أقنعة التأييد إلى أقنعة البطولة، ورجعوا إلى حيث يريد المثقف أن يكون دائماً؟ ..

أسئلة لا تحتاج للإجابة عنها ..كما لا تحتاج إلى الواقع ليتحول هذا المثقف من المهادن؟ بعد الفترة الناصرية إلى أبطال..؟ أليس كذلك؟

الولاء .. نموذج أخطاء كثيرة نقرأها كل يوم، ونعرفها وهي تمضي فوقنا، كالسحاب، دون أن نأبه غن كان هذا السحاب قد يمطر، أم أنه من قبيل السراب الذي يتشوف إليه الساري في الصحراء.

من هذه الأخطاء ما زعمه لنا أحد الزملاء (غير المحترمين) في كتاب صدر أخيراً عن دار بالقدس المحتلة، وهاجم فيه أغلب الصحفيين المصريين، ولم ينس، في صحيفة الدفاع عن الحقيقة، أن ينال من صديقه الوحيد الذي دافع عنه أثناء ذهابه إلى القدس في نهاية الستينيات، لقد قال عن أحمد بهاء الدين بالحرف الواحد أنه (هاجم الناصرية لحساب السادات بعد موت عبد الناصر) جاء هذا في معرض نقد كل المثفين المصريين.

فهل فعل المثقف هذا؟ ، وهل هاجم بهاء الدين عبد الناصر بعد رحيله؟

وكيلا تكون إجابتنا من قبيل الدفاع وحسب، فإننا نشدد هنا على أمرين اثنين، أحدهما، أن عددا كبيراً من الصحفيين المصريين الذين عاشوا في عهد عبد الانصر و(أكلوا خبزه) ارتدوا بالفعل بعد رحيله منهم توفيق الحكيم ويوسف إدريس وصالح جودت وفكري أباظة وإبراهيم الورداني وممدوح رضا وفتحي غانم .. إلخ غير أن الواقع اختلف بالنسبة إلى أحمد بهاء الدين ـ وهنا يبدأ الأمر الآخر ـ أن بهاء لم يكن هو المثقف الذي يؤيد ثم يرتد، بل نستطيع القول بأن بهاء ظل، وحتى مرضه الأخير ـ شفاه الله ـ يدافع عن عبد الناصر، ولم يعرف عنه هجوماً على الزعيم رغم ما كلفه هذا كثيراً، حين كان الهجوم شجاعة وتصفية حسابات إبان حكم السادات.

وأقصى ما نستطيع قوله أن بهاء كان مسايراً لنظام عبد الناصر دون خوف وإنما عن اقتناع تام مؤداه أن ثورة الزعيم شهدت ـ منذ سنواتها الأولى ـ إنجازات ثورية (لنذكر: إلغاء الألقاب، التحول إلى الجمهورية، محرابة الفساد والسعي للتطهير، تمليك الفلاحين للأرض باسم الإصلاح الزراعي، مؤتمر باندونج، الموقف الوطني إزاء الغرب، صفقة السلاح، رفع راية الكرامة القومية، صمود 1956، اتحاد مصر وسوريا، ازدهار القومية العربية، تأميم قناة السويس، بدء مشروعات التصنيع..إلخ) والمعروف أن بهاء شارك ـ بالفعل ـ في النظام فسافر في اللجنة المصرية للتضامن الآسيوي – الأفريقي لتساهم مصر في حركة التحرر الوطني في قارتي أفريقيا وآسيا عام 1957 ليمثل مصر في تهنئة نكروما بانتصارات أفريقيا، بل كان من أول الصحفيين الذين سافروا إلى سوريا إبان الوحدة، وأكثرهم نشاطاً مطوفاً في سوريا من حمص إلى حماه إلى حلب إلى جبل العرب (الدروز) إلى الحسكة. إلى غير ذلك من الجهود التي ام بها ـ عن طيب خاطر وناعة ـ وسافر إلى أكرا بعد سنتين، ليمثل النظام. بل كان أكثر الكُتَّاب دفاعاً عن عبد الناصر بعد هزيمة 1967 وتأكيداً للمعركة إبان مظاهرات الطلبة واستنكار الأحكام الهزيلة على المسئولين وغياب الديموقراطية .. نستطيع أن نقول أن ذلك كان من قبيل الدفاع عن عبد الانصر، رغم أن هذا البيان في هذا الوقت أغضب عبد الناصر نفسه، فقد كان الزعيم يتخوف من أي مظاهرات أو لجاجات؟؟ نقابية في وقت كان يتأهب فيه لإعادة النظام لمواجهة إسرائيل من جديد.

والواقع أن ذلك كله لا يكفي للدفاع عن بهاء (يهمنا الدفاع عن الحقيقة أولاً) وربما كان مسئولاً عنه لدى البعض أن بهاء ذهب في تأييد النظام إلى درجة أنه رأى النظام لم يقبض على صاحب رأي، وأن من قبض عليهم كانوا (كوادر) تنظيمية أو حزبية.

كان بهاء الدين يرى أن الذين يقبض عليهم في عصر عبد الناصر كانوا من ذوي الانتماء التنظيمي وكان الانتماء الصحفي غير الانتماء التنظيمي.

بيد أن هذا القول مردود عليه أن النظام في أكثر من مرة دفع ببعض أصحاب الرأي في السجون دون أن يكونوا من ذوي الانتماء السياسي، إذ كان (الولاء) أكثرما يحرص عليه من أصحاب الثقة، وهي أخطاء يمكن أن تذوب في إنجازات الثورة الوطنية التي ارتكبت من الأخطاء في مرحلة (التجربة) مما لا يمكن أن يحول كل إنجازاتها إلى سلبيات.

كان بهاء مسايراً للنظام، نعم، ولكن ليس عن مهادنة، وإنما عن اقتناع ولم يكن من أصحاب (مسك العصا من النص) قط، ففي معرض التفسير النفسي لبهاء يمكن القول أنه كان ذا طبيعة هادئة تقترب من الانطواء، وتقتنع بما تراه صواباً، وهو ما حدث من تأييده للثورة في سنوات الانتصارات، أما حين أصبحت الهزيمة واقعاً عقب هزيمة 1967، فإن الطبيعة الهادئة يمكن أن تتحول إلى تمرد، قام به بهاء الدين من داخل (نقابة الصحفيين) وكان مستعداً لتقبل نتائجه كاملاً.

إذن، فإن بهاء الدين حين أيد عبد الناصر عام 1967 كان صادقاً مع نفسه، وحين هاجمه عام 1968 كان صادقاً مع نفسه أيضاً، فتكوين بهاء هو المسئول عن المواقف التي اتخذها، مما ينفي عنه تهمة الهجوم على عبد الناصر بعد رحيله كما يزعم أحد الزملاء المحترمين.

القسم الثاني: وثائق

قاعة اجتماعات

مسرح في القاهرة

دور سينما في القاهرة:

- استديو مصر يبني دار سينما في القاهرة ـ أو أكثر.

- استديو مصر يقوم بالإنتاج والتوزيع في مصر وجميع أنحاء العالم.

- بحث حالة استوديو مصر كلها ـ خطة استوديو مصر لخمس نوات.

- خطة لكل شركة في المؤسسة الاقتصادية:

بنك مصر.

الخمس سنوات.

المصناع الحربية.

بالإضافة إلى خطة لكل منها: للمؤسة ـ لبنك مصر ـ للخمس سنوات ـ للمصانع الحربية بالنسبة للمشروعات الجديدة.

مشروع الخمس سنوات :

- الزيادة في الإنتاج الصناعي.

- الزيادة في الإنتاج الزراعي.

- الزيادة في الرقعة الزراعية.

- الزيادة في الدخل القومي.

- الزيادة في السكان.

- الزيادة في التصدير.

وزارة الشئون البلدية والقروية :

1- الإسكان وبرامجه – في المدن.

2- الإسكان وبرامجه – في الريف.

3- الاهتمام بالقاهرة حتى القناطر الخيرية، وحتى حلوان من ناحية نظافة الأحياء الفقيرة.

ولو دعي الأمر إلى زيادة عمال النظافة وتقسيمها إلى أقسام أو مناطق ومتابعة المسئوليات.

- الاهتمام بحلوان وإنعاس حقيقة الحياة فيها ـ إنعاش الجزء القريب من النيل

ـ عمل كورنيش ومساكن – المياه المعدنية استخدامها على طريقة سوتش في روسيا

– بحث حالة المنطقة من القاهرة إلى حلوان ـ المعصرة ـ طرة .. إلخ ـ نقل السجن والاستفادة من المنطقة بحي المعادي أو عمل مؤسسة جديدة لمنطقة ـ طره ـ لتخطيطها ... إلخ. ومن المنطقة من طره إلى حلوان .. من النيل إلى الجبل.

- بحث حالة المنطقة من شبرا إلى القناطر على النيل ـ كوبري شبرا، سوق القناطر سينقل ويصلح الطريق إلى القناطر.

- حالة العزب من القبة إلى كوبري شبرا:

نادي – استاد رياضي.

مبنى الاتحاد القومي ـ الاهتمام بنظافة عواصم المراكز ـ لا مانع من زيادة عمال النظافة ـ هذا يزيد عدد العمال ـ أدكو مثلا في منتهى القذارة – رشيد – أبو قير – قليوب ... إلخ.

- دراسة مشروع Community Center بالهند.

بحث فكرة فصل الشئون البلدية عن الشئون القروية.

الشئون البلدية للمدن فقط.

الشئون القروية تشمل كل ما يتعلق بالقروية.

- Community Center.

- الوحدات المجمعة.

- كل ما يختص بالقرية في وزارة الشئون الاجتماعية والشئون القروية.

دار للسينما لتكون مسرح.

القرى

- مشروع لإعادة بناء القرى في عشرين عاماً.

- البدء بالقرى المحيطة بالقاهرة ـ والمحيطة بالإسكندرية ـ وأسوان ـ الأقصر. يمكن إعطاء القرى إعانة لذلك من الحكومة.

- مسكن القرية ـ كيف يتكون على أن يكون أرخص ما يمكن.

- مشروع لتوصيل الكهرباء إلى القرى كل قرية قريبة من مصدر كهرباء تصلها الكهرباء.

- نظافة القرية.

- ساحة شعبية بالقرية.

- مبنى للاتحاد القومي.

- ناد للقرية.

- سينما للقرية في القرى الكبيرة.

- الاعتماد على المدارس في القرية لتكون نواة للنشاط الثقافي ودار للكتب وجامعة شعبية ومتحف. وكذلك الاعتماد على الوحدات المجمعة.

التأمين الصحي وبحثه ودراسته

عام: بحث علاقة وزارة الشئون البلدية أو المجال البلدية بالمستشفيات العامة.

آسيا وأفريقيا

- يجب الاهتمام بآسيا وأفريقيا من ناحيتين:

أ‌- التضامن الآسيوي الأفريقي.

ب‌- الاستفادة من العناصر الإسلامية في بلاد آسيا وأفريقيا بطريقة غير مثيرة للأديان الأخرى.

- مكتب لآسيا وأفريقيا في رئاسة الجمهورية يبحث كيفية توثيق العلاقات مع الحكومات والشعوب ـ القوة العفوية؛ أي التأييد الشعبي لنا، ويبحث التبادل التجاري والثقافي مع دول آيا وأفريقيا - ويفتح سياستنا بالنسبة للإذاعة ويتصل اتصالات شخصية.

أما الناحية الإسلامية

- الاتصال بجمعية العلماء بالهند.

- الاتصال بالجمعيات الإسلامية الأخرى، والشخصيات الإسلامية ودعوتها لزيارة الجمهورية العربية.

- واستمرار إرسال مناوبين من طرفنا لزيارة هذه البلاد من الفكر الإسلامي أو الأزهر أو الشبان المسلمين.

الأزهــــــر

- يجب إعادة النظر في برامج الأزهر بسرعة. وقد لمست في جامعة .... كيف تحولت إلى جامعة بها كليات مختلفة لدراسة الهندسة وعلم النفس، ويمكن أن تنشأ في الأزهر كليات جديدة للهندسة والعلوم والتجارة والحقوق ـ يقتضي الدخول فيها على من درس في الأزهر ـ والمسلمين من جميع أنحاء العالم على أن يكون بها أيضاً كليات للشريعة الإسلامية والفقه واللغة العربية واللغات الشرقية.

حيث أن الأزهر فقد قيمته كلية في العالم إذ أن أي شخص سيتعلم في الأزهر لا يعمل إلا مقرئاً ولا يجد أي عمل آخر.

- يمكن أن تشمل الدراسة في الهندسة الديانة الإسلامية بجانب الهندسة.

والديانة الإسلامية بجانب العلوم ـ وهذا يستدعي أن تتشعب البرامج في الدراسة الابتدائية والثانوية بالأزهر لتكون مشابهة للدراسة في المدراس الابتدائية والثانوية العادية مع دراسة الدين الإسلامي بالتفصيل واعتباره علماً أساسياً.

- كذلك بالنبة للملابس ـ هناك نقطة هامة وهي أن لبس المشايخ يدعو في آسيا للخرية وقال سفيرنا في إندونيسيا أن هذا اللبس يدعو غلى شل كل فكره؛ لأن الأطفال يسيرون خلف الشيخ على أنه مخة ـ فيجب بحث فكرة لبس جديد. بدله وعليها تكون مثلا ..........

- ويجب أن يتم علاج الأزهر في أسرع وقت:

شيخ الجامع الأزهر.

مدير الجامعة الأزهرية.

على أن يبدأ تطبيق البرامج الجديدة من أول العام القادم.

ويجب أن نلاحظ أن مدرسة البابا لا تقتصر على تدريس الدين فقط، بل تحاول بكل وسيلة جذب الناس.

- زراعة أكبر مساحة من الحدائق والأشجار.

- زراعة منطقة الدراسة وجبل المقطم وباب الوزير.

الإسكندرية

الأحياء الشعبية – الأنفوشي – رأس التين – غيط العنب – كرموز - ... إلخ – الإسكان ـ متحف فرعوني كبير للتحف الكبيرة.

عواصم المديريات

- الاهتمام بتجميلها ـ حدائق ـ كورنيش النيل ـ إسكان ـ حديقة الحيوانات تبدأ في حديقة كبيرة.

- دار للكتب.

- سينما درجة أولى تصلح مسرح.

- الاهتمام بتخطيط المدينة.

- متحف توضع فيه التحف الكبيرة.

عواصم المراكز

- يجب أن تدخلها الكهرباء جمعاً، يجب أن تخطط المدينة.

- الاهتمام بالحدائق – كورنيش إذا كانت على النيل.

- الإسكان.

- دار للكتب.

جمعيات الصداقة

لاحظت في الهند أثر جمعيات الصداقة في توثيق العلاقات، وفي نفس الوقت في التنظيم الداخلي إذ أن هذه الجمعيات سواء كانت للصداقة أو لأغرض أخرى فإنها تخدم السياسة الخارجية للهند:

- جمعية الصداقة العربية الهندية.

- جمعية التضامن الهندية الإفريقية.

- جمعية التضامن الأسيوية الأفريقية ... إلخ.

ويجب أن نعتمد على الكتب من اتصالاتنا على جمعيات الصداقة سواء في بلدنا أو في البلاد الأخرى ـ حيث أن حرية العمل تكون مفتوحة أمامها ـ على أن تكون لهذه الجمعيات شخصية ـ وتضم عدداً من الأعضاء ـ على أن يكون للرئيس شخصية تمكنه من العمل. أما الوزراء فليس عندهم الوقت الكافي لذلك.

- جمعية الصداقة العربية الهندية.

- جمعية الصداقة العربية الباكتسانية.

- جمعية الصداقة العربية الإندونيسية.

- جمعية الصداقة العربية يلان.

- جمعية الصداقة العربية الملايو.

- جمعية الصداقة العربية الصين.

- جمعية الصداقة العربية بورما.

- جمعية الصداقة العربية كمبوديا.

- جمعية الصداقة العربية اليابانية.

- جمعية الصداقة العربية الفلبين.

وتقوم جمعيات الصداقة بالعمل بالاتفاق مع سفراؤنا في هذه البلاد على تكوين جمعيات صداقات عربية فيها، ولا مانع من أن تكون الجمعية العربية تجمع كل البلاد العربية.

وتقوم أيضاً بدعوة الشخصيات المختلفة والصحفيين من هذه البلاد. واستضافتها ثم تقوم بتبادل الزيارات مع جمعيات الصداقة الأخرى.

وتقوم عن طريق اتصالاتها بتعريف البلد بسياستنا ونشاطنا والعمل على تطوير بلدنا.

ويمكن لكل هذ الجمعيات أن تنسق العمل بينها .

وكذلك بالنسبة لإفريقيا .. جمعية الصداقة العربية غانا، غينيا، ليبيريا، الحبشة، الصومال، الكاميرون. ولا مانع من جمعيات مع الدول الأخرى التي تكافح في سبيل استقلالها.

كذلك يبحث إنشاء جمعيات صداقة مع بعض الدول الأوروبية على أن تنشأ جمعيات صداقة في البلاد الأوروبية:

جمعية ألمانية في القاهرة.

جمعية صداقة عربية في بون مثلا.

جمعية عربية يونانية في القاهرة.

جمعية يونانية عربية في أثينا.

جمعية عربية إيطالية في القاهرة.

جمعية إيطالية عربية في روما.

كذلك بالنسبة لأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية.

الصناعة

كان أهم شيء لمسته أثناء زيارتي للهند هذا العام هو الاهتمام بالصناعات الصغيرة وتشجيعها، ولو كانت ذات رأس مال خاص، وذلك بتكوين مراكز صناعيةINDUSTRY ESTATE على أن تساعد الدولة أصحاب الصناعات الصغيرة إلى أبعد مدى ـ بناء العنابر اللازمة لكل صناعة بطريقة تجمع الصناعات الصغيرة ـ وإعطاء الأرض والبناء بتسهيلات ثم توفير الكهرباء والنقل والخدمات وفي المركز القري من دلهي وجدت صناعة الراديو في عنبر صغير، وكذلك صناعة التروس، والغسالات، والعجلات (البسكليت). وصناعات أخرى كثيرة ـ لعب الأطفال.

كل صناعة في عنبر صغير – صناعة الموتورات – صناعة المحولات العوازل ... إلخ.

وقد رأيت في أحد المراكز – في دلهي – أكثر من عشرين صناعة في هذا المركز، كل صناعة تعتمد على مبنى صغير.

والشيء الآخر الذي لمسته هو الصناعات الريفية ـ والصناعات اليدوية، والاهتمام بها، ففي زيارتي لإحدى القرى لمست تنظيم الصناعات الريفية النسيج اليدوي - الحصر الناعمة – تفصيل الملابس ... إلخ.

وفي زيارة للمدن فقد لمست أن في كل مدينة محل كبير في أهم مكان بها لبيع الصناعات اليدوية – شغل الفضة – شغل النحاس – شغل الخشب – شغل الإبرة – الملاب والمفارش – شغل الزجاج – لعب الأطفال ... إلخ.

أما الناحية الأخرى فتمشل الصناعات المتوسطة والصناعات الثقيلة.

وعند استعراض الصناعة في مصر وسوريا أجد أن الوضع مشوش. فنظراً للمبالغة في الدعاية والإعلان فإن أي مشروع يعتبر مشروعاً كبيراً، ومن الضرورى أن نقسم صناعاتنا إلى:

صناعة ريفية، صناعة يدوية، صناعة صغيرة، صناعة متوسطة، صناعة ثقيلة كما أن تطبيق طريقة INDUSTRY ESTATE لها فائدة كبرى – إذ أن جمع الصناعات الصغيرة في مراكز مع إعطائها التسهيلات سيفيد الصناعة إذ أن الصناعة الصغيرة تحتاج إلى رأس مال صغير ويمكن لإنتاجها أن يكفي الاستهلاك المحلي والتصدير، وقد رأيت في مصنع البسكليت الصغير كيف أنهم يصدرون لمصر ـ كما رأيت مصنع لآلات الورش صغير ولكن إنتاجه جيد، ونحن نتكلم عن مصنع البسكليت منذ خمس سنوات بدون نتيجة.

ما هي الصناعات الصغيرة اللازمة.

يجب عمل خطة لإنشائها.

يجب عمل عدة مراكز للصناعة الصغيرة، واحد في الاهرة، واحد في الإسماعيلية، وأي مكان مناسب آخر.

لقد رأيت صناعة المسامير في غزنه صغيرة ـ وهذا مشروع سنتكلم عنه على إثر صناعة جديدة، وكذلك أدوات المائدة.... إلخ.

وقد تكلمنا كثيراً بطريقة يضخم المشروع ـ رأيت أيضاً صناعة عربات السكة الحديد البضاعة والركوب.

في الهند والباكستان ـ في الباكستان المصنع تابع للسكة الحديد.

رأيت في الباكستان كيف أن مصنع عربات السكة الحديد يشمل أفران لصهر الحديد الخردة واستخدامه، والحديد الزهر.

رأيت في الباكستان الترسانة، وكيف أنها تنتج بجانب السفن بوابات القناطر وبعض قطع الكراكات، ويمكن لترانة بورسعيد أن تنتج بوابات القناطر... إلخ.

رأيت في الباكستان مصنع في لاهور ينتج آلات الورش ـ وماكينات الديزل للري والكهرباء ـ والخزن الحديدية – وماكينات الخياطة – ويصدر إلى الخارج بما في ذلك سوريا، وبحيث أن هذا المصنع به أيضاً أفران لصهر الحديد والخردة ومسابك.... إلخ.

بالنسبة لصناعتنا يجب ألا نكون لأنفسنا صورة واحدة عن ما حققناه بدون مبالغة ثم نقرر بعد ذلك ما يمكن عمله.

وأرى أن تقتصر وزارة الصناعة على التخطيط ومتابعة التنفيذ ولا تندمج في العمليات التنفيذية فهذا ما يدعو الآن إلى أن تكون الصورة مشوشة حيث أن وزارة الصناعة أصبحت طرفاً في منازعات ـ وواجب وزارة الصناعة أن تكون لها الولاية على الخاص والعام ـ ويجب أن تتساوى المؤسسات جميعاً أمام وزارة الصناعة، بمعنى أن مؤسسة بنك مصر تتساوى مع المؤسسة الاقتصادة ومع مؤسسات عبود ومؤسسة الخمس سنوات والمصانع الحربية.

أما عن وجود وزارة الصناعة في تنفيذ مشروع الخمس سنوات فإن أثره واضح في المنازعات والمزايدات.

المطلوب :

- ما هي الصناعات التي نفذت؟

- ما هي الصناعات التي أعلن عنها ولم تنفذ ـ بورسعيد.

- الإقلال من التهويل والدعاية.

- تقسيم الصناعات إلى ثقيلة ومتوسطة وصغيرة ـ وتجميع الصغيرة في INDUSTRY ESTATE. سواء تابعة للمؤسسة أو لبنك مصر، وذلك لإنتاج أكبر عدد من المنتجات برؤوس أموال صغيرة ـ ثم توزيع الصناعات المتوسطة والثقيلة على المؤسسات الحكومية أو الخاصة ـ على أن يكون لكل مؤسسة حكومية أو خاصة برنامج لخمس سنوات.

أولاً: برنامج ينبى على أساسه مشروع الخمس سنوات، ثم برنامج نهائي لتنفيذ مشروع السنوات الخمس بعد إقراره ـ ويجب أن يشمل ذلك التجارة أو توزيع المنتجات وفتح أسواق جديدة ـ ويجب أن تصدر كل صناعة 10% من إنتاجها ولو دعي الأمر إلى إعطاء إعانة لها – فمثلا في الباكستان يستوردون كل عام حوالي 400 ألف طن PIC IRON ويمكن أن نفتح سوق هناك.

كما يجب حصر الصناعات في بلدنا حصراً حقيقياً – على أساس الصناعة وعلى المحافظة – ويجب إعطاء أولوية لعمليات التوسع في الصناعات القائمة بدلا من تكوين شركات جديدة ذات رأس مال جديد.

مذكرة: " نظام الوصاية "

مجلس الدولة

قسم الرأي مجتمعاً

حضرة وكيل مجلس الدولة لقسمي الرأي والتشريع ومستشار الرأي لرياسة مجلس الوزراء وديواني المحاسبة والموظفين

إيماءً إلى الكتاب الوارد إليكم من حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 30 من يوليو سنة 1952 يبلغكم أنه على أثر نزول الملك السابق عن العرش وتركه مظروفاً مختوماً بأسماء الأوصياء أصبح من المتعين حتى يباشر هؤلاء الأوصياء سلطتهم الدستورية أن يوافق البرلمان على تعيينهم وأن يؤدوا اليمين أمامـه في حين أن مجلس النواب منحل ويطلب منكم الرأي فيما إذا كان الدستور قد واجه هذه الحالة مثلما واجه حالة وفاة الملك في المادة 52 وإن كان لم يواجهها بحيث يتعين إجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب فهل يمكن ـ تفسيراً للمادة التي يمارس فيها مجلس الوزراء سلطات الملك ـ التفكير في نظام لوصاية وقتية على العرش تنتقل إليها هذه السلطات.

ولما رأيتم من عرض الأمر على قسم الرأي مجتمعاً ودعوتي لحضور اجتماعه بالنظر إلى أهمية المسائل المطلوب الرأي فيها قد عرضت طلب الرأي الوارد إليكم على القسم لنظره في جلسة خاصة مستعجلة عقدت يوم 31 من يوليو سنة 1952 وفيها انتهى القسم بإجماع تسعة أصوات ضد صوت واحد إلى ما يأتي:

إذا تقصينا الأسباب التي تزول بها ولاية الملك، وجدناها تنحصر في أسباب ثلاثة:

وفاة الملك، وإصابته بمرض عقلي، ونزوله على العرش أو تنحيته عنه.

وقد عرض الدستور للسبب الأول، وهو وفاة الملك، في نص المادة 52 أنه "إثر وفاة الملك يجتمع المجلسان بحكم القانون في مدى عشرة أيام من تاريخ إعلان الوفـاة. فإذا كان مجلس النواب منحلاً وكان الميعاد المعين في أمر الحل للاجتماع يتجاوز اليوم العاشر، فإن المجلس القديم يعود للعمل حتى يجتمع المجلس الذي يخلفه".

وعرض الأمر الملكي لصادر في 13 من إبريل سنة 1922 للسبب الثاني، وهو إصابة الملك بمرض عقلي. فتنص المادة 12 على أنه إذا تعذر الحكم على من له ولاية الملك بسبب مرض عقلي، فعلى مجلس الوزراء بعد التثبت من ذلك أن يدعو البرلمان في الحال إلى الاجتماع. فإذا ثبت قيام ذلك المرض بطريقة قاطعة. قرر البرلمان انتهاء ولاية ملكه فتنتقل إلى صاحب الحق فيها من بعد بحسب أحكام أمرنا هذا. ولم يرد أي نص لا في الدستور ولا في الأمر الملكي الصادر في 13 من إبريل سنة 1922 عن السبب الثالث وهو نزول الملك عن العرش.

ولا يمكن القول بأن السكوت عن هذا السبب الأخير إنما هو سكوت من النادر اكتفاء بذكر الغالب فإن الدستور لم يسكن عن حالة خلو العرش بل نص عليها في المادتين 53 و 54 وفي حالة أكثر ندرة من حالة النزول عن العرش. ولا يمكن القول كذلك بأن هذا السكوت كان عن كياسة ولباقة. فالسكوت عن حالة النزول عن العرش لم يكن إذن مراعاة لأحد الاعتبارين السالفي الذكر. بل يرجع السكوت فيما يظهر إلى أن الدستور لم ير أن يعرض لنزول الملك عن العرش لأن هذا النزول يقع عادة أثر ثورة او انقلاب وليس من الحكمة تنظيم الثورة أو الانقلاب فلكل منهما ملابسات خاصة هي التي تسيطر عليه وتنظمه.

فإذا ما تقرر أن حالة النزول عن العرش مسكوت عنها ولم يواجهها الدستور كما واجه حالة الوفاة. بقي البحث عنها ولم يواجهها الدستور كما واجه حالة الوفاة. بالرغم من أن لكل حالة من هاتين الحالتين ملابساتها ــ إذ النزول عن العرش أمر استثنائي يخرج عن الأوضاع المألوفة أما وفاة الملك فأمر طبيعي مألوف.

إن الأحكام التي أوردها الدستور في حالة وفاة الملك فيما يتعلق بانعقاد البرلمان قسمان قسم يتفق مع أصول الدستور وقسم يعتبر استثناء من هذه الأصول.

فقد أوجبت المادة 52 من الدستور أن يجتمع المجلسان بحكم القانون على أثر وفاة الملك في مدى عشرة أيام من تاريخ إعلان الوفاة. وهذا الحكم يتفق مع أصل من أصول الدستور هو وجوب اجتماع البرلمان متى كان موجوداً عند وقوع حدث خطير. ومن ثم فلا مانع من قياس حالة النزول عن العرش على حالة الوفاة فيما هو أصل من أصول الدستور والقول بأن البرلمان متى كان موجوداُ بمجلسيه جب أن يجتمع في مدة عشرة أيام من تاريخ إعلان النزول عن العرش.

ولكن المادة 52 لم تقتصر على هذا الحكم بل تضمنت حكماً آخر لا شك في أنه حكم استثنائي محض إذ أوجبت اجتماع البرلمان في نفس الميعاد لو كان مجلس النواب منحلاً متى كان الميعاد المعين في أمر الحل للاجتماع يتجاوز اليوم العاشر. فيعود المجلس المنحل للعمل حتى يجتمع المجلس الذي يخلفه. وعودة مجلس منحل إلى الوجود بتعارض مع طبائع الأشياء. ويخل بقاعدة عامة معروفة هي القاعدة التي تقضي بأن الساقط لا يعود. هذا إلى أن أصول الدستور المصري صريحة أن مجلس النواب لا يعود إلى العمل إذا انحل وإذا عاد فإن عودته إنما تكون في حالات استثنائية محضة ويكفي للتثبت من ذلك مقارنة المادة 114 من الدستور بالمادة 89. إذ تنص المادة 114 على أن "تجرى الانتخابات العامة لتجديد مجلس النواب في خلال الستين يوماً السابقة لانتهاء مدة نيابته وفي حالة عدم إمكان إجراء الانتخابات في الميعاد المذكور فإن مدة نيابة المجلس القديم تمتد إلى حين الانتخابات المذكرة". وتنص المادة 89 على أن "الأمر الصادر بحل مجلس النواب يجب أن يشتمل على دعوة المندوبين لإجراء انتخابات جديدة في ميعاد لا يتجاوز شهرين وعلى تحديد ميعاد لاجتماع المجلس الجديد في العشرة الأيام التالية لتمام الانتخاب".

ويتضح من المقارنة بين هذين النصين أن حالة تجديد مجلس النواب تختلف عن حالة حله فيما إذا لم يمكن إجراء الانتخابات الجديدة في الميعاد الذي نص عليه الدستور. ففي حالة التجديد تمتد نيابة المجلس القدي إلى حين الميعاد الذي نص عليه الدستور الجديد. أما في حالة الحل فلم ينص الدستور على أن المجلس المنحل يعود إلى العمل. ومن ثم وجب القول بأن الأصل في الدستور المصري أن مجلس النواب إذا انحل فلا يجوز ان يبعث من جديد.

ما لم يوجد نص خاص يقضي بعودته إلى العمل في حالة بذاتها فعند ذلك يعود المجلس المنحل في هذه الحالة المنصوص عليها بالذات دون غيرها من الحالات. وقد نص الدستور فعلا في حالتين اثنتين على أن مجلس النواب المنحل يعود إلى العمل هما حالة وفاة الملك في المادة 52 وحالة خلو العرش في المادة 54. فيجب قصر هذا الحكم الاستثنائي المحض على هاتين الحالتين. ولا يجوز إذن في حالة تعذر الحكم على من له ولاية الملك بسبب مرض عقلي أن يدعي مجلس النواب المنحل إلى الاجتماع لأن المادة 12 من الأمر الملكي الصادر في 13 من إبريل سنة 1922 لم تورد نصاً يقضي بعودة المجلس المنحل إلى العمل. ويترتب على ذلك أيضاً في حالة نزول الملك عن العرش أنه ما دام الدستور لم ينص على عودة المجلس المنحل إلى العمل بل ما دام لم يتعرض لهذه الحالة أصلا فلا يجوز أن يعود مجلس النواب إذا كان منحلاً إلى العمل، والقول بغير ذلك وبجواز عودة المجلس المنحل إلى العمل في حالة النزول عن العرش قياساً على حالتي الوفاة وخلو العرش قول غير جائز إذ القياس لا يكون على حكم استثنائي محض كما تقدم القول فالاستثناء لا يقاس عليه. بل أن القياس على الاستثناء هنا إنما هو إضافة لاستثناء آخر والإضافة على الدستور تنقيح فيه ولا يجوز تنقيح الدستور إلا بالطريق الذي نص عليه الدستور.

أما تعيين الهيئة التي تمارس سلطات الملك الدستورية عقب نزول الملك عن العرش فلم يرد فيه نص دستوري إذ أن المادة 55 من الدستور التي تولى مجلس الوزراء هذه السلطات إلى أن يتولاها الخلف أو أوصياء العرش مقصورة على حالة الوفاة. ولكن هذا النص ليس إلا تطبيقاً لنظرية الضرورة. فالضرورة تحتم عقب وفاة الملك أن توجد هيئة تمارس سلطات الملك الدستورية إلى أن يتمكن من انتقلت إليه ولاية الملك أو أوصياؤه إذا كان قاصراً من استيفاء الشروط الدستورية الواجبة لممارسة هذه السلطات. وليس يوجد أصلح من مجلس الوزراء، الذي يتولى الملك سلطته. بواسطته كما تقضي المادة 48 من الدستور، تعيين هيئة تمارس هذه السلطات، ومن ثم نصت المادة 55 من الدستور على هذا الحكم كتطبيق لنظرية الضرورة كما تقدم القول.

فإذا عرضت صورة أخرى من صور الضرورة، هي صورة نزول الملك عن العرش، أمكن تطبيق النظرية على النحو الذي طبقت به في الصورة الأولى. ومن ثم تكون ممارسة مجلس الوزراء لسلطات الملك الدستورية عقب نزول الملك عن العرش إنما هو تطبيق مباشر لنظرية الضرورة على النحو الذي طبقت به في المادة 55 من الدستور.

لم يبق إذن ـ بعد أن تبين أنه لا تجوز دعوة مجلس النواب المنحل إلى الاجتماع في حالة النزول عن العرش ـ إلا المبادرة إلى إجراء الانتخابات العامة بمجرد التمكن من إجراء هذه الانتخابات وأرادت أن تتخفف من السلطات الاستثنائية التي تمارسها في الوقت الحاضر فلا يبقى مجلس الوزراء يمارس سلطات الملك الدتورية إلا أقصر وقت ممكن، حصراً للضرورة في أضيق حدودها. فإنه لا يوجد مانع قانوني من إيجاد نظام لوصاية مؤقتة تنتقل إليها من مجلس الوزراء ممارسة سلطات الملك الدستورية إلى أن تتولى هيئة الوصاية الدائمة هذه السلطات.

والسبيل إلى ذلك هو سن هذا النظام المؤقت عن طريق التشريع بمقتضى المادة 41 من الستور وإلحاق هذا النظام بنظام الوصاية الدائمة الوارد في الأمر الملكي الصادر في 13 منإبريل سنة 1922. ولا يعتبر هذ التشريع تعديلاً في الدتور لأنه غنما يستكمل أحكام الوصاية الدائمة. والدستور بمقتضى المادة 32 لم يلحق بنصوصه من أحكام الأمر الملكي الصادر في 13 من إبريل نة 1922 إلا الأحكام الخاصة بوراثة العرش أي انتقال ولاية الملك من سلف إلى خلف ولا يمكن اعتبار أحكام الوصاية الدائمة ولا أحكام الوصايا المؤقتة داخلة في هذا النطاق. فهي إذن أحكام قابلة للاستكمال والإضافة عن طريق التشريع العادي.

ويمكن أن يتقرر نظام الوصاية المؤتة باستصدار تشريع يضيف إلى نصوص الأمر الملكي الصادر في 13 من إبريل سنة 1922 نصاً جديداً يكون هو المادة 11 مكرراً ويجري على الوجه الآتي:

"في حالة نزول الملك عن العرش وانتقال ولاية الملك إلى خلف قاصر، يجوز لمجلس الوزراء، إذا كان مجلس النواب منحلاً، أن يؤلف هيئة وصاية مؤقتة للعرش من ثلاثة يختارهم من بين الطبقات المنصوص عليها في المادة 10 تتوافر فيهم الشروط المبينة فيها".

"وتتولى هيئة الوصاية المؤقتة، بعد أن حلف اليمين أمام مجلس الوزراء، سلطة الملك إلى أن تتولاها هيئة الوصاية الدائمة وفقاً لأحكام المواد الثلاث السابقة ولأحكام المادة 51 من الدستور".

وتفضلوا بقبول وافر التحية

أول أغسطس سنة 1952

رئيس مجلس الدولة

(عبد الرازق أحمد السنهوري)


خطاب وقرار التأميم

أممنا قناة السويس من أجل كرامتنا

ألقي بالإسكندرية في 26 يوليو سنة 1956

أيها المواطنون :

نحتفل اليوم باستقبال العيد الخامس للثورة بعد أن قضينا أربع سنوات نكافح ونقاتل للتخلص من آثار الماضي البغيض وآثار الاستعمار الذي استبد بنا قروناً طويلة .. وآثار الاستغلال الأجنبي والداخلي. ونحن نستقبل العيد الخامس أمضى قوة وأشد إيماناً، لقد اتحدنا وسرنا وكافحنا وقاتلنا وانتصرنا واليوم ونحن نتجه إلى المستقبل. اليوم أيها المواطنون بعد سنوات أربع من الثورة نعتمد على الله وعلى عزيمتنا وعلى قوتنا من أجل تحديد الأهداف التي جاهد من أجلها الآباء. نتجه إلى المستقبل ونحن نشعر أننا سننتصر بعون انتصارات متتابعة، انتصارات متوالية، من أجل تثبيت العزة، ومن أجل إقامة دولة مستقلة استقلالاً حقيقياً لا استقلالاً زائفاً. استقلالاً سياسياً واستقلالاً اقتصادياً.

حين نتجه إلى المستقبل نشعر أن معاركنا لم تنته فليس من السهل أبداً أن نبني أنفسنا في وسط الأطماع الدولية والاستغلال الدولي والمؤامرات الدولية.

أمامنا معارك طويلة لنعيش أحراراً كرماء أعزاء. واليوم وجدنا الفرصة ووضعنا أساس العزة والحرية والكرامة. من أجل حرية الإنسان ومن أجل رفاهية الإنسان ولابد أن نجد الفرصة لنشر هذه المبادئ. نقاوم الاستعمار، وأعوان الاستعمار أمامنا أيام طويلة مستمر من أجل كرامة هذا الوطن هذه المعارك لم تنته ولن تنتهي. ويجب أن نكون على حذر وحيطة من ألاعيب المستعمرين وأعوان المستعمرين.

حاول الاستعمار بكل وسيلة من الوسائل أن يضعضع قوميتنا وأن يضعف عروبتنا وأن يفرق بيننا فخلق صنيعة الاستعمار. ففي اليومين الماضيين استشهد اثنان من أحلص أبناء مصر انكرا ذاتيهما وكانا يكافحان في سبيل تحقيق غرض كبير.

في سبيل تحقيق المبادئ والمثل العليا من أجلكم ومن أجل العربي. كان كل واحد منها يؤمن بمصريته وعروبته فكان يقدم روحه فداء لهذه المبادئ.

استشهد اثنان من أعز أبناء الوطن استشهد مصطفى حافظ الذي آل على نفسه إنشاء جيش فلسطين فهل تاه عنه الاستعمار وهل سكتت عنه إسرائيل لقد اغتيل مصطفى بأخس أنواع الغدر والخداع.

إن جميع المصريين كل واحد منهم يحمل هذه المبادئ ويؤمن بهذه المبادئ أمام صلاح مصطفى أخوكم .. أخي الذي قام معي في 23 يوليو قام يجاهد من أجل مصر ووهب روحه ودمه في سبيل مصر وفي سبيل مبادئكم ومثلكم كان يؤمن أنه وهب روحه ونفسه ودمه في سبيل الوطن العربي فإن كانوا اغتالوا صلاح مصطفى وقتلوا صلاح مصطفى بأبشع أساليب الغدر والخيانة التي كانوا يتبعونها قبل سنة 1948 فإن العصابات التي تحولت إلى دولة تتحول اليوم ثانية إلى عصابات وهذا يبشر بالخير إذ عادت إلى ما قبل 48. إن يوم النصر لقريب وإذا كانوا يعتقدون أنهم لن يجدوا في مصر أمثال هذا الفرد فهم واهمون. إذا كانوا يعتقدون أنهم يستطيعون أن يبثوا الرعب في نفوس الأمة العربية فإنهم واهمون فكلنا نعمل من أجل المبادئ العليا كلنا نعمل من أجل قوميتنا كلنا نعمل من أجل عروبتنا كلنا سنجاهد كلنا سنكافح.

هذه أيها المواطنون هي المعركة التي نخوضها الآن معركة ضد الاستعمار وأعوان الاستعمار وأساليب الاستعمار ضد إسرائيبل صنيعة الاستعمار ليقضي على قوميتنا كما قضى على فلسطين. كلنا سندافع عن حريتنا وعروبتنا حتى يمتد الوطن العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.

أيها المواطنون :

إن القومية العربية تتقدم، ستنتصر، إنها تسير إلى الأمام وهي تعرف طريقها وتعرف سبيلها. إنها تعرف من هم أعداؤها ومن هم أصدقاؤها وأن قوتها في قوميتها وأنا اليوم اتجه إلى إخوان لنا. في سوريا .. سوريا العزيزة .. سوريا الشقيقة .. لقد قرروا أن يتحدوا معكم اتحاداً سليماً عزيزاً كريماً لندعم سوياً مبادئ الكرامة ولنرسي سوياً القومية العربية والوحدة العربية. نرحب بكم أيها الأخوة متحدين بلداً واحداً، وقلباً واحداً، ورجلاً واحداً، لنرسي مبادئ الكرامة الحقيقية استقلالاً سياسياً حقيقياً. واستقلالا اقتصادياً حقيقياً.

أيها المواطنون :

منذ أعلنت مصر سياستها الحرة المستقلة وبدأ العالم ينظر إلى مصر ويعمل لها حساباً، فإن الذين كانوا لا يعتدون بنا في الماضي أصبحوا اليوم يعملون لنا حساباً بدأوا يعملون لنا للعرب والقومية ألف حساب .. كنا في الماضي نتطلع على مكاتبهم، مكاتب المندوب السامي .. وبعد إعلان مبادئنا وبعد تكاتفنا وإقامة جبهة وطنية، متحدة من أبناء هذا الشعب ضد الاستعمار والطغيان والتحكم والسيطرة والاستغلال أصبحوا يعملون لنا حساباً ويعرفون أننا دولة لها قيمتها.

ونمت مصر في المجال الدولي، وكبرت قيمة الأمة العربية في المجال الدولي، وعظمت. وعلى هذا الأساس كان مؤتمر بريوني وسافرت لأجتمع بالرئيس تيتو رئيس جمهورية يوغسلافياوالرئيس نهرو رئيس وزراء الهند. الاثنين اللذين أعلنا سياسة عدم الانحياز السياسة الحرة المستقلة. وأنا ذاهب إلى بريوني بيوغوسلافيا لمست صداقة الشعب اليوغسلافي للشعب المصري، وسافرت إلى بريوني وبدأنا نبحث ونتبادل الرأي في المشاكل العالمية وانتهى المؤتمر، انتصار كبير للسياسة التي تتبعها مصر وهي سياسة عدم الانحياز.

وأعلنت في المجالات الدولية أن مؤتمر بريوني قرر أن يتبع مبادئ باندونج العشرة وقال في القرار الذي صدر أن رؤساء الحكومات الثلاثة ـ يوغوسلافيا والهند ومصر ـ استعرضوا التطورات الدولية ولاحظوا باغتباط أن سياسة بلادهم قد ساهمت في تخفيف حدة التوتر الدولي.

وناقش المؤتمر وسائل إنماء العلاقات بين الأمم على أسس المساواة، كما جاء في قرارات باندونج الذي عقد في العام الماضي فقد أصدر قرارات واتخذ مبادئ: المساواة، واحترام حقوق الإنسان الأساسية، واحترام سيادة الأمم، وسلامة أراضيها، والاعتراف بأحقية الشعوب في تقرير مصيرها، كبيرها وصغيرها، والامتناع عن أي تدخل في الشئون الداخلية لأية دولة، والامتناع عن استخدام التنظيمات الدفاعية الجماعية لخدمة المصالح الذاتية لأية دولة من الدول الكبرى بحجة الدفاع لكي تخدم مصالحها.

هذه هي المبادئ التي أقرها مؤتمر باندونج والتي أعلن مؤتمر بريوني تمسكه بها وأعلن أن هذه المبادئ يجب أن تكون أساس العلاقة بين الدول.

ثم تكلم مؤتمر بريوني عن الشرق الأوسط ووافق على وجهة النظر العربية زعيماً الهند ويوغسلافيا وقررا أنه يجب البحث في المشاكل العربية على أساس حرية الشعوب التي يعنيها الأمر.

وأعلن مؤتمر بريوني أن الموقف في فلسطين على وجه الخصوص يعد خطراً على السلام، ويؤيد أعضاء المؤتمر قرار مؤتمر باندونج الخاص بتأييد حقوق الشعب العربي في فلسطين وتطبيق قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين. وتكلم مؤتمر بريوني عن مشكلة الجزائر التي تعد مشكلة عربية والتي تتطلب اهتماماً عاجلاً بمطالب الجزائر لدعم السلام في الهذه المنطقة من العالم.

ونظراً لإيمان الرؤساء الثلاثة بأن السيطرة والاستعمار يتسببان في الإضرار بالحاكمين معاً، فإنهم يعبرون عن إيمانهم برغبة الشعب الجزائري في نيل استقلاله. وأيد المؤتمر المفاوضات التي تهدف إلى حل سلمي لمشكلة الجزائر على أنه يجب ألا يقف هذا في طريق الاعتراف بتحقيق حرية الجزائر وإيجاد حل عادل وسلمي وبخاصة وقف أعمال العنف. وبهذا خرجنا من المؤتمر بتأييد لوجهة النظر العربية وتكلم المؤتمر في مشكلة ألمانيا في أوروبا ومشكلة الصين في آسيا ومشكلة فلسطين والجزائر وهي التي تهمنا كأمة عربية.

وكانت وجهة نظر الرئيسين تيتو ونهرو تتمشى مع وجهة النظر العربية التي استطاعت أن تأخذ لها حصناً آخر وتفاوض وجودها.

هذا ما حدث في مؤتمر بريوني.

ومصر منذ قامت الثورة كانت تجاهد لنقل قضاياها وقضايا العروبة إلى طريق غير طريق الاستجداء غير طريق الاستعمار لقد كنا ندرك منذ عام 1952 وقبلها أن الاستقلال الاقتصادي السليم يقف ضد مؤامرات المستعمرين والمستغلين الطامعين، كنا نعمل من أجل إجلاء الإنجليز المحتلين بوسائل مختلفة. بالقوة واللين والعنف والمفاوضات. وكان عزمنا على أن نحقق لمصر الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي. وألا يرفرف على أرض مصر إلا علم مصر، كنا نسعى إلى ذلك منذ اليوم الأول الذي قامت فيه الثورة. وانتهى الاستعمار ولم يستطع الاحتلال أن يبقى في مصر بين المواطنين فلم يجد من يتعاون معه أو يسنده.

فسلم الاستعمار وجلت عن مصر آخر قوة من قوات الاحتلال التي دخلت بلادنا عام 1882 وكانوا قبل ذلك قد انهزموا وضربوا في كفر الدوار، ولم يستطيعوا إكمال غزوهم وحملاتهم، عندما خرج لهم أحمد عرابي، فانسحبوا والتجئوا إلى الخيانة، واستطاعوا الدخول، بواسطة أعوانهم، عن طريق قتال السويس بواسطة الخونة، هزمناهم عـام 1882 وفي 1807 عند حملة فريزر، هزمها أهل رشيد المدنيون .. هزمنا بريطانيا مرتين. ولكن الإنجليز اتبعوا معنا أساليب الغدر والخديعة واستطاعوا احتلالنا بذلك، ووقفت الثورة إلى أن ترفع في سماء مصر علم مصر وحدها، وأن يبقى بين ربوع قيادة مصرية واحدة، وتحقق هدفاً كبيراً من أهداف مصر، ولكننا لم نهمل أبداً العمل من أجل الاستقلال الاقتصادي، لأننا نؤمن أن الاستقلال اقتصادي مكمل للاستقلال السياسي، وإن التحكم الاقتصادي يستخدم في الضغط والتوجيه، وعملنا على زيادة الإنتاج ونجحنا في هذا الاتجاه، لأننا نعتمد على أنفسنا وعزمنا وقوتنا. استطعنا زيادة الدخل القومي من سنة 52 غلى 54 إلى ما يقرب من 16 % ومن 1954 حتى 1956 زاد زيادة أخرى. لأننا كنا نعمل في نفس الوقت من أجل الاستقلال الاقتصادي.

وفي أيام الجلاء، وحينما شعرنا بالاستقلال السياسي، اتجهنا إلى العالم وقلنا إن مصر ستسالم من يسالمها وتمد يدها للجميع، أن سياسة مصر تنبع من مصر، لا من لندن ولا من واشنطن ولا من موسكو، وقلنا أننا مستعدون للتعاون مع الجميع ولكن ليس على حساب كرامتنا أو استقلالنا.

هذا الذي قلته يوم 29 يونيه الماضي وقلته منذ قامت الثورة وسأقول لكم كل شيء لتكونوا على بينة. منذ قيام الثورة بدأت بريطانيا وأمريكا تتصلان بنا، من أجل محالفات واتفاقات ولكننا قلنا إننا لا نستطيع التحايف، إلا في حلف واحد، وهو حلف الدول العربية وقلت لهم كل هذا، هل سيكون لمصر رأي على بريطانيا؟ .. هل يحقق التحالف بين دولة كبيرة وأخرى صغيرة إلا التبعية .. لا نقبل أبداً أن نكون أذيالاً، أو تابعين .. كان جنرال روبرتسون موجوداً وطلب منا عقد محالفة مدتها خمس وعشرون سنة، ولكننا رفضنا؛ وما قلناه سنة 52 في جميع محاضر المحادثات هو ما نقوله اليوم.

بدأنا نتكلم عن تمويل الجيش المصري بالسلاح، مع استعدادنا لدفع ثمن السلاح فرفضوا إلا إذا وقعنا ميثاق الأمن المتبادل ومعناه أن تأتي أمريكية لا يكون لعبد الحكيم عامر فيها رأي. قلنا إن لنا تجارب كبيرة بهذا الخصوص، وكان للبعثة العسكرية البريطانية هدم معنويات الجيش المصري، لذلك كان لدينا مركب نقص من ناحية البعثات العسكرية، كان غرضنا أن يكون للجيش المصري شخصيته المستقلة ولذلك قالوا لي في سنة 1952 أنهم مستعدون لتزويدنا بالسلاح، ولكن عادت بعثتنا خالية الوفاض.

أن ما نقوله اليوم ليس بجديد، قلناه في أول يوم من أيام الثورة وبدأ بعدهذا كفاحنا في القتال كفاح وهب فيه الفدائيون أرواحهم وقاتلوا وكافحوا واستطاعوا أن يجعلوا القوة البريطانية غير قادرة على الدفاع عن نفسها وعن القنال، إن الجنود المجهولين الذين خرجوا من بينكم وبذلوا أرواحهم أعجزوا الثمانين ألف بريطاني عن الدفاع عن أنفسهم، وهذا هو السبب الحقيقي في جلائهم، خرجت بريطانيا من مصر لأنها أدركت أن شعب مصر أبى أن تكون لغيره قيادة في مصر، هذا هو السبب الحقيقي وليست المفاوضات أو المحادثات.

كانت معركة مريرة طويلة ولكنها لم تنته فالاستعمار له أشكال مختلفة والاستعمار اليوم يتمثل في أعوان الاستعمار الخونة، الاستعمار يتلوَّن، وعلينا مقاومته بجميع أنواعه المقنعة تحت تكتل الأعوان والتحالفات والاتفاقات.

وبدأ الاستعمار يعمل ليضع يده على الدول العربية دولة دولة فقاومنا، وكان الوعي العربي والقومية العربية قد اشتعلت وتيقظت فلم يستطع الاستعمار تحقيق أغراضه فانتصرت القومية العربية وهزم الاستعمار شر هزيمة ـ هزم في الأدن حينما أراد تمبلر أن يجبر الأردن المكون من مليون ونصف على الخضوع ولكن الجنرال تمبلر هرب من الأردن . فقد آمنت القومية العربية بحقها في الحياة فانتصرت ولم يستطع الاستعمار تحقيق أي غرض من أغراضه ولم يستطع حلف بغداد أن يصنع شيئاً بل وقف وتجمد بفضل الرأي العام العربي والقومية العربية.

دخلنا في معارك في الداخل والخارج عاون الاستعمار فرنسا في تونس ومراكش والجزائر وانتقلت قوات حلف الأطلنطي لتقاتل في الجزائر .. أمريكا زعيمة العالم الحر تؤيد كذلك الدول التي عملت ميثاق الأمم المتحدة وتقرير المصير كل هذا نسوه أو تناسوه وبدأوا يقاومون القومية العربية في الجزائر، كل هذه القوى تقاتل عشرة ملايين جزائري ولكن القومية العربية في الجزائر بأسلحتهم البسيطة المحدودة مقاومة القوات المدججة بالدبابات وكافة الأسلحة. الأسلحة المعدة لروسيا لم تستطع الوقوف في وجه الجزائر.

وهذ معناه اشتعال القومية العربية وشعورها بكيانها وحقها في الحياة، هذه المعارك التي نخوضها ـ معركة الأردن والجزائر ومقاومة الأحلاف كلها ـ معاركنا! بمصائرنا جميعاً مرتبطة في الأردن والسودان، مصير كل واحد .. مصر الجميع .. يريد الاستعمار أن نكون تابعين وحين يأمر نلبي الأمر.

هناك دول كثيرة لا داعي لذكرها حتى لا نعمل أزمات دبلوماسية. الدول التي تتلقى الأوامر وتنفذ الأوامر لا تؤمن بوطنها وإنما بالسفراء والمندوبين الساميين. يريدوننا أن نكون مثلهم ولكن هذا لن يكون، فلم تقم الثورة وثورة سنة 1919 وما بعدها لكي نتلقى أوامر الاستعمار. يريدوننا أن نسمع أوامرهم بخصوص إسرائيل التي يقولون إنها موجودة بحكم الواقع .. ويقولون إن عرب فلسطين ندفع لهم شيئاً من المال ولكننا نعتز بعروبتنا وأرضنا. وهي لا تقدر بمال. يريدوننا أن نسلم لإسرائيل بكل شيء ونهمل فلسطين وننكر لها ولأخواتنا في شمال أفريقيا، وأن نوافق كما وافق مجلس الأمن على المذابح؛ يريدون منا أن ننفذ السياسة التي تملى.

ولكن مصر أبت وأرادت إلا أن تكون لها شخصيتها المستقلة فمنع عنا السلاح وسلحت إسرائيل وأصبحت خطراً يهدد .. وقالت بريطانيا نحن مستعدون لتسليحكم ولكن على شرط أن يسكت عبد الناصر في باندونج. ودعونا ننفذ خطتنا في الأحلاف. أصبح التسليح إذن أداة لتقييدنا وتقييد حريتنا. ولكننا لسنا على استعداد لدفع الثمن، شخصيتنا ومبادئنا. وبهذا لم نستطع الحصول على أي شيء من السلاح. لا بالثمن ولا بالمجان.

استطعنا بعد ذلك أن نحصل على السلاح من روسيا لا من تشيكوسلوفاكيا. ووافقت روسيا على إمدادنا بالأسلحة. وتمت صفقة الأسلحة فحصلت ضجة، وقالوا إنه سلاح شيوعي ولكنني أعرف أن السلاح هنا سلاح مصر وبدأت صحافتهم تقيم ضجة .. ما سببها؟ "قالوا إن لديهم خطة. وهي حفظ التوازن بين الدول العربية وإسرائيل". طيارة للدول العربية كلها وأخرى لإسرائيل لحفظ التوازن! من ذا الذي أقامكم أوصياء علينا لحفظ التوازن؟ نحن لا نقبل وصاية أحد. ولكنه الاحتكار للسلاح الذي كانوا يتحكمون به فينا.

فلما استطعنا تحطيم هذا الاحتكار انهارت كل خططهم، لم يستطع الاستعمار التحكم عن طريق منع الأسلحة، من ذا الذي أوجد إسرائيل في هذه المنطقة؟ من كان مسئولاً عن الانتداب على فلسطين؟ بريطانيا!

وعد بلفور ... بريطانيا مسئولة عنه ... كانت بريطانيا تعلم أن داخل فلسطين جيش مسلح يستعد للاستيلاء على فلسطين .. ومع ذلك وهي تعلم هذا تركت فلسطين .. ماذا كانت تهدف إليه بريطانيا وأمريكا؟ كانتا تهدفان إلى شيء واحد، وهو القضاء على قوميتنا.

إنهم يعرفون أنا لنا قومية تجمعنا من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي .. هذه القوة يجب أن يعمل لها حساب لأول مرة في التاريخ. إذن يقضون على فلسطين قضاء كاملاً.

ويحل اليهود محل أهلها. إبادة قومية للجنس. عملية إبادة كان الغرض منها إبادة القومية العربية كلها! وكان الصهيونيون يعلنون أن وطنهم المقدس يمتد من النيل إلى الفرات! يقولون في برلمانهم عن حرب مقدسة فالعملية إبادة العرب وقضاء على الجنس.

وكان لابد من السلاح للدفاع عن أنفسنا حتى لا نكون لاجئين، فحصلنا على السلاح وتعاقدنا عليه. وأحب أن أقول إن الحصول عليه كان دون أي قيد ولا شرط، مجرد دفع الثمن وأصبحت الأسلحة ملكاً لنا.

وأرسلت أمريكا مستر آلان مندوباً لها يحمل رسالة من الحكومة الأمريكية. وكان المفروض أن يقابلني، وقالت الأنباء إنه يحمل تهديداً لمصر!

واتصل بي أحد الرسميين الأمريكيين لمقابلتي وقال إنه متأسف للحالة التي وصلت إليها العلاقات بين البلدين. ونصحني بأن أقبل الرسالة بأعصاب هادئة. فقلت كيف أقبلها وفيها جرح للعزة المصرية؟ فقال لن يترتب عليها أي أثر عملي فهي مجرد رسالة.

فقلت إني لست رئيس وزارة محترف ولكني رئيس وزارة عن طريق ثورة ولن أتردد إذا حضر مندوبكم وتكلم كلمة .. سأطرده! هذا كلام رسمي وسأعلن للشعب أنكم أردتم إهانة عزته وكرامته .. وسنقاتل جميعاً لآخر قطرة من دمي. فهددوا بقطع المعونة. فقلت سأعلن قطعها. ونحن لم نتلق دروساً في السياسة.

فقد قمنا بثورة وسنحافظ عليها. كان ذك في أكتوبر ثم عاد وقابلني وقال إنه أبلغ مستر آلان هذا الكلام .. وهو في حيرة لأنه لو حضر سيطرد وإذا أبلغ ذلك لدالاس؟ فسوف يطرده. فما هو الموقف، فقلت له إني لا أعرف إلا أنه إذا حضرإلي فسأطرده. جاء لنا مستر آلان ولم يفتح فمه بكلمة .. واستمع إلى وجهة النظر المصرية وأسرد لكم وجهة نظر أمريكا بإيجاز. إنهم يعتقدون أننا سياسيون محترفون ولكن مصر استطاعت أن تحافظ على كرامتها وعزتها.

قامت الضجة في كل مكان بشأن الأسلحة فكنت أرى العجب والشتائم في الجرائد الإنجليزية والأمريكية .. كانوا يشتموننا لأننا تخلصنا من السلاسل واستطعنا أن نحرر بلدنا وندعم قوتنا ونقرر سياسة مستقلة.

هذه هي ضجة الأسلحة وصفقة الأسلحة.

كنت أتكلم وأنا مطمئن أشعر بالقوة .. لماذا؟ لأني أشعر أنني الشعب جميعه 23 مليوناً كلهم سيكافحون في سبيل الاستقلال لآخر قطرة من دمائهم، لم أكن أتكلم بقوة جمال عبد الناصر ولكن كنت متأكداً أن كل أبناء مصر سيكافحون لآخر قطرة من دمائهم .. لا حزبية ولا خلافات .. إننا نحن جميعاً كتلة وطنية وراء أهداف الثورة.

كنت أتكلم بشجاعة وكنت أشعر أن الشعب كافح وناضل على مر الأيام ومستعد لأن يكافح. شعب متحد وشعب قوي.

شعب رأى لأول مرة علم بلده يرتفع وهو مستعد لأن يضحي كما ضحى صلاح مصطفى ومصطفى حافظ.

كنت آخر كلمة قالها صلاح مصطفى (الحمد لله بلغوهم في مصر يخلو بالهم) لقد أشعر أن 22 مليون صلاح مصطفي يقفون ورائي. هذا الدفع الذي كان يعطيني القوة وهذا هو ما جعلني أقول لمندوب أمريكا أنني سأطرده لأن الشعيد يريد ذبك. وهو مستعد أن يكافح لآخر قطرة من دمه في سبيل حريته. انتهت قصة المفاوضات والأحلاف.

ثم انتهت قصة السلاح وبدأت قصة السد العالي.

في سنة 53 قمنا بعمل خطة للتنمية الإنتاجية لزيادة الدخل القومي بسرعة مضاعفة لأننا نزيد كل عام نصف مليون ومستوى المعيشة عندنا يعتبر متوسطاً وأمامنا عمليتان: أن نرفع مستوى المعيشة. وأن نحافظ على الدخل.

فزيادة مستوى المعيشة يحتاج إلى زيادة الدخل لذلك اتجهنا إلى مياه النيل لنستفيد منها.

وكان قد قدم لنا مشروع السد العالي في 1952. وكان قد قدم لنا منذ عام 1942 ووضعناه موضع الدراسة وقابلتنا عقبة التمويل. وتبين أن المشروع صالح وينتهي بعد 10 سنوات. وبدأنا نقابل عقبة التمويل فليس لدينا المال الكافي لدفع نفقات المشروع التي تبلغ من 800 إلى ألف مليون دولاء تدفع على عشر سنوات، في سنة 1953 اتصلنا بالبنك الدولي وطلبنا منه ونحن من المشتركين فيها المساهمة في التمويل.

وقال إن فيه عقبات فهناك الإنجليز وإسرائيل فعندما تنهون خلافكم معهما نستطيع تمويل المشروع، وليش عندم نظام برلماني فنطلب منكم عمل استفتاء على هذا المشروع.

وفهمنا من هذا الكلام أننا لن ننال مساعدة البنك فقررنا الاعتماد على أنفسنا وعلى شركات الصناعة. واتصلنا بالشركات الألمانية فقالوا أنهم على استعداد لإعطائنا 5 ملايين جنيه. ثم اتفقت مع الشركات الألمانية والفرنسية والإنجليزية فقالوا إن كل شركة مستعدة لإعطائنا 5 ملايين جنيه على أساس قرض متوسط الأجل.

وسافر وزير المالية إلى لندن وقابل وزير مالية إنجلترا.

وقالوا له إنهم مستعدون ـ أي الشركات الثلاثة ـ لرفع القرض إلى 45 مليون جنيه ونكمله نحن من العملة المصرية، فسافر وزير المالية إلى واشنطن على هذا الأساس فقال الأمريكيون إنهم قرروا لمصر 40 مليون دولار معونة .. وكان كلاماً على ورق.

وقالوا نستطيع تمويل هذه المعونة إلى السد العالي، ورجع الإنجليز في كلامهم وقالوا خذوا القرض من البنك الدولي ونحن نعطيكم مليون جنيه والأمريكان يعطون حوالي 20 مليون جنيه. والبنك الدولي قال إنه مستعد أن يعطينا 200 مليون دولار بعد 5 سنوات ونحن نصرف خلالها 300 مليون دولار.

وبدأوا على هذا الأساس يشترطون الشروط فقامت المحادثات في سبتمبر على مليون دولار بعد خمس سنوات على أقساط ثم وضع في خطابه شروطاً يجب أن تتبعها مصر لكي تنال هذا القرض وشروط القرض نتفاوض عليها من وقت لآخر .. ثم قال البنك إن هذا القرض يتوقف على الشروط الآتية:

1- يطمئن البنك إلى أن العملات الأجنبية المطلوبة التي سننالها من المنح الإنجليزية والأمريكية لا تنقطع.

2- يجب أن يتفاهم البنك مع الحكومة المصرية ويتفق معها من وقت لآخر حول برنامج الاستثمار أي وصاية من البنك الدولي على الحكومة المصرية.

3- حول الحاجة إلى ضبط المصروفات العامة للدولة.

وبعد ذلك لا تتحمل الحكومة المصرية أي دين خارجي وكذا لا نوقع اتفاقات دفع كإنفاق الأسلحة مع روسيا وتتفاهم مصر مع البنك أولاً قبل الاتفاق على أي مشروع.

ثم طلب البنك أن إدارة المشروع تخضع للاتفاق بين الحكومة المصرية والبنك.

وقال البنك إن اتفاقات البنك خاضعة لإعادة النظر فيها إذا حدث ما يستدعي ذلك وأرسلت الحكومتان الأمريكية والبريطانية مذكرتين والبنك أرسل الخطاب لكل واحد فيها يحمل معنى المذكرة الأخرى، وأصبحت العملية مفهومة وظهر أن هناك فخاً منصوباً للسيطرة على استقلالنا الاقتصادي.

هذا الكلام رفض رفضاً باتاً، وقلت أننا لا يمكن أن نبيع أنفسنا بـ 70 مليون دولار معونة، وتكلمنا مع الأمريكان وسألناهم هل مثل هذه الشروط تعمل مع الإعانات التي تعطى لإسرائيل؟

وقلنا إن هذا الكلام يتنافى مع استقلالنا. وقارنّا بين موقف العرب وموقف إسرائيل والمساعدات التي تمنحها أمريكا للطرفين فالهبة السنوية التي تعطيها أمريكا لإسرائيل من 30 إلى 50 مليون دولاء، والمساعدة الفنية تبلغ سنوياً من 6 إلى 14 مليون دولاء. وفائض المواد الغذائية التي تهديها أمريكا لإسرائيل قيمتها 7 ملاييت دولار، ورؤوس الأموال الأمريكية التي تعمل في إسرائيل 214 مليون دولار.

في 12 – 7 – 55 أعطى بنك أمريكا قرضاً لإسرائيل قدره 30 مليون دولار، كما جمع اليهود في أمريكا 3 آلاف مليون دولار، وتبرعات 164 مليون دولاء ومجموع التعويضات الألمانية 3500 مليون دولار، تدفع كل سنة منها جزءاً بضائع وسفناً ومصانع.

تبرعات يهود أمريكا لإسرائيل خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام 65 مليون دور ونحن نعرف أن إسرائيل ربيبة أمريكا ولا تستطيع أن تعيش من غير المعونة.

وتكلمنا مع ممثلي أمريكا، وقلنا لهم إنه في فترة خمس سنوات سيصرف على السد العالي 370 مليون دولار تدفع مصر 300 مليون وتدفع أمريكا 70، والمشروع الذي سيتكلف بلون دولاء سندفع منه 730 مليون أولاً. وكيف يمكن لي أن أنفذ الشروط التي أملاها على البنك الدولي؟ وقلنا لهم إن لنا تجربة في ذلك، وسبق أن وقعنا في هذا الاستغلال، وحضر "كرومر" وبقى في مصر.

وفي هذه الأيام حضر السفير الروسي، وقال إن روسيا مستعدة للاشتراك في تمويل السد العالي. وكان ذلك بعد شهر ديسمبر، فقلت له إننا نتكلم مع البنك الدولي، وتأجل الكلام في التفاصيل.

وعرف الأمريكان أن هناك عرضاً روسياً، فوصل إلى مصر في فبراير الماضي، مدير البنك الدولي، وأرسل خطاباً يطلب فيه دعوته إلى الحضور إلى مصر.

وبدأت المفاوضات معه في شهر فبراير وحينما قابلته، قلت له بصراحة، إن عندنا عقدة من ناحية القروض والفوائد، ولا يمكن فصلها عن السياسة، لأننا رحنا شحصية الاحتلال بسبب القروض. فلن نقبل أي مال يمس سيادتنا، وقلت له إن إشرافكم على ميزانيتنا لن يصلحها، وأمامنا دولة في شمالنا أقوى مل، فأنتم تشرفون على اقتصادياتها ومع ذلك فاقتصادها منهار. وتقرير البنك يسلم بسلامة الاقتصاد المصري. وكان مفروضاً أن نبدأ في يونيو الماضي المشروع، وعلى ذلك أبلغت مدير البنك أننا لن نبدأ في المشروع إنه يجب علينا أن نحل مشكلة الماء بين مصر والسوادن، ثم يوقع البنك معنا الاتفاق، ولكنه لم يضمن أن تدفع أمريكا وإنجلترا لنا أكثر من مبلغ الـ 70 مليون دولار التي وعدنا بها.

وظهر الفخ .. أي نأخذ السبعين مليون دولار، ونبدأ في المشروع، ونصرف المال ثم نعود فنطلب من البنك مبلغ الـ 200 مليون دولار، فيعرض البنك شروطاً، ويبقى علينا أن نقبل شروط البنك، أو يتوقف المشروع ونكون أضعنا 300 مليون دولار هباء!

ومعنى ذلك أن يرسل لنا البنك من يجلس مكان وزير المالية .. وآخر يجلس مكان وزير التجارة .. وآخر يجلس مكاني أنا.

هذا هو الفخ الذي ظهر. فقررنا ألا نبدأ في السد إلا بعد توقيع اتفاقية المياه مع السودان الشقيق، ورفض قبول شروط البنك الدولي، وأصدرنا الأمر بإيقاف العمل، حتى لا ندخل في مغامرة يتحكم فينا الاستعمار بسببها، ويسيطر علينا اقتصادياً، بعد فشله سياسياً وأبلغنا ذلك لمدير البنك الدولي، فقال إنه مستعد لتعديل الشروط فلم يضمن أن يكون الاتفاق النهائي مماثلاً للكتاب الذي يبعثه إلينا، فرفض توقيع الاتفاق.

كانت هناك خدعة لنقع في براثنهم .. يتحكمون فينا عندما تستنزف أموالنا، دون أن نأخذ أي نتيجة، فقررن ألا نبدأ في السد إلا بعد أن نعلم كيف يمول السد ونعرف كيف ينتهي ولذلك أوقفنا كل العمل في فبراير، وأرسل إلينا مدير البنك خطاباً لا قيمة له، قال إنه يدفع 200 مليون دولار بعد حل مشكلة الماء.

ولم يكن في الخطاب ما يمس سيادتنا فقبلناه، ولكن كانت هناك مذكرة الحكومة الأمريكية والبريطانية. وفيها ما يمس سيادتنا. ففي فبراير أبلغ السفيران الأمريكي والبريطاني عدم موافقتنا على هذه المذكرات وراحت المذكرتان للحكومتين الأمريكية والبريطانية، وطبعاً لم يجيء أي رد. في 29 فبراير كان الكلام أن بريطانيا تريد التوسط بيننا وبين السودان. فجاء سلوين لويد وقابلني في منزلي. وعرض معاونته لحل مشاكل المياه بيننا وبين السودان، فقلت له أن تصرفاتكم تدل على أنكم تعقدون المسائل بجرائدكم وإذاعتكم تثير السودان ضد السد العالي فمحطة الإذاعة البريطانية ومحطة الشرق الأدني والصحف تذيع تعليقات للوقيعة بيننا وبين السودان وسفارتكم في الخرطوم تجمع كل ذلك وتطبعه في كتاب وتوزعه على السودانيين.

ومعنى هذا خلق عداء بين مصر والسودان، فكيف يستقيم هذا مع عرضك لأن تكون وسيطاً بين مصر والسودان؟

كان الواضح أن الإنجليز يحاولون بث روح الكراهية في إخواننا السودانيين ويهمه أن ينفذوا لإثارة أحدنا ضد الآخر. وفي نفس الوقت وقف اللورد كيلرن، وأخذ يسب مصر .. كيف نعاونها ونساعدها وهي تنادي بالتحرير، فلا يجب منحها 5 مليون جنيه، وكلام آخر في منتهى البذاءة من اللورد كيلرن، وهو معروف.

وفي يوم 14 مارس قابلت السفير البريطاني في المنزل، وقلت له إننا شعب عاطفي، فالكلمة الحلوة أفضل من مليون دولار، ولا نقبل الشتيمة بــ 15 مليون دولار، ولا نقبل كلام كيلرن، ولم نرد المعونة حتى لا يكون ردنا يعتبر إهانة، ونحن لسنا دولة غنية جداً، ولكننا نستطيع توفير 5 مليون جنيه ولو "دقينا زلط أو كسرنا طوب" فنحن قبلنا المعونة منعاً من أن يقال أن مصر ترفض علاة حسنة معكم، ولكن إذا تكرر هذا الكلام فسنرفض المعونة.

وسار الحل على هذا، ثم لم ترد الحكومتان الأمريكية والبريطانية على المذكرتين.

ثم طرد جلوب من الأردن، وضُرب سويد لوي بالطوب في البحرين، وقيل إن هذا نتيجة مصر، وبدأت حملة شنيعة من أول مارس ضد مصر في الصحف البريطانية، لدرجة أن رجلاً اسمه فريزر، قال لابد من بناء سد في كينيا يمنع الماء عن مصر، وهذا يدل على جنون هؤلاء الناس، وقالوا إننا نهددهم في البترول ولكني قلت إنه ليس لنا أي دخل في المصالح المشروعة ولكننا نقاوم ما يسمونه بالنفوذ، لا يمكن أن نكون منطقة نفوذ لأحد، مصالحكم الاقتصادية المشروعة ليس لنا اعتراض عليها.

زيارة وزير خارجية روسيا مسيو شبيلوف إلى مصر، وفي نفس الوقت بعث مدير البنك أنه يريد المجيء فقلت له تفضل.

وحدثت محادثت بيننا وبين شبيلوف الذي عرض مساعدة روسيا لمصر في جميع الميادين، إلى درجة إعطاء قروض طويلة الأجل، وقال إن ذلك سيكون دون قيد ولا شرط، وعلينا أن نطلب منهم، وقال إنهم لا يريدون مواداً خاماً، وقال أيضاً إنهم يريدون أن يوفقوا بيننا وبين الدولة الغربية. وأن روسيا يهمها أن يسود السلام بيننا وبين الدول الغربية.

فالروس يعملون الآن على كسر حدة التوتر في العالم، ويهمهم أن تكون السياسة بين مصر والغرب طيبة، فشكرته وأجلت الكلامف ي التفاصيل لحين زيارتي في شهر أغسطس.

وفي ثاني يوم وصل مدير البنك الدولي وقابلني في البيت في الساعة العاشرة وأكد أن البنك عند وعده الذي قاله لي في شهر فبراير، وأنه مصمم على تمويل المشروع، وأن الحكومتين البريطانية والأمريكية عند هذا الوعد، وقلت إننا أيضاً عند كلتنا.

هذا ما حدث حتى حوال 20 يونيو الماضي وقال سفيرنا في أمريكا أن دالاس قال له إن الأمريكان يعتقدون أننا لا نريد أن يمولوا المشروع، فقلت له إننا نريد أن نتكلم ونتفاوض لتمويل المشروع عاد أحمد حسين إلى واشنطون على أن يقابل دالاس، ويطلب إرسال الرد على المذكرات التي بعثناها، وبعد يومين أعلنت الحكومة بيانها، وقد قلت رأيي فيه أول أمس.

وفي بيان أمريكا حاولوا إثارة أثيوبيا وأوغندا، لأنه يهمهم أن تختلف الدول في هذه المنطة فنلجأ إلى مساعدة أمريكا، فيحصل التحكم في هذه المنطقة. ولقد أبلغتهم اننا لا نريد وساطتهم مع السودان لتفاهمنا مع إخواننا السودانيين فإسماعيل الأزهري كان على استعداد للتفاهم معنا، وكذلك ميرغني حمزة تكلم معي، ولم يكن هناك شد وجذب، ولم يكن هناك خلاف. ولما جاء عباد خليل رئيس الوزارة السودانية الحالي، كانت روحه طيبة جداً، فلا داعي إذن لتدخل وتوسط الأمريكان والإنجليز.

ولكن وزارة الخارجية الأمريكية تقرر مصالح السودان ومصر .. ولا أدري كيف أن أمريكا تتدخل في صالح البلدين، فمصر والسودان مرتبطان ببعضهما البعض البعض منذ بدء الخليقة، ولا يمكن أن تصير دولة منهما إلى أمريكا الشمالية أو الجنوبية. ولكن حب الوصاية والتحكم والسيطرة وخلق المنازعات هي التي فرضت عليهم ذلك.

وقال البيان أن التطورات التي شهدتها الشهور السبعة غير ملائمة لتنفيذ المشروع. فما هذه التطورات؟ هل هي اقتصادية أو سياسية؟

وفي البيان الأمريكي أيضاً شيء غريب فوزير الخارجية الأمريكي يخاطب الشعب المصري، أي أن هذا ضد جمال عبد الناصر فقط؟

ما هي التطورات؟ إنهم يشككون في الاقتصاد المصري مع أن الإنتاج المصري دُعـِّـم وزاد.

ويقول كتاب الإحصاء الإحصاء السنوي للأمم المتحدة أن مجموع الدخل القومي المصري قد زاد من 748 مليون جنيه عام 1952 إلى 780 مليون جنيه عام 1953 ثم إلى 868 مليوناً عام 1954، أي أننا نعمل وننتج، وثروتنا تزيد ووضعنا الاقتصادي في تحسن مستمر فدخلنا القومي بلغ 748 مليون جنيه عام 1952، وفي عام 1954 أصبح 868 مليونا. أي أن الدخل زاد 120 مليون جنيه في سنتين.

وزاد مجموع الدخل الزراعي في عام 1954 – 1955 بمقدار 38 مليون جنيه، بنسبة 15% فقد بلغ 420 مليون جنيه بعد أن كان 382 مليون جنيه.

وزاد الإنتاج الوزراعي من 123% عام 1952 إلى 131% عام 1954 وهذه الأرقام من نفس الكتاب الإحصائي الذي أصدرته الأمم المتحدة.

وفي عام 1955 سجل الإنتاج الصناعي تقدماً كبيراً إذ تراوحت نسبة الزيادة في فروعه المختلفة بين 15% و 25% وقد تكلمت عن هذا في الكلمة التي ألقيتها في أول يونيو في مؤتمر التعاونين.

وقد بلغت الزيادة أقصاها في إنتاج الحديد والزهر فبلغت الصادرات المصرية في المدة من أول يناير إلى آخر يونيه عام 1956 ـ 91 مليون جنيه أي بزيادة قدرها 21 مليون جنيه. إلى آخر البيانات الاقتصادية المعروفة والتي نشرت في الميزانية.

ما هي التطورات التي حدثت في السبعة شهور الماضية؟ إنهم يحاولون أن يبينوا أنها اقتصادية .. التطورات هي تطورات استقلالية .. تطورات حرية .. تطورات عزة وكرامة .. التطورات التي حدثت في السبعة شهور الماضية أننا بنينا سداً من العزة والكرامة، سداً للحرية والاستقلال ضد الأطماع .. التطورات التي حدثت وأننا قد صممنا أن نقوي جيشنا ونسلحه .. صممنا أن تكون لن شخصية مستقلة .. صممنا أن تكون لنا حرية مستقلة.

والغرض ـ بالطبع ـ من هذا الإجراء الذي أعلن يوم 20 يوليو ـ وأنني سأتكلم عن الحكومة الأمريكية لا عن الحكومة البريطانية، لأن الحكومة البريطانية أعلنت في اليوم التالي لإعلان الحكومة الأمريكية بعدأن وصلها الخطاب الأمريكي، والبنك الدولي أعلن بالطبع بعد بريطانيا بعد أن وصلته تعليمات من أمريكا .. مصر ولهذا فسأتكلم عن أمريكا في هذا الموضوع .. ما الغرض من هذا؟ .. إنهم يعاقبون مصر لأنها رفضت أن تقف بجوار التكتلات العسكرية .. مصر نادت بالسلام وتحقيق حقوق الإنسان.

مصر نادت بالمبادئ والتي كتبوها في ميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ونسوها .. هذه هي المبادئ التي ننادي بها اليوم .. الحرية وحق تقرير المصير والقضاء على الاستعمار وعدم الانحياز والتعايش السلمي والحياد الإيجابي والتعاون مع جميع الدول، نعادي من يعادينا، ونسالم من يسالمنا .. هذه هي المبادئ التي تنادي بها مصر. فكيف نقول هذا ولا نسمع كلام الكونجرس الأمريكي ولا نأخذ الأوامر من هناك؟

ومنذ شهر ونصف شهر وقف أحد أعضاء الكونجرس وقال كيف تتبع مصر هذه المبادئ ولا تقعطوا عنها المعونة التي تؤخذ منا؟. وهذا معناه غرور وتحكم في الشعوب.

ونحن قد رفضنا قبول هذا التحكم وهذه السيطرة. إنهم يعاقبوننا على هذا بالسبعين مليون دولار التي كانوا سيعطونها لنا على خمس سنوات!

إننا نعمل مشروع تنمية ونريد أن ننمي الإنتاج ونرفعغ مستواه وهم يقولون في جرائدهم إننا نفعل هذا ليعرف الشعب المصري أن ناصر ضده، فيضغط عليه الشعب المصري لكي يسمع كلام أمريكا.

هذا ما يقولونه في جرائدهم، ولا يعرفون أن الشعب المصري غير موافق على هذا الكلام الذي تذكرونه. وحينما وصل بلاك وهو مدير البنك الدولي .. وبدأ يتكلم معي في تمويل السد العالي، قال إننا بنك دولي ولسنا بنكاً سياسياً، وليس لي شأن بأمريكا مطلقاً، فأنا مستقل أقول الرأي الذي أؤمن به.

وقلت له كيف يكون مجلس الإدارة ممثلاً لدول ولا يكون بنكاً سياسياً .. بالطع تعتبر بنكاً سياسياً فمجلس الإدارة أغلبه من الدول الغربية السائرة في فلك أمريكا.

وابتدأت أنظر إلى مستر بلاك وهو جالس على الكرسي وكنت أتخيل أنني أجلس أمام فرديناند دليسبس. عاد بي تفكيري إلى الكلام الذي كنا نقراه ففي عام 1854 وصل إلى مصر فرديناند دليسبس وذهب إلى محمد سعيد باشا ـ الخديوي ـ وجلس بجانبه وقال له نريد أن نحفر قناة السويس وهذا المشروع سيفيدك فائدة لا حد لها .. فهو مشروع ضخم وسيعود على مصر بالكثير.

وعندما كان بلاك يسترسل في كلامه معي، كنت أحس بالعقد الموجودة في الكلام الذي يقوله ويعود بي التفكير إلى فرديناند دليسبس.

ثم قلت له نحن عندنا عقدة من هذه الموضوعات ونحن لا نريد أن نرى كرومة في مصر مرة ثانية ليحكمنا. عمل في الماضي قرضاً وفوائد على القروض وكانت النتيجة أن احتلت بلدنا فأرجوك أن تضع هذا الاعتبار في نفسك وفي كلامك معي، فنحن عندنا عقدة من دليسبس. ومن كرومر عندنا عقدة من الاحتلال السياسي عن طريق الاقتصادي هذه هي الصورة التي صورت لي .. صورة دليسبس حينما وصل إلى مصر .. وصل دليسبس إلى مصر في 7 ديسمبر عام 1954، وصل إلى الإسكندرية وبدأ يعمل في حذر وخديعة .. وفي 30 نوفمبر عام 1954 وبعد أن اتصل دليسبس بالخديوي محمد سعيد، حصل على امتياز النال، وفي صدر هذا الامتياز الذي منحه سعيد لدليسبس قال الآتي:

حيث أن صديقنا مسيو فرديناند دليسبس قد لفت نظرنا إل الفوائد التي قد تعود على مصر من توصيل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر ، بواسطة طريق ملاحي للبواخر، أخبرنا بالفوائد التي تعود على مصر وأخبرنا عن إمكان تكوين شركة لهذا الغرض من أصحاب رؤوس الأموال فقد قبلت الفكرة التي عرضها علينا وأعطيناه بموجب هذا تفويضاً خاصاً بإنشاء وإدارة شركة لحفر ناة السويس واستغلال القناة بين البحرين.

وكان هذا الكلام عام 1854، وفي عام 1856 أي منذ مائة عام صدر فرمان بتكوين الشركة وأخذت مصر من الشركة 44% من الأسهم والتزمت بالتزامات لدليسبس .. شركة دليسبس شركة خاصة ليس لها علاقة بحكومات ولا احتلال ولا استعمار!! دليسبس قال للخديوي أنا صديقك وقد جئت لأفيدك وأعمل قناة بين البحرين تستفيد منها.

تكونت شركة قناة السويس واشتركت مصر بـ 44% من الأسهم ـ وتعهدت مصر بأن تورد العمال الذين سيحفرون القناة بأرواحهم وجماجمهم ودمائهم . دفعنا 8 مليون جنيه .. وبعد ذلك ولأجل أن يتنازل دليسبس عن بعض الامتيازات كنا ندفع له أيضاً.

وكان المفروض أن نأخذ أيضاً 15% من أرباح الشركة زيادة على أرباح أسمهنا وتنازلنا عن 15% من الأرباح .. وبعد أن كانت القنال محفورة لمصر كما قال دليسبس للخديوي أصبحت مصر ملكية للقناة. وفي الاتفاق الذي عقد في 22 فبراير 1966، جاء في المادة 16 أنه بما أن الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مصرية فإنها تخضع لقوانين البلاد وعرفها، وإلى الآن لم تخضع الشركة لقوانين البلاد ولا لعرفها لأنها تعتبر نفسها دولة داخل الدولة.

والمنازعات التي تنشأ في مصر بين الشركة وبين الأفراد من أية جنسية تختص المحاكم المصرية بالفصل فيها تبعاً للأوضاع التي تقررها قوانين البلاد وعاداتها. وتختص المحاكم المصرية في المنازعا التي قد تنشأ بين الحكومة المصرية والشركة ويقضى فيها طبقاً للقوانين المصرية.

ونتيجة الكلام الذي قاله دليسبس للخديوي عام 1856، ونتيجة الصداقة والديون .. تمَّ احتلال مصر عام 1882.

واستدانت مصر بسبب هذا الموضوع .. فماذا فعلت؟ اضطرت مصر في عهد إسماعيل إلى بيع نصيبها من الأسهم وقدره 44% من أسهم الشركة .. وفوراً أرسلت إنجلترا تشتري نصيب مصر من الأسهم في الشركة .. اشترتها بأربعة ملايين جنيه. وبعد ذلك تنازل إسماعيل عن الأرباح التي كان يأخذها للشركة وقدرها 5% نظير تنازلها عن بعض الامتيازات التي أعطيت لها فاضطر بعد أن اشترت إنجلترا الـ 44% من الأسهم بأربعة ملايين جنيه .. أن يدفع لإنجلترا سنويا 5% نظير الأرباح التي كان قد تنازل عنها، فدفع لها أربعة ملايين جنيه أي أن بريطانيا أخذت نصيب مصر من الأسهم وقدره 44% بدون مقابل.

هذا هو ما حدث في القرن الماضي. فهل يعيد التاريخ نفسه مرة ثانية ويعود إلى الخداع والتضليل؟ وهل يكون التحكم الاقتصادي سبباً في القضاء على حريتنا السياسية؟ .. كلا .. لا يمكن أن يعود التاريخ مرة أخرى ونحن اليوم نقضي على آثار الماضي البغيض التي تسبب فيها المستعمرون بالخداع والتضليل.

واليوم فإن قناة السويس التي مات من أبنائها في حفرها 120 ألفاً .. حفروها بالسخرة ودفعنا في تأسيسها 8 مليون جنيه .. قناة السويس التي أصبحت دولة داخل الدولة .. والتي أذلت الوزراء والوزارات .. هذه القناة قناة مصر، شركة مساهمة مصرية اغتصبت بريطانيا منا حقنا فيها وهو الـ 44 في المائة من أسهم الشركة .. وما زالت بريطانيا من وقت افتتاح القنال حتى الآن تأخذ فوائد مقابل هذه الأسهم والدول كلها تأخذ فوائد والمساهمون فيها يأخذون فوائد .. ودولة داخل الدولة وشركة مساهمة مصرية!

وبلغ دخل شركة قناة السويس في عام 1955 ـ 35 مليون جنيه أي مائة مليون دولار ونأخذ نحن الذين مات من أبنائنا 120 ألفاً أثناء حفرها مليون جنيه فقط أي 3 مليون دولار!.

شركة قناة السويس التي قامت كما قال فرمان من أجل مصلحة مصر ومن أجل منفعة مصر!.

هل تعلمون مقدار المساعدة التي ستعطيها لنا أمريكا وإنجلترا في خمة سنوات؟

70 مليون دولار .. وهل تعلمون من الذي يأخذ المائة مليون دولار وهي دخل الشركة السنوي؟ هم الذين يأخذونها بالطبع.

وليس عيباً أن أكون فقيراً وأقترض لكي أبني بلدي، أو أحاول أن أجد ماعدة لجل بلدي .. ولكن العيب هو أن أمتص دماء الشعوب .. وأمتص حقوق الشعوب.

إننا لن نكرر الماضي بل سنقضي على الماضي .. سنقضي على الماضي بأن نستعيد حقوقنا في قناة السويس .. هذه الأموال أموالنا .. وهذه القناة ملك لمصر لأنها شركة مساهمة مصرية.

حفرت قناة السويسة بواسطة أبناء مصر، ومات 120 ألف مصري في حفرها .. شركة قناة السويس الموجودة الآن في باريس شركة مغتصبة .. اغتصبت امتيازاتنا. وعندما جاء دليسبس إلى مصر كان مجيئه يشبه مجيء بلاك إلى مصر للتحدث معي.

والتاريخ لن يعيد نفسه، بل على العكس سنبني السد العالي وسنحصل على حقوقنا المغتصبة .. سنبني السد العالي كما نريد .. وسنصمم على هذا 35 مليون جنيه كل سنة تأخذها شركة القناة .. فلتأخذها مصر .. مائة مليون دولار كل سنة تحصلها شركة القناة لمصلحة مصر .. فلنحق هذا الكلام وتحصل مصر على المائة مليون دولار لمنفعة مصر أيضاً.

ولهذا فإننا اليوم أيها المواطنون حينما نبني السد العالي، فإنما نبني أيضاً سد العزة والحرية والكرامة ونقضي على سدود الذل والهوان.

وتعلن ـ مصر كلها ـ جبهة واحدة أنها كتلة وطنية متكاتفة متحدة .. مصر كلها ستقاتل لآخر قطرة من دمائها .. كل واحد من أبنائها سيكون مثل صلاح مصطفى ومثل مصطفى حافظ .. كلنا سنقاتل لآخر قطرة من دمائنا في سبيل بنا بلدنا، وفي سبيل بناء مصر .. لن نمكن منا تجار الحروب .. لن نمكن منا المستعمرين .. لن نمكن منا تجار البشر، وسنعتمد على سواعدنا وعلى دمائنا ونحن أغنياء، لقد كنا متهاونين في حقوقنا ونحن نستردها ـ معركتنا مستمرة، نسترد هذه الحقوق خطوة فخطوة .... سنبني مصر لتكون قوية .. وسنبني مصر لتكون عزيزة.

ولهذا وقعت اليوم،، ووافقت الحكومة على القانون الآتي:

قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس

باسم الأمة :

رئيس الجمهورية :

مادة 1- تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس ـ شركة مساهمة مصرية ـ وينتقل إى الدولة جميع مالها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات وتحل جميع الهيئات القائمة حالياً على إدارتها.

ويعوض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكونه من أسهم وحصص بقيمتها مقدره بحسب الإقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون في بورصة الأوراق المالية بباريس ويتم دفع هذا التعويض بعد استلام الدولة لجميع أملاك وممتلكات الشركة المؤممة.

مادة 2- تتولى إدارة مرفق المرور في قناة الويس هيئة مستقلة تكون لها الشخصية الاعتبارية وتلحق بوزارة التجارة ـ يصدر بتشكيل هذه الهيئة قرار من رئيس الجمهورية ويكون لها في سبيل إدارة المرفق جميع السلطات اللازمة لهذا الغرض دون التقيد بالنظم والأوضاع الحكومية.

ومع عدم الإخلال برقابة ديوان المحاسبة على الحساب الختامي، ويكون للهيئة ميزانية مستقلة يتبع في وضعها القواعد المعمول بها حالياً في المشروعات التجارية. وتبدأ السنة المالية في آخر يونيو من كل عام. وتعتمد الميزانية والحساب الختامي في كام بقرار من رئيس الجمهورية.

تبدأ النة المالية الأولى من تاريخ العمل بهذا القانون وتنتهي في آخر يونيو عام 1957. ويجوز للهيئة أن تندب من بين أعضائها واحداً أو أكثر لتنفيذ قرارتها أو للقيام بما تعهد به إليه من أعمال. كما يجوز لها أن تؤلف من بين أعضائها أو من غيرهم لجاناً فنية للاستعانة بها في البحوث والدراسات.

يمثل الهيئة رئيسها أمام الجهات القضائية والحكومية وغيرها وينوب عنها في معاملته مع الغير.

مادة 3- تجمد أموال الشركة المؤممة وحقوقها في مصر وفي الخارج ويحظر على البنوك والهيئات والأفرا التصرف في تلك الأموال بأي وجه من الوجوه .. أو صرف أي مبالغ أو تأدية أية مطالبات أو مستحقات عليها إلا بقرار من الهيئة المنصوص عليها في المادة الثانية.

مادة 4- تحتفظ الهيئة بجميع موظفي الشركة المؤممة ومستخدميها وعمالها الحاليين، وعليهم الاستمرار في أداء أعمالهم ولا يجوز لأي منهم ترك عمله أو التخلي عنه بأي وجه من الوجوه أو لأي سبب من الأسباب إلا بإذن من الهيئة المنصوص عليها في المادة الثانية.

مادة 5- كل مخالفة لأحكام المادة الثالثة يعاقب مرتكبها بالسجن والغرامة توازي ثلاثة أمثال قيمة المال موضوع المخالفة، وكل مخالفة لأحكام المادة الرابعة يعاقب مرتكبها بالسجن فضلاً عن حرمانه من أي حق في المكافأة أو المعاش أو التعويض.

مادة 6- ينشر هذا القرار في الجريدة الرسمية ويكون له قوة القانون ويعمل به من تاريخ نشره ولوزير التجارة إصدار القرارات اللازمة لتنفيذه.

أيها المواطنون: إننا لن نمكن منا المستعمرين أو المستبدين .. إننا لن نقبل أن يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى .. إننا قد اتجهنا قدما إلى الأمام لنبني مصر بناء قوياً متيناً .. نتجه إلى الأمام نحو استقلال سياسي واستقلال اقتصادي .. نتجه إلى الأمام نحو اقتصاد قومي .. من أجل مجموع هذا الشعب .. نتجه إلى الأمام لنعمل، ولكننا حينما نلتفت إلى الخلف إنما نلتفت لنهدم آثار الماضي .. آثار الاستبداد .. آثار الاستعباد والاستغلال والسيطرة .. إنما نتجه إلى الماضي لنقضي على جميع آثاره.

واليوم أيها المواطنون، وقد عادت الحقوق إلى أصحابها .. حقوقنا في قناة السويس .. عادت إلينا بعد مائة سنة .. اليوم إنما نحقق الصرح الحقيقي من صروح السيادة ـ ونحقق البناء الحقيقي من أبنية العزة والكرامة. وقد كانت قناة السويس دولة في داخل الدولة شركة مساهمة مصرية. ولكنها تعتمد على المؤامرات الأجنبية وتعتمد على الاستعمار وأعوانه.

بنيت قناة السويس من أجل مصر ومن أجل منفعة مصر ولكن كانت قناة السويس منبعاً لاستغلال واستنزاف المال وكما قلت لكم منذ قليل .. ليس عيباً في أن أكون فقيراً أو أن أعمل على بناء بلدي، ولكن العيب هو امتصاص الدماء .. لقد كانوا يمتصون الدماء .. يمتصون حقوقنا ويأخذونها.

واليوم حينما نستعيد هذه الحقوق أقول باسم شعب مصر إننا سنحافظ على هذه الحقوق ونعض عليها بالنواجذ .. سنحافظ على هذه الحقوق.

ودونها أرواحنا ودماؤنا .. إننا سنحافظ على هذه الحقوق، لننا نعوض ما فات .. إننا حينما نبني اليوم صرح العزة والكرامة نشعر أن هذا الصرح لا يمكن أن يكتمل إلا إذا قضينا على صروح الاستبداد والذلة والمسكنة .. وقد كانت قناة السويس صرحاً من صروح الاستبداد وصرحاً من صروح الاغتصاب .. وصرحاً من صروح الذل.

اليوم أيها المواطنون أممت قناة السويس ونشر هذا القرار في الجريدة الرسمية فعلاً وأصبح هذا القرار أمراً واقعاً.

اليوم أيها المواطنون نقول هذه أموالنا ردت إلينا .. هذه حقوقنا التي كنا نسكت عليها، عادت إلينا.

اليوم أيها المواطنون ودخل قناة السويس 35 مليون جنيه، أي مائة مليون دولار في السنة، أي خمسمائة مليون دولار في خمس نوات .. فلم ننظر إلى الـ 79 مليون دولار، قيمة المعونة الأمريكية؟

واليوم أيها المواطنون بعرقنا ودموعنا وأرواح شهدائنا وجماجم الذين ماتوا عام 1856، منذ مائة عام أثناء السخرة. نستطيع أن ننمي هذا البلد وسنعمل وننتج ونزيد في الإنتاج برغم كل هذه المؤامرات كل هذا الكلام. إنني كلما صدر من واشنطن كلام سأقول: موتوا بغيظكم.

سنبني الصناعة في مصر وسننافسهم فهم لا يريدون أن نكون دولة صناعية حتى تروج منتجاتهم وتجد لها سوقاً عندنا.

إنني لم أرَ أبداً معونة أمريكية متجهة إلى التصنيع لأن اتجاهها إلى التصنيع سيترتب عليها منافستنا لهم .. ولكن المعونة الأمريكية تتجه دوماً إلى الاستغلال.

ونحن في الأربع سنوات الماضية ونحن نستقبل العام الخامس للثورة، كما قلت في أول كلامي نشعر بأننا أصلب عوداً وأشد عزماً وأشد قوة وإيماناً .. واليوم ونحن نستقبل العام الخامس للثورة وكما طرد فاروق في 26 يوليو عام 1952 تخرج اليوم قناة السويس، في نفس اليوم نشعر أننا حققنا عزة حقيقية، فلن تكون سيادة في مصر إلا لأبناء مصر ولشعب مصر.

وسنتجه قدماً إلى الأمام .. متحدين متكاتفين .. شعب واحد يؤمن بنفه ويؤمن بوطنه ويؤمن بقوته .. شعب واحد .. كتلة واحدة متراصة نحو البناء ونحو التصنيع ونحو الإنشاء وضد أعوان الاستعمار وألاعيب الاستعمار، نف ضد الغدر والعدوان .. ونقف ضد الاستعمار الذي آل على نفسه أن يعمل ويزحف زحفاً حثيثاً.

إننا بهذا أيها المواطنون سنستطيع أن نحقق الكثير وسنشعر بالعزة والكرامة. وسنشعر بأننا نبني وطننا بناء حقيقياً كما نريد .. نبني ما نريد ونعمل ما نريد .. ليس لنا شريك.

وإننا اليوم حينما نسترد الحقوق المغتصبة والحقوق المسلوبة إنما نتجه إلى القوة وكل عام سنزداد قوة على قوة وبعون الله نكون أقوياء في العام القادم وقد ازداد إنتاجنا وعملنا ومصانعنا.

الآن وأنا أتكلم أليكم يقوم أخوة لكم من أبناء مصر، ليديروا شركة القناة ويقومون بعمل شركة القناة .. الآن في هذا الوقت يتسلمون شركة القناة .. شركة القنال المصرية لا شركة القنال الأجنبية .. قاموا ليتسلموا شركة القنال ومرافقها ويديروا الملاحة في القناة .. القناة التي تقع في أرض مصر، والتي تخترق أرض مصر والتي هي جزء من مصر وملك لمصر، نقوم الآن بهذا العمل لنعوض ما فات ولنعوض عن الماضي ولنبني صروحاً جديدة للعزة والكرامة.

وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.