مذكرات وزراء الثورة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مذكرات وزراء الثورة

دار الشرق

الغلاف. الفنان محمد حجي

اللوحات الداخلية . الفنان فرج

الخطوط: محمود إبراهيم

إلى أستاذي الدكتور محمد عبد اللطيف إبراهيم

النموذج الأمثل لليبرالي القيادي في العقدين الأخيرين

بقلم الأستاذ الدكتور عاصم الدسوقي

أستاذ التاريخ الحديث وعميد كلية آداب حلوان

مقدمة

د. محمد الجوادي

الجزء الأول

مذكرات كمال حسن على وسيد مرعي وعبد الجليل العمري وثروت عكاشة وإسماعيل فهمي وعثمان أحمد عثمان وضياء الدين داود وأحمد خليفة وعبد الوهاب البرلسي وحسن أبو باشا

ما زال ثوار يوليو 1952، والذين عملوا معهم في مختلف المواقع، يرسلون ذكرياتهم مع قيادات الثورة، ويسجلون تجربتهم عن الأعمال التي قاموا بها، والمهام التي أنيط بهم تنفيذها. ويبدو أن المطابع ما تزال في انتظار المزيد من هذه الذكريات التي تغري بالقراءة والمتابعة، بحثا عن الأسرار، وكشفا للمستتر الذي كان مختبئا في الصدور في انتظار اللحظة المناسبة للبوح به.. ومن ثم كانت هذه السلسلة متصلة الحلقات من كتب الذكريات.

والحقيقة أن هذه الذكريات تدخل في دائرة الأعمال الدرامية الروائية أكثر من دائرة العامل العلمي.. لماذا؟ لأن هذه الكتب تمثل وجهة نظر معزولة عن كثير من الجزئيات، وتقدم انطباعا شخصيا من خلال زاوية شيقة من العمل بعيدا عن الساحة العامة للعمل السياسي.

وليس معنى هذا أن هذه الذكريات تخلو من فائدة، بل إنها تبقى المصدر الوحيد في غيبة الاطلاع على وثائق الفترة التاريخية. ولكن في الوقت نفسه، فإن ضررها على اكتشاف الحقيقة أكثر من نفعها لأكثر من سبب.

ذلك أن هذه الذكريات مراجعة نصية حول وقائع بعينها سوف يدهش كثيرا لحجم الاختلاف بينها، ولاختلاف اللغة التي تصف ما حدث، ذلك أن أصحاب هذه الذكريات يعتمدون في إرسالها على إجهاد الذاكرة لانتشال ما قد يكون قد استقر فيها من معلومات وتفصيلات ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الذاكرة قد تخون صاحبها، وقد تنتشل فقط مظاهر البطولة والقوة وتتغاضى عن مظاهر الضعف والتخاذل، أدركنا مدى انحياز هذه الذكريات، وكيف أنها دفاعية وتبريرية في المقام الأول.

وعندما يكتب السياسي ذكرياته بعد فترة طويلة من زمن وقوعها، فإن كتابته تصبح نوعا من التأليف الذي يقوم على التحليل.. ومن هنا يجب أن تخضع كتاباته للمناقشة والنقد، وهذا ما قام به الصديق الدكتور محمد الجوادي في استعراضه للذكريات عشرة وزراء من وزراء ثورة يوليو 1952.

أما لماذا اختار الجوادي هؤلاء العشرة دون غيرهم.. فأمر يستطيع القاريء النابه أن يكشفه .. هل يريد أن يقدم صورة متوازنة من الشهادات.. بين المؤيدين والمعارضين.. بين الذين صنعوا لثورة والذين صنعتهم الثورة.. بين المستفيد من الثورة وبين المجروح منها.. إلى آخر هذه المقابلات بين الأضداد؟

ربما.. ولعل اعتذار قارئ الذكريات (الدكتور الجوادي) في مقدمته لهؤلاء الوزراء العشرة عما قدمه من نقد وتعليق وتعقيب وتحليل وتصحيح وتحقيق، يؤكد جانبا من مأزق الاعتماد على الذكريات في التعرف على الحقيقة وإدراك الحق.. حتى لقد أصبحنا أمام حقيقة لها عشرة أوجه.

هل يعلم الذين يحفظون الوثائق في الأدراج خطورة ما أقدموا عليه حين يحجبون الوقائع عن القاريء ويغمضون حق الباحث في المعلومات؟ هل أدركوا أنهم بهذا جعلوا التاريخ أرضا مستباحة لكي يزرع فيها كل واحد ما يريده من معلومات وآراء؟

ولو أن هذه الكتابات كانت "مذكرات" وليست "ذكريات" لكانت أفضل بكثير، ولكانت نسبة الصدق فيها كبيرة، وذلك أن "المذكرات" يسجلها صاحبها أولا بأول مع الحدث، ليس بهدف النشر، وإنما تقييدا للحوادث من النسيان والضياع، وهي فرصة السياسي لإبداء ما لا يستطيع إبدائه علنا من آراء.

ولعل مذكرات الزعيم سعد زغلول، ومذكرات الزعيم محمد فريد نموذج لما أقول.. فكل منهما لم يجد حرجا في أن يكتب عيوبه ويعترف بنقاط ضعفه كما يراها هو، وقبل أن يراها الغير، بل إن محمد فريد لم يجد غير الورق لكي ينفث عليه زفرات غضبه من الذين تنكبوا طريق تحرير الوطن، ويصفهم بأقذع الصفات.

لقد مارس الدكتور محمد الجوادي بعض النقد لما قرأ ورفض التصديق المطلق لكل ما هو مكتوب.. ولم يكن فاوست جيته.. بل كان لديه ما يقوم به اعوجاج طريق الذكريات عند بعض المتذكرين.. وحسنا فعل.. ولابد أن يفعل غيره حتى لا تترك مثل هذه الأعمال مطلقة السراح دون ضبطها بمعيار النقد الذي يصحح الكاتب ويعلم القاريء وتبقى الحقيقة الخالصة أملا منشودا يسعى إليه الباحثون.

د. عاصم الدسوقي

هذا الكتاب

يضم (الجزء الأول من) هذا الكتاب مجموعة من الفصول بدأت كتابتها في مطلع الثمانينات، ونشر أولها في عام 1986، ولكني طوال سنوات قبلها كنت حريصا كواحد من القراء على أن أتناول بالدراسة والنقد والتمحيص والتحليل فيما بيني وبين نفسي كل المذكرات السياسية وغير السياسية التي يتداولها القراء في مصر والعالم العربي، وكنت كثيرا ما أسجل على هوامش هذه المذكرات كثيرا من التعليقات والتعقيبات إلى الحد الذي كان يوحي إلى زوار مكتبتي بعد مطالعة هذه الهوامش أن هذه مذاكرة لمرة ومرتين وأحيانا ثلاث مرات.

وقد أتيح لي أن أنشر بعض هذه الفصول. ولم يكن يدور بخلدي أن تلقى هذه المقالات ما لقيت من صدى طيب لدى كثير من المثقفين المصريين المستنيرين الذين راودهم معظم ما راودني بالطبع من أفكار كانت نتيجة أو صدى لقراءة هذه المذكرات السياسية.

وقد تكون لهذا الكتاب أهمية خاصة جدا لأنه يعطينا صورا صادقة ومعبرة وموحية ودقيقة عن رؤى مهمة جدا للذين شاركوا في صناعة أو صياغة التاريخ المصري المعاصر من مواقع متقدمة ومختلفة في نفس الوقت بل، ومتباينة ونحن نرى في النماذج العشرة التي يضمها الجزء الأول من هذا الكتاب روايات متعاقبة عن أدوار محددة قام بها أصحابها في إطار مسيرة حياتهم العامة يوما بعد يوما، ونجد تجسيدا واضحا لأدوار مهمة جدا في تشكيل التاريخ كما حدث..

فكمال حسن على يبث لنا فيما كتب من مذكرات شعور العسكري لملتزم في ظل حكم سياسي يتولاه زملاؤه وأقرانه من العسكريين الذين وصلوا إلى السلطة من خلال ثورة قادوها، وها هو الرجل الذي عمل عسكريا محترفا طيلة عشر سنوات قبل الثورة يعمل مرة أخرى عسكريا ملتزما طيلة ربع قرن مع الثورة

ثم يتولى بعد ذلك أربعة مواقع متقدمة جدا من دولاب الحكم كما يقولون: مديرا للمخابرات ووزيرا للدفاع ثم وزيرا للخارجية ثم رئيسا للوزراء.. نحن إذن أمام تجربة الرجل الملتزم في مناخ عام أقل التزاما.. وكمال حسن على هنا يمثل ما لا يقل عن ألف من العسكريين المحترفين الذين كانوا أقرانا لقادة الثورة بصفوفهم الأولى والثانية والثالثة، ولكنهم آثروا البقاء في مهمتهم الأولى، وها هو واحد من هؤلاء العسكريين الملتزمين يتوج حياته في نهايتها، بما لم يصل إليه الثوار الآخرون..

أليست هذه نقطة مضيئة في تاريخ الثورة تنبئ بكل يقين عن أنها (أي الثورة) لم تؤثر الثقة على الخبرة إلا في أحيان متقطعة ولأسباب أخرى غير الأسباب الموضوعية حين كانت تتراجع الموضوعية بفعل السياسة والتاريخ ومنطق الصراع إلى المحل الثاني.

وسنقرأ للقارئ من مذكرات كمال حسن على تقديره الهادئ للصراع العربي الإسرائيلي ولدور القوات المسلحة المصرية وتاريخها في العهود المتوالية فنخرج بصورة أكثر رحابة وعمقا وشمولا وحثا على التفكير الواعي والبناء والمثمر.

وعلى اليد الأخرى تماما سنجد ضياء الدين داود بمثابة السياسي المحلي الإقليمي القريب من أن يكون مغمورا وهو يتقدم الصفوف بسرعة رهيبة ليحتل في نهاية عهد عبد الناصر مقعدا من المقاعد الثمانية في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي بعد سبعة شهور في الوزارة، وبعد أقل من عامين يجد نفسه أو نجده في المعتقل..

وهذه مذكراته في كتابين يروي فيهما بتفكير اليوم حوادث أمس وأول من أمس فيطلعنا على صورة أخرى للنموذج السياسي البارز في عهد الثورة، وهو نموذج لم يكن ليوجد لولا الثورة وتنظيماتها السياسية والطليعية، ولكنه على كل حال نموذج جدير بالدراسة والتأمل حتى وإن كان من الصعب أن يتكرر في المستقبل في دولة مؤسسات، ولكنه قابل للتكرار في التنظيمات العقائدية التي لا تدخر وسعا في سبيل الوصول إلى الحكم.

وفيما بين النموذجين نجد السياسي المحترف بحكم أصوله الاجتماعية ونشأته وهو سيد مرعي الذي بدأ لمعانه السياسي قبل الثورة ولم ينطفئ لمعانه في عهدها، وهو صورة حية لتواصل مصر قبل الثورة بمصر الثورة وبمصر ما بعد الثورة، كما أنه نموذج بارز للزعيم بأن الثورة لم تفعل أكثر من أنها أعادت صياغة بعض الذهب الذي كان موجودا قبلها..

وسيد مرعي في مذكراته يقدم لنا نفسه بكل صدق في إطار ما قدمته الأحداث بالفعل، وأستطيع أن أزعم اليوم بكل اطمئنان أن الزمن لو تقدم بسيد مرعي عشر سنوات مثلا لكان لعب دورا كدور فؤاد سراج الدين باشا في حزب كحزب الوفد.

وأنه لو تأخر الزمن بفؤاد سراج الدين باشا عشر سنوات لكان المرشح الأول للتعاون مع الثورة على نفس النمط الذي تعاون به سيد مرعي ما أتيح له التعاون.. وقد كانت الفرص المتاحة أمام سيد مرعي في ظل الثورة بمثابة ترمومتر لعلاقة الثورة بالقوى السياسية الحقيقية التي كانت موجودة في المجتمع المصري قبل قيامها .. وسيد مرعي في هذا المجال نموذج بارز للسياسي ذي الكفاءات التكنوقراطية البارزة.

أما عبد الجليل العمري فهو إلى اليمين من سيد مرعي نموذج بارز للكفاءة الأكثر ظهورا، والأسبق إلى الوجود في المجتمعين: مجتمع ما قبل الثورة ومجتمع الثورة، وصل إلى الوزارة منذ ما قبل الثورة.

وكان من أوائل من سعت الثورة إلى ا لإفادة من خبراتهم وزيرا ونائبا لرئيس الوزراء، ولكنه بحكم تنامي التكنوقراطية في شخصيته إلى أبعد الحدود وتضاؤل العنصر السياسي في هذه الشخصية إلى ما لا يزيد عن خمسة في المائة كان أقل قابلية لاستمرار التعاون مع الثورة من سيد مرعي الذي كان يتمتع بمقومات سياسية تكاد تصل إلى خمسين في المائة من مجموع مقومات شخصيته العامة..

وهكذا نستطيع أن نفهم كيف انتهت علاقة العمري بالثورة سراعا على حين استمرت علاقة سيد مرعي بالثورة سجالا على الرغم من أن العمري كان نموذج الكفاءة الفنية المطلقة والبعد عن الأصول الاجتماعية التي اعتبرت معادية أو على الأقل متنافرة مع العهد الجديد على حين لم يتوفر هذان العنصران بنفس القدر لسيد مرعي.. ولكنها طبيعة السياسة التي تعلي من قدر السياسة نفسها.

وإلى جوار هؤلاء الأربعة نجد قطبين من أقطاب عهد الثورة البارزين يمثلان نزعتين مختلفتين تمام الاختلاف، ولكنهما يدينان بكل نجاحهما وظهورهما ولمعانها للثورة على الرغم من أنه كان من الممكن أن يكون لهما شأن عظيم لو لم تقم الثورة، ولكنهما لم يكونا من مرشحين للوصول إلى ما وصلا إليه في عهد الثورة في ظل استمرار ما قبلها من عهود..

أقصد أن أقول إن الثورة دفعت بهما دفعا إلى مواقع متقدمة جدا كانا يستأهلان ما هو قريب (ولو عن بعد) منها هذا في مقابل نموذج ضياء الدين داود الذي لعبت الثورة أو مثل عهد الثورة أكثر من تسعين في المائة من أوراق وصوله إلى ما وصل إليه.. قد يكون النموذجان اللذان سنتحدث عنهما مدينين للثورة بخمسين في المائة من فرص النجاح التي أتيحت لهما أو أكثر ولكنهما على كل حال لا يصلان في دينهما إلى نسبة الأستاذ ضياء الدين داود.

هذان النموذجان هما الدكتور ثروت عكاشة الذي يمثل النزعة "الرومانتيكية" والمهندس عثمان أحمد عثمان الذي يمثل النزعة "البرجماتية" ومن أعجب في تاريخنا المعاصر أن كلا منهما حين كتب مذكراته المطولة أخذ نفسه - لظروف ما - بأن يقدم نفسه للناس قدر ما استطاع في الصورة الأخرى، فالدكتور ثروت عكاشة حريص لأسباب كثيرة على أن يبرر لنا وللتاريخ أنه فعل وفعل واحتال حتى فعل ليسجل ما أتم من إنجازات طيلة توليه شئون الثقافة

أما المهندس عثمان أحمد عثمان فهو حريص كل الحرص على أن يثبت لنا بما كتبه وقدمه للناس في كتابه تجربتي على أن الحظ حالفه، وأن "بركة دعاء الوالدين" كانت وراء كل نجاح وأنه كان على الدوام بمثابة الرومانسي الحالم بقيم الحق والخير والجمال وهكذا نجد الروانتيكي براجماتيا والبراجماتي رومانتيكيا.. أو قل هكذا اختلطت الرومانتيكية بالبرجماتية في تاريخ عهد الثورة اختلاطا نظريا وعلى صفحات الورق فحسب.

تتبقى بعد هذا أربعة نماذج للتكنوقراطيين المهمين في تاريخ كل الشعوب في كل الأوقات وهي نماذج الدبلوماسي النشط، ورجل الأمن الدءوب، والمفكر الاجتماعي الحاضر، ورجل التعليم البارز ومن حسن الحظ أن هذا الكتاب قد وجد لفصوله أربعة يتولون هذه الأدوار، بل قد تولوها بالفعل لفترات مهمة من عصر الثورة

فهذا هو السفير إسماعيل فهمي يمثل الدبلوماسي النشط طيلة أربع سنوات (1973 - 1977) شهدت أهم التحولات السياسية والدبلوماسية في السياسة المصرية الخارجية طيلة القرن العشرين.. وهو يكتب لنا تجربته على وجه التحديد والتدقيق بكل أمانة وصدق، ويرينا كيف أن هذا الوطن غني بأبنائه في كل وقت ولكل وقت.

وهذا هو اللواء حسن أبو باشا رجل الأمن الديدبان (كما تقول الأدبيات الكلاسيكية) المتحالف مع الأقدار يروي لنا بكل صدق ودقة وسعة أفق ورحابة فكر ونقاء ضمير وجهة نظره التي لم يتحول عنها طيلة حياته الأمنية الحافلة بالمواقف والالتزام والإخلاص والتواصل لكل ما يعتقده حقا وواجبا.

وهذا هو الدكتور أحمد خليفة القانوني الذي جذبه البحث الاجتماعي كما جذبته السياسة، وأتيح له موقع في البرلمان وفي أمانة الاتحاد الاشتراكي وفي الوزارة ثم أتيح له ما هو أهم وأبقى وهو موقع علمي هادئ مديرا للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وهو يكتب لنا برؤية العالم وقلم المفكر تحليلا قيما ونقدا رائعا لكل مراحل تجربته التي شارك فيها مندفعا أو مدفوعا وسعيدا أو مغتبطا ثم مفكرا بعد ذلك كله.

وهذا هو الدكتور عبد الوهاب البرلسي أستاذ الجامعة الذي صعد سلك الإدارة الجامعية من عمادة الطب إلى وكالة الجامعة إلى رئاستها إلى منصب وزير التعليم العالي ثم عاد ليتولى منصب مدير جامعة الكويت فنائب رئيس الجامعة الأردنية فمستشار الجامعة المفتوحة في القدس

وليمثل بذلك واحدا من أبرز القيادات التعليمية في الوطن العربي لا في مصر وحدها، وهو يقدم مذكراته فينقد التعليم الطبي والتعليم العالي من حيث رآهما من مواقعه المشرفة على كل التفاصيل ثم هو قبل هذا يقدم لنا صورة دقيقة وواضحة عن علاقة الثورة بكل أجهزتها بالتعليم في معظم صوره.

وهكذا يمكن لنا أن نقول إن هذا الجزء قد قدم "بانوراما شبه كاملة" لتاريخ عهد الثورة من واقع ما كتبه عشرة من رجال هذا العهد، كأنما هذا التاريخ بيد يدي القاريء حقيقة لها عشرة وجوه.. ومع هذا فإن للحقيقة الآن هذه الوجوه على الأقل

ولهذا فإن المؤلف الذي هو كاتب هذه السطور الذي هو أنا حفي بأن أعد القاريء بأن أقدم له عن قريب الأجزاء القادمة من هذا الكتاب وأرجو القاريء أن يدعو الله أن يوفقني إلى الوفاء بهذا الوعد في أقرب فرصة ممكنة ولا أعتقد أني سأكون قادرا على الوفاء بهذا الوعد إلا أن تتغمدني الله بواسع فضله ورحمته وتوفيقه

أقول هذا وأنا أستدعي ذكرياتي السعيدة منذ تسع سنوات حين نشر أحد فصول هذا الكتاب وهو الفصل الخاص بكتاب التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط للأستاذ إسماعيل فهمي، وأقوله وأنا أستدعي ذكرياتي منذ ستة عشر عاما وأنا أضع الخطوط الأولى في كتاب "أوراق سياسية" للمهندس سيد مرعي وقد تابعت قراءته على مدى أيام متواصلة في إحدى شرفات المبنى القديم لمكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

ومع هذا فكلي أمل في فضل الله وواسع رحمته أن يوفقني غلى ما بدأت فيه بالفعل من خمسة عشر فصلا أخرى نتناول مذكرات المغفور لهم الشيخ الباقوري والأستاذ فتحي رضوان والدكتور جمال العطيفي والدكتور عبد المنعم القيسوني والدكتور على الجريتلي ومحمود رياض ومحمد عبد السلام الزيات وحسين ذو الفقار صبري.

كما تتناول مذكرات أعلامنا الكبار الدكتور سليمان حزين والمشير الجمسي ومحمد حافظ إسماعيل والفريق أول محمد فوزي ومحمد إبراهيم كامل وأمين هويدي والمستشار محمد عصام الدين حسونة أمد الله في أعمارهم جميعا.

بقي أن أذكر للقارئ الكريم أن هذا الكتاب ليس إلا حلقة من حلقات كتابة تاريخنا المعاصر والتي قدمت فيها من قبل كتاب "التشكيلات الوزارية في عهد الثورة" ببابيه المهمين عام 1986 وأرجو الله أن تكون الطبعة الثانية من هذا الكتاب "الوزراء والوزارات في عهد الثورة" بأبوابها الخمسة قد صدرت أو أوشكت على الظهور مع ظهور هذا الكتاب.

كما أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون كتابي "المحافظون" قد لقي القبول والتقدير من القاريء الكريم، كذلك فإني أرجو أنتصدر الطبعة الثانية من كتابي عن "المشير أحمد إسماعيل مايسترو العبور" و"سماء العسكرية المصرية الشهيد عبد المنعم رياض" عن قريب إن شاء الله بعدما حظيت به الطبعة الأولى (1985) من قبول حسن.

ولا أنكر أني أفدت من قراءة الكتب التي تضمنها هذا الكتاب، ولا أنكر أني أفدت من إعادة قراءة هذه الكتب، ومن الكتابة ومن قراءة التجارب المطبعية لما كتبت عنها مرة بعد أخرى وتجربة بعد تجربة.. ولكني سأكون أسعد خطاحين يقرأ الناس ما قرأت ويقرءون ما كتبت ويسعدون بمثل ما سعدت.

وأحب بعد هذا أن أعترف للقارئ أني لم ألتزم منهجا واحدا في عرضي لهذه المذكرات، ولكني التزمت روحا واحدة في كل ما كتبت حول هذه المذكرات

وكانت لهذه الروح ثلاث سمات بارزة يمكن لي أن أسجلها على هذا النحو:

السمة الأولى: هي البحث عن الحقيقة، فأنا حفي أشد الاحتفاء بالحقيقة التي تطالعنا بها مذكرات أي سياسي أو شخصية من الشخصيات العامة، وبخاصة أننا كنا، وما زلنا، ننتظر هذه الحقيقة كرأي عام طال تشوقه لأن يقرأ (الحقيقة) التي تمس موقفا من المواقف التي يختلط علينا فيها الحق بالباطل أو الحق بالأحق
ولهذا فإنني لا أجد جرحا في أن أنقل فقرات مطولة من المذكرات عندما أحس أن من واجبي أن اطلع القراء على ما اطلعت عليه في مذكرات هذا السياسي أو ذاك، وربما يلحظ القاريء أني أتوسع في المعنى الذي تحيط به كلمة "الحقيقة" فأنا لا أقف عند أحداث معينة أو وقائع مادية فحسب
ولكني التفت أيضا إلى الحقائق التي تتعلق بالمناخ السياسي العام أو الظروف النفسية التي أحاطت فيما مضى بصانع القرار على أي مستوى كان. وجين أجد نفسي أمام روايات تتعارض تماما مع الحقيقة فإني أوثر أن أجاهر في أدب وحياء بما هو متوفر عندي من وجوه الحقيقة.
وأنا لا أستطيع الزعم أن عندي من الوثائق ما يدين السياسيين أو يصحح لهم رؤاهم ورواياتهم، ولكني لحسن الحظ أتناول الحقائق الثابتة الواضحة من تعاقب الأحداث التي لا يختلف عليها اثنان حتى لو اضطر البعض إلى أن يروي الحقيقة في صورة غير صورتها.. وأعتقد أنني في كل ما صححت أو عقبت به في كل هذه الفصول قد أخذت جانب الحقيقة.
وقد عبر لي أصحاب المذكرات الذين قرءوا كثيرا من هذا الكتاب، وليس من شك أنهم حين جانبوا الحقيقة لم يفعلوا هذا إلا لأنهم اعتمدوا في كثير من الأحيان على الذاكرة التي قد تخطيء في شهر وشهرين وفي عام وعامين وفي اسم وفي ظرف أو ظرفين وفي مكان أو مكانين وفي سبب أو سببين وفي نتيجة أو نتيجتين وهكذا.
السمة الثانية: هي أنني ألقيت كثيرا من الأضواء الخارجية والداخلية على النصوص التي يطالعها القاريء في هذه المذكرات. فإما الأضواء الخارجية فأمرها معروف لكل القراء الذين شما سيشاركونني الإحاطة بكثير من الظروف التي دفعت كاتب المذكرات إلى تفضيل المنهج الذي اتخذه في الحديث عن الموضوعات التي أمسها من قريب أو من بعيد
وأما الأضواء الداخلية فأعتقد أن الله قد وفقني فيها إلى حد بعيد حين استطعت في كثير من المذكرات أن أضيء بعض نصوصها بالبعض الآخر من الفقرات التي وردت فيما قبل أو فيما بعد من نفس المذكرات. ولست أزعم أني أضفت بهذا الجهد كثيرا من (الفن) للأدب المتداول، ولكني قد أستطيع أن أزعم أني أضفت بهذا الجهد كثيرا من (الفهم) للنصوص التي بين أيدينا.
السمة الثالثة: هي أنني حرصت فيما بذلت من جهد على أن أمكن للنصوص المتاحة في هذه المذكرات من أن تلعب دورها المفتقد في نسيج التاريخ المصري المعاصر، وذلك من حيث حللت هذه النصوص الأدبية تحليلا زمنيا وموضعيا يكفل لها الوجود في مكانها المفترض من الكتاب الكبير للتاريخ المعاصر، وقد استلزم هذا بالطبع دراسات مقارنة لكل هذه المذكرات والكتب على نحو ما نعرفه في العلوم البيولوجية بالقطاع العرضي transverse section
ولا أنكر أنني بالإضافة إلى هذا كله عمدت إلى أن أتناول هذه المذكرات كعمل أدبي يستتبع النقد، ومن هنا فقد تناولته بالنقد، وكان هذا النقد لحسن الحظ مزيجا من النقديين الانطباعي والإبداعي من دون أن يرقى إلى أن يكون مما يندرج تحت ي من هذين العنوانين.
وهكذا يجد القاريء نفسه مع كاتب هذه الفصول، وهو يقرأ هذه المذكرات بعدسات التاريخ وبعدسات الأدب وقد ازدوجت في نظارة واحدة، ثم يجد القاريء نفسه يقرأ هذه الصفحات عن هذه المذكرات وقد امتزجت فيها لمحات من الأدب والتاريخ والنقد والتأريخ.

عيوب الكتاب

أما أهم عيوب هذا الكتاب فثلاثة:

العيب الأول: أن كل فصل من هذا الكتاب كان أحد عملين أو أكثر تناولت من خلالها شخصية صاحب المذكرات. فأما العمل الأول فهو الترجمة الكاملة لصاحب الشخصية حتى وقتنا هذا وقد أنجزت هذا العمل فيما يتعلق بمعظم هذه الشخصيات ولكنه لم ينشر بعد، ولا أظنه ينشر عن قريب إلا أن ياء الله، وقد نتج عن ذلك ما سوف يلحظه القاريء لأول وهلة من أم كل فصل من هذه الفصول مخصص تماما (وليس في المقام الأول) لنقد المذكرات فحسب، دون تناول صاحب المذكرات، فإن لهذا كما أشرت موضعا آخر.
وسوف يود القاريء لو كانت كتبي عن تراجم أصحاب المذكرات (التي بدأت العمل فيها في الحقيقة منذ 1979) متاحة هي الأخرى أمامه، ولكني لا أستطيع في الحقيقة أن أقدم مثل هذا العمل إلا بعد أن أنتهي من كثير من الترتيبات المتعلقة بالنشر .
وأحسب أن مثل هذا العيب قد يكون مما يميز هذه الكتابة (النقدية) من حيث إنها (تناولت العمل في حد ذاته) ولكني مع هذا لابد أن أعترف أنه وإن صادف هذا الخلق ثناء من حيث (الكتابة) فإنه لن يصادف إلا الانتقاد من حيث (القراءة)، ذلك أني لو كنت قارئا لوددت لو جاءت المادتان إلى جوار بعضهما، فماذا يعني القاريء في أن يلتزم له مؤلفه بطريقة علمية تحليلية في عرضه أو نقده، إنما يعني القاريء في الاستمتاع بالإبداع والحقيقة والتواصل قبل أن يعني بنجاح الكاتب في التزام منهج معين.
العيب الثاني: هو أن بعض الفقرات التي كان القاريء (وربما صاحب المذكرات) يتوقع أن ترد في ثنايا هذا العرض والتحليل للمذكرات قد اختار لها كاتب هذه السطور أن ترد في سياقها الأنسب ضمن حديثه عن تراجم كتاب هذه المذكرات في الكتاب (أو الكتب) التي لم تصدر بعد، وهكذا نجد هذا العيب مرتبطا تماما بالعيب الأول.
العيب الثالث : أن القاريء سيلحظ بلا شك أن كاتب هذه السطور كان شأن كل الشباب أكثر تحاملا في المقالات التي انتهى من كتابتها في مرحلة مبكرة (1985 مثلا) منه في المقالات التي كتبها أخيرا (1994 مثلا)، وليس من شك أن عذره في هذا واضح جدا فهو قد انتقل خلال هذه الفترة من مرحلة سنية إلى مرحلة أخرى مختلفة تماما، دعك من أن عمره الذهني والفسيولوجي يتقدم بأسرع مما يتقدم عمره السني حتى ليسرع به إلى الشيخوخة قبل الأوان.

ولكن هذا العذر لا يستطيع أن يقنع القاريء الكريم بهذا التفاوت في روح الإنصاف التي كتبت بها هذه الفصول، ولعل أقصى ما يملكه كاتب هذه السطور من عذر هو الاعتراف بهذا العيب في المقدمة ثم تسجيل تاريخ الانتهاء من كتابة هذه الفصول في مطلع هذا الكتاب وقبل أي فصل من هذه الفصول، وأنت يا سيدي القاريء تراني أقول "تاريخ الانتهاء" لأنه حدث أني بدأت كتابة بعض هذه الفصول (مثلا) ولم أتمه إلا بعد ثماني سنوات.

وسيجد القاريء الكريم في نهاية الكتاب وقبل الفهرس بيانا ببليوجرافيا بهذه المذكرات ودور النشر والطبعة التي اعتمدنا عليها في الإشارة إلى أرقام الصفحات، وقد رتبت الكتب فيه حسب تاريخ صدورها، وسوف يلاحظ القاريء أن المذكرات التي تناولها هذا الجزء قد صدرت عن ستة من الناشرين المصريين

وقد صدرت مذكرات ثمانية من الوزراء عن دور النشر الخاصة بينما صدرت مذكرات اثنين منهم عن دور النشر المملوكة للدولة أو مجلس الشورى، فقد أصدرت دار الشروق مذكرات كمال حسين على ومذكرات عبد الجليل العمري، ونشرت مكتبة مدبولي مذكرات إسماعيل فهمي وثروت عكاشة، أما المكتب المصري الحديث

فقد نشر "أوراق سياسية" لسيد مرعي، و "صفحات من تجربتي" لعثمان أحمد عثمان، و أما الهيئة العامة للكتاب، ودار الهلال فقد نشرتا على التوالي كتاب الدكتور أحمد خليفة "الرأي والرأي الآخر" ومذكرات حسن أبو باشا "في الأمن والسياسة"

وهناك بالإضافة إلى هذا ناشران اتسما بالناصرية وهما دار المستقبل العربي وصاحبها الوزير السابق محمد فائق، وقد نشرت كتاب د. عبد الوهاب البرلسي، ودار الموقف العربي لصاحبها الأستاذ عبد العظيم مناف، وقد نشرت كتابي الأستاذ ضياء الدين داود.

ولا شك - مرة ثانية - أن هذا الكتاب حافل بكثير من العيوب والمآخذ التي أرجو القاريء الكريم أن بدلني عليها، على أني أعتقد كذلك أن أسوأ عيوبه ستكون فيما يفتقده، أي فيما ظن القاريء أنه سيجده على صفحات فصول هذا الكتاب ، فإذا به لا يجد ما يتمنى . ولهذا فإني أتمنى من القراء الكرام أن يدلوني على ما يتمنونه في الأجزاء التالية من هذا الكتاب.

وأحب أن أذكر للقارئ كذلك أني لم أكتب هذا الكتاب من وجهة نظر تاريخية فحسب، ولكني كتبته أيضا وبنفس الدرجة من الاهتمام والحفاوة ليكون واحدا من مجموعة من الكتب التي أدرس بها وفيها ولها فن كتابة التجارب الذاتية، وفن كتابة التراجم سواء للذات أو للآخرين..

ولعل هذه يذكرني الآن أن أدعو الله في كل حين إلى أن يوفقني إلى الانتهاء من مجموعة هذه الكتب التي انتهيت من كثير من فصولها على فترات متعاقبة، والتي تشمل كتابين هما "فن كتابة التجربة الذاتية" وفن كتابة الترجمة الذاتية، فضلا عن مجموعة من الكتب التي تضم الدراسات التطبيقية بتناولها مذكرات العلماء والحكام والأدباء والصحفيين، ومن بينها كتاب أوشكت على الانتهاء منه عن مذكرات المرأة المصرية المعاصرة.

ولهذا فإن الكتاب الذي بين أيدينا لا يخلو من أن تتصارعه حلقات الدراسات التاريخية والأدبية والنقدية، وكأني بهذه الحلقات الثلاث تتقاطع عليه فتبدو وكأنها دراسة تشريحية كما ينبئ هذا العنوان الفرعي للكتاب الذي يجده القاريء على الغلاف.

بقي أن أشيد بأستاذي الدكتور عاصم الدسوقي الذي تفضل بقراءة تجارب هذا الكتاب رغم مشاغله المتعددة وقد تفضل فنبهني إلى ضرورة الالتزام بالأسلوب العلمي في التخلي عن ذكر الألقاب قبل أسماء الأعلام، ولهذا يجد القاريء أني التزمت في الكتاب بهذا الخلق العلمي على حين أن المقالات كانت عند نشرها حافلة لألقاب من قبيل الدكتور والمهندس الأستاذ والسفير واللواء والفريق أول والمغفور له.. إلخ، ولا يسعني إلا أن أقدم الشكر الجزيل لسيادته على هذه المقدمة الكريمة التي أضاف بها مدخلا في غاية الأهمية والحيوية لهذا الكتاب فضلا عما حوته من حكمة التاريخ وفلسفته.

وبقي (ثانيا) أن أعترف بأنني أحب الوزراء العشرة الذين كتبت عنهم في هذا الكتاب حبا شديدا، وليس من شك في أن حبي لهم يتفاوت بمقدار ما أحبوا مصر، ولكني على يقين أني أحبهم جميعا لأنهم جميعا أحبوا وطنهم بكل ما وسعهم قدراتهم، وكلنا نخطي ونصيب ونرى ما نرى ويغشى علينا ما لا يرى ولكننا نتذكر وننسى، وكلنا نتذاكر ونتناسى، وكلنا يحب ويكره، وكلنا يحب ويكره، ويبقى لنا ومن بعدنا هذا الوطن الجميل الذي ندعو الله سبحانه وتعالى له في كل حين بأن يبقى ملاذا لنا ولكل الناس من خلقه كما بقي كذلك

وبقي أيضا أن أعتذر لكل هؤلاء الوزراء العشرة ولذويهم عن كل ما لابد منه للقلم حين يقصد النقد والتعليق والتعقيب والتحليل والتصحيح والتحقيق.. وعذري هو بالطبع شرف مقصدي الذي لا أظني في حاجة إلى تكرار الحديث عنه وقد رآني القاريء أتناول الكتابات المختلفة لكافة الاتجاهات والتوجهات السياسية والفكرية.. ومع هذا فإني أكرر اعتذاري سلفا.

بقي أيضا (أو ثالثا) أن أعتذر القاريء عن كل موضع أسهمت فيه وكان بظنه جديرا بالإيجاز، وعن كل موضع أوجزت فيه وكان حفيا بالتوسع والتفاصيل وعذري في ذلك أنني أشرت إلى المصادر الأصلية وطبعتها وصفحتها.

بقي (رابعا) أن أتقدم بالشكر لأسرة الشروق وعلى رأسها المهندس إبراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب وأن أشكر الأخ الأستاذ أحمد الزيادى مدير عام النشر في دار الشروق على جهده في قراءة نصوص هذا الكتاب وتنقيتها من كثير من الشوائب ، أن أشكر الأخ حسام أحمد كمال عنايته الشديدة بخروج هذا النص على هذا النحو الجميل.

هذا وبالله التوفيق
د. محمد الجوادي

الفصل الأول:مشاوير العمر

للمغفور له الفريق أول كمال حسن على

(1)

لا شك أن كتاب الفريق أول كمال حسن على "مشاوير العمر" هو الكتاب الوحيد من بين كتب السياسيين التي كتبت بعد الثورة ليبقى بين أيدي المؤرخين مرجعا دائما على نحو ما فعل الدكتور محمد حسين هيكل بكتابه "مذكرات في السياسة المصرية".

ويكاد هذا الكتاب أن يطاول كتاب الدكتور هيكل من حيث الإلمام الواعي بالتفاصيل الهامة في مجريات الأحداث على الرغم من أن احتلال مؤلفه لموقع متقدم في الصفوف الأولى جاء في سن كبير نسبيا إذا ما قورنت بالدكتور محمد حسين هيكل، ولكننا لابد أن نذكر طبيعة الفرق بين عهدين، عهد كانت الطبقة الحاكمة فيه ثابتة بل ومعروفة سلفا، وكان طريق السياسيين يبدأ مبكرا، وعهد آخر كانت صفوف العسكريين القريبين من السلطة من أكثر الفئات تعرضا للقصف بسبب وبدون سبب.

وقد كان كمال حسن على الوحيد في مصر وربما في العالم كله الذي جمع بين خمسة مناصب رفيعة، قيادة أحد الأسلحة الهامة وهو سلاح المدرعات ثم رئاسة جهاز المخابرات ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية ورئاسة الوزراء. وقد بقي هذا الرجل في ههذ المواقع في الصف الأول تماما عشر سنوات كاملة ولكن الذي لا شك فيه أن كمال حسن على كان أبرز نموذج في حياتنا السياسية المعاصرة للمحظوظ بعد فوات الأوان.

ومع هذا كله كان وجوده في هذه المواقع كالنسيم العليل، وقد ملأ كل هذه المناصب بما لم يكن متصورا له من أحد أن يملأه، ويكفي على سبيل المثال أنه خلف المشير الجمسي في وزارة الحربية حين كانت أذهان الناس كلها مملوءة بأن الفريق الجمسي سيظل وزيرا للحربية مدى الحياة.. على حين كان الناس لا يعرفون من هو مدير المخابرات، وبالتالي لا يعرفون الفريق كمال حسن على كواحد من القادة العسكريين القريبين من السلطة جدا.

على هذا النحو سيجد القراء متعة لا تعادلها متعة وهم يقرأون "مشاوير العمر" فيجدون فيها تفكيرا ابتكاريا من نوع ممتاز، يعرض المعلومات التي يعرفونها والتي لا يعرفونها ثم يخرج من هذه المعلومات إلى أحكام يصعب على كثيرين من القراء أن يتقبلوها للوهلة الأولى رغم صوابها الشديد، ولكنهم حتى وإن رفضوها يقرون في تسليم شديد بمدى قدرة كاتب هذه المذكرات على التحليل الدقيق والعرض الحي لوقائع متعددة تباعد بها الزمان.

(2)

وليس من شك في أنه قد استعان بمجموعة كبيرة من أفضل المعاونين مكنته من أن يقدم هذا الكتاب على هذا النحو المشرف، ولكن العظمة الحقيقية أن كمال حسن على قد أجاد إدارة أفكار هذه المجموعة وصهرها في مشاوير العمر، ومع هذا فقد كانت هذه الصياغة بحاجة إلى سيء من عناصر إعادة الترتيب لإحداث التشويق المطلوب في كتاب ضخم كهذا الكتاب، فقد كان المؤلف خليقا بأن ينتبه مثلا غلى أن يقلب الوضع في الهامش والمتن فيجعل من الكتاب مخصصا لذكرياته هو، ويجعل الهامش حافلا بالآراء التاريخية الموجودة في كتب التاريخ العام ووثائقه.

ولكن صاحب الكتاب للأسف اتبع الأسلوب العكسي على طول الكتاب فكان يروي الأحداث من وجهة نظر التاريخ العام، ثم يعقب عليها بذكرياته الشخصية في الهامش ببنط صغير مع أن المفروض أن الكتاب يحكي لنا مشاوير عمر كمال حسن على وليس مشاوير عمر التاريخ القومي أو العالمي أو تاريخ الأساطير اليهودية أو اليونانية.

قد يمكن لنا أن نتلمس العذر في ذلك بالتواضع الشديد عند الرجل العظيم، ولكن الكتاب نفسه لا يقبل مثل هذا العذر، لأن التأليف هو التأليف مهما كان قدر المؤلف ومهما كان قدر تواضعه كذلك. لا أريد أن أضيع وقت القاريء في الاستشهاد على هذا الخلق البارز في هذه المذكرات، ولكنني واثق أن القاريء قد اعتراه ما اعتراني في كل فصل من فصول مشاوير العمر وهو يستمتع بتواصل السياق الممتاز مع مذكرات ممتازة.

(3)

بيد أن أهم ما يميز هذه المذكرات هو إلمامها الوافي بالجوانب المختلفة بل والمتناثرة للموضوع الواحد، وهذا أمر طبيعي في رجل قضى السنوات المتقدمة من عمره في أكثر المواقع تقدما في بلده وفي العالم. وحين يروي صاحب المذكرات واقعة من الوقائع التي اشترك فيها فإنه يحرص على أن يروي ما حدث فعلا لا ما يتخيله هو من موقف كان جديرا بالحدوث، فلا ينسب إلى نفسه أفضالا أو أقوالا لم تحدث، ومع هذا يعقب المؤلف بأنه كان يود أن يقول كذا أو كذا..

وسأقتطف للقارئ فقرة تثبتنا عن هذا الطبع بصورة معبرة جدا حين يروي قصة حواره مع عبد الناصر أثناء حرب الاستنزاف فيقول: " أذكر أن زارنا في الجبهة مرة الرئيس جمال عبد الناصر في قيادة الفرقة 21. كان واضحا من أحاديثه أن مثل هذه الأفكار قد سممت على الرجل تفكيره ونغصت عليه حياته، وقد هاله حجم كارثة النكسة غير المتوقع. "

وقد رافقه في زيارته الفريق محمد فوزي وزير الحربية والفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان. وفي مكتبي قدمت له تقريرا عن موقف الفرقة، لم يكد يستمع إليه حتى سألني في نبرة ذات مغزى:

  • أين كنت يا كمال أثناء حرب 67.

وأجبته إجابة مباشرة:

  • كنت أقود اللواء الثاني المدرع من الفرقة الرابعة. عندئذ سألني سؤالا كمن تذكر شيئا سمعه قبل ذلك: لماذا لا تستخدم الدخان الذي تولده الدبابات ذاتيا وقت الغارات الجوية لتخفي دباباتك وتقلل خسائرك؟

وبحكم أني ضابط يعرف حدود لياقة مخاطبة رئيس الدولة عزفت عن أن أقول له: وهل تعتقد يا سيادة الرئيس أن ضابطا برتبة العميد وخريج أكاديميات الاتحاد السوفيتي وأوكلت له القوات المسلحة قيادة لواء مدرع، هو من السذاجة بحيث تغيب عنه مثل هذه البديهة؟

لذا أجبته بطريقة مباشرة للمرة الثانية:

" يا سيادة الرئيس لم تكن غارات يوم 6 يونيه بالغارات العادية.. لقد استمرت في ذلك اليوم ثماني ساعات وخمس دقائق.. وكان اتجاه الريح شماليا بينما كنا نتحرك من الشرق إلى الغرب.. فلن يتمكن الدخان من إخفاء هذه الأهداف المتحركة. هذا في الوقت الذي كان ما معنا من الوقود لا يكفي لكل هذه التحركات العرضية الزائدة وبالتالي لم يكن يكفيها لإنتاج الدخان الذاتي المطلوب". ولما سكت الرجل أردفت قائلا: لقد دونت كل هذه التفاصيل في تقريري الذي رفعته إلى القيادة العامة وأنا ما زلت جريحا في مستشفى المعادي.

وهنا رد على بكلمات أعترف بأنها أصابتني وقتها بصدمة عنيفة:

قال ما معناه إنه لم يقرأ تقاريرنا وإنما اكتفى بقراءة تقارير الجانب الإسرائيلي. إذن فقد استقى الرجل معلوماته وملاحظاته من العدو الذي يعرف كيف يحشو كل سطر يكتبه عن المعركة بلغم مدمر من ألغام الحرب النفسية، ليحطم معنويات القوات المسلحة وضباطها الذين يعلم عنهم تماما أنهم لن يسكتوا عن الانتقام لاسترداد أرضهم واعتبارهم معا.

وطبعا أفضل أسلوب كان العدو يتبعه في حربه النفسية هو إحداث الوقيعة بين هؤلاء الضباط وقياداتهم. وانصرف عبد الناصر دون أن أعلق بشيء على كلماته وإنما كان مائة استفسار واستفسار تعتمل في نفسي، كنت تواقا لتوجيهها إليه أو على الأقل نحو المسئولين عن كارثة الانسحاب.

كان بودي أن أسأله هو بشخصه وقد عانى بنفسه أثناء حصار الفالوجا من الانفصالية بين القيادات العسكرية والسياسية- أسأله مثلا لماذا قبلتم أن تدخلونا الحرب وأنتم تعلمون بكل المقاييس أنها سوف تنقلب إلى مجزرة في صحراء سيناء إذا ما فقدنا الغطاء الجوى؟

وكان بودي أن اسأله لماذا أصدر المشير هذا الأمر الخاطئ بالانسحاب دون أن يكون في ظهر القوات ما يخشاه من الانسحاب؟ فالموقف يختلف تماما عنه سنة 56 حين كان يخشى فيه من دمار القوات في سيناء إذا قطعتها القوات البريطانية والفرنسية عند القناة .

كان بودي أن أسأله لماذا لم يصدر الأمر من البداية بالانسحاب إلى المضايق والتمسك بها بفرق المشاة التي هي أجدر بالتمسك بالأرض في غياب الغطاء الجوي من الدبابات المكشوفة والمعرضة للدمار من الجو؟ لقد حدث أن أمسكت هذه المشاة من قبل بالأرض في عام 56 في أماكن كثيرة منها مضيق متلا وكبدت العدو فيه خسائر فادحة خرجت عن تحمله، وقبل ذلك تشبثت أنت بنفسك "يا سيادة الرئيس" بالفلوجا فما الذي حدث إذن؟

كان بودي أن أسأل عبد الناصر كل ذلك وأكثر من ذلك، ولكن للأسف كان في ذلك الوقت قد وصل هو نفسه إلى الوضع الذي عانى منه ذات يوم وثار من أجله، فقد صار في وضع المسئول الكبير الذي يسأل ولا يسأل. وأعترف اليوم أن هذه لم تكن خطيئة عبد الناصر وحده وإنما كانت خطيئتنا جميعا كبارا وصغارا..

وكبارنا بالطبع قبل الصغار.. إذ لم يجرؤ واحد منهم على أن يبلغ عن موقفنا المحزن عندما صدر أمر الانسحاب الخاطئ. بل إن كثيرا منا بلغ به الأمر أن خشي أن يصحح زلة لسان صدرت منه عندما قال للمشير في مكالمة تليفونية إن لواءات الفرقة الرابعة ما زالت متمسكة بالمضايق بينما كانت بضع دبابات من هذه الفرقة قد عبرت إلى الضفة الغربية من القناة، بل إن اللواء الميكانيكي للفرقة قد وجه إلى هاكستيب بشرق القاهرة وبأوامر منه هو شخصيا.

ومن عجيب الصدف أن الموقف في يوم 6 يونيو 1967 كان يشبه تماما الموقف يوم 6 يونيو من عام 1944 عندما بدأ هجوم الحلفاء الكبير على نورماندي في الحرب العالمية الثانية وخشي قادة هتلر أن يوقظوه من النوم ليبلغوه بهذا الخبر لأن الخبر سوف يضايقه.

ثم يروي صاحب المشاوير واقعة أخرى لها أهميتها الكبيرة في تاريخنا العسكري فيقول:

" وأذكر مع حرب الاستنزاف موقفا آخر لعبد الناصر في زيارة أخرى ميدانية للفرقة 21 مدرعة، يوضح كيف فقد عبد الناصر الثقة حتى في قياداته وأخلص معاونيه – كان يوم الزيارة هو يوم 9 سبتمبر من عام 1969.
وهو اليوم الذي تصادف فيه حدوث إغارة القوات الإسرائيلية على منطقة الزعفرانة على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر بعد أن فشلت كل محاولتها في إيقاف حرب الاستنزاف ولقد تعمدت على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر بعد أن فشلت كل محاولاتها في إيقاف حرب الاستنزاف.
ولقد تعمدت إسرائيل أن تحيط هذه الإغارة بتظاهرة دعائية ضخمة لدرجة أن أسموها عملية غزو مصر، مما جعل الغيظ يستبد بعبد الناصر في ذلك اليوم، فكلف الفريق أحمد إسماعيل الذي كان يرافقه في هذه الزيارة بالتوجه مباشرة غلى منطقة البحر الأحمر.
ونظرا لأن أحمد إسماعيل لم يكن قد تلقى أي معلومات بعد عن هذه الإغارة ، فإنه توجه في بادئ الأمر إلى مكتبه بالقاهرة ليطلع على كل المعلومات المتوفرة في القيادة العامة من خلال وسائل الاتصال وللتعرف على الموقف قبل التحرك غلى مكان الإغارة. ولما علم الرئيس عبد الناصر بأنه لم يتوجه فورا إلى هناك، عزله من منصبه في الحال وأحاله إلى المعاش، وعين بدلا منه الفريق محمد أحمد صادق."

(4)

ولا يفوت صاحب المشاوير طيلة فصول الكتاب أن ينقل لنا صورة معبرة جدا عن مشاعر شريكة حياته السيدة آمال، وعلى الرغم من أن السياق الطبيعي لحديثه يمكن أن يستغني عن مثل هذه الفقرات إلا أن هذا الرجل يأبى إلا أن ينبئنا عن مدى الحب والحنان والإخلاص الذي تميزت به شخصيته

ثم هو يرتقي بأسلوب الكتابة في أدبنا العربي المعاصر لتناول أروع المشاعر الإنسانية بلا حياء، وبلا تكلف أيضا وبلا تظاهر بالحضارة أو الرجولة الشرقية القديمة، ويكفي أن السطور التي تناولت مشاركات السيدة آمال في هذا الكتاب تفوق السطور التي تناولت دور السيدة جيهان السادات في كتاب "البحث عن الذات" مثلا مع أن السيدة جيهان هي ألمع سيدات هذا الجيل من زوجات الضباط الذين ولدوا سنة 1920 وفيما قبلها بعامين أو بعدها بعامين، فضلا عن مشاركتها الفاعلة في الحياة العامة.

وسننقل إحدى هذه الفقرات التي يروي فيها صاحب المشاوير موقف زوجته قبل نشوب حرب 1967 فيقول: "وعندما توجهت غلى منزلي بحي مصر الجديدة لتجهيز نفسي لسفر طويل، وجدت آمال زوجتي تتنازعها أسئلة حائرة لم أرض أن أصارحها بأنها هي نفس الأسئلة التي تدور في ذهني.. "

قال:

"إني أتساءل كيف يأخذك ذهابكم إلي سيناء شكل التظاهرة والتهديد بالحرب مع أنه من الواضح تماما لكل شخص عادي أن إسرائيل ستدخل منتهزة فرصة وجود جزء كبير من الجيش في اليمن؟ لم أعقب على حديثها، بل سلمت عليها وعلى أبنائي مودعا..
وعند باب المنزل ركزت عينيها على عيني قائلة وهي تعطيني مصحفها الصغير: بإذن الله تذهب وتعود بالسلامة.. و بشرف، وضغطت على الكلمات الأخيرة كمن يقول كان الله في عونكم أنتم مشرفون بكل تأكيد على حرب لستم على استعداد لها. وكعادتها لم تستسلم للدموع. ولكن كما علمت من أطفالي فيما بعد أنها لا تفعل ذلك إلا عندما تختلي بنفسها في غرفتها وحيدة."

(5)

ويعتز مؤلف "مشاوير العمر" بأنه أدى واجبه في كل خطوة من خطوات مشاوير حياته على نحو ما كان يتمنى أن يؤديه، وهو يعترف أن الصدفة لعبت أدوارا متكررة في تقلبه في المناصب المختلفة بدءا من التحاقه بالكلية الحربية ثم انتقاله من سلاح إلى سلاح ولكنه مع هذا يمضي في مجرى النهر بقوة واقتدار في أغلب الأحيان

وفي أحيان كثيرة يعوقه ما يعوق النهر نفسه كما حدث في 1967 وهكذا يحدثنا مؤلف المشاوير عن حرب 1956 بإنصاف لم نعرفه في كتابة أحد قبله، وتسود كتابته العقلانية الشديدة ولكنه مع ذلك ينصف جيشه وقومه وهو يعترف بفلسفة واضحة أن المنتصر في 1956 كان أمريكا وروسيا أو هو يتبنى وجهة النظر القائلة بهذا الرأي

ولكنه مع ذلك لا يدع الفرصة ليثبت لنا أن الجيش المصري قد انتصر في هذه المعركة فيقول:

والحقيقة أن أمامي طريقين للرد ولتفنيد هذا الرأي الخاطئ. فهناك الطريق السهل وأقصد به طريق المهاجمة حيث في إمكاني أن أرد قائلا إن الذين يثيرون مثل هذه القضايا إنما يثيرونها وهم جالسون في صالونات منازلهم أو شرفاتهم يستمتعون بلذة الجدل والنقد وهم يتناولون المشروبات المثلجة.

هذا إذا كانوا بمريئي القصد والطوية، أما إذا كانوا غير ذلك فلا يدري إلا الله ما في نفوسهم من محاولة لإحداث شرخ بين الجهازين السياسي والعسكري أو النيل من قدرات جيشهم الوطني الذي يحتمي كل من يعيش تحت سماء هذا الوطن بدرعه.. أما الطريق الثاني وهو الطريق الصعب فهو طريق الحجة والبرهان.

وفي هذا أقول إن الأداء العسكري لم يعبه شيء سواء على المستوى التخطيطي للقيادات أو على المستوى التنفيذي للوحدات والجنود، فلقد بدأ انسحاب الوحدات من سيناء إلى الخلف بأمر انسحاب سليم مدروس، أنقذ 90% من القوات المسلحة من الشرك الذي نصبته لها الدول الثلاث

ولو كانت هذه القوات قد بقيت في مكانها في مصيدة سيناء لانهارت القوات المسلحة في الجبهتين معا: جبهة سيناء المواجهة لهجوم إسرائيل وجبهة القناة المواجهة لهجوم بريطانيا وفرنسا معا.. ولقد سقت مثلي "أبو" عويجلة ومثلا كما وصفهما ديان، لأثبت كيف كانت القوات تصمد في محلاتها الدفاعية في سيناء وتقاتل لآخر طلقة ولآخر رجل، وأنها لم تترك مواقعها بالمرة حتى جاءها الأمر الرسمي بالانسحاب..

أما إذا كان قد حدث أحيانا أن أتخذ الانسحاب في بعض اللحظات شكلا غير منتظم، فإني لا أجد ردا أدافع به عن موقف هذه القوات المنسحبة في بعض اللحظات شكلا غير منتظم، فإني لا أجد ردا أدافع به عن موقف هذه القوات المنسحبة في ظروف مثل ظروف صحراء سيناء الجرداء المكشوفة للطيران المعادي

إلا ما قاله أرسكين تشايلدرز مؤلف كتاب "الطريق إلى السويس" ردا على الدعاية التي تباهت بها إسرائيل في كتبها بقصد الحط من شأن الجندي المصري في تخطيط مدروس من حربها النفسية لدق إسفين بين المواطن المصري وجيشه.

يقول أرسكين:

" إن الظروف الصعبة التي كان الجيش المصري يعانيها أثناء انسحابه للخلف فوق طرق الصحراء المكشوفة، وهو يتعرض لضرب متواصل من ثلاث دول تواطأت عليه، لهي ظروف بالغة القسوة، لو وضع فيها أي جيش من أقوى جيوش العالم لما تصرف بشكل أفضل أو أشجع منه"
وأنا لا أعرف كيف يكون موقف الجيش الإسرائيلي لو وجد نفسه في موقف عكسي، أقصد لو وجد نفسه يوما ما موضع هجوم من بريطانيا وفرنسا وقد تواطأتا مع مصر ضده؟ ألا ينقلب الحال تماما رأسا على عقب وتنقلب معه الأوضاع والنتائج بالقدر نفسه؟".

ويردف صاحب المذكرات هذا كله بقوله:

" نقطة أخيرة أحب أن أضيفها على هذا التعليق هي أننا لو كنا انهزمنا عسكريا في 56 ما كنا استطعنا أن ننتصر سياسيا وأفضل دليل مؤسف أسوقه للبرهنة على ذلك ما حدث في 67 فقد انهزمنا سياسيا في 67 لأننا أساسا قد انهزمنا عسكريا".

وقد اتخذ مؤلف مشاوير العمر جانب الإنصاف أيضا عند حديثه عن حرب 48 حيث ناقش فكرة النصر والهزيمة فقال:

" وأخيرا يبقى السؤال المحير هل حرب 48 كانت انتصارا أم انهزاما لنا؟ الحقيقة أن هذا السؤال الذي ثار في أعقاب حرب 48 أصبح سمة مميزة تنفرد بها حروب الشرق ألأوسط عن غيرها من الحروب، حيث يحدث عقب كل حرب جدل عنيف يختلط فيه الغالب بالمغلوب والمنتصر بالمهزوم، لا لسبب يخص تكتيكات الحرب في حد ذاتها
وإنما لسبب آخر تتميز به هذه الحروب هو تدخل القوى الأجنبية بشكل يؤثر على سير المعارك ونتائجها بداية من التدخل في إمداد أحد الطرفين أو كليهما بالإمكانات العسكرية والإدارية التي تؤثر في كل مقدرات المعركة بحيث تنتهي في صالح الطرف الذي تؤيده القوة ذات المصلحة في انتصاره.
وفي حرب 48 لم يقتصر تدخل الدول الكبرى على إمداد إسرائيل بالسلاح والذخيرة والمتطوعين، بل امتد هذا التدخل ليشمل إمداد أو حرمان القوات المحاصرة من الطرفين بالطعام والشراب. وأفضل مثل أسوقه على ذلك أنه في الهدنة الأولى انشطر النقب الجنوبي عن شمال إسرائيل لتشبث القوات المصرة بالخط العرضي المجدل - جبرين..
وعندئذ تدخلت لجنة الهدنة لتضغط على مصر لكي توافق على السماح لقوات التموين الإسرائيلية أن تستخدم الطريق الطولي في ساعات معينة من النهار (والذي يقطعه الطريق العرضي ويتحكم فيه) على أن تستخدم القوات المصرية الطريق العرضي باقي ساعات اليوم، وللأسف أو للعجب وافق المصريون بما عرف عنهم من سماحة.
ثم حدث في الهدنة الثانية أن حوصرت الفالوجا على النحو الذي اتبع في الهدنة. وهنا لم تتدخل لجان الهدنة وهي المعروف أنها تأتمر بأوامر القوى الكبرى. وكان من الواضح في حرب 48 أن بريطانيا كانت ترغب في الحصول على نتائج شبه متعادلة للطرفين بحيث تظل الحرب معلقة لا تنتهي بحسم أو سلام حتى يمكنها استثمار رحلة العداء الناشئة بين الطرفين إلى ما شاء الله.
أما في حرب 56 مثلا فسوف نرى إصرار كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على حرمان المعتدين الثلاثة من إحراز أي نصر عسكري ولذلك فمن أطرف التعليقات التي تروى عن نتائج الحروب الأربعة، ما قاله معلق عسكري " في اعتقادي أن الذي انتصر في 48 هي بريطانيا.. أما في 56 فإن الذي انتصر ولكن في الحقيقة أن الاتحاد السوفيتي كان هو المحظوظ الأول من هذه الحرب لأنه حقق الهدف الذي ظلت تتمناه طويلا روسيا القيصرية وهو الوصول إلى المياه الدافئة".

(6)

وعلى هذا النحو فإن صاحب "مشاوير العمر" حين يتناول حرب اليمن يتعمد أن يكرر الاستشهاد بما قاله جمال عبد الناصر في مناسبات مختلفة بأن مصر قد تورطت في هذه الحرب، وحين يروي ذلك فإنه لا يلوم عبد الناصر بقدر ما يأسف لما وجدنا أنفسنا فيه، ولكنه مع ذلك لا ينساق إلى أن يتبنى نظرية المؤامرة تبنيا كاملا يتيح له أن يعفي قادتنا من المسئولية

وها هو يقول:

" إنني بكل المقاييس لا أجد سببا واحدا أو مبررا يجعلني راضيا عن دورنا في اليمن، بغض النظر عن أن قواتنا المسلحة قد أدت دورها بكل ما تستطيع من تفان وتضحية وشجاعة وإخلاص.. هناك مثل يقول: ليس بيدق الشطرنج هو الذي يحرز النصر أو الفشل، وإنما هو دور من يمسكه بيده وأخيرا فقد يتهمني البعض بأني لم أفصح عن رأيي هذا وبصوت عال إلا بعد أن رحل المسئولون عن الدنيا وواراهم التراب..
ولكن يعلم الله كم عملنا جاهدين بجهد أهل الخبرة عن التعبير عن آرائنا في صراحة وقوة قد لا تجيئان إلا همسا.. ولعل قوة الهمس تجيء أحيانا أقوى من صرخة الجهر ومع ذلك فأنا أتساءل لماذا لم نجهر؟ هل كان ضعفا منا أو تخاذلا أو في أحسن الفروض تقية؟ إني في هذه المذكرات لن أدافع عن نفسي أو عن غيري، إني أفضل أن أترك إلى يوم سوف تحكم علينا إدانة أو أنصافا محكمة تفوق في قوتها كل قوى الراي في دنيانا التي حولنا، إنها محكمة التاريخ.

ولعل الفريق كمال حسن على كان أول قائد من قواد 1973 كتب عن حرب اليمن كتابة شاملة تناولت الحرب كلها من أولها لآخرها وهو أول من ميز بين قيادة الفريق مرتجى وقيادة الفريق أنور القاضي

متأثرا في ذلك برأي القاضي نفسه حين يقسم الحرب إلى مرحلتين:

(أ‌) المرحلة الأولى من سبتمبر عام 1962 إلى مايو عام 1963 وهي تعتبر من أقسى المراحل التي انتهت في آخر الأمر بوصول القوات المصرية غلى الحدود الشمالية والشرقية وسيطرتها على المن سيطرة شبه كاملة.
(ب‌) المرحلة الثانية من مايو عام 1963 إلى نوفمبر عام 1963 وشهدت تطهير الجيوب المعادية التي كانت تظهر وتختفي من الارتزاق والابتزاز، ثم حسمها في النهاية هجون الربيع الذي قضى على فلول الملكيين في الشمال.

والمرحلة الأولى هي التي شهدت أصلا تزايد حجم القوات بصفة مطردة نتيجة للكمائن التي نجح الملكيون في نصبها للقوات صغيرة الحجم التي كانت تصل بغير خبرة إلى اليمن: وهو الأمر الذي أوضحه عبد الناصر في خطابه المشهور عندما قال إنه في 5 أكتوبر كان لنا مائة صف ضابط وعسكري فقط.

وفي يوم 9 أصبحوا 500 ثم 2000 فرد في يوم 16 وبعثنا أول قوة من صلاح الطيران يوم 10 أكتوبر، طيارتين... ثم انتهى الأمر بوصول هذا العدد إلى سبعين ألفا. وعلى نفس هذا النحو كانت كتابة المغفور له الفريق أول كمال حسن على من قبل عن حرب فلسطين ومراحلها الأربع بدءا من صفحة 82 وحي ص 86 حيث يمكن للقارئ أن يطالع ملخصا من أدق وأروع ما يمكن لعمليات هذه الحرب.

(7)

وتقود الشجاعة مؤلف هذا الكتاب إلى أن يجاهر في براءة اللواء صدقي الغول واللواء صدقي محمود مما نسب إليهما في 1967، ويروي الواقعة تلو الواقعة، ويؤكد على حقيقة مسئولية القيادة السياسية في هذا الشأن، بل ويروي كيف دفعته الشجاعة إلى أن يشهد لصالح اللواء الغول حين أخذت أقواله في التحقيق الذي أجرى بعد النكسة

وذلك حيث يقول:

" وحدث بعد ذلك أن وصلتني في شهر رمضان برقية من المدعي العسكري يدعوني للشهادة في إحدى القضايا - وعلمت بعد ذلك أن هناك اتجاها في القوات المسلحة لتقديم عدد من الضباط إلى المحاكمة منهم اللواء صدقي الغول قائد الفرقة..
وكانت بعض أجهزة الإعلام قد بدأت تروج لهذا الأمر بعد أن أرسل المسئولون في الاتحاد السوفييتي بما يوحي بضرورة محاكمة المسئولين عن الهزيمة في الجيش، وضربهم بالرصاص على غرار ما يحدث عندهم في هذه الأحوال. كنت أعلم يقينا بيني وبين نفسي، أن اللواء صدقي الغول لم يرتكب أي خطأ يوجه إليه الاتهام بسبب..
فهو لم ينسحب أو يأمر بانسحاب وحداته بوحي من تفكيره، وإنما لابد وأنه قام بذلك على اثر أوامر واضحة صدرت إليه من قيادة الجيش الميداني.. أما الحديث العابر الذي دار بيني وبين اللواء عماد ثابت عندما قابلته عرضا في يوم 7 يونيو، فلم يأخذ شكل التعليمات الواضحة لأن قيادة الجبهة نفسها لم تكن قد وصلتها بعد هذه التعليمات المؤكدة بإلغاء أمر الانسحاب والبقاء في المضايق..
ولذلك قام اللواء صدقي الغول باتباع التعليمات التي صدرت إلى شخصه من رئاسته مباشرة. وكان على أن أقول الحق بضمير خالص.. وعندما غادرت بيتي إلى مكان التحقيق قلت لزوجتي إن ما سأقوله لن يكون بالقطع محل رضا من المسئولين، وفي هذه الحالة قد أحال أنا نفسي غلى المعاش، أو أتعرض للسجن، خاصة وأنهم كانوا في ذلك الوقت يبحثون عن كباش للفداء.
وكان رد زوجتي مؤيدا في نفسي: قل الحق، وأجرك بعد ذلك عند الله أو في النيابة العسكرية استمر التحقيق لمدة سبع ساعات لم أزد فيها حرفا واحدا عما حدث بالفعل كما ذكرته سابقا يوم 7 يونيو.. وللأسف أدان التحقيق اللواء صدقي الغول. وعندما استدعيت مرة أخرى للشهادة أمام المحكمة العسكرية برئاسة الفريق الرمالي، لم تخرج شهادتي عما سبق ذكره في التحقيق.
وأكدت لرئيس المحكمة في حديثي أن لقائي باللواء عماد ثابت وحديثي معه كانا أمرا عابرا ولم يتخذ شكل التعليمات المباشرة. ومع ذلك صدر الحكم ضده بالسجن لمدة عشر سنوات. وهكذا تأكد لي بالفعل أن الأمر كان مجرد العثور على كباش للفداء. ويعلم الله كم أثر هذا الوضع في قلبي حتى يومنا هذا، لأن الحكم اقترن باسمي في تداع يجاوز الحقيقة، مما ترك انطباعا سيئا خاطئا لدى اللواء صدقي ظل حتى بعد الإفراج عنه.
في الوقت الذي علق فيه وكيل نيابة أمن الدولة الذي يمثل الاتهام قائلا: إن شهادتي كانت كفيلة بأن تخرجني إلى المعاش أو تدخلني السجن، فقد كانت شهادة شجاعة لم تبتغ إلا وجه الحق... إلا أنها لم تكن على المرام.
وأعقبت تلك المحاكمة محاكمة أخرى للفريق محمد صدقي محمود قائد القوات الجوية الذي صارح عبد الناصر في اجتماعه مع القادة قبل المعركة بأيام، بأنه لا يمكننا تلقي الضربة الأولى لأن احتمال خسائرها في القوات الجوية سوف تكون عشرين في المائة على الأقل.. بل إنه طلب قبل المعركة بوقت طويل إنشاء دشم حصينة للطائرات، غير أن ظروف اليمن لم تسمح بذلك، وإن كان التحقيق قد كشف بعد ذلك عن أن وزارة الدفاع كان بها فائض للميزانية يسمح ببناء هذه الدشم.
وهكذا لم يكن مستغربا من شعب ذي حس مرهف، أن يهتف أبناؤه الطلبة في تظاهرات يناير 1968 مرددين " لا صدقي ولا الغول.. عبد الناصر هو المسئول" لقد أدرك الجميع أن هذه المحاكمات لم تكن تقصد إظهار أخطاء المسئولين الحقيقيين بقدر ما كانت تقديما لعدد من كباش الفداء من العسكريين لتبرئة القيادة السياسية من دماء ضحايا النكسة والهزيمة"

وهكذا يستبين لنا من هذه الرواية بما لا يقبل الجدل بعد ذلك كيف يتمتع قادتنا على اختلاف مستوياتهم بقدرة واضحة على تمييز الحق من الباطل مهما اختلفت آراؤهم.

(8)

وعلى الرغم من أن كتاب "مشاوير العمر" لا يتمتع بالعداء التقليدي للمشير عبد الحكيم عامر الذي نجده في غالبية المذكرات والكتابات التاريخية، إلا أن هذا لا يمنع مؤلفه من أن يضع على كتفي عبد الحكيم عامر ما لا ينبغي أن يزاح عن عاتقه بأي حال من الأحوال

فها هو يقول:

" وسوف يحكم عليه التاريخ أيضا، أنه هو المسئول الأول عن كارثة 67، على الأقل من جوانبها العسكرية، فلقد قبل الضربة الأولى المسبقة دون بناء دشم وقائية حول الطائرات. وساق القوات المسلحة إلى الحرب في مظاهرة ودون تخطيط مسبق لهذه الحرب.
وظن أن الوقت الذي اختاره للمعركة هو أنسب الأوقات لها دون أن يدري أنه أسوأ الأوقات سياسيا وعسكريا، بل إنه استدرج للمعركة في هذا الوقت الذي كان في الحقيقة من اختيار العدو، وظن هو خطأ أنهمن اختياره وإذا كان للرجل أفضال أو حسنات في بناء القوات المسلحة، أو تطويرها من البلى الذي كانت عليه إلى قوات حديثة معاصرة
فقد فاته أن قدر العسكريين إنما تكفيه عادة غلطة واحدة للقضاء عليه، شأنهم في ذلك شأن الطبيب الذي مهما شفى آلاف المرضى فإنه يفقد اسمه وسمعته إذا قتل بنوع الخطأ مريضا واحدا.. والتشبيه هنا يجاوز الحقيقة تماما لأن الطبيب إذا أخطأ مرة فإنه يقتل مريضا واحدا، أما القائد العسكري عندما يخطئ مرة فإنه يقتل أمة.

وعلى هذا النحو أيضا نلمس موضوعية المغفور له الفريق أول كمال حسن على الشديدة حين يتناول حرب أكتوبر في أيامها المتقدمة التي ثار عليها النزاع حول مسئولية القادة، وهكذا نجده بعد أن أتيح له ما لم يتح لأي واحد من هؤلاء القادة جميعا

(باستثناء الرئيس حسني مبارك والمشير أحمد إسماعيل بالطبع) من اطلاع عميق على الخفايا والاستراتيجيات يعفى المشير أحمد إسماعيل من اللوم الذي استسهل الكثيرون توجيهه إليه

وها هو يقول في ص 319 تحت عنوان "أحمد إسماعيل ليس السبب":

" ولكن في رأيي – وقد تجلت أمامنا الآن كل الظروف والملابسات العامة التي أحاطت بالمعركة- أن الفريق أول أحمد إسماعيل لم يكن وراء قرار التعبوية وتأخير تطوير الهجوم حتى يوم 14 أكتوبر، حيث جاء قرار مواصلة الهجوم متأخرا جدا عن موعده بعد أن حصلت إسرائيل على كل ما استهلكته في المعركة من ذخائر ودبابات وطائرات.. إلخ
بل وحصلت على أسلحة حديثة جدا على النحو الذي ذكرته من قبل. لقد أصبح واضحا أن الرئيس السادات هو الذي كان يمسك بدقة الأمور بين يديه، بدليل أنه بمجرد أن أعطى أوامره باستئناف الهجوم لتخفيف الضغط عن الجبهة السوية، قام الفريق أول أحمد إسماعيل بالاستجابة للأمر مباشرة، مما أفرغ الضفة الغربية للقناة من معظم المدرعات والتشكيلات التي كانت ترتكز عليها الجيوش الميدانية في الشرق (وهو الأمر الذي استغلته إسرائيل بمعاونة النصائح الأمريكية لعمل الثغرة).
وهكذا تناسى الفريق أول أحمد إسماعيل كل مخاوفه عن خروج القوات المهاجمة عن مظلة حماية الصواريخ المضادة للطائرات. وبدا جليا أن حذر أحمد إسماعيل لم يكن السبب الكامل وراء الوقفة التعبوية.. ففي ذلك الوقت كان السادات هو الذي كان يخضع ليل نهار لتهديدات كيسنجر التي تصله عن طريق الزيات أو عن طريق الاتحاد السوفيتي
كما كان يخضع في نفس الوقت للضغط التشاؤمية التي لم يكف القادة السوفييت يوما واحدا عن توصيلها في إصرار إلى الرجل وتخويفه بصفة مستمرة من المحاذير التي تهدده وتهدد الموقف العالمي من استمراره في القتال. وأعتقد أنه مما يؤيدني في هذا الرأي ذلك التردد المماثل الذي حدث في الجبهة الثورية وما ذكره الفريق طلاس عن وقفة يوم 7 أكتوبر لإدجارأوبالانس مصرحا أن الأمر قد صار بالفعل بالتوقف ولكنه لم يوضح له ملابساته معتذرا بأن الوقت لم يحن بعد لكشف هذه الملابسات".

(9)

على أن الأهم من هذا كله هو ما شغل "مشاوير العمر" به نفسه في هذا الكتاب من دراسة وتحليل وتقييم جهود القادة الإسرائيليين على الجانب الآخر من المعارك، ويبدو كمال حسن على في هذه النقطة بالذات رجل مخابرات من طراز فريد، ورجل عسكرية حقة لا تدفعه العداوة إلى أن يغمط حق من أعدائه

ومع هذا فإنه يقدر شارون بالذات في أكثر من موضع التقدير الصحيح بدون تهويل ولا تهوين، رغم أنه يصعب على أي مصري (دعك من قواد المعارك) أن يكنوا لهذا القائد أي قدر لعداوتهم له، وسأنقل للقارئ فقرات من مواضع مختلفة تناول فيها المغفور له الفريق أول كمال حسن على هذا القائد الإسرائيلي، فهو يتحدث في ص 138 عن معركة ممر متلا في حرب 1956 وقرار شارون الخاطئ بشهادة ديان.

والذي حدث بعد ذلك أن هذه القوة لم تحتل الممر إلا بعد أن صدر أمر الانسحاب إلى القوات المصرية المدافعة، وعندما احتله الإسرائيليون وجدوه خاليا تماما ويعلق ديان على هذا الأمر قائلا في غيظ: " إن هذا الاحتلال الدموي لمضيق حيطان في ممر متلا، كان من الممكن أن يكون له ما يبرره لو كانت مهمة اللواء هي الوصول إلى السويس. ولكن للأسف لم يأمرهم أحد بذلك لأن مهمتهم كانت الاتجاه إلى شرم الشيخ لقد هاجم هؤلاء الرجال المظليون ممر متلا على عكس أوامري وكانت نتيجة عملياتهم هذه الخسائر الفادحة".

وهنا يقول المغفور له الفريق أول كمال حسن على :

" هذا ومن المعروف أن شارون ظل مستقبله السياسي متأثرا لفترة طويلة بهذه المأساة ويردف في الهامش بقوله " وقد كرر شارون الخطأ نفسه وهو وزير دفاع إسرائيل عام 82 باندفاعه في عمق لبنان حتى حاصر بيروت" ، وفي 305 يروي المغفور له الفريق أول كمال حسن على عن شارون قيامه ببعض الهجمات "

ولقد قام الجنرال شارون في هذا اليوم بعدة هجمات قيل بعد الحرب إنه قام بها بغير أوامر، وكان ذلك في اتجاه النقط الحصينة أمام الإسماعيلية ورغم أنه قد مني بخسائر جسيمة في دباباته، إلا أن وحدة الاستطلاع التابعة لفرقته استطاعت أن تصل إلى شاطئ البحيرات المرة أثناء قيامها بعملها حول المزرعة الصينية عند قرية الجلاء، وتم ذلك خلال ساعات الليل لتثبت بشكل ما أن هناك ثغرة ما بين الجيشين الثاني والثالث في هذا القطاع. وهكذا نجد تعليقات ممتعة وواضحة لمؤلف هذا الكتاب عن ديان وإبراهيم تامير وإيجال يادين وفايتسمان وغيرهم.

وحين يروي قائد المدرعات في حرب 1973 الذي هو كمال حسن على نفسه قصة تدمير اللواء 180 بقيادة عساف ياجوري فإنه بحكم الأمانة العلمية لا يفوته أن يشير إلى أن الذي دمر لم يكن لواء وإنما كتيبة فحسب، ولكنها كتيبة مجهزة ومسلحة كأنها اللواء

وها هو يقول :

" ويجدر التنويه هنا بأن عدد الدبابات ومدافع الاقتحام المجنزرة المصاحبة للكتيبة، كان يشكل مجموعة لا تقل عن 100- 110 دبابات ومدفع اقتحام، وهو حجم أراه عذرا في تسمية هذه المجموعة باللواء 190 المدرع عند إذاعة خبر تدميرها فيما بعد".

وهكذا يجد الناقد والقاري نفسيهما وقد قادهما سياق الاحترام والتقدير للأمانة العلمية المتواصلة في روايات تسلسل المعارك على نحو يستحيل معه أن يتهم صاحب المشاوير بأي نوع من أنواع الذاتية، بل إن القاريء المتعود على مبالغات المذكرات يكاد يتميز غيظا حين يجد مؤلف مشاوير العمر وقد قادته روح المسئولية إلى أن يتناول الشائعات الشهيرة التي أثرت الوجدان الشعبي المصري بالتحليل والنقد على نحو ما نقرؤه له مثلا

وهو يتناول حادث مصرع المشير أحمد بدوي فيقول: " كنت أعتقد كما يقول المثل السائر " إذا كان المتحدث مجنونا فليكن المستمع عاقلا إن مثل هذه الفرية لا تنطلي على عاقل لأن السادات لو كان يرغب حقا في التخلص من أحمد بدوي ورفقائه لكان أمامه أكثر من أسلوب سهل يحقق به هذا الغرض.

كان أمامه مثلا أن ينقلهم إلى مناصب أو أماكن أخرى عديدة خارج القوات المسلحة - وهو أمر شائع الحدوث - وكان أمامه أن يصدر نشرة عسكرية بإحالتهم كلهم أو بعضهم إلى المعاش.. وهو أمر يخوله له القانون.. أما أن يلجأ غلى قتلهم قتلا جماعيا وبطريقة لا تصلح إلا للأفلام السينمائية فهو أمر لم يكن السادات في أدنى حاجة إليه.

لقد تصادف أني ذهبت متين إلى هذا المكان نفسه عندما كنت وزيرا للدفاع مصطحبا معي مجموعة القادة أنفسهم تقريبا للمرور على وحدات سيوة ضمن قوات المنطقة الغربية. إلا أنني بعد هبوط الطائرة الهليوكوبتر في المرة الأولى وفي المكان نفسه لاحظت صعوبة النزول والصعود بالطائرة في هذا المكان الضيق المحاط بالأسلاك. ولذا كان إصراري في المرة الثانية على الهبوط خارج بلدة سيوة، حيث أقلتنا السيارات إلى داخلها.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى رأيت أن أقسم القادة إلى مجموعتين عملا بمبدأ عدم تعريض مجموعة كبيرة من القادة لاحتمالات مخاطر لا داعي لها، والواقع أن ما أجرى من تحقيقات لم يكن ليدع مجالا للشك بحيث يتداول هذا الموضوع بعد ذلك، اللهم إلا أن يكون مجالا للاتجار به.

(10)

وهكذا نجد بين أيدينا موسوعة حقيقية لتاريخ الوطن ولتاريخ القوات المسلحة لا يستنكف مؤلفها عن أن يعطي كل ذي حق حقه في الموضع الذي يستأهل إعطاء هذا الحق، فلا يلجأ مؤلف "مشاوير العمر" أبدا إلى عبارة أحد الزملاء أو أحد القادة... وإنما هو حريص (شأن كل المنصفين الذين تخلوا عن العقد) على أن يثبت كل اسم في موقعه الصحيح، والأفعال عنده مبنية للمعلوم إلا أن يكون المعلوم معلوما بما فيه الكفاية.

وإني لأعتقد الآن أن صاحب هذه المذكرات حين كان قائدا كان من أولئك القواد الذين يتميزون بأنهم أعداء لأنهم يستبقون الأحداث بحيث لا تخلق لهم الدراما اليومية أعداء كان يمكنهم الاستغناء عنهم. ولكن لعي بهذا لا أكون قد أنصفته تماما، فهذا رجل حريص تمام الحرص على التحضر في كل تصرفاته أليس هو الذي أقام حفلا للخبراء السوفييت قبل أن يغادروا الوطن؟

وهو بعد أن يروي هذه الواقعة يتدارك فيقول

" لذلك كان صدى الاستغناء عنهم في القوات المسلحة عظيما وموضع الترحيب الكامل من كل ضابط وجندي، ولا أدعي أن اللفتة الإنسانية التي بادرت إليها، كانت سببا في تغير العلاقات مع الاتحاد السوفيتي فدفعتهم إلى توريد الأسلحة في عام 1973، ذلك أن هدفي كان مجرد مبادرة من روح طيبة اشتهرت بها مصر، مما يضاف غلى رصيد أصالتها وحضارة شعبها العريقة يتذكره هؤلاء الذين عملوا وعاشوا فوق أرضها لفترة من الزمن ولو قصرت ".

(11)

ومن أروع الصفحات في هذا الكتاب إنصاف المؤلف لإسماعيل باشا صدقي وحكومته وموقفهما في التغلب على الأزمة الاقتصادية في الثلاثينات (ص 31) وكذلك تلك الصفحات التي يصف بها أول يوم له في الكلية الحربية بأنه أطول يوم في التاريخ (بدءا من صفحة 41)

وذلك حيث يقول :

" لو أنك سألت أي رجل عسكري عن أطول يوم صادفه في التاريخ، ربما ذكرت لك أياما محددة عاشها في معارك قتال عنيفة، ولكنه لا ينسى أبدا أن اليوم الأول لدخول الكلية الحربية من بين أطول هذه الأيام، ظننت في ذلك اليوم أنه لن تغرب له شمس أبدا..
وأن الفراش الصغير الجديد الذي ظللت أتعلم طوال اليوم كيفية تهيئته "وفرشه" بطريقة عجيبة معينة (والأنباشي يقوم كل مرة بهدم كل ما أديت من جهد وعرق) ظننت أنه لن تحين أبدا ساعة النوم لكي أرتمي في هذا الفراش وعندما صاح البروجي بنغمات "نوبة النوم"، ودفنت نفسي داخل الأغطية البيضاء الناصعة بمجرد أن صاح الأونباشي صارخا "اترك كل ما في يدك ونم" ..

لم أصدق عيني اللتين أمرني نفس الأونباشي بإغماضهما في الحال وعدم تركهما مفتوحتين طبقا للأوامر في هذا اليوم اعتقدت أن العسكرية شيء من الصعب تعلمه أو التدرب عليه ففرش السرير الصغير مشكلة أعوص..

وترتيب الدولاب بطريقة معينة ودقيقة مع تطبيق الغيارات الداخلية فوق بعضها (في شكل منتظم كأنه رسم بالقلم والمسطرة) هو أمر يحتاج غلى مصمم هندسي أما عندما جاء دوري في طابور قص الشعر وأزال الحلاق العسكري كل ما نبت فوق رأسي في نصف دقيقة شعرت فعلا أني أصبحت رجلا آخر .

ومن أروع الصفحات أيضا ما يرويه (ص 42) عن مأساة أول الدفعة السابقة عليهم الطالب على عبد الدايم الذي فصل من الكلية لمجرد أنه كتب لوالده في مناسبة تخرجه " أنه لا شك سينتهزها فرصة لبث روح الوطنية بين الشباب الذي سيقوده ضابطا"

ومن أهم الفقرات ما يرويه عن مصرع أخيه الأكبر المهندس عزت ونقله نتيجة لذلك للعمل مع شقيقه طلعت في سلاح الفرسان (ص 58 و 59)آ، كما أن من أهم الفقرات روايته لأحوال مصر أثناء وباء الكوليرا ص (64، 65) والتي يتحدث فيها عن إشاعة أن الكوليرا كانت مؤامرة من الانجليز

ويختمها بقوله ص 65:

" والحقيقة أني لا أملك اليوم ما يؤيد أو يفند إشاعة مؤامرة الكوليرا، ولكن الثابت المؤكد أن بريطانيا لم تلتزم بتنفيذ بنود المعاهدة منذ إبرامها تنفيذا دقيقا، سواء فيما يتعلق بإجراءات الحجر الصحي أو بالإجراءات الجمركية السلمية..

خاصة وأنها كانت تضع يدها على بعض مطارات قناة السويس الأمر الذي أتاح لها إحضار بضائع وأشخاص من جنوب آسيا، حيث كانت تتوطن بها في ذلك الوقت أمراض وبائية خطيرة كالحمي الصفراء والكوليرا. وكان الجيش البريطاني قد اتخذ من منطقة القناة محطة للحجر الصحي لكل الجنود الانجليز وهم في طريق عودتهم من الهند إلى بلادهم. "

ومن أطراف ما في هذا الكتاب ما يرويه عن رحلة القطار التي استغرقت حوالي عشر ساعات من القاهرة إلى قليوب (ص 91) أو ما يرويه عن رحلته العلمية إلى انجلترا عام 1949 (ص 107 وما بعدها) أو ما يحدثنا به عن انطباعاته عن مجزرة الإسماعيلية في 1952 فحريق القاهرة (ص 111 وما بعدها).

أو حديثه المفعم بالأسى عن أعقاب ثورة 1952 ونشوء التفرقة بين أهل الثقة وأهل الخبرة ص 116 وص 117 إلى أن يقول في أسى شديد قد يكون أوانه قد فات : " وهكذا لم تتميز طبقة أهل الثقة في الأغلب بأي كفاءة خاصة، سوى أنهم "متصلون" بالجهات العليا..

ويكفي أن يشار إلى أي واحد منهم بهذا اللقب حتى يعمل له ألف حساب، فكانوا أشبه بقوموسيرات الاتحاد السوفيتي الذين كونوا طبقة أخرى متعالية داخل الجيش الروسي هي التي كانت تجني كل ثمار الثورة.

ولذلك تطلع الكثير منهم إلى تحقيق أمنيات شخصية، وكان جواز مروره في ذلك هو أنه يحمل لقب "الأحرار" وهي تسمية لا شك تحمل معنى جائرا يشير غلى تصنيف غير مقبول بالمرة. فالمفروض أن كل من يخدم في القوات المسلحة قد نال شرف الجندية الذي لا يناله إلا من هم أحرار بالفعل.

ناهيك عن القول الإسلامي المأثور بأن الناس ولدوا جميعهم أحرارا، فلم ولحساب من كانت هذه التفرقة التي كانت من ضمن الأسباب الرئيسية لكارثة 1967؟ إذ ظل يحمل هذا الموقف الطبقي السليمين داخل أية قوات مسلحة في أي دولة في العالم لا ترى لنفسها دورا مخلصا سوى الأمن والدفاع عن الوطن فحسب ويروي لنا مؤلف الكتاب معاناته من التقارير ص 119 و ص 120 لا لسبب إلا لأنه كان يقابل سعد التائه الصحفي الشيوعي عند حضوره للسلاح لمقابلة ثروت عكاشة قائد السلاح.

كذلك فإن من أهم فقرات هذا الكتاب ما يلخص به مؤلف "مشاوير العمر" أخطاء مصر في سوريا حين يروي قصة القائد الذي عمل معه في اللواء 70 المدرع حيث يقول: " وأذكر أن قائد اللواء (وكان يدعى العقيد محمود عودة) قد شد على يدي مهنئا خلفته في منصبه عندما أوفد في بعثة إلى الخارج ثم اعتذر لي عن قصة صغيرة حدثت منه يوم أن جئت لتقديم نفسي إليه منذ عدة شهور، إذ بادرني بسؤال أعترف أنه هز نفسيتي كضابط مصري، قال لي يومها: هل يمكنني أن أعرف إذا ما كنت من أهل الخبرة أو من أهل الثقة؟ "

وتعمدت أن أرد على سؤاله متجاهلا مقصده قائلا: أنا لا أعرف ماذا تقصد، ولكن الذي أعرفه عن نفسي أني قد أوفدت في بعثة 14 شهرا إلى الاتحاد السوفيتي وعملت رئيس أركان القيادة الشرقية ثم كلفت بالحضور إلى هنا لمعاونتك.

ويمها ضحك وقال لي: " إذن فأنت من أهل الخبرة.. وعندما غادر اللواء- ولم أره بعد ذلك- قال لي:" والله يا أخي أنت تختلف عمن قبلك تماما.. وليتهم في مصر يجعلون أهل الخبرة هم أهل الثقة بالفعل" ولم أعلق بشيء..

وحين ينساق المرء مع نفسه إلى التفكير في عواقب الأحداث نجد مؤلف هذه لمذكرات أكثر ما يكون تعبيرا عن الأسى عند حديثه عن الانفصال السوري وبخاصة أنه كان الضابط المصري الوحيد الذي أتيح له أن يرأس لواءا كاملا في الجيش السوري وهو يحدثنا في مواضع مختلفة عن مشاعره الحادة تجاه هذه القضية.

(12)

موقف تيتو السياسي الذكي في أعقاب حرب يونيو 1967 حين دعا كل الحكومات والأحزاب الشيوعية في شرق أوربا للاجتماع بعد توقف المعارك في الشرق الأوسط بساعات قليلة

يروي المغفور له الفريق أول كمال حسن على فيقول:

" ولعل أغرب ما حدث في هذا الاجتماع ، كان الحديث الذي وجهه الرئيس تيتو إلى المجتمعين قائلا لهم: " إن ضرب حركة التحرر الوطني في الشرق الأوسط لن تكون إلا بداية الخطر الذي سوف يمتد غدا لدول أوربا الشرقية وبعد غد يصل الخطر إلى الاتحاد السوفييتي نفسه".
ولقد مضى تيتو في حديثه موضحا كيف ن الاتحاد السوفيتي لم يتمكن حتى ذلك اليوم من حل مشكلة القومية فيه، ثم نبه كيف أن هناك نشاطا معاديا يتحرك في الجمهوريات الجنوبية كأذربيجان وكازاخستان وجورجيا وغيرها، بل وأيضا في الجمهوريات الشمالية بالبلطيق كأستونيا ولاتفيا ولنوانيا. وكأنما كان الرجل يقرأ المستقبل في كتاب مفتوح والحقيقة أن المعنى الذي أوضحه تيتو في ذلك الاجتماع، سبقه عبد الناصر إلى استشفافه عندما قابله السفير السوفيتي أنهم بهزيمة العرب قد هزموا هم الآخرون".

وهكذا تتضح سعة أفق كاتب هذه المذكرات الذي يروي هذه الوقائع بشيء من التأييد، ولا يتعارض هذا على الإطلاق مع ما رواه هو نفسه في موضع آخر عن معلق عسكري قال بأن الاتحاد السوفيتي كان فيما يبدو هو المحظوظ الأول من حرب 1967 لأنه وصل إلى المياه الدافئة.. ذلك أن هذا الوصول كان – بالفعل- مؤقتا جدا.

(13)

وقد لا يكون كمال حسن على من الذين يجيدون الحديث عن إنجازاتهم بطريقة تصورها على أنها معجزات، ولكن كثرة ما أتيح لهذا الرجل من مواقع للعطاء الوطني قد عوضته عن هذا التواضع والإعراض عن عبادة الذات، ومع هذا فإن المغفور له الفريق أول كمال حسن على يع أيدينا على بعض ما تحقق على يديه خلال توليه رئاسة الوزارة

فيقول:

" كانت أولى المشكلات التي تصدت لها الوزارة بشكل حازم هي مشكلة الدعم التي كانت تكلف الحكومة عبئا ترزح تحت ثقله ليس فحسب فيما يكلفها من بلايين الجنيهات التي كان ممكنا الاستفادة منها في عملية التنمية، وإما أيضا لأن الدعم كانت له آثاره الاجتماعية والسياسية الضارة التي أثرت تأثيرا غير مباشر في الأخلاقيات العامة وقيم المجتمع.
ولقد أمكن للوزارة في مدتها القصيرة المحددة أن توفر لميزانية الدولة مبلغا وصل إلى 18 بليون جنيه في عام واحد عن طريق مضاعفة سعر الرغيف مع تحسين نوعيته. والواقع أن الحكومة تتكلف شيئا في عملية التحسين سوى أنها قصرت استخدام القمح والدقيق المستورد من استراليا على المدن الكبرى، بدلا من محافظات الصعيد التي لها طرقها في صنع الرغيف الأسمر".

ويتحدث كمال حسن على عن مؤتمر القطاع الخاص الذي عقده في عهد حكومته فيقول:

" ونجح المؤتمر نجاحا فائقا في التعرف على المشاكل والعقبات التي تعترض القطاع الخاص والعمل على حلها وكان من المفاجئ لنا أن عدد المشكلات المطروحة وصلت غلى 113 مشكلة، تم رصدها في تسع مذكرات ضخمة. وقبل نهاية المؤتمر الذي استمر 3 أيام أمكن اتخاذ قرارات فورية لوضع الحلول لمعظمها ، أما المشكلات الباقية فقد أحيلت إلى لجان وزارية لدراستها وإعداد القرارات والتوصيات اللازمة لها.
غير أن أهم نتائج هذا المؤتمر كانت زيادة الثقة وتعميق المشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص، الأمر الذي رفه فيما بعد من الإنتاج ومن التصدير في مجالي الصناعة والزراعة، وخاصة بعد وضع خرائط استثمارية للمشروعات الزراعية والصناعية والسياحية."

ويتحدث عن حفاظه على الرقعة الزراعية فيقول:

" وفي إحدى جلسات مجموعة العمل أشرت بضرورة عمل مسح جوي لكل الأراضي الزراعية بالجمهورية بمقياس رسم 5000:1 وذلك لمراقبة أي تغير يحدث في شكل الأرض. ولقد كان هذا العمل من أفضل الحلول العملية، لأننا لو كنا أوكلنا مسح الأراضي الزراعية إلى نظام المسح الهندسي العادي لاقتضى تنفيذ هذا العمل عشر سنوات يكون قد ضاع فيها نصف مليون فدان زراعي على الأقل.
ولقد تم توزيع الصور الجوية على وكلاء وزارة الزراعة في المحافظات كمسئولين عن متابعة القانون أمام الوزارة. ومنذ ذلك التاريخ امتنع البناء المخالف وأغلق ملف المشكلة. وإن كان أعيد فتحه بعد تركي الوزارة بإجراء بعض التصالح تحت ضغوط خاصة".

كما يتحدث عن موقف وزارته من مشكلة تلوث البيئة فيقول:

" ولم تكن مشكلة تلوث البيئة إلا إحدى النتائج الفرعية لمشكلة السرطان السكاني، فكان هناك تلوث في مياه النيل، ثم تلوث الهواء في الشوارع وفي الأحياء السكنية المكتظة، ثم تكاثر القمامة في شوارع القاهرة وعلى شواطئ النيل وفي الأحياء المزدحمة والقرى وغيرها. ولقد لجأت الوزارة إلى فرض 10% إضافة على تذاكر السفر بالطائرات مع إنشاء صندوق خاص للصرف على مشكلات البيئة تحت إشراف مجلس الوزراء مباشرة".

بيد أن لو تأملنا إحساس مؤلف هذا الكتاب في كل من مناصب وقارنا إحساسه بالإنجاز في كل منها لوجدناه أكثر ما يكون سعادة بما بذل في جهاز المخابرات عنه في أي منصب آخر من المناصب الوزارية التي تقلدها بعد ذلك.

وقد نستطيع فهم هذا الشعور في ضوء أن العمل في هذا الجهاز كان عملا هادئا يتيح لصاحبه اللذة بإنجازه بعيدا عن السباق المحموم لأجهزة الإعلام، وهو السباق الذي عانى منه المغفور له الفريق أول كمال على حسن في كل خطوة يخطوها حين كان وزيرا للخارجية مثلا في أثناء مباحثات واشنطن

حيث يروي ذكرياته فيقول:

" حين نزلت مرة في الفندق خلال المباحثات في نزهة قصيرة على القدمين تبعدني عن الجو المحموم في الفندق. وقصدت محلا للأحذية وما إن غادرت الفندق حتى تابعني عدد من المراسلين ومندوبي التليفزيون فأعادوني إلى نفس الجو الذي كنت أحاول الهروب منه. وسمعت ضمن المتابعين مذيعا يصور بفرح هذه اللحظات الخالدة لانتهاء المباحثات إلى ابر الأمان والسلام وذلك بعد أن ظن المراسل أنني في طريقي للبيت الأبيض سيرا عل القدمين لتوقيع المعاهدة..

وأسرعت بالدخول إلى أول محل صادفني وكان محل قبعات.. فلم أجد مانعا من شراء غطاء لرأسي العارية ، ومن المحل اتصلت بالفندق وطلبت سيارة وصلت بالفعل لإنقاذي من هذا الموقف فلم أكن أنوي الإدلاء بأي تصريح من أي نوع، ناهيك عن التصريحات المخيبة لآمالهم التي كان يمكن أن تصدر عني في مثل هذه الفترة.

ولهذا فإن المغفور له الفريق أول كمال حسن على يتحدث بسعادة بالغة عن عمله وإنجازه في المخابرات في أكثر من موضع، ويكفينا أن نشير غلى واقعة استقباله للصحفيين في قلب جهاز المخابرات وتناولهم الغداء فيه ومرورهم على أقسامه وأجنحته.

أو اهتمامه مثلا بإنتاج الفيلم الذي عرف بعد ذلك باسم "الصعود إلى الهاوية" ، دعك من مشاركته لحسن التهامي في بدء الاتصالات بالجانب الإسرائيلي، ولكن الأروع من هذين في نظري ما يرويه عن النشاط الهام لجهاز المخابرات في متابعة الأمن الاقتصادي للبلد

حيث يقول:

" وأذكر أنه في عام 1977 انخفض محصول القمح والحبوب في الاتحاد السوفيتي غلى أدنى مستوياته، مما ينبئ بلجوئه إلى السوق العالمي لشراء ما يلزمه نظير الدفع بالذهب، كان العجز حوالي 12 مليون طن، لذلك كان من المتوقع زيادة الأسعار بقدر كبير حيث يخضع السوق العالمي إلى قاعدة العرض والطلب.
واتصلت بوزير التموين لسرعة التعاقد على الكمية المطلوبة وقتها وكانت مليون طن قمح، غير أن الاستجابة كانت من البطء بحيث بدأت الأسعار في الصعود، فلجأت إلى السيد ممدوح سالم رئيس الوزراء الذي أوصى بسرعة التعاقد، إلا أن الوقت كان قد فات واندفعت الأسعار إلى زيادة ما يقرب من 50 دولارا في الطن. وبعبارة بسيطة فقد خسرنا نتيجة لعدم تقدير قيمة هذه المعلومات وهذا التحلل حوالي 50 مليون دولار.
وكان الأمر يتكرر في العام التالي لولا تدخل الرئيس السادات بشخصه، الأمر الذي دعا إلى إصدار شركة اقتصادية كل 15 يوم توزع على كافة الوزارات والجهات المعنية، تشمل كافة المعلومات الاقتصادية المؤثرة على السوق العالمية وبالتالي على مصر.
لذلك لا يتوقف نجاح أي جهاز مخابرات في بلد ما على ما يحصل من معلومات وتحليلها بل يتوقف على مدى الاستفادة بهذه المعلومات في التوقيت المناسب ولا ينطبق ذلك على المعلومات العسكرية فحسب بل على كافة المعلومات كما رأينا في مثال القمح".

(14)

ويبدو مؤلف "مشاوير العمر" حريصا على أن يطلعنا على الجانب "الفني" في شخصيته في كثير من المواضع ولا شك أنه رجل مثقف إلى أبعد حدود الثقافة، ولكن هذا لا يمنع من أن ننقل للقاريء مع شيء من الدهشة حرصه على تصوير الموقف بأكمله على النحو

الذي نقرؤه في عبارته التالية:

" في مساء يوم الاثنين الموافق 29 أكتوبر 1956 كنت أجلس في مكتبي بنادي ليتوريو الإيطالي بشارع الهرم أراجع بعض البرقيات والخطابات الرسمية، وكانت موسيقى الفلامانكو الأسبانية التي أعشقها تصل إيقاعاتها الجميلة الواضحة إلى أذني من نافذة الغرفة التي أستطيع أن ألمح من خلالها الراقص العالمي المشهور ألفريدو األاريا وهو يؤدي إحدى رقصاته الثائرة الشريعة داخل ملهى أوبرج الأهرام الشهير المجاور للنادي الذي كانت قوات الاحتياطي الاستراتيجي قد احتلته ليصبح مركزا لقيادة هذه القوات" فهذه الفقرة غريبة تماما على سياق الكتاب كله.

(15)

وعلى الرغم من أن صاحب هذه المذكرات كان وزيرا للدبلوماسيين فإنه لا يجد حرجا في أن ينتقد شخصية كبيرة كالملك حسين بكل وضوح وكل علانية فيقول في معرض حديثه عن بدايات حرب يونيو 1967: " هذا ويقول بعض الكتاب السياسيين إن زيارة حسين كان لها هدف آخر غير ذلك . "

وهي الحصول على أكبر قدر معلومات ممكن من عبد الناصر عن نياته في هذه الحرب، وبالذات عن الضربة الأولى ومدى تعاونه المباشر مع السوريين في هذه الحرب، وهل ستكون مصر وحدها في الأيام الأولى من الحرب أم ستقوم سوريا بالهجوم على إسرائيل في ذلك الوقت؟ والدليل على ذلك أنه كان يسأل عبد الناصر أسئلة مباشرة حول هذا الموضوع

وعموما فإن أفضل ما يثبت الدور المشبوه للملك حسين من وراء هذه الزيارة أن تمت مقابلة سرية بين اللواء عماش والسفير الأمريكي بالأردن (في أول يونيو) طلب فيها بسرعة نقل الطائرات النفاثة المقاتلة (ف 104) وعددها 25 طائرة والتي سبق أن أرسلتها أمريكا للأردن - طلب نقلها بصفة مؤقتة من الأردن حتى تنتهي الأزمة

وهكذا وفر الملك حسين على نفسه ضربة جوية مسبقة من إسرائيل، وقد أخذ معه الفريق عبد المنعم رياض ليقود قيادة صورية جيشا بريا استغنى عن طائراته قبل المعركة فأي جيش هذا الذي سيقود عبد المنعم رياض ورئيس أركان حربه عامر عماش؟

ومما يرويه في موضع آخر في الهامش قوله:

" مما يذكر في هذا الصدد أن عيزر فايتسمان وزير الدفاع الإسرائيلي كان دائما يردد لي بعد توقيع اتفاقية السلام أن الملك حسين أخطأ مرتين: الأولى عندما اشترك في حرب عام 67 ففقد الضفة الغربية، والثانية حين لم يشترك في حرب عام 73 لاستردادها".

(16)

كذلك فإن مؤلف "مشاوير العمر" لا يجد حرجا في أن يعبر عن الجانب الإنساني من مشاعره تجاه السلام مع إسرائيل من وقائع حدثت أثناء معركة السلام يكرر روايتها في مشاوير العمر بعد أن كان قد رواها في كتابه السابق (محاربون ومفاوضون)

وذلك حيث يقول:

" حدث مرة أثناء إحدى جولاتي على القدمين مع عيزر فايتسمان في شوارع تل أبيب، وكنا في شهر رمضان أن اندفعت سيدة في الستين وعانقتني وقبلتني وقالت بارك الله فيك ثم فعلت نفس الشيء مع عيزر فايتسمان. والتقط المصورون هذا المشهد.
وأذكر أن الصورة نشرت في اليوم التالي في صحف الأردن تحت عنوان "قبلة في رمضان" .. ولا أشك لحظة في أن هذه السيدة هي أم فقدت زوجا أو ابنا أو شقيقا لها في الحرب، وأن ابتهاجها بالسلام هو الذي دفعها إلى ذلك، فقد وجدت في السلام شأنها شأن معظم الشعب الإسرائيلي خلاصا من حياة أفقدها الكره والعداوة طعم السعادة وقد سألتني مرة السيدة الصحفية "سميد أربري" مراسلة يدعوت أحرنوت عن ذكرياتي عن إسرائيليين أو مصريين أفقدتهم الحرب عزيزا لديهم".

وهذا الجانب الإنساني البسيط والعميق في آن واحد هو ما يجعل صاحب هذه المذكرات يعترف بصدق بالسبب الذي جعله يلتحق بالكلية الحربية في مطلع حياته فيقول:

"كنت أتمنى أن أصبح طبيبا بشريا خصوصا أن مجموعي كان عاليا يتيح لي الالتحاق بكلية الطب. ولكني أعتقد أني تأثرت وقتذاك بسلوك شقيقي طلعت الذي يكبرني بثلاث سنوات عندما ترك دراسة إعدادي الطب والتحق بالكلية الحربية وتخرج منها بعد عامين فقط.. إن التحاقي بهذه الكلية إذن سوف يتيح لي فرصة المشاركة في رعاية إخوتي الثلاثة الأصاغر
مما يخفف العبء عن هذه السيدة المصرية الصامدة التي صهرتها السنون في مشوارها اللاهث حتى صرنا رجالا.. ومن هنا كان قراري بالالتحاق بالكلية الحربية خاصة بعد توقيع معاهدة 1936 التي سمحت بزيادة حجم القوات المسلحة المصرية".

(17)

وعلى هذا النحو تمضي صفحات هذا الكتاب الممتاز الذي يندر أن يكتب كتاب مثله بهذا العمق والتقصي للحقائق على فترات طويلة.. فهذه المشاوير تمتد سبعين عاما، والرجل يكتبها كما عاشها بالعرض لا بالطول فحسب، ثم وهذا هو الأهم يقف دائما ليعدل من وجهات نظرنا تجاه كثير من المسلمات وأعترف أني كنت في كثير من الأحيان أصارح أصدقائي برأي لي في وعد بلفور

ولكني أكن لم أكن أجد الفرصة للمجاهرة به، فإذا بي وأنا أقرأ "مشاوير العمر" أجد مؤلفها يذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه، وليس هذا فحسب ولكنه يجاهر بما يعتقد على الرغم من أنه رجل دولة بينما أنا شاب حر.

يقول المغفور له الفريق أول كمال حسن على :

" كما كانت فجيعة بريطانيا عندما انقلب عليهم اليهود داخل فلسطين، وراحوا يلاحقون الضباط الإنجليز بالقتل والإرهاب وتعليق جثثهم فوق الأشجار، ثم كانت الطامة الكبرى عند نسف مركز رئاستهم الرئيسي لمنطقة الشرق الأوسط عام 46 في فندق الملك داود بالقدس ولذلك لم يكن عجيبا أن يكون يوم رحيل آخر جندي بريطاني من فلسطين هو نفسه أول يوم لاشتعال النار في المنطقة
والتي ظل أوارها لا ينطفئ لأكثر من أربعة عقود حتى الآن ومن العجيب أن هناك الآن من الإنجليز من يقول بأن انجلترا خسرت من وعد بلفور أضعاف ما خسره العرب منه بل هناك من اليهود من يردد نفس القول ولكن بصيغة أخرى..
فهم يقولون إن اليهود هم الذين خسروا من هذا الوعد بأكثر مما خسر العرب والإنجليز معا ولكي نفهم وجهات النظر الغريبة هذه ، علينا أن نستعيد الظروف التي صدر فيها هذا الوعد، ولكن من منظار آخر غير الذي درجنا على استيعابه. "

لقد أصدر هذا الوعد السير آرثر جيمس بلفور - الملقب بالفيلسوف - عندما كان الرجل يتولى وزارة خارجية بريطانيا (1916 - 1917) أثناء الحرب العالمية الأولي .. وكان الهم الشاغل للإنجليز في ذلك الوقت هو التغلب على خصمهم اللدود ألمانيا.

كان بلفور يدرك الأثر السيكولوجي الرهيب الذي سيصيب ألمانيا في مقتل إذا ما أصدر هذا التصريح في ذلك التوقيت الذي أعلنه فيه، لقد صرح الرجل بأن الإنجليز سيسمحون لليهود بإقامة وطن قومي في فلسطين، ومعنى ذلك أن الألمان اليهود لن تصبح ألمانيا هي وطنهم بعد الحرب بل فلسطين، إذن فليس من صالحهم أن ينتصر الألمان على أعدائهم الإنجليز حتى يتمكنوا من تنفيذ وعدهم.

وهكذا دق الرجل إسفينا حادا بين اليهود الألمان وبين وطنهم (أو وطنهم بالمولد). ولقد كان هذا التصريح كافيا لأن يحول خمسة ملايين يهودي أو أكثر في ألمانيا إلى خمسة ملايين طابور خامس مخرب لعجلة الحرب، أو على الأقل خمسة ملايين مواطن ينظر إليهم بعين الشك والريبة

فقد كانوا يعملون ضد صالح المجهود الحربي الألماني في مجالات المال والإنتاج والاقتصاد وفي ميادين القتال، بل ومن يدري كم منهم سيصبح جاسوسا يمد الحلفاء بكل أنواع المعلومات من أجل ذلك العداء بينهم وبين هتلر الذي كان "أونبائي" قبل هذه الحرب

ومن أجل ذلك لاحقهم بالاضطهاد والتنكيل وبمراكز الهولوكست في الحرب العالمية الثانية، وهكذا لحقتهم كل هذه المصائب بسبب وعد بلفور ومع ذلك عندما صدر وعد بلفور ليعطي اليهود الحق في إقامة وطن قومي في فلسطين، لم يكن في نية الانجليز أبدا أنهم سوف يتخلون يوما عن فلسطين ليقدموها هدية سائغة فزق طبق من فضة "لأحبائهم" اليهود.

ففي عام 1917 أي العام الذي صدر فيه الوعد لم يكونوا قد "حرروا" بعد فلسطين من أيدي العثمانيين، لقد فتحها اللنبي بحد السيف - كما يقولن - فهل كانوا يريقون دماء أبنائهم الزرقاء من أجل أن يهدوها لغيرهم من اليهود؟ إن فلسطين وقد غزاها الانجليز وأصبحت تحت انتدابهم يمكن أن تتسع لليهود والعرب معا (اتفقوا شاءوا أو اختلفوا)

المهم أن يتصاعدوا جميعا تحت الراية البيضاء لأوامر الحاكم العسكري الإنجليزي ومع ذلك فعندما قرر الانجليز الانسحاب من فلسطين في يوم 14 مايو 48 (أي اليوم السابق لدخول القوات العربية الحرب)، كان مهندسو الاستعمار البريطانيون متأكدين تماما أن الصراع الذي أوجدوه في المنطقة بين أهل المنطقة وبين الجسم الغريب الذي زرعوه بداخلها سوف يتيح لهم كل الفرص لاستنزاف واستغلال باقي مقدرات المنطقة من خامات وأسواق وقناة وبترول وموقع إلخ

بالإضافة إلى كل متوقعات مخطط بانرمان - الذي أفصحت عنه الوثيقة المشهورة المذاعة والتي أقل ما فيها من شرور هو فصل الجناح الشرقي الآسيوي عن الجناح الغربي الإفريقي للأمة العربية وإثارة كل ألوان النزاع والشقاق في جسمها حتى لا تقوم للعرب قائمة تحمل من المفاجآت ما لا يتحمله التاريخ الغربي مرتين.

(18)

وإذا كان هناك ملحوظة تؤخذ على أخطاء تاريخية في هذا الكتاب فهي ملحوظة واحدة تتعلق بتنصيب الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء عميدا لطب القاهرة في ص 516 وهو ما لم يحدث حتى الآن.

أما الملحوظة الأهم من هذا بكثير جدا فهي أن المغفور له الفريق أول بحكم (دبلوماسيته) قد أفلت من أن يتناول بقلمه وذاكرته بعض المواقف العامة التي كان لابد له أن يتناولها، فهو لم يتناول الشائعات التي أحاطت بحادث استشهاد عبد المنعم رياض رئيس الأركان على الرغم من أنه تناول الشائعات التي أحاطت بحادث استشهاد المشير أحمد بدوي

بل إنه يرو حادث الاستشهاد نفسه في 1969 وهو لم يبد أي رأي في خلفيات اغتيال الرئيس السادات نفسه على الرغم من أن السيدة جيهان السادات قد ألمحت في كتابها إلى أن مستوى تنظيم العرض في عهد المشير "أبو غزالة" لم يكن على مستواه في عهد المشير الجمسي.. وهكذا.

وكنت أتوقع من صاحب هذه المذكرات أن يتناول السياسيين المعاصرين له بقدر أكبر من التقييم، ولكنه اكتفى بتقدير المرحوم فؤاد محي الدين مرة بعد أخرى، وبانتقاد المغفور له الدكتور رفعت المحجوب في موقف واحد ولكنه موقف يبلور كثيرا من شخصيته عليهما رحمة الله.

الفصل الثاني:أوراق سياسية

للمغفور له المهندس سيد مرعي

(1)

بما كان سيد مرعي أبرز نموذج للسياسي المصري المعاصر الذي جمع بين مهارة السباحة ومهارة الصيد، فقد سبح سيد مرعي في بحر السياسة المصرية المعاصرة قرابة نصف قرن (بما في ذلك فترة المشاهدة الأخيرة)، ومع هذه السباحة حقق كثيرا من النجاحات التي اقتنصها بحكم مهارته وإن لم يكن راغبا فيها بقدر ما كان راغبا في صيد آخر

فقد كان مثلا طموحا غلى رئاسة الوزارة، ولكنه نال ما هو أرفع (بروتوكوليا) من هذه الرئاسة مما لم يخطط للوصول إليه (رئاسة مجلس الشعب والأمين الأول للاتحاد الاشتراكي ومساعد رئيس الجمهورية).

وسوف نتناول في هذا الفصل كتاب "أوراق سياسية " للمغفور له المهندس سيد مرعي الذي نشره المكتب المصري الحديث في 1978 ، ولكنني لا أستطيع أن أخفي على القاريء ما يعتريني من شعور بأننا نظلم سيد مرعي حين نعتبر هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة هو كل مذكراته السياسية

ذلك أنه قد نشرت له على مدى سنوات حكم الرئيس محمد حسني مبارك مجموعة هامة من الأحاديث والحوارات الصحفية في عدد من الصحف الكويتية، تتصل بحياته السياسية، وحين يتاح لهذه الأحاديث في المستقبل القريب أن تجمع في كتاب فإنها سوف تمثل مرجعا أغنى بكثير من "أوراق سياسية" وأكثر فائدة للمؤرخ المعاصر.

وفي تلك الأحاديث والحوارات المتصلة نجح صاحب هذه المذكرات في أن يتغلب على كثير من نواحي الضعف في مذكراته الأولى " أوراق سياسية" التي نتناولها هنا بالنقد والتحليل.. ولكنني مع هذا لا أستطيع إلا أن أذكر أن كتاب "أوراق سياسية" يظل بالنسبة لأدبيات السياسة المصرية والتاريخ المصري العربي المعاصر بمثابة الكتاب المعتمد عن رؤية صاحبه لتاريخ حياته، ذلك أن الرجل لم يقدم هذه الأحاديث والحوارات الأخيرة في كتاب للقارئ، وقد كان في وسعه أن يفعل.

ومع هذا فإني أحب أن أذكر للقارئ خلاصة ما كتبته في مقدمة كتابي عن سيد مرعي (وهو تحت الطبع، وربما يخرج إلى الوجود بإذن الله سبحانه وتعالى في وقت قريب من صدور هذا الكتاب الذي بين أيدينا) من أن هذا الرجل كان أكثر السياسيين المعاصرين جميعا حرصا على تهيئة نفسه للكتابة عنه

وقد قلت في هذه النقطة ما نصه

"... هيأ نفسه للكتابة عنه، وقد يظن القاريء أني أعني بهذا أنه نشر مذكراته، ولكن نشره لمذكراته لم يكن إلا عنصرا من عناصر كثيرة امتدت بفضل ذكاء هذا الرجل، ورغبته في الخلود (وهي رغبة حقيقية لا تتوفر للكثيرين) إلى وضع الكتب والتقارير عن وجهات نظره في كل مرحلة من مراحل حياته، ويندر أن تجد واحد من السياسيين جميعا قد انتبه إلى نفسه بهذا القدر الذي انتبه به هذا الرجل".

ولهذا السبب فإنني مضطر في كتاب يصدر في 1994 غلى أن أعرض كتابا نشر في 1978 أي منذ 17 عاما على حين أن مؤلف هذا الكتاب كان قادرا على أن يطور هذا الكتاب، بجزء رابع أو خامس أو بطبعة جديدة، أو بتأليف كتاب جديد أشمل وأكبر على نحو ما فعل كمال حسن على الذي ألف "محاربون ومفاوضون" ونشره مركز الأهرام للترجمة والنشر ثم سرعان (وسرعان هنا امتدت إلى حوالي خمس سنوات) ما وضع كتابه الأشمل والأعمق "مشاوير العمر" في 1994 وهو الكتاب الذي خصصنا له الفصل الأول من هذا الكتاب.

ولكتاب سيد مرعي قيمة تاريخية ولم ينافسها فيها كتاب آخر من مذكرات الوزراء سواء قبل الثورة أو بعدها، فإنه قد استطاع في فصول قليلة أن يضع أيدينا على كثير من الحقائق الهامة والخطيرة المتعلقة بمشكلة فلسطين، وقد جاء عرض سيد مرعي لهذه المشكلة سلسا ورائعا بقدر ما كان دقيقا ومعبرا

وعلى الرغم من أن هذا الحديث الممتاز جاء بعد الأوان (1978) إلا أنه جاء أيضا في وقت لا يقل أهمية حين كانت خطوات السلام قد بدأت تؤتي ثمارها، ولا نستطيع أن نشيد بكتابات سيد مرعي عن هذه القضية في مذكراته من دون أن نشيد بكتابة وزيرين آخرين عن هذه القضية هما الدكتور محمد حسين هيكل باشا في الجزء الأخير من مذكراته الذي خصصه بأكمله لقضية فلسطين

والأستاذ أحمد محمد فراج طايع أول وزير للخارجية في عهد الثورة في كتاب آخر ممتاز لا يقل امتيازا عن مذكرات الدكتور هيكل باشا أو سيد مرعي، وهو من الكتب النادرة في مكتباتنا، وقد وفقني الله إلى الحصول على نسخة منه تحمل توقيع مؤلفها مهداة منه إلى أحد زملائه الوزراء في ذلك الوقت.

أريد أن أقول إن الفقرات التي صور بها سيد مرعي أزمة فلسطين وتعاقبها كانت من أروع وأدق الصفحات التي كتبت عن هذه الأزمة، فقد صيغت بعيدتا عن الأيديولوجيات والتعبيرات النظرية، وتناولت الاستراتيجية بالعبارات التي يصعب جدا على النظريين والمنظرين الوصول إليها، بينما يسهل ذلك تماما على السياسيين الشعبيين من أمثال سيد مرعي الذي لم أجد أي حرج في أن يكتب في نهاية تقريره إلى رئيس الوزراء النقراشي باشا بكل صراحة وكل وضوح ما معناه أن فلسطين قد ضاعت من العرب.

ولمذكرات سيد مرعي قيمة أخرى أقل أهمية بكثير من حديثها عن مشكلة فلسطين ولكنها قيمة تنفرد بها هذه المذكرات بين مذكرات وزراء الثورة حين يتحدث صاحبها عن طبيعة الصراعات الحزبية قبل الثورة، وخذ مثلا على هذا حديثه عن مساعي ونشاط مرسى فرحات باشا زوج أخته حين أراد أن يضمن له دائرة العزيزية في انتخابات 1949

وكيف اصطحبه للقاء النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا وعلى الرغم من أن سيد مرعي روي هذه الوقائع في إطار انتقاده للأحزاب ونشاطها المحمود من أجل الحصول على الأغلبية والفوز في الانتخابات البرلمانية، إلا أن قارئ هذه الفقرات في يومنا هذا

سيجد مثل هذه الفقرات تحبب إلى نفسه هذا الجو الأرستقراطي اللطيف من النزاع ذي القواعد والأصول والشكليات الرائعة، وهذه ميزة أخرى للصدق الفني في الرواية حين في الرواية حين تختلف مشاعر المتلقين لنفس الرواية مع اختلاف الزمان والظروف.

فإذا جاز للمرء أن يجيب على سؤال بريء لشاب لا يملك إلا ثمن جزء واحد من هذه المذكرات أو لا يملك من الوقت إلا حصة محدودة لقراءة جزء واحد من الأجزاء الثلاثة وسأل أي الأجزاء اختاره له، فإني أقترح عليه الجزء الأول ثم الجزء الأول ثم الجزء الأول.

(3)

تتميز هذه المذكرات بقدرة صحيفة عالية على إدارة الحوار بين الشخصيات التي تتناولها المذكرات، فليس هناك قصة إلا قام كاتب المذكرات بمسرحيتها تماما، ولا أعتقد أن في هذا ما يعيب المذكرات، كما أني لا أعتقد أن في هذا ما يرتفع بقدر هذه المذكرات، ولكنه على أية حال يميز هذه المذكرات.

أما الإنجاز الأكبر في هذه المذكرات فهو أنها غطت فترات زمنية طويلة (حوالي 30 عاما) ولكن صاحبها لم يكتبها بروح الغد، وإنما كتبها بروح الماضي القريب ولهذا السبب فأنت تراه يؤصل جذورا للصراع بينه وبين على صبري مع أن الأمر لا يستأهل هذا التأصيل، كما تراه في بعض المواقف يتعمد تبرئة نفسه أمام الناس بالدفاع على حين أنه كان يستطيع الهجوم المركز لتحقيق هذه لتبرئة.

ومع هذا الخلق نراه حريصا على تقسيم المذكرات إلى ثلاثة أجزاء على أن حجمها كان يسمح بنشرها في جزء واحد، ولكنه أراد أن يقسم حياته نفسها إلى هذه الأقسام الثلاثة، رغم أننا لا نراها تنقسم هذا التقسيم التحكمى ولا أول التعسفي.

أما أهم ما نفتقده في هذه المذكرات فهو الحديث بشيء من التفصيل عن الحياة السياسية في جانبها الذي يكون في الكواليس، وفي هذه المذكرات عينة من هذا الحديث المطلوب فيما رواه صاحبها عن صراعات في انتخاب اللجنة التنفيذية العليا قي 1968 أو قبيل 15 مايو، ولكن كاتب هذه المذكرات كان معنيا بما كان يشغل الرأي العام المصري في تلك الفترة فحسب، وقد كان في وسع المغفور له المهندس سيد مرعي أن يدلنا على كثير من المناقشات الهامة قبيل توقيع اتفاق الوحدة مع سوريا، أو في أول عهد الثورة.

ومن أمتع الصفحات في هذا الكتاب تلك التي يتحدث فيها مؤلفها عن معايير وزارة التخطيط التي كانت تطبقها على إنجازات الوزارات المختلفة، أو عما تكرر بصورة أخرى من تولى الدكتور حلمي مراد كتابة تقارير عن إنجازات الوزارات فيما يتعلق ببيان 30 مارس.

على هذا النحو نستطيع أن نقدر لكاتب هذه المذكرات اهتمامه بالرأي العام بأكثر من اهتمامه بالتاريخ، واهتمامه الخاص أكثر من اهتمامه بالتاريخ العام، ولهذا فإن التاريخ العام لن يعول كثيرا على هذه المذكرات في كتابة تاريخ هذه الفترة، ويبدو أنه لم يكن يمهد نفسه لكتابة هذا التاريخ في المراحل المبكرة من حياته حين كان شأنه شأن كل مواطن من أبناء مصر لا يعرف ما سيفعل في الصباح القادم وماذا سيفعل به.

لهذا فإن صاحب هذه الأوراق انتهز فرصة إلحاح الناس عليه في أن يكتب حين بدأ الناس يكتبون ما كان الناس يريدون قراءته لا ما كان هو حفيا بكتابته، ولهذا فإن "أوراق سياسية" كما قدمنا في الفقرة الأولى من هذا الفصل لا تمثل إلا المذكرات التي كان صاحبها يجب أن يطالع بها القاريء المصري في 1978.

(4)

وسوف ننقل للقارئ عن كتاب "أوراق سياسية" بعضا من الفقرات التي روى بها صاحبها بعض المواقف التي مر بها في حياته السياسية مع الاحتفاظ للقاريء بحق التحفظ القائل بأن هذه وجهة نظر الرجل، وأن هناك وجهات نظر أخرى للذين كانوا بمثابة الأطراف الأخرى في المواقف

ولكن رواية سيد مرعي تعطينا فكرة كاملة عن تقديره لنفسه وعن الصورة التي كان يريد أن يظهر بها أمام الناس في 1978، وهذه نقطة مهمة جدا وبخاصة في حق واحد من السياسيين الذين استغرقهم العمل في فترة الحكم الشمولي حين كان من حظ السياسيين أن يصوغوا أفكار الجمهور عنهم من خلال علاقتهم القوية بوسائل الإعلام.

وسوف نجد صاحب هذه المذكرات حريصا على أن يلصق بنفسه كثيرا من الصفات التي تترفع به عن المعترك السياسي، وليس صعبا على القاريء أن يستنبط من روايات المؤلف نفسها جوانب أخرى من الحقيقة أراد صاحب المذكرات أن يتجاهلها ولو إلى حين.

يروي مؤلف "أوراق سياسية" قصة توليه وزارة الزراعة فيقول:

" في أحد الأيام في أكتوبر 1957، كنت موجودا في مجلس الأمة. وفي أثناء الاجتماع وجدت على صبري، كان وزير دولة لشئون رياسة الجمهورية في ذلك الوقت- يناولني ورقة صغيرة مكتوبا فيها رسالة موجهة لي
تقول: " اتصل بي الرئيس جمال عبد الناصر وأبلغني أن منظمة التغذية والزراعة تتمسك بتعيين الدكتور عبد الرازق صدقي مندوبا لها في مصر وأن الرئيس يرى أن تتولى وزارة الزراعة إلى جانب عملك كوزير دولة للإصلاح الزراعي، وكان مضمون الرسالة مفاجأة غير متوقعة وقلت لعلي صبري: إن هذا العرض في حاجة إلى التفكير ويمكن أن نبحثه بعد الاجتماع.
وفعلا جلست معه على انفراد في المجلس وأخذت أدرس المسألة من كافة جوانبها وأبديت عدة تحفظات على قبول هذه المهمة الجديدة وكان رأيي- أن الإصلاح الزراعي يأخذ كل وقتي وجهدي ولا يترك لي مجالا لكي أقوم بأي نشاط آخر.. إن وزارة الزراعة تعتبر أيضا مسئولية صعبة ولا يستهان بمشاكلها المتراكمة..
أيضا كانت هناك عقبة أساسية جعلتني أحجم عن قبول وزارة الزراعة وهي: مديرية التحرير.. وكان وزير الزراعة بحكم منصبه يعتبر مسئولا- شكلا فقط- عن هذه المديرية باعتباره رئيس مجلس إداراتها.. ولكن "مجدي حسنين" كان في الواقع هو المسئول الحقيقي عنها والمتحكم فيها.. وأوضحت لعي صبري دوافع اعتذاري عن عدم قبول وزارة الزراعة وقلت له: أرجو أن تبلغ الرئيس ظروف وأسباب اعتذاري عن هذا المنصب..
وفي نفس الوقت اعتزازي بهذه الثقة من جانبه، أتوقف هنا قليلا لكي أوضح ما كان يدور في ذهني خلال تلك الفترة: كنت قد قرر ألا أستمر طويلا في الوزارة وأكمل هذه المرحلة وأخرج نهائيا، لأن شكل العمل في الإصلاح الزراعي بدأت تتغير ملامحه وأخذ الروتين يزحف بالتدريج إليه نتيجة ربطه بالحكومة
وكان الدخول إلى هذه المسئولية - في حد ذاته مغامرة غير مأمونة العواقب خصوصا وأنني كنت معترضا على إنشاء مديرية التحرير - في هذه البقعة من الصحراء - وكانت وجهة نظري: أنها بالوعة من الرمال المتحركة، وقلت لنفسي: سوف تشرب هذا المقلب إذا قبلت وزارة الزراعة، كيف أتصرف مع المسئولين عن هذه المديرية وكيف أتعامل معهم..
وضميري لا يرى عما يجري فيها؟ في اليوم التالي دعاني الرئيس عبد الناصر للغداء معه، وكان على صبري قد أبلغه برفضي لوزارة الزراعة، وذهبت إلى بيته في منشية البكري ووجدت هناك المشير عبد الحكيم عامر ، ودارت أحاديث عادية ولم يفتح الرئيس الموضوع ولم يشر إليه
وبعد أن انتهينا من تناول الغداء في الصالون نحن الثلاثة وحدنا، التفت إلي المشير عامر وقال لي فجأة: هل يجرؤ إنسان في مصر أن يعترض على قرار يصدره مال عبد الناصر؟ وفهمت على الفور مقصده.. وقلت له: لا طبعا.. هي المسألة مش رفض أو اعتراض على قرار.. إنما هي مسألة هل الإنسان يستطيع القيام بالعمل المطلوب منه أو لا يستطيع؟
قال لي عبد الحكيم عامر: ما توضح كلامك، إيه المسألة بالضبط؟ فقلت له: في الحقيقة هناك اعتباران جعلاني أعتذر عن عدم قبول وزارة الزراعة.. الأول انشغالي بالإصلاح الزراعي والثاني - وهو الأهم - وجود مديرية التحرير وتدخل الرئيس عبد الناصر في الحديث وقال لي: طيب نشيل مديرية التحرير من وزارة الزراعة، إذا كانت دي هي المشكلة ولم يعد لي حجة أخرى
فقبلت له: وأنا أقبل وزارة الزراعة على هذا الأساس ورغم أن الإصلاح الزراعي كان يأخذ كل اهتمامي إلا أن الرئيس جمال عبد الناصر أصدر قرارا في 3 نوفمبر سنة 1957 بأن أصبح وزيرا للزراعة أيضا بالإضافة إلى مسئوليتي عن الإصلاح الزراعي
ونفذ الرئيس عبد الناصر وعده فورا وانفصلت مديرية التحرير وتحولت إلى هيئة مستقلة تتبع رئيس الجمهورية وليس لي دخل بها، وهكذا أصبحت وزيرا مسئولا عن وزارتين- الزراعة والإصلاح الزراعي- على مدى أربع سنوات كاملة".

انتهت رواية المغفور له سيد مرعي لقصة توليه وزارة الزراعة، وها أنت تدرك من قراءة الفقرات السابقة أن الرجل كان مرحبا بهذا المجد بلا شك، ولكنه مع ترحيبه كان حريصا على ألا يخوض صراعا مع مجدي حسنين بنفوذه، وربما كانت الحقيقة أنه قال لعبد الناصر إنه لا يستطيع أن يرأس مجدي حسنين أو إنه لا يجوز أن يرأس مجدي حسنين فكان هذا الحل.

(5)

ويروي صاحب المذكرات في كتابه "أوراق سياسية" (صفحة 428 وما بعدها) قصة استبعاده من تولي منصب وزير الزراعة في أوائل الستينات فيكتب لنا من خلال انطباعاته عن هذه القصة وصفا تفصيليا دقيقا للصراع النفسي الذي يمر به أمثاله من الوزراء حين يعلمون بخروجهم من الوزارة قبل هذا الخروج، كما يطلعنا على الانعكاسات الوقتية لهذه القرارات الوقتية على الأصدقاء والمقربين، وهي فقرات مشذبة الأطراف ولكنها صادقة التعبير

فلنقرأ معا عبارات صاحب المذكرات حيث يقول:

" كان موضوع الاجتماع هو التشكيل الوزاري الجديد، وعندما جاء الدور للحديث عن القطاع الزراعي اقترح على صبري اسم عبد المحسن أبو النور - مدير المخابرات السابق - ليكون نائبا له ووزيرا للزراعة. وأيد عبد الحكيم عامر الاقتراح قائلا إنه يبدو أن عبد المحسن أبو النور قد بذل مجهودا في إعداد طائرات الرش أثناء المرحلة الأخيرة من كارثة دودة القطن.
وتساءل الرئيس جمال عبد الناصر: ولماذا لا ترشحون سيد مرعي؟ قال عبد الحكيم عامر: إن سيد مرعي لم يعد يصلح لهذا العمل بعد كارثة الدودة. وتساءل الرئيس من جديد: ولكن أحمد المحروقي هو الذي كان وزيرا تنفيذيا للزراعة فهل سيستمر في العمل هو الآخر؟
قال على صبري: إن المحروقي لا ذنب له.. والمسئولية كلها هي مسئولية سيد مرعي، رد الرئيس جمال عبد الناصر: ولكن المعلومات التي تأكدت منها بنفسي تبين أن المحروقي هو المسئول، وبالتالي فهو الذي يجب أن يخرج من الوزارة، وسيد مرعي يستمر، رد عبد الحكيم عامر: إذن، ممكن نقبل ترشيح على صبري لعبد المحسن أبو النور كنائب لرئيس الوزراء لقطاع الزراعة والري، ونخلي سيد مرعي وزرا للزراعة.
تساءل جمال عبد الناصر: وتفتكروا أن سيد مرعي يقبل؟ رد عبد الحكيم عامر: لو أنت جئت به وتحدثت أنت معه، فإنه سوف يخجل منك ويقبل الترشيح، قال جمال عبد الناصر : وهل يستمر إنسان في عمل، بناء على خجل؟
ثم أنا لا أتوقع – بغض النظر عن حكاية الخجل - أن يقبل سيد مرعي هذا الوضع، وعلى أي حال، فطالما أنكم متمسكون بعيد المحسن أبو النور إذن فليأت .. واختاروا وزيرا آخر للزراعة غير المغفور له سيد مرعي وغير المحروقي. وفعلا جاء على صبري بالدكتور شفيق الخشن، عميد كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية وقتها، ليكون وزيرا للزراعة، وأصبح عبد المحسن أبو النور نائبا لرئيس الوزراء للزراعة والري والإصلاح الزراعي".

ويعقب صاحب هذه المذكرات فيقول:

" تلك هي القصة التي عرفتها فيما بعد من صديق كان حاضرا الاجتماع ولكن في تلك اللحظة التي طلبني فيها على صبري كان عندي صديقي الفار، لم أكن أعرف شيئا من هذا بعد، وبالتالي فإنه عندما أبلغني بعدم وجودي في الحكومة الجديدة، تملكني شعوران متضادان من السعادة والاكتئاب.
لم يكن الاكتئاب حزنا على منصب وزاري.. فهموم هذا المنصب لا يعلمها إلا من يجربها، ولكن الاكتئاب كان بسبب تلك الحملات المستمرة من التشهير، والتجريح التي كانت قد بدأت ضدي في الأشهر الأخيرة، في ظل وجودي في الوزارة أستطيع على الأقل أن أعرفها وأرد عليها، أما خارج الوزارة ، فربما لن أعرفها وربما أيضا لن أتمكن من الرد عليها.
أما السعادة فبسبب أنني كنت في الفترة الأخيرة قد وصلت إلى درجة من "القرف" والغثيان مما يقال ضدي إلى الدرجة التي جعلتني أقول: فليذهب المنصب إلى الجحيم، فربما كان وجودي في الوزارة هو أحد الأسباب الدافعة إلى ترويج تلك الإشاعات، هكذا يصبح خروجي من الوزارة مهدئا لهؤلاء المنطلقين ضدي.. خصوصا وأن التجريح كان قد بدأ يمتد إلى المعاونين الذين يعملون معي في قطاع الزراعة.
وهكذا إذن أغلقت سماعة التليفون بعد انتهاء مكالمة على صبري- رئيس الوزراء الجديد- معي لكي أنقل الخبر إلى أصدقائي على مائدة العشاء. وخيم على مائدة العشاء وجود كامل بعدها بلحظات بدأ الأصدقاء يفسرون سبب وجومهم.
إن المسألة الأساسية كما يرونها هم، هي أن خروجي من الوزارة يأتي في وقت غير مناسب، حيث لم تحسم حقيقة الإشاعات المترددة ضدي، وحيث لا يعلم أحد في مصر براءتي منها سوى الرئيس جمال عبد الناصر وعدد قليل جدا من الأصدقاء والمعاونين ولأن الناس سوف تربط بين خروجي من الوزارة وبين كارثة القطن قبل شهور قليلة، ولن تتأتى لي أبدا فرصة الإدلاء علنا بالحقيقة.
وانتهت الليلة عند هذا الحد، وفي اليوم التالي أذيع التشكيل الوزاري ثم - كما هو متوقع طبعا - بدأت أتلقى (التعازي) من الذين يزوروني في المنزل.. وفي اليوم الأول كان منزلي لا يتسع للزائرين من كبار موظفي وزارة الزراعة وعمال الإصلاح الزراعي، بعضهم انفعل، وبعضهم بكى، مما هزني نفسيا فعلا

ولكنني كنت أقول لهم إن المناصب الوزارية هي مناصب سياسية وإن هذا التغيير لا يعني أي شيء وإن التفاتهم لعملهم سوف يجعلهم محل تقدير وثقة من الوزير الجديد، وأي كلمات عامة بالطبع أداري بها الحرج النفسي الحقيقي الذي أشعر به، ولكي أحلهم من واجب المجاملة الذي أعلم تماما أنهم سيدفعون ثمنه فيما بعد. بعد أيام بدأ الزوار يتناقصون، بعد أسبوع أصبحوا يعدون على أصابع اليد الواحدة".

(6)

ويحكي صاحب "أوراق سياسية" عن معاناته من الشائعات التي لاحقته حتى قبل خروجه من الوزارة وكيف أصبح يعاني صراعا نفسيا عميقا من جراء الشائعات التي تمسه دون تحقيق .

ومن صفحة 438 وما بعدها (من أوراق سياسية) ننقل عن المغفور له المهندس سيد مرعي قوله:

"وطلبت مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر، فلم أتلق ردا، بعدها هداني تفكيري إلى أن أبادر أنا بطلب التحقيق معي لقطع ألسنة من يتحركون ضدي في حملة تشهير واسعة ومنظمة لا أستطيع أبدا معرفة مصدرها على وجه الدقة
وذهبت إلى زميل في الوزارة، أحمد حسني وزير العدل، واجتمعت به في حضور المهندس أحمد عبده الشرباصي وزير الأشغال، وقلت لأحمد حسني: إن ما يحدث الآن في قطاع الزراعة وإصلاح الأراضي هو تخريب، وأنا وزير مركزي للقطاع كله جالس أتفرج، با والإشاعات تتناولني شخصيا بالتجريح وبطريقة لا يمكن أن يقبلها إنسان، إن إحساسي هو أن جهة ما أو أشخاصا ما في هذا البلد حريصون على جرجرة سيد مرعي إلى أي شيء للتشهير به
قاطعني أحمد حسني، وكان رجلا هادئا ورزينا ونزيها جدا، وقال: اهدأ.. اهدأ.. فالمسألة لا يمكن أن تكون بهذا الشكل، وفي النهاية نحن لدينا قضاء في غاية النزاهة، قلت لأحمد حسني: كيف أهدأ وأنا أرى أمامي خيوط مؤامرة للإيقاع بي شخصيا؟ تساءل أحمد حسني بهدوء واستسلام: إذن ماذا تقترح على أن أفعله؟ قلت: تستطيع أن تفعل شيئا مؤكدا، هو أن تحقق معي، رد أحمد حسني: كيف هذا؟
أنت وزير، وأنا لا أستطيع حتى أن آخذ أقوالك في شيء لم ينسب رسميا ، قلت: لا ، إنك تستطيع .. وتستطيع ذلك بإحدى طريقتين.. إما كشاهد وإما كمتهم، وأنا لا تعنيني الصفة ولا الإجراءات، ولكن يعنيني أن تتضح الحقيقة وتخرس الألسنة..
ورفض أحمد حسني مجرد الفكرة، ولكن أحمد عبده الشرباصي انضم إلي في ضرورة أخذ أقوالي بأي صورة حسما للأمر كله، واضطر أحمد حسني أن يذعن لإلحاحنا- الشرباصي وأنا- فقال لي في النهاية: طيب، لا مانع من ذلك، ولكن يجب أولا أن أستأذن ، الرئيس جمال عبد الناصر، وبعد أيام اتصل بي أحمد حسني وأخبرني بأنه استأذن الرئيس وأن الرئيس قد وافق
وأنه بالتالي سوف يرسل لي رئيس نيابة في الوقت الذي أحدده لكي يأخذ أقوالي. وفي اليوم التالي جاءني رئيس النيابة في المساء لكي أدلي إليه بكل أقوالي عنت موضوع السمنة واستصلاح الأراضي.
وقال لي رئيس النيابة: سيادتك وزير مركزي للتخطيط ، فهل يجوز أن تتدخل في عملية تنفيذية كالأمر بشراء ماكينات لاستصلاح أراض جديدة؟ وكان ردي هو: إن هذا السؤال يجب أن يوجه إلى الرئيس جمال عبد الناصر نفسه الذي أرسل إلى خطابا مكتوبا يكلفني فيه بمساحة محددة يجب استصلاحها وفترة محددة يجب أن يتم فيها ذلك، وتفويض محدد في إنجاز هذا العمل
قال المحقق: يقال إنك وجهت المسئولين عن التنفيذ إلى شراء ماكينات من السوق المحلي، أليس هذا تقييدا لشروط العطاءات، والتي يجب ألا تكون مقيدة؟ قلت : لا طبعا.. إنما أنا لم أتدخل في أي شيء سوى إعطاء هذا التوجه العام، لأنهم لو انتظروا إلى حين ورود عطاءات من الخارج والبت فيها ثم تحويل النقد الأجنبي اللازم لها ثم استيرادها..
فإن الأمر سوف يستغرق زمنا طويلا يجب على أن أختصره لهذا أنا طلبت - تحقيقا للسرعة - أن يتم شراء الماكينات من السوق المحلي.. وباقي التفاصيل وعملية الاختيار والبت والتنفيذ، تركتها للوزير التنفيذي وللمسئولين أنفسهم بغير أن يكون لي بها أدنى علاقة".

وهكذا يمضي صاحب المذكرات في تفنيد الإشاعات التي أثيرت ضده وأنت ترى أو تستطيع أن ترى أن الموضوع كله كان على مستوى الستينات حين كان أقصى ما يمكن أن يتصوره المرء لمخالفات الوزير المسئول المسنود أن يأمر بشراء شيء من السوق المحلي دون أن يترك الفرصة للمستوردين أن ينافسوه.. ولو قرأت بقية الصفحات لترحمت على تلك الأيام وإن كان سيد مرعي نفسه لا يريد لك أن نترحم عليها، وإن كنا من هذه النقطة : تترحم عليها وعليه بلا شك.

(7)

كذلك يحكي مؤلف "أوراق سياسية" قصة ترشيحه للعمل في بنك مصر ثم عمله عضوا منتدبا له ويصف هذه الفترة بأنها من أسعد فترات حياته (صفحة 458 وما بعدها من أوراق سياسية) وسوف نطلع القاريء على هذه القصة التي تبين لنا بطريقة غير مباشرة ثلاث زوايا لموقف حكومة الثورة والنظام الشمولي من البنوك والمؤسسات الاقتصادية، وموقف الساسة منها وموقف البنوك نفسها من الحكومة والساسة

يقول سيد مرعي:

" استدعاني رئيس الوزراء على صبري لمقابلته في مكتبه بقصر القبة.. وفي بداية المقابلة بادرني على صبري بتوضيح شيء جوهري.. قال يجب أن تعرف مبدئيا أنني مكلف بتوجيه بعض الأسئلة إليك وأن الإجابات التي ستقولها حرفيا إلى الرئيس جمال عبد الناصر
أولا: هل أنت متعاون مع النظام أم لا ؟ واندهشت جدا من السؤال فقلت: طبعا متعاون مع النظام، قال عل صبري: إذن هل ترفض العمل في بنك من البنوك؟ قلت .. نعم تساءل على صبري: لماذا ؟ قلت: لأنه ليس مجال عملي أو تخصصي
قال على صبري: ولكن كيف تقرر أنك متعاون مع النظام وفي نفس الوقت ترفض مسئولية يعرضها عليك الرئيس جمال عبد الناصر، وأحسست أن هناك عدم اقتناع كامل بالسبب الوحيد المقنع الذي قدمته بإخلاص. فقلت متسائلا: أولا: أنا خارج لتوي من حملة ضخمة للتشهير ضدي ولا أتحمل مثل هذه الشكوك في ولائي أو عدم ولائي للنظام. ثانيا: ما هو المنصب أساسا الذي تريدونني فيه؟ قال على صبري: الرئيس يرشحك رئيسا لمجلس إدارة بنك مصر، تساءلت: بدلا من من؟
قال: بدلا من محمد رشدي، قلت مذعورا: أبدا، هذه بالذات لا يمكن وأرجو أن تتفهموا عذري في هذه المرة.. إن محمد رشدي هو ابن المرحوم رشدي بك الذي كان جارا لنا في العباسية، ولم يكن يفصل منزله عن منزلنا سوى متر واحد وكان رشدي بك صديقا جدا لوالدي عندما كان يزور والدي في منزلنا كنا أطفالا ولم نكن نجرؤ على المرور أمام الحجرة التي يجلسان فيها، وبالإضافة إلى ذلك فإن محمد رشدي نفسه كان صديق الصبا لأخي محمد الذي مات غريقا في العزيزية.
احتار على صبري قليلا ثم تساءل: إذن ما العمل؟ قلت: هل هناك شيء ضد محمد رشدي؟ أحاب : لا ، قلت إذن ما رأيك في أن أكون أنا عضوا منتدبا للبنك، ويظل هو رئيسا لمجلس الإدارة، هذا إذا كانت وظيفة العضو المنتدب شاغرة. وطلب على صبري من سكرتيره أن يتحرى الأمر، وبعد دقيقتين ردوا عليه بأن للبنك عضوين منتدبين، أحدهما أحمد فؤاد
وهناك مكان آخر شاغر، قلت له على الفور: حسنا، إذن أنا اقبل العمل كعضو منتدب، تساءل هو مندهشا : ولكن كيف تقبل هذا؟ قلت: إني أقبل هذا، لأن الشخص الوحيد الذي أقبل أن يدق جرسا ويقول نادوا لى المهندس سيد مرعي، وأنفذ له هذا عن طيب خاطر هو محمد رشدي
وفعلا بعد يومين أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرارا جمهوريا بتعييني عضوا منتدبا لبنك مصر، ولم أكن أعرف بعد أن فترة عملي بالبنك سوف تكون من أسعد فترات حياتي.. لقد بدأت عملي الجديد هذا، وسط أناس أحبهم وأرى البساطة والصدق في مشاعرهم، ابتداء من محمد رشدي نفسه إلى أصغر موظف بالبنك
وبالإضافة إلى هذا فإن طبيعة عمل البنوك تجعل سير العمل فيها منتظما جدا، والإجراءات تسير في سهولة ويسر، بحيث إن الوظائف الرئاسية تكون فعلا متفرغة لما هي موجودة من أجله، وهو التخطيط والمتابعة".

(8)

قد لا أكف عن التعبير عن اعتقادي أن من أهم الإجراءات التنظيمية التي تظهرنا اليوم وغدا وبعد غد على قدرة صاحب "أوراق سياسية" الرائعة ونفوذه الواسع وحنكته السياسية أن نرى قطاعين كبيرين من أجهزة الدولة يخضعان لوزارتي الزراعة والإصلاح الزراعي على حين لا تخضع القطاعات المناظرة لهما للوزارة المناظرة أبدا..

هذان القطاعان هما بنك التنمية والائتمان الذي يتبع وزير الزراعة على حين أن كل البنوك تتبع وزير الاقتصاد (حتى وإن حدث بعد فترة طويلة أن تبعت بعض البنوك لوزارات أخرى كبنك ناصر أو بنك التعمير والإسكان) والجمعيات التعاونية الزراعية التي تنفرد دون عن الجمعيات كلها بالخروج من تبعية وزارة الشئون الاجتماعية لتتبع وزارة الزراعة.. وسنرى كيف استطاع تحقيق هذين الانجازين فيما يرويه من مذكراته

حيث يقول:

" .. وكنت قد بدأت خطوتين هامتين - حتى من قبل أن أصبح وزير دولة - وواصلت العمل من أجلهما في موقع المسئولية كوزير، وكان لهما تأثيرهما على ثبات الإصلاح الزراعي ورسوخ أقدامه:
أولاهما: أن الجمعيات التعاونية تكون تابعة للإصلاح الزراعي وليس لوزارة الشئون الاجتماعية- وقتها- وكانت هناك معارضة في هذه الخطوة التي تكمل حلقة الإصلاح الزراعي وتمسكت برأيي ووقف جمال عبد الناصر بجانبي وأيد وجهة نظري ونجحت في تحقيق هذا الهدف..
ثانيتهما: أن بنك التسليف الزراعي يجب أن يضم إلى الإصلاح الزراعي ولا يكون تابعا لوزارة المالية، وحدث خلاف بيني وبين الدكتور عبد المنعم القيسوني- لكن الذي كنت أخشاه وأعمل حسابه من ربط ميزانية الإصلاح الزراعي بميزانية الدولة شكلا وموضوعا-
حدث فيما بعد حينما خرجت من بعدي وكانت سياسته نموذجا لأخطاء "أهل الثقة" لأنه أراد أن يكتسب شعبية في أجهزة الإصلاح الزراعي وبالتالي تم تثبيت جميع العاملين على درجات طبقا للباب الأول والباب الثاني والباب الثالث بصرف النظر عن كفاءاتهم وقدراتهم وخبراتهم..
وحدثت "هوجة" الترقيات والدرجات.. وانقلب الإصلاح الزراعي إلى وزارة تحكمها البيروقراطية ويتحكم فيها الروتين.. وخذوا نموذجا واحدا صغيرا عندما تركت الإصلاح الزراعي كان عدد الموظفين القائمين بالعمل لا يتجاوز ألفي موظف، ولمن هذا العدد تضخم وتضاعف في عهد عبد المحسن أبو النور ولم يعد هناك أي ضابط ولا رابط للعمل والإنتاج- مثل ما حدث في معظم مرافق مصر ومؤسساتها وكان قلبي يقطر بالأسى والألم على جهد السنين الضائع في الهواء".

(9)

من الطريف أن سيد مرعي كان حريصا على أن يفرد صفحات طوالا للحديث عن دوره في إنشاء ما نعرفه الآن باسم مصيف "المعمورة"، وكيف أن أرضها كانت في الأصل ملكا للإصلاح الزراعي. وكيف كان حزينا على خروجها من تحت يده ثم كيف جاءته لاستردادها وهو يتولى وزارة المالية على سبيل النيابة أثناء غياب الدكتور القيسوني، يقول سيد مرعي (ونحن نقتطف لك الفقرات ولا نسردها كلها).

".... ثم جاءني حسن عباس زكي (وكيل وزارة المالية في ذلك الوقت ووزير الاقتصاد والمالية فيما بعد) ذات مساء لكي يعرض على مشكلة جديدة قائلا: البنك التجاري مهدد بأن يفلس . قلت: والمانع، قال حسن عباس: .. لكن يا فندم منظر بنك يملكه يهودي أجنبي، وبعدين يفلس بمجرد ما يمسكه مصري.. ده منظر يسيء لنا جميعا.. فكرت قليلا ثم قلت.. إذن.. ما هي طلباتك؟

قال: إن ما أطلبه هو قرض ربع مليون جنيه للبنك.. قلت مذعورا.. منين؟ رد قائلا.. من وزارة المالية. لم أتحمس للفكرة، فالمشكلة بهذا الحجم لابد أن أن تنتظر عودة الدكتور القيسوني ولكن ، نظرا للقلق الذي كان يسيطر على حسن عباس زكي ، وخشيته من أن يسرقه الوقت ، فإنني بدأت أبحث عن طريق ينقذ البنك الذي تم تمصيره من الإفلاس .

وسألته إذا كان للبنك أوراق مالية .. فلماذا لا تبيعونها في البورصة ؟ قال : نعم .. لدينا أوراق مالية .. ولكن ليس أمامها سوق في البورصة .. قلت إذن .. هات لي محفظة الأوراق المالية للبنك ونبحث المشكلة بالتفصيل مساء غد . وفي اليوم التالي جاء حسن عباس زكي بمحفظة الأوراق التجارية للبنك التجاري فوجدت من بينها الورق الخاص بأرض المعمورة وهو الموضوع الذي كنت قد نسيته تماما . وقلت لحسن عباس زكي .. إذن نشتري منك ورق أرض المعمورة بسعره الأسمى .. رد حسن : طبعا هتشتريه لوزارة المالية .

قلت له ..لا .. حاشتريه للإصلاح الزراعي .. زي ما كان الوضع أصلا .. تساءل حسن .. وبأي سعر ؟ قلت .. بالسعر الأصلي طبعا . رد حسن عباس زكي بحماس .. ولكن هذا ظلم . فالأرض كانت زراعية وكان لها سعر ، والآن هي أرض مبان ولها سعر أعلى . قلت .. ولكنها كانت ملك الإصلاح الزراعي أساسا .. فلماذا يشتريها الإصلاح الزراعي بأعلى مما باعها به .

فكر حسن عباس زكي قليلا ثم قال .. عندي حل وسط .. يشتريها الإصلاح حسب آخر سعر للأرض في البورصة قبل الإقفال .. وهكذا يكون حلا عادلا . ووافقت على هذا الحل الوسط . ونظرا لوجود أناس آخرين كانوا قد دخلوا إلى المكتب ، فلقد تركت الجميع ودخلت إلى غرفة سكرتير الوزير المجاورة لكي أتصل بالرئيس جمال عبد الناصر استأذنه في إبرام الصفقة .

وتحمس جمال عبد الناصر جدا قائلا .. طبعا يا سيد أنت مبسوط أن الأرض رجعت للإصلاح الزراعي .. لكن أنا مبسوط أن البنك مش حايفلس ... مبروك .. أمض الورق فورا ، ووقعت الأوراق ...فورا....وفي هذه المرة فإن الجمعية التعاونية للإصلاح الزراعي ، التي أصبحت مالكة من جديد لأرض المعمورة ، بدأت تنفيذ مشروع تحويلها إلى مشروع سياحي بحماس كبير ، وسرعة مدهشة .

لقد أقمنا مسابقة فنية لتصميم وحدات المشروع وبنينا فعلا الدفعة الأولى من الوحدات .. الكباين .. وقسمنا الأرض وطرحناها للبيع بأسعار مرتفعة حددتها لجنة تقدير أثمان الأرض الحكومية .. ومنعت جميع العاملين في الإصلاح الزراعي .. ابتداء من نفسي إلى درجة مدير عام من التقدم للشراء بأي صورة من الصور وحققت العملية للإصلاح الزراعي أضعاف الإيراد الذي كان يحصل عليه من قبل عندما كان يؤجرها كأرض زراعية .

ومن اليسير على القارئ اليوم أن يتعالى على وجهة نظر سيد مرعي الذي كان سعيدا بتحويل أرض زراعية إلى أرض مصيف وكباين .. ولكن لابد لنا أن نتذكر أن مثل هذا المفهوم الذكي لم يكن قد ترسخ أيامه أو حتى أعلن .. وكان مثل الذي فعل في أرض المعمورة قمة الشطارة أو المهارة ..

ولا نريد أن نتزيد فنقول للقارئ إن هذا كان سيحدث به أو بدونه إنما أردنا أن ننقل للقارئ قصة مواقف طريفة تنبئنا عن سير الأمور في مستويات الإدارة العليا ، وأن نشرك القارئ إعجابنا بجمال عبد الناصر الذي كان حريصا على الوجود بالحسم والعزم في أكثر ما يمكنه من التفاصيل .

(10)

ترينا قراءة قصة الخلاف بين المهندس سيد مرعي والدكتور عزيز صدقي على نحو ما يرويها صاحب هذه المذكرات نفسه مدى صدق القول القائل بأن الأفرع العليا من الشجر لا تحتمل صديقين ولابد أن يضحي كل منهما من أجل نفسه بأقرب أصدقائه إليه ... وسوف نرى من عبارات المغفور له المهندس سيد مرعي تحاملا منه على عزيز صدقي بلا شك ، وقد ندهش للموقف الذي اتخذه من صديقه

رغم أن ما نقرؤه قد قد كتبه واحد من الطرفين أي أصابه التجميل بلا شك في النيات والأفعال ولكن حتى مع هذا التجميل يظل موقف المهندس سيد مرعي من الدكتور عزيز صدقي قاسيا رغم أن عزيز صدقي لم يتكلم حتى الآن .

ولن نطيل على القارئ بكثير من الفقرات الطوال ولكننا سنقتطف له بعضها ونحيله إلى المذكرات ليقرأ القصة كاملة

" وقرر الرئيس أنور السادات من جانبه عقد اجتماع طارئ ، يضم كلا من السيد حافظ بدوي رئيس مجلس الشعب والدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء وأنا وفي الاجتماع قرر الرئيس بحسم أن علينا نحن الثلاثة أن نجلس معا بصفة دورية لكي ننسق معا ، ونتشاور معا ، حتى لا يحدث اضطراب في علاقة المؤسسات بعضها ببعض ، فعلى الحكومة أن تنسق عملها مع الاتحاد الاشتراكي وعلى الاثنين أن ينسقا عملهما في مجلس الشعب ، وإن الذي يكفل هذا هو أن نجتمع نحن الثلاثة أسبوعيا ، لكي يكون هناك اتصال تنسيق دوري ومنتظم ،وتحمسنا جميعا للفكرة ...
وخرجنا من اجتماع الرئيس لكي نتساءل : متى نعقد أول اجتماع قال حافظ بدوي : هذا الأسبوع ، تساءل الدكتور عزيز صدقي : أين يكون الاجتماع ؟ قلت له : فليكن الاجتماع الأول في مكتب حافظ بدوي ، ورحب الدكتور عزيز صدقي تماما ، وبالطبع رحب السيد حافظ بدوي ، وعقنا الاجتماع الأول فعلا ، واتفقنا في نهايته على أن يكون الاجتماع التالي في مكتب السيد حافظ بدوي بمجلس الشعب . وفي هذا الاجتماع ذهبت إلى مكتب حافظ بدوي ، ولكن الدكتور عزيز صدقي اعتذر ، وهكذا ماتت الفكرة في مهدها . وأدركت من جانبي أنه لا حل لهذه المشكلة .. على الأقل في هذه المرحلة " .

عند هذه النقطة يظهر مؤلف " أوراق سياسية " قدرا من الأسى المفتعل على هذه الصداقة الضائعة فيقول:

" إنني كنت أشعر بالأسى والأسف ، بقدر ما كنت أتفهم تماما الأسباب الموضوعية التي تدفع الدكتور عزيز صدقي ـ كرئيس للحكومة ـ إلى التصرف على هذا النحو . لقد اعتادت الحكومة من قبل ، وبالتالي اعتاد كل من تولوا المناصب المسئولة فيها ، على أن هناك حصانة ضد النقد واعتادت الحكومة ، وبالطبع كل العاملين بها ، على أن التنظيم السياسي هو مجرد جهاز للتصفيق والموافقة بكلمة " نعم " .

هكذا يصور لنا هذه المذكرات في شيء من "الحماس للذات" أنه كان أول من عرض الحكومة لانتقادات الاتحاد الاشتراكي الشديدة، وأنه هو الذي كسر قاعدة تأييد الاتحاد الاشتراكي المطلق للحكومة، ومن الطريف أن مؤلف هذه المذكرات حين يورد هذا الفخر لنفسه فإنه يأتي به في سياق الحديث المفترض عن خلافه مع عزيز صدقي

وبدلا من أن يكون السياق صراع رجلين على السلطة والنفوذ يصلبح الأمر في تصوير صاحب "أورق سياسية" صراعا بين اتجاه ديمقراطي يمثله هو واتجاه غير ديمقراطي وإن يكن تقليديا معتادا يمثله عزيز صدقي، وللأسف الشديد فإن هذا التصوير يذهب بقيمة الحياد في مذكرات المغفور له المهندس سيد مرعي

وكان في وسع صاحب المذكرات أن يتناول الموضوع من زوايا أخرى لا تجعل من المؤلف "الملاك الكامل" أو "الملاك المطلق" عندئذ كانت الصورة تكون أقرب إلى الابتلاع، ولكن يبدو أن مؤلف هذه المذكرات أخذ بنصيحة هيكل للسادات في أزمة 15 مايو أن يصور الأمر مع خصومه على أنه خلاف على الديمقراطية، أخذ سيد مرعي بهذه النصيحة. وطبقها على خصومته مع عزيز صدقي مع الفارق.

(11)

تمثل واقعة فشل صاحب هذه المذكرات في انتخابات اللجنة التنفيذية العليا أهمية خاصة في حياته السياسية على ما سوف نرى ولربما كانت السبب العميق وراء انحيازه المباشر إلى أنور السادات ضد مجموعة 15 مايو.. وقد نلخص القاريء أن سيد مرعي مع كل ماضيه في نظام عبد الناصر فشل في النجاح في انتخابات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي التي أجريت في أخريات عهد عبد الناصر

كما فشل معه كل من عزيز صدقي وحسن عباس زكي على حين فاز آخرون أحدث عهدا منهم بخدمة نظام الحكم، ولنقرأ معا ما يقصه المغفور له المهندس سيد مرعي عن تلك الأزمة، وسوف ترينا الفصول الأخيرة لهذه القصة أيضا قدرة المغفور له الرئيس جمال عبد الناصر على احتواء المواقف والاختلافات بين مجموعات العمل المختلفة

وذلك حيث يقول :

في اليوم التالي ذهبت إلى مكتبي بالوزارة كالمعتاد، وبدأت أفكر فيما إذا كان من الواجب أن أقدم استقالتي أولا.. ولكنني إذا فعلت ذلك فسوف أقدمها فعلا بغير أن أنفعل بشأنها كعزيز صدقي.. ومر يوم ويومان، وفي اليوم الثالث طلبني هيكل ليسمع مني تفاصيل الحكاية ويضحك هو الآخر.
ثم ليخطرني بأن الرئيس جمال عبد الناصر يريد مني أن أتوجه إليه فورا.. وذهبت إلى الرئيس الذي بادرني مبتسما محييا وقائلا: أحك لي حكايتكم أنتم الثلاثة من أولها. وبالذات حكاية "المراحيض" اللي قعدتم جنبها من غير ما حد يسأل فيكم.. ورويت للرئيس كل الحكاية بالضبط وبمنتهى الصراحة.. فكان من جانبه يضحك بشدة.. ويسألني: لكن عملتم إيه وأنتم قاعدين جنب المراحيض؟
قلت له: بصراحة يا سيادة الرئيس أنا في الأول خدتني عزة نفسي لكن ضحكت في الآخر من المقلب اللي شربته، وعزيز صدقي ركبه عفريت اسمه الاستقالة، وحسن عباس دعا الله عليكم كلكم. وعاد يضحك من جديد ثم بدأ يتكلم بجدية قائلا: إنني استدعيتك خصيصا لأنك أخذت الموضوع ببساطة.. ولأنك أهدأ الثلاثة ، أنا لا أستطيع أن أقول إنه حدث تدخل في الانتخابات لأنه لا يوجد دليل تحت يدي على ذلك.
ولكن بصرف النظر عن هذا يجب أن تنسوا هذا الموضوع. أنت وزير ناجح وعزيز كذلك وحسن أيضا.. وأنتم الثلاثة اعتمادي عليكم كبير.. وما حدث لا يؤثر عليكم بأي حال من الأحوال لأنكم فنيون وهذه عملية سياسية.. قلت له: طيب يا سيادة الرئيس لماذا لا تقابل عزيز صدقي وحسن عباس زكي وتهدئهما بمثل هذه الكلمات؟
ابتسم الرئيس جمال عبد الناصر قائلا: أنا لا أستطيع أن أقابل واحدا يهدد بالاستقالة والثاني بيقول على وعلى أعدائي يا رب.. إنت اقعد معاهم وسمو الموضوع.. وفعلا.. خرجت من مقابلتي مع الرئيس لكي أنقل إلى عزيز صدقي وحسن عباس زكي نص ما دار فيها.. واعتبر الموضوع منتهيا عند هذا الحد".

ولا يفوت صاحب المذكرات أن يعقب فيقول

" وتشاء الظروف بعد ذلك عندما توليت أنا نفسي مسئولية الاتحاد الاشتراكي في عهد الرئيس أنور السادات.. أن أعرف ما حدث في تلك الانتخابات من أحمد عبد الآخر - محافظ الجيزة فيما بعد - الذي أخبرني بأنه في تلك الانتخابات حدثت فعلا مناورة سياسية من جانب على صبري وعبد المحسن أبو النور لإنجاح مجموعة معينة وإسقاط الآخرين.
وإنه كان من أهداف تلك المناورة أيضا أن يكون أنور السادات هو أقل الفائزين في عدد الأصوات، ولكن بينما نجحت المناورة جزئيا مع أنور السادات حيث كان ترتيبه الرابع.. إلا أنها نجحت معنا نحن الثلاثة تماما".

الفصل الثالث:ذكريات اقتصادية وإصلاح المسار الاقتصادي

للدكتور عبد الجليل العمري

(1)

لعل كتاب عبد الجليل العمري "ذكريات اقتصادية" هو أقصر مذكرات الوزراء في عهد الثورة حجما وأكثرها تركيزا، ويبدو أن طبيعة الرجل الاقتصادي قليل الكلام والتعليقات قد تغلبت عليه، فضلا عن حكمته وحنكته حين أراد أن يدلنا على أن قلة الكلام خير من كثرته، أو حين لم يكن يبتغي شيئا أكثر من أن يسجل ما أراد أن يسجله وكأنه يبرئ ضميره من قومه أو أمام قومه.

وقد لا يعرف كثير من القراء أن صاحب هذه المذكرات هو الوحيد من وزراء ما قبل الثورة الذي استمر مع الثورة بعد أن سارت عجلتها إلى الأمام بعض الوقت وعلى سبيل القطع فإن العمري هو الوزير الوحيد الذي عمل في ظل الملكية القديمة قبل الثورة ثم الملكية بعد الثورة ثم الجمهورية

ذلك أن هناك فترة من تاريخنا تجمع بين صفتي الثورة والملكية وهي تلك التي تمتد من 23 يوليو 1952 وحتى إعلان الجمهورية في يونيو 1953 وفي هذه الفترة عمل مع الثورة كثير من وزراء العهد الملكي

بالطبع سواء في وزارة على ماهر الأخيرة أو محمد نجيب الأولى ولكن الوزير الوحيد من هؤلاء الذي استمر بعد إعلان الجمهورية وكان قد تولى الوزارة قبل قيام الثورة أيضا هو الأستاذ عبد الجليل العمري.

وقد كان الأستاذ العمري بمثابة المستشار الاقتصادي الأول للثورة فضلا عن منصبه كوزير للمالية أو كنائب لرئيس الوزراء للشئون المالية، ومن تصاريف القدر أنه تولى رئاسة المؤتمر الاقتصادي في أول عهد الرئيس حسني مبارك.

ولا شك أن هناك من العوامل البارزة وغير البارزة في شخصية صاحب هذه المذكرات ما أتاح له التوافق مع الثوريين ومع للتكنوقراطيين الآخرين الذين توافقوا مع الثورة، ولكن الأمر لم يستمر طويلا فقد افترق العمري عن الثورة وافترقت عنه.

ومع هذا يظل هذا الرجل العظيم بمثابة "صاحب المقام الأرفع" بين كل وزراء الثورة لأنه وصل إلى ما وصل إليه بكفاءته فحسب، ومبكرا جدا. ثم إنه ترك كل المناصب الرفيعة بإرادته وحفاظا منه على كرامته فحسب.

يقول عبد الجليل العمري في تقديمه لمذكراته:

" تقتصر هذه الذكريات التي يحويها الجزء الأول من هذا الكتيب على أحداث الفترات التي عشتها شخصيا، أو كنت فيها أحد واضعي القرار حتى لا يكون فيها ما هو منقول من كتابات الآخرين أو ما هو مسموع تتناوله الألسن ويعلم الله مدى صحته
وقد راعيت هذا بصفة خاصة في الفترة ما بعد ثورة يوليو 1952 ، فالأحداث التي عايشتها هي ما وقع ما بين يوليو 1952 وأبريل 1954 إبان المدة التي اشتغلت فيها وزيرا للمالية ثم بعد ذلك مدة اشتغالي محافظا للبنك الأهلي المصري (حينئذ البنك المركزي) بين نوفمبر 1957 وفبراير 1960
وبذلك جاءت المذكرات مختصرة بل وقاصرة لأن الأحداث التي وقعت إبان السنوات 1954 - 1957 وإبان السنوات التي تلت 1960 كانت أحداثا جساما منها انفراد الرئيس عبد الناصر بالسلطة وتأميم قناة السويس وحرب 1956 ثم فترة التأميمات وأثرها البالغ على الاقتصاد المصري، وكذلك حرب 1967 وحرب 1973 وما تلاها من انفتاح اقتصادي ما زلنا نجادل في مزاياه ومساوئه
فهذه كلها أحداث جسام كان لها أثرها على شخصيات المسرح المصري كما كان لهذه الشخصيات أثر على الأحداث، ولكني مع الأسف لم أعش فيها قريبا من واضعي القرار لاختلافي معهم، ولذلك لم أجد ما يبرر الدخول فيها لأني إما أن أكون ناقلا لما قاله الآخرون أو مرددا للشائعات التي دارت حولها وتحاليل المحللين الآخرين لهذه الأحداث".

(2)

وفي أوراقه التي بين أيدينا يتحدث صاحب هذه المذكرات بضمير نقي ونفس متواضعة فلا يخرج أبدا عن حدود المثالية الرائعة في تقصي الحقائق التي يتناولها، ويشيد بمن يستحقون الإشادة ممن مروا به في حياته الخاصة ولا يجد حرجا في أن يفيض في ذكر التفاصيل البسيطة التي تصور لنا لجو الذي أحاط بالأحداث.

ومن أطرف ما في هذه المذكرات ما يرويه المؤلف عن سبب استقالته من الوزارة وتباعده عن رجال الثورة، وهو يروي القصة من دون أن يحملها بتفسيراته أو رؤاه الشخصية في نقد جمال عبد الناصر، كما أنه لا يدعي بطولة ولا يفخر بتمسكه باحترامه لنفسه إنما هو يروي الواقع كما يروي الواحد منا قصة شرائه لقطعة صابون مخفضة الثمن.

وقد يكون من المفيد أن تسترجع معه توالي الأحداث التي انتهت في النهاية باستقالته، نظرا لأهمية هذه الوقائع المرتبطة بأزمة الديمقراطية في 1954، وهي مرحلة من أهم المراحل في تاريخ الثورة المصرية

يقول صاحب المذكرات:

".. وطلب الوزراء في الساعة الثانية صباحا من يوم 25 فبراير سنة 1954 على ما أذكر للاجتماع في مجلس قيادة الثورة بالجيزة، وهناك كانت المفاجأة الكبرى، وكان في انتظارنا في إحدى قاعات مجلس القيادة أكثر أعضائه
وأبلغونا أن مجلس قيادة الثورة اجتمع من غير أن يحضره محمد نجيب، وقرر قبول استقالته من جميع مناصبه وذلك لاستحالة العمل معه ولأن الثورة لن تستطيع المضي في طريقها المرسوم طالما هو على رأس مؤسساتها كرئيس للجمهورية ورئيس لمجلس الوزراء، ورئيس لمجلس قيادة الثورة
وأنهم انتخبوا عبد الناصر ليحل محله رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا لمجلس الوزراء وسيكون جمال سالم وعبد الجليل العمري نائبين للرئيس، وأن يحتفظ الوزراء بمناصبهم وأن يتولى الدكتور على الجريتلي وزارة المالية، وقد كان نائبا للوزير فيها.
كان وقع الصدمة شديدا على من حضر من الوزراء وقد حذرناهم من مغبة هذا الإجراء إذ أن محمد نجيب كما هو معروف للجميع يتمتع بشعبية كبيرة ولا يمكن للشعب أن يقبل بين يوم وليلة أن يتنازل عنه، ولكن الضباط أصروا على هذا الإجراء وقالوا إنهم قد اتخذوا الاحتياطات الكفيلة باستتاب الأمن والنظام.
وقبل نهاية الاجتماع سألت عن السبب في أن جمال عبد الناصر لم يكن معنا في الاجتماع، وهنا قيل لي إنه يستريح بل إنه فعلا في غرفة من غرف مجلس القيادة، ويظهر أنه بدا على وجهي عدم التصديق، فاصطحبني صلاح سالم إلى حيث ينام جمال عبد الناصر ومن الغريب أني وجدته مستغرقا في النوم، وعندئذ تكشفت لي ناحية من صفات الزعامة في عبد الناصر
إذ كيف يستطيع إنسان عادي أن يأخذ أو يشترك في أخذ قرار في خطورة القرار الذي نحن بصدده أن يستغرق في النوم أن دون يفكر فيما يمكن أن ينتج عن هذا القرار من أحداث ويبقى قلقا بقية الليل ولكن يبدو أن الزعماء وحدهم هم الذين يستطيعون ذلك.
لم يمر أكثر من يومين إلا وقام بعض ضباط الجيش مطالبين بعودة نجيب وانضم إليهم الشعب وساروا بمحمد نجيب من بيته في حلمية الزيتون حتى قصر عابدين، وكنا في صباح ذلك اليوم مجتمعين في أول اجتماع حول محمد نجيب ورغم صلابة أعصابه فكانت تظهر على وجهه الانفعالات ومع ذلك استمر مجلس الوزراء منعقدا".

ثم يحكي صاحب هذه المذكرات قصة الصلح بين الثوار ومحمد نجيب الذي دعا الجميع إلى العداء بمنزله فيقول:

" ومن غريب المفارقات أن أتت دعوة محمد نجيب لكل الوزراء وضباط مجلس الثورة للغداء بمنزله في نفس اليوم تكريما للوفد السوداني الذي كان قد وصل خصيصا للتدخل في موضوع عزل محمد نجيب الذي تربطه بالسودان الذي كان قد وصل خصيصا للتدخل في موضوع عزل محمد نجيب الذي تربطه بالسودان روابط قوية كما تربطه صلات القربى".
"... وأيا كان الدافع فإنه لم يمر أسبوع واحد إلا وأصر محمد نجيب على توليه جميع مناصبه كرئيس للجمهورية ولمجلس قيادة الثورة ولمجلس الوزراء في اجتماع المجلس المشترك، وكان جمال عبد الناصر أول المستجيبين لهذه الرغبة، وهكذا عاد التشكيل الوزاري في يوم 6 مارس 1954 إلى ما كان عليه قبل 25 مع استثناء واحد هو أن أصبح على الجريتلي وزير دولة للمالية وليس نائبا للوزير".

ثم يروي عبد الجليل العمري بكل صراحة ووضوح قصة استقالته فيقول :" .... وفي آخر اجتماع حضرته للمجلس المشترك اتفق على اتخذا الخطوات الآتية:

أن تستقيل الوزارة ويحل مجلس قيادة الثورة ويعود الضباط إلى الثكنات وأن تتولى شئون البلاد برئاسة الجمهورية وزارة مدنية محايدة تشرف على انتخاب جمعية تأسيسية تقوم بوضع دستور جديد للبلاد، ثم تجري انتخابات على أساس الدستور الجديد لانتخاب مجلس النواب
وكان من بين الأسماء التي ذكرت اسم إبراهيم عبد الهادي ولا أذكر من الذي رشحه ولكن بد أن انقضت الجلسة فاتحني عبد الناصر أن أذهب إلى إبراهيم عبد الهادي لسابق معرفتي به وأن أعرض عليه تولي رئاسة وزارة مدنية، ولا أدري كيف قبلت هذه المهمة وأنا أعرف مسبقا أن إبراهيم عبد الهادي لن يكون المرشح الذي يجمع عليه المجلس المشترك وأنه في أرجح الأمر لن يقبل تولي الوزارة في هذا الجو الذي تسوده الخلافات.
ولكن كان مبلغ ظني أن أي حل نحاوله أفضل من حالة الفوضى التي تسود الجو السياسي عندئذ، فذهبت وذهب معي سليمان حافظ وقابلنا أولا أحمد عبد الغفار وكان صديقا مقربا لإبراهيم عبد الهادي فوافق أن يذهب معنا وكان الذي توقعته، فقد رفض إبراهيم عبد الهادي تحمل هذه المسئولية واقترح أولا إعادة الأحزاب ثم تشكيل وزارة مدنية محايدة برئاسة شخصية محترمة لم يسبق لها الالتحاق بأحد الأحزاب
وأن تقوم هذه الوزارة بإجراء الانتخابات للجمعية التأسيسي، وذكر أن الجميع يرضون ببقاء محمد نجيب رئيس للجمهورية إلى حين الانتهاء من وضع الدستور الجديد الذي لابد أن ينص فيه على كيفية اختيار رئيس الجهورية.
وفي اليوم التالي لهذا اللقاء مع إبراهيم عبد الهادي فوجئت بأن جريدة الجمهورية نشرت في جزء ظاهر كلمة لم يفصح كاتبها عن شخصيته- وإن كنت أظنه جمال عبد الناصر - يقول فيها إن وزيرا مدنيا من تلقاء نفسه يعرض رئاسة الوزارة على إبراهيم بد الهادي الذي رحب بالفكرة وبدأ يلمع زراير الردنجوت (وكان هذا هو اللباس الرسمي عند حلف اليمين في أيام الملكية)، وانتقدت الكلمة الوزير على هذا التصرف الغريب..
لم يكن أمامي بعد هذا النشر إلا أن أستقيل وبالفعل قدمت استقالتي يوم 26 مارس على ما أذكر ولم أذهب منذ ذلك التاريخ إلى وزارة المالية وإن كانت الاستقالة ظلت معلقة ولم تقبل إلا في 17 أبريل، وهو الوقت الذي استقال فيه عدد من الزملاء من الوزارة بسبب حادث الاعتداء على الدكتور السنهوري، أذكر من بينهم الدكتور وليم سليم حنا، والدكتور عباس عمار، والدكتور على الجريتلي، والدكتور حسن بغدادي".

وهكذا نرى طيف انتهت مرحلة تعاون أهم وزراء الثورة في عدها الأول كنتيجة حتمية لتكتيكات سياسية قصيرة المرمى وقصيرة النظر أيضا. وعلى نفس النحو يروي صاحب هذه المذكرات قصة استقالته من منصب محافظ البنك المركزي (أثناء الوحدة مع سوريا) بعد أن يتحدث عن نجاحه هو وعزت الطرابلسي محافظ البنك المركزي السوري في فرض اتجاهاتها في أن الدمج المالي بين البنكين سابق لأوانه وإقناعهما الحكومة بإبقاء البنكين والعملتين، وهو إنجاز كبير يحسب للاقتصادي العظيم

وها هو يحكي قصة استقالته فيقول:

"... وعلى كل فلم أبق في مركزي حتى تاريخ الانفصال، إذ حدث في اجتماع مع الدكتور عبد المنعم القيسوني وزير الاقتصاد المركزي أنه أبلغني أن الرئيس جمال عبد الناصر قبل سفره في ذلك اليوم إلى سوريا وكان يوم 10 فبراير 1969، أمضى قرارين أولهما بتأميم البنك الأهلي وإنشاء بنك مركزي مستقل، وأن يقوم البنك الأهلي بالأعمال البنكية التجارية، والثاني بتأميم بنك مصر وإنه قد دعا مؤتمرا صحفيا ليعلن القرارين ويتولى شرح التفاصيل، وأنه آثر أن يبلغني الخبر قبل أن يعلنه.
ولم يكن أمامي إلا أن أستقيل من منصبي كمحافظ للبنك الأهلي المصري وقد صارحت الدكتور القيسوني بذلك وأضفت أني كنت أقدر أني المستشار المالي للدولة وأني كنت لا أعترض على تأميم البنك الأهلي وإنشاء البنك المركزي الجديد إلا أني أنتظر أن تستشيرني الحكومة في الأمر
ولذلك فإني بعد هذا التخطي لابد أن أستقيل، ثم إني لا أفهم معنى تأميم بنك مصر ولا أفهم المصلحة التي تحققها الدولة من وراء تأميم البنك الوحيد الذي يملك كل أسهمه مصريون وكثير منهم من صغار المساهمين، طلب إلي الدكتور القيسوني أن أرجئ الاستقالة حتى عودة السيد رئيس الجمهورية من سوريا ولكني أصررت على الاستقالة فورا ولم أذهب للبنك بعد ذلك"

وهكذا نجد الرجل العظيم يحكي لنا قصتي استقالتيه واحدة بعد أخرى بيسر وسهولة، ولا يزعم أبدا أنه لقي تعذيبا أو اضطهادا فاحتفظ بها، وهكذا ترتسم لنا الصورة التي صور لنا بها خروجه من مناصب الدولة العليا مرتين متواليين غير آسف ولا نادم ولا سعيد و فخور.

(3)

ويبلغ التواضع بمؤلف "ذكريات اقتصادية" أنه يحكي لنا المناصب الاقتصادية الرفيعة التي تولاها بعد استقالته في تعاقب مستمر كما لو كان رجلا بسيطا من عمال التراحيل تتقاذفه الوظائف أمام الفرص

انظر مثلا إليه وهو يروي تعاقب هذه الوظائف فيقول:

" انقطعت صلتي بالحكومة مدة عشرين عاما تقريبا فقد اشتغلت لمدة سنتين كعضو منتدب ورئيس مجلس إدارة شركة الإسكندرية التجارية وهي من شركات حلج وتصدير الأقطان، ثم التحقت بالبنك الدولي في واشنجتن ابتداء من 27 يناير 1962 مدير للإدارة الإفريقية
ثم مساعدا لرئيس البنك وفي سنة 1972 بلغت السن القانونية للاعتزال فتركت البنك وعدت إلى الإسكندرية، وفي سنة 1973 عملت كمحافظ لمجلس النقد القطري ولكني لم ألبث طويلا، ثم عملت كمستشار لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول منذ أوائل 1974 ولمدة ثلاث سنوات
ثم عينت عضوا لمجلس إدارة المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، وبقيت فيها حتى سنة 1979، وعندما أعلنت البلاد العربية المقاطعة استقلت من عملي بها ولو أن تعييني هناك كان لشخصي ولم أكن ممثلا للحكومة المصرية ولكني أحسست بالحرج الذي سأكون فيه ويكون فيه أعضاء مجلس الإدارة الآخرون ولذلك آثرت الاستقالة".

(4)

وقد نهج صاحب هذه المذكرات منهجا رائعا في هذا الكتاب حين خصص أكثر من نصفه لنشر تقرير عن المشاكل الاقتصادية الكبرى في مصر وهو التقرير الذي كتبه هو وزميله الدكتور على الجريتلي وقدماه للرئيس مبارك والمؤتمر الاقتصادي في ديسمبر 1981، ويمكن لكل قارئ أن يدرك أن هذا التقرير أكثر من رائع

فقد كتب بلغة اقتصادية سليمة وممتازة ولكنها مفهومة تماما للقارئ العادي أو للسياسي غير المتخصص، ويتميز بالإحاطة ولا الثورة ولا الحكومة ولا الرأي العام. والحقائق فيه واضحة وضوح الشمس، وهو لا يعول على إقناع قارئه بالمناداة بشعارات براقة وإنما هي المصلحة فحسب.

وقد استطاع الرجلان العظيمان أن يلخصا المشاكل المعاصرة في:

  1. الزيادة السكانية.
  2. مشكلة الإسكان.
  3. إهمال المرافق العامة.
  4. قصور الإنتاج الزراعي.
  5. العمالة الفنية.
  6. إهمال الصناعات الصغيرة والمتوسطة.
  7. عدم وضوح الرؤية وتعارض الأهداف.

(5)

وفي هذه المذكرات فقرة هامة جدا لتاريخنا السياسي والليبرالي وهي تلك الفقرة التي يروي فيها صاحبها أنه كان قد ترك منصب وكيل وزارة المالية حين فاز الوفد في الانتخابات البرلمانية وشكل الوزارة في 1950 ، ولكن ما هي إلا سنة ونصف ويصبح صاحب المذكرات نفسه مرشحا لتولي وزارة المالية نفسها في الحكومة الوفدية

وهي فقرة تنبئ بلا شك عن سعة أفق الحكومة الوفدية وحزب الوفد ولعلها أول فقرة مكتوبة في هذا الصدد، فقد كان الاعتقاد ولا يزال أن الوفد كان عامرا دائما وحافلا بالكفاءات التكنوقراطية في كل تخصص ومجال، ولكن أستاذ فؤاد سراج الدين وهو الرجل الذي تولى عدة وزارات من قبل، يركز نظره على ا لأستاذ عبد الجليل العمري

وقد كان حديث عهد بمنصب وكيل وزارة المالية حيث لم يتوله إلا في أواخر عام 1947، بل إن الأعجب والأعظم من هذا أن النقراشي باشا وهو الآخر لا يقل عن سراج الدين كفاءة وفطنة قد اختار العمري لمنصب وكيل المالية في أواخر 1947 بدون أن يكون العمري مديرا عاما في الوزارة، وإنما كان موظفا في الدرجة الأولى فقط

وقد روي الأستاذ مصطفى أمين ذات مرة في عمود "فكرة" أن النقراشي باشا حين اختار العمري وكيلا لوزارة المالية كان في منتهى السعادة إلى حد أن قال إن العمري هو هدية أهديها لمصر، وكان الأستاذ مصطفى أمين يروي ذلك في معرض حديثه عن عبد الجليل العمري كنموذج للكفاءة الفذة التي ارتفعت من أدنى درجات الوظيفة إلى منصب الوزارة بدون أية وساطة أو محسوبية.

يحكي مؤلف "ذكريات اقتصادية" في تواضع شديد كيف تعاقبت عليه عروض الزعماء السياسيين قبل الثورة لتولي الوزارة وكيف رفض دعواتهم المتتالية من مبدأ تقديره للمسئولية

فيقول:

" جرت الانتخابات العامة سنة 1950 وأسفرت عن فوز حزب الوفد المصري بأغلبية كبيرة وتشكلت الوزارة الوفدية برئاسة المرحوم مصطفى النحاس
وكان الدكتور زكي عبد المتعال وزير المالية ورغم أن علاقتي به كانت طيبة للغاية إلا أني آثرت أن أخرج إلى ا لحياة التجارية وخاصة أن الشركة التي عرضت علي أن أعمل بها عضوا منتدبا لمجلس إدارتها وهي شركة النيل للخليج، كانت من الشركات المحترمة في القطاع الصناعي علي كمرتب عرضا ماليا مجزيا وكانت عائلتي بدأت تكبر وتحتاج إلى إنفاق أكبر.
ولكن رغم كل هذا فقد كانت ميولي دائما تدفعني نحو الخدمة العامة، فما إن عرض علي فؤاد سراج الدين- وكان العضو البارز في الحكومة الوفدية- رغم عدم انتمائي إلى أي حزب، أن أشترك معهم في الوزارة وزير للمالية بعد استقالة الدكتور زكي عبد المتعال في النصف الثاني من سنة 1951، إلا ووافقت بشرط أن تقرر الحكومة اتباع سياسة تقشف لأني أحسست من متابعتي للإنفاق الحكومي أن هناك إسرافا لا تبرره إمكانيات البلاد
وخاصة أن الكثير من الإنفاق يتجه إلى الخدمات والمظهرية دون الإنتاج والاستثمار ومن أجل هذا كان لابد من اتباع سياسة من التقشف ومن أجل أن يشعر جميع المواطنين أن الحكومة جادة في سياستها كان لابد أن نبدأ التقشف من الرأس واقترحت عليه أن يتنازل الملك عن 25% على لأقل من المخصصات الملكية
وكان رد فؤاد سراج الدين: إن أمثال هذه المقترحات تناقش في مجلس الوزراء بعد الدخول في المجلس ولكني خشيت أنه بعد الدخول في مجلس الوزراء قد يكون من العسير تقرير السياسة التي أقترحها ثم إنها ستكون موضوع جدل ينتهي بتضييع الفائدة منها، ولذلك رأيت أنه إن لم يكن هناك تفاق مسبق فمن الخير ألا أشارك في المسئولية وهو ما حصل.
ثم دخلت في نفس التجربة مع المرحوم المهندس حسين سري عندما كلف بتشكيل الوزارة في مايو 1952 وعرض أن أعمل معه وزيرا للمالية فاشترطت نفس الشروط وبطبيعة الحال لم تقبل شروطي وخاصة أن وزارة حسين سري كانت من الوزارات التي تشكلها السراي.
ولكني لم أشترط نفس الشروط عندما قبلت الدخول في وزارة المرحوم على ماهر في فبراير 1952 بعد حريق القاهرة في 26 يناير لأن الوضع كان مختلفا فهذه الوزارة أتت بغرض أن تحول دون اشتعال الموقف فهي وزارة تهدئة أولا، وإذا قدر لها أن تبقى فسيكون عليها أن ترسم سياسة جديدة وتكون فرصة مهيأة أمامي وأمام غيري من الوزراء في اقتراح ما نراه ضروريا لإصلاح حالة البلد اجتماعيا واقتصاديا والقيام على تنفيذه.
دخلت في تلك الوزارة وزيرا للتموين ولم أكن غريبا على وزارة التموين ولذلك كان عملي فيها ميسرا ولكن لم أبق بها إلا ستة وعشرين يوما فقد قدمت الوزارة استقالتها في أول مارس 1952.
وفي أول مارس 1952 وأظنه كان يوم سبت صدرت أخبار اليوم وفيها مرسوم الحل ولم تكن حكومة على ماهر قد طلبت النشر فاعتبر على ماهر هذا الإجراء وسيلة لإحراجه وخروجه من الحكومة وكان أن اجتمع مجلس الوزراء صبيحة ذلك اليوم واتفقنا مع على ماهر في الرأي فيما عدا الدكتور زكي عبد المتعال وزير المالية ومرتضى المراغي وزير الداخلية
وبالفعل انسحبا من الاجتماع واتفق بقية الأعضاء على تقديم استقالة الحكومة وقامت لجنة من بعض الوزراء كنت واحدا منهم بإعداد صيغة الاستقالة وتوجه لى ماهر إلى السراي وقدمها بالفعل.
قبلت الاستقالة في نفس اليوم وكلف الملك المرحوم نجيب الهلالي بتشكيل وزارته الأولى واشترك فيها الدكتور زكي عبد المتعال ومرتضى المراغي ولكني لم أقبل الاشتراك فيها رغم ضغط وإلحاح الكثيرين لإني لم أجد ما أبرر به اشتراكي في الوزارة الجديدة وقد كنت عضوا في اللجنة التي أعدت كتاب استقالة حكومة على ماهر وكنت من المقتنعين بفكرة الاستقالة. "

وهكذا بقيت بعيدا عن الحكومة إلى أن جاءت الثورة في 23 يوليو 1952.

ينبغي علينا هنا أن ننبه القاريء أن الوزارات الأربع التي توالت على حكم مصر بعد حريق القاهرة توالت على النحو التالي:

  • وزارة على ماهر باشا في فبراير 1952، وقد قبل الأستاذ العمري فيها وزيرا للتموين.
  • وزارة نجيب الهلالي باشا في مارس 1952، وقد رفض الأستاذ العمري الاشتراك فيها نظرا لأنه- كما ذكر- كان من الذين حرروا كتاب استقالة الوزارة السابقة.
  • وزارة حسين سري باشا في يوليو 1952، وقد اعتذر الأستاذ عمر عن عدم قبول منصب وزير المالية فيها لأنه اشترط نفس الشروط التي اشترطها على فؤاد سرج الدين باشا لقبول منصب وزير المالية في 1951 في آخر وزارات الوفد وهي الوزارة التي سبقت حريق القاهرة.
  • وزارة نجيب الهلالي باشا في يوليو 1952 وهي الوزارة التي لم تمكث في الحكم إلا يوما وبعض يوم قامت بعده الثورة، وجاءت وزارة على ماهر الأخيرة التي شارك فيها الأستاذ العمري.

(6)

أما أهم فقرة في هذا الكتاب المهم فهي تلك التي يلخص بها الأستاذ بد الجليل العمري موقف الثورة من النظم الاقتصادية، وهو الموقف الذي يعتبره كثيرون من مثقفينا بمثابة عيب بارز في استراتيجيه الثورة التي راوحت على الدوام في مسلكها الاقتصادي بين مذاهب اقتصادية مختلفة ومتنافرة

وعبد الجليل العمري يحكي هذا الموضوع بمنتهى التواضع ويبدأ الحديث فيه أثناء حديثه عن المجلس المشترك بين أعضاء قيادة الثورة وبين الوزراء فيقول:

" كان المجلس المشترك في بداية عمله مفيدا إذ أنه ناقش موضوعات رئيسية تبين منها اتجاهات بعض أعضاء مجموعة الضباط أو إن شئت عدم وجود اتجاهات محددة للمجموعة، وسأضرب مثلا بواقعة معينة ليتبين المطلع نوع الخلافات المبدئية التي كان يعالجها المجلس المشترك..
صرح خالد محيي الدين - وهو عضو بمجلس قيادة الثورة - لإحدى المجلات بأنه لا يرى سببا في ترك ودائع البنوك دون استغلالها استغلالا حقيقا في المشروعات التي تحتاجها البلاد وإذا كان أصحابها يجمحون عن استثماراتها فالدولة كفيلة بتحقيق ذلك الاستثمار ، وقد كان لهذا التصريح دوى في سوق المال ، وأخذ بعض المودعين يفكرون في سحب ودائعهم من البنوك بل قام بعضهم بسحبها فعلا.
لما أثرت هذا الموضوع في المجلس المشترك انبرى جمال عبد الناصر ليسألني إن كنت سأحجر على أعضاء مجلس قيادة الثورة في إبداء رأيهم فكان جوابي أن تصريحا من أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة أو من أحد الوزراء يحمل معنى خاصا إذ إن الجمهور سيسفره على أنه رأى الحكومة أو على الأقل أن هناك اتجاها في الحكومة نحو تنفيذ مثل هذا الرأي
وأني أتكلم هنا بصفة خاصة عن التصريحات التي تمس النواحي المالية والاقتصادية عموما غما بالك بالتصريحات التي تمس ودائع المودعين في البنوك واحتمال قيام الحكومة بوضع يدها عليها وتوجيهها الوجهة التي ترضاها ولما كان رأس المال بطبيعته جبانا فإذا ما أحس أن هناك احتمال الاستيلاء عليه أو تأميمه سارع إلى الهروب.
كانت إثارة موضوع التصريح سببا في أن يدخل المجلس في مناقشة النظام الاقتصادي للحكم، وبعد أن شرحت للمجلس المعالم الأساسية للنظم الاقتصادية للحكم المتبعة في العالم بين رأسمالية واشتراكية ومشتركة
تساءل جمال عبد الناصر: ولماذا لا يكون لنا نظام مصري نفصله وفق ظروفنا، فأجبته بأن علينا أن نقرر ما إذا كنا نسير وفقا لنظام حماية الملكية الفردية لأدوات الإنتاج وهو ما يطلق عليه النظام الرأسمالي أو أننا كنا نسير وفقا لنظام حماية الملكية الفردية لأدوات الإنتاج وهو ما يطلق عليه النظام الاشتراكي
وبين هذين النظامين يمكن أن تقوم نظم وسط تجمع بين حق الفرد في تملك أدوات الإنتاج في بعض الأنشطة الاقتصادية ولكن تحرم عليه ملكية أدوات الإنتاج في الصناعة عموما أو في الصناعات الرئيسية، وفي بعض النظم المشتركة قد تبيح الدولة تملك الأفراد لبعض الصناعات الفردية ولكنها تستبقي دائما الصناعات الرئيسية.
وأيا كان النظام الذي نقرر اتباعه يجب أن يعلن عنه تفصيلا ليعلم الجميع ما هي إمكانيات الملكية الفردية التي تحافظ الدولة على حقوقها وما هو مدى ملكية الدولة وما هي الأنشطة الاقتصادية التي ستتولاها الدولة وما هي الأنشطة التي تتركها للأفراد إما بأشخاصهم أو في شكل شركات أو جمعيات تعاونية.
أما أن نقول بأننا سنتبع نظاما مصريا نغير ونعدل فيه حسب هوانا وحسب الملابسات والظروف أو بمعنى آخر سنجمع بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي مع حق الحكومة في الانتقال من نظام إلى نظام حسبما يروق لها فهذا سيؤدي إلى فوضى اقتصادية محققة، وذكرت عندئذ التشبيه العام القائل بأن التي ترقص على السلالم لا يراها الناس اللي فوق ولا الناس إللي تحت وهي بهذا لا تجني شيئا.
وقد ذكرت لهم في حديثي مثل الهند وهي إحدى البلاد التي اتبعت بنجاح ملحوظ نظام الاقتصاد المشترك فقد أخذت بنظام القطاع العام الذي يتولى فيه الصناعات الكبرى والأساسية وفي نفس الوقت حافظت على القطاع الخاص بل وشجعته على ا لنمو وتركت له الأنشطة الاقتصادية الأخرى بيني فيها ويشيد في حدود القوانين الامة وحافظت على حرية تملكه لأدوات الإنتاحج في تلك القطاعات وهي منذ أن أرست هذه القواعد والأسس التي يعمل في حدودها كل من القطاعين لم تبدل ولم تغير فيها فاطمأن كل في عمله.
وأضفت أن مثل النظام الهندي يحسن أن ندرسه جيدا أو نقتفي أثره إن كان النظام المشترك هو ما يتقرر اتباعه. وقد اكتفى المجلس بهذا القدر من المناقشة دون أن يتخذ قرارا، وما كان متوقعا أن يتخذ قرارا، فهذا أمر يحتاج إلى رؤية ويحتاج أن يكون هناك تشابه في التفكير بين أعضاء المجلس
وهذا لم يكن متوفرا فإنه سواء بالنسبة لمجموعة الضباط أو لمجموعة الوزراء المدنيين لم يكن يجمعهم إلا فكرة عامة واحدة وهي حبهم لوطنهم ورغبتهم في إقامة حكم صالح فلم يأت أولئك أو هؤلاء من حزب له مباديء سياسية واقتصادية محددة

بل كان في كل من الفريقين اتجاهات متباينة ومختلفة ولذلك لم يكن ممكنا الوصول إلى قرارا واحد يحدد اتجاها واحدا إلا بعد دراسة وترو وما أظن أن هذا الموضوع - هوية الاقتصاد المصري - قد درس فيما بعد دراسة مستفيضة حتى وقتنا هذا

وما أظننا قد وصلنا إلى قرار واحد وحددنا لأنفسنا اتجاها اقتصاديا معينا حتى الآن والأمر مرجعه إلى اتجاه من يتولى الحكم في مصر بل إن القرارات التي اتخذها الحاكم إبان حكمه - أي حاكم - كانت تتأرجح نحو اليسار حينا ونحو اليمين حينا آخر فلم يكن لنا حتى الآن ولا في فترة معينة خط مستقيم يحدد اتجاها معينا
إذ كيف نعلل قرار الحكومة بالتزامها بإيجاد عمل لك من ليس له عمل - وهو المتبع في البلاد الاشتراكية - وفي نفس الوقت لا نتبع السياسة التي يستلزمها هذا "الالتزام بالتعيين" من حيث مراقبة توجيه وتحديد عدد من يدخل المدارس الثانوية العامة ودد من يدخل المدارس الفنية ، وبالتالي نحد من الالتحاق بالجامعات وكلياتها بحيث تخرج لنا الأعداد المطلوبة من خريجي الجامعات وهو النظام المتبع بدقة في البلاد الاشتراكية.
ففي معالجة مشكلة واحدة نرى أننا أخذنا خطا اشتراكيا قرر التزاما على الحكومة بتشغيل جميع القادرين دون أن نسير على نفس الخط الاشتراكي من ناحية حق الدولة في توجيه الأفراد وتحديد نوعيات دراساتهم وتدريبهم وفقا لما هو مطلوب لنواحي الإنتاج المختلفة، بل تركنا للألإراد حرية اختيار التعليم حتى الجامعات زيادة عن المطلوب، في حين أن العمالة الحرفية بل واليدوية ينقصها الأيدي العاملة
وبسبب هذا كان ما نشاهده من اختلال في مستوى الأجور فالذي صرفت عليه الدولة مبالغ طائلة حتى التخرج من الكليات يتقاضى عند بدء تعيينه أقل من العامل اليدوي أو العامل الحرفي عند بدء تشغيله. هذا مثل صارخ على ما يعانيه الاقتصاد المصري نتيجة لعدم إقراره اتجاه اقتصادي معين بالذات ولا شك أننا في نواح كثيرة ما زال مثلنا مثل التي ترقص على السلالم".

(7)

وأما أبلغ فقرة في هذا الكتاب فهي آخر فقرة منه حيث يعبر صاحب هذه المذكرات عن ثقته التامة في الشعب المصري، وقدرة هذا الشعب ورغبته على مواكبة الإصلاح الاقتصادي وتحمل نتائجه القاسية إذا ما أحس بضرورة هذه التضحيات وأن الحاكمين يشاركونه فيها

وذلك حيث يقول:

" كنت في أحد أيام صيف 1954 بعد أن استقلت من وزارة المالية في مكتب بريد سيدى بشر لأسجل خطابا.. ولما قرأ موظف المكتب المختص اسم المرسل سألني إن كنت أنا شخصيا مرسل الخطاب وتساءل إن كنت أنا وزير المالية السابق، فلما أجبته بالإيجاب قال إنك حملتنا تضحيات كثيرة..
أوقفت العلاوات والترقيات، ورفعت أسعار السجائر وخفضت وزن الرغيف ومع ذلك تحملناها راضين لأننا كنا نفهم الأسباب ولأننا كنا نرى حكومة البلاد تقتصد في نفقاتها، ولا تهتم بالمظاهر المكلفة وكان الوزراء يقبلون خفض مرتباتهم ويدفعون قيمة استهلاك السيارات الحكومية التي خصصت لركوبهم..
هذا مثل صغير ولكنه ذو دلالة كبيرة على مبلغ استعداد هذا الشعب لقبول التضحيات إن هو اقتنع بضرورتها وتبين له أنها تشمل الجميع حاكمين ومحكومين، ولا شك أن القدوة الحسنة التي يقدمها المسئولون هي أكبر محفز لجميع طبقات الشعب أن تتبع عن رضى خطواتهم وتقبل عن قناعة تقديم التضحيات التي تتطلبها المصلحة العليا للبلاد ومصلحة البلاد قطعا في حاجة إلى تضحيات الجميع".

(8)

وعلى الرغم من هذا الجفاف الاقتصادي الظاهر، والجدية المطلقة في كتاب "مذكرات اقتصادية" إلا أن القريء لن يعدم الحديث عن بعض الجوانب الإنسانية والنفسية المرتبطة بنجاح الرجل العظيم، ولعل أبرز نموذج على هذا ما يرويه عن التشجيع الذي لقيه في مطلع حياته الوظيفية من أحمد حمزة باشا وزير التموين

فهو يذكر لنا كيف كافأه الوزير على قدراته التنظيمية المبكرة وذلك حيث يقول صاحب المذكرات:

" ولما أنشئت وزارة التموين ، عملت بها بعض الوقت وشغلت فيها منذ سنة 1942 منصب مدير المكتب الفني، ويحضرني هنا قصة كان لها أبلغ الأثر في نفسي ومن الخير أن أذكرها هنا لعل الذكرى تنفع الأجيال الشابة. كانت الأقمشة الشعبية من بفتة ودبلان وكستور توزع على جمهور الشعب بأسعار تقل عن تكلفتها الفعلية وكانت الشركات التي تنتجها تعوض خساراتها عن طريق رفع أسعار الأقمشة الأخرى التي تنتجها كذلك
ولكن لما كان الطلب على الأقمشة الشعبية يزيد كثيرا عن المعروض منها فقد أصبحت لها سوق سوداء، فما كان من وزارة التموين إلا أن حاولت أن توزعها بكوبونات، ولكن التجربة لم تنجح وكان من جراء ذلك أن اتهم بعض الموظفين بالرشوة وقد يكونون أبرياء ولكن هي طبيعة العملية توحي بقيام الشائعات".

كان وزير التموين في ذلك الوقت أحمد حمزة باشا وكان رجلا فاضلا بمعنى الكلمة فلم يقبل أن تثار حول وزارته الشائعات لذلك جمع كبار موظفي الوزارة وأفضى إلينا بأنه ما لم نجد حلا لمشكلة الأقمشة الشعبية وتوزيعها بالشكل الذي لا يثير غبارا حول تصرفات موظفي الوزارة فإنه سيلغي تدخل الوزارة في التوزيع ويتركها للتجار

ولو نتج عن ذلك أن يباع بعضها في السوق السوداء، ولكني رجوته أن يمهلني اسبوعا واحدا فقد نستطيع أن ندخل الأقمشة الشعبية في البطاقة أو بمعنى آخر أن نحدد لكل بطاقة تاجر أقمشة تشترى منه الأقمشة الشعبية المخصصة له، وقد تمت العملية بالفعل بالنسبة للقاهرة في خلال الأسبوع، وبعد أن أثبتت التجربة نجاحها طبقناها على جميع القطر

وقد كان ارتياح الوزير لنجاح التجربة كبير إلى درجة أنه جمع موظفي الوزارة (الديوان العام) إلى حفل قدم إلي فيها دبوس كرافتة له راس من الماس الحر وقد اشتراه من ماله الخاص، وكان هذا أكبر تقدير أعتز به حتى اليوم وخاصة أنى كنت في ذلك الحين صغير السن نسبيا فلم أكن قد جاوزت السبعة والثلاثين من العمر.

(9)

وحين يروي مؤلف "ذكريات اقتصادية" قصة خلافه مع ثوار يوليو حول ضريبة الدخان فإنه يضع أيدينا على مكمن القوة في إدارة صراع الآراء بين التكنوقراطيين المحترفين وبين الثوار السياسيين

وها هو يقول:

"... ولكن لم تتقابل مجموعة الضباط فيما أعلم مع أي من الوزراء بصدد عمل من أعمال الوزارة وكان أول لقاء لي مع مجموعة منهم في النصف الثاني من أغسطس 1952، وكنت قد انتهيت من عرض أول موازنة عامة على مجلس الوزراء ووافق عليها، وجاءت هذهالمقابلة في مكتب رئيس الوزراء وحضرها عدد من الضباط أذكر منهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر وجمال سالم وعبد اللطيف البغدادي.
كان اللقاء في شأن الزيادة على الضريبة الجمركية على الدخان والسجائر مما استتبع زيادة سعر علبة السجائر (20 سيجارة) قرشا واحدا، وكانوا يطالبون ويصرون على إزالة هذهالزيادة والعودة بسعر السجائر إلى ما كانت عليه من قبل، لأن سياسة الضرائب غير المباشرة كالضريبة الجمركية على سلعة يستهلكها الكثير من جمهور الشعب لا تتمشى وما قامت عليه الثورة من الرغبة في إسعاد جموع الشعب .
ويظهر أنهم كانوا قد اثاروا الموضوع من قبل مع رئيس الوزراء عقب صدور الموازنة العامة مباشرة لأن على ماهر تكلم في الموضوع في مجلس الوزراء في اليوم السابق لاجتماعي بمجموعة الضباط في مكتبه، ولكنه ذكر أن هناك شكوى عامة من زيادة أسعار السجائر، وسألني إن كان من المستطاع إلغاء الزيادة في ضرائب الدخان
وكانت إجابتي تتلخص في أن الضرائب الجمركية من المسائل الحساسة جدا في سوق التجارة والمال ففرضها وإلغاؤها بعد ذلك مباشرة يدلان دلالة واضحة على ضعف سياسة الحكومة وأن هذه الزيادة ستجلب للخزانة خمسة ملايين جنيه وهو مبلغ لا يستهان به في ذلك الوقت الذي كانت جملة إيرادات الدولة لا تجاوز الـ 220 مليون جنيه.
وفي اللقاء مع مجموعة الضباط كررت هذا الكلام وذكرت أنه في الكثير من البلاد المتقدمة والتي تتجه اتجاها اشتراكيا ما زالت الضرائب غيرالمباشرة تمثل جزءا هاما من غيرايردات الدولة وعندما أحسست بأن هذه الحجج لم تقنعهم ذكرت لهم أنه في أمثال هذه الحالات التي يقع فيها خلاف بين وزير المالية ومجلس الوزراء أو مجلس السيادة فعلى وزير المالية أن يستقيل ليفسح المجال لشخص آخر تكون له سياسة مغايرة
وخاصة أن تدبير خمسة ملايين من الجنيهات عن طريق الضرائب المباشرة صعب المنال، وهنا أثاروا موضوع زيادة ضرائب الإيراد العام وهي التي تفرض عادة على الأغنياء لم يأت لها ذكر في مناسبة عرض الموازنة العامة، فأفهمتهم أن وزارة المالية انتهت من إعداد مشروع القانون الذي يعدل فئات الضريبة ويرفعها
فلما علموا أن مشروع القانون معد وسينظر في الجلسة القادمة لمجلس الوزراء اكتفوا بهذا القدر، وطلبوا مني أن أطلع جمال سالم على المشروع عندما يحضر إلى مكتبي في الغدج، وفعلا تم ذلك، وقد أفهمته أنه رغم زيادة فئات الضريبة على شرائح الإيراد العام زيادة كبيرة فإني مقتنع أن هذه الزيادة لن تأتي بحصيلة كبيرة
وما أظنها تجاوز المليونين من الجنيهات وذلك لأن عدد الأغنياء في ذلك الوقت كان محدودا، ولكن الذي دفعني لإعداد مشروع القانون لزيادة فئات الضريبة على شرائح الإيراد العام وعرضه على مجلس الوزراء هو الرغبة في العمل على تقارب الدخول الصافية".
".......ومن غريب المصادفات أنه عندما حان وقت تحضير الموازنة العامة 1053- 1954، وكان الحال قد تغير فأصبح محمد نجيب رئيسا للوزارة مع كونه رئيسا لمجلس قيادة الثورة وكان هذا المجلس قد أخذ سلطة السيادة، كان واجبا على وزير المالية أن يعرض الخطوط العريضة لمشروع الميزانية الجديدة على مجلس قيادة الثورة قبل عرضها على مجلس الوزراء لإقرارها واستصدار القوانين الخاصة بتنفيذها.
فلما عرضت الخطوط العريضة وكان من بينها خفض وزن رغيف العيش دراهم معدودات ثار غالبية أعضاء المجلس واكتفيت هنا بالقول بأن الإبقاء على وزن الرغيف سيستتبع
أولا زيادة في بند نفقات الدعم الذي كان في ذلك الوقت حوالي مليونين من الجنيهات وكان الدعم أصلا غير مقبول من الناحية الاقتصادية لأنه يخل بصرح الكيان الاقتصادي
وثانيا: أن الموازنة العامة ستظهر وبها عجز يكاد يصل لخمسة ملايين من الجنيهات، وهنا اقترح أحد الأعضاء زيادة سعر علبة السجائر قرشا كما حدث في العام الماضي، وكان هذا القول مثار تعليق من أكثر من عضو وكان من بينهم كريا محيي الدين الذي قال إن زيادة القرش لعلبة السجائر في العام الماضي لاقت معارضة شديدة من ناحيتنا وكادت تدفع بوزير المالية أن يستقيل فكيف يحق لنا أن نقترحها الآن.
وبعد مناقشة جميع الاحتمالات الأخرى ولم يكن من بينها في هذه المرة زيادة فئات ضريبة الإيراد العام انتهى المجلس إلى موافقة على الخطوط العريضة كما هي ومن بينها خفض وزن الرغيف، وقال محمد نجيب في ذلك الوقت كلمته المأثورة "دي لقمة للقطة" ، وقد استعمل هو هذا التعبير في خطاباته بعد صدور الموازنة العامة مما كان له أكبر الأثر في قبول الشعب لخفض وزن رغيف العيش، هكذا توازنت الميزانية ولم تضخم بند نفقات الدعم".

(10)

ومن حق القريء علينا أم ننقل له وجهة نظر صاحب هذهالذكريات في السياسة الاقتصادية في عهد الرئيس مبارك:

" ....عهد إلي السيد الرئيس (يقصد الرئيس حسني مبارك) برئاسة المؤتمر الاقتصادي الذي اجتمع في فبراير 1982 لمدة ثلاثة أيام، وحضر السيد الرئيس بعض جلساته مستمعا، كما حضر معظمها المرحوم السيد فؤاد محيي الدين رئيس مجلس الوزراء عندئذ وكثير من الوزراء
وبصفة خاصة وزراء المجموعة الاقتصادية شعر أعضاء المؤتمر أن المهمة أجل من أن تعالج في ثلاثة أيام ولكن كانت المدة محددة مسبقا فاكتفوا في مداولاتهم وقراراتهم ببعض ما كانت الحالة تستدعيه من علاج، وخصوا
أولا وجوب التخطيط قبل العمل فكانت أهم توصية لهم هي ضرورة التخطيط، ثم عكفوا على العمالة وكيف أنها في كثير من النواحي ينقصها التدريب وتركيزهم على القطاعات التي تحس بنقص اليد العاملة فيها ووجوب إعدادها وتدريبها، ولذلك أوصى المؤتمر بضرورة العناية بإعداد اليد العاملة وتدريبها.
تكلم أعضاء المؤتمر عن العجز في الموازنة العامة وفي ميزان المدفوعات وتكلموا في موضوع الدعم في أشكاله المختلفة من دعم ظاهر ومستتر وضمني. ولكن غالبية الأعضاء كانوا أميل إلى عدم المساس أو على الأصح إلى عدم إصدار توصيات في هذا الموضوع بالذات لحساسيته الاجتماعية من ناحية أن الكثيرين من المستفيدين بالدعم من الطبقات الفقيرة من الشعب ولا يمكن أن يمس مستوى معيشة هذه الطبقات قبل أن تقوم الحكومة بضغط النفقات الحكومية التي شعر أكثر الأعضاء فيها إسرافا لا يتفق وظروف البلاد.
وإني وإن كنت أشارك أكثر الأعضاء الراي من حيث وجود إسراف في النفقات الحكومية لا يتفق والدخل القومي للبلاد إلا أني أشعر بأن المؤتمر كان يجب عليه أن يصدر توصيتين أولاهما تعالج الإسراف الحكومي وثانية التوصيات تعالج موضوع الدعم إذ إن الإسراف حتى إن عولج لن يكفي الموازنة العامة من ناحية ومن الناحية الأخرى لن يترك فائضا بالقدر الذي تحتاجه الاستثمارات الضرورية لدفع عجلة التقدم دون حاجة إلى الالتجاء إلى الاقتراض المبالغ فيه من الخارج.
لا يمكن لبلد في مثل ظروف مصر أن تتحمل دعم أسعار السلع والخدمات- هذا إن سلمنا اقتصاديا بضرورته- تلك المبالغ الكبيرة التي تربو على الخمسة آلاف مليون جنيه في السنة بين دعم ظاهر يقدر بألفي مليون جنيه ودعم مستتر وضمني بما يزيد على ثلاثة آلاف جنيه، وفي نفس الوقت تنفق على الاستثمارات الحكومية بما لا يقل عن خمسة آلاف مليون جنيه دون أن تقترض وتقترض كثيرا، وهي حالة لا يمكن أن تستمر طويلا.
ربد سائل يقول كيق لم أتعرض في تقريري عن المؤتمر لمعالجة هذا الموضوع ولكن لم يكن لرئيس المؤتمر من حق إلا أن يلخص مداولات المؤتمر ويورد توصياته، كانت رغبة أغلبية المؤتمر ألا يتعرض بتوصية ما في موضوع الدعم، وكان علي أن أحقق رغبات الأعضاء، فقد كان التقرير عن المؤتمر وتوصيات أعضائه وليس تقريرا شخصيا يمثل وجهة نظري".

الفصل الرابع : مذكراتي في السياسة والثقافة

للدكتور ثروت عكاشة

(1)

هذا كتاب من جزأين يطالع القاريء على غلافيهما الأولين لوحة يظنها للوهلة ا لأولى إحدى لوحات الفن السريالي ويطالع تعريفا لها في باطن الغلاف لا يتضمن لها اسما إلا أنها لوحة رقم 8 لفنان روسي، واللوحة من مجموعة خاصة في أمريكا..

إذن هل الغموض هو الطابع الذي أراد صاحب هذه المذكرات أن يفرضه على مذكراته؟ أم أنه اختار الغموض للغلاف بعدما ابتعد عنه تماما في كتابه الكبير الذي نفس فيه على قدر ما أتيح له من صفحات بلغت في مجموعها أكثر من مائتين وألف من صفحات القطع المتوسط؟

فليأذن لي صاحب هذه المذكرات أن أقترح عليه- بعد فوات الأوان - أن يجع عنوان كتابه "مذكراتي في الدبلوماسية والثقافة" ، بدلا من العنوان الذي وضعه وجعله "في السياسة والثقافة".

وليأذن لي أن اقول له إن في كتابك هذا فوق كل ما التفت إليه النقاد المسرعون، وقبل كل ما التفت إليه الكتاب المجاملون جانبا لم يشاركك فيه أحد قبل هذا، وهو المذكرات الدبلوماسية التي تعكس الدبلوماسية بمعناها العلمي

معناها الحقيقي المعاصر والذي يتضمن كل ما تعنيه هذه الوظيفة الدولية السامية من الدرس المتأني المتعمق المستند إلى خلفيات من الثقافة والتاريخ والإحساس بالزمن، واستشراف المستقبل الأفضل للشعب الذي ينتمي إليه صاحب الدبلوماسية.

كتب صاحب هذه المذكات مذكراته بأسلوب رفيع وعبارة منمقة، وقد بذل في ذلك التنميق والترتيب والتهذيب جهدا لا يستهان به.. غير أني أحب أن الفت نظر القاريء إلى أن هذا الجهد الذي بذله الرجل يهون تماما إلى جانب الجهد الآخر الذي كان عليه أن يبذله لو أراد أن يكتب مذكراته بلغة الكتابة المصرية في 1987

تلك اللغة التي هي أقرب إلى لغة السوقة، تحت دعاوي البساطة والسرعة.. إلخ.. أقول لو أراد الدكتور ثروت عكاشة أن يتبسط على هذا النحو لبذل من الجهد أضعاف ما بذل من أجل أن يتأنق، فهو متأنق بطبعه متعود على الأناقة والرقي.. ومن الصعب على من ترجم جبران خليل جبران وأعمال الأدباء الكلاسكيين المتميزين والمؤلفات التي تناولت الموسيقى بالنقد والتحليل أن ينساق إلى لغة اليوميات الفجة.

واقرأ معي تعبيره هو نفسه عن هذا المعنى حين يقول :

" فلا يوجه إلي سؤال عن سر تعلقي بجبران إلا وقفزت إلى ذهني مقولة الشاعر الفرنسي بولدير حين سئل عن سر اختياره إدجار آلان بو لترجمة مؤلفاته فقال:
" لأننا متشابهات متقاربان. لقد فتنني منذ صفحاته الأولى التي قرأتها له فلم أعثر بينها على الموضوعات التي كانت تراودني فحسب، بل لقد عثرت بالمثل علىا لعبارات التي كانت تجول بخاطري وكان أسبق مني إلى تسجيلها.
واعترف أن مؤلفات جبران التي عايشت رومانسيتها المحلقة ما ينيف عن أربعين عاما امتزجت فيها بحسي ووجداني قد أخذت تلح علي أن أنقل إلىالعربية ما كتبه جبران بالإنجليزية حتى أحسست أن واجب الوفاء نحو هذا الشاعر العظيم يقتضيني أن اقدم على هذا العمل الجليل الذي أعلم مدى صعوبته. فأدب جبران مظهر من مظاهر صراعه مع الألفاظ التس استعملها أدوات للتعبير عما يريد، معنيا بأن يكون الأساس في التعبير سيطرة المعنى على الصور اللفظية".

(2)

وسيظل هذا الكتاب لفترات طويلة مرجعا للإشارة غلى الظروف العامة التي أحاطت ببعض الأحداث التي مرت بها مصر الثورة.. أقصد أن أقول إنه لن يكون مرجعا تاريخيا أو وثائقيا ولكنه سوف يكون مرجعا لتصوير الجو الذي يريد المؤرخ (القادم) أن يرسمه حول بعض لأحداث التي يسجل بها، ومن خلالها، رؤيته لمجرى التاريخ المصري في بعض فترات عهد الثورة.

وربما كانت هذه إحدى النقاط التي تجعل من كتاب " مذكراتي في السياسة والثقافة" كتابا شبيها بكل القوة وبمنتهى الصدق على طريقة كل منهما في كتابة المذكرات.. ليس من شك في أن "هيكل" هو الأسبق والأوفر حظا لأسباب عديدة..

ولكن ما يهمنا من هذه الأسباب هو أنه مارس السياسة المصرية مدة أطول من تلك التي مارسها ثروت عكاشة.. ثم إنه مارسها من موقع أكثر تقدما من كل المواقع التي وصل إليها ثروت كعاشة.. ثم إنه ثالثا كتب مذكراته بروح أعمق من تلك التي كتب بها ثروت عكاشة مذكراته.. حتى وإن كانت روح كتابة ثروت عكاشة أعرض وأرحب (أو هي تحاول ذلك) بما يورد بين حين وحين من استطرادات شيقة إلى عوالم الفنون.

وعلى صعيد رابع فقد مارس هيكل باشا السياسة في وقت كان للممارسة السياسية حظ أكبر من الوضوح والعلانية والضوء.. قدر أكبر بكثير جدا من تلك الأقدار المتواضعة التي كان الدكتور ثروت عكاشة يشكو طوال الكتاب من تواضعها وحيرته (أو اختناقه) مع تواضع أقدارها.

وعلى صعيد خامس فإن فرصة التعليق الآتي على الأحداث كانت متاحة لهيكل باشا على أوسع وأرفع نطاق في صحيفته الشهيرة.. ثم وهو رئيس حزب يملك تحويل الرأي إلى سياسة مؤثرة. كل هذه العوامل مجتمعة - أو بعضها إذا لم يوافقني القاريء على بعضها الآخر - كفيلة بأن تبين لنا خلفيات الفروق التي قد تكون بين كتابين بينهما من الزمن أربعون عاما تقريبا.

أما السمة المشتركة بين الكتابين فتتمثل في أنهما عند سردهما للأحداث السياسية (أو الثقافية) كانا حريصين على تصوير الجو العام على نحو موسع ومستفيض قبل أن يعمدا إلى سرد تفاصيل الحدث. ولهذا فسوف تبقى هذه السمة من كتاب ثرون عكاشة بمثابة الدافع المستمر إلى النقل عنه عند تصوير الظروف المحيطة بوقوع الحدث.. مهما اختلفت الزاوية التي يتناول منها المؤرخ (أو الكاتب) الحدث نفسه.. إلخ.

ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه قد أفا من قراءته لهذه المذكرات في توسيع كثير من معلوماته عن الثقافة بمعانيها الواسعة وعن الفنون بتاريخها الممتد، وحاضرها، وسوف يفيد القريء من هذه الناحية أكثر من إفادته بمعرفة التاريخ المصري المعاصر..

وذلك لأن ثروت عكاشة كتب تاريخ الثقافة عن حب وفهم شديدين بينما اكتفى في كتابة تاريخ السياسة بأداء الواجب.. الواجب الذي كان (وراء) اشتراكه في ثورة يوليو ثم الذي كان (أمام) مشاركته في الحكم.

(3)

وربما كان مؤلف هذه المذكرات نموذجا للرجل الحريص على التعلم حتى وهو يكتب مذكراته، وإنك لتراه من بين السطور التي كتبها، وقد قام إلى مكتبته ليسترجع معلومة أو ليوثق حقيقة أو ليستشهد بقول مأثور فإذا هو يدقق في هذا كله، وهو يعرف أنه لابد له أن يفعل هذا بعد ما وصل إليه

حتى وإن لم يكن المناخ الجديد يطلب إليه أن يفعل كل هذا الذي فعل، ولكن الدكتور ثروت عكاشة لا يزال مصرا على أن يحظى باحترام أولئك الذين يستحقون أن يسعى إلى الحصول على احترامهم.. وهي سمة من سمات العظماء الذين يظلون حريصين على التعليم إلى آخر يوم من حياتهم لأنهم في الحقيقة متعلمون.

(4)

ومن خير ما في هذه المذكرات قدرة صاحبها على تبويبها على نحو ممتاز. فهو يأبى إلا أن يجعل حياته مراحل- وقد كانت كذلك بالفعل - ثم إذا هو يتناولها مرحلة مرحلة، كل مرحلة في فصل كامل ينقسم بالتالي إلى محطات متتالية وهي محطات طويلة تحتاج في بعض الأحيان إلى أن نتناولها على مرات عديدة حتى نستطيع استيعابها وتأملها.

وقد نجح مؤلف هذه المذكرات في أن يخضع نفسه للتاريخ ولكنه كذلك بدا وكأنه لم يمض مع التاريخ لأنه صاغ مذكراته كما قلنا تبعا للمراحل البارزة، فجاءته موضوعية لا يمكن أن تتأتى من أي منظور آخر مهما كانت براعة الكاتب، فإذا هو يمضي في تناسق تام مع أفكاره وتسلسلها الزمني

وكذلك مع أعماله أو جهوده أو مشاركاته من دون أن تصبح هذه المذكرات نوعا من الكلام الذي يأتي تحت العناوين التي ليست إلا أسماء الشهور والأيام.. بعبارة أخرى فإني أقصد أن أقول إن مذكراته رغم طولها وعرضها جاءت في وحدة موضوعية واحدة لا على النحو القريب مما تطالعنا به أغنية الشباب المرحة 3 مارس .. 4 مارس .. 5 مارس .. إلخ.

(5)

ولا أعرف - بعد هذا - لماذا آثر ثروت عكاشة وهو الرجل الدقيق أن يدرج على قاعدتنا المصرية في إغفال ذكر بعض الأسماء حين تروى الحوادث التي لا يفخر بها أصحابها مكتفيا بافشارة العابرة، وهذا فضل خلقي يحسب له وبخاصة أنه كان حريصا على أن يذكر أسماء المحسنين والمجيدين ولكن هذا الفضل الخلقي يظل بمثابة انتقاد تاريخي..

ولكني أتصور ثروت عكاشة الإنسان رقيق الحاشية وقد آلمه أن يذكر بعض الناس بالسوء فإذا هو يفغل ذكر الاسم.. ولكنه بعد حين يفاجأ بأنه كتب الاسم في منعطف من منعطفات الرواية.. فإذا هو يترك وعيه الباطن يظهر ما حاول أن يخفيه.

(6)

تبقى بعد هذا كله الإشارة بالنفس الطويل الذي تمتع به ثروت عكاشة في كتابة هذه المذكرات على الرغم من أنه كتبها في عصر الموسيقى السرعية والوجبات الجاهزة، ولا شك أنه قد استعان على ذلك بما أوحت به الذكريات نفسها من ظروف الأيام الخوالي حين كان يتاح له التجويد والتأمل والصبر والوقت المديد.

ولكن الذي لا شك فيه أننا نظلم الرجل حين نتلمس له مثل هذا السبب من دون أن نوفيه حقه من الثناء على قدرته الفذة على مغالبة نفسه حتى استطاع أن يخرج لنا هذا السفر الرائع من مذكرات شخص واحد.. ولكنها بالقطع مذكرات أمة عريقة .. ومذكرات جيل ممتاز.

كان صاحب هذه المذكرات أول رجال الثورة الذين (آثروا غيرهم على أنفسهم) – وكنت أعرف هذه الحقيقة مكبرة من عارفي فضل الرجل حتى جاء الرجل المتواضع الوقور فروى لنا القصة الحقيقة التي أظهرت لنا مدى توفيق الله لهذا الرجل العظيم في اتخاذ جانب الصواب حتى مع أنه لم يدر بالنية المبيتة إلا بعد ربع قرن من الزمان حسبما روى لنا، والقصة أنه عند تكوين مجلس قيادة الثورة، كان من المتوقع أن يكون لثروت عكاشة مكان فيه ولكن كان هناك نظير له من ذات السلاح هو حسين الشافعي..

وكان له نفس القدر من الأهمية والاحترام بين الضباط الأحرار المؤسسين.. وكان كذلك أكبر رتبة من الدكتور ثروت عكاشة. وكان عبد الناصر باحترامه للبروتوكول (وهو ما عرف عنه دائما) يميل إلى ترجيح كفة حسين الشافعي كممثل للفرسان فإذا بثروت عكاشة (وبدون اتفاق) يحقق لعبد الناصر رغبته.

ويتضح لنا في مواضع كثيرة من الكتاب مدى التقدير الذي يكنه مؤلفها لرفيق سلاحه خالد محيي الدين.. ولعل خالد محيي الدين في هذه المذكرات أوفر أعضاء مجلس قيادة الثورة تقديرا عند الدكتور ثروت عكاشة حتى بأكثر من عبد الناصر..

ويسعد ثروت عكاشة بأن يضمن كتابه فقرات كتبها له الأستاذ خالد محيي الدين – بناء على طلبه - وهي مكانة لا يعطيها مؤلف ولا كاتب مذكرات إلا لشخص رفيع المكانة في نفسه عن حب وتقدير احترام عميق وهذا هو جوهر علاقة خالد محيي الدين والدكتر ثروت عكاشة.

وبالإضافة غلى إنصاف هذين الرجلين:

حسين الشافعي وخالد محيي الدين، فلعل هذا الكتاب هو أكثر الأدبيات السياسية التي تناولت تاريخ الثورة إنصافا لدور جلين من رجال الثورة كان لهما فضل كبير فيها
وكانا في فترتين في موقع الرجل الثاني من عبد الناصر في رئاسة الجمهورية، ولكن وجودهما ثم غيابهما ثم غياب مذكراتهما عن الساحة جعلنا لا نفهم دورهما ليلة الثورة على النحو الذي يجب أن يكون.. وهذان الرجلان هما زكريا محيي الدين وعبد الحكيم عامر اللذان حملا العبء الأكبر ليلة الثورة تخطيطا ومتابعة، ولعل الصفحات 89- 93 من الجزء الأول من هذا الكتاب والصور الزنكوغرافية للخطة العامة للثورة تعطينا فكرة صادقة عن دور هذين الرجلين العظيمين ليلة الثورة.

ومن حسن الحظ أن ثروت عكاشة نشر مذكراته في هذا الوقت الذي بدأنا فيه ننظر إلى ما أمامنا في غضب شديد.. فإذا هذا الرجل يحيل بكتابه هذه المشاعر إلى مشاعر أخرى من التأمل العميق في دواعي الغضب ودوافعه بحيث يتحول الغضب إلى قلق- من النوع البناء الذي يتمثل الماضي وهو يتمثل الحاضر فيظن عندئذ أن في الإمكان أن نرتقي كل الرقي مهما ظلمتنا الظروف..

ومهما كان المناخ العام ماضيا في اتجاه مخالف تماما لما يتطلع إليه المرء من ظروف كفيلة بتحقيق أمانيه، وهو يكتب في هذا المعنى فقرات رائعة يقول فيها: " ولن يتسنى لنا أن نقيم ثقافة قومية على ا لوجه الصحيح إلا غذا أفدنا من كل ثقافات العالم وفنونه، ومن تقدمه التكنولوجي والعلمي والإنساني. فنحن لم نر من قبل قط ظاهرة "

عالمية الفن، تتجلى بمثل ما نراه حين نشاهد عبقرية شاعر مسرحي فذ مثل شكسبير الإنجليزي تجتمع معها مواهب موسيقي عملاق مثل فردي الإيطالي ليخلق منها أوبرا مثل "عطيل" يتضافر على العزف لها أوركسترا فرنسي يقوده مايسترو من اليابان

ويعكف على الأدوار الغنائية الرئيسية فيها مغنون من أمريكا وألمانيا وإيطاليا، ويقوم بالأدوار الراقصة "باليرينات" من السويد والدانمرك، وراقصون من روسيا، بل ومن مصر.. أجل من مصر ومن خريجي معهد الباليه بأكاديمية الفنون المصرية بالجيزة، ويصمم مناظرها وثيابها فنان من إسبانيا، فتنبض قلوب المشاهدين غربا وشرقا بنفس الشجن والانبهار. إن الإنسانية لم تشهد من قبل أبد مثل هذه الإمكانيات لتحقيق أحلام لم تكن لتتحقق إلا في الخيال الذي لا يعشش إلا في وجدان الطفولة النقية، فالجمال طليق لا يحده مكان، ولا يحيط به زمان.

إن الدول لا تغزو المستقبل إلا إّا تجاوزت الإنجازات المادية، وكل غزو عملي في الحاضر مقضي عليه لأن الحاضر لا مناص من أن يتوقف ذات يوم، والدول الراسخة هي التي تدفع الحاضر إلى المستقبل ، والمستقبل لا وجود إلا في الثقافة

لأنه إذا أمكن لأمة ما أن تكون عظيمة بذاتها فلن يتسنى لها أن تشمخ بين الدول العظمى- شأنها شأن الناس- إلا إذا تجاوزت قيمتها الذاتية لتجعل منها إسهاما نزيها في القيم الإنسانية وفي القيم الكلية.

والقيم الثقافية هي وحدها القيم الكلية، لأن تحديدها معناه تحديد النقطة التي عندها تتخذ المعتقدات والأبحاث والاكتشافات التي يقوم بها الإنسان قيمة عند الجميع كما هي عند الذين أنشؤها. وليس ثم ميدان آخر غير الثقافة توجد فيه مثل هذه القيمة الكلية الشاملة، أعني المستوى الكلي العالمي، وما أصدق الفنان روبنز حين قال "إني أعد العالم كله وطني".

(7)

أظنني بعد كل هذا في حاجة إلى أن أتناول الكتاب كله في قطاعات متتالية تدلنا على بعض ما فيه من خير كثير، وعلى بعض ما ينبغي لنا ألا نقبله على علاقته هكذا.

أولا: كان بودي - وبود كثيرين - أن يعيد مؤلف المذكرات النظر في حديثه عن الأشخاص الذين جاء ذكرهم في كتابه، فقد استن لنفسه سنة التعقيب بانطباعه عن شخصيات الأعلام حين يرد ذكرهم.. وقد الدكتور عكاشة نفسه وأنصف هؤلاء في مواضع كثيرة جدا من كتابه حتى أصبح كتابه معرضا للوفاء الجميل، ومن محاسن هذا الكتاب أن مؤلفه قد أعطى كثيرين من أصحاب الحقوق حقوقهم..

وبالطبع فإن المكانة (المكتوبة) لإنجازات هؤلاء الرواد كانت متأثرة برؤية ثروت عكاشة وعلاقته ووده بهم.. ولكن الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن الدوافع وراء ثروت عكاشة وعلاقاته كانت دوافع ممتازة أكثر منها دافه شخصية، وكانت مثالية أكثر منها واقعية، وكان فيها من الرومانسية قدر أكبر من المتاح في العلاقات بين صاحب السلطان وأصحاب الفكر.

وقد تحدثنا من قبل عن إنصافه لزكريا محيي الدين وحسين الشافعي ولخالد محيي الدين وعبد الحكيم عامر.. كما يحوي الكتاب فقرات رائعة في تقدير عبد اللطيف بغدادي، أما أنور السادات فنحن نقدر لثروت عكاشة حساسيته تجاهه، ونقدر له كذلك تسجيله لفرحته بنصر أكتوبر وبمبادرة السلام

ولكن الذي لابد أن نقوله هنا هو أنه لا يمكن لثروت عكاشة ولا لكتابه ولا لأي مؤلف أو أي كتاب أن يسقط عهد أنور السادات من التاريخ المصري لسبب واضح، هو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراده لمصر بكل خيره وكل شره. ولو أفاض ثروت عكاشة في انتقاد السياسات الثقافية في عهد السادات حتى لو جعل لها جزءا كاملا لكان خيرا له (ولنا) من هذا التجاهل المتعمد الذي قد لا يجيده ثروت عكاشة.. وإنما يجيده آخرون.

بيد أن ملاحظتي هنا لا تتعلق بأنور السادات بقدر ما تتعلق بأشخاص ثلاثة كان لابد لثروت عكاشة أن ينصف نفسه عند حديثه عنهم (مع الفارق في علاقته بهم).. أول هذه الشخصيات هو زوج أخته الأستاذ أحمد أبو الفتح رئيس تحرير المصري وصاحب الفضل على الثورة، وصاحب العنت الرهيب الذي لاقاه من عبد الناصر .

نحن لا نرى حديث عكاشة عن الأستاذ "أبو" الفتح إلا حين لا يكون هناك مناص من الحديث عن الأستاذ "ابو" الفتح. دعنا من إشادته بدوره في صفحة 81/ 1، ودعنا من مقارنة الأستاذ "أبو" الفتح لموقف الصحافة من الثورة يوم قيامها.. ودعنا من حديث ثروت عكاشة العابر دفاعا ن نفسه أما عبد الناصر عن اتصاله بالأستاذ أبو الفتح.. أين الأستاذ "ابو" الفتح الرجل العظيم بعد هذا كله بل وقبله؟

ألم يكن من حقه صفحة أو فقرات كالتي قرأناها عن فرنسيين بعيدين تماما عنا زمانا ومكانا مع احترامنها لثقافة ثروت عكاشة وهواياته واهتماماته وأ،ا أثبت هنا أن ثروت عكاشة قد أشاد بالدور الوطني "لأبو" الفتح في أكثر من موضع في الجزء الأول من كتابه (صفحات 81 و 84 , 85 , 86 , 87)

ولكني اعتقد أن تاريخ آل ابي الفتح الذي لم يكتب بعد سيظل يستغيث بالدكتور ثروت ليكتبه تفصيلا، وكنت أظنه يفر له هامشا قد يستغرق ثلاث صفحات على الأقل.. فمن أولى بإنصاف "أبو" الفتح من الثورة بعد كل هذا التجاهل والظلم الممتر؟

ثاني هذه الشخصيات هو المغفور له الدكتور حسين فوزي الذي كان الوكيل الدائم الأول لوزارة الثقافة حين جاءها الدكتور ثروت عكاشة وزيرا، واختلفا في أول عهدهما ثم كان خير من تعاونوا مع ثروت عكاشة، وعكشاة يذكر هذا الفضل لحسين فوزي، ويشيد بعطائه الثقافي الرفيع، ولكن إشادته الجميلة لا تتناسب مع حجم عطاء الدكتور فوزي إذا ما قورنت بإشادة الدكتور عكاشة بآخرين.. ثم هل يليق بمؤلف هذهالمذكرات أن ينبئنا أنه خير الدكتور حسين فوزي (398/ 2) بين رئاسة أكاديمية الفنون وبين البقاء في الأهرام.. فآثر الدكتور فوزي الأهرام..

هل ليق أن ينبئنا الدكتور ثروت عكاشة عن هذا دون أن يبدي رايه في هذا الذي فعل.. رايا واضحا غير الأسف الشديد ولكن يبدو أن ثروت عكاشة كان سيعاني مما قد يراه حرجا خلقيا في أن يتناول بعض الوقائع المبكرة التي دفعت المغفور له الدكتور حسين فوزي إلى التناول عن موقعه القيادي في وزارة الثقافة حين راي أن تصرفات أحد كبار الموظفين قد مست كرامته، مع أن عكاشة لم يعلم بهذه الواقعة إلا بعد 11 عاما.

ثالث هذه الشخصيات هو الدكتور عبد القادر حاتم صاحب الخوات المقاربة للدكتور ثروت عكاشة.. الضابط الذي ثقف نفسه وحصل هو الآخر على الدكتوراه وهو في مقاعد الحكم.. يتحدث عكاشة عن تعاونه معه حين كان هو ملحقا عسكريا وكان حاتم رئيس الاستعلامات (172/ 1) فنتفاءل..

فإذا جاء عكاشة بعد ذلك إلى الصراع المصطنع بين سياستيهما في الثقافة والإعلام نراه يتحدث عن وير دون أن يذكر اسمه، وعكاشة له أن ينتقد ما شاء كيفما شاء.. ولكن لماذا لا يقول وكانت هذه سياسة زميلي د. حاتم أو وكانت وجهة نظر الدكتور حاتم كذا

ألم يكن هذا أحرى بالرجل الرقيق المهذب بدلا من أن يكون كهؤلاء الكتاب الذين لا يدنسون أقلامهم بذكر اسم الخصم (أرجو الدكتور ثروت عكاشة أن يتفضل بمراجعة الصفحات 190، 191، 192، 193 من الجزء الثاني من طبعة مدبولي).

ثانيا : على الرغم من أن مؤلف هذا الكتاب آثر عنوان "مذكراتي في السياسة والثقافة" فإنه كان أميل بكتابه إلى عنوان مذكراتي بين الدبلوماسية والثقافة كما أستأذناه في أول هذا العرض.

وقد كان عكاشة اقدر ما يكون على أن يحول كتابه (سياسي) من الدرجة الأولى إذا ما تعمق ثلاث قضايا:

الأول: الصراع مع إسرائيل.. وقد حكى لنا ثروت عكاشة كثيرا عن اتصالاته مع إسرائيل (174/ 1 وقبلها وبعدها) وعبر لنا عن سعادته بنصر أكتوبر، وسعادته الطاغية بإقدام أنور السادات على مبادرة السلام (578، 579/ 2) ولكنه لم يتعمق هذه المسائل بالقدر الكافي.. هل خشي الرأي العام؟ هل تحاشى المساس بالسياسة مع أن السياسة بارزة في عنوان الكتاب؟
الثانية: المسألة الداخلية: ولا أكذب القاريء حين أقول إن الفصل الذي عنوانه ب أمين والتأميم هو من خير فث عن الأوضاع الداخلية بشكل ممتاز ولكنه حذر... وحين تعرض ثروت عكاشة لأحداث الطلبة (1968) تناولها من زاوية ما رآه، نعم هذا مدخل جيد ولكن لابد للسياسي من أن يتناول أمور بلده بأكثر من زاوية ما رآه... وإذا قيل عن ثروت عكاشة إنه حبس نفسه في برج فربما كان هذا قابلا للتصديق فها هو تناول المسائل الداخلية على النحو الذي تناوله معطيا دليلا قويا على صحة ما يقولون .
الثالثة: فكرة انتهاج مصر سياسة الحياد الإيجابي: يعرض صاحب هذه المذكرات علينا الفكرة في بساطة ودون تعمق ويروي لنا أن عبد الناص لم يرحب بها (238/ 1) .. ويمضي من دون أن يبسط لنا القول في مزايا فكرته الجميلة التي طالما راودت الرومانسيين والواقعيين والمثاليين من أبناء وطنه ولكني أعتقد أنه لن يبخل على هذه الفكرة في فترة قادمة بكتابات أوسع وأعمق تصدر عن العسكري الملتزم الذي زان الفن والأدب فكره على أروع ما يكون.

ثالثا: وأنت ترى في هذا الكتاب وطوال قراءتك له كثيرا من الآراء الراجحة التي يبديها مؤلفه في شأن بلاده وثورتها وأحوالها السياسية والعسكرية في الفترة التي كان فيها قريبا من السلطان. وهي الآراء التي ربما لم يصل إليها صاحبها في حينها وإنما وصل إليها بعد أن انضجته السنون وظهر له مدى نصيب انطباعاته الأولى من الصواب والخطأ...

وثروت عكاشة يصحح لنا كثيرا من الرؤى الشائعة في جسارة شديدة وبأدلة يقينية قاطعة:

  • فهو يرى أن إسرائيل استعدت جيدا لحرب 1848، وأنه كان من الصعب التغلب على الجيش الصهيوني في هذه الحرب، وقد كان فيه أكثر من أربعين ألف مقاتل مدرب ومسلح (ص 43/ 1) .. وربما يستغرب القاريء العربي مثل هذه المقولة اليوم... وهو لا يزال يظن أن الخيانة وحدها كانت سبب هزيمتنا في 1948.
  • أكثر من هذا يرى الملف أن الجيش المصري كان يعاني من الجنود فبينما كان الضباط مدربين ومعدين جيدا كان الجنود دون المستوى (ص 145/1) ولهذا فإن نسبة الضباط الذين اشتشهدوا كانت أكثر من نسبة الجنود الشهداء... وهو أول من سجل هذا.
  • ويسجل للمغفور له المشير عبد الحكيم عامر بطولته النادرة في اقتحام مستعمرة نيتسايم، وهي البطولة التي نال بسببها ترقية استثنائية (ص 45/1) بينما يجد القاريء الجو العام في تاريخنا مشحونا بحيث إن ذكر عبد الحكيم عامر الآن لا يأتي إلا أبعد ما يكون عن البطولة.
  • أهم من هذا كله أنه ثروت عكاشة يفند قصة الأسلحة الفاسدةة تفنيدا كاملا ولا يجعل لها أي دور في هزيمة 1948 على عكس الشائع.
  • ويروي لنا ثروت عكاشة حقائق عن موقف الصحافة المصرية من الثورة (ص 85/1) فالأهرام أغفل نشر خبر قيامها تماما، والأخبار نشر الخبر في زاوية صغيرة، أما المصري فنشره بعناوين كبية.
  • ويذكرنا ثروت عكاشة بأن طه حسين كان ينعي على الثوار تسميتهم الثورة بالحركة المباركة وكان يدعوهم غلى مسمى الثورة (ص 114/1).
  • ويذكرنا ثروت عكاشة كذلك (ص 168) بدور إدجار فور (الذي منحته جامعة الزقازيق الدكتوراه الفخرية) فر قرار قطع علاقات مصر وفرنسا حين كان وزيرا لمالية فرنسا (1954).
  • ويفصل ثروت عكاشة القول في قصة طرد جالوب القائد البريطاني للجيش الأردني (صفحة 186/1) وكيف أحرج العرب القائد على أبو نوار حين لم يستطيعوا الوفاء بالالتزامات المالية.
  • ويعرض ثروت عكاشة لجذور العداء الشخصي بين بورقيبة والنظام المصري (صفحة 190/1) ويعزو ذلك غلى ذلك الحديث الصحفي الذي نشره سعد التائه عن بورقيبة في آخر ساعة.
  • ويروي ثروت عكاشة التفاصيل الكاملة لإرساله خطة العدوان الثلاثي على مصر (1956) إلى الرئيس عبد الناصر مع عبد الرحمن صادق (ص211/1، 213/1) وكيف أن عبد الناصر أفاد من هذه الرسالة على حين أن هيكل يشوه الصورة تماما في كتاباته عن حرب السويس ويتولى ثروت عكاشة بالأسانيد تفنيد المزاعم التي أوردها الأستاذ هيكل (ص 216/1).
  • ويروي د. عكاشة في أمانة شديدة سلسلة لقاءاته بالإسرائيليين واتصالاته بزعماء المؤتمر اليهودي بدءا من جولان وجولدمان (ص 257/1).
  • ويروي لنا عن الرئيس عبد الناصر كيف تمكن مناهضو عبد الكريم قاسم من الإجهاز عليه (ص 202/2).
  • ويطلعنا مؤلف هذه المذكرات (ربما لأول مرة) على أفكار بعض وزرائنا الممتازين في الإصلاح السياسي الداخلي (ص 519/2، 520/2) وبخاصة آراء الدكتور القيسوني في تكوين حزبين، وآراء الدكتور عبد العزيز السيد في عودة الأحزاب.

رابعا: يتراوح موقف ثروت عكاشة من صديقه جمال عبد الناصر على مدى صفحات الكتاب بين الإعجاب الشديد والانتقاد الشديد أيضا:

  • فهو يرى "إن أكثر أخطاء الثورة لم تكن وليدة الحاكم نفسه بقدر ما كانت وليدة الحكم الذي يشكل بيئة تترعرع في بيئتها قوارض النماء" ص 17/1.. تعبير جميل ودقيق أيضا.
  • ويذكر لنا في أكثر مو موضع سر انقياد الضباط الأحرار لشخصية الرئيس جمال عبد الناصر وما في هذه الشخصية من مميزات ص 57/1 .
  • وفي صفحة 66/1 ينتقد في وضوح شديد ما وصفه بأنه أسلوب عبد الناصر في الإفادة من التشهير الذي اتبعه مع اللواء صبور، ثم بعد ذلك دائما والذي كان يعبر عنه للدكتور ثروت عكاشة بقوله: " إن هذا التشهير سلاح علينا أن نستفيد منه إلى أبعد مدى".
  • وينتقد ثروت عكاشة أيضا الأسلوب القاسي الذي اتبع مع محمد نجيب (ص 127/1).
  • ويروي ثروت عكاشة تعاطفه مع هنري كورييل زعيم الشيوعيين المصريين وإنه التمس من عبد الناصر إعادة الجنسية إليه (384/1) بيد أن هذا لم يصادف هوى عند الأجهزة المسئولة.
  • ويحدثنا بالتفصيل عن اتقاده لمركزية الحكم في عهد عبد الناصر (187/2) ودور عبد الناصر نفسه في صياغة هذه المركزية.
  • وبنفس القدر يحدثنا عن رايه في موقف عبد الناصر في صياغة وحدة 1958 (188/2).
  • ويدلنا ثروت عكاشة (في صفحة 200/2) على عبد الناصر البيروقراطي المتصرف الذي أصدر له قرار رئاسة البنك ونشره في الجريدة الرسمية بتاريخ يسبق تعديل الوزارة بخمسة عشر يوما.
  • وعلى مدى الصفحتين (516/2، 517/2) نرى كثيرا جدا من الأفكار التقدمية التي وصل إليها عبد الناصر بعد ما صهرته التجربة، والتي قد يعجب الناس من أن يكون عبد الناصر قد اعتقدها.. فإذا بصاحب هذه الذكريات يثبت له هذه القدرة الممتازة من الرجوع إلى الصواب ونضج التجربة.. وحين نقرؤها سنعجب مثلا لتحول عبد الناصر عن فكرة كفكرة الخمسين في المائة، وكيف بدأ يتعطش للنقد الذاتي ولتحمل كل مسئول مسئوليته بعيدا عنه.
  • ويذكر ثروت عكاشة بالعرفان لعبد الناصر وقفته معه أمام تقارير شعراوي جمعة التي كان من الممكن أن تطيح به (533/2 و 537/2 و 539/2 و 541/2).

خامسا: ويجد القاريء لكتاب ثروت عكاشة بعد هذا كله كثيرا من المتعة الذهنية وهو يتابع تاريخا يكتبه قلم متشبع بالفن والأدب فيضفي على الوقائع التي لا يراها الآخرون - إلا مجردة – كثيرا من الحياة الحقيقية التي تجعل رواية من الوقائع أقرب إلى الصدق والتعبير والواقع نفسه

ولا يكتفي ثروت عكاشة بهذا وإنما يضفي كثيرا من آرائه وآراء غيره، وفلسفته وفلسفة غيره، وتصويره وتصوير غيره على ا لمواقف فتستحيل هذه المواقف الفرادى إلى عناصر مكونة لفهمنا الكامل للحديث والتاريخ، ونستطيع أن ندل القاريء على عدة مواضع... تتمتع فيها الدكتور ثروت عكاشة بقدر هائل من التعبيرية الصادقة.

فهو يقدم لنا تحليلا ممتازا للتعاطف الأمريكي مع الصهاينة ويلخص أسباب هذا التعاطف في ستة أسباب (ص 48/1). ويعرض لعلاقة العسكريين بالثقافة، وينفي العلاقة السببية السلبية إلى أن يقول (64/1) "ولا أعتقد أن نسبة غير المثقفين من بين الضباط تختلف كثيرا عن نسبتهم بين خريجي الكليات المدنية".

ويروي لنا احتدام الصراع حول الجزائر داخل فرنسا بطريقة جميلة.. وينتهي إلى ما انتهى إليه من ضرورة استخدام سياسة (كسياسة أنور السادات مع الإسرائيليين عقب مبادرته وإن لم يقل هذا صراحة) كفيلة بمصاعدة الأطراف الفرنسية ضد الأطراف الفرنسية من أجل مصلحتنا (ص 170).

كذلك يعرض لنا ثروت عكاشة تحليلا ممتازا لاتجاهات السياسة الإيطالية وعوامل التأثير والتأثر فيها (ص 296/1). ويفصل ثروت عكاشة القول الوعي في الإهمال والاستهانة وسوء التقدير التي كانت تحكم تصرفات رجالنا العسكريين تجاه القضاية الفنية وقضايا التسليح مما يندي له الجبين (ص 446/1) وتجربته الشخصية في هذا المجال.ويحكي لنا في تأمل ذكرياته عن وقوع الانفصال وهو في سوريا (606/1).

ويفصل لنا القول بإسهاب شديد في جهود إنقاذ النوبة حتى ليكاد الفصل الأول من الجزء الثاني من المذكرات يكون أكبر كتاب عربي عن هذا المشروع وليس في هذا ما ينتقد على الإطلاق، بل لعل القاريء يجدني أدرج هذا المثل كواحد من الأمثلة الدالة على التعبيرية الصادقة في كتاب ثروت عكاشة ولعل كل كتاب المذكرات لا يبخلون علينا بذكر ما لهم متذكرين في ذلك قول شكسبير "غذا المرء أعوزه من يذكر ماله، اضطر هو إلى أن يذكره"

وسادسا: ولا ينسى ثروت عكاشة نفسه في خضم كتابه كله، فهي مذكراته بالطبع وله أن يتحدث ما شاء عن نفسه ولكنه يتعمق هذا الحديث في مواضع كثيرة، ويستعرض بالطبع ثقافته التي كد من أجلها.. ولكنه مع ذلك يأبى إلا أن يستزيد..

وفي الكتاب مواضع كثيرة للكتابة عن ثروت عكاشة خارج نطاق الحديث عن مذكراته أو عنه ككتاب مذكرات أو سيرة ذاتية:

  • ففي صفحة 22/1 ينقل ثروت عكاشة آراء اثنين من معاصريه في شخصيته ويناقشها.
  • وفي صفحة 69/1 يرينا كيف تحول إعجابه المبكر بجنكيز خان إلى مقت وكره.
  • وفي صفحات 99- 103/ 1 يطلعنا على دوره في سلاح الفرسان عند قيام الثورة ثم يتحدث كيف تنسيه واجباته العامة واجباته الخاصة حتى إنه اكتشف أنه كان بلا ذخيرة طيلة فترة الثورة (ص 102/1).
  • ويعبر لنا عن فخره الشديد حين انتصر على عوامل الفساد ورفض العمولة المقدمة له في فرنسل (ص 199/1).
  • ويفخر بما استطاع تحقيقه لبلاده من الأسرار العسكرية من دون أن يفشي هذه الأسرار ولا وسائل حصوله عليها (ص 196/1): " ولقد يسر الله لي الولوج إلى منافذ كانت شبه موصدة دوني امتهيت إلى ما أبغي من معلومات .. وليست هذه الصفحات هي مجال بسط.. وإن كان الأمر يقتض أن أسوق القليل".
  • ويظهر ثروت عكاشة امتعاضه من إبعاده عن الوفد المصري في المباحثات بين الرئيس عبد الناصر والرئيس فانفاني رئيس رئيس الوزراء الإيطالي، على الرغم من أنه كان عائدا لتوه من منصب السفير المصري في روما ليكون وزيرا للثقافة، ويروي كيف أكثر الرئيس فانفاني ذكر اسمه طيلة المباحثات حتى خرج عبد الناصر والدكتور فوزي وأسبابه (85/2).
  • ويحدثنا عن دوره في الإصلاح الاقتصادي وكتابة تقرير للرئيس عبد الناصر (صفحة 266/2) ودور الدكتورين عبد الحكيم الرفاعي وعبد المنعم الطناملى.
  • ويحدثنا ثروت عكاشة عن دوره في إصدار شهادات الاستثمار من البنك الأهلي المصري.
  • وعن سياسته كذلك في تخصيص ميزانية لشراء لوحات الفنانين المصريين لتكون بمثابة مقتنيات البنك الأهلي المصري (229/2).
  • ويروي لنا قصة خلافه مع وزير الداخلية شعراوي جمعة (ص 285/2) و (ص 286/2) ويعود إلى هذه القصة (533/2 و 537/2 و 539/2 و 541/2) وموقف عبد الناصر من هذا الخلاف الذي أظهر حب عبد الناصر له وثقته فيه.

رسابعا: بيد أن المرء لا يستطيع أن يترك الحديث عن الجوانب الشخصية في ثروت عكاشة في كتابه دون أن يشير غلى عدة ملاحظات هامة:

  • كان ثروت عكاشة يعبر عن نفسه في أغلب الأحيان بتعبير كاتب هذه السطور وكان أولى به أن يقول مثلا "كاتب هذه الفصول".
  • على مدى الصور التذكارية المبثوثة في الكتاب لم نر للسيدة زوجته الصور التي تليق بزوجة عكاشة .. فما هو الدافع يا ترى وراء هذا؟
  • أفرط ثروت عكاشة - وربما كان هذا من حقه- في النقل عن تقرير المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ذلك التقرير الذي ارتفع بعهده في وزارة الثقافة إلى السماء ونزل بالعهود الأخرى إلى الأرض حتى لتكاد تظن أن هذا التقرير عريضة محام مسوكل من قبل الدكتور ثروت عكاشة، لست أريد أن اعرض بالتقرير الذي ربما كان كاتبوه يشربون من نفس المنهل الجميل الذي شرب منه الدكتور عكاشة ولكن الذي لا شك فيه أن هذا ليس بالأسلوب الأمثل لامتداح سياسات الشخص، وربما كان حديث المرء عن نفسه أهون بكثير (راجع صفحات 251/2و 322/2 و 347/2 و401/ 2).
  • أفرط ثروت عكاشة كذلك في الاستشهاد بفقرات الدكتور لويس عوض مع كل ما يعرف الناس عن انحياز لويس عوض التام لا نقول للدكتور ثروت عكاشة وإنما ضد الدكتور عبد القادر حاتم والآخرين من ورزاء الثقافة. وقد كان في وسع عكاشة أن يجد آخرين مشيدين بفضله لا يقلون قيمة عن د. لويس عوض (أرجو القاريء مراجعة صفحات 453 و45 و455).
  • نجح ثروت عكاشة في أن يعبر لنا أصدق تعبير عن أصعب المواقف التي قابلته، حين أراد أن يبتعد عن الحكم فلم يستطع، وهو يرينا (صفحة 195/ 2) كيف أن الخوف من الاستقالة هو أصعب المواقف التي تواجه السياسي في دولة (بوليسية).
  • مما يؤخذ على مؤلف هذه المذكرات رغم جهده الكبير أنه يتحدث مثلا عن سلاسل هيئة النشر الرسمية (ص 268/2) وكأنه أصدر سلاسل جديدة، بينما كانت موجودة من قبل وربما من عهده هو السابق.. وإنه يتحدث عن مشروعات لم تنته حتى الآن (1989) فيقول إنه استأنف العمل فيها وأبسط مثال "القاموس" (ص 270/ 2) ..الخ).

بل إن الدكتور ثروت عكاشة (ولا حرج عليه) يسرف في هذا المجال إلى حد أن يضم إلى إنجازاته أحلامه في أن توجد في مصر قرية للأطفال شبيهة بديزني الذي قابله وفاتحه في الموضوع قبل مماته (437/2).

ثامنا: لابد لنا أن نعترف للمؤلف بفضله حين دلنا على هذه المواقف الحاسمة في تاريخ كثير من السياسيين البارزين:

  • فهو يذكرنا بموقف ستالين وكيف قال (ص 48/1) "إنه يلد له أن يقف حاميا نصيرا لدولة يهودية".
  • وهو يلفت نظرنا (صفحة 325/1) إلى أن نهرو وقد غير ىراءه في الشيوعية تماما بعد ما رأي حوادث المجر في 1956.
  • كما يروي لنا (330/1) أن وزير الخارجية الأمريكي "دلاس" كان يحقد علينا لأننا لم نعترف بجميله في وقف العدوان الثلاثي علينا في 1956، وأنه كان يكفيه وهو على سرير الموت أن تكتب على قبره عبارة : " هنا يرقد الرجل الرجل الذي أنقذ مصر من العدوان".
  • ويحكي لنا بإعجاب شديد قصة إخلاص عالمة الآثار كريستيان ديروش مما دفعها إلى سفر متواصل حتى أتمت إنجازا لمصر (68/1)
" أسجل للسيدة كريستيان ديروش نوبلكور الأمينة الأولى بمتحف اللوفر ومستشاره اليونسكو لدى مركز تسجيل الآثار المصرية حماسها المتدفق وإيمانها بمشروع الإنقاذ إيمانا بلغ مرتبة العقيدة ثم إدراكها الرهيف لأهمية آثار النوبة وغيرتها عليها وسعيها الدائب في سبيل المحافظة عليها.
وأذكر مثالا على ما كان لهذه السيدة من جهد مخلص وحرص على إنجاح العمل، إنها كانت ذات يوم بمعبد كلابشة على بعد سبعة وخمسين كيلو متر جنوبي أسوان، واحتاجت إلى أن تعرض علي أمرا هاما فاستقلت الباخرة النيلية إلى أسوان، ومنها بالطائرة إلى القاهرة حيث علمت أنني كنت في دمشق أباشر عملي وزيرا للثقافة هناك
ولم تئنها تلك المفاجأة عن عزمها فاستقلت الطائرة لساعتها إلى دمشق لتصلها في نفس اليوم. ولكنها لم تكتف بذلك، بل تابعت سفرها للقاء رينيه ماهيه في باريس واستكملت ما أرادته منه، وفي مساء اليوم التالي كانت تواصل عملها في أرض التوبه من جديد".
  • وينقل لنا عن الدكتور الطناملي قوله (219/1) إن مكاسب الاشتراكية قد أجهضتها الحروب وإن مكاسب الانفتاح أجهضتها الفساد.
  • ويؤكد لنا المعنى الذي يتردد لنا كثيرا من اعتقاد عبد الناصر أن حرب اليمن لم تكن إلا ورطة.
  • ويعبر في صراحة ووضوح شديدين عن تطيره الشديد من سامي شرف ومن وجوده إلى جوار عبد الناصر (549/1).

تاسعا: بقى أن نلقي الضوء على علاقة مذكرات ثروت عكاشة بالكتابات الأخرى التي تناولت الحقبة الناصرية وبخاصة كتابات الستاذين هيكل وحمروش

وفي هذا الصدد فإن ثروت عكاشة يتحاشى الأستاذ هيكل ولكنه مع ذلك لا يستطيع إلا أن يظهر مرارته منه في أكثر من وضع:

  • فهو يعجب تماما من إغفال الأستاذ هيكل الحديث عن دوره ودور عبد الرحمن صادق في إبلاغ بيات العدوان (1956) لعبد الناصر حيث صاغ هيكل كتابه والدراما التي فيه على فكرة أن عبد الناصر قد فوجيء بالعدوان . وفي الحقيقة أنه لم يعد في إمكان هيكل التراجع لأنه صاغ الكتاب هكذا.. على الرغم من أن هناك كثيرين غير ثروت عكاشة قد ابلغوا عبد الناصر، وعلى الرغم من كل الكتابات والروايات المتواترة من أن عبد الناصر لم يفاجأ على هذا النحو الذي صوره هيكلن ولابد لعكاشة والآخرين أن يجدوا العذر لهيكل وإن ابتعد عن الحقيقة فهذه هي متطلبات الدراما التي رسمها.
  • في صفحة 407/1 يفند ثروت عكاشة بعض الأغلوطات التي وقع فيها هيكل في "ملفات السويس" حول الجنرال كاترو أحد أصدقاء ديجول، والذي جعله هيكل وزيرا لدفاع فرنسا مع أنه لم يكن ..إلخ.
  • وعلى مدى الصفحات 60- 66/2 يروي عكاشة بمرارة موقف "الأهرام" من حادث سرقة العصا المثبتة في أحد تماثيل توت عنخ آمون، ومعالجة الأهرام السيئة للقضية بأسوأ من معالجة الصحافة الأمريكية لها.
  • ثم يروي ثروت عكاشة (صفحتي 72، 73/2) كذلك قصة الأخبار المختلفة التي نشرتها الأهرام على أن الحكومة ترفض تأجيل البدء في السد العالي مهما كانت الأسباب. وأن هناك دعوة للتباطؤ من أجل حماية الآثار.أما الأستاذ حمروش فإن الدكتور ثروت عكاشة يخصص ملحقا كاملا للكتاب للرد على مزاعمه فيما يتعلق بقيام الثورة (صفحات 603 حتى 682/2).

عاشرا: وقع ثروت عكاشة في بعض المآخذ التاريخية التي مردها الاعتماد على الذاكرة وعلى تتابع الحوادث دون تحقيق للتداخلات التاريخية. ففي صفحة 249/1 يتحدث عن الأزهر في 57/1958 وكأنه أصبح جامعة مدنية ضم الكليات الأخرى مع أنه لم يكن قد أصبح كذلك إلا بعد سنوات، وفي صفحة 506/1 يتحدث عن مديري دار الكتب فيغفل اسم أشهرهم توفيق الحكيم ولا ندري ماذا ألجأه إلى هذا؟

وفي صفحة 574/1 يتحدث عن القرار الجمهوري الصادر بإنشاء الكونسرفتوار على أنه صدر في عام 1958 بينما صدر هذا القرار في 1959، وفي الجزء الثاني من الكتاب ما يؤكد هذا التاريخ عند الحديث عن اليوبيل الفضي في 1984 (هذا وقد وجدته أخيرا أيضا ضمن أخطاء أربعة صححها في الجزء الثاني)

وفي صفحة 538/2 يتحدث عن واقعة في خلافه مع شعراوي جمعة كشف عبد الناصر عن زيفها قبل وفاته باثنى عشر يوما فقط، وهو يقصد 16 تبعا للتاريخ المذكور إلا أن تكون في الأمر دلالة على شيء آخر لم يذكر.

حادي عشر: أما المآخذ التي نأخذها على التعبير في هذا الكتاب فمحدودة بفضل الصياغة المثلى والممتازة لمؤلفه القريب من كل دقائق الأدب والفن وخلجات الشعور والوجدان والنغم الجميل للكلمة المعبرة..

ومع هذا فلابد من الإشارة إلى بعض الملاحظات السريعة:

  • في ص 89/1: يتحدث عن بعض تفصيلات ليلة الثورة فيقول "بحمد الله مضى كل شيء بالرغم من أنا كنا نعمل في الظلام.." ربما خان قلمه التعبير فهو يقصد انقطاع الكهرباء أما العمل في الظلام فشيء آخر.
  • في ص 220/1 يتحدث عن ملاحظات أستاذه على رسالته للدكتوراه فيقول: " واسترشدت بها" .. والأولى أن يقول الطالب "فالتزمت بها" حتى ولو كان الطالب وزيرا.
  • في ص 12/2: " ضمت بلاد النوبه أملا وقلقا" .. تعبير غريب.
  • في ص 213/2: " من قول اقتصادي ملحوظ هو الدكتور الجريتلي" : ربما يقصد "مرموق" فلم نسمع عن اقتصادي ملحوظ أبدا.
  • صفحة 281/2: "أسندت إلى الأديب الهداف يوسف أدريس". لأول مرة يوصف أديب بهذا التعبير الكروي.
  • صفحة 475/2 في حديثه عن مدرسة صحفية: "ومن سوء الحظ أن أفرخت تلك المدرسة ذراري استمرأت الضلالة" .. تعبير لا يليق على أي مستوى لغوي أو خلقي.
  • صفحة 547/2 عن نشر خبر فوز الدكتور السنهوري بجائزة الدولة التقديرية يقول. " نشر على هذه الصورة الموجزة" .. بينما كانت صورة مشوهة لا موجزة فحسب.

أما الغرائب اللغوية فتكاد تكون نادرة في هذا الكتاب ذي الجزأين الكبيرين ومع هذا فلابد من أن نشير إلى بعضها:

  • ص 28/1: "اعتقد أن بعضهم ما يزالون لهم نشاطهم الأدبي" جملة ذات صياغة غير مستقيمة.
  • "وكنت والأخ.. قصدت وجمال" ... أعتقد أن الأولى أن يلتزم الدكتور ثروت عكاشة بالقاعدة فيقول كنت أنا والأخ.. قصدت أنا وجمال حتى يكون هناك معطوف عليه بعطف عليه المعطوف.
  • ص 71/1 : "لوفق ما تسمح به ميزانيتي " أعتقد أنه يريد أن يقول "وفق ما تسمح به ميزانيتي"، وقد يكون هذا التعبير صحيحا ولكنه غريب.
  • ص 172/1 "اتصلت بعبد الناصر لأقفه على وجهة نظري" هل يجوز مثل هذا التعبير؟
  • ص 223/1 : " وهو فليسوفا إلى جانب كونه إنسانا" .. هل يجوز.. هل هو حال من المبتدأ؟
  • ص 11/2 (ودائما) يسرد الأعداد هكذا: مائة وثلاثة وثمانون مع أن القاعدة: ثلاثة وثمانون ومائة.
  • ص 126/2 "ما ينيف عن سنوات عشرا" هل يجوز؟ وفي بعض الأحيان (509/1) مثلا) نجد تروث عكاشة يدخل "أل" على المضاف والمضاف إليه في الصفات المركبة مع أن القاعدة تعريف المضاف إليه فحسب وقد التزم بها أحيانا كثيرة.

ونأتي إلى أخطاء الطباعة والماكيت والإخراج فنجد مجموعة من الأخطاء لا تليق بمثل هذا الكتاب الذي بذل الفنان الكبير الأستاذ عبد السلام الشريف جهده في إخراجه:

  • في صفحة 119 - السطر السادس - يبدو أن كلاما قد سقط من الجمع لأن المعنى لا يستقيم ويبدو أن الهامش رقم 13 يدور حول هذه الفقرة غير الموجودة على الإطلاق.
  • ص 166/1: وهو في حالة تلبس بخرف أحكام الدستور، أظنه يقصد: بخرق.
  • ص 216/1: الهامش رقم (8) لا علاقة له بالمتن وكذلك الهامش الذي في صفحة 512/2، كيف حدث هذا، الله أعلم.
  • ص 272/1: أخطاء واضحة جدا في ترتيب الهوامش.
  • ص 190/2: إشارة إلى هامش والهامش غير موجود.
  • ص 240/2: ليس للفصل كله هوامش على أن هناك إشارة إلى هامش في إحدى الفقرات فأين ذهبت الهوامش؟
  • ص 358/2: يوجد شكل في أعلى الصفحة لا لزوم له ولا تعليق عليه.
  • ص 592، 593/1: لا يوجد تعليق يشرح لنا ما المراد بهذا الماكيت.

هذا بالإضافة إلى أخطاء من قبيل الأنجلو سكونية (287/1) يباغتهم (340) وكم كنت أراح إلى أن أقضي الوقت (377/2) لم أشترط في تعيينهم (441/2) نفع يرجونه (547/2) وقد كتبت يجرونه. أما في صفحة 316 فإن الكلام غير متصل ببعضه ربما من الطباعة وربما كان التأليف هكذا. وأما في صفحة 416/2 فقد تركت مساحة أظنها لكتابة اسم المخرج الفرنسي جان فيلا - بالحروف اللاتينية ولم يكتب فيها هذا الاسم ولا غيره.

أما إن هذا الكتاب جدير بالقراءة، جدير بالنقد، جدير بمكان متميز في كل مكتبة من مكتبات بيوتنا ومعاهدنا ومراكز الثقافة في بلادنا فحقيقة لا جدال فيها.. وربما كان أبرز كتاب يستحق هذا الوصف بين الكتب التي صدرت خلال العام الذي صدر فيه.

الفصل الخامس :التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط

للستاذ إسماعيل فهمي

كتبت هذهالمذكرات باللغة الإنجليزية ثم ترجمت إلى ا للغة العربية، وهي بدعة بدأت تطل برأسها في بعض كتابات سياسيينا الكبار، وقبل أن ننتقد هذه البدعة لابد لنا أن نذكر أنهم في مدافعتهم عنها (حتى الدفاع غير المعلن) يؤمنون بأن الرأي العام الأجنبي قد يكون أكثر اهتماما من الرأي العام العربي، ولعل مسئوليتنا كأمة محترمة عن إزالة هذه العقيدة ومحوها من الأذهان تكون واضحة أمام اعيننا.

ونحن لا ننكر أن الرأي العام الأجنبي أو الرأي الخاص ف مركز البحوث والجامعات هناك يهتم على أعلى مستويات الاهتمام بنا وبغيرنا، ولكن أن نؤثر نحن هذا الرأي باهتمامنا في متابعة الطبعة الإنجليزية في كل تفصيلاتها، ونترك الطبعة العربية ومسئوليتها في أيدي المترجمين فهذا هو التصرف القاسي على وطنيتنا.

وإذا صدر هذا التصرف ممن قد تكون أصابته بعض الظروف في مطلع حياته أو في آخرها، وأصبح معظم الناس يرفون شأن هذه الظروف وفوائدها الجمة، فليس من المستحب أن يصدر هذا عن رجل مصري ممتاز في وطنيته وشخصيته كالأستاذ إسماعيل فهمي.

ومن العجيب أن الطبعة العربية تخلو من صفحة هامة جدا هي صفحة الشكر، وقد كان صاحب هذه المذكرات وفيا لأهل بيته فشكرهم جميعا تقريبا كل في ناحية، ويبدو أن الحياء الشرقي من شكر الأسرة هو الذي منع رجلا مثله من أن يفعل هذا في الطبعة العربية.

ومن أعظم ما يمكن الإشادة به في هذه المذكرات عنونها، وهذا العنوان الذي لا يبدو جذابا يستحق جائزة العنوان لو كان لكل شيء في الكتب جائزة، فليس هناك ما هو أدق من هذا العنوان عنوانا لهذا الكتاب، وليس من المدح في شيء أن نقول إنه واف كاف جامع مانع ليس فيه كلمة زائدة، بل الحق أن نقول إنه ليس فيه ذرة ناقصة ولا ذرة زائدة.

والتفوض من أجل السلام في الشرق الأوسط هو المهمة التي تولاها رائد مدرسة الدبلوماسية النشطة في مصر إسماعيل فهمي فعلا، أما غيره بدءا بالرئيس السادات وانتهاء بمناجم بيجين وأسامة الباز وكارتر وكيسنجر ومصطفى خليل وبيريز ووايزمان ومحمد إبراهيم كامل.ز الخ، فقد قاموا بأدوار أخرى.. قد يكون للرؤساء حق القرارات أو المبادرات وقد يكون لغيرهم فضل الصياغات والمعاهدات..

أما التفاوض فقد كان من حظ أو من نصيب وزراء معدودين في الأطراف المتعددة، لم يواصل التفاوض منهم أحد بقدر ما واصله الأستاذ إسماعيل فهمي، ولنذكر أن رجال الحكم في الولايات المتحدة وإسرائيل قد تغيروا أثناء عملية السلام أكثر من مرة بينما بقي المغفور له الرئيس أنور السادات ورجاله طوال العملية..

وكان الأستاذ إسماعيل فهمي بالذات أكثر المصريين نصيبا في هذه العملية.. ومع أنه لم يواصل دوره فيما بعد مبادرة السادات بالذهاب إلى القدس، فإن المتأمل لأدبيات السياسة المصرية حتى التي كتبها شانتو صاحب هذه المذكرات يدرك أن عملية السلام كانت قد وصلت بالفعل إلى النقطة العليا في منحاها مع المواكبة للدفعة الشديدة التي أعطاها الرئيس أنور السادات يوم 19 نوفمبر 1977.

هل كانت هذهالدفعة الشديدة ضرورية أم لا؟ هذا هو السؤال الكبير الذي اختلف فيه صاحب هذه المذكرات مع أنور السادات وليس منالسهل (حتى مع اتضاح الأمور بمرور بهض الزمن) أن نقطع أي الرأيين كان هو الصواب.. ولكن الذي أكدته الأيام أن كلا الرأيين كان كفيلا بنجاح صاحبه في الامتحان.

ولنتذكر أن مسئوليات المفاوض تختلف عن مسئوليات صاحب القرار، وأن مسئوليات الأب تختلف عن مسئوليات الأخ الأكبر، وأن مسئوليات المسئول الأول تختلف عن مسئوليات المسئول الثاني، وأن مسئوليات الرئيس وحدوده تختلف عن مستويات الوزير وحدوده. إذا فهمنا هذا كله بعمق لبدا لنا الخلاف بين الرجلين ظاهرة صحية وطيبة وممتازة.

ولكن كيف يمكن لنا ونحن قوم نميل مع الهوى أن نصل إلى هذا الفهم العميق؟ من حسن الحظ أن هذه المذكرات هي خير وسيلة تعين على هذا الفهم العميق لعملية التفاوض من أجل السلام.. ومبادرة السلام.. ومعاهدة السلام. ولو لم يكن لصاحب المذكرات ومذكراته غير هذا الفضل لكفاءه أيضا.

نجح مؤلف هذه المذكرات أقصى ما يكون النجاح في أن يضع أمام القاريء - أيا كانت هويته - صورة دقيقة ومفصلة ورائعة وموحية وغير متحيزة لعملية السلام في الشرق الأوسط. ومن حسن الحظ أن إسماعيل فهمي رائد الدبلوماسية النشطة استطاع أن ينجو بكتابه من دائرة التعصبات والتشنجات لأنه عربي أو لأنه صاحب قضية، ولو انزلق الرجل إلى هذا المنعطف الكريم (ولا نقول المنزلق) لخسرنا كثيرا من أهمية وعظمة هذا الكتاب.

ونجا صاحب المذكرات أيضا من نقيصة البحث عن نقائص السادات، ومع هذا فإن في هذا الكتاب ما قد يسيء إلى السادات في الظاهر من دون تجريح ولا إيلام، وهذا خلق لا يتاح أبدا إلإ الشخصية سوية كان في وسعها أن تنزلق مع أقلام كثيرة إلى طعن الرجل في كل شيء وهو ميت، ولكن مؤلف هذا الكتاب لم يفعل مع أنه يعلم من المواقف أكثر مما يعلم عشرات من الذين كتبوا.

وقد أظهرت هذه المذكرات في هدوء بعض خصائص في شخصية السادات كنا نود لو لم تكن فيها، ولكن من حسن الحظ أن أنور السادات كان يتمتع بخصائص أخرى تتغلب على مثالب هذه الخصال غير المستحبة، ومن حسن حظه أنه نفسه اعترف بها، ومن حسن حظه أن الوطن استفاد منها رغم ذلك.

وحين عرض مؤلف هذه المذكرات هذه الخصائص لم يكن من السينمائيين الذين يبهورون المتفرجين بالعقد والحيل ولكنه كان من المعلمين الذين يخرج قارئهم ذو الطموح السياسي وهو حريص على أن يدرب نفسه على أن يمحو هذه الخصال السيئة من شخصيته لو كانت فيها

لم يكن صاحب المذكرات قانونيا، ومع هذا فإن إحساسه باللفظ وبدقة العبارة إحساس مرهف يرتفع به إلى مصاف أعظم القانونيين والبلغاء في هذا الصدد، ولو كتب الرجل في الموضوعات العامة ومن خياله مباشرة لاستطاع أن يكون في أسلوبه قريبا جدا من الأستاذ يحيي حقي أو من الدكتور حسين فوزي.

ولم يكن صاحب المذكرات قانونيا، ولهذا نجا بسهولة ويسر بحكم "اللاتطبع" من أن يستغرقه الجدل القانوني الذي مهما يكن امتيازه وكفاءته فهو كفيل بإفساد المذكرات السياسية. أما ترتيب فصول الكتاب على النحو الذي صدر به فهو ذا دلاله على عقلية منظمة فحسب، ولكنه ذو دلالة على معنى أعظم هو كيف يجتمع "الشمول" مع "التركيز" مع "النظام". ومن الصعب أن تجد هذه التركيبة في دواء واحد (في كتاب واحد) .. وكتبنا في هذا المجال مدعاة لكل أسف.

ولك أن تقرأ كتابا ككتاب صحفي ساخر كبير عن حياته في النفي لترى الاضطراب الشدي في تحقيق هذه التركيبة والفشل التام في خروج الكتاب بصورة تركيب واحد.. وهذا قد يعود بنا إلى تأمل آراء أصحاب مدارس النقد الحديثة في القصائد القديمة التي تستطيع حذف أبيات منها فلا يختل المعنى وتستطيع تقديم بعض الأبيات وتأخير الأخرى فلا يحدث شيء

أما كتاب رائد الدبلوماسية النشطة إسماعيل فهمي فإنك لا تستطيع أن تقدم فيه فصلا على فصل ولا سطرا على سطر ولا تستطيع أن تمضي في قراءة فصل إذا أسقطت قبله ولو تأملت الكتب من منطلق تطبيقك لهذه القاعدة فسوف تستطيع أن تفهم لماذا قلنا إن هذا (الدواء) قد نجح في أن يحقق في تركيبة واحدة إكسير الشمول والتركيز والنظام.

وهذه القدرة تتطلب بالطبع عقلية عملية تكون وراءها، وليست كل عقلية علمية بقادرة على أن تخرج للناس أعمالا فيها هذه القدرة ، ولكن الأعمال التي فيها هذه القدرة لن تخرج إلا من يد شخصية ذات عقلية علمية.

هل نتعب أنفسنا في هذه القواعد من قواعد المنطق الرياضي أن صاحب هذه المذكرات كان ذا عقلية علمية.. أغلب الظن أن الأولى من هذا أن نؤكد أهمية المنهج العلمي في تناول حقائق السياسة والتاريخ، وإنه من دون روح هذا المنهج فلن تكون أعمالنا ذات قيمة على المدى الطويل، وإن أثرت في قطاع من الرأي أو قطاعات واسعة في الأيام القليلة التالية لظهور المذكرات.

ولهذا فليس من التكلف في شيء أن نلفت النظر إلى الفضيلة التي تتمتع بها هذه المذكرات حين يقرؤها الناس فلا يقولون بعد الانتهاء من القراءة جملة واحدة أيا كانت ، وإنما يجدون أنفسهم في حاجة إلى التنفس العميق.

ومن الجدير بالذكر أني كنت أقرأ بعض هذه المذكرات عند نشرها قبل طبعها في مجلة الوطن العربي ولكني لم أجد ذلك المذاق الممتاز الذي وجدته فيها عند مطالعتها في كتاب، ومن المؤسف أننا أصبحنا في وضع ثقافي - اقتصادي يجعل للنشر في الصحف السبق على إصدار الكتب وقد يدفع البعض إلى الاكتفاء بما قرءوه من كلام يختار بذوق صحفي فيه جرعات من تقديس السرعة والإثارة.

وسوف يبقى هذا الكتاب كوثيقة هامة في مكتبتنا العربية لا حول موضوع السلام فحسب، ولكن حول علاقات مصر والاتحاد السوفيتي وحول علاقات الولايات المتحدة ومصر، ومن الجدير بالتنويه أن إسماعيل فهمي في هذا الكتاب كان أكثر ما يكون المؤرخ تنزها وتجردا في تسجيله لعلاقات مصر بالاتحاد السوفيتي، وهي العلاقة التي لا تجد موقف المصريين منها إلا على الحدود القصوى..

وجاء صاحب هذه المذكرات وهو رجل لم يكن في عقيدة أحدا أبدا أنه رجل الاتحاد السوفيتي ولا حتى اليسار المصري.. ومع هذا جاء في كتابته بروح الإنصاف للسوفييت حتى مع أن هذه الكتابات تنبيء عن عدم تقدير صحيح منهم لطبيعة الأوضاع والظروف التي تحيط بنا.. والأستاذ إسماعيل فهمي لم يظلمهم ولم يجاملهم ولكنه حتى في كشفه لمواقف هامة كان يبين العذر الذي دفع هؤلاء القوم إلى هذا السلوك أو ذلك الموقف.

وقد يمكن القول إن إسماعيل فهمي لم يكن وهو في السلطة بذك القدر من التعاطف مع السوفييت ولكنه يفعل هذا اليوم بعد أن ارتدى مسوح العدالة بين السوفييت والأمريكان بعد ما كان رجل الولايات المتحدة هذا كلام قد يقبله العقل من باب المنطق ولكن العقل نفسه من باب التفكير لن يجد لهذا الكلام أساسا قويا من المنطق ذاته، ولن يقدر لرجل النجاح أبدا وهو يخدم قضية بلاده من منظور آخر غير خدمة بلاده نفسها، وقد كان إسماعيل فهمي مهما تقول بعض الناس عليه رجل مثر وكذلك كان أيضا الرئيس أنور السادات

وكذلك كان أيضا جمال عبد الناصر ومحمود رياض ومراد غالب ومحمد حسن الزيات وحافظ إسماعيل ومحمد إبراهيم كامل والدكتور محمود فوزي عليه رحمة الله. أما شمول هذه المذكرات وقدرتها على التفصيل فقد يكونان واضحين من أنها تتحدث عن خمسين شهرا فقط في حوالي خمسمائة صفحة حديثا خاليا من الإطناب.

وقد انتصر رائد الدبلوماسية النشطة بلا شك على نفسه حين بدأ هذه المذكرات مباشرة دون مقدمات طويلة ولا خلفيات تاريخية.. ثم جاءت هذه الخلفيات ضمنا وفي سلاسة أثناء عرضه لكل فقرة على حدها. وانتصر صاحب هذه المذكرات كذلك حين ابتعدت نفسيته عن النرجسية ، وأنت تحس في وضوح أنه لا يدعي أنه حقق ما حقق بفضل كفاءة شخصية فحسب، ولكنه يعتد أساسا بإنجاز الجيش المصري في معارك أكتوبر المجيدة.

وحتى في التفصيلات التي تتناول مقالب كسينجر فإن مؤلف هذا الكتاب لا يستغل أواسط الجمل للدعاية لنفسه، مع ن هذا من أسهل ما يمكن حتى على كاتب مبتديء. إنما تجده في كل ذلك يمثل بعضا من خلق رجل من الرجال الذين يضعون الهدف أمام أعينهم ويمشون في اتجاهه بأكثر الطرق استقامة دون زيغ أو لهو. وقد كان هذا الرجل كذلك طيلة حياته التي خاضها بسلاح أخلاقياته واعتداده بنفسه حتى لو وصل غلى ما يقارب الغرور.

بقي بعد هذا أن نشير إلى ضخامة حجم الأخطاء في الطبعة العربية من هذه المذكرات وهي كمية من الأخطاء لا يشفع فيها ابدا خلو الطبعة الإنجليزية منها. ومن العسير أن نخصص مساحة كبيرة من هذا الفصل لحصر هذه الأخطاء، ولكننا سوف نكتفي هنا بلإشارة إلى أبرزها وليس هذا انتقاصا من قدر الكتاب وإن كان الكتاب بدون هذه الأخطاء أروع منه بها وأجمل وأرق وأعظم وأخلد

ولكن عرضنا لهذه الأخطاء سوف يطلعنا على أهمية العناية بالطبعة (العربية) من مثل هذه الكتب الممتازة:

  • من المؤسف أن يحدث خطأ في عنوان الفصل الخامس، العنوان نفسه ص 131 ليصبح المعنى هو العكس تماما فالعنوان مكتوب: نهاية ضخ البترول والمقصود إعادة ضخ البترول أو نهاية حظر البترول بالطبع.
  • من المؤسف أيضا أن تد أيضا صفحة كاملة في غير موضعها فبين صفحتس 323 و 325 تجد صفحة كاملة محشورة حشرا بين الكلام المتواصل وتأخذ 324 بينما هي صفحة 220 مكررة تماما بتمام.. وهو خطأ غريب الشكل والمعنى والمضمون وقد يكون نادر الوجود.
  • من المؤسف للمرة الثالثة أن تجد خطأ في تاريخ واقعة تاريخية هامة جدا وهي خاصة جدا بالسيد ومعنى إسماعيل فهمي نفسه الذي اختير وزيرا في وزارة السادات الأولى في [[مارس] 1973 ومعنى هذا أن لقاءه بالسادات الذي ترتب عليه اختياره وزيرا كان قبل هذا التاريخ، وكان هذا اللقاء في الأصل لمجرد وداع الرئيس قبل سفره سفيرا لمصر في المانيا الغربية.. ومع هذا سيأخذ الترشيح والتعيين والموافقة على سفارته وقتا..
ومع هذا كله نجد إسماعيل فهمي يكتب في صفحة 29: "وفي أبريل 1973 قرر السادات إعادة العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا" مع أن المنطق يقتضي أن يكون هذا قد تم في يناير أو فبراير على الأقل حتى تتم مقابلة إسماعيل فهمي للسادات بعد ذلك ثم يعين الأستاذ إسماعيل فهمي وزيرا في مارس وليس هناك تفسير آخر إلا أن يأتي مارس 1973 بعد أبريل 1973، وهذه النقطة بالذات تعطينا فكرة عن صعوبة كتابة المذكرات السياسية وكيف أنها تحتاج مراجعة للذاكرة في كل جزئية من الجزئيات للصغيرة قبل الكبيرة، ولا شك أن المؤلف قد بذل من الجهد – هو ومعاونوه - في هذا المجال أكثر مما بذله آخرون.
  • من الصعب أن يتقبل المرء من هذه المذكرات أن تذكر اسم وزير الحربية المشير أحمد إسماعيل على أنه الفريق محمد أحمد إسماعيل، أما محمد أحمد إسماعيل نجل المشير فهو دبلوماسي مصري عمل بالطبع تحت رئاسة الأستاذ إسماعيل فهمي.
  • من الأخطاء التافهة التي قد لا يحق لي أن أعلق عليها لو كانت في كتاب آخر قول صاحب هذه المذكرات في صفحة 209 "وعقب رحلتي إلى موسكو في يناير انقضت فترة أسبوعين ثم زار جروميكو القاهرة في مارس 1974" .. مثل هذا الخطأ يعطي الانطباع بفقدان الإحساس بالزمن عند المؤلف وهو ما لم يحدث ابدا في مذكراته ذات الخمسمائة صفحة.
  • من الأهمية بمكان أن نشير إلى كثرة الأخطاء التي تتعلق بإهمال بسيط لأداة من أدوات الربط في اللغة العربية كأن المصدرية، ويترتب على هذا احيانا أخطاء ضخمة، ومثل هذه الأخطاء شائعة وفي هذا الكتاب، مثلا ص 215 "ودعم هذا الرأي زيارتي كل من الرئيس الباكستاني ونائب رئيس الوزراء الأندونيسي ألغيتا أيضا" فاللوهلة الأولى يظهر أن (زيارتي) هي الفاعل للفعل (دعم) وأنه يجب أن تكون زيارتا.. على حين ينبيء سياق الكلام هن وجود جملة مصدرية سقط قبلها (أن) ليصبح الكلام مثلا: ودعم هذا الراي أن زيارتي ..إلخ.
  • لا يمكن فهم عبارة بسيطة مثل "إن مثل هذا التحرك لا يمكن تصوره لأنه سوف يكون ذو تأيرات سلبية "ص 219.. بينما كتبت صوابا "ذا تأثيرات.." لسهل فهمها.
  • بعض العبارات صيغت بطريقة لا تفهم على الإطلاق، ومثل هذه العبارات قليلة جدا مثل الفقرة قبل الأخيرة من صفحة 241 التي تحتاج كتابا لشرح صياغتها بينما معناها بسيط جدا.
  • أحيانا ما يكون التعبير بصيغة النكرة مرادا به شيء محدد جدا هو أعرف المعارف.. فإذا لم ينتبه المترجم إلى هذا المعنى وعبر عن هذا المعنى بصيغة المفرد العادي فإنه يضيع المعنى تماما، ويصيغ الهدف من التنكير المقصود به أعرف المعارف مثلما حدث في التعبير عن وثيقة الاتفاق ص 247 وص 248. فبدلا من أن يقول الكتاب طلب كيسنجر فجأة أن يوقع على وثيقة ما.. قال على إحدى الوثائق وشتان بين المعنيين.
  • قد يكون الخطأ في الهمزات وموضعها مغتفرا أحينا لصعوبة تعليمنا للناس قواعد الهمزة في الإملاء ولكنه حين يحول المفعول به إلى فاعل فهذه جريمة ى تغتفر تلقب المعنى والمواقف كذلك. كما حدث في صفحة 302 حين ابلغ صاحب هذه المذكرات ومعونوه الفلسطينيين بأمر ما .. ولكن المذكرات تكتب الجملة وأبلغنا زعماؤها أنه ينبغي عليهم .. إلخ والصحيح بالطبع إبعاد الهمزة عن الواو وإبعاد الواو نفسها حتى يكون الزعماء الفلسطينيون هم الذين أبلغوا (مفعول به) ومثل هذا الخطأ تماما يتكرر في مواضع أخرى كثيرة منها قصة تجديد تولي المغفور له محمود رياض لأمانة الجامعة العربية.
  • ينقطع الكلام فجأة في صفحة 357 على نحو ما يفعل شريط الرقيب في السينما تأتي لقطة أخرى في فقرة جديدة لا تبدأ كما تبدأ الفقرات في العادة إلى يسار الهامش الأيمن قليلا ولكن مع الهامش نفسه بكلمة "أنا أصر" ..؟؟ ما هو المقصود وبخاصة أن هذه فقرة حساسة جدا.
  • لا نعرف ما هو المقصود بالفعل "تكشف" في جملة صفحة 385 التي يقول فيها "وقد تكشف الحادث الذي وقع في بيت الضيافة في سيناء على النحو التالي"؟؟

أما الأخطاء التي تتعلق بنسيان كلمات أو أفعال أو أدوات فكثيرة وليس من الإنصاف أن نستأثر بوقت القاريء هنا في سردها او حصرها. وأما الأصعب منذ لك فهو حاجة هذه الطبعة غلى مراجعة أكثر من سبعين موضعا لوضع الفعل المناسب بدلا من العفل العام الذي يمكن قبوله في ترجمة الطلبة، لكنه لا يقبل ما دبلوماسي كبير هو خير من يعرف للكلمة معناها وأثرها في حياة الأمم، الأمم العظيمة التي تنجب أمثاله من المخلصين الذين يبقون على إخلاصهم لها حتى بعد خروجهم إلى التقاعد بسنوات طوال.

الفصل السادس :صفحات صفحات من تجربتي

للمهندس عثمان أحمد عثمان

(1)

ستظل مذكرات المهندس العظيم عثمان أحمد عثمان ولفترة طويلة أقل مذكرات وزراء الثورة إفادة للتاريخ المصري المعاصر وللمؤخين على حد سواء، فهي مذكرات ذاتية جدا غلى أبعد الحدود التي قد تعرفها الذاتية، وليس في هذا ما يؤخذ على المؤلف، كمؤلف أو ككاتب تجربة

ولكن المشكلة الحقيقة في هذا الذي نأخذه على المذكرات أنه يمكن أن يمتد يالتالي إلى وصف جهد صاحب المذكرات نفسه في خدمة وطنه الكبير، وهنا مكمن الخطورة في الخط الذي آثر عثمان أحمد عثمان أن ينتهجه في مذكراته، فقد لا يكون عيبا على أية حال من وجهة نظر الأدب أو التاريخ أن يقول مثله ما يشاء، ولكن المأساة "الإغريقية" فيما قاله عثمان أنه أكد بكتابه هذا "الصورة الشخصية" التي صمم منتقدوه على الدوام أن يرسموها له.

ولهذا فإني حريص على أن أبدأ هذا العرض لهذه المذكرات بأن أؤكد أن جرعة الصدق في مذكرات عثمان كبيرة جدا، وأن هذا الصدق لم يكن نتيجة إجادة كاتب هذه المذكرات (سواء كان هذا الكتاب هو عثمان نفسه أو شخص آخر) للحديث عن (نفسية) عثمان، وإنما كان نتيجة إجادة الكاتب في التعبير عن (شخصية) عثمان.

وشتان بين الموقفين، ففي الحال الثاني وهي الحال التي يطالعنا بها الكتاب الضخم الفخم كثير الصفحات والفصول نجد حديثا طويلا وقد يكون مملا لبعض الناس عن هذه الشخصية الأسطورية التي فعلت ما لم يفعله أحد، وقد فعلت هذا من لا شيء.. أي من لا شيء مادي ولكن أين هي المعنويات التي كانت كفيلة بتحويل "الاشيء" المادي إلى شيء..

لا نجد حديثا أبدا عن هذه المعنويات اللهم إلا شيئا من قبيل الدردشة البسيطة التي لا تجيد استخدام الخيال، على هذا النحو كان يمكن لهذا الكتاب أن يقرأ بلذة واقتناع في القرن الثامن عشر ولكنه لا يمكن أن يقرأ على هذا النحو في منتصف القرن العشرين دعك من أخرياته

ولو كان الكاتب (سواء كان هو عثمان نفسه أو شخصا آخر) قد التفت إلى نفسية عثمان ولو لدقائق معدودات لكان في وسعه أن يخرج للقاريء بدرة من درر أدبنا العربي المعاصر، ولكن كاتب هذه المذكرات آثر أن تكون رواية "تجربة عثمان" شيئا من قبيل المناسبات فجاء هذا الكتاب من نوعيات كتب أحاديث المناسبات على الرغم من ثراء التجربة ومن ثراء صاحب التجربة.

(2)

وسوف يقرأ القاريء كتاب "تجربتي" فلا يحس على الإطلاق لا بالكفاح ولا بالنجاح لأن الأمور صورت له (خبط عشواء) تصويرايصلح لأن يؤدي الدوي فيه أي شخص أقل بكثير جدا في مكانته وإمكاناته من هذا الرجل بكل قدره وكل إنجازه في كثير جدا من الميادين. وسوف ينتهي القاريء من قراءة هذا الكتاب كما انتهيت مرة وثلاثا ثم يصبح عليه الغد فلا يجد أن هذه التجربة قد أثرت فيه بأكثر مما تؤثر أية رواية بسيطة عن بركة دعاء الوالدين.

أما التفاعل الحي بين القيم والمصالح أو بين ما درسه المؤلف في كلية الهندسة وما قابله في السوق، أو بين أصول الفن وأصول التجارة، أو بين مكسب اليوم ومكسب الغد، وبين مكاسب الغد القريب ومكسب العام الثادم، وبين الخسارة القريبة والمكسب البعيد، وبين التعلق بالأمل والخلاص من المأزق، وبين الثقة في الأشخاص والثقة في النفس، وبين الانتصار للأهل، والانتصار على الأهل، وبين إعطاء القريب ابتغاء النجاح، وحرمانه ابتغاء النجاح أيضا..

إلى آخر هذه السلسلة من الصراعات الدرامية المؤثرة التي يعرف كل الناس أنها مرت بالمهندس عثمان أحمد عثمان وأن أضعافها قد مرت به أيضا.. أقول أما هذا التفاعل الدرامي الحي فقد بخل به كاتب هذه المذكرات (سواء كان هو عثمان أحمد عثمان أم غيره) على القاريء العربي المتميز، وكأن مثل هذه الأمور من أسرار إمبراطوية عثمان أحمد عثمان.

ثم إننا سنظل نقرأ مذكرات هذا الرجل لنبحث عن صراع درامي واحد كان له أكثر من بعدين اثنين فلا نجد، فالصراع الدرامي في هذه المذكرات يصلح نموذجا كلاسيكيا ممتازا لتسطيح الصراع، وهذا النموذج بالتالي يصبح صورة ممتازة كفيلة بأن يضعها الدكتور محمود ذهني في طبعة جديدة من كتابه "اللا أدب".

ومع هذا كله فإن كتاب "تجربتي" ثري جدا بكم هائل من المواقف التي يمكن إعادة كتابتها لتقدم لنا كتابا رائعا يكون له مكانه المتميز في المكتبة العربية، فإذا أتيح لعثمان أن يكتب كتابه مرة أخرى على نحو ما فعل السادات أكثر من مرة بمذكراته (أو على نحو ما فعل كمال حسن على) فسوف تسنح الفرصة لعمل فني ممتاز إذا ما أجاد الكاتب التعمق فيما يروي أو التوسع فيما يستعرض من حنوادث متتالية.

(3)

وهكذا يمكن لنا القول بكل وضوح إن مشكلة هذا الكتاب لم تكن ولن تكون على الإطلاق "مادته" ولا "أحداثه" وإنما هي مشكلة في "الروح" فإذا كان ولابد من البحث عن روح فإن مذكرات الاقتصاديين العالميين ورجال الأعمال حافلة بنماذج ممتازة للتناول الواعي الحذر لسياسات إدارة الأعمال وبالقدرة على تغليف كل النزعات المشروعة- بل وغير المشروعة- بإطارات جميلة من الدوافع الراقية والمثالية

ولابد لمثل هذا الحديث الواعي عن الذات أن يفرط في الحديث عن الفشل وعن الخسائر بأكثر من حديثه عن النجاح المتواصل والمطرد، والمكسب الذي يحل عليه لأن يده تحيل التراب إلى ذهب، ولابد أيضا لمثل هذا الحديث الواعي عن الذات أن يفيد من تجارب الآخرين في الحديث الناجح عن ذواتهم ، لا أن يكتفي بالدردشة أمام شريط تسجيل ثم تكليف الآخرين بتفريغ هذا الشريط من الدردشة.

وعلى الرغم من كل هذا فقد كان احب هذه المذكرات في هذا الكتاب صادقا أشد الصدق فيما يود التعبيرعنه من معتقداته في ذلك لوقت الذي نشر فيه الكتاب، فقد كان عثمان يرى الفرق بين أنور السادات وجمال عبد الناصر كالفارق بين السماء والأرض أو اشد مع أنهما كانا استمرار طبيعيا لبعضهما

وقد ذكرت في موضع آخر غير هذا الفصل ما لا أجد مجالا للإفاضة فيه هنا أن عثمان نفسه كان نتاجا لعهد الثورة، وأنه لو قاد عبد الناصر حرب أكتوبر وانتصر وأراد أن يكلف وزيرا للتعمير لكانعثمان هو المرشح الأول بنسبة 99% ولكن عثمان نفسه - للأسف الشديد - حرص طوال هذا الكتاب على أن يصور نفسه نتاجا لعصر أنور السادات، وقد جاراه في ذلك (بعد سنتين تقريبا) الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب"، ولم يكن لأحد أن يلوم الأستاذ "هيكل" على الرغم من أن "هيكل" نفسه يعرف مدى الحقيقة.

سأختار للقاريء فقرات من كتاب "تجربتي" يتحدث فيها مؤلفه عن استدعاء الرئيس أنور السادات له في 28 أكتوبر 1973 ليحلف اليمين كوزير للتعمير قبل أن تنتهي حرب أكتوبر

وسندع القاريء يتابع رواية عثمان من منتصفها ثم يقرأ تعليقه هو نفسه عليها لتكتشف من رواية عثمان نفسه أن أنور السادات لم يكتشفه يقول عثمان:

" ... واستمرت المقابلة ساعة ونصف ساعة كاملة تحدث الرئي فيها عن تصوراته لإعادة الحياة إلى منطقة القناة، وكأن كل ما كان يدور عليها من أحداث هي في منأى منه، كان في منتهى قوة الأعصاب، وصلابة الإرادة، والثبات لدرجة أنه راح يتحدث معي في أدق التفاصيل
راح يحدثني عن الإنفاق التي هي الآن ملء العين والبصر، وكيف يريد أن يحقق اتصالا دائما وكاملا بين سيناء والوادي، وكيف يريد أن ينقل مياه ا لنيل.. إلى الشرق من قناة السويس ووعدت الرئيس بأننا نتمنى من الله أن نرتفع إلى مستوى ثقته فينا، ونحقق آماله في إعادة تعمير منطقة القناة، وأن نتمثل بروح أداء مقاتلينا الذين انتزعوا احترام العالم كله، لأمتنا وليس لمصر وحدها، لأول مرة في التاريخ الحديث
وقال لي الرئيس هيا يا عثمان، تصورت أن المقابلة قد انتهت، فقلت أتركك بخير سيادة الرئيس، وضحك وهو يقول: بعد أن تحلف اليمين، قلت: أي يمين يا سيادة الرئيس؟ قال: أصدرت قرارا بتعيينك وزيرا للتعمير.وكانت مفاجأة أخرى بالنسبة لي مفاجأة سعيدة لا أتمناها لذلك قلت: إنني أستطيع أن أقوم بهذا الدور على أحسن ما يكون وأنا خارج الوزارة يا سيادة الرئيس.
وقال: إن تعمير القناة يحتاج إلى وزير يا عثمان. وحاولت أن أعتذر عن المنصب بطريقة أخرى، فقلت: ليس لي بالعمل الحكومي سابق خبرة، وكل خبرتي أنني مقاول فقط.ولكن الرئيس قطع علي خط الرجعة عندما قال: سوف اساعدك وفي تلك اللحظة لم أجد بدا من أنأقول: أنا لا أستطيع أن أرد لك طلبا يا سيادة الرئيس، وكل ما أملكه من إمكانيات هي رهن إرادتك التي هي رهن لإرادة مصر.
وذهبت مع الرئيس السادات إلى حيث كان مقررا حلف اليمين.. وعندما سأل عن مصور الرياسة لكي يلتقط الصور، تبين أنه ذهب إلى منزله، وفي تلك اللحظة عرفت أن كلا من حسن كامل وفوزي عبد الحافظ لا يعرف شيئا بالفعل عن سبب المقابلة كما قالا لي، لأنهما لو كانا يعرفان ما كان المصور انصرف في الوقت الذي لا يزال ينتظره عمل يستدعي بقاءه، طلب الرئيس من مكتبه استدعاء المصور فورا وانتظرت معه في مكتبه حتى حصر
وحلفت اليمين دون أن أعرف ماذا سأفعل، كان القرار مفاجأة بالنسبة لي، وكان على أن أعيد ترتيب أفكاري من جديد بعد أن قبلت مع الرئيس السادات وفي عهده ما سبق أن رفضته مرتين في عهد نظام الحكم السابق.
مرة عندما فاتحني المشير في أمر أن أتولى وزارة السد العالي، واعتذرت ومرة عندما أراد نظام الحكم السابق أن يجري تغييرا وزاريا في أعقاب هزيمة 1967، وكانت النية تتجه إلى تعييني وزيرا للإسكان، وعندما علمت أنهم يبحثون عني، تركت مصر كلها وسافرت في نفس اليوم إلى "أبو" ظبي، ومكثت هناك إلى أن تم الانتهاء من تأليف الوزارة وإعلانها".

لن نفرط في انتقاد عناصر هذه القصة لأن هذا الانتقاد لا يحتاج غلى مهارة، ولكن هل كان تعيين عثمان أمرا سريا احتاط له رئيس الجمهورية حتى إنه لم يخبر به سكرتيره ورئيس الديوان، أم كان خاطرة خطرت ونفذت في نفس اللحظة ؟ أما ماذا بالضبط وما علاقة هذا كله بعظمة الرجلين.. هذا فضلا عن أن عثمان نفسه - كما يروي - كان واحدا من المرشحين لتولي الوزارة في عهد عبد الناصر.

(4)

يبدو الربط الفني ضعيفا جدا في كتاب " تجربتي" ، وخذ مثلا على ذلك حديثه عن إنشائه كوبري 6 أكتوبر، قد يكون له فضل في هذا العمل العظيم وقد لا يكون، وقد يكون هو صاحب الفضل الأوحد، ولكن قصة إنشاء كوبري 6 أكتوبر لا تأتي في هذا الكتاب إلا بالصدفة البحتة حين يقوده الحديث عن احتياجه وهو وزير للتعمير لاشتارة أهل الخبرة

فيذكر مثلا واحدا لهؤلاء هو المهندس الكبير الدكتور أحمد محرم، ولأن الرجل ليست له الجماهيرية الكافية عند الناس فإن عثمان يقدمه للناس بأنه هو الذي قام بتصميم كوبري 6 أكتوبر ويردف مباشرة بقوله: " ولهذا التصميم قصة"

ويروي القصة التي سوف نتقل بعض فقراتها كما رواها بعد قليل ولكنه يرويها بطريقة واحد من أصدقاء الملاحظين في شركة المقاولين لا بطريقة ريس مجلس الإدارة المهندس الكبير والمقاول الأول

وهذا هو نص كلماته:

" ذات يوم من عام 1967 بعد الهزيمة كنت على موعد مع الدكتور أحمد محرم، فاتفقت معه على أن أمر على منزله بالدقي لكي نذهب معا إلى حيث كان موعدنا.. وكانت زحمة المرور وقتها على أشدها، لدرجة أن المسافة منالدقي غلى ميدان التحرير استغرقت ساعة كاملة
وبينما كانت سيارتنا في طابور الانتظار، لم نجد مادة للحديث خلال ذلك الوقت الضائع إلا أن اختناق المرور، الذي يؤدي غلى فقدان السيولة فيما بين وسط القاهرة والمناطق المؤدية إليها، وتساءلنا وقتها لماذا لا نفكر نحن في هذه المهمة، فهو المهندس الاستشاري الذي يعد التصميميات، وأنا رئيس شركة مقاولات تستطيع أن تنفذ أي حل يمكن أن نتفق عليه؟..
وفعلا اتفقنا على أن نقيم "كوبري" جديدا يساعد في تخفيف ضغط المرور، وتحقيق السيولة في الحركة. وفعلا قمنا بعد ذلك مباشرة، بإعداد تخطيط وتصميم ابتدائي لكوبري أكتوبر، وتم تصميم الكوبري الذي لم نحدد له اسما في ذلك الوقت، على أن يعبر النهر الصغير في منطقة الجزيرة في نفس مكان الجسم الحالي لكوبري أكتوبر، ثم يمر خلال منطقة الجزيرة، ويعبر النهر الكبير في نفس المنطقة التي يعبرها الكوبري الآن.
ولكن التصميم الذي أعددناه وقتها لم يكن تصميما لكوبري هلوي ولكنه تصميم عادي لكوبري كتلك الكباري المنتشرة على النيل في مختلف مناطق الاتصال فيما بين القاهرة والجيزة، أما فكرة أن يكون الكوبر علويا وبهذا الشكل العملاق فقد جاءت فيما بد كتطوير للفكرة المبدئية التي أعددنا تصورها
وفعلا تم تعديل التصميم، والذي قام بإعداد التصميم الجديد هو نفسه الدكتور أحمد محرم وقمنا بعرض المشروع الذي أععدناه على محافظ القاهرة في ذلك الوقت وادبى تفهما كاملا للفكرة، ولكن بقدر ما كان متفهما كان مترددا لأنه لا يملك القرار لذلك طلب منا مهلة عشرة أيام يوافينا بعدها برده
وقام بعرض الموضوع على نظام الحكم السابق كما قال لنا بعد ذلك ورفضت، الفكرة، ليس لأي سبب إلا الخوف من أن تقوم إسرائيل بتدميره، وشاء القدر أن هذا الكوبري الذي رفض نظام الحكم السابق إنشاءه بسبب الخوف من إسرائيل أن يتم إنشاؤه في عهد أنور السادات، وأصبح يحمل الاسم الذي ارتبط باليوم الذي قضت فيه مصر على أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
ليس ذلك فحسب ولكن بينما رفض نظام الحكم السابق إنشاء هذا الكوبري في قلب القاهرة خشية أن تدمره إسرائيل، استدعاني الرئيس أنور السادات لأقوم بمهمة تعمير منطقة القناة حيث توجد جبهة العمليات نفسها مع إسرائيل، ويمثل الفارق بين الموقفين أكثر من معنى، ليس من مهمتي أن أقدم لكل منها تفسيرا، وإن كان من واجبي أن أسجل ما حدث كشاهد عيان".

وهكذا يجد القاريء نفسه أمام هذا المؤلف وهو يقلل تماما من جهد شركته العظيمة فلا يعطينا أرقاما ولا أطوالا ولا أحجاما ولا عدد سيارات ولا مدى التوفير ولا ميزانيات ولا حتى يمن على القاريء بأنه بنى ثم صرف مستخلصاته بعد عامين مثلا، كل هذا يتجاوزه عثمان بسرعة شديدة ليتحدث عن الفارق بين رجلين ليسا في حاجة على الإطلاق إلى مثل هذا التفريق المناقض في الواقع لطبيعيتهما.

ونحن نجد صاحب هذه المذكرات يجأر بالشكوى المرة من وسائل الإعلام المصرية لتجاهلها دوره العظيم في معركة التعمير بعد 6 أكتوبر، وقد يكون على حق في هذا، ولكنه للسف ينهج نهجا فيعطيها العذر فهو لا يتحدث بأي قدر من التفصيل العلمي عن حجم الإنجاز المادي أو الهندسي أو الإنساني الذي أنجزه في هذا المجال

واقرأ معي حديث المهندس عثمان حين يقول:

" كانت صحف وإذاعات العالم ووسائل إعلامه، تتلقف كا ما كان يصل إليها من أنباء تذيعها في كل مكان تصل إليه مطبوعاتها أو موجات أثيرها. وكانت وسائل الإعلام في مر على مختلف أنواعها قد التزمت الصمت المقصود مع سبق الإصرار والترصد، واعتبر المسئولون عن سياسة الإعلام في ذلك الوقت، أن ما يجري في منطقة القنال من إنجازات رائعة هو نوع من قبيل الأسرار، التي تتكتمها في الوقت الذي كنا نسعى فيه لتحقيق هدف سياسي من خلال الإعلام عنها
وكان ذلك لأسباب خبيثة غلبت على أصحابها فطغت عندهم المصلحة الشخصية على المصلحة القومية، ولأنني طيب القلب حاولت تفسير ذلك بحسن نية، إلا أن الواقع كشف عن الحقيقة علارية، كان يزور مواقع العمل رجال الإعلام المصريون من صحفيين وإذاعيين ورجال التليفزيون وما إلى ذلك.
كانوا يحصلون على الأخبار، ويعدون التحقيقات الصحفية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية ولم أحجب عنهم شيئا، إيمانا مني بضرورة أن أمكنهم عن تأدية رسالتهم تجاه جماهير شعبهم، ليضعوا أمام أعينها ما يفرضه عليهم ضميرهم الوطني بحكم أنهم رجال فكر، ومسئولون عن تشكيل الراي العام بما يقدمونه من معلومات
وبدلا من أن أرى وأسمع وأقرأ ما نقلوه من انطباعات، كنت أسمع سؤالا واحدا من الإعلاميين جميعا، كما لو كانوا قد اتفقوا عليه مع أنني كنت أسمعه من كل منهم على انفراد، وكأنه أراد أن ينبهني إلى أمر فاتني إدراكه، كان السؤال: هل بينك وبين أحد أي شيء؟ وكانت إجابتي الطبيعية التي تعبر عن كل ما في نفسي: ليس بيني وبين أحد إلا كل خير.
ولكنهم كانوا يلفتون نظري وهو يقولون: أننا نعد ما نحصل عليه من مادة إعلامية، وبعد أن تصبح جاهزة للنشر نفاجأ بعدم نشرها وإذاعتها ، لماذا يحدث ذلك إذن؟ ولم أجد ما اقوله لهم غير: ربما لأنه، جد ما هو أهم".
"ولم أهتم وانصرفت إلى خدمة مصر، ولكن عز علي أنني لم أطلب هالة إعلامية لعثمان الذي كان اسمه المتواضع قد أصبح يملأ كل مكان، ولم يكن لدي عجز في الأداء كنت أريد تغطيته "بزفة" إعلامية، فالعمل الذي كنت أقوم به يتحدث عن نفسه وعن مصر، وعظمة عطاء أبنائها، ليس في ساحة القتال فحسب ولكن في ساحة البناء أيضا
ولأنني لست في حاجة لأن أقول لأبناء مصر عما يتم فهو لهم وبهم ، اتجه اهتمامي لأن اقول عن مصر للعامل الذي كان يرتقب في ذلك الوقت اتجاه خطها ووثع خطاها. لذلك كان اهتمامي شديدا بالمراسلين الأجانب الذين رحت أنقل للعالم من خلال وسائلهم صورة صادقة وأمينة لنيات مصر في السلام، ليس من خلال كلام يقال ولكن من خلال إنجاز أعمال".

وبعد حوالي 6 صفحات من هذا الحديث يفاجئنا المؤلف باسلوب جديد في مذكرات السياسيين وإن لم يكن جديدا في السياسة وهو اسلوب لجأ إليه بدون داع للأسف كوسيلة توسل بها غلى مهاجمة من هاجموه في البرلمان فيقول:

"مع أن ما تعرضت له لم يقف عند حد ما حكيت، عندما كانت تمنع من النشر أخباري التي هي أخبار مصر كلها، في تلك المنطقة وتلك اللحظة من التاريخ. ولكن تخطى حقد من تولى منهم بعد ذلك هذه النقطة، وتجلى واضحا في مجلس الشعب، عندما استأجروا مأجورا يهاجمني ويهاجم وزارة التعمير، في وزارتين متتاليتين
علما بأن شقيق ذلك المأجور قد تم ضبطه، وهو يسرق سيارة محملة بالحديد والأسمنت من مواد البناء الخاصة بشركة "المقاولون" العرب، ويكون بذلك قد جمع بين سلاطة اللسان، ودناءة النفس، ولذلك فليس غريبا عليه (أن يطول لسانه) على المهندس عثمان أحمد عثمان أو غيره.
طالما تلك هي أخلاقياته. ولكن الغريب هو تصرف من استأجروه، فيا ليت مستأجريه كانوا منالقوى المعادية للنظام سواء في الداخل والخارج، ولكنهم للسف يتولون مركز الصدارة فيه، ومع ذلك راحوا ينالون من النظام ومن منجزاته بدلا من أن يدافعوا عنه وعنها.
ويبدو أن الأمر قد اختلط عليهم، فلم يستطيعوا أن يفرقوا بين حقدهم على المهندس عثمان أحمد عثمان، وبين ما تم على يديه من إنجازات هي محسوبة لمصر ومنسوبة إليهم، فراحوا يتصرفون كالدبة التي قتلت صاحبها دون أن تقصد، إن كانوا هم يقصدون، ولم يخطر على بالي أن أمثال هؤلاء الذين يفترض فيهم الحرص على النظام والدفاع عنه يمكن أن يدبروا مثل تلك الدسائس ضد المهندس عثمان أحمد عثمان ليس بصفته الشخصية
ولكن بصفته وزيرا مسئولا في وزارتين متتاليتين، ولأهمية العمل الذي كان يقوم به، كان من المتوقع أن تتحرك قلوب الناس كلها حرصا عليه، وليس حقدا ضده وكثيرا ما تساءلت: هل الحقد يدفع الإنسان غلى ذلك. وإلى أن يعمي بصره عن أن يرى مصلحة بلده؟ ولكن شاء الله سبحانه وتعالي أن أضبط أحدهم بالصدفة متلبسا وهو يدبر المؤامرات ضدي".

وهكذا يصل مؤلف هذه المذكرات غلى أن يضع نفسه في خانة أولئك المندهشين من لعبة السياسة والمحاور كأنه لم يمارسها على أي مستوى مع أنه في عقيدة شعبه واحد من أكثر الذين مارسوا السياسة بهذا المعنى وقد يكون صادقا في هذا الحديث ولكن هل يليق به أن يظهر في هذه الصورة في كتاب يتحدث عن تجربته ؟ أعتقد أنه لو استشير من قبل أحد أصدقائه الذين يكتبون مذكراتهم لنصح صديقه بما لم يفعله هو في هذا الكتاب.

(5)

وحين يود صاحب هذه المذكرات أن يطلعنا على مدى قدرته على الحسم والحزم على الرغم مما عرفناه عن طيبته، فإنه للأسف الشديد لا يضع أيدينا على مبرر قوي للموقف القوي الذي اتخذه نموذجا لهذا الحسم وإنما يضرب لنا مثلا بيروقراطيا لا يليق به على الإطلاق

واقرأ معي رواية عثمان في ص 482 حين يقول :

" وكعادتي طوال حياتي لم أرفت موظفا، لم أوقع الجزاء على أحد إلا مرتين، مرة في "المقاولون" العرب ورويت على صفحات أخرى قصة صاحبها الذي أعدته مرة أخرى وكان ذلك في بداية التأميم، وكانت المرة الثانية أثناء توليتي وزارة الإسكان والتعمير، كان لوزارة افسكان وكيل أول أراد أن ر"يفرد عضلاته"
لقد كان متصلا بذوي النفوذ والسلطان، وذات مساء عقدت اجتماعا كبيرا في الوزارة ولم يحضر ذلك (الموظف) الاجتماع، ولم أكن أعرف ما إذا كان حضر الاجتماع أم لا، إلا عندما جاء لي في الصباح يعتذر عن عدم حضوه الاجتماع، وكان يمكن أن تقف المسألة عند ذلك الاعتذار، واعتذاره مقبول، ولكنه استثارني عندما قال لي إنه ان مجتمعا مع مجموعة من "علية" القوم ولذلك السبب لم يحضر الاجتماع، ولم أتكلم معه في شيء
ولكن بعد خروجه منحجرة مكتبي بساعة واحدة أصدرت قرار ندبه، وبذل ذلك الموظف محاولات مستميتة غلى حد أن رئيس الوزراء في ذلك الوقت تكلم معي بخصوصه، وتوسط له عندي وألح في وساطته، ولكنني رفضت أن أعود في قراري وكان مبرر عدم رجوعي واضحا، فهو يقبض مرتبه، ولذلك فلا حرب له في رزق أولاده ورزقه، ولكن ما حدث أنني أبعدته حتى أستطيع العمل في جو سليم".

(6)

وفي كتاب "تجربتي" فقرة يتحدث فيها مؤلفه عن سعادته الشديدة بإلغاء جهاز الرقابة الإدارية، ولولا أن عثمان أحمد عثمان سجل هذه الفقرة في كتابه لظل القراء على اعتقادهم تجاه ما يتردد حول دوره في إلغاء هذا الجهاز أن هذه الروايات ليست إلا شائعات

ولكن ها هو عثمان نفسه يهاجم هذا الجهاز القومي بدعاوي سفسطائية ضعيفة يسهل الرد عليها، وليس الجهاز بحاجة إلى هذا الرد ولكننا هنا سننقل للقاريء فقرات المهندس عثمان التي يعرض لنا بها قصته مع الرقابة الإدارية بطريقة مثيرة حين يحشر هذا الحديث في سياق حديثه عن إنجازاته أثناء تولي وزارة الإسكان

فيقول ما نصه:

" لم تعجب الرقابة الإدارية طريقة اداء الرجال، فراحت تسطر التقارير التي تراكمت في مكتبي والتي تطعن فيها الشرفاء عندي، ولم أجد أمامي من رد لاعتبار هؤلاء الشرفاء إلا أن أصدر قرارات بترقيتهم، رغم اعتراض الرقابة الإدارية عليهم، ولم أفعل أكثر من أنني كنت أعطي هؤلاء الرجال حقهم.
وكن كنت أعجب عدما أرى جهازا كبيرا ضخما اسمه "جهاز الرقابة الإدارية" يكبد الدولة دم قلبها ويشكك الناس في الناس وفي ذممها ويشوه صور الناس، ويكتب عنهم ما يرضي الجهاز إذا لم يرضوه أو يرضوا موظفيه حتى لو كان ما يقوله لا يرضي الله، وتحول الجهاز إلى سيف علةى رقاب الناس للتخويف بدلا من أن يكون وسيلة للتقويم، وكان الشرفاء أول ضحاياه.
وارتبط وجود ذلك الجهاز بمراكز القوى عندما أظلموا مصروظلموها ، فظهر اللصوص وكان لابد أن يراقب بعضهم البعض، صورة عكس ما نراه الآن عندما أشرقت الشمس، وفي النور لا نرى إلا كل شيء سليم، حتى اللصوص أنفسهم لا يبدون إلا مواطنين عاديين، ولا يمارسون هواياتهم.
لذلك كنت ضد جهاز يحمل ذلك الاسم أو يلعب ذلك الدور، وطالبت بإلغائه منذ أن كنت وزيرا للإسكان والتعمير ومحاضر جلسات مجلس الوزراء في تلك الفترة تثبت ذلك ولم يكن هذا الرأي مني تجنيا على أحد، لقد تعودت بفضل تجربتي ألا أقول رأيا إلا غذا كان له عندجي تجربة عملية جربتها بنفسي، فما هي التجربة التي جعلتني أقتنع بهذا الراي؟"
"عندما كنت وزيرا للإسكان والتعمير وصلني خطاب من جهاز الرقابة الإدارية، يقول فيه إن المدير المكلف بتنفيذ عملية كوبري 6 أكتوبر شوهد على قارعة الطريق، يحتسي الخمر في وضح النهار. كان يحمل الخطاب درجة سري جدا، والمدير المنوط به هذا العمل هو من أبناء المقاولون العرب"

الشرفاء الذين ربيتهم وأعتز بأخلاقياتهم، وقيمهم وكفاءتهم وعلاقة ذلك المدير بربه على أحسن ما يكون، وهكذا كان يطعن الشرفاء والأمناء والممتازون في شرفهم وكفاءتهم وفي أخلاقياتهم أيضا، ليس في "المقاولون العرب" وحدها ولكن في مصر كلها.

وسألت نفسي: ترى لو لم يكن هذا المهندس الممتاز من أبنائي فماذا كنت سأقول عليه وأفعل معه؟ ولو لم أكن أنا وزيرا لفسكان والتعمير ترى ماذا كان سيفعل الوزير الذي يجلس مكاني؟ وبدلا من أن يكون قراري مساءلة هذا المهندس، كان هو المطالبة بإلغاء ذلك الجهاز الذي ظل يعمل بالأساليب التي علمتها له مراكز القوى ولم يغير منها
والأغرب من ذلك أنه لم يكن قد عرف بعد، وهو جهاز رقابة، أن الشمس قد أشرقت وأن الدنيا قد تغيرت، ورغم كل تلك (القناعة) عندي استدعين المهندس على جودت واكتفيت بأن أعطيته الخطاب السري المكتوب ضده.
وقلت له ما رأيك يا بشمهندس؟ وكانت إجابته كما توقعت. قال: إذا كنت تصدق هذا الكلام أو تطرق لك مجرد الشك، فأنا أضع نفسي تحت تصرفك، وافعل بي ومعي ما شئت، ولن أدافع عن نفسي أمامك، ولكن إذا كنت قد صدقت ما في هذا الخطاب، لا أستطيع أن أقول لك إلا أنني كذلك، وحاولت أن أعرف السر وراء كتابة ذلك التقرير ضد المهندس على جودت
فعرفت أنه رفض تلبية مطلب لأحد موظفي ذلك الجهاز، لذلك كان لابد وأن يلقى جزاءه بتقرير يجهز على كل مستقبله، بهذه البساطة كانت تتحدد مصائر الناس، ولو كان على جودت من العناصر السيئة واستجاب لأصبح في نظرهم وتقاريرهم سيد الشرفاء
هكذا كان يعمل ذلك الجهاز المنحل قبل أن يحل فلم يجد إلا هذا المهندس الذي ليس عنده ما يشغهل، فانصرف إلى احتساء الخمر على قارعة الطريق في "عز النهار"، وهو في قلب موقع العمل بين عشرات المهندسين، ومئات الملاحظين وآلاف العمال الذين كان يقودهم لإنجاز هذا المشروع العظيم".

وهكذا كان رأي صاحب هذه المذكرات في جهاز الرقابة الإدارية واضحا بأكثر مما قد يتزيد مروجو الشائعات حتى إنه لا يجد حرجا ابدا في أن يصف هذا الجهاز بالمنحل قبل أن يحل أو يلغى.

(7)

أما أعظم فصول هذا الكتاب حقيقة فو الفصل الذي عنوانه "الإنسان المصري ثروتي الحقيقية" والذي يبدأ من صفحة 529، وفي هذا الفصل دروس عظيمة في الإدارة، ألقاها صاحب هذه المذكرات بتلقائية شديدة محببة إلى نفس، وظهر فيها عنصر من عناصر قدرته الشديدة على النجاح واستمرار النجاح

وفي هذه الفقرات عبارات تستحق الكتابة بماء الذهب لأن صاحبها عبر بها عن إيمانه الشديد بما يسميه علماء الإدارة "الموارد البشرية" من دون أن يقحم علينا تعبيرات علم الإدارة أن الاقتصاد في حديثه السهل السلس

وعلى الرغم من بساطة الأمثلة التي ساقها عثمان أحمد عثمان فإنها أمثلة حية وصادقة ، وخذ مثلا قصة المبلط (ص 532 وما بعدها) ومهما يكن من عفوية عثمان أحمد عثمان في هذا الحديث فهو حديث محبب جدا إلى النفس مهما اعترضنا على الجانب الخلقي فيه أو قل حتى لو اعترضنا..

وخذ مثلا آخر هذا التبسيط الشديد الذي يدافع به هذا الرجل عن نموذجه في الإدارة بهدوء وثقة واقرأ معي من صفحات 573 وما بعدها وجهة نظره حين يقول:

" وضربت للأستاذ وتلاميذه مثالا من الواقع بعامل يعمل تحت ظل برنامجين مختلفين، وقدرة هذا الرجل لا تزيد على حفر ثلاثة أمتار مكعبة في اليوم. برنامج لا يتعامل إلا مع الماديات وقواعد الحساب برنامج يأخذ في اعتباره كل العوامل الإنسانيى التي ذكرتها، يوضع البرنامج الأول على أساس أن يحدد للامل حفر خمسة أمتار مكعبة، على أمل أن ينجز منها ثلاثة، وبذلك يحقق الهدف المطلوب منه
وهذا البرنامج في رأيي خطأن صحيح سيحقق في النهاية الهدف، ولكن لا يحقق لك المحصول لى أقصى طاقة يمكن أن يعطيها هذا العامل، لأن البرنامج يضعف معنوياته ويملؤه باليأس، لأن حجم العمل أكبر من إمكانياته، ويوضع البرنامج الآخر على أساس أن تحدد له مترين مربعين فقط
وهنا يجد العامل المصري نفسه أمام عمل عمل معقول يستطيع إنجازه، لأنه أقل من إمكانياته، فترتفع معنوياته ويقبل على العمل بروح عالية، لأن كفاءته في اليوم هي حفر ثلاثة أمتار مكعبة، والمطلوب منه حفر مترين فقط، لذلك ينجز ما هو مطلوب منه في زمن قياسي فيثق في نفسه.
وهنا يتدخل رجل الإدارة الناجح الذي يعرف أنه يريد من هذا العامل حفر ثلاثة أمتار مكعبة وليس مترين فقط، عندما يقدم للعامل حافزا معنويا بتمجيد قدرته، وشكره على الجهد الذي يبذله في إتقان عمله، ثم يطلب منه بعد ذلك حفر مترين مكعبين إضافيين مقابل مكافأة مادية معقولة إذا تمكن من إنجاز المهمة، وهنا ينكب العامل على العمل بإرادة من حديد ويبذل جهده
ويعطي الطاقات الكامنة فيه وينجز ما هو مطلوب منه، ويتضح الفارق الكبير بين البرنامجين، برنامج يعطى فقط كمية العمل المطلوبة مقابل الأجر الذي تم تقديمه للعامل، ولكن على حساب معنوياته وكبت ملكاته دون أن تأخذ فرصتها للظهور وبرنامج أعطى مترا مكعبا إضافيا مقابل المكافأة المحدودة التي منحت للعامل ولكن جعلته يقدم على العمل، بروح عالية ونفس راضية، وفي نفس الوقت يحقق عائدا ماديا إضافيا، ..
" لذلك فإنني أفهم الإدارة على أنها إتاحة الفرصة للعامل لكي يثبت ذاته ولكي ينجح فلو نجح ارتفع معنوياته، والنجاح يقود إلى النجاح، وهكذا يزيد الإنتاج".
وحين ينتهي صاحب هذه المذكرات إلى مثل هذا التعريف للإدارة فإننا لا نملك إلا الانحناء والتقدير، وعلى هذا النحو يمكن لنا أن نقرأ قصة خلاف شركته مع أهل السويس ومحجر حجر الزلط (ص 540).

ولصاحب هذه المذكرات أيضا أن يفخر بحديثه الممتاز عن أهمية العلاقات الإنسانية في الإدارة ولك أن تقرأ ما يرويه في ص 552 حين ينصح ابنه وابن أخيه فيقول:

" الأهم هو كيفية ربط العامل بك، يحبك وتحبه، لابد أن تشعر بقيمته وأهميته وأنه أحد الأعمدة التي يقوم عليها العمل، فهذا عنده أهم بكثير من العلاوة، تلك هي تجربتي، الإنسن المصري لا يبحث عن المال بقدر ما يبحث عن ذاته، لذلك لابد أن تقربا العمال منكما، وأن تعيشا بينهم لكي يرتبطوا بكما"..

إن سؤالك للعامل عن بيته وأولاده ومتابعتك لأخباره، ووقوفك معه في أزماته يكفيه، فلا يصح أن تشعره بأنه عامل عندك، ولكن لابد أن يلمس أنه صديقك، وللمهندس عثمان أن يفخر بكتابه

حيث يتحدث بعد فقرات أخرى فيبلور وجهة نظره قائلا :

" إن العلاقات الإنسانية في أسمى صورها هي المدخل الوحيد والصحيح للإدارة الناجحة ، التي تقود عملا ناجحا، نستطيع أن نمكن له من خلال أشياء صغيرة وبسيطة غير مرئية لا يستطيع أن يراها أي إنسان، ولكن ذلك الذي يراها ويستطيع أن يدرك أبعادها يكون قد امتلك كل كنوز الدنيا ووهبه الله خيرا عظيما".

وبعد صفحات طوال من مثل هذا الحديث الذكي يضرب لنا صاحب هذه المذكرات بعض الأمثلة الذكية فيقول :

" فمثلا عندما كنت أشرب كوبا من الشاي مع أحد السائقين ، أو أتناول معه طعام غذائه، لا تتصور المفعول السحري والنتائج التي تترتب على مثل هذا التصرف، فبدلا من أن ينقل الأجر الذي يتقاضاه، دون أن أدفع شيئا أكثر من أنني اقتربت منه.
لذلك أقول لك يا ولدي، إذا أردت أن تصبح رجل أعمال ناجحا، أيا كان مجال عملك، إذا أردت أن تحقق الملايين من المال، فلا تجعل الفوس هي هدفك في الحياة لأنها لن تأتي إليك، ولكن اجعل هدفك القيم والمثل وحب الناس، كن مليونيرا في أخلاقك ومعاملاتك أولا، يسعى إليك المال من حيث لا تدري وبلا حساب، هذا هو الطريق، إذا أردت أن تصبح كبيرا، أو إذا أردت أن تتحول إلى مليونير.
فالقيادة ليست بالأمر السهل، فهي تحتاج إلى مرونة وتمرس وخبرة وقدرة، ولم أضرب رأسي في الحائط حتى ولو مرة واحدة، وقد تعودت أن أكون مرنا سهلا، فكلما وجدت طريقا غير معبد أو ممهد تركته وانتقلت على الفور إلى البحث عن طريق آخر، ولم آخذ المسائل في يوم من أليام، مأخذ العناد والتشبث بالرأي، ولكن كثيرا ما تراجعت كلما اكتشفت ان الطريق الذي أسير فيه، يحتاج إلى إعادة نظر".

ويروي لنا صاحب المذكرات قصة الميكانيك الذي استطاع أن ينفذ سيارات الشركة في أثناء عملها في السد العالي (558 - 559) على حين فشل الخبراء الروس، بل يضع المهندس عثمان أحمد عثمان أيدينا في بساطة وتواضع على حقيقة أن العامل المري كان أكبر عنصر من عناصر النجاح في أعماله خارج مصر

ويقارن لنا مقارنة واضحة ودقيقة بين العامل المصري وغيره فيقول:

" كنت أقوم بتنفيذ عملية كبيرة في ليبيا، وقت أن كان يتربع على عرشها الملك السنوسي، وكان يحكم مصر وقتها نظام الحكم السابق. وحدث خلاف بين نظام الحكم في مصر ونظام الحكم في ليبيا، وعلى أثره استدعاني عبد الحميد البكوش الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء هناك في ذلك الوقت .
وطلب مني تصفية جميع أعمالي في ليبيا، وكان ذلك لأسباب سياسية، وكانت هناك عملية لم تستكمل بعد فطلبت منهم الانتظار إلى ما بعد الانتهاء منها، ولكنهم اقترحوا استجلاب عمال من بلاد أخرى.
واستجبت إلى مطلبهم، وقررت أن أستجلب عمالا من بلاد أخرى، لكي نقوم بإنجاز ما لم يتم الانتهاء منه في العملية، وقمت بإرسال مهندسين من الشركة، إلى كل من مالطة وقبرص واليونان للتعاقد مع عاملين من هذه الدول.. وبعد اسبوعين عادت هذه الوفود لي: ليس هناك لاستكمال العمل من سبيل سوى العامل المصري الصابر الصامد العملاق، فماذا وجدوا هناك؟
وجدوا أن نجار المسلح المالطي يطلب مرتبا قدره مائتا جنيه في ذلك الوقت، بينما كان مرتب نجار المسلح المصري لا يزيد عن خمسين جنيها ليس ذلك فحسب، بل إن هذا النجار المالطي يطلب منا أن نوفر له، شقة يسكن فيها هو وزوجته وأ,لاده على حسابنا، وندفع له ثمن تذكرة الطائرة ذهابا وغيابا هو وجميع أفراد أسرته، وأحد شروط التعاقد أيضا أن يعمل هذا النجار المستورد، ثمانية ساعات فقط تتخللها ساعة راحة، ثم ندفع له مبلغا مقدما وهو ما يزال في بلده.
ثم بعد كل هذه الشروط لا يحضر إلى العمل، إلا بعد ثلاثة شهور، من تاريخ التعاقد معه. أملت مالطة علينا هذه الشروط بينما كنا نحن هناك يقيم كل ثمانية منا في شقة واحدة، ليس العمل فقط، ولكن كبار المسئولين أيضا، من مديرهم غلى خفيرهم، بمن فيهم عثمان أحمد عثمان نفسه. نفس الموقف وجدناه في قبرص وفي اليونان".

(8)

وهكذا نستطيع أن ننتهي من قراءة صفحات كتاب "تجربتي" ونحن مهيئون تماما لتقبل آراء ثورية يبديها هذا المهندس رجل الأعمال في أسلوب تعيين الخريجيين في فصل كامل يجعل عنوانه "القوى العاملة مقبرة للشباب" وليس هذا الفصل بكفيل باستعراض آراء عثمان في هذا الصدد فحسب ولكننا لابد وأن ندل قارئنا على الأفكار القيمة التي يضمها.

ويبدو أن المؤلف قد قاد نفسه أو قاده الحوار لأن يخصص فصلا من كتابه بعنوان "كيف نبني مصر" وفي هذا الفصل أيضا نصائح قيمة ولكن كل الناس يعرفونها، وإذا كان الأمر كذلك فإن عثمان يتحدث عن هذه الحقائق وبهذه الحقائق في إطار انتقاده (فقط) لنظام حكم عبد الناصر.

وحين ينحاز عثمان أحمد عثمان للقطاع الخاص فإن هذا مفهوم بل ومشكور لأنه يدافع عما اعتنق من فكر وما أدى من جهد، ولكن هذا الحديث لن يستحق الاحترام والتقدير إلا إذا للتزم عثمان في الجانب الآخر بتقدير الظروف التي دفعت زعيما كعبد الناصر غلى طريق الاشتراكية والتأميم حتى وإن كان قد أخطأ في هذا الطريق.

أما موقف صاحب هذه المذكرات من الانفتاح الاقتصادي فموقف ذكي جدا يدافع عن السلبيات على أنها من طبائع الأشياء وأنها إلى زوال، وها هو يقول في ص 595 :

" لما كان الانفتاح عو إعادة صياغة جديدة للحياة الاقتصادية، فلابد أن تحدث أثناء عملية الصياغة "خلخلة" لابد منها وفي مثل هذه الظروف لابد أن تطفو على السطح ظواهر غير طبيعية، لا يصح أن نأخذ منها مقياسا للأمور فنعم نتائجها مع أنها عرضية، من هذه الظواهر مجموعة تستطيع أن تحقق غناء فاحشا في سرعة مذهلة
فكما أن للحروب تجارا، فلابد أن يكون للسلام تجار، وأيضا للانفتاح تجار، ومن هذه الظراهر أيضا الإقبال على النواحي الاستهلاكية بشكل كبير، وهذا أمر طبيعي أن يحدث بعد طول حرمان، ولكن عندما تستقر الأمور وتمر هذه الفترة لن نجد الغث، ولا يستطيع الاستمرار إلا ما هو ثمي، ويعود التوازن مرة أخرى، وتبدأ الحياة في السير طبقا للمفاهيم الجديدة".

ولكن أبلغ ما في هذه المذكرات في رأيي هو الفقرة التي يصوغ فيها عثمان العلاقة بين الحكومة ورجال الأعمال على أعظم ما يكون حين يقول : " وليس هناك رجل أعمال يقف من السلطة موقفا معاديا، ولا يستجيب لتعلمياتها بمجرد الإشارة إليه" ، كذلك يبدي عثمان أحمد عثمان إعجابا لا حدود له بالإنسان المصري في مواضع مختلفة من كتابه ثم هو يبلورها جميعا في آخر فقرات كتابه بدءا من صفحة 599 ولا يملك إزاء هذا الإعجاب إلا الإعجاب الشديد.

(9)

بقي أن أذكر للقاريء عجائب الأقدار في أمر هذا لكتاب فقد كان أنور السادات في أول عهده يرد على اليساريين في خطبه السياسية بأنهم يلبسون له "قميص عبد الناصر" إشارة إلى الخلاف الذي حدث عقب مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وتولى على بن أبي طالب الخلافة، ومطالبة معاوية والأمويين له بالانتقام لمقتل عثمان وكانوا يتخذون لذلك رمزا هو رفعهم قميص عثمان في وجهه

وكان أنور السادات لا يفتأ يسخر من الناصريين واليساريين ومن على شاكلتهم بتعبير قميص عبد الناصر أو قميص عثمان، إلى أن كتب المهندس عثمان أحمد عثمان هذا الكتاب ونشره وهاجم فيه عبد الناصر بضراوة فإذا بالسادات لأول مرة يلبس لعثمان (ولاحظ الصدفة في الاسم) قميص عبد الناصر وأصبح الأمر كما هو شأن الحياة الساخرة منا جميعا.

وقد اضطر عثمان أن يستقيل من منصب نائب رئيس الوزراء للتنمية الشعبية الذي كان قد تولاه منذ فترة قليلة، وقد أعلن السادات نفسه أنه لم يطلع على كتاب عثمان إلا بعد أن نشر، وبعد أن نشر مصطفى أمين فقرة منه في عموده اليومي قرأها الرئيس حسني مبارك نائب الرئيس حينذاك واطلع الرئيس علها

وهكذا ارتدى السادات لعثمان قميص عبد الناصر بعد أن كان اليساريون يرتدون للسادات قميص عثمان، وأصبحت الملاءمة السياسية تقتضي أن يخرج عثمان من وزارة السادات بسبب كتاب أبلى فيه عثمان كل البلاء ليثبت عظمة السادات على حساب عبد الناصر فإذا بأنور السادات نفسه يثأر لعبد الناصر وكان هذا هو الحل الأمثل أو الأكثر ملاءمة على كل حال.

الفصل السابع:سنوات مع عبد الناصر

للأستاذ ضياء الدين داود

(1)

يتمتع الأستاذ ضياء الدين داود بوضع خاص جدا بين وزراء الثورة جميعا، حتى ليمكن تسميته من بينهم "الشهاب الخاطف"، فقد لمع بسرعة شديدة جدا لم تتح لأحد غيره ممن استوزرتهم الثورة، ويكفي أنه انتقل من عضوية مجلس الوزراء إلى عضوية اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في سبعة شهور فقط أو قل في مائتي يوم

ليكون من بين الثمانية الكبار في الوطن كله جنبا غلى جنب مع الاثنين الباقيين في السلطة من أعضاء مجلس قيادة الثورة (أنور السادات وحسين الشافعي) وقد تقلدا منصبي نائب رئيس الجمهورية وعضو مجلس الرئاسة من قبل، ومع رئيس الوزراء السابق علي صبري

ومع واحد من أهم الضباط عمل وزيرا ونائبا لرئثس الوزراء منذ أوائل الستينات هو عبد المحسن أبو النور الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي، ومع وزير مخضرم قضى مع الثورة 16 عاما مسئولا عن الخارجية ونائبا لرئيس الوزراء وهو الدكتور محمود فوزي

ومع وزير مخضرم آخر قضى مع الثورة 12 عاما وزيرا ونائبا لرئيس الوزراء فضلا عن أنه شغل دوما موقع القطبي الرسمي الأول وهو د. كمال رمزي استينو، ومع تكنوقراطي بارز عمل منذ أوائل الستينات وزيرا لأكثر من وزارة هامة هو الدكتور محمد لبيب شقير..

مع هؤلاء جميعا دخل ضياء الدين داود محامي الأقاليم الشاب اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي التي لم يستطع عزيز صدقي وسيد مرعي وحسن عباس زكي أن يدخلوها ولا أن يحصلوا حتى على ثلث ما حصل عليه ضياء داور من أصوات.

هنا قد يمكن لنا أن نقول إن مؤلف هذه المذكرات يمثل النموذج الذي تقدمه "الانتخابات العليا في ظل حكم شمولي" حين تكون هذه الانتخابات على مراحل متعددة، تبدأ بوحدات أساسية ثم مستويات المراكز فالمحافظات فالدولة كلها.. وهذا ما حدث في انتخابات الاتحاد الاشتراكي في 1968.

ومن المفترض إذا أن يهتم كتاب تاريخ عهد الثورة (مستقبلا) بالبحث في العوامل المؤهلة (أو غير المؤهلة) في شخصية ضياء الدين داود حين يتتبعون صعود الأشخاص في عهد الثورة.

ويصبح الأمر أكثر مدعاة للبحث إذا علمنا أن صاحب هذه المذكرات لم يمض في هذا المنصب الرفيع إلا سنة ونصفا فقط، أصبح بدها مباشرة متهما في قضية 15 مايو، ولأنه لم يكن وزيرا فإنه لم توجه إليه تهمة "الخيانة العظمى" التي يستلزم التكييف القانوني لتوجيهها أن يكون المتهم وزيرا عاملا شاغلا لهذا الموقع في مجلس الوزراء

بينما لا يجوز توجيهها لعضو اللجنة التنفيذية العليا مثلا، ولكن ضياء الدين داود كان متهما بأكثر من الخيانة العظمى على الأقل في نظر صديقه (أو مشجعه) القديم الرئيس أنور السادات نفسه، فقد بدأ بزوغ نجم ضياء الدين داود كنجم في مجلس الأمة الذي كان أنور السادات نفسه هو رئيسه.

قضى مؤلف هذه المذكرات معظم عهد أنور السادات في السجن إلى أن أفرج عنه لظروف إنسانية، وقد نشرت مجلة أكتوبر حين كانت لا تزال حديثة الصدور نص الرسالة التي بعث بها ضياء داود إلى سيد مرعي رئيس مجلس الشعب يومها، وأحد المقربين من الرئيس أنور السادات ملتمسا العفو، وفيما بعد وفاة الرئيس السادات تطلع صاحب المذكرات إلى معاودة العمل السياسي

وكان عليه أولا أن يكسب قضية رفعها ضد العزل السياسي المفروض عليه باعتباره من أقطاب 15 مايو، وقد فعل ورفع القضية كسبها ثم ابتدأ يشارك في الحياة السياسية بكتابات متناثرة، وها هو ذا في 1984 ينشر كتابا عن ذكريات يعطيه عنوان "سنوات مع عبد الناصر".

(2)

هذا الكتاب هو موضوعنا في هذا الفصل وهو فصل ضروري لأنه نموذج لرؤية وزير يمثل نموذجا فريدا بين وزراء الثوة جميعا على نحو ما قدمنا للقاريء.

كان لابد لصاحب هذه المذكرات إذن أن يؤهل لنفسه (مكانة) في الفكر الاشتراكي، وهو الفكر الذي ساد المجتمع الذي دفع به إلى الصدارة وهنا نجده يبدأ هذا الطريق شأن معظم الاشتراكيين بالقرب من عبادءة الإخوان المسلمين.. تستهويه الحركة ولكنه بعد شيء من التفكير يعرض عنها

وها هو يقول في ص 21 و22 من كتابه:

" كنت بحكم نشأتي وقراءاتي الدينية قد أعجبت بفكر الإخوان المسلمين ونشاطهم وكثيرا ما استمعت إلى خطب المرحوم الشيخ حسن البنا حيث د إعجابي وانبهاري (قد نستطيع التحفظ هنا لأن ضياء داود كان طالبا جامعيا في الإسكندرية بعيدا عن القاهرة وفيما قبل ذلك كان بعيدا عن القاهرة أيضا ولم تكن أجهزة التسجيل يومها متاحة)
ولكنني أيضا لم اقتنع بالانضمان إليهم، ولم أتخذ موقفا محددا من أفكارهم ومن القضايا التي يثيرونها، ولكن أثارتني بعض تناقضاتهم في المواقف السياسية والعجز عن تحديد الموقف بشكل مقنع من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت مطروحة للجدل والحوار فلم يتجاوزوا تقريبا مرحلة الشعارات العامة، ولم أكن قد قرأت بعد شيئا عن الاشتراكية اللهم إلا ما كان يدرس لنا بصورة مبسطة ومن زاوية معادية محبذة للمذهب الفردي الرأسمالي في أغلب الأحيان.
ولم تكن مباديء العدالة الاجتماعية عندي تأخذ شكلا أو تصورا محددا، وكان مردها عندي إلى مشاهد واقعية وعاطفية ودينية ولدت لدى الإحساس بمعاناة الناس، والتفكير من أجل تغيير ظروف حياتهم، وتحقيق مجتمع يسوده عدل أكثر ومساواة حقيقية، تمحو المظالم التي تثقل كواهل الناس، وتضغط عليهم وتجرح آدميتهم
ولكن أحد زملائي بالدراسة كان كثير الحوار معي حول الفكر الاشتراكي وربطه بالفكر الديني، وخاصة ما كان ينقله عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري والفاروق عمر بن الخطاب والإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه ومواقفهم وآرائهم ولكني كنت أقيم سدا بين ما يقول وبين عقلي
كنت متأثرا بعاطفة دينية جارفة متأثرة بما كان يثار حول الاشتراكية من دعايات بأنها مذهب الإلحاد والإباحية وأنها تقيم مجتمعات متحللة من كل القيم، ومن ثم وبغير تعمق أو معرفة كنت أنفر منه وأتصور ما يقوله لي بأنه مجرد عمل دعائي وإغوائي، كما كنت أتصور أنه يمارس معي عملية تشكيك وتصيد لكلمات أبي ذر".

هذه هي كلمات المؤلف في مذكراته، ومن الواضح أنه تعكس تفكير رجل قارب الستين، أكثر مما تعكس الشاب الذي يتحدث عنه هذا الرجل، وهكذا فشل الأستاذ ضياء الدين داود من حيث لا يدري في أن يكسب حديثه مسحة الصدق الفني، وعلى هذا النحو من اعتذار ضياء داود المهذب لنفسه عن مجرد الاقتراب من الإخوان المسلمين نجده أيضا يعتذر بصورة أكثر تهذيبا عن وقوفه في ف غير صف الوفد (راجع صفحة 30).

(3)

وعلى هذا النحو أيضا نجد مؤلف المذكرات يجاهر بكراهيته المبكرة لنظام العمد خصوصا بد تجربته في اتخابات عام 1949، ويعترف لنا في ص 31 بأنه حرص على السعي لإلغاء منصب العمدة في قريته وذلك بإنشاء نقطة شرطة فيها بعدما شارك بنفسه في الصراعات والمنازعات الريفية حول هذا المنصب

وفي ص 32 يعقب برؤيته الذاتية جدا فيقول:

" غير أنني ظللت آخذا من تلك التجربة أعارض نظام العمد فقد كان هذا المنصب محود التنافس والتناز، كما أنه ظل رغم التغيير النسبي في العلاقات الاجتماعية حكرا لبعض الأسر المالكة، وكنت وما زلت مقتنعا بأنه نظام مرتبط بالتركيب الطبقي للقرية..
حيث كانت تحتكره بعض الأسر "أسر الأعيان" وهم غالبا من كبا ملاك الأراضي الزراعية كما كانت تحتكر أيضا مراكز السلطة والتأثير في القرية كرياسة الجمعيو التعاونية ومنصب شيخ البلد أو شيخ الخفراء.
ثم امتدت هذه النزعة بعد الثورة إلى عضوية التنظيمات السياسية أو أماناتها فأصبحت العضوية توزع بين ألسر وأحيانا بنسب محددة وكانت الدوافع دائما المحافظة على المصالح الاقتصادية والحرص على تكريس التمايز الاجتماعي والاستغلال.
وكانت (العمدية) إذن في نظري أثرا مرتبطا بالمجتمع الذي قامت الثورة لتغييره والذي تغير في الريف إلى حد بعيد ومؤثر ومن ثم كان طبيعيا أن يتغير ولكن لأن التنظيم السياسي وقت أن كان تنظيما واحدا ونظام الحكم المحلي لم يصبحا بعد في درجة الفعالية المناسبة والواجبة رجح الرأي القائل بالإبقاء على نظام العمد إلى أن يتوفر البديل".

(4)

وحين يحدثنا مؤلف المذكات عن قيام الثورة فإنه يتحدث كما لو كان عنده خبر بها فهو يترقبها منذ الصباح الباكر ، وذلك حيث يقول في ص 33:

" في الصباح الباكر من يوم 23 يوليو سنة 1952 تجمعنا في مقهى مجاور للمحكمة نتابع نبأ قيام الثوة من الإذاعة وكان التشوق لها شديدا وكانت التغييرات الوزارية المستمرة وعدم الاستقرار والاضطراب السياسي قد بلغ أشده في أعقاب حريق القاهرة وقيام حكومة الوفد بإلغاء معاهدة سنة 1936 وبدء المقاومة المسلحة في منطقة القنال ومقاطعة العمال للعمل بمعسكرات الجيش البريطاني. وكانت كلها مؤشرات لتوقع حدث هام .
ومن ثم كدت أطير فرحا وأذكر أنني هللت في مقهى كنا نجلس به، وابديت تخوفي من وجود الملك بالإسكندرية مما قد يعوق الأمل في خلعه، وانفعل واحد من المتحفظين ممن كانوا بالمقهى مذعورا من كلامي ومنددا بتهور الشباب وما يحمله كلامي من إهانة للملك قد تورط في المسئولية وكادت تنشب بسبب ذلك معركة لولا أن حدث الثورة كان أطغى والرغبة في متابعة الإذاعة كانت شديدة".

وليس هذا الذي يرويه صاحب المذكرات في الفقرة السابقة كما نرى إلا صورة من صور التوحد مع الثورة سواء وقه هذا التوحد في بداياتها أم فيما بعد، وليس هذا أيضا إلا نموذجا واحدا للروح التي تسود هذا الكتاب كله، وليس هذا أيضا إلا تعبيرا غير واع ممن كتب هذا الكتاب (أيا كان) عن مشاعره الشخصية قبيل الثورة.

(5)

ويذكر مؤلف هذه المذكرات بشيء من الثقة بالنفس يحسب له كيف أنه لم ينجح في الوصول إلى اي مكانة في الاتحاد القومي عند نشأته لا رئيسا ولا وكيلا ولا سكرتيرا (على مستوى المركز فحسب) ويرجع ضياء داود السبب في ذلك إلى سيطرة الأسر القديمة ومنها أسرته هو نفسه، ويروي ضياء الدين داود هذا الصراع على طريقة صراع الطبقات

فيقول في ص 48

"وقد ظلت تلك الطبقة طافية على السطح حتى إنه عند تشكيل تنظيمات الاتحاد القومي ومكاتبه تجمعت كل الوجوه التقليدية وخلاصة الأسر الكبيرة في المحافظة وأغفلوا كل العناصر الشابة الجديدة وحتى أمثالي من ابناء الأسر الذين يختلف فكرهم أو ارتباطهم خارج ذلك المحيط لم يدعوا إلى الاجتماع الذي تم فيه الاتفاق على توزيع المراكز المختلفة في الاتحاد القومي
سواء لى مستوى المركز أو المحافظة وقد استفزني هذا المسلك فبادرت غلى ترشيح نفسي رئيسا ثم وكيلا ثم سكرتيرا للاتحاد بمركز فارسكور غير أني لم أفز، ولم أكن مؤهلا للفوز لطبيعة تكوين اللجان وما تخضع له من مؤثرات، ولاتفاقهم على حصر تلك المراكز فيهم
ولكني رغبت بترشيحي أن أؤكد معنى الرفض لهذا الأسلوب وكي أؤكد أيضا أنه ينبغي أن تتاح الفرصة لطلائع جديدة تمثل معنى من معاني الثورة والتغيير ولعناصر من خارج الإطار التقليدي الذي كان بتطلعاته فيما قدرت مصطدما لا محالة مع الثورة ومبادئها
والذي كان يواصل منهجه في الانقضاض على مراكز السلطة حماية لمصالحه وتدعيما لمركزه. ولم يكن وجود هذه العناصر في مواقعها يمثل في نظر الجماهير أي معنى ثوري بل كانوا يتهامسون بأن هؤلاء يتربصون لاقتناص الثورة واحتوائها".

(6)

وحين يروي صاحب هذه الذكريات في موضع آخر أنه استطاع الفوز في انتخابات الجمعية الزراعية على مستوى قريته، فإنه يقرن ذلك في نفس الصفحة بأنه سرعان ما ستقال

لأنه لم يكن فيما عتقد متوائما مع الجو العام وها هو يقول:

" .. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي اصطدم فيها مع هذه الفئة بل إنني حين أعيد تنظيم حركة التعاون الزراعي وتحويله غلى تعاون لصالح المنتجين الحقيقيين الزراعيين للأرض بعد أن كان قاصرا على الملاك وحدهم
وكانت القرية بها جمعية تعاونية زراعية قديمة وكان والدي مساهما لي فيها منذ كنت رضيعا، وبالتالي كنت عضوا فيها، ورغب المسئولون في الاتحاد التعاوني أن أحيي تلك الجمعية التي كانت قد اندثرت وضاعت أموالها وأن أرأس مجلس إدارتها حتى تنشط وتقف على قدميها
وقد كان، ثم رشحت نفسي لرئاسة الجمعية التعاونية للمركز وفوت بها، وعند إعادة الترشيح تكتل كبار الملاك الذين لمحوا الخطر على مصالحهم من الدم الجديد في الحركة التعاونية فأرادوا احتواءها وفعلا وصل إلى عضوية مجلس الإدارة عشرة أعضاء من كبار الملاك من 11 عضوا
وكنت أنا الوحيد خارج هذه المجموعة واستقلت إثر ظهور النتيجة رغم أني حزت أعلى أصوات الجمعية العمومية، وقلت إن كبار الملاك قد تجمعوا مرة ثانية ليعودوا إلى استغلال التعاون الذي لا أجد معه جدوى من استمراري لأمثل أقلية بمجلس الإدارة".

وهكذا نجد الأستاذ ضياء الدين داود يقود خطانا ونحن نقرأ كتابه إلىالوقوف على أرضية أوحى بها غيحاء عميقا بعد هذا كله، تتكلم هذه الأرضية فتقول إن الثورة حتى الستينات لم تكن بدأت بالفعل على المستوى المحلي.

ثم نجده "يعين" في مجلس المحافظة ولاحظ أنه يعين ولا ينتخب ولكنه يعبر لنا في صفحة 50 وما بعدها عن مدى سعادته بهذا التعيين وهذا الوضع الجديد الذي أصبح من خلاله قادرا على شيء. ولكن مؤلف هذه المذكرات يعود بعد 6 صفحات في ص 56 فيروي بكل المرارة تجربة استبعاده من الترشيح في انتخابات 1964 بعدما خاض الجزء الأول من المعركة الانتخابية

ويتحدث ضياء داود عن أن الاتحاد الاشتراكي كان لا يزال بيروقراطيا ليس غلى معرفة أسراره من سبيل فيقول:

" ولقد كان الاتحاد الاشتراكي في ذلك الحين يدار إدارة بيروقراطية لا تختلف عن أي مصلحة حكومية وكان بابه مغلقا دون الجماهير، وما زلت أذكر أنني وآخرين ممن شملتهم قرارات المنع من الترشيح كنا نتردد على مبنى الاتحاد
حيث كان يشغل آنذاك مبنى مجلس قيادة الثورة على النيل بالجزيرة - أذكر أننا كنا نمنع من الدخول ولا نجد أي مسئول نلتقي به ونجلس أخيرا على "دكة" خشب بجانب الحارس أو عندما يرق قلبه لحالنا في غرفة التليفون المجاورة للبوابة".

ويعترف مؤلف المذكرات في صدق وبساطة لم يصل حتى الآن إلى سر منعه من الترشيح "حتى بعد أن أصبح أمينا للمحافظة ووزيرتا وعضوا باللجنة التنفيذية العليا".

وهكذا يمكن لكل أعداء الاشتراكية ومنتقدي نظام الستينات أن يجدوا في شهادة الأستاذ ضياء الدين داود خير نموذج يساعدهم على الاستشهاد وهم ينقدون هذه السياسات تماما بيد أنه لا صاحب الكتاب ولا الكتاب قد حظيا بالشعبية الفكرية التي تؤهل للنقل عنه مهما يكن فيه من مثل هذه الحقائق وهذا مما يؤسف له.

(7)

ويمضي صاحب هذه المذكرات في نفس هذا الخط من النقد الذاتي فيذكر في ص 65 وص 66 أمثلة صارخة لأعضاء دخلوا مجلس الأمة على أنهم فلاحون وعمال بينما كانوا فئات.. ولكنه يعقب على ذلك مستندا إلى شخصية الزعيم على أن شخصية جمال عبد الناصر وقوة قيادته ووضوح اتجاهه وفكرة كان يلزم كل هؤلاء بحدود لا يتعدونها فكانوا لا يقدمون مبادرات أو أفكارا في الاتجاه التقدمي ولكنهم لم يكنونا غلى حد بعيد عقبة.

ولكن ضاعت على اي حال بوجودهم حكمة توفر 50% حقيقة للعمال والفلاحين تستطيع أن تعبر عن مصالح هذه الفئات المختلفة وتقود في الاتجاه التقدمي، وتزيد الاندفاع إليه، وتقدم مبادراتها، وتخوض التجربة في ميدان ليس لها سابقة تعرف عليه.

ويجعل مؤلف المذكرات من هذه الوقائع مدخلا إلى الحديث عن جهده في إعادة تعريف العامل والفلاح في سنة 1968 (انظر صفحة 67 وما بعدها) ومن الحق أن الأستاذ ضياء الدين داود لم يفخر بشيء من الإنجازات في كتابه غير هذا الإنجاز وغير دوره في لجنة الحريات وما صدر عنها من قرارات.

ولكن الأستاذ ضياء الدين داود يؤكد لنا بكتابه عدة معان يبذل من صفحات كتابه قدرا كبيرا في تثبيتها أمام أعيننا، ولعل أهم هذه المعاني أن الثورة لم تكن في نظر من حول عبد الناصر وبالذات أنور السادات إلا وسيلة لتملك الثورة نفسها " وأن هذا يعطيهم حق هدمها والانضمام إلى فلول الرجعية والانتهازية " ص 76

ويخصص الأستاذ ضياء الدين داود فصلا بعنوان " ثورة عبد الناصر وحده" ، وعلى قدر ما يثني ضياء الدين في كل فقرة من فقرات كتابه على جمال عبد الناصر فإنه أيضا يتلمس في كل فقرة مخرجا غلى مهاجمة أنور السادات

وقد أسرف الأستاذ ضياء الدين داود في هذا المجال إلى الحد الذي ابتدع فيه مكانة مضاعفة لأنور السادات في عهد عبد الناصر رغم أن دور البرلمان كله في الستينات لم يكن يتحمل ما أعطاه له الأستاذ ضياء الدين داود في كتابه من دور.

وهكذا يمكن لنا ا لقول بأن صاحب هذه المذكرات لم يكن من أولئك الين وضعتهم كتاباتهم السياسية في خانة الأدوية والعقاقير الطبية المضادة للسادات )على وزن المضادات الحيوية ومضادات الحساسية .. الخ) وإنما بالغ الأستاذ ضياء في تعميق هذا الوصف حين بدأ يغذي مكانة السادات حتى يكون الهجوم على هذه المكانة ذا مغزى.

وللأسف الشديد فإن هذه الروح هي الغالبة على كل سطر من الكتاب بدءا من صفحة 80 حتى نهايته .

(8)

ومن أمتع الفقرات التي تصور لنا تجربة صاحب هذه المذكرات في مجلس الأمة ما يرويه هو بنفسه عن بدايات تجربته في مجلس الأمة، حين لم يكن متاحا له أن يتكلم

وها هو يقول

" وكان نصيبي ضئيلا في بداية الدورة الأولى فلم يكن لي معرفة مسبقة برئيس المجلس ووكيله وكانت الكلمات تتاح للمعروفين لهما "والمضمونين" وسبب لي ذلك حرجا شديدا في مواجهة أبناء دائرتي وزملائي.. كيف تمضي الجلسات وتبحث المواضيع ولا يسمع لي في المجلس صوت؟ كيف قبلت الصمت وأنا الذي صناعته الكلام؟ ولم يكن أحد يعلم أني لم أكف عن طلب الكلام في كل مناسبة، ولكن أحدا لم يستجب لي ولم أتمكن من المنبر مرة واحدة.
وضقت ذرعا بهذه الحال وتوجهت مرة إلى مكتب سيد مرعي وكيل المجلس في ذلك الحين فوجدته غاصا بالأعضاء ولم يكن من عادتي التردد على المكاتب ووجدته يملي لبعض الأعاضء والعضوات نقاطا يتكلمون بها في المجلس.
فلما خلوت إليه ابتسمت وقلت له رأيتك تجهد نفسك وتملي على الأعضاء كلمات يتحدثون بها في المجلس في حين أنني صناعتي الكلام وقادر عليه ولم أوفق مرة لإجابة طلبي، ثم عرفته نفسي فأنس لكلماتي وكانت هناك مناقشة جارية في المجلس في ذلك اليوم قدمت فيها طلبا للكلام ولم يستجب لي كالعادة فالتفت إلي وقال مبتسما توجه إلى قاعة الجلسة وستدعى الآن للكلام".

وهكذا يجتهد ضياء الدين داود صفحة بعد صفحة في أن يلخص لنا بعض مواقف مجلس الأمة طيلة عضويته فيه في الدورة البرلمانية (64- 68) التي شهدت رئاسة السادات وعضوية ضياء الدين داود، ومن العجيب أن الأستاذ ضياء الدين داود

مع أنه لا يرتفع بقدر نفسه إلا في حدود المعقول فإنه يهاجم أنور السادات في حدود المعقول، أما عبد الناصر الذي يأتي اسمع في عنوان الكتاب فهو الملاذ الأخير الذي يصحح أخطاء السادات حتى وإن شارك فيها على نحو ما يرويه الأستاذ ضياء الدن داود نفسه من قبوله التفويض بالقانون 15 لسنة 1967.

يروي لنا صاحب هذه المذكرات مواقف من مجلس الأمة فيروي ما قاله صبري القاضي وعلوي حافظ ثم أنور السادات في قضية كمشيش، ثم يروي موقف المجلس من مستقبل الأرض الجديدة المستصلحة وموقف سيد مرعي المشرف، ثم يتحدث عن الصراع بين مجلس الأمة والاتحاد الاشتراكي وهو باختصار شديد صرع على حب عبد الناصر ليس إلا كأنه الصراع بين الزوجات على الرجل الواحد

ثم يروي لنا الأستاذ ضياء الدين دواد قصة استقالة عامر كما رواها أنور السادات للمجلس وليس فيها جديد يستحق أن يفرد لها ضياء صفحات من كتابه هو، ويعود المؤلف في صفحة 104 لينتقد التفويض الذي صدر من مجلس الأمة للرئيس عبد الناصر

فيقول:

" وكان هذا القانون محل نقد شديد بعد ذلك سواء من شراح القانون أو المحامين فيما عرض من قضايا وإن كانت المحاكم العليا محكمة بدوي حمودة كما سماها البعض قد قضت بدستوريته على خلاف رأي الفقه وأحكام أخرى للقضاء. وحقيقة الأمر أن التفويض الشامل ثم التفويض الدستوري الذي تضمنه القانون 15 لسنة 1967 وكان وراء الاثنين السادات رئيس المجلس.
كانا صادرين عن منطقه الذي ساد بعد ذلك وانتهى إلى تعطيل عمل المجلس وغيابه تماما عن كل ما جرى من أحداث بعد ذلك بحجة أن لدى الرئيس تفويضات لإعادة البناءين العسكري والسياسي بعد هزيمة سنة 1967.
وكان هذا الإجراء محل نقد واستنكار أعضاء المجلس حتى إن جميع المجموعات البرلمانية للمحافظات قد اجتمعت وقررت المطالبة بعودة المجلس إلى الانعقاد، وأذكر أني صغت قرار مجموعة دمياط مطولا ومسببا ختمته بأن الناس تتلفت إلى مجلسها المنتخب فلا تجد له أثرا في الساحة المليئة بالعمل والمسئوليات.
والواقع أنه كان منظقا شاذا أن يتوقف المجلس عن العمل وحمل المسوئلية في أدق المراحل التي تحتاج جهد الجميع والتي كان الرئيس عبد الناصر فيها باذلا كل وقته وجهوده لإعادة بناء الثوات المسلحة وبدلا من أن تصبح المؤسسات الداخلية في حالة انعقاد مستمر غذا بالسدات يفرض على المجلس التخلي عن مسئوليته وترك الجبهة الداخلية تغلي حتى تسبقه حركة الجماهير ويعلو سخطها وتخرج هاتفة ضد المجلس وضد السادات"

ويردف الأستاذ ضياء الدين داود فيقول:

"وفي حديث بين السادات وموسى صبري كيف تعيش الأمة أخطر أزماتها بغير مجلس يقول كلمة الأمة، فرد السادات أنا المسئول عن ذلك.. أنا ل مسئول عن عدم انعقاد المجلس ثم قال في موضع آخر عن تفويض المجلس الذي اصدره يوم 10 يونيو بالقانون 15 لسنة 1967 بناء على اقتراح السادات . "
"جمال عبد الناصر اتصل بي تليفونيا بهعد الجلسة مباشرة ولم يكن يعرف من قبل شيئا عن هذا القرار وسألني ما هذا القرار... وتلوته عليه وسألني ولماذا اتخذتموه دون استشارتي فقلت له. الموقف خطير جدا وبالغ الخطورة.. وإذا لم يطمئن الشعب اليوم إلى أنك ستقوده في هذه المرحلة فلا أحد يدري ماذا يمكن أن يحل من فوضى وخراب".

ويعود مؤلف هذه الكلمات للهجوم في ص 106 فيقول:

" وقد صح ما توجسنا منه آنذاك فقد وقع الإسراف في استعمال حق التفويض وصدرت تشريعات متعددة استنادا إليه في أمور لا تدخل في صميم التفويض ولا اعتبارات الرورة والخطركقوانين تنظيم السلطة القضائية والقانون 48 لسنة 1967 بإنشاء محكمة الثورة والذي استند إليه السادات من بد حين أصدر القرار الجمهوري رقك 1929 لسنة 1971 بإنشاء محكمة الثورة أيضا" .

على أن صاحب المذكرات على ما رأينا يذكر في صفحة 109 سببا عميقا لانتقاده لهذا القانون، فقد كان هو نفسه من ضحاياه على ما يذكر في صفحة 114 أن السادات (الذي لم يكن إلا رئيسا لمجلس الأمة وليس رئيسا للدولة) قد اعتقل 6 نواب من أنصار المشير عبد الحكيم عامر بعد اعتقال عامر نفسه.

ويعاود صاحب هذه المذكرات في صفحة 122 انتقاد الرئيس السادات وكأنه كان المسئول عن الدولة في عهد عبد الناصر فيقول :

" كانت المناقشات محتدمة وكان التأييد واضحا بين أفكار وآمال وتصورات أعضاء المجلس وبين أفكار وتصورات رئاسة المجلس ، كان السادات يرى تعطيل المجلس لأنه لا يؤمن بدور شعبي ولا بحق المجلس كممثل للشعب في المشاركة في صنع الأحداث والقرارات وإنما دوره هو ما قاله " إن ما يجري كله تطلعون عليه في الصحف"

فالأمر في نظره هو مجرد علم المجلس بما يجري لا مشاركته في صنع ما يجري، وكان الأعضاء يتصورون ويأملون في دور مشارك وليس مجرد المعرفة من قراءة الصحف أو بيان يتلى بالمجلس.. المجلس والديمقراطية في نظره مجرد ديكور أو لافتة، وسلطاتها إزاء ما يصدر من قرارات أو يوضع من سياسات لا تتعدى العلم والاحاطة وكانت محاولات الأعضاء على مختلف اتجاهاتهم في سبيل الوصول لدور فعال للمجلس وتأكيد حقوقه الدستورية الفعلية لا الشكلية.

ثم يروي المؤلف بسعادة قصة اختياره أمينا عاما للاتحاد الاشتراكي في دمياط فيقول:

" وما أغرب تصاريف القدر" خلال سنة واحدة أمنع من الترشيح لمجلس الأمة ويقف وراء ذلك – فيما كان يقال - أمين المحافظة فإذا بي أدخل مجلس الأمة ثم أعين بدلا منه أمينا للمحافظة".

وفي هذا الكتاب فقرة هامة جدا تصور نهاية منظمة الشباب وإن لم تتناول الأمر بشيء من التنظير أو التعميق أو التحليل، ولكنها فقرة خطيرة المحتوى لابد لنا أن ننقلها للقاريء

حيث يقول الأستاذ ضياء الدين داود :

" وهكذا ظلت الصور تتضخم وتضلل حتى طالب المشير بحل المنظمة بل واعتقال على صبري وشعراوي جمعة وحسين كامل بهاء الدين وكانت أزمة عاتية انتهت بحل –غير موفق- لم ير النور على أي حال ، وهو أن توضع المنظمة تحت إشراف المشير ولكن توالت المشاكل والشكوك على المنظمة بعدذ لك ولفترة طويلة. "

(9)

ويحدثنا صاحي المذكرات عن جهده في إعداد أسس جديدة لانتخابات مجلس الأمة في 1969 ويورد نصا لهذه المذكرة في صفحات 129 وحتى 135، ثم يحدثنا عما أثير بعد إجراء الانتخاب وينتقد في صراحة واضحة دور هيكل في تضخيم بعض الأخطاء التي وقعت فيها، ويذكر لنا رده الذي أدلى به في حضور عبد الناصر رغم أن لجنة الإشراف كانت برئاسة أنور السادات وعضوية عبد المحسن أبو النور ولبيب شقير وشعرواي جمعة وضياء داود إلا أنه كان الوحيد الذي تحمس للدفاع.

ويتحدث مؤلف المذكرات عن تجربته في المكتب التنفيذي لمحافظة دمياط، وعن فاعلية التنظيم السياسي، وعن جهوده في برامج التثقيف والمعهد الاشتراكي. ويفرد ضياء داود بعد ذلك فصلا للدفاع عن التنظيم الطليعي ويتناول بعض أخطائه ومشاكل تكوينه ودوره بعد النكسة..

ومن هذاا لكلام المتواصل نستطيع أن نقتطف فقرة مضيئة في صفحة 152 حيث يقول :

" ولقد كان للتنظيم الطليعي أيضا دور شعبي في يومي 9 و 10 يونيو. صحيح أن الناس انطلقت تلقائيا وسبقت غلى الموقف الوطني الشجاع ولكن كان من الممكن لو لم تكن القيادات واعية وفي الميدان أن تستغل حركة الجماهير وتوجه إلى عكس ما تريد وأن تركب أي عناصر خائنة أو خائرة الموجة الجماهيرية العرمة وفي وسط هذه الزحام يمكن أن يحدث الكثير. ولكن القيادات وقد مقدمتها قيادات التنظيم الطليعي كانت في مقدمة الجماهير وملكت الزمام فلم ينفلت ولم تسمح لأي صوت نشاز أن يبين أو يجد له مكانا".

ويروي لنا الستاذ ضياء الدين داود ذكريته عن 9 و 10 يونيو في فصل خاص يعترف فيه بقوله " لا شك أنها قوة من عند الله ولا شك أيضا أن الحب العميق والثقة العاقلة الواعية في عبد الناصر هما اللذان ربطا بينه وبين الناس".

ثم يتحدث مؤلف المذكرات عن دوره في لجنة الحريات بشيء من التفصيل (164- 187) حتى إنه يفرد صفحات طوالا لنقل نصوص القوانين التي أصابها التعديل بناء على اقتراح لجنة الحريات ولكنه لا ينسى عداوته للسادات وحرصه على تلويث سمعة السادات الديمقراطية

فإذا به يفاجئنا في نهاية الفصل بهذه الفقرة التي يقول فيها

" غير أن السادات عوق عرض هذه المشروعات على المجلس رغم الإلحاح المتزايد وبالتالي فإنه عندما عقد المؤتمر القومي بعد ذلك أو حيث إلى حافظ بدوي أن يضمن كلمته بتقديم مجموعة اقتراحات هي في مجملها خلاصة عمل لجنة الحريات والألإكار التي تضمنتها مذكرة اللجنة وكنت وقتها قد أصبحت وزيرا للشئون الاجتماعية
فنظر إلى الرئيس عبد الناصر وقال أليس هذا هو عمل لجنة الحريات فقلت نعم، فقال أنا موافق. وفعلا صدرت أكثر تلك التعديلات بقرار بقوانين بعد ذلك وهي على قصورها كانت تعتبر خطوة كبيرة في حينها فلأول مرة يصبح للمعتقل حقوق، ويصبح لمدة اعتقاله مدى وحدود، ويصبح لأماكن الاعتقال تحديد وأسلوب للمعاملة وتلغى يفة الضبطية القضائية للشرطة العسكرية..
وكان صدور هذه التشريعات بعد وقت قليل من نكسة يونيو 1967 وفي وقت كانت الظروف الداخلية والخارجية بالغة القسوة ولم يكن قد اكتمل البناء العسكري بدرجة مطمئنة كما كانت آثار النكسة تربة صالحة بما أحدثته من قلق، تعري الأعداء بمحاولة تقويض للنظام من الداخل الأمر الذي فشلت حرب 67 في تحقيقه
وكان الأمر الطبيعي يقتضي أن تصدر تلك التشريعات من مجلس الأمة وأن تناقش فيه وكان من الممكن أن تكون أفضل وأكثر تحقيقا لمعاني الحرية والديمقراطية وأنا دائما من المؤمنين بأن التشريع الذي يصدره البرلمان يفضل أي تشريع آخر تصدره الجهات الإدارية أو يصدر بتفويض من المجلس وذلك بما يتوفر له من دراسة واسعة في اللجان.
اقول إنني كنت أفضل أن تصدر هذه التشريعات من مجلس لا أن تصدر من رئيس الجمهورية بسلطة التفويض من المجلس. ولكن ما حيلتنا إزاء رئاسة المجلس وإصرارها على أن يتخلف المجلس عن دوره وأن تتعطل أعماله تحت حجج شتى ورغم اعتراض الأعضاء وعدم اقتناعه".

وفي ص 210 وص 211 يخصص ضياء داود من صفحات كتابه مرة أخرى فقرات طوالا ليتحدث عن موقفين للسادات دفعاه إلى الاعتكاف في آخر أيام عبد الناصر فأما أولهما فلا ذنب للسادات فيه إلا الإخلاص حين مضى مؤيدا لعبد الناصر حين رفض مبادرة روجرز، ثم حين ايدها بعد ما قبلها عبد الناصر.

ولا ينتهي الكتاب إلا بعد أن يحدثنا ضياء داود عن جهد بذله في قضية الإخوان المسلمين، وهي فقرة هامة على اية حال لأنها تبين مدى الالتزام عند الأستاذ ضياء الدين داود ومن يجدون أنفسهم قريبين من الزعيم

وها هو يقول:

" عندما سافرت إلى الكويت أواخر سنة 1969 التقيت بالمرحوم حسن العشماوي والذي تربطني به صلة قربى ودار حوار طويل حول استمرار الصدامات والجفوة بين الإخوان والحكومة وحول مئات الإخوان المقيمين في الخارج والمهددين في حرياتهم وأسلوب المواجهة بالعنف والذي لم يضع حدا للمشكلة أو يحسم الموقف
وترك كثيرا من الجراح ومئات من امهاجرين في الخارج ومئات من الأسر المحتاجة للعون في الداخل مما أدى إلى قيام الإخوان بالخارج بالتعاون لإمدادهم بالعون والمساعدة أو إيجاد فرص للعمل مما كان محل قلق ـ أجهزة الأمن.
وصارت هناك حلقة مستمرة تفرخ مشكلة وراء مشكلة وتسبب احتكاكات من حين لآخر. وانتهى الحوار إلى ضرورة البحث عن مخرج وان المرحوم حسن العشماوي يود أن يقوم بدور إيجابي في إنهاء هذا الموقف واقترح أن يصدر عفو عام عن جميع الموجودين بالخارج والإفراج عمن بقي بالسجون - وكنت قد أبلغته عن وجود برنامج للإفراج الكامل على دفعات ووافق عليه بالفعل وبعض الترتيبات الأخرى لخلق جو جديد من الثقة والأمن.
وإثر عودتي عرضت على عبد الناصر بمذكرة مكتوبة مضمون الحوار والمقترحات ووافق عبد الناصر وطرح الموضوع على اللجنة التنفيذية العليا واقترح عبد الناصر أن يدعو حسن العشماوي للحضور للقاهرة لعقد لقاء مباشر بينهما وكلف شعرواي جمعة وزير الداخلية باتخاذ إجراءات عودته بالشكل الذي يريحه.
وبدأت اتصالاتي به خلال شقيقه المستشار عبد الوهاب العشماوي حيث كان حسن العشماوي قد سافر لأوربا للعلاج. بيد أن توالى الأحداث العربية والخارجية وأسفار عبد الناصر وانشغاله الذي كان ختامه مأساة الفلسطينيين بالأردن والتي عاقت إتمام المشروع، ثم كانت وفاة عبد الناصر المفاجئة، وأثناء مناقشة عبد الناصر للموضوع باللجنة التنفيذية العليا أبدى ترحيبا واقتناعا بالدخول في حوار يضع حدا للصدام الذي طال".

(10)

وأخيرا في ص 188 يبدأ الأستاذ ضياء الدين داود في الحديث عن عمله كوزير وكعضو للجنة التنفيذية العليا فيستغرق الهجوم على أنور السادات منه كثيرا جدا من هذه الصفحات فهو حريص عليى أن يروي لنا أن أنور السادات فرض من لدن عبد الناصر على اللجنة المركزية ليكون عضوا في اللجنة التنفيذية العليا، ويستغرق هذا الحديث من ضياء داود قرابة نصف ملزمة.

ولا يحدثنا الأستاذ ضياء الدين داود عن تجربته الوزارية لا تستغرق إلا الفقرة التالية في ص 193 حيث يقول:

" وبعد سبعة أشهر بالوزارة كنت قد درست كل جوانب العمل وزرت معظم مديريات الوزارة بالمحافظات وكثيرا من أقسام وإدارات العمل بالوزارة، وبدأت أضع تصوراتي وأفكاري وأعدها للتنفيذ.
وكانت أبرز أفكاري هي تطوير عمل الوزارة وتركيزه في جانب التنمية الاجتماعية وبخاصة في مرحلة تكاد تكون مع بالغ اهميتها ضائعة بين عديد من الوزارات.. وكانت الفقرة التي قضيتها بوزارة الشئون بداية عمليات التهجير من بور سعيد وسائر مدن القنال ومن ثم تطلبت عمليات التهجير وإعداد المعسكرات وتدبير الإعانات ومستلزمات الإعاشة بما يكفل لهم حياة كريمة جهدا شاقا وحملت الوزارة عبئا جسيما وأدى جهاز الوزارة في هذا المجال عملا مخلصا ومبهرا".

وهكذا يجد القريء لهذه المذكرات نفسه في النهاية وقد تعجب من التضخيم الزائد عن الحد لمهارة السادات في محاربة خصومه في 15 مايو .. فها هو يكتشف أن واحدا منأبرز هؤلاء الخصوم كان صاحب نية طيبة فحسب وإلى أبعد الحدود. وهذا ليس مدحا في الأستاذ ضياء الدين داود، ولكنه الشعور الذي تغلب على كل مشاعري الأخرى وأنا أنتهي من قراءة هذا الكتاب.

الفصل الثامن :أيام السادات

للأستاذ ضياء الدين داود

(1)

يمثل هذا الكتاب الجزء الثاني لمذكرات الأستاذ ضياء الدين دواد وقد شاء مؤلفه أن يجعل مستقلا ليجعل "الأيام" مع السادات بديلا عن "السنوات" مع عبد الناصر، وأن يستخدم حرف الواو مع السادات بدلا من (مع) الظرفية مع عبد الناصر

ومع هذا جعل العنوان الرئيسي ذا البنط الأكبر "ما بعد عبد الناصر" وقد نشرت دار الموقف العربي هذا الكتاب عام 1986 على هيئة صورة مصغرة من كتابات على الآلة الكاتبة، وهو ما لا يليق على أي حال بهذه المذكرات ولا بصاحبها ولا بناشرها.

وليس في كتاب ضياء الدين داود هذا من ذكرياته القدر الذي يتنسب مع كونه مذكرات شخصية، ولكن القدر الأكبر من الكتاب إن لم يكن كله مخصص للهجوم على الرئيس السادات والأستاذ محمد حسنين هيكل ويأتي دور ذكريات ضياء الدين داود نفسه في الخلفية المساعدة على هذا الهجوم. ولكن هذا الكتاب يتفرد بكونه الكتاب الوحيد الذي كتبه واحد من أقطاب المجموعة المناوئة للرئيس السادات في أول عهد وهي المجموعة التي يطلق عليها مراكز القوى، أو ضحايا 15 مايو.

وليس من شك أن هذه الفئة كانت أقل الناس حظا في تاريخنا المعاصر فقد أسدل الستار على مكانتها بأبشع ما يكون، وإذا كان بعض الناس يتكثرون على حركة 15 مايو الوصف بالثورة حتى لا ترتقي إلى مصاف ثورة 23 يوليو، فإن الحقيقة الجانبية أن الذين (قامت عليهم) الثورة في 23 يوليو 1952 لم يعاملوا بنفس القدر من المعاملة المعنوية الشدجيدة التي عومل بها ضحايا 15 مايو 1971.

وفي موضع آخر من كتاباتي قلت ما معناه إن الرئيس السادات قد أفاد من محمد حسنين هيكل أضعاف ما أفاد منه الرئيس جمال عبد الناصر، ويكفي دوره في المساندة التامة للرئيس السادات ضد أقطاب مايو 1971 بعد إزاحتهم وقبل إزاحتهم، ولا زلت مصمما على أقوالي هذه ومؤكدا كذلك على أن دور هيكل "بعد إزاحتهم" كان لا يقل على الإطلاق عن دوره "قبل إزاحتهم" وسوف يجد القاريء لكتاب ضياء الدين داود في سطور هذا الكتاب دليلا ناصعا على صوب ما وصلت إليه من استنتاج.

(2)

وها هو الأستاذ ضياء الدين داود في صفحة 19 من كتابه يتحدث عن بداية تغير الرئيس السادات في علاقاته واتجاهاته بدءا من ديسمبر 1970 فيرمي بالوزير كله هيكل

فيقول:

" كان الأستاذ هيكل وزيرا للإعلام ورئيسا للأهرام معا، وكان يشكل في تقديري وتقدير البعض مصدر الخطر الرئيس على استمرار الخطوات الديمقراطية وعلى ممارسة الاتحاد الاشتراكي لدوره الحقيقي الفعال إذ كان دائم الخلاف مع الاتحاد الاشتراكي في كافة عهوده ومختلف قياداته وكانت أيضا لجان الاتحاد الاشتراكي وكذلك منظمة الشباب دائما تهاجم كتاباته وتهاجم دوره في تقارير كان يتاح له مطالعتها
ومن هنا كان توجسه شديدا من دور الاتحاد قبله في غياب جمال عبد النار آن الأوان لتصفية حسابات قديمة كثيرة وندد بالاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب وابدى تخوفه من أن يكون أول ضحية.. وإثر وفاة بد الناصر كتب مقالات كانت أيضا موضع النقد و الاستنكار لتناولها مواضع شخصية وعائلية تخص الرئيس الراحل وتحكي تفيلات لحظات الوفاة وبجرأة ما كان ليرضاها عبد الناصر في حياته هذا فضلا عن حرص هيكل على الحديث عن نفسه وإبراز دوره كصانع للأحداث أو أنها كلها تدور من حوله وهو محورها..
وفي نفس أسبوع استقالة هيكل فوجئنا بالسادات يعرض علينا إصدار قرار بالتمرير من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا بتشكيل لجنة برياسة هيكل لجمع وإحياء تراث عبد الناصر وكانت اللجنة التنفيذية قد قررت تشكيلها ضمن برامج تخليد ذكراه.. ولقي الاقتراح برياسة هيكل للجنة معارضة شبه الحين ملتزما بما نقرره ولكنه عاد فاقترح أن تكون اللجنة برياسته على أن يكون هيكل مقررها وعادت اللجنة فرفضت الاقتراح على تقدير أن الرياسة الفعلية ستكون لهيكل..".
"وفي ذكري أربعين الرئيس عبد الناصر نشر الأستاذ هيكل بالأهرام مقالا شهيرا بعنوان "عبد الناصر ليس أسطورة" تحدث فيه عبد الناصر ليس له سدنة ولا حراس لمبادئه، وأن كل ما أتى به قابل للمناقشة والمراجعة وحذر من تأليه عبد الناصر واعتباره أسطورة وكان لهذا المقال أسوأ الوقع فيما يشبه الإجماع بين قيادات الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب وعلى كافة المستويات
ولدى كل الناصريين الذين لم يكونوا يخشون في ذلك الحين تأليه عبد الناصر، أو أن يصبح أسطورة وإنما كانت الخشية كل الخشية من الردة عن مباديء عبد الناصر والتنكر لزعامته، والانتكاس بفكرة أو الالتواء به، أو تفريغه منمضمونه الحقيقي، والاكتفاء به شعارات فارغة..
كانت كثير من قوى اليمين المضارة من الثورة قد بدأت تطل من جحورها وتلغط بعد طول صمت يراودها الأمل في أن تستعيد مواقعها وتسترد ما فقدت من سلطة وثروة وبدأت همسات التجريح والتصد والمبالغة، وجرى التركيز على مجالي الحرية الديمقراطية وبدأ هذا التيار ينمو بشكل واضح في الخارج
ويأخذ صداه إلى الداخل على استحياء وحذر أحيانا متبجحا أحيانا أخرى، وإزاء ذلك وما خلقه من قلق في مستويات الاتحاد الاشتراكي اتفقت مع الدكتور لبيب شقير على عرض الأمر على اللجنة التنفيذية العليا
وعرض الدكتور لبيب شقير الموضوع في أول اجتماع للجنة وتلاه كل أعضاء اللجنة هجوما على ما احتواه المقال من دلالات فيما عدا الدكتور فوزي الذي لزم الصمت.. أما السادات فقد ذكر أنه قرأ المقال قراءة سريعة ولم يستلفت انتباهه التخريجات التي وصلنا إليها وقال إنه سيعاود قراءة المقال ثم يعود لاستئناف مناقشة هذا الموضوع".
".. وقبل الاجتماع التالي أبلغني السادات أنه قررر استدعاء هيكل لمناقشته باللجنة وعارضت الفكرة على أساس أنه تقليد غير سليم أن نستدعي كل رئيس تحرير أو كاتب لمقال لمناقشته حول ما يكتب ويكفي أن تناقشه اللجنة المختصة وتبلغه رأي اللجنة التنفيذية
خاصة وأن الاتحاد الاشتراكي هو الذي يملك الصحف ومن ثم- له من خلال اللجان والمكاتب المختصة أن يوجهها أو يلفت النظر لما يتعارض مع الاتجاهات التي يرسمها وكان هذا أيضا رأي غيري من أعضاء اللجنة ولكن إزاء المركز الخاص لهيكل والذي يستمده في نظر الناس في خلال عمق صلته بالسلطة فقد قبلت اللجنة اقتراح السادات بمناقشته".
" وتولى الدكتور لبيب شقير مناقشة الأستاذ هيكل أثناء اجتماع اللجنة وعرض وجهة نظرنا في المقال وتبينا أن "هيكل" قد استمع إلى تسجيل الجلسة السابقة، ووقف على كل ما دار بها من مناقشات حول الموضو وقد احتد النقاش واحتدم خاصة عندما قال الدكتور لبيب شقير إننا بحاجة إلى تحديد المواقف، وداف هيكل عن نفسه واستنكر أن يكون موضعا لشك أو اتهام بخيانة بعد عمر طويل- حسب قوله- قضاه بجوار عبد الناصر عبر فيه عن كثير من أفكاره وكان محل ثقته وسره.

وانتهت المناقشة على غير اتفاق وانصرف هيكل غاضبا ثم قال السادات : " إذن الأمر منته طالما ليس هناك اتهام بخيانة ثم دارت مرة أخرى مناقشة طويلة تعقيبا على المناقشة الأولى".

" .. وحاول السادات أن يحول السؤال ويضع الإجابة عليه بقوله إن لأهرام باعتبارها صحيفة لها سمعتها وانتشارها فإن الدولة أحيانا تنشر منخلالها مواضيع منسوبة لمصدر رسمي أو ما شابه ذلك فقلت إن المقصود هو المقالات بعنوان بصراحة ومع ذلك فإن وكالة انباء اشرق الأوسط هي الأولى بنشر وإذاعة المواضيع التي أشار إليها وبعد مناقشة استقر الراي الإجمالي على اعتبار تلك المقالات اجتهادات شخصية".

(3)

وفي صفحة 44 يتحدث المؤلف عن الاتصالات التي بدأها الرئيس السادات مع الولايات المتحدة ودور الأستاذ هيكل فيها، واستيائه (اي هيكل) حين علم بقيام السيد عبد المنعم أمين عضو مجلس قيادة الثورة باتصال آخر مع أمريكا..

ويعقب ضياء الدين داود على كل هذا بقوله:

" وأود أن أسجل أنني فيما سجلته بالنسبة للأستذ هيكل لا أوجه اتهاما وإنما أسجل واقعا ذاك لأن الأستاذ "هيكل" اختار ووجه السادات لا شك للعب على حصان أمريكا والتوجه إليها وقد لا يكون قد توقع أنه من الممكن أن تتوالى الأحداث إلى ما وصلت إليه على يدي السادات ولكنه تماما كمن يضع سلاحا فتاكا في يد من لا يجيد أو يؤتمن على استعماله
ذلك ما جرى أيضا عندما اختار جانب السادات ظنا بأنه سوف يكون بد الإطاحة بمجموعة عبد الناصر قادرا وحده على تملك زمام السادات وتوجيهه.. وهو على أي حال الذي سوغ للسادات كل البدايات التي انتهت إلى زيارة القدس واتفاقيات السلام وكامب ديفيد..".

ولا يجد ضياء الدين داود حرجا في أن يصف كتابات الأستاذ هيكل حول اجتماع اللجنة المركزية المشهود في أبريل 1971 بالخلط ويبدو أن الأستاذ ضياء الدين داود على صواب

في هذه النقطة حيث يقول في ص 70 من كتابه:

" ويقول الأستاذ هيكل في كتابه الطريق إلى رمضان - دار النهار - ص 118 وما بعدها .. ويوم 22 أبريل طلب الرئيس السادات السفير السوفييتي وبعد أن دار الحديث بينهما حول مسائل مختلفة قال السفير.. نسمع الكثير هذه الأيام عن خلافات داخل اللجنة التنفيذية العليا فهل هذا صحيح ..؟
ورد الرئيس أن ذلك صحيح وأضاف: لدى نبأ أقوله لك لقد قررت تصفية على صبري، وفغر السفير فاه وسأل: لماذا تقول لي هذا يا سيادة الرئيس فقال الرئيس لأن الناس سيهولون من شأنه وسيستغلونه في شن حرب للأعصاب.. وإذا لابد لأحد أن يصور لكم الموقف بأن ما سأفعله موجه ضد السوفييت في مصر ففي استطاعتكم أن تردوا أني أكون سعيدا لو أنكم عززتم هذا الوجود..
وقال في ص 121 لكن جو الاجتماع في اللجنة المركزية عقب الصدام بين الرئيس وعلى صبري كان قد تكهرب إلى درجة أصبح من المستحيل معها على أي شخص أن يتكلم خصوصا بعد ما طلب الرئيس الاقتراع على مشروع الوحدة فلم ترتفع في اللجنة المركزية غير أربع أيدي بالموافقة من بينها يدى.

ويبدو أن "هيكل" (الكلام للأستاذ ضياء الدين داود وهو ظاهر الصواب) خلط بيت التصويب على الاتفاقية والذي لم يتم إلا في جلسة تالية والتصويت على استمرار السيد على صبري في حديثه.. وقال إنه بعد الاجتماع توجه لمنزل السادات وكان بادي الاكتئاب.. إلخ".

ولكن ضياء داود نفسه لا يجد حرجا في أن يخلط الأمورهو الآخر فهو حين يتحدث (في صفحة 79) عن لقاء السادات وروجرز وهو اللقاء الذي نفهم أنه كان في 1971 من ورود اسم وزير الخارجية محمود رياض والحديث عن خلاف السادات مع وزير الخارجية (محمود راياض) نجده (أي الأستاذ ضياء الدين داود) يقفز في الهامش إلى عبارات ينقلها عن الأستاذ هيكل في ص 174 نقلا عن هنري كيسنجر

ومن الواضح أن هذه العبارات لا تتناول نفس الموقف الذي يتحدث عنه الستاذ ضياء الدين داود لأنه يرد فيها اسم الجمسي، وهو ما يعني أنها وقعت بد حرب 1973 سواء كان الجمسي رئيسا للأركان حتى ديسمبر 1974 أو وزيرا بعد ذلك (75- 78)

ويعود ألستاذ ضياء داود في الفقرة الثانية من الهامش ليستشهد بنص لمحمود رياض يبدو أنه كتب في 1971 بل إن الأستاذ ضياء الدين داود نفسه يقول عند الاستشهاد " وزير الخارجية في ذلك الوقت". وأبسط ما يمكن قوله في نقد فقرات هذه الصفحة أن الأستاذ ضياء الدين داود لم يراجع ملاءمة الاستشهاد للموضع.

كذلك يمكن لفت النظر إلى أن ضياء الدين داود في ص 116 قد أقحم اسم آل أمين (يقصد مصطفى وعلى أمين) في موضوع هدم سجن طره. بينما هو يتحدث عن 1971 وكانا لا يزالان بعيدين عن مجريات الأحداث بل إن أحدهما كان في السجن والآخر في المنفى.

(4)

وفي هذا الكتاب فقرة إنسانية بالغة التعبير عن مشاعر يندر أن نجد أحدا من الكتاب يتناولها بالتسجيل رغم أنها تقع لنا جميعا كبشر كثيرا جدا، فها هو ضياء الدين داود يتحدث بكل صدق عن خمسة مشاعر متضاربة لموقفه قبل 15 مايو حين كان يود الاستقالة ولكنه لا يستطيع اتخاذ قرارها، ولا يلجأ غلى الموازنات السهلة بين الجوانب المختلفة للشجاعة

ولكنه يميل للندم، ويميل أكثر للندم على أنه خالف طبعه، وليس بوسعي في هذا الحيز أن أنقل كل ما صوربه كاتب المذكرات الصراع النفسي ، لكني أقتطف للقاريء قوله:

" ولا أدري لماذا ترددت في حسم موقفي وتقديم استقالي والابتعاد طالما تعذر موقف جماعي ولم يكن هناك في الواقع مبرر لهذا التردد ولم تكن أمامي أية فكرة بديلة ولم أعرف من قبل من طبيعتي التردد في أي موقف حتى الحاصة والعادية.."

ويستمر هذا الندم طوال صفحتي 82 و 83 إلى أن يقول: " ومن ثم فإنني كثيرا ما ألوم نفسي على موقف التردد ذاك وإن كان البعض حين كنت أناقش معهم هذا الأمر كان يقول " استقلت أم لم تستقل فلم يكن ذلك ليغير من عزم السادات على القبض علينا واتخاذ الإجراءات العيفة معنا..

فالصفقة كانت لابد ستتم وكانوا يتمثلون بموقف السيد أمين هويدي الذي كان قد استقال منذ بداية حكم السادات ولم يشترك فيما جرى من صدام مع السادات ومع ذلك قبض عليه وحوكم وحكم عليه...

(5)

وف يهذا الكتاب أيضا فقرة لا أكاد أصدق حتى الآن أنها موجودة فيه يترحم فيها ضياء الدين داود قطب الثورة على ديمقراطية ما قبل الثورة بعد أن يروي ما حدث في مجلس الأمة من إسقاط العضوية عنه وعن زملائه على مدى صفحات ليست بالقصيرة

وها هو ضياء الدين داود يقول صراحة:

" وبذلك اعتقل وحددت إقامة عشات الأعضاء بمجلس الأمة بإدارة السادات وحده وأسقطت عضوية هذا العدد الكبير من الأعضاء مع سمو مواقعهم وأدوارهم التاريخية وبإجراءات تعسفية وأصقطت عضوية هذا العدد الكبير من الأعضاء مع سمو مواقعهم وأدوارهم التاريخية وبإجراءات تعسفية مختلفة ومزورة وبغير أدنى حد من الضمانات، وتجرى تحقيقات ومحاكمات تفتقد كل أسباب الحيدة والنزاهة والعدل.
ولقد عاصرت الحياة البرلمانية قبل الثورة متابعا وبعد الثورة مشاركا منذ سنة 1964 فلم أر أو أسمع يمثل ما حدث ولعله ما زال ماثلا في الذاكرة أن مكرم عبيد حين قدم الكتاب الأسود ضد الرئيس السابق مصطفى النحاس ورجال حكمه وكان البرلمان وقتذاك مكونا من أغلبية ساحقة وفدية وكان النحاس مؤيدا كاسحا من الشعب بحيث كان المجلس يملك اتخاذ أي قرار يراه
ومع قسوة ما تضمنه الكتاب الأسود من اتهامات قثد ظلت المناقشات طويلة ومثيرة بالبرلمان أياما تحدث خلالها مكرن عبيد ومؤيدوه بأكثر مما ضمنه كتبه الأسود، وذلك قبل أن يتخذ المجلس قرارا بإسقاط عضويته، ولكنه لم يتخذ إجراء فيه من الانحراف بالحياة البرلمانية والاستخفاف بالعقول كإجراء إصقاط عضويتنا من المجلس الذي سوف تلاحق لعنته كل من ساهم فيه على مدى التاريخ".

ولا يخفي ضياء الدين داود انتقاده الشديد لهيئة المحكمة التي حوكم أمامها ولا يتورع عن إعلان عجبه الشديد من دور المستشار بدوي حمودة فيها فيقول:

" .. وأما بدوي جمودة فقد كان اختياره غريبا، وكان قبوله أغرب فقد كان رئيسا لمجلس الدولة ومستشارا وقاضيا طوال حياته ثم كان وزيرا للعدل وكان وما زال موفور الثراء أي أن الله قد أرضاه من الناحية المادية ومن الناحية الأدبية ولم يكن سائغا قبوله عضوية تلك المحمة الاستثنائية
والتي كان يعرف سلفا الظروف والملابسات التي تنعقد فيها وتصدر حكمها كما أنه وقت اختياره كان رئيسا للمحكمة العليا التي تختص بنظم دستورية القوانين وما كان له أن يجمع بين رئاسة تلك المحكمة العليا وعضوية محكمة استثنائية تحت رئاسة حافظ بدوي خريج كلية الحقوق في الستينان في حين تخرج بدوي حمودة في العشرينات".

أما رئيس المحكمة حافظ بدوي فإن ضياء الدين داود لا يجد حرجا في أن يقدم له كشفا ببعض ما حصل عليه من الدولة في جارديان سيتي وكفر الشيخ (راجع صفحة 129). وفي هذا الكتاب الذي كتب بالآلة الكاتبة ببنطها الصغير أخطاء كثيرة كان لابد من تصحيحها خصوصا ونحن نرى آثارا كثيرة لتصحيحات بالقلم في الأصل وفي الهوامش بوضع أسهم..إلخ.

ومن هذه الأخطاء الكثيرة خطأ مهم في صفحة 179 حين يتحدث الدكتور سد الدين إبراهيم عن السبعينات فيما يبدو ولكن الكتاب يذكرها "الستينات"، وهو ضد ما يهدف إليه المؤلف من الاستشهاد تماما، وعلى نفس النسق نجد الخطأ في صفحة 183 في السطر السادس حين يرد نص بين علامتي تنصيص على أنه من قول كيسنجر

واصفا السادات بأنه "أعظم رجل دولة على الأرض منذ بسمارك لقي حتفه على يد جماعة من الشباب المتهوسين دينيا فبكته الملايين" ولكن الأستاذ ضياء الدين داود نفسه يتحفظ في الهامش على هذه العبارة بقوله "كان هذا ما نقلته دوروين كايز عن تصوير التليفزيون الأمريكي للسادات طبعا" فهل هذلك كلام كيسنجر كما أوحى الأستاذ ضياء الدين حين وضع العبارة كلها بين علامات التنصيص؟ أم إنه كلام التليفزيون الأمريكي كما ذكر في الهامش؟ ذلك أن مثل هذا الخطأ في النصوص لا يقبل من محام.

(7)

وقد تعمد ضياء الدين داود أن يكثر في كتابه من الاستشهادات على مساويء شخصية الرئيس محمد أنور السادات ولم يترك كتابا أتيح له إلا ونقل عنه فقرات مطولة يؤيد بها نياته وعقيدته تجاه السادات بأكثر مما يؤيد سياق الحديث أو الوقائع كم تواردت على خاطره، وقد نقل الأستاذ ضياء الدين داود عن كل من الأستاذ هيكل في "الطريق إلى رمضان" و "خريف الغضب"

رغم اختلافه التام مع الأستاذ هيكل كما نقل عن الأستاذ محمد إبراهيم كامل في كتابه "السلام الضائع" وعن الأستاذ إسماعيل فهمي في كتابه "التفاوض من أجل السلام" وعن الفريق أول محمد فوزي في كتابه "حزب الثلاث سنوات" وعن محمود رياض في أحاديث صحفية له، وعن الأستاذ محمد عبد السلام الزيات في مذكراته المنشورة في جريدة الاتحاد

وعن الأستاذ محمد عبد السلام الزيات في مذكراته المنشورة في جريدة الاتحاد، وعن الأستاذ عادل عيد في كتابه "المضابط تتكلم" وعن الأستاذ "عبد الله إمام" في كتابه "انقلاب 15 مايو"، وعن الدكتور إسماعيل صبري عبد الله في حوار له مع مجلة الشراع

وعن الدكتور فؤاد مرسي في حوار له مع مجلة كل شيء (1985) وعن مقالات للدكتور يوسف إدريس في صحيفة القيس هذا فضلا عن أقوال زملائه المتهمين في قضية 15 مايو التي نقلها عن ملف التحقيقات، وحديث الشيخ صلاح أبو إسماعيل في كتابه "الشهادة" المتضمن شهادته في قضية تنظيم الجهاد.

كذلك لجأ الأستاذ ضياء الدين داود إلى الاستشهاد بعبارات للدكتور سعد الدين إبراهيم في كتاب "مصر تراجع نفسها" وإلى كتاب "الضفادع والثعالب" للأمريكية دورين كايز، ولم يجد الأستاذ ضياء الدين داود حرجا بعد ذلك كله في أن ينقل عن "البحث عن الذات " للرئيس السادات و "أوراق سياسية" للمهندس سيد مرعي و "وثائق 15 مايو" للأستاذ موسى صبري كثيرا من العبارات التي يؤيد بها وجهة نظره أو يتناولها بالتنفيد.

وعلى هذا النحو فقد لعب الأستاذ ضياء الدين داود في هذا الكتاب دور ممثل الادعاء بأكثر مما لعب المحامي، وفي هذا سر طرافة هذا الكتاب الذي يرفع به منهم سابق صوته، ربما بعد فوات الأون، وربما قبل ذلك بكثير.

الفصل التاسع : الرأي والرأي الآخر

للدكتور أحمد خليفة

(1)

تتمثل في مؤلف هذا الكتاب من الصفات التي جعلت له مكانة مرموقة بين كل نظراته، فهو من بين علماء الاجتماع المبرزين، رجل قانون في الأصل استهواه علم الاجتماع، وبخاصة البحث الجنائي فآثر منذ مرحلة مبكرة أن يضع نفسه في التيار الذي يناقش القضية من أصلها على أن يبقى في التيار الذي يلاحق تيار الجريمة سواء صادف النجاح أم لم يصادفه

ثم هو عالم اجتماع أتيح له أن يتبوأ كرسي الوزارة ولم يلبث أن تركه وهنا تمثلت عبقريته حيناستطاع أن يمنع نفسه كذلك من أن تتقمص شخصية الوزير السابق، وإذا هو مرة ثانية مدير للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ولسنوات طويلة قاربت العشرين

ثم هو بعد إحالته للتقاعد المدير السابق للمركز القومي لا الوزير الأسبق، حتى يوم فاز بجائزة الدولة التقديرية، وحتى يوم تسلمه هذه الجائزة ومنحه الوسام كان المدير السابق للمركز القومي ولم يكن الوزير الأسبق، آلى هذا الرجل على نفسه أن يبتعد عن هذه المواقع لا أن يبتعد عن العمل

ولهذا نجح تمام النجاح، إذ لم تعد مشاركته في الحياة العمة (وهي المشاركة المتاحة في مساحة عريضة أمام كل علماء الاجتماع) مشبوهه أمام الناس ولا أمام نفسه.. وهكذا تحقق له الترفع الكفيل بسلامة الحكم على الأمور، حتى وإن لم يكن هو الطريق الوحيد إلى الحكم على الأمور

فإذا جاز أن نلخص شخصيته في وصف سريع لجاز أن نقول عنه إنه ساكن البرج الزجاجي، فقد ترفع عن الأحداث ليوجهها من بعيد جدا لا ليراقبها فحسب، وانعزل عن الأحداث المتعاقبة ليعطي لنفسه القوة الكفيلة سلامة الأحكام ودقة التوجيه، وعلى هذا النحو من شخصية هذا الرجل يأتي هذا الكتاب الممتاز الذي يعبر عن شخصية صاحبه خير تعبير

فترى الرجل يلخص جو الفصل في فكرة يجد لها من أقوال الحكمة ما يناظرها فيضعه إطارا للفصل في أوله، ثم هو يمضي في الحديث عن تجربته الشخصية- العامة في سلامة ويسر كأنه يتحدث في مجلس عائلي أو اجتماعي ولكنه مع هذا يحمل ألفاظه كل المعاني بكل الدقة وبكل الوضوح.

(2)

خرج الدكتور أحمد محمد خليفة من الحكم في سن مبكرة، وأتيح له موقع ممتاز (في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي تولى تأسيسه من قبل) إذ عاد مديرا للمركز، وأصبح شأنه شأن الأساتذة المهتمين بتخصصهم العلمي في المقام الأول والثاني والثالث وقد اكتفى من السياسة لحسن حظه بحصوله على لقب الوزير السابق، وخبت عنده الرغبة الجامحة في المشاركة في الحياة السياسية، هذاالشعور الذي وجد عندما لا يقل عن عشرين من وزرائنا السبقين من أساتذتنا الممتازين.

وقد عبر صاحب المذكرات عنه في تأنق أو تأفف شديد حين يروي لقاءه الأول بالسادات كرئيس للجمهورية في أواخر أيامه فيقول:

" واعتزلت الحياة السياسية من عام 1967 فلم أشارك في اي نشاط سياسيا أو حزبي ثم التقى بالسادات لأول مرة منذ خروجي من الوزارة وكان ذلك في 1981 وولم أكن خلال هذه الفترة الطويلة قادرا على أن أعرف شعور السادات نحوي، فقد كنت منكبا على مشاغلي العلمية متباعدا على الحياة العامة
إلا أنه المؤكد أنه (أن السادات) وافق في سنة 1975 على تعييني وزيرا للشئون الاجتماعية بناء على ترشيح عبد العزيز حجازي الذي كان مكلفا بتشكيل الوزارة، ووقع اختياره علي دون أن يصارحني بذلك مسبقا. ونشر نبأ اختياري فعلا في الطبعة الأولى من الصحف في أحد الأيام بل أخطرت بذلك من أحد العاملين برئاسة مجلس الوزراء.
ولكن حدثت مفاجأة في منتصف الليل أدت إلى نقل التكليف بتشكيل الوزارة إلى ممدوح سالم وتغير التشكيل الأول ولم يتضمن اسمي، وقد وفر على هذا مشقة الاعتذار عن الوزارة تنفيذا للقرار الحاسم الذي كنت اتخذته في عام 1967 بعدم قبول أي منصب يعني العودة إلى الحياة السياسية بأوضاعها القائمة".
" ولكنني كنت أشعر دائما بأن أنور السادات لا يريدني بجواره، ولعله قرأ كتابي في المسألة الاجتماعية كما علمت فيما بعد من أحد نواب رئيس الوزراء، وكان هذا الكتاب يعبر عن الغضب. من تزييف الديمقراطية سواء بالعنف أو بالخديعة.
كما أنه لا شك لاحظ ابتعادي عن كل التنظيمات السياسية فضلا عن أن وفرة المقربين والمقتربين والحوامين كان مدعاة لانصراف خاطره عن تكليفي بأي عمل ذي أهمية سياسية. ولهذا كانت دهشتي بالغة عندما أعلن فجأة عن تشكيل هيئة لمستشاري رئيس الجمهورية برئاسة سيد مرعي وكلفت مع عدد قليل بوضع تنظيم لهذه الهيئة".

ولعلنا ننتهز فرصة الحديث عن هذا الرجل لنأخذ أحمد خليفة للقاريء كنموذج نعرض به تحليل وزرائنا لموقعهم في الحكم، هل كانوا وزراء حقا أم كانوا مجرد أعضاء سكرتيرية تخدم الرئيس فحقيقة كل هذه الآراء لا تتجلى إلا عند مناقشة الكوارث والتفكير في الدور الذي كان يجب أن يلعب.

وها هو المؤلف يتحدث في كتابه الرأي والرأي الآخر بصراحة شديدة فيقول:

" وكان من حسن حظي أنني أخرجت من الوزارة بعد النكسة مباشرة فلم أكن أدري لو بقيت كيف أتصرف وقد تغيرت فلسفتي تماما في العمل السياسي، وأدركت أن منصب الوزارة لابد أن يقوم على أساس المشاركة الكاملة في مسئولية القرار السياسي الأعلى
وليس مسئولية الوزارة التي يتولاها الوزير فحسب، كان خروجي من الوزارة بمثابة لإفراج عني وعن نفسي. إفراج عن روحي شعرت معه بأن الظروف قد رفعت عني ذلك الموقف المستحيل الذي كنت سأقفه إذا بقيت عضوا في الوزارة لا أقوى حتى على الاستقالة، الوطن كله في محنة حجبت كل اعتبار شخصي، كانت آلام الوطن الجريح في ذلك الوقت بالغة إلى حد لا يسمح لإنسان بأن يحس بجراحه الشخصية".
" ولقد عاهدت نفسي بعد يونيو 1967 ألا أعود غلى العمل السياسي إلا غذا كنت في المعارضة أو كان هناك من يحق له أن يعارضبي. أدركت أن النيات الطيبة في العمل السياسي لا تكفي، وأن الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الطيبة. وأنه لا علاج للفساد والانحراف بكل صورة إلا الهواء الطلق. خرجت مؤمنا بأنني ومن مثلي لن نستطيع عمل شيء في ظل سياسة تديرها أيد قليلة بمعزل عن الناس، وأنه لا خير في أي جهد يبذل إلا في ظل ديمقراطية حقيقية".

(3)

ثم يحكي صاحب المذكرات عن تجربته في البرلمان، وقد اصبح عضوا في مجلس الأمة فيقول:

"بنفس المثالية - وأكاد أقول الاندفاع غير المسئول - بدأت المشاركة في أعمال المجلس على أساس أنني رقيب على الحكومة أقف لها بالمرصاد وتحدثت عدة مرات مهاجما الحكومة دون أن أحفل بأنها لعبة خطيرة قد تجر الكثير من المتاعب

ولكن للحق فإن السلطة كانت واسعة الصدر ولم تكن هناك حساسية مرهفة إزاء الهجمات الضارية التي قمت بها، ربما لم يمسني ضر لأنني لم أتعرض بخير أو شر للرئيس قائد الثورة، ولم يكن هناك مبرر ذلك في الواقع إلا أن الأمور اتخذت بعد ذلك منحى لم أكن أتوقعه إطلاقا".
"وطرح موضوع التموين للمناقشة في أوائل انعقاد مجلس الأمة الجديد وكانت كلمتي في هذا الموضو أول كلمة لي في هذا المجلس. وكانت فرصة لي في هذه الكلمة أن أعبر عن مخاوفي من إساءة الإدارة في القطاع العام الذي بدأ ضخما عملاقا.
ولهذا بدأت بالقول بأنني لا اقتصر على التموين بالذات فحسب، بل على الإدارة في كل المجالات التي أصبحت خاضعة للقطاع العام، وقلت إن البوادر مقلقة، وإن علينا أن نبادر باتخاذ الإجراءات الحاسمة حتى لا تتدهور هذه الإدارة إلى الحد اذي سيءدي في التحليل الأخير إلى الإساءة إلى سمعة النظام الاشتراكي، وليكن واضحا من أول الأمر في ذهن كل إنسان أن المال العام أغلى وأعز من المال الخاص.
وأنه جدير بأن يحاط برقابة كل فرد من أفراد الشعب لأن كل فرد مالك لذرة من ذرات هذه القطاع. لقد توسعنا في هذا القطاع لاعتبارات عملية قوية أو لفرط حماسنا للخروج من النظرية إلى التطبيق، أو لطيبتنا واعتقادنا بأن الشعب لا يمكن أن يغتال الشعب، ولهذا فإن علينا أن نفتح كل النوافذ في هذه المرحلة لنسمع كل رأي سواء أعجبنا أو لم يعجبنا.
كما أن علينا أن نشجع القطاع الخاص حتى يستكمل القطاع العام قوته واستعداده للقيام بمهمته، لأنه خير للاشتراكية ألا تقفز قفزا، بل تمضي بخطوات ثابتة، بل علينا أن نحذر زحف المنتفقين تحت شعار القطاع العام لهدم أركانه والإساءة إلى أدائه سعيا وراء عودة الماضي منتصرا".

(4)

ثم ها هو مؤلف هذا الكتاب يخطو (أو يخطو به النظام) خطوة ثالثة ويصبح عضوا في مجلس الوزراء وإن كان بدرجة نائب وزير فقط، ويحكي المؤلف عن هذه التجربة فيقول:

" وفي يوم 29/9/1965 وأنا بمنزلي حوالي الساعة السابعة والنصف مساء - وأذكر أنني كنت في هذه اللحظة أقوم بتنظيف حذائي وطلائه، دق جرس التليفون واتصل بي سكرتير زكريا محيي الدين مبلغا أنه يريد أن يلقاني بمنزله في اليوم التالي في الساعة الحادية عشرة إلا عشر دقائق صباحا
ولم يكن عسيرا على أن أدرك أنها مشاورات وزارية وبنني مرشح لشغل منصب وزاري، وفعى قابلته في اليوم التالي فعرض علي منصب نائب الوزير لوزارتي الشئون الاجتماعية والأوقاف، فلما تسائلت: ولماذا الأوقاف ولم تسبق لي بها صلة؟
قال إنه ينوي إدماجها مع الشئون الاجتماعية، ولما اعترضت على ذلك بأنه لا وجه لمثل هذه الفكرة، فلا وزارة الشئون وزارة للرعاية والبر ولا وزارة الأوقاف تعمل بالتنمية الاجتماعية، وذلك عبر مشكلات أخرى تتصل بالعقيدة الدينية. ولكني لم أشأ مزيدا من المناقشة وقبلت معتزما بيني وبين نفسي أن أحول دون حدوث هذا الاندماج بأي ثمن وأن وجودي في لحكم سوف يساعد على لك".
" ولا أستطيع أن أنكر أنيس سعدت بأن القيادة السياسية ترى أنني استحق أن أكون عضوا بالوزارة إلا أنني عندما عدت إلى منزلي أدركت آسفا أن عملي كعضو في مجلس الأمة
قد انتهى وأنني سأنتقل غلى مقاد الوزراء أتلقى الهجوم بعد أن كنت أقف مهاجما، ودار بخلدي مع ذلك شيء من الشك في أن المسارعة إلى تعييني بالأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي بعد اول مناقشة لي بمجلس الأمة كان خطوة في نفس الطريق؟ تساؤلات ما زالت لدي إجابة حتى اليوم ولعلها دفنت مع عبد الناصر".
"كان تعييني نائبا للوزير في وزارتي الشئون الاجتماعية والأوقاف مع التلويح بأنهما سيدمجان في وزارة واحدة بمثابة إلقائي في حلبة صراع مرير منذ الدقيقة الأولى. بالإضافة إلى أن دخولي الوزرة وأنا مدني ولست من الضباط الأحرار أو غيرهم وفي سن مبكرة نسبيا قد أثار غيرة وحقدا واضحين مما زاد من عنف التحدي الذي كنت أواجهه.
أما عن وزارة الأوقاف فقد كان غريبا أن أكلف بها دون أن يكون لي بها سابق عمل يؤهلني لها، وأذكر أني في مقابلة مع عبد الناصر بعد إعادة تشكيل الوزارة في سبتمبر 1966 (يقصد الإشارة غلى وزارة صدقي سليمان التي أصبح فيها وزيرا)
وتعييني وزيرا للأوقاف والشئون الاجتماعية أن سألته عن السبب في تكليفي بوزارة يعلم مسبقا أنني غير ملم بأوضاعها وأنها تتطلب محيطا بعلوم الدين يصلح لقيادة الدعوة الإسلامية عن طرقها، فكان رده وهو شارد بعينيه: " يمكن علشان تكمل بناء الجامع" .
ومن سخرية القدر أنني كنت السبب في تأخير إتمام بناء هذا الجامع. فلم يتقدم بناؤه طيلة وجودي في وزارة الأوقاف، وكان السبب هو اعتراضي على صرف مبالغ طائلة كانت مطلوبة للمهندسين والمقاولين عندما وجدت أنهم تقاضوا مبالغ طائلة عن أعمال لم تتم محاسبتهم عنها بعد، ويبدو أن عبد الناصر كان شديد الاهتمام بإتمام بناء هذا المسجد الذي دفن فيه فيما بعد
فقد كنت في زيارته مرة في معية رئيس وزراء الصومال لتناول العشاء وعند خروجنا استوقفني عند الباب وسألني لماذا لا أصرف المبالغ المطلوبة فأبديت وجه اعتراضي على ذلك فقال بالحرف: " يا دكتور .. ادفع لهم خلي الناس تصلي" ورغم ذلك رفضت أن أرصف قرشا طيلة وجودي بالوزارة. وما زلت أتساءل هل كان عبد الناصر متعجلا بالنسبة لهذا المسجد بالذات لأنه كان يشعر بأنه سيكون مثواه الأخير.
"وقد دخلت في أول يوم في معركة المقاومة لإدماج وزراتي الشئون الاجتماعية والأوقاف في وزارة واحدة بحجة أن وزارة الشئون للرعاية الاجتماعية ومن ثم يجب أن تكون في إطا واحد في وزارة الأوقاف وهي وزارة بر وخيرات، وكان هذا المفهوم الخاطيء في نظري دافعا لي لمضاعفة الجهد لإيضاح الجانب الإنمائي في مهمة وزارة الشئون الاجتماعية".

(5)

وهو حين يتحدث عن أحلك اللحظات أو أصعبها لا يدعي لنفسه أهمية لا في تعرضه لها ولا في موقفه منها.. ولك أن تقرأ حديثه عن حرب يونيو 1967 حيث تجده يضع كل ما وقع في هذه الأيام الصعبة في إطار أعمق وهو قضية الديمقراطية

ويتجاوز حديثه عنالذات وعن الوقائع إلى الوطن ومستقبله

"لم أكن بطبيعة الحال مسئولا مباشرا عن سياسة المعركة أو إدارتها. ولكنني كنت أحد أعضاء الوزارة التي كان يتعين عليها ن تتصدر لمسوليتها وأن تصمم على المشاركة في اتخاذ القرار، وأن تكافح في سبيل تحمل مسئولية إدارة شئون البلاد بالفعل. إن الوزارة في نظر ا لعالم كله أعلى مستوى من المسئولية.
ولا أظن أننا كما في هذا المستوى فقد كان من المفهوم أن على الوزير أن يعني بشئون وزارته أما السياسة العليا فليست من شأنه. أما ما هو متعارف عليه في العالم كله من أن مجلس الوزراء هو قمة المسئولية وأنه لا يكتم سر عن مجلس الوزراء فلم يكن شيء من ذلك يدور بالبال.
ولو أننا مارسنا المسئولية على هذا المستوى، وناقشنا الملابسات السياسية التي سبقت الواقعة في حرية وتدقيق فربما كنا استطعنا أن نوقف الاندفاع نحو الهاوية، وإن كنت أشك تماما في أن هذا كان مستطاعا عمليا، ولا ننسى أنه كان هناك جهاز غير منظور.
جهاز له هيبة وقوة فوق كل قوة، وكانت تتداول عنه القصص والروايات، وكأنه جهاز يعلم الغيب وقادر على كل شيء.. ورغم سطوة وسلطة هذا الجهاز فلا أذكر في مجلس لوزراء أن أشرنا إليه مرة تصريحا أو تلميحا.
وكانت سمعة هذا الجهاز في السماء حتى أننا نحن كبار المسئولين كنا نعتقد أنه جهاز بالغ الكفاية بالغ النظافة، بل كنا أحيانا نتسائل فيما بيننا: كيف استطاعت القيادة أن تشكل هذا الجهاز بهذه الردجة من الكفاية والنزاهة حتى إنه لا يفوته شيء؟ ولنا أن نتساءل يا سيدي القاريء أليست هذه العبارات بمثابة تقديرات صريحة وصحيحة لموقف الوزير وموقف مجلس الوزراء لا يبخل فيها أحمد خليفة على نفسه بالانتقاد.
ويحدثنا أحمد خليفة عن غياب المعارضة وعن غياب الديمقراطية، ويربط كل ذلك بحدوث النكسة التس ساعدتنا على اكتشاف هذه الحقائق المعماة وهو يكتب كل هذا بعبارات اديب مطبوع ومفكر واضح الرية شاء حظه أن يخرج من الحكم مع وقوع الهزيمة.. فهو لا يدافع عما يقابلها بل ينتقده، ويعبر عنه بعبارات تحفل بالصدق الشديد حتى وإن عبرت عن الاندهاش والغموض والوقوع تحت مغناطيس هائل الوقوع في غيبوبة، ومن هذا المنطلق فإن الدكتور أحمد خليفة.
وقد تجلت له الحقيقة أصبح يرى أن عمق الكارثة لم يكن فيما وقع فحسب بل فيما لم يقع وها هو يقول:" قبيل النكسة بل وبعدها، كان مستحيلا أن يرتفع صوت بالمعارضة وإلا وصم بالخيانة، وكانالجميع في الفترة السابقة على النكسة مأخوذين بمظاهر الثقة البالغة من جانب القيادة.
وكان هناك جو زاخر، ساحق من التفاؤل، ولم يكن أحد يتصور أننا كنا على أبواب المغامرة أو المقامرة. كان الشعب كله وكأنه تحت وظأة مغناطيس هائل، بل اجتاحت الحماسة الوطن العربي كله. وفي أسر هذه الغيبوبة الكبرى التي طغت علينا جميعا، فليس من العدجل في شيء أن يحاسب عامة الناس بل خاصتهم ممن لم يكن بيدهم مقاليد الأمور على أنهم أخطئوا التقدير أو اسرفوا في تفاؤلهم.
إن الأهوال لم تنكشف وأبواب الجحيم لم تفتح إلا عندما وقعت الواقعة في الخامس من يونيو. وفي اعتقادي أن الحساب لم يبدأ إلا من هذا التاريخ. كان على كل إنسان من هذه اللحظة أن يتخذ قراره بألا يقع مرة أخرى أسير الوهم وخداع النفس".
" وعندما أفاق الناس من دهشتهم كن السؤال الأول في اذهانهم من المسئول عما وقع. إلا أن عمق الكارثة لم يكن فيما وقع فحسب بل فيما لم يقع. والذي لم يقع هو تحديد المسئولية وتحقيق ما حدث فعلا. ولكن الذي حدث هو إعادة تشكيل الوزارة دون تفسير لماذا خرج من خرج؟ ولماذا بقي من بقي؟ ولماذا جاء من جاء؟ بل لا أحد كان يملك أن يسأل أو يتساءل.
ويقال: علينا أن نثق بالقيادة، ولكن حتى ونحن في هول هذه المأساة الكبرى لا يجرؤ أحد أن يعبر عن شكه في هذه القيادة أو يحاول فتح باب الحوار معها، حتى بد ذبولها وانطفائها وإحاطة البطانة بها إحاطة السوار بالمعصم. ويبقى الأمر كما كان دائما - وكأن شيئا لم يكن - لا يصل إلى آذان القيادة إلا في القليل النادر إلا منافق أو انتهازي أو مغامر".

(6)

ويحاول مؤلف المذكرات من خلال برجه الزجاجي وبروح العالم المحايد وعقل الأديب اللماح وقلم الكاتب الدقيق أن يقدم لنا تقييما عادلا لشخصية جمال عبد الناصر، ولكنه بالطبع يقع في الحيرة في اي أجزاء الصورة يقدم وأيها يؤخر، ايها يكبر وايها يصغر؟ ..

فهو يظن أن المرات غير القليلة التي أتاحت له اللقاء المباشر بجمال عبد الناصر قد تمكنه من أن يحكم عليه حكما عادلا، لكنه يعود فيتأمل بعقله ما يسمعه بأذنه من دوي أحدثته الجماهير كاستجابة لما أحدثه عبد الناصر بأقواله وأفعاله في مشاعرها وأفكارها وسلوكها، ويحاول أحمد خليفة أن يتجاوز تصرفات عبد الناصر إلى أحلامه

وأن يخلص من أفعاله الظاهرة إلى أفكاره غير المعلنة أو حتى إلى أحلامه، وها هو يقول مقررا بكل وضوح:

"ومع ذلك فقد كان انطباعي أن عبد الناصر لم يكن طاغية بطبيعته في تلك السنوات من الثورة. بل كان يحلم دائما بمباديء ثورية يحملها ويتحملها الشعب نفسه بغير فرض ولا قهر.
وأستطيع أن أجزم بذلك بمقارنته ببعض الآخرين ممن كانت ردود فعلهم متسمة بالرغبة في فرض الرأي والتحكم وقفل باب الحوار. وكان عبد الناصر دائما يعيدهم بحلمه وسعة صدره غلى جذور المسائل وأننا لسنا أوصياء على الشعب وأن الشعب صاحب كل لشيء ويجب ألا نضيق بالتساؤلات حتى تسير المباديء الثورية مسرى الدماء في شرايين الشعب المطحون الذي استعبده الاستعمار، بل استعبده مواطنوه من أشباه الإقطاعيين وذوي المصالح المرتبطة بالأجانب".

ويرى صاحب المذكرات أن جمال عبد الناصر كان صاحب فكرة متميزة في نظام اجتماعي متميز، وفي ص 26 يعبر عن هذا المعنى يقول:

" لقد كان عبد الناصر داعية إلى نظام اجتماعي يكرس الفرصة المتكافئة ولا تقوم فيه السيادة بالميلاد أو بالمال فلم يكن غريبا كلما قوبل بالعوائق والصعوبات أن يفقد أعصابه وصبره ويتخلى عن طبيعته الأولى من الهدوء والصبر، ويتحول إلى رجل نافذ الصبر معتز برايه حتى لم يكن في الإمكان في بعض لأوقات معارضته بكلمة احدة".

ثم يقول:

" وفي اعتقادي أن الحكم عل عبد الناصر يجب أن يأخذ في الاعتبار أنه إنسان من البشر يحمل رسالة عظيمة، وأن ميلاد هذه الرسالة كأي ميلاد لا يمكن أن يخلو من الآلام، وأن المجتمع البشري دائما أبدا يدفع ثمنا غاليا من أجل التحولات العظيمة، وإن عظمة ثورة عبد الناصر يجب أن تقاس بما تحقق من تغيير اجتماعي هو أبعد بكثير من السلبيات التي قارنت هذا التغيير.
ويوازن أحمد خليفة بين ما كان يحظى به عبد الناصر من نفاق وبين ما كان في عقيدته من الإحباط فيقول: " ولم يكن من السهل على بشر أن يلقى كل هذه الكوارث والصفعات دون أن تفل في تماسكه. ومن الناحية الأخرى كان كأي زعيم يحظى بقمة النفاق في التعامل معه ومن كل من يقترب منه".

(7)

وحين يروي مؤلف هذه المذكرات قصة النجاح "المؤقت جدا" الذي حققه بنفسه في مجلس الأمة حين عارض الحكومة في سياستها البارزة، وكان لمعارضته الموضوعية قبول حماسي سواء في المجلس أو في خارجه فإنه يعقب على روايته بتمن فقد موضوعه بعدما مرت عليه ماكينة الزمن الذي لا يرحم ولكنه

مع ذلك يجيد التعبير عن هذا الهاجس الخفي فيقول:

" وفي اعتقادي أن هذا الانفجار الحماسي كان نتيجة انكسار حاجز الخوف بموقف مجلس الأمة الذي أثبت أن ممثلي الشعب يستطيعون الوقوف من السلطة موقف الند للند، مما جعل الناس يستبشرون خيرا بعد أن كانوا يظنونه ألعوبة تحركها السلطة كيف تشاء.
ويبقى السؤال: كيف أننا لم نستطع أن نتابع هذه المسيرة؟ وكيف لم يتابع الشعب إملاء إرادته على إرادة الحكومة؟ وكيف انتقلنا من مثل هذا الموقف، ومن استفتاء شعبي على رئيس الجمهورية قبل ذلك بأشهر قليلة وهي علامة لها وزنها على احترام إرادة الشعب وسعى عبد الناصر إلى تأكيد شرعية الحكم، كيف انتقلنا من كل ذلك وفي فترة سنتين أو ثلاث إلى أيام الظلام في يونية 1967.
لا أزعم أنني أعرف. أظن أنه سبب واحد، ولكنني لا أستطيع أن أبريء قوى دولية جبارة عقدت عزمها على أن توقف المد المصري الناصري فاستجمعت كل حقدها على منجزات عبد الناصر التي تجاوزت مصر غلى العالم الثالث كله فأيقظته وألبته على الاستعمار والعبودية.
إنني أذكر عندما قابلت فيدل كاسترو وكنت في وفد للتهنئة بثورة كوبا أن قال لنا: قولوا لعبد الناصر إنني تلميذه وإنني تعلمت منه الثورية. لم يكن غريبا إذن وعبد الناصر في اوج مجده بالرغم من اللطمة القاسية عندما ألغيت الوحدة مع سوريا قبل ذلك بسنوات قليلة، لم يكن غريبا أن تعاود القوى العالمية المستغلة للشعوب محاولتها لكسر عبد الناصر."

(8)

ويروي أحمد خليفة في صدق شديد مدى الضيق النفسي الذي اعتراه في أوائل الستينات من متابعة ما نشر عن قضايا الفساد في المجتمع الاشتراكي الجديد وقد لا يكون الموضوع في حد ذاته خطيرا في نظر البعض، مع أنه خطير بالفعل، ولكن الذي يعيننا فيما نرويه أن هذا الذي يتحدث عنه أحمد خليفة يأتي في إطار تقييم موضوعي كتبه واحد من أبناء النظام الذين شاركوا في برلمانه وفي مجلس وزرائه في الستينات نفسها، نحن إذن أمام مشاعر تكنوقراطي على وشك المشاركة في السلطة.

وبعد أن يروي المؤلف بعض مواقفه في حوار الرئيس بالرأي الآخر من خلال التنظيمات السياسية المشروعة وقتها يعقب معبرا بكل الصدق عن الإحباط الذي انتابه وهو يسري البطش بالديقمراطية جهارا نهارا في نفس الوقت الذي يجري فيه التمسح بها

يقول صاحب المذكرات:

" أردت من هذه الرواية أن أبين أن أي اتجاه في ذلك الوقت إلى الخروج عن الخط المرسوم كان يقابل بمعارضة من النظام مقرونة أحيانا بالدهشة، وإنه حتى عندما كان الرئيس يقبل النقد كان البعض يسارع غلى إثارته (أي إثارة الرئيس) بدلا من أن يساندوه في موقفه من التفهم والتسامح وقبول الرأي الآخر.
ومع ذلك فقد كان هذا يجري في إطار سمي أيضا بالديمقراطية، وهو دليل على أن التمسح بالديمقراطية أمر شائع، وأنه حتى أشد النظم تسلطا لا تتردد في أن تصف نفسها بالديمقراطية، والواقع أن الديمقراطية موعودة دائما بالتزييف، والدولة تستطيع ذلك وفي يدها وسائل الإعلام جميعا تحتكرها وتبثها ليل نهار لتجميل صورتها وتشويه كل شيء آخر.
وقد يجري تزييف الديمقراطية أحيانا بالقوة الغاشمة والبطش بالحريات بمقولة إنه لا حرية لأعداء الشعب ولكن الأغلب أن يحدث هذا بالخداع عن طريق إقامة ما يمكن أن نسميه بالماكيت الديمقراطي حيث تقام نماذج شبيهة بالديمقراطية إلا أنها فارغة من المضمون. وتزداد الجرعة الخداعية في تزييف الديمقراطية إذا دخل رأس المال ليساند قوة الدولة. أو إذا توحش رأس المال فأصبح أقوى من الدولة وطغى عليها وسخرها المصالحه. "

(9)

ويجاهر مؤلف كتاب "الراي والرأي الآخر" ولكن بعد فوات الأوان برايه في زيف الاتحاد الاشتراكي وفشله وعدم وضوح فلسفته، وقد يرى القاريء ألا نثقل عليه بهذه الآراء لأن الضرب في الميت حرام، ولكني أعتقد خلاف ذلك فما زال بيننا من يؤمن بجدوى وجود التنظيم الواحد، وهذه شهادة من عالم اجتماع مشهود له كن في وقت من الأوقات قطبا من قطاب هذا التنظيم، ولكنه حين ينقد الاتحاد الاشتراكي لا يقف عند نقده كتنظيم فحسب

وإنما بتناول "الميثاق" ونظام الحكم كله، وهو يفعل ذلك بموضوعية شديدة وهادئة ويقول:

" أما الاتحاد الاشتركي فقد كنت مقتنعا بأنه صيغة ديمقراطية زائفة فاشلة عملا، ذلك أن الاتحاد الاشتراكي هو الدولة نفسها، فاللجنة العليا كانت نواب رئيس الوزراء ومن يعلوهم، ثم أصبحت نواب رئيس الجمهورية. والدولة بكل سلطاتها: الجيش والشرطة والمخابرت والخزانة تسانده.
وهو وضع يعطي الاتحاد قوة مادية ويحرمه من القوة المعنوية إذ لا يمكن أن يكون بذلك تنظيما شعبيا في حقيقته لأن التنظيم الشعبي في تبسيط يحسه كل فرد يبلور قوى شعبية تحمي المواطنين من تحكم السلطة العامة وانحرافها.
ويعود الفشل أيضا إلى عدم وضوح فلسفة الاتحاد الاشتراكي، فالميثاق قد يكون مقبولا كوجهة نظر عامة ومحاولة تحليلية ومجموعة من المباديء ولكنه بالقطع ليس بعد إطارا مرجعيا مدروسا واضح المعالم. وليس من الصعب أن ندرك السبب في هذا الغموض، فالثورة كانت واقعا قبل أن تكون نظرية. وقد تبنت الاشتراكية فيما بعد، اشتراكية غير منقولة سميت عربية أحيانا أو كما كان يقال منبثقة منواقعنا.
ومن ثم فلم يكن لها تراث نظري غني، وكانت النتيجة خلطا ومزجا بالماركسية اللينينية كنظرية خصبة جاهزة. وسواء كان منظور الاشتركية العربية والقائلون بها في حقيقتهم ماركسيين أو لم يكونوا فقد وجدوا في التراث الماركسي اللينيني نبعا لا ينضب . كان لابد إذن من فلسفة اشتراكية لها الملمس العقدي، وكان لابد من أن يشغلنا أمر القادرين على القيام بهذه المهمة وهم المثقفون، وقد كانوا في جملتهم في أزمة مع الثورة".
"وفشل الاتحاد الاشتراكي كحزب لأنه فنيا فاقد للقوام الحزبي لاتساع قاعدته وشمولها حتى إنها شملت الكثيرين من الساخطين على الثورة. وكانتالنتيجة فقدان التماسك والانتماء الذي يربط أعضاء الحزب أو الفريق وإذا قيل إنه لم يكن حزبا فالتساؤل يبقى : لماذا ننتظر منه ما لا ينتظر إلا من حزب.
ثم أين إذن ذلك التنظيم الشعبي الفعال الذي يسند الثورة والواقع أن الاتحاد الاشتراكي فشل كحزب واحد. كما فشل كحزب لأن الأعضاء في الحزب الواحد يرتبط وجودهم السياسي على الأقل بوجود الحزب مما يجعل العمل الحزبي عملا جادا له استماتة الدفاع عن النفس، لأن معنى الحزب الواحد أنه غذا لم أعمل وأمارس حياتي السياسية فإن مكاني هو العمل تحت الأرض ذلك أنني كحزب واحد قد حرمت الآخرين من العمل فوق الأرض، أما أن أتصور حزبا واحدا يمثل الشعب كله فتصور ضال من أساسه.
وثمة عامل آخر في فشل الاتحاد الاشتراكي هو أنه في الدعوة إلى فكر أو فكرة لا يكفي أن نقول للناس كونوا، إن الدعوة تفاهم واقتناع وإقناع، أما التوعية فصلف فكري إذ به تحاول أن تجرع فكرتك كما هي للآخرين والمثقفون لا يقبلون هذا شكلا. والمجتمع الذي يهجره مثقفوه روحيا يتوقف عن النمو لأن النمو الإنساني يأتي عن طريق الفكر الذي يدفع بالمجتمع إلى الأمام.
ولكن الاتحاد اتخذ من التوعية أسلوبا والتوعية هي أروع خافة عاشها الاتحاد الاشتراكي . فمن وقت إلى آخر كان المسئولون يعلنون حملة توعية فينصبون الخيام ويجمعون الآلاف ويلقون الكلمات حتى ينفض الاجتماع ويعود كل إلى ما كان عليه. ولعل من كان يوجه إليهم الخطاب يسخرون من أنفسهم، ولعل من ألقوا الخطاب قد حصلوا على راحة البال فقد أصبحت التوعية هي الحبة المهدئة التي تجذب الطمأنينة الكاذبة.
ونسوا في زحمة أوهامهم أن الدعوة مرتبطة بالداعية، وأن نجاحها مرتبط بالقدوة وأن من كانوا يطلقون عليهم العناصر المفسدة أو الرجعية أو أعداء الثورة لم تكن في معظم الأحيان إلا أخطاء من ارتدوا مسوح الاشتراكية زلفى إلى عامة الشعب. وهكذا سقط الاتحاد الاشتراكي في قبضة الفشل والشلل وساده الركود الذهني والروحي، وتحول إلى جسد بيروقراطي تقف غايته عند أبوابه ومكاتبه وموظفيه وسياراته ومكافآته".

وهذه الفقرات هي أروع ما كتب أو ما يمكن أن يكتب عن الاتحاد الاشتراكي ولا يستطيع إنسان مهما أوتي من قدرة على مغالطة النفس أن يتهم صاحبها بالبعد عن الحقيقة أو الموضوعية، ولكن مؤلف هذه المذكرات وهو المفكر الواقعي المرتبط بأهله ووطنه يصور لنا البعد الأخطر في مأساة الاتحاد الاشتراكي

وهو اقتناع عبد الناصر به فيقول:

" إلا أن عبد الناصر كان متمسكا بالاتحاد الاشتراكي إلى درجة التشبث . وكان البعض يردد أن التجربة في حجة إلى تقييم. ولكنني كنت أذهب إلى أن التجربة ثد ثبت فشلها فعلا في تحقيق الهدف منها وهو إيجاد السند الشعبي للثورة.
ولهذا كان هدفي الأول - إذ دعيت للمشاركة في الأمانة العامة - هو الدعوة إلى تنظيم سياسي معلن يمثل حزب لثورة مع السماح بمغارضة، والدعوة إلى كفالة الحريات وحرية النقد وبالذات بالنسبة للمثقفين الذين وإن كانوا يعانون من المشاكل المادية فلم يكون حل هذه المشكلة النفسية إلا بكفالة حرية النقد
وهي حرية كفيلة بالقضاء على حرب الهمس الموجهة ضد الثورة، وإذا كان شعارنا أن نقوم بثورة فلا يعني هذا إلا أنها مرحلة نقد ذاتي وإتاحة الفرصة للاستماع إلى كل الآراء، وأن نكفل لمجلس الأمة - وهو هيئة منتخبة - أكبر قدر من الهيبة ليمارس حقه في حرية الكلمة والرقابة وحرية النقد".

(10)

ومن مرحلة مبكرة جدا كان مؤلف هذه المذكرات ينبه بأعلى صوت إلى العناصر الكفيلة بنجح تجربة "القطاع العام" وعدم تحوله إلى "الإقطاع العاطل" وكان يصرح بأن المحسوبية ليست إلا نوعا من الاختلاس والرشوة، وكان يريد من الدولة أن ترسي منالقانون والعقوبات ما يجعل الإضرار بالمال العام أشد في نظر الناس من الإضرار بالمال الخاص

وكقانوني محترف يتمتع بقدر واضح منالفكر والقدرة على التعبير والصياغة لخص الدكتور أحمد خليفة هذا الموقف كله في عبارات واضحة حيث يقول:

" وأضفت أننا – إذا أخذنا بالنظام الاشتركي وبدأنا في إقامة اقتصادنا على اساس القطاع العام- مدعوون لإدراك الانعكاسات القانونية لهذا النظام، وإن من يسرق عودا منالقصب أو دجاجة من فوق سطح لم يعد طريد العدالة الأول بينما اللص الكبير ذو المكانة العالية يعمل باسم الدولة والمنصب لحرمان المواطنين من حقوقهم وأموالهم وغذائهم.
فدعونا بعض الوقت من الاهتمام بالسرقت التافهة التي يدفع إليها الفقر وتفكك الأسرو والمظالم الاجتماعية ولنتجه إلى القيم الجديدة والآفاق البعيدة ، نحن في حاجة إلى قانون ذي نظرية واضحة متكاملة يردع المضاربين في أقوات الشعب والمديرين الذين يبرمون صفقات مجحفة، وكل تصرف منحرف يتناول المال العام، وكل تصرف في المال العام فيه تمييز بين المواطنين.
وأن تكون العقوبة دائما في سرقة المال العام والإضرار به أشد من سرقة المال الخاص، حتى يترسب في أعماق المواطنين شعور عميق بحرمة المال العام سواء كان مال الدولة أو المؤسسات أو الشركات العامة أو التعاونيات.
إن أموال الشعب في أيدي عدد من الموظفين يديرونها بأسمائنا جميعا تبرر لنا نوعا من الاختلاس والرشوة وفي النهاية قلت إن علينا أن نتجه بإدارتنا وفكرنا إلى رفع سلاح القانون في وجه المخربين ولصوص القطاع العام والمستغلين، وإلا فنحن لا نبني القطاع العام بل الإقطاع العام".

(11)

بقي أن نطلع القاريء على موقفين هامين لأحمد خليفة وقفهما مع نفسه، ثنيهما بعد خروجه من الوزارة مباشرة وسنتناوله بعد قليل، أما أولهما فيوم ترشيحه لدخول الوزارة، فبعد أن يروي أن أنور السادات كان يرشحه لتولي وزارة العدل حتى يضع حدا للفوضى التشريعية التي نعيشها بينما كان زكريا محيي الدين يراه مبررا أكثر لتولي الشئون الاجتماعية

يروي الدكتور أحمد خليفة أن هذا الحوار قد وصله ثم يروي انطباعه عنه فيقول:

" والواقع أن هذا الحديث الذي دار عني بشأن ما أصلح له يصور صراعا دار في نفسي طويلا فلم أكن اري هل أنا رجل قانون أم رجل اجتماع. كنت أبحث بصرف النظر ما درسته وخبرته فعلا عن هويتي الحقيقية وتصوري لما أ{غب في الاشتغال به، وقد قضيت في أعمال النيابة العامة ومجلس الدولة حوالي خمسة عشر عاما، وأدركت أنني لا استطيع أن أقضي بقية عمري واقفا جالسا أقلب في صفحات كتب القانون.
وهكذا ومع اعترافي بأنالعمل القضائي أجل الأعمال قاطبة فقد وجدت أنني عاجز عن المضي مطبقا للقانون بينما أنا متسائل دائما وأبدا عن جذور القواعد القانونية في المجتمع ومدى تعبيرها عن حقائقه. ولهذا فقد اخترت خوض المجتمع على إطلاقه وأعماقه، واخترت البحث العلمي في القانون وغير القانون من الظواهر الاجتماعية. وكان زكريا محيي الدين محقا عندما قال إنه يعرف ما أفضله".

أما الموقف الثاني وهو موقف صاحب المذكرات من نفسه بعد خروجه من الوزارة فهو يصوره لنا منصفا نفسه إلى أبعد الحدود، وليس عليه من لوم في ذلك، فقد فعل ما رواه بالفعل من تأليف كتاب "المسألة الاجتماعية" وتمسك به حتى صدر وإن تأخر بعض الوقت في الصدور

وقد لا يكون هذا الكتاب قد لقى الصدى اللائق به ولكن هذا الصدى ليس مسئولية الدكتور أحمد خليفة ولكنه مسئولية مجتمعنا على كل حال، يكفي الرجل أنه جاهر برايه بل وفعل ما خير من المجاهرة وهو التسجيل

وها هو يقول:

" إن الإنسان قد يسأل عن موقفه إزاء مشكلات وطنه وانزوائه وعزوفه عن إبداء الراي وبذل الجهد، إلا أنه ليس العمل السياسي وحده هو علامة الإيجابية والانتماء. بل كل مجال عمل جاد يضع الإنسان فيه إخلاصه وعلمه وجهده عمل وطني.
وعندما يكون الجو السياسي ملبدا بالغيوم مم ينفر بعض الناس من المشاركة فإن على المثقف ألا ينسى دوره الطليعي في تنمية بلده وتقدمها وسيادتها وألا يكف عن العمل محلقا فوق مستوى الصغائر والكبائر. وعندما خرجت من الوزارة إلى بيتي وجدتها فرصة ذهبية بل واجبا على أن أكتب تجربتي.
ورغم أن الرقابة على المطبوعات كانت شديدة ورغم الخوف السائد من إبداء آراء تفسر على أنها معارضة للنظام فقد وضعت كتابي وأسميته اسما لا يعبر عن محتواه وهو "المسألة الاجتماعية" وأرسلت الكتاب إلى دار المعارف. واختفت أصوله بضعة أشهر فأدركت أنها الرقابة، وأذكر أن الدكتور السعيد مصطفى السعيد وكان مشرفا على الكتب الثقافية في الدار في ذلك الوقت رجاني أن أمر عليه وأخذ ينصحني بسحب أصول الكتاب لما يحتويه من نقد مر لا يتحمله النظام السياسي.
وكان مخلصا في نصيحته، فقد كان أستاذي في كلية الحقوق وناشدني باسم الأستاذية أنأسحب الكتاب وأرفع منه الأجزاء التي ستثير المتاعب، ولكنني لم أغير حرفا وظللت أسأل عن مصير أصول الكتاب حتى جاءت أخيرا بإذن الطبع. ودهشت في ذلك الوقت.
ولكنني لم أعلم إلا بعد سنوات من أحد الوزراء المقربين إلى عبد الناصر بعد وفاته أن عبد الناصر قد قرأ أصول الكتاب وطلب السماح بنشره بعير تعديل، وفي الواقع فإن هذه الواقعة قد أكدت رأيي في أن عبد الناصر لم يكن طاغية بطبيعته، وإن ما حدث باسمه من بطش بالحريات لم يكن دائما من فكرة وتخطيطه".

(12)

وينبغي لنا ألا نحرم القاريء من بعض التفاصيل عن معاناة الدكتور أحمد خليفة في وزارة الأوقاف والتي يرويها فيقول:

" ولكن المعركة الكبرى كانت في وزارة الأوقاف عندما هينت وزيرا لها. فقد لمست من أول وهلة أن هناك أوضاعا في وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية لا يمكن السكوت عليها، وأن هناك تبديدا لأموال الوقف الإسلامي لا يحاسب عنه أحد. وعندما توفرت بين يدي الدلائل على ذلك أحلت الأمر برمته إلى النيابة العامة وأسفر التحقيق عن كشف رشاوي واختلاسات ارتكبت من عدد من الموظفين كبارا وصغارا".
"ولا أريد أن أفيض في هذا الموضوع كما لا أريد أن أكشف بعض الوقائع التي تورط فيها آخرون إذ وجدت من أموال البر والخيرات مرتبات مبالغا فيها تقرر لمن لا يستحقون ، ومنهم بعض سيدات المجتمع من أوساط معينة تقررت لهن مرتبات شهرية لسن في حاجة إليها يقينا".
" ولا أظنني كنت متجنيا على من طلبت التحقيق معهم، فقد أسفر تحقق النيابة العامة عن تقديم أحد عشر متهما من موظفي وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية إلى محكمة أمن الدولة العليا بتهم الاختلاس والتزوير، وخرجت من الوزارة قبل أن يتم البت في أمرهم
وقد قابلوا خروجي من الوزارة بحماس وفرح شديدين، وعادوا سيتهم الأولى كقوة يخشاها الجميع لصلتهم بكبار المسئولين في الدولة بعد أن كنت أوقفت نشاطهم طيلة وجودي بالوزارة، بل ومنعتهم من السفر خارج مصر رغم إلحاح بعض مديري مكتب جمال عبد الناصر
وظل نفوذهم مسيطرا لا يجرؤ أحد على تحديهم حتى صاح الشيخ محمد متولي الشعراوي في مجلس الشعب وهو وزير للأوقاف مستجيرا منهم قائلا إنه يعاني موقفا نفسيا عنيفا، وإنه ممزق بين واجبه كوزير مسئول وبين موقفه كإنسان يجد مخالفات صارخة ولا يستطيع أن يفعل شيئا".

ويصل الأمر والمرارة بأحمد خليفة أن يقرر في صراحة أن الفساد هو الذي أخرجه من الوزارة " والواقع أن إخراجي من الوزارة لم يكن بأي صورة مرتبطا بنكسة يونية ولا بالرغبة في التغيير للتغيير، ولكنه كان نهاية المطاف لصراع رهيب اضطررت إلى خوضه في وزارة الأوقاف وأشرت إليه فيما تقدم".

" ورغم أنني بلم آخذ بالشبهات وأحلت الموضو بكامله غلى النائب العام للتحقيق وحقق النائب العام ووكلاؤه في ضوء ما أمدتهم به الوزارة من البيانات في تعاون تام، وصدر قرار النائب العام بحبس الموظفين على ذمة التحقيق. إلا أن أخطر ما تكشف عنه التحقيق كان صلة بعض المسئولين عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ببعض كبار المسئولين في مكتب الرئيس جمال عبد الناصر .
وعندما وصل التحقيق إلى هذا الحد أوعز إلي مسئول كبير وثيق الصلة بالرئيس أن أكف عن متابعة الأمر عند هذا الحد، بل زارني في منزلي لهذا الغرض وحاول في ورقة إقناعي بترك الأمر، ولم أستطع أن أهضم مثل هذا الرجاء، ولعل عملي القضائي السابق مسئول عن ذلك فلم أكن أتخيل أن أن أحدا ولا الرئيس نفسه يمكن أن يقف عقبة في سبيل تحقيق قضايا الفساد
وأنا أعرف عن الرئيس كراهيته للانحراف ونزاهته المطلقة، ولهذا فلم أفكر في مراجعة الرئيس في الأمر، وكانت الفرصة عندما أجرى التعديل الوزاري بعد النكسة فأطيح بي من الوزارة وتغير الجو في وزارة الأوقاف وكفت عن التعاون مع سلطات التحقيق وعاد الموظفون الموقوفون إلى أعمالهم بل وصل الأمر إلى حد لإطاحة بالنائب العام نفسه ونقله إلى منصب آخر".

ويكرر أحمد خليفة في موضوع آخر شعورة بالمرارة من قوة الفساد في نظامنها فيقول:

" كانت هذه معركة مع الفساد خسرتها في نهاية الأمر، فزاد عمق إيماني بأنه لا بديل عن ديمقراطية حقيقية هي المبرر الوحيد لكي يبذل الإنسان من نفسه ومن طاقته بل من أمنه وحياته، فقد بلغ الأمر بهؤلاء المنحرفين غلى حد التهديد بالقتل وخطف أطفالي، ووضعت حراسة مشددة على منزلي ولم أجد من السلطات غير السلطة القضائية أي مساندة عندما وصل التحقيق إلى باب مكتب الرئيس".

الفصل العاشر : كنت وزيرا مع عبد الناصر

للدكتور عبد الوهاب البرلسي

(1)

لعل الدكتور عبد الوهاب البرلسي هو أبرز نموذج للوزراء التكنوقراطيين المصريين الذين تمتعوا بالقدرة النفسية الفذة على أن يصعدوا سلم الهرم الوظيفي من ناحيته في سلام نفسي وهدوء أعصاب تامين، فهذا طبيب يتدرج في وظائف الجامعة من أستاذ إلى عميد إلى وكيل جامعة إلى مدير جامعة ثم يصبح وزيرا للتعليم العالي ثم يعين وزيرا للبحث العلمي ثم يقبل العمل مديرا لجامعة الكويت وبعدها يقبل العمل مرة ثانية نائبا لرئيس الجامعة الأردنية ثم مستشارا للجامعة المفتوحة ثم يعود من حيث بدأ أستاذا في كلية الطب.

وهذه مذكرات تتسم بكثير من القدرة على التعبير عن شخصية صاحبها بأكثر مما يريده صاحبها منها من التعبير عن ذكرياته.. فمن الواضح أن صاحب المذكرات قد أخذ نفسه منذ محلة مبكرة من حياته بالتزام مطلق تجاه جزئيات الحياة المتكررة، بحيث أصبحت شخصيته تفرض نفسها حتى على نفسها حين تتحدث

بل وحين تكتب، وأنت ترى يا سيدي القاريء هذا الخلق بوضوح شديد ليس بعده وضوح حين يقسم المؤلف مذكراته مما لو كانت كتابا في علم الأدوية يقتضي منه الدقة الشديدة في ترتيب الفصول المتتابعة لكتابه، والتزامه الشديد بالترتيب الزمني وهم ما لم يتوفر في مذكرات غيره حتى هذه اللحظة

ويكفي أن أذكر للقاريء أنه قسم (مذكرات) حياته إلى سبعة فصول، نجعل الفصل الأول لسنوات التكوين، والثاني لعمله في طب عين شمس، والثالث لعمله في جامعة أسيوط عميدا لكلية الطب، والثالث للفترة ما بين حربي 67، 1973 وقد سمي هذا الفصل "بين النكسة وحرب التحرير" وتشمل هذه الفترة ذروة الأحداث السياسية التي مربها

ويتضح هذا من أن هذا الفصل يشمل أحد عشر فصلا فرعيا، أما الفصل الخامس ذروة فقد جعل عنوانه "بعد حرب أكتوبر" وتحدث فيه عن عمله في هيئة الرقابة الدوائية، وعن عمله في جامعة الكويت، وأما الفصل السادس فقد جعل عنوانه "عشر سنوات في الأردن" وتحدث فيه عن تجربته كنائب لرئيس الجامعة الأردنية، وعن تجربته في العمل مع الجامعة المفتوحة في القدس، وفي الفصل السابع والأخير بلور.

صاحب هذه المذكرات كثيرا من تجربة حياته وتأملاته ومساهماته في الحياة العامة، ومع هذا كله استطاع مؤلفها أن يضيف غلى الكتاب ما يلخص لقطات من حياته في 37 صورة جعل لها ملحقا سماه ملحق الصور ورتبها بحيث وضع كل صورتين في صفحة.

(2)

وفي كل فصول الكتاب التزم احب هذه المذكرات غلى أقصى حد ممكن بل إلى أبعد من الممكن بالاختصار الشديد والتركيز الأشد، فهو لم يختصر ليقلل سطور ما كتب وإنما كان يختصر عامدا متعمدا مظهرا قدرة أروع على بلورة الفكرة والتجاوز عن هوامش الفكرة، وهو حين يفعل هذا يتجاهل رغبات كثيرين من القراء والمعاصرين في أن يروا انحيازه إلى أي جانب من الجوانب، وهو وإن كان منحازا بحكم طبيعته البشرية إلا أنه وقد أخذ نفسه بمبدأ التسمامي عن الانحياز قد أصبح من السهل عليه أن يتجاوز تالمواضع الشائكة من الأحداث في سهولة ويسر، وأن ينتقل إلىالمجرى العام للأحداث التي تواكب بعد ما تجاوزت الصراعات.

على هذا النحو نجد موقف المؤلف من أحداث 15 مايو 1971 فهو يروي لنا الوقائع التي مر بها حين كان فب باريس قوع ما وقع، ولكنه يذكر كذلك حضوره اجتماع اللجنة المركزية العاصف ويقتصر فيما يرويه على دهشته أن يحدث هذا الذي يحدث مما لم يكن يمكن تصور وقوعه في عهد عبد الناصر..

هكذا ليس إلا ولكن المؤلف يروي بعد هذا الحديث رواية تصور لنا حرصه على لقاء شعراوي جمعة باعتباره نائب رئيس الوزراء للخدمات، قبل سفره في أول مايو 1971، وهكذا يوحي لنا عبد الوهاب البرلسي أنه كان على علاقة ممتازة بضحايا 15 مايو، وأنه مع هذه العلاقة لم يكن يدري من أمر الخلاف الحاد شيئا، ثم إنه بعد هذه العلاقة استمر وزيرا لعدة شهور

وهكذا يستطيع القاريء أن يستنتج أن صاحب هذه المذكرات لم يكن من المؤمنين تماما بحتمية أو ضرورة ما فعله أنور السادات من الإطاحة بخصوم 15 مايو، ولكن الذين يريدون تعمق آراء السياسيين التكنوقراطيين فيما حدث في مطلع عهد السادات لا يمكنهم أن يقبلوا الأمر على علاقته على هذا النحو

وإنما سيفكرون في الأمر من زاويتين أخريين، الأولى أن كتاب الدكتور البرلسي يصدر عن دار المستقبل العربي التي يمتلكها محمد فائق وزير الإعلام الأسبق وأحد ضحايا 15 مايو، ومعنى هذا أن أقصى ما أمكن للمؤلف من مجاملة لمجموعة 15 مايو أنه حاول تقليل جذور الخلاف عند ما عرضه..

أما الزاوية الثانية فهي أن عبد الوهاب البرلسي كان قد سبق له أن نشر بعضا من ذكرياته في حديث مع الأستاذ ضياء الدين بيبرس وقد نشر هذا الحديث بعد ذلك في كتاب، وتعرض بعده البرلسي لهجوم أمين هويدي وزير الدولة والحربية ورئيس المخابرات في آخر عهد عبد الناصر الذي اتهمه صراحة بأنه يبحث لنفسه عن مكان وسط موجات الهجوم على عبد الناصر

وهكذا كان على مؤلف هذا الكتاب أن يوازن في مثل هذا الحديث بين عوامل كثيرة، ولكن الأهم من هذا كله أننا عندما نواصل قراءة الأحداث نجد ما لم ينشر من قبل رغم طرافته من أن أربعة من وزرائنا في وزارة 15 مايو كانوا في باريس في تلك الليلة المشهورة، اثنان منهم استمرا في الوزارة وهم الدكتور عبد الوهاب البرلسي وعصمت عبد المجيد واثنان آخران استدعيا ليتوليا مواقع وزاية

وكان هذان الاثنان من باب الطرافة أيضا من معاوني صاحب المذكرات نفسه في المهمة التي كان فيها في باريس فالدكتور إسماعيل غانم وكان مندوبنا الدائم في اليونسكو عين وزيرا للثقافة، ومصطفى كمال طلبة وكيل وزارة التعليم العالي الذي كان مرافقا للدكتور عبد الوهاب البرلسي وزير التعليم العالي في اجتماعات اليونسكو فقد اختير وزيرا للشباب أما عبد الوهاب البرلسي نفسه فقد عين وزيرا للبحث العلمي بدلا من التعليم العالي وخلفه في التعليم العالي الدكتور محمد مرسي أحمد رئيس الجامعة الأم (القاهرة).

(3)

وهكذا تتضح لنا من قراءة هذه المذكرات أبعاد كثيرة من ضخصية مؤلفها، وإن ظلت ابعاد أكثر منها وأعظم بعيدة عن أن يتناولها الرجل العظيم المتواضع بقلمه، ولعل من أبرز هذه الأبعاد ما تعكسه كلمات الإهداء التي قدم بها البرلسي كتابه فحرص على ذكر طوائف كثيرة من عارفيه على سبيل الحصر بحيث يمكن استنتاج انعدام ارتياحه إلى أماكن وكليات أخرى لم يشأ أن يذكرها في الإهداء.

وعلى غلاف الكتاب وفي صفحته الأولى حرص المؤلف على أن يكتب اسمه بدون اقتران بلمة دكتور، وعلى هذا النحو نجد تواضع المؤلف حين يتحدث عن نشأته فيذكر صفات أخويه

ولا يذكر صفات شخصه فيقول:

" ما زلت أذكر المنزل رقم (5) بحارة السنان المتفرعة من شارع المغربلين بالقاهرة القديمة.. ذلك المنزل الذي كانت تسكنه أسرتي في العشرينات من القرن الحالي، والذي شهد سنوات تحكويني الأول بين أحضان أم صابرة مكافحة، ورعاية أب تقي ورع هو الشيخ "على البرلسي" الذي تشرب منه أخي "إبراهيم" صلاحه وتقواه، وورث عنه أخي "جمال" الكثير من انفعالاته كالغضب السريع والهدوء الأسرع".

وحين يحدثنا في تواضع مرة أخرى عن السبب في تمنيه دراسة الطب دون أن يستطيع تحديد سبب واضح لهذه الأمنية فيقول

"وإلى اليوم لا أعرف إن كان حزني على وفاة أبي متأثرا بمرضه، أم حبي للدكتور محمد سليمان، أم الأمرين (يقصد: الأمران وهذا من الأخطاء النادرة في هذا الكتاب) معا أو شيء آخر هو الدافع وراء الفكرة التس تسلطت على ذهني عام 1934، ولم أكن قد بلغت الرابعة عشرة من عمري وجعلتني اقدم على كتابة لافتة أنعت نفسي فيها بلقب الطبيب الدكتور عبد الوهاب البرلسي".

(4)

وعلى الرغم من أن مؤلف هذا الكتاب قد التزم في مذكراته بما نلتزم به جميعا نحن المصريين حياء وخجلا من عدم ذكر اسم الزوجة أو الأم مع الاعتراف لهما بالفضل الذي هما أهله إلا أنه مع ذلك لا ينسى أبدا أن يظهر اعتزازه بزميلة دفعتهم الطبيبة العظيمة زهيرة عابدين وزميلتها تحية فهمي

فيقول في معرض الحديث عن دفعتهم:

" فعددنا في كلية الطب لم يكن يتجاوز التسعين طالبا وطالبة، ورغم القلة النسبية في عدد الطالبات الذي لم يتجاوز الست عشرة طالبة، فإن ذلك لم يحل دون بروز بعضهم مثل د. زهيرة عابدين التي كانت قد حصلت على الترتيب الأول على مستوى القطر المصري في شهادة البكالوريا عام 1938 ، ثم واصلت تفوقها بعد ذلك
واشتهرت بجهودها في ميادين الخدمة الاجتماعية، وخاصة بين الطلبة المرضى بروماتيزم القلب، واستمر عملها الاجتماعي التطوعي هذا حتى بعد تقاعدها من عملها كأستاذ لطب الأطفال... وتميزت أيضا تحية فهمي التي أصبحت فيما بعد استاذ الباتولوجيا الإكلينيكة. وإن كانت شهرتها كطالبة متميزة وأستاذة ناجحة قد جاءت تالية لشهرتها المبكرة فيما بيننا كطالبة رياضية، علاوة على أنها كانت لوحيدة التي تأتي إلى الكلية بسيارة فورد يقودها سائق خاص".

وهكذا كنت أنتظر من صاحب هذه المذكرات أن يحدثنا عن شريكة حياته بشيء أكثر من تقدير فضلها، شيء أكبر من مجرد السطر العابر والوحيد الذي جاء في صفحة 25.

(5)

على أن مما يحسب للمؤلف أنه استطاع في هذا الكتاب أن يضع في المكتبة العربية أول فقرات منصفة تحدثنا عن جهود "جماعة الرواد" تلك الجماعة الرائدة في مجال الخدمة الاجتماعية التي قدمت لوطننا كثيرا من الخدمات الرائدة منذ نشأتها المبكرة، يقول البرلسي "لفت اهتمامنا بالخدمة العامة إبان الدراسة بكلية الطب نظر القائمين على "جماعة الرواد"

وكانوا من المثقفين المتصدين للخدمة العامة والعمل التطوعي، فدعونا عقب التخرج إلى حفل متواضع في نادي المعلمين في شارع عماد الدين بوسط القاهرة، وشرح لنا أعضاء الجماعة أهدافهم ووسائلهم في تحقيق هذه الأهداف، وأن شعار الجماعة هو "قوة الوطن في قوة الفرد.. فلنبدأ بأنفسنا"

وكان للجماعة أندية في الأحياء الشعبية تسمى "محلات الرواد" ، تقدم لأبنائها - وهم من أبناء الطبقة العاملة - خدمات رياضية وتثقيفية واجتماعية يشرف عليها أعضاء الجماعة بأنفسهم، وكان أسلوب الانضمام إلى هذه الجماعة هو التطوع للخدمة في إحدى محلاتها، ويتم الحكم على صلاحية المتطوع لعضوية الجماعة بمدى التزامه بأداء تلك الخدمة واستمراره في العطاء.

وكان أن تطوعت للعمل في إحدى هذه المحلات وهي "محلة الطيبي"، وتطوع صديقي "عثمان سرور" للعمل في محله القللي وقد أصبحنا "عثمان سرور" وأنا عضوين في جماعة الرواد، وتعلمنا الكثير من خلال تلك العضوية، حتى بد أن قل عملنا في الأندية الشعبية بعد شيوع فكرتها وانتشارها في أحياء كثيرة، واعتمادها أساسا على موظفين فنيين من خريجي كليات ومعاهد الخدمة الاجتماعية..

ثم انتقلت أنشطة جماعة الرواد إلى شباب الجامعات مع الاحتفاظ بأنشطة المحلات، فأقامت الجماعة معسكرات صيفية لهؤلاء الشباب تحت إرشادات وإشراف أعضاء الجماعة، ومن ضمنها برنامج ثقافي وترفيهي محدد، وكانت تلك المعسكرات تقام بمنطقة "سيدي بشر" بالإسكندرية قبالة البحر مباشرة

وكانت هذه المنطقة آية في الجمال والروعة قبل أن تتحول إلى غابة من الأسمنت المسلح تحت مسميات الأبراج. كان ذلك في الحمسينات ، وقد سعدت بإشرافي على أحد هذه الأفواج، وأقمت وأسرتي الصغيرة مع الطلاب وكان والداي "هشام" و "خالد" يسعدان بالانتظام معنا في طابور الصباح لتحية العلم وكانا آنذاك في مرحلة الطفولة.. وحدث مع معسكرات الشباب ما سبق وحدث مع محلات الرواد، فالفكرة انتشرت انتشارا سريعا، وتولت هيئات حكومية متعددة مهمة الإشراف عليها...فكان علينا أن نمارس عملا آخر.

فنشأت فكرة الدراسات الفنية المتخصصة، وشرعنا في تكوين "لجنة أطباء الرواد" واتفقنا على أن نعقد اجتماعاتنا بشكل دوري في منازلنا لنتباحث في الأمور والموضوعات التي تملى عليها أهميتها الاجتماعية وكنا ننشر نتائج تلك الدراسات والمناقشات في كتيبات حملت اسم "جماعة الرواد" وكانت الأمور التي تركزت عليها تلك الدراسات بطبيعة الحال أمورا طيبة أو اجتماعية مثل "التعليم الطبي في مصر" و"مشكلة الأدوية " وما إلى ذلك".

وينتهز صاحب هذه المذكرات فرصة عن نشاط جماعة الرواد ليبدي رأيا صريحا وقويا في برامج تنظيم الأسرة يكرره بعد ذلك في كتابه مع أنه لم يكرر شيئا فيه إلا هذا الرأي وذلك حيث يقول :ر

" وكان من أهم الموضوعات التي بحثتها اللجنة أسباب قصور برامج تنظيم الأسرة، ذلك الموضوع الذي لا يزال قيد الدراسة والتجارب حتى وقتنا هذا، ولقد كانت وجهة نظري ولا تزال أن أسباب قصور برامج تنظيم الأسرة تنحصر في انخفاض نسبة التعليم، وتدني مستوى الوعي الصحي بشكل عام
فالوعي الصحي جزء لا يتجزأ من الدائرة التعليمية، على وسائل وأساليب وقنوات إقناع الناس بتنظيم الأسرة في وقت تشكل الأمية فيه نسبة لا يستهان بها في المجتمع، فالأمي بشكل عام لا يمكنه تقدير العواقب الوخيمة التي تخلفها بعض العادات والتقاليد..
فإذا أضفنا غلى ذلك أننا نعيش في مجتمع تحكمه القيم الدينية التي يتصور البعض خطأ أنها تتعارض مع سياسات تنظيم السرة.. لأدركنا أهمية التعليم كضمانة لا بديل عنها في إنجاح مثل هذه السياسات.. لذلك أتساءل .. أولم يكن من الأنفع والأجدى لو أن الملايين التي ضاعت في سياسات قاصرة كانت قد أنفقت في مجال التعليم.. ؟سؤال أعتقد لا يزال مطروحا إلى الآن".

(6)

ولبنفس القدر من وضح الفكرة والعبارة وقوة الحجة والمنطق نطالع رأي المؤلف العظيم في قضية ثانية وهي لغية تعليم الطب، وضرورة التحول إلى اللغة العربية والتأليف به

وها هو يقول في كتابه:

"اليوم وأنا استمع إلى المدرسين الجدد في كليات الطب يتحدثون الإنجليزية بأخطاء فادحة لا أرى مبررا لاستمرارها، خاصة وأن تجربة التعريب قد نفذت بنجاح في أكثر من دلة عربية، وإن كان ذلك دون تنسيق مع بقية الدول العربية

الأمر الذي أدى إلى اعتماد كل دولة لمصطلحات مختلفة عن الدولة الأخرى، وأذكر أنه في أثناء الوحدة مع سوريا جاء الدكتور "عزت مريدن" عميد كلية طب دمشق وتحدث عن "الحبن" وعرفنا أن ذلك يعني وجود المياه في البطن، ونحن في مصر نسمي هذه الحالة "استسقاء" ..

أيضا حدث بعد استقلال الجزائر بعام أو عامين أن عقدنا مؤتمرا بدار الحكمة عن الطب العربي، وتحدثت بالإنجليزية فإذا بأحد الحاضرين يرفع يده وقال إنهم في الجزائر يتحدثون بالفرنسية. فأكملت محاضرتي باللغة العربية. ولقد بذلت جهود عديدة للتغلب على عقبة تعد الترجمات العربية للمصطلح الغربي الواحد.. فاجتمعت منظمة الصحة العالمية بمندوبين عن الدول العربية، وتم وضع فهرست للمصطلحات الطبية، وقد كان ذلك عملا جيدا ولكن غير كاف.

تأتي بعد مسألة التأليف التي يجب أن نركز عليها في قضية التعريب، خاصة وأن بعض مؤلفينا يكتبون بالإنجليزية وهم غير متمكنين أساسا منها.. لذلك يجب أن نبدأ بمحاولات التأليف وتدريس بعض المواد مبدئيا بالعربية، مثل الصحة العامة والطب الشرعي.

فما معنى أن أدرس الصحة العامة للطلبة بالإنجليزية وأنا أعلم أنهم سيستخدمونها فيما بعد بالعربية، وما معنى أن أدرس الطب الشرعي بالإنجليزية وكل تقارير الطبيب الشرعي تكتب بالعربية..؟ فإذا اتفقنا على كل ما سبق.. تبقى بعدذ لك القضية الجوهرية والحيوية وهي التمكن من اللغة العربية.. فلا يجوز إطلاقا من الناحية العقلانية أو الوطنية أن أكون – كمتعلم- جاهلا بلغة وطني.

أو أن أتباهى بقدرتي في لغة أجنبية في وقت تنعدم فيه هذه القدرة مع لغتي الأصلية.. فإتقان العربية أساس عملية لتعريب، ويجب أن تصل درجة الإتقان ليس فقط في النطق والتخاطب والكتابة، وإنما في الترجمة منها وإليها.

(7)

ويتحدث صاحب هذه المذكرات عن علاقته بالإخوان المسلمين، ويأتي حديثه عن هذه الجماعة متوافقا مع اما استقرت عليه صورتها في الوجدات المصري سنة 1992 حين نشر كتابه وهو يقول:

" كنت في هذه الأثناء أسكن في حي الحلمية الجديدة وكان للإخوان المسلمين مقر بجوار سكني، وكان الطابق الأرضي لهذا المقر مخصصا لمستوصف للخدمة الطبية - فتطوعت للعمل فيه وكان مديره هو الدكتور " محمد أحمد سليمان" ، وكان منتميا لجماعة الإخوان ..
وفي هذه الأثناء تقابلت مع "حسن البنا" المرشد العام للإخوان وكانت له شخصية آسرة، ويتمتع بهدوء شديد وكان اقتناعه بما يؤمن به لا يقبل الشك أو المجادلة، ورغم تطوعي للعمل في مستوصف تابع للإخوان، ورغم إعجابي بشخصية حسن البنا..
إلا أن فكر الإخوان لم يجد طريقه إلى عقلي الرافض مبدئيا لمسألة الربط فيما بين الدين والدولة، غير أن عدم الاقتناع بالإخوان كتنظيم لم يحل دون مشاركتي لهم في دورهم التطوعي، شأني في ذلك شأن أطباء غيري شاركوني العمل في ذات المستوصف، مثل الدكتور "على المفتي" والدكتور "لطفي أبو النصر" وغيرهما".
وإلى جانب الجيش والهلال الأحمر قررت جمعة الإخوانالمسلمين إرسال بعثة طبية غلى سوريا، وعرض علي فوافقت على الفور، وتشكلت بعثتنا الطبية يأسها الدكتور "محمد سليمان" . ولم تكن تلك المناسبة هي الأولى التي أسافر فيها في مهمة بعد تخرجي في كلية الطب فحسب، ولكنه أيضا كانت بداية حب جارف جمعني بهذا البلد الحبيب الذي خصه الله بطبيعة خلابة ساحرة، وشعب لا يضل الطريق إلى القلب أبدا.

سافرنا بالقطار الذي كان يصل القاهرة بالشام.. فمررنا على القدس ويافا في الطريق إلى دمشق، وقد كانت رحلة رائعة لا إمكانية لتكرارها الآن بعدما حال العد الصهيوني بين مشرق الوطن ومغربه.

(8)

وفي فقرتين اثنتين يلخص مؤلف هذا الكتاب – كعادته - رأيه الهام جدا فيما تحقق من إنجاز في قطاع الدواء في مصر (وهل ثالث قضية يتناولها بوضوح وصراحة) فهو يعتبر التأميم خطوة ناجحة، وهو ينسب الفضل في تطوير الصناعة الدوائية إلى الدكتور عده سلام وفي هيئة الأدوية إلى الدكتور عزيز البنداري

وهكذا لا يكتفي البرلسي بالحديث عن النجاح وإنما يبرز لنا من كانوا وراء هذا النجاح ولابد ولابد أن نشكره على هذا، للقاريء أن يقرأ معنا ما كتبه الدكتور البرلسي حيث يقول :

" وكان من الخطوات التي اتخذتها الثورة ، تمصير البنوك وشركات التأمين، ثم تأميم الصناعات الأساسية ومنها صناعة الأدوية. وقد عين الدكتور " عبده سلام" رئيسا للمؤسسة المصرية العامة للأدوية عند بدء نشاطها عام 1962 وبذل في تطوير الصناعة الدوائية والنهوض بها جهودا جبارة، أدت إلى تقدم هذه الصناعة فنيا واقتصاديا بشكل فاق كل تصور
حتى وصل الإنتاج الدوائي المحلي إلى 85% من الاستهلاك في أقل من خمسة عشر عاما منذ بدء التأميم. وكذلك كان إنشاء الهيئة العليا للأدوية من الخطوات لهامة والكبرى التي اتخذتها الثورة في عام 1957، وقد عين الدكتور عزيز البنداري مديرا عاما لها، وخلال الأعوام التالية على إنشاء الهيئة سجلت جميع البيانات الخاصة بالدواء المحلي والمستورد كمبيوتريا لأول مرة في مصر
وعملت اللجان الفنية التي شكلتها الهيئة على تخفيض الكم الهائل من الأدوية التي جاوزت 25000 مستحضر قبل الإصلاح، إلى أن أصبحت 2500 مستحضر تفي باحتياجات الخدمات الصحية على أساس الاحتياجات الفعلية التي يقررها الواقع وتحددها الهيئة العليا للأدوية، والمؤسسة المصرية العامة للأدوية.

(9)

أما القضية الرابعة التي يتناولها مؤلف هذا الكتاب في مذكراته بكل وضوح فهي نشاط أندية الروتاري في مصر، ويتعمد البرلسي أن يتحدث بشيء من التفصيل عن طبيعة نشاط هذه الأندية (ص 45 وص 46) وعن مشروعاتها

ثم يجاهر برأيه في هذا الموضوع فيقول:

" وقد ذكرت كل هذه التفاصيل عن أندية الروتاري لأن هناك حملة تطفو على السطح بين الحين والآخر بهدف التشكيك في أهداف تلك الأندية التي وصل عددها في مصر إلى 25 ناديا، أقدمها روتاري القاهرة الذي أنشيء عام 1929، وكلها معترف بها ومسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية.
وتدعى هذه الحملات أن الحركة الروتارية مرتبطة بالحركة الصهيونية والحركة الماسونية، وأنا شخصيا لا أعرف إلى الآن ماهية الحركة الماسونية.. أما الحركة الصهيونية فقد عرفنا ماهيتها وأهدافها وأساليبها.
وليس من المنطقي أن أعلم أنا أو غيري من أعضاء هذه الأندية، الذين لا يمكن لأحد أن يشكك في وطنيتهم، أن الصهيونية مرتبطة بالحركة الروتارية ونظل أعضاء عاملين بها وحتى الآن فإن أحدا ممن يوجهون الاتهامات إلى الروتاري لم يقدم أي دليل على هذه الاتهامات رغم انتظارنا لهذا الدليل الذي إن وجد فسوف أكون أول من يهجر الأندية، يل وسأتحول رغم قدم عضويتي بها إلى أشد المهاجمين لها.. بشرط أن يقدم إلينا الدليل الذي يثبت اتصال أندية الروتاري- ولو من بعيد- بالحركة الصهيونية".

(10)

وعن العلاقات الثقافية مع الاتحاد السوفيتي (وهي خامس قضية يصارحنا فيها برأيه) يذكر البرلسي بصراحة طبيعة المنح التي كان يقدمها الاتحاد السوفيتي، وموقفه كوزير للتعليم العالي من هذه المنح بما يعطي الانطباع بصدق ما أثير كثيرا عن طبيعة هذه الدراسات التي كانت تتاح لخريجينا وطلابنا في الاتحاد السوفيتي وذلك حين يتحدث عن عمله وزيرا للتعليم العالي

فيقول:

" وتفرغت للسياسة العامة للتعليم العالي والجامعي والعلاقات الثقافية مع الدول التي تساعد مر في دعم الدراسات العليا والبحث العلمي عن طريق المنح الدراسية، وكان في مقدمة تلك الدول في ذلك الوقت الاتحاد السوفيتي الذي كان يقدم لنا 150 منحة دراسية على مستوى الدكتوراه في فروع العلم التي لم نكن قادرين وحدنا على تقديمها للشباب ومنها الفيزياء
وعلم الذرة والرياضيات المتقدمة وغيرها، على أن يتم سفر المبعوثين عادة بعد حصولهم على درجة الماجستير من جامعاتهم، وكان الاتحاد السوفيتي تحكمه أيديولوجية محددة بود استقطاب الخريجين الجدد الحاصلين على الثانوية العامة لهذهالمنح، ولكننا صممنا على سياستنا، بل ورفضنا إرسال منح لنيل الدكتوراه في العلوم الإنسانية وشرحنا للاتحاد السوفيتي أننا نستفيد من تلك المنح لدعم ما لا يمكننا إنجازه في بلدنا"

(11)

ومن أكثر عبارات هذا الكتاب دقة موضوعية تلك الفقرة التي يتحدث فيها صاحب المذكرات عن المحافظين الأربعة الذين تعاقبوا على أسيوط حين عمل بها عميدا لكلية الطب فوكيلا للجامعة فمديرا للجامعة، وقد كانت له علاقة وثيقة باثنين من هؤلاء عاصراه كوكيل للجامعة وكمدير لها فلنقرأ رأيه في هؤلاء جميعا

حيت يقول:

" وقد كانت علاقتي بالسيد "حسونة" رسمية، وبالسيد "سعد زايد" أخوية، أما مع كل من السيدين أحمد كامل ومدوح سالم فكانت متميزة رغم اختلاف شخصية كل منهما، وتمايز كل منهما عن الآخر في أسلوب وطبيعة العمل وفي علاقته مع الناس..
فكان أحمد كامل إنسانا بكل معنى الكلمة. وطني غيور يحب بلده حبا لا يضاهيه حب آخر، وكان يثق في الشباب ويؤمن بحيوية دورهم، فكان يخدمهم ولا يضن عليهم بوقته وجهده - ولم يكن بالمسئول الذي يكتفي بالجلوس بمكتبه لإدارة مشكلات المحفظة دون التصاق بهذه المشكلات..
ولكنه كان حريصا على الاطلاع على مشاكل الناس وآرائهم وشكاواهم منهم مباشرة من خلال زياراته لمراكز أسيوط العشرة، ليس فقط لأهمية موقعه كمحافظ لأسيوط، وإنما أيضا لحساسية دوره كمسئول التنظيم الطليعي بها.. ولا أدري إلى الآن ماذا كانت التهمة الموجهة إلى أحمد كامل في المحاكمات التي تلت 15 مايو من عام 1971.
أما "ممدوح سالم" فكان إنسانا مهذبا جم الأدب، زرت مع المحافظة لكل مراكزها هو كمسئول تنفيذي وأنا كمسئول سياسي فقد كنت أمينا للاتحاد الاشتراكي العربي في محافظة أسيوط بجانب عملي كرئيس للجامعة. وكان تعاوننا مثالا يحتذى في العمل السياسي.
وخلال تلك الزيارات شاهدنا الكثير وتعلمنا الكثير، ولا أدري ما الذي يعوق تعديل قانون الإدارة المحلية بما يجعله حكما محليا كاملا إذ أن المحافظ الكفء يعرف مواطن القوة ومواطن الضعف في محافظته، ومدى وأسلوب تقديم الخدمات إلى المواطنين وحاجتهم الفعلية إلى تقديم إحداها على الأخرى، من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية. أما الوزير المتمركز في القاهرة فلا يمكن أن تتاح له نفس الفرصة للإحاطة بكل هذه الأمور".

(12)

ربما كانت أخطر فقرة في هذا الكتاب هل تلك التي يروي فيها البرلسي موقف كبار رجال الدولة كل في موقعه من أحداث تظاهرات جامعة الإسكندرية في 1968 وفي هذه الفقرات يصرح صاحب المذكرات بعدة حقائق هامة منها موقف النائب العام في ذلك الوقت، وقصة قوائم الطلاب المعدة للفصل ، ووقوف واحد من أساتذة الجامعة ضد تقاليد الجامعة باقتراحه تعديل قانونها لتمكين الدولة من فصل الطلاب، والحقيقة الرابعة تتعلق بدور هيكل في نقل رأي البرلسي "الوزير الجديد" إلى عبد الناصر

والخامسة تتعلق بروح عبد الناصر المسئولة الودودة التي كانت تنتظر من البرلسي أن يصارح الرئيس مباشرة برايه، والسادسة هي دور عبد الناصر كصمام أمن قوي ضد رعونة بعض معاونيه الذين سرعان ما يتحول رايهم إلى هلامات.. وليس من سبيل إلى تصوير كل هذه الحقائق إلا بقراءة رواية صاحب المذكرات كاملة

حيث يقول في كتابه الصغير القيم:

" لم تكن تمضي ثلاثة أسابيع على عملي وزيرا للتعليم العالي، (والوزير في نفس الوقت رئيس المجلس الأعلى للجامعات والمتحدث بسمها في مجلس الوزراء)، حتى فوجئت بتظاهرة كبيرة تخرج من كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، ولم يكن تظاهر الطلبة في عام 1968 مستغربا عقب نكسة يونيو عام 1967 ، وعقب تظاهرات جامعة القاهرة في شهر فبراير 1968 كما ذكرت
وإنما أدى تصرف مدير الأمن ’نذاك مع المتظاهرين إلى زيادة توتر الموقف واعتصام الطلب في كلياتهم بالإسكندرية بل والاحتفاظ برئيس الجامعة معهم عندما ذهب إليهم لتحري الأمر.
حدث ذلك يوم سبت، وكان الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوراء مساء الأحد، وقدرت أن علي أن اقدم تقريرا إلى المجلس بما حدث.. فقررى السفر غلى الإسكندرية صباح الأحد لاستطلاع الأمر والاجتماع برئيس الجامعة آنذاك "الدكتور حسن بغدادي" ومحافظ الإسكندرية الديق "أحمد كامل" الذي كان محافظا لأسيوط
وزرت موقع كلية الهندسة وناقشت الموقف بعد اطلاعي على تفصيلاته وعدت في المساء، وقدمت تقريري غلى مجلس الوزراء، فراى جمال عبد الناصر بعد الاستماع إلى ما حدث أن تشكل لجنة من الوزراء الجامعيين ومن أمانة الاتحاد الاشتراكي "وكان الأمين العام آنذاك السيد عبد المحسن أبو النور" لبحث الأمر واقتراح الأسلوب الأمثل لعلاج الموقف.
كما آنذاك في شهر رمضان المبارك، وكانت اجتماعات اللجنة تبدأ بعد صلاة العشاء وتستمر إلى ما بد منتصف الليل، وقد فوجئت بما حدث في هذه اللجنة وبما دار فيها من مناقشات فقد رايت النائب العام يحضر الاجتماع، ورأيت عدة قوائم تتضمن أسماء (المتهمين) بالشيوعية أو بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين وربما غير هؤلاء وهؤلاء.. واقتراح فصلهم من الجامعة.
احنفظت بهدوئي ولو أني قلت لنفسي.ما كان أغناني عن هذا المنصب وقد كنت سعيدا برئاسة جامعة أسيوط..؟، ولما جاء دوري في النقاش أفهمت الحاضرين بهدوء حازم أن وزير التعليم العالي ليس من سلطته فصل أي طالب من الجامعة، وأن عقاب الطلاب يتأتى عن طريق لجنة التأديب في الجامعة، ولهذه اللجنة تشكيلها وسلطاتها..
وكانت المفاجأة الكبرى أن أحد الحاضرين، وكان أستاذا جامعيا من قبل اقترح أن يعدل قانون الجامعة بما يسمح بفصل هؤلاء الطلبة وكانت المدة التي مضت على تسلمي شئون وزارة التعليم العالي غير كافية لأعرف الرئيس جمال عبد الناصر عن قرب، كما عرفته فيما بعد، وحتى أشرح له الأمر وما دار في اللجنة وما طرح من آراء وعدم موافقتي عليها.
وكان اليوم التالي موعدا لاجتماع اللجنة المركزية.. وعند مدخل القاعة قابلني الأستاذ حسنين هيكل وسألني عن الحال.؟ فأخبرته بأن الحال لا يسر، وأن بعض أعضاء اللجنة انتهز الفرصة لتسوية حسابات قديمة، ويريدون فصل بعض الطلاب فصلا تعسفيا، وأني لا أقر هذا الأسلوب بأي حال من الأحوال."

فكان أن نقل الأستاذ هيكل هذه الصورة إلى الرئيس عبد الناصر .. وفي صباح اليوم التالي وبينما كنت أخضر اجتماع إحدى اللجان الوزارية بمبنى رئاسة الوزراء.

إذا بالرئيس جمال عبد الناصر يطلبني تليفونيا ويسألني: يا أخي لما أنت مش موافق على كلام الجنة مش تقول لي؟ وحدد لي موعدا للقائه في اليوم التالي، وفي اجتماعي به، حكيت وحكيت وأبديت استيائي لما حدث في اجتماعات اللجنة.. فاستمع عبد الناصر بتركيز واهتمام شديدين.. وانتهى الاجتماع دون أن يبدي عبد الناصر سوى ابتسامة تنبيء بتفهم عميق.

وفي الاجتماع التالي للجنة لم يحضر النائب العام، ولم أجد أثرا لقوائم الطلبة واقترح نفس الأستاذ الجامعي عضو اللجنة الذي سبق أن اقترح تعديل قانون الجامعة، أن يترك أمر هؤلاء الطلبه لمجلس تأديب الجامعة يرى في شأنهم ما يري؟ ومجلس التأديب بحكم القانون يراسه نائب رئيس جامعة الإسكندرية المسئول عن الطلاب، وكان آنذاك الدكتور " أنور سلطان" أستاذ القانون، ولكنه تنحى عن قبول هذه المهمة.

فأسندت رئاسة اللجنة إلى أقدم العمداء وكان الدكتور " محمد لطفي بيومي" وبعد التحقيق في الأمر صدر قرار مجلس التأديب بفصل أحد اطلبة لمدة عامين "وكان زعيم الاعتصام وفصل طالب آخر لمدة عام دراسي واحد، وفصل عدد قليل من الطلبة لمدد أقل.

(13)

ويجاهر صاحب المذكرات على صفحاتها بانتقاد الحال الذي وصل إليه كل من فرع جامعة القاهرة بالخرطوم الذي أنشيء عام (1955) وجامعة بيروت العربية (التي أنشئت 1960) (وهذه هي سادس قضية يتناولها بكل الوضوح والصراحة)..

فهذا هو رأي أحد وزراء التعليم العالي السابقين ورؤساء الجامعات الذي لابد لنا أن نقدره ونقدر دوافعه المخلصة إليه يقول الدكتور البرلسي:

" وقد أنشيء فرع جامعة القاهرة بالخرطوم خدمة لأشقائنا في السودان، والذين كانوا يعانون الكثير من العقبات والمشكلات في الانتقال غلى مصر لتلقي علومهم الجامعية، وقد كانت فرص التعليم في هذا الفرع مقصورة على أبناء السودان وعلى المصريين الذين يعمل أولياء أمورهم في السودان.
وكما يعلم الجميع فقد شوهت ظروف وأخلاقيات وقيم الانفتح معظم الأهداف الحضارية التي أنشيء من أجلها فرع الخرطوم.. وأصبحت الفوضى هي السائدة في هذا الفرع الذي استخدم كأحدى وسائل الاحتيال، حيث يقيد الطلبة المصريون الحاصلون على معدلات ومجاميع ضعيفة في الثانوية العامة المصرية
وقد يسافرون للانتظام في الدراسة أو يكتفون بالتسجيل علىالورق فقط، حتى يتثنى (يقصد: يتسنى وهذا خطأ من ألأخطاء النادرة في هذا الكتاب) لهم التحويل بعد عام واحد إلى جامعة القاهرة .. أيضا تسوءني بعض لآراء القاصرة التي تنتقص من أهمية إنشاء فرع الخرطوم وتعتبره نوعا من الترف أو التبذير، أوتعتبره عملا استهدف عبد الناصر من خلاله مد شعبيته وزعامته إلى خارج مصر؟
وأما الافتراء الثاني فيدحضه أن عبد الناصر الذي انزرع في قلب ووجدان كل عربي ، لم يكن بحاجة إلى إنشاء ذلك الفرع اللهم إلا في أوهام المفترين.. أما القول بأنه ضرب من التبذير والترف فيدل على عجز تام في استيعاب معنى ومضمون الدور الحضاري الرائد، وأسس التكافل والتكامل فيما بين العرب.. تلك الأسس التي يعود لها الفضل الأول في استعادة مصر لدورها الرائد والقائد في الوطن العربي.
أما جامعة بيروت العربية فقد أنشئت كما ذكرت غب عام 60/1961 كخطوة استهدفت بالأساس دعم موقف المسلمين في لبنان والذين كانوا يفتقرون غلى أبسط أشكال الدعم والمؤازرة، في وقت كانت المحنة الطائفية في لبنان تبلغ إحدى ذراها.
وقد بنيت الفكرة بالأساس في ذهن القائمين على جمعية البر والإحسان اللبنانية، وكانت مصر هي الداعم الوحيد ممثلا في جامعة الإسكندرية، التي ترتبط أكاديميا بجامعة بيروت العربية، بدءا بتزويدها بأعضاء هيئة التدريس والمعارين والزائرين الأساتذة، حتى منح الدرجات العلمية والدبلومات للخريجين، مرورا باعتماد اللوائح الداخلية واشتراك أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية في لجان وضع وتصحصح امتحانات بيروت العربية، وما إلى ذلك من النواحي الفنية والأكاديمية الأخرى.
وكما أفسد الانفتاح تجربة فرع الخرطوم،فعل مع جامعة بيروت العربية، وأصبح السواد الأعظم من الطلبة المقيدين في السنة الأولى بالجامعة من المصريين الذين يقومون بالتحويل إلى الجامعات المصرية بعد سنة دراسية.
وقد وصلت كثافة أعداد المصريين غلى درجة أنه عندما كانت ظروف الحرب الأهلية تحول دون سفرهم لأداء امتحانات السنة الأولى ببيروت، فإنهم كانوا يؤدونها في جامعة الإسكندرية التي كانت بالكاد تستوعبهم.. وأصبح الإنجاز مجرد تجارة رابحة، وسبيلا للتحايل على قوانين الجامعات، ومصدرا رئيسيا من مصادر التكدس الطلابي".

(14)

وفي موضع من مذكراته يبدي البرلسي قدرا كبيرا من التحفظ على الجامعة الأمريكية في القاهرة حسبما رآها بنفسه فترة توليه وزارة التعليم العالي، ومع هذا فإنه يغلف هذا الراي بأكبر قدر من الدبلوماسية

وذلك حيث يقول:

" وكانت علاقتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت تحت خط الصفر، وكانتالجامعة الأمريكية بالقاهرة تحت الحراسة، ورأيت بنفسي ما لم أكن أعلمه أو أتصوره ومن شئون تلك الجامعة، ومنها على سبيل المثال مستوى الأساتذة بها
فلم يكونوا كلهم من الأساتذة الأكادميين كما تشترط الاتفاقية الخاصة بإنشاء تلك الجامعة، كما لم يكن عملهم الوحيد هو التدريس بالجامعة فيمأ اظن.. فهل تغير ذلك الآن.. أرجو ذلك" وهذه على سبيل العد هي سابع القضايا التي أثارها الدكتور البرلسي في كتابه الصغير القيم.

(15)

وينتهز الدكتور عبد الوهاب البرلسي فرصة حديثه عن جامعة القدس المفتوحة وعمله مستشارا لها فنائبا لرئيسها ليجاهر برايه في التعليم المفتوح في مصر وهي ثامن قضية لا يبخل غيها علينا برأيه الواضح والصارم

ويقول:

" إن ما يجب أن يعيه الجميع هو أن الجامعة المفتوحة ليست فكرة لحل مشكلة الثانوية العامة وضعف المجاميع والمعدلات كما يعتقد البعض، فذلك المفهوم يجب أن يصحح ويستقيم قبل أن تشوه تالفكرة التي شرع في تنفيذها في مصر. أما الهدف منم إنشاء الجامعة فهو تمكين من فاتهم فرصة إكمال التعليم من العودة لمواصلة ما فاتهم، مع مراعاة ظروفهم التي تختلف بالتأكيد عن ظروف الطلبة النظاميين.
وعلى ذلك فمن زيارتي للجامعة المفتوحة في بريطانيا، وجدت أن قانون الجامعة المفتوحة كان يحدد 21 عاما كحد أدنى للانتساب إليها، أما الكثافة الفعلية فكانت تتراوح أعمارهم بين 30 غلى 50 سنة. والطالب في الجامعة المفتوحة لهأن يحدد ما إذا كان يريد التسجيل سنة أو سنتين لمجرد التزود بالعلوم والمعلومات في مجال عمله أو اختصاصه..
أو الاستمرار حتى الحصول على درجة البكالوريوس، وربما الماجستير والدكتوراه.. مع مراعاة أن الطالب في الجامعة المفتوحة قد يحتاج إلى ضعف عدد السنوات التي يحتاجها الطالب الذي لا يتحمل سوى مسئولية التعليم..
كذلك فإن تجربة بريطانيا باعتبارها هي الأساس في كل التجارب اللاحقة، قامت على تقسيم البلاد إلى عدة مناطق تعليمية "13 بريطانيا"، ولكل منطقة كافة الإمكانات اللازمة لإنجاح التجربة في حدودها، حيث لا معنى في أن تقام الجامعة في مقاطعة أو محافظة ليقطع لها الطلاب عشرات أو مئات الأميال للانتساب إليها، وإلا انعدمت إحدى أهم ميزات تخفيف الأعباء على المنتسبين
كما أن الجامعة ترسل لكل طالب كافة الكتب والدروس المقررة، وتدله على "مرشد " قريب من سكنه، وهو شخص حاصل على درجة الماجستير، ومهمته شرح الدروس المستعصية على الطالب، علاوة على مهمته في تصحيح الواجبات والتمارين للطلبة المقيمين في نطاق مسئوليته الجغرافية، وذلك بالطبع بخلاف حضور الطالب في أوقات معينة غلى الكليات لاستخدام المعامل العلمية التي يتولى القائمون على شئون الجامعة المفتوحة استئجارها من الجامعة.
بذلك نجد أن الأمور كلها ميسرة من أجل هدف واحد هو إتاحة فرصة التعليم للجميع ممن فاتهم الفرصة كل حسب ظروفه، ولذلك نجد أنه في الوقت الذي تتراوح فيه أعداد الطلاب في اية جامعة بريطانية ما بين ستة إلى عشرة آلاف طالب في الجامعة الواحدة بكل كلياتها، فإنالمنتسبين إلى الجامعة المفتوحة هناك قد بلغ مائة ألف حسب إحصاءات 88- 1989 وهوعدد قد يبدو كبيرا جدا ولكن ما هو الحال إذا عرفنا أن الجامعة المفتوحة في تايلاند تضم نصف مليون منتسب؟
أما الجامعة الأهلية والتي يخلط البعض أحيانا بينها وبين الجامعة المفتوحة، فما هي إلا مشروع استثماري قد كون جيدا، ولكن الهدف الأساسي منه هو الكسب، وربما كانت هناك أسباب أخرى إضافية مثل الحال في الجامعة الأمريكية التي تعمل على نقل ونشر قيم وثقافات أمريكية، وإلى تمرير أهداف ومرام سياسية بعينها، وإلى ممارسة أدوار أخرى..
إضافة بالطبع إلى هدف الربح والذي ياتي نتيجة المصروفات السنوية الباهظة التي تعد بالآلاف للطالب الواحد، والغريب حقا أن تجد الجامعة الأمريكية في مصر مثلا، كما تقوم علاوة على ما فات بجميع التبرعات، والمدهش أن الاستجابة إلى ذلك عالية وسريعة جدا وبمبالغ كبيرة.

(16)

وأستطيع أن أقول إن هذا الكتاب خلا تماما من الأخطاء التاريخية التي يكون مرجعها إلى الاعتماد علىالذاكرة دون الوثائق، اللهم إلا ذلك الخطأ الوحيد في ص 108 حين يتحدث الدكتور عبد الوهاب البرلسي عن استقباله وهو رئيس لجامعة الكويت في 1974 لزملائه رؤساء الجامعاتالمصرية (وعلى راسهم الدكتور محمد مرسي أحمد رئيس جامعة القاهرة)

فلم يكن الدكتور مرسي وقتها رئيسا لجامعة القاهرة وإنما كان قد تولى وزارة التعليم العالي خلفا للبرلسي نفسه ثم تركها منذ 1972 وأغلب الظن أنه حضر اجتماع رؤساء الجامات باعتباره رئيسا لاتحاد الجامعات العربية كلها وهو المنصب الذي شغله بعد خروجه من الوزارة لأنه لم يعد إلى رئاسة جامعة القاهرة بعد ما خلف البرلسي في منصب الوزارة فقد كان قد تجاوز الستين.

الفصل الحادي عشر : في الأمن والسياسة

مذكرات اللواء حسن أبو باشا

اللواء حسن أبو باشا أشهر من نار على علم في الكفاءة والخبرة الطويلة، وحين أتيح له أن يترك وزارة الداخلية تولى وزارة الحكم المحلي، وحين ترك الأضواء لم يلبث أنعاد إليه في ظروف صعبة وقاسية على النفوس البشرية كلها حين قدر له أن يتعرض لحادث اغتيال مروع ولكنه عاد إلى الحياة وكانت عودته دليلا ناصعا (كما قال الأستاذ خالد محمد خالد) على أن مصاير الناس جميعا عند مليك مقتدر وإن الذين يخروجونه من الحساب يخطئون الحساب.

وحين يتأمل المر حياة مؤلف هذهالمذكرات عند اختياره وزيرا وعند تعرضه للاغتيال وقبل هذين الموقفين طيلة حياته الوظيفية في سلك الشرطة فإنه يهيأ إليه أن الأقٌدار كانت تتحالف مع حسن أبو باشا لتقدمه لنا في الموضع الذي اجتهد البشر أن يبعدوه عنه.

وقد نشر المؤلف في المصور مذكراته وجمعتها دار الهلال في كتاب قيم تحت عنوان "في الأمن والسياسة.. مذكرات حسن أبو باشا" وكتب الأستاذ خالد محمد خالد باسلوبه الكلاسيكي في تقديمه لهذه المذكرات وصفا موجزا لإصابات اللواء حسن أبو باشا ومضاعفاتها إثر عملية الاغتيال

وكان مما كتب :

" إذ كيف ينجو من انفجار الرصاص المقذوف في عظمة فخذه اليمنى الرئيسية. فأحالتها غلى مزق ونتارثات.. وفتتتها إلى أربع وثلاثيت قطعة ثم استقرت بقاياه فلى عظام الحوض.. ثم جاء دور المضاعفات فإذا جلطات كثيرة تغلق الرئتين.. ويهوي ضغط الدم إلى درجة الاحتضار..

ثم تقف الكليتان عن العمل تماما لمدة شهر.. ويتبعها في التوقف الكبد.. ثم يفقد الإبصار شهرا كاملا.. ويفقد الذاكرة خمسة عشر يوما.. ويستدعي الأطباء المشرفون على هلاجه في يأس .. يستدعون أولاده من القاهرة ثلاث مرات لتوديعه، فقد انطفأ كل أمل لهم في الشفاء..".

(2)

يمكن للمرء (بل لكل قاريء للمذكرات) أن يدرك في غير عناء أن صاحب هذه المذكرات يريد أن يقول لنا خلالها إن الديمقراطية هي صمام الأمن الوحيد في مجابهة الأزمات والدعاوي المتصاعدة والآراء غير السوية، فاللواء حسن أبو باشا ليس على طول الخد ضد (من) هم ضد النظام العام، ولكن اللواء حسن أبو باشا بنظرة أعمق ضد (ما) هو ضد النظام كالسوس الذي قد ينخر فيه.

أو من سوء التقدير، أو من المباهاة التي لا جدوى من ورائها، أو من التعصب للرأي الواحد، أو من الفرح بتقدير أولى الأمر للأمور واستحواذهم علىالصواب في الحكم على تقديرات الآخرين بالخطأز.

ومع أن المؤلف لم يبلور أفكاره في هذا الكتاب على النحو الذي قدمته في هذه الفقرة إلا أني أعتقد أنه سيكون سعيدا لو قدر لهذا الفصل أن يطالعه، وسيقول ساعتها نعم هذا هو ما أردت بالفعل أن أصوره في مذكراتي من أني لم أكن صد (من) هم ضد النظام ولكني كنت ضد (ما) هو ضد النظام.

(3)

وعلى ا لرغم من أن صاحب هذه المذكرات كان من أبرز الضباط الذين يماريون الكتابة يوما بعد يوم بحكم وظيفته القائمة على تقدير الموقف، ثم إجادة التعبير عن هذا التقدير، وبحكم ن مجال عمله كن نقد الأفكار وتداعياتها المرتقبة والمحتملة بل والبعيدة

على الرغم من هذا فإن المؤلف لم يقدم على كتابة مذكراته إلا بعد تعرضه لحادث الاغتيال الشهير، واعتقد فيما يقترب إلى اليقين أنالأستاذ مكرم محمد أحمد رئيس دار الهلال قد بذل جهدا كبيرا حتى قنع هذا الرجل أن يكتب هذه المذكرات، ولعل هذا ما دفع اللواء حسن أبو باشا نفسه أن يكتب في أول سطر من هذه المذكرات

ما يؤكد هذا المعنى حين يقول:

" ترددت لفترة طويلة في حقيقة الأمر قبل أن أبدأ في خوض هذه التجربة. وأعني بها إخراج هذهالمذكرات إلى حيز الوجود، فقد اعتدت أن أعمل دائما في صمت ولم يرد على خاطري في يوم منالأيام أن اقوم بمثل هذا العمل، ولكن كثيرا من الأصدقاء على اختلاف مواقعهم ألحوا أن أتخلي عن هذا التردد وأن أكتب شهادتي للتاريخ
وكانت وجهات النظر التي ساقوها أنه التزام معنوي بل التزام وطني أن يتقدم للشهادة من كلن له دور عام، خاصة من عايش أحداثا بعينها ولها أهميتها التاريخية، وستكون دائما من المعطفات التي يقف أمامها المؤرخ بالتمحيص والاستقصاء والتحليل، ولا سبيل أمامالمؤرخ لجمع مادته إلا وثائق هذه الأحداث وشهادات من عايشوها ووقفوا على وقائعها
لكي يأتي التدوين في النهاية محيطا بكل الجذور والزوايا المحددة للأبعاد الحقيقية لكل حدث، بعيدا عن الظواهر التي يمكن أن تكون متأثرة بهوى أو ميل أو مصلحة، وكلما تحقق ذلك. تحقق عمق الصورة، وتأكدت ملامحها لكي تظهر الحقائق في النهاية غير قابلة للتشويه أو التأويل.
ومع قوة هذه الحجة وسلاسة منطقها فقد ظل التردد يصاحبني والاحجام عن خوض التجربة يحول بيني وبين مجرد التفكير أن أبدأ المحاولة، وفي حقيقة الأمر، لقد كان وراء هذا التردد والاحجام أسباب كثيرة:
أولها: إشفقا على النفس من الجهد الشاق الذي تفرضه التجربة.
وثانيها: أنني أرفض أن أكتب مذكرات يكوم محورها شخصا بذاته.
وثالثها: أننى أعرف مقدما الأشواك التي سأسير عليها والتي تحيط بمثل هذا العمل وتضاعف من صعوبته وحساسيته".

وهكذا يمضي بنا صاحب هذه المذكرات ليؤكد (ص 12 وما بعدها) أن هذه المذكرات ستخرج للقاريء بعيدة عن السيرة الشخصية ومركزة على "دلالات هامة لأحداث تاريخية لها أهميتها في الماضي ويمكن أن يمتد تأثيرها إلى المستقبل " ومع هذا فإن اللواء جسن أبو باشا يرى (ص 14) أنه يبريء بهذه المذكرات ذمته أمام كل مواطن على أرض مصر

ويتضح لنا عند هذا الحد مدى فهم هذا الرجل لوقائع التاريخ حين يقول:

" فقد أثبتت حقائق التاريخ أن الأحداث الهامة في تاريخ الشعوب لا تأتي من فراغ، وإنما تسبقها دائما مقدمات يطول مداها أو يقصر، ويتوقف على عمق تفاعلاتها أبعاد الحدث ومدى تأثيره الفوري أو المستقبلي ، ويخطيء من يظن أن مثل تلك الأحداث تقع بصورة عارضة بعيدة عن تراكمات سابقة
كما أنها بدورها يمكن أن تمثل مقدمات لتطورات مستقبلية، يتوقف مداها هي الأخرى على مقدرة استيعاب مغرزى ما سبقها من أحداث ومعالجة أسبابها. فتلك هي حكمة التاريخ الذي تتوالى مراحله في تداخل حتمي، لتؤثر كل مرحلة سلبا أو إيجابا فيما سيتلوها من مراحل بقدر القدرة على استيعاب تلك السلبيات".

(4)

وفضلا عن هذا فإن صاحب هذه المذكرات رغم ابتعاده عن المواقع التنفيذية إلا أنه لا يزال يعلي من قدر عامل الأمن القومي، وهو يصرح أنه ابتعد عن أسرار تتعلق بالأمن القومي لا يجوز له أن يتناولها على وجه الإطلاق، وهو لا يجد حرجا في أن يعترف بهذا، بل هو يجاهر بهذا الاعتراف

ويؤكد هذا المعنى بل ويردف بالقول إنه يعرض رؤيته الشخصية ليس إلا..

" وإذا كان البعض من الكتاب - وهم جميعا موضع التقدير والاعتزاز - قد تناول هذه الأحداث في مذكرات أو كتب نشرت لهم، فقد تجردت تماما م، اي قراءة لي حول هذه الموضوعات، لكي يأتي ما أتناوله عنها من دقائق وتفصيلات معبرا تماما عن تقديري الشخصي لهذه الموضوعات، ولعل هذا التفسير يتفق إلى حد كبير مع مقولة للراحل الكريم الدكتور طه حسين وردت في كتابه المعنون "مستقبل الثقافة في مصر"
أشار فيها إلى أنه : " عندما يبحث الباحث في أي موضوع أدبي، يجب عليه أن يتجرد من أي اطلاعات له ويدخل إلى الموضوع بفكره الخاص غير متأثر بأي آراء أو كتابات عن الموضو نفسه " ، وأعتقد أن المنهج نفسه يمكن الأخذ به في بحث وتحليل لقضايا السياسية الهامة
وتبقى ملاحظة أخيرة، ذلك أننا عندما نسعى في الاستقصاء غلى العودة للورء بحثا عن الجذور، فقد نستشهد ببعض ما كتب حزل نقاط بعينها لمؤلفين آخرين كتبوا عن الموضوع نفسه، ولكن كل ذلك يتم في أضيق نطاق ممكن".

ويختتم صاحب هذه المذكرات مقدمته التي تعتبر من خير المقدمات التي كتبت لكتب المذكرات السياسية على وجه الإطلاق ملخصا هدفه من المذكرات على المستوى الشخصي

وهو هنا يصل إلى أروع درجات التعبير والفكر حين يختلط بذاته بالتجرد فيقول:

" تلك هي محاور شهادتي والهدف منها، وأحسب أن دواعي التجرد فيها أوسع من نوازع الانحياز إلى هذا الرأي أو ذاك أو هذه المجموعة أو تلك، فأنا أكتبها وقد تجاوزت بحمد الله الخامسة والستين منعمري، وبعد أن انتهيت من أداء رسالتي العامة، ولا مطمع لي الآن.
إلا ذلك الشعور بالسعادة الذي يستشعره الشاهد عندما يقرأ في عيون سامعيه "لقد كان الرجل شاهد صدق"، وهذا ما أسعى إليه، ويعمق من التزامي بالحقيقة، والحقيقة وحدها بقدر ما تطيق القدرة على التركيز والتشخيص والتحليل، وما توفيقي إلا بالله".

(5)

أما المذكرات نفسها فقد قسمها المؤلف إلى قلاقة فصول الفصل الأول عن أحداث يناير 1977 والثاني عن مؤامرة أكتوبر 1981 والفصل الثالث عن تجربته كوزير للداخلية وللحكم المحلي وكعضو في مجلس الوزراء وكعضو بارز بين كبار رجال الدولة.

على أن أهم ما يميز هذا الكتاب هو روح البحث الذي تدفعه غلى أن يثبت كل ما يقول بالدليل وأن يتطرق من الفكرة إلى الفكرة المنطقية التي تستتبعها ولا يفقز أبدا إلى أية استنتاجات، ويحرص المؤلف على أن يقارن بين البدائل أو النتائج المختلفة بالنسبة المئوية، ولا أريد أن أفيض في الثناء على المؤلف في هذا الصدد فإن كتابه في حد ذاته مفخرة لكل ضابط شرطة من هذه الزاوية.

إنما أحب أن أشير إلى أن المؤلف قد أكثر من الإشارة إلى عدد محدود من المصادر التي تناولت التاريخ المصري المعاصر، وليس في هذا ما يؤخذ عليه فيكفي أنه اعتمد على مذكرات الدكتور هيكل باشا وعلى كتاب طارق البشري المهم في تطور الحركة السياسية المصرية، وقد كانت نفسي تسول لي أن أنتقد المؤلف في أنه نقل فقرة كتاب لعبد الرحمن الرافعي فلم ينقلها عنه مباشرة

وإنما نقلها عن طارق البشري (ص 207) فذلك أمر لا يقبله الأكاديميون الذين أشرف بالانتماء إليهم، خاصة أن مؤلفات عبد الرحمن الرافعي ليست عسيرة ولا بعيدة التناول، ولكني في الواقع وجدتني أتراجع عن أن أنتقده في هذا المجال لا لسبب إلا لأنها مذكرات وليست رسالة للدكتوراه أو الماجستير

بيد أني راجعت نفسي مرة ثانية لأعرف السبب الذي دفعني للتحامل على المؤلف فوجدت أن هذا السبب كان هو الجو العلمي الذي فرضه المؤلف علينا وعلى نفسه في مؤلفه القيم، ولابد أن أذكر هنا أيضا أن اللواء حسن أبو باشا طالعنا بآراء للأستاذ محمد زكي عبد القادر نشرها في يناير 1950 في الأهرام

ويبدو أن هذه الآراء كانت في ذاكرته منذ كان ضابطا شابا، فرجع إلى الصحف ونقلها لنا على هذا النحو الذي تطالعه (في ص 206) كذلك فقد استعان مؤلف المذكرات بآراء الإمام الأكبر فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق في الرد على الفريضة الغائبة وبكتاب المستشار محمد سعيد العشماوي معالم الإسلام

وعلى صعيد ثالث فإن اللواء حسن ابو باشا يسجل بكل فخر الشهادة التي شهد له بها الكاتب العظيم نجيب محفوظ عقب انتخابات 1984 ويوردها بنصها كما كتب نجيب محفوظ في أكتوبر 1983 حيث ختمها بقوله : " واليوم يقوم على رأس الوزارة رجل واسع الإدراك، نبيل المقاصد، عامر القلب ، يحب الوطن والديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد وعد وتعهد، ثم صدق الوعد والتعهد، وأول الغيث قطرة ثم ينهمر".

كما يورد شهادة المغفور له الشيخ أحمد حسن الباقوري في 1984 وعلى مدى صفحة (156 وما بعدها) آ يورد لنا المؤلف آراءه قيمة لعدد من الصحفيين من مختلف الاتجاهات. ومنهم الأساتذة مصطفى أمين ومصطفى شردي وفيليب حجلاب وجريدة الأهالي.

كذلك فقد كان صاحب المذكرات حريصا على أن يضمن كتابه (صفحة 189 وما بعدها) نص الحوار الذي دار بينه وبين الأستاذ فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد والذي نشرته المصور في سبتمبر 1983 وتصل الأمانة باللواء حسن أبو باشا إلى حد أنه لا يكتفي بنشر الحوار كما نشرته مجلة المصور. بل يورد أيضا نص خطاب من الأستاذ فؤاد سراج الدين إلى الأستاذ مكرم محمد أحمد متضمنا بعض الملاحظات على الرد الذي نشرته المجلة.

وعلى مدى الصفحات 242- 244 ينقل لنا اللواء حسن أبو باشا تعليقات الصحافة العربية والأجنبية حول نتائج انتخابات 1984 وإشادتها بدور الشرطة في إدارة هذه المعركة.

(6)

وأظن أن الأوان قد آن لنقرأ معا كثيرا من فقرات هذا الكتاب القيم، في الفصل الأول يتحدث المؤلف عن أحداث يناير 1977 وينحاز المؤلف إلى الراي القائل بأن الرئيس السادات كان مخطئا في وصفها بأنها انتفاضة حرامية، ويستعرض حسن أبو باشا آراء بعض الكتاب في أحداث يناير 1977

ولكنه سرعان ما ينتقل بنا إلى جوانب أهم في هذه المسألة حين يقدم خلاصة فكره عن هذه الأحداث وما سبقها فمثلا يتعمق المؤلف دراسة موقف الماركسيين من ثورة يوليو، ويقف عند أحداث 1968

وينهي إلينا ما توصل إليه في ذلك الوقت فيقول:

" وكنت في ذلك الوقت أشغل موقعا في جهاز أمن الدولة يدخل ضمن مسئولياته بحث خلفيات مثل هذه الأمور التي تتصل بأمن الدولة، وكان من المفاجآت التي لفتت النظر أن كثيرا من العناصر الماركسية هي التي كان لها الدور القيادي في تفجير الموقف الطلابي على النحو الذي سارت عليه الأمور في تلك التنظاهرات
وأذكر أن من بين أهم الاستخلاصات التي برزت أمامي وأكدت عليها في تقريري النهائي عن أبعاد هذه التظاهرات، أن الزعامات التي قادتها استهدفت من بين ما استهدفته من قيادة هذه التظاهرات، كسر حاجز الخوف بين جموع الطلاب من مثل هذهالتحركات الجماعية التي كانت الأولى من نوعها تقريبا
إذا استثنينا تلك الإضرابات العمالية التي حدثت في بداية الثورة بمنطقة كفر الدوار وأعدم فيها اثنان من العمال الماركسيين، وكان لافتا للنظر أيضا أن غالبية هذهالعناصر الماركسية كانت منخرطة في منظمة الشباب والتنظيم الطليعي السري الذي تشكل في مرحلة الستينات كجناح كاردي عقائدي لتنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي".

ثم يذكر لنا المؤلف أن التنظيم الطليعي ومنظمة الشباب في أحداث 1971 " كانا أعجز من أن يشكلا أي خطورة علىالمستوى الجماهيري العام في تلك اللحظات الحرجة التي بدأت بالقبض على مموعة القيادات السياسية ومعهم عدد من قيادات الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي السري"

وهنا يروي المؤلف ما اعتراه هو وزملاءه من دهشة حين طالعوا وثائق التنظيم الطليعي التي وقعت في أيديهم، وكأنه ينبئنا في سلاسة ونعومة وصمن عن تميزه عمن سبقوه من ضباط الشرطة الوزراء.

وذلك حين يقول :

" ومن المفارقات أنه بعد ضبط كثير من المستندات المتعلقة بالتنظيم الطليعي لدى بعض العناصر التي تم ضبطها خلال تلك الفترة ، أن من بين أعضاء هذا التنظيم كثيرا من العناصر السياسية المرموقة التي لمعت في عصر الرئيس الراحل السادات
أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أسماء المرحومين ممدوح سالم وفؤاد محيي الدين رئيس الوزراء السابقين والسيد نبوي إسماعيل وزير الداخلية السبق، ومجموعة محدودة من ضباط الشرطة، أذكر أنها كانت موضع دهشة بيننا في جهاز امن الدولة، فلم نكن نتصور أنالتنظيم الطليعي - وهو بمثابة نواة حزبية كادرية - يمكن أن يمتد غلى جهاز الأمن الذي يأتي في مقدمة تقاليده أنه جهاز قومي يحمي الشرعية ويؤكد سيادة القانون ولا ينخرط في أعمال سياسية أو حزبية".

(7)

وعلى مدى صفحات طويلة بعد هذا يروي لنا أبو باشا قصة اعتصام الطلاب الماركسيين في ميدان التحرير في منتصف عام 1972 وما دار من مناقشات بينه (كنائب لمدير مباحث أمن الدولة) وبين المدير اللواء السيد فهمي (وزير الداخلية بعد ذلك)

وما أشار بهمن ضرورة التعامل الذكي مع هؤلاء الطلاب، ويخلص المؤلف إلى أن يقرر أن القدرة الحركية للعناصر الماركسية في المجال الطلابي كانت تتجاوز بكثير قدرة الاتحاد اشتراكي.

وسرعان ما يتناول المؤلف دور المحافظ السابق محمد عثمان إسماعيل من خلال الاتحاد الاشتراكي في ظهور الجماعات الإسلامية في المجال الطلابي ويروي حسن ابو باشا فيقول:

" ولقد ركزت أمانة تنظيم الاتحاد الاشتراكي بعد ذلك على دعم تلك الجماعات الإسلامية التي بدأ يتوالى إنشاؤها في الكليات الجامعية المختلفة، بجميع الإمكانات والأساليب
بل كانت تدفعها إلى الصدام مع العناصر الماركسية لدى أي مناسبة يتاح لها فيها أن تختلق مثل هذا الصدام، وأذكر أن أحد قيادات أمانة التنظيم اتصل ذات يوم تليفونيا بمدير مباحث أمن الدولة المرحوم اللواء سيد فهمي وطلب منه المساعدة في تدبير أكبر عدد من سيارات الإسعاف لتكون جاهزة للتحرك السريع إلى جامعة القاهرة، وكانت الإخطارات قد أشارت إلى أن ثمة تجمعات طلابية في هذه الجامعة في صورة تظاهرات داخل الحرم الجامعي.
وعندما استفسر مدير الجهاز من تلك القيادة عن السبب في طلب إعداد هذا العدد الكبير من سيارات الإسعاف، كانت الإجابة أنها ستنقل الجرحى من الشيوعيين الذين ستسيل دماؤهم (على حد قواه) بعد أن يتصدى لهم أعضاء الجماعات الإسلامية.
وكم قد أعاد إلى الأذهان تلك الصدامات التي كانت تحدث في الجامعات قبل ثورة يوليو بين الطلاب الوفديين وبين الطلاب الإخوان، والتي وصلت في أوقات متعددة إلى استخدام العصى والأسلحة البيضاء، بل والقنابل في بعض الأحيان
وكان يتفوق فيها في الأغلب ذلك الطرف الأغلب ذلك الطرف الذي كان يجيد استخدام القنابل والسلحة وهو طرف الإخوان بطبيعية الحال، ومع ذلك فإن التوقع الذي افترضته أمانة التنظيم بالاتحاد الاشتراكي عن نتائج ذلك الصدام بين العناصر الماركسية وبين أعضاء الجماعات الإسلامية لم يسفر عن أي إصابات وانتهت المسألة بسلام".

ويعود صاحب هذه المذكرات ليؤكد لنا أن التنظيمات الماركسية السرية قد أعادت تشكيلاتها السرية كما كانت وبمسمياتها نفسها (ص 31) وحين يتناول المؤلف الحديث عن إنشاء الأحزاب الثلاثة لا يفوته أن ينتقد وجود اليسار في داخل أحد الأحزاب الثلاثة

وخارج التنظيمات كلها فيعقب بالقول:

" ولكن الذي يعنينا هنا أن أحد الأحزاب الثلاثة التي تولدت عن المنابر الثلاثة التي كانت قائمة، هو حزب التجمع الوحدوي التقدمي، وكان منذ البداية يضم في أكثريته التيار الماركسي متحالفا معه جناح من التيار الناصري
والظاهرة الهامة التي تلفت النظر أنه مع تشكيل حزب شرعي يضم التيار الماركسي، فإن التنظيمات السرية لهذا التيار التي تعمل خارج إطار الشرعية ظلت قائمة كما هي، بل إن كثيرا من عناصر هذه التنظيمات انضموا إلى عضوية الحزب مع استمرارهم في الوقت نفسه كأعضاء في تلك التنظيمات السرية".

(8)

وفي بداية فصل فرعي جديد يحدثنا المؤلف عن دوره المبكر عقب هزيمة 1967 في كتابة تقرير عرض على عبد الناصر يلفت نظر الدولة إلى أهمية الاهتمام بالأحوال المعيشية للمواطنين لتحقيق درجة مناسبة من التوازن النفسي لهم، ويؤكد اللواء حسن أبو باشا أن عبد الناصر قد أخذ بالتقرير .

وكافأهم عليه، ويعلن حسن أبو باشا في سعادة أن تظاهرات 68 قد خلت من اي شعارات تنتقد الجانب المعيشي، وهو بهذا يؤكد أهمية العامل الاقتصادي في التمهيد لأحداث 1977 ويعدد اللواء حسن أبو باشا على مدى صفحات ليست بالقليلة عوامل الإحباط والإثارة في 1977 وانتشار ظاهرة أغنياء الحرب وعوامل ارتفاع الأسعار.. إلخ.

ويروي صاحب المذكرات أن أحداث يناير 1977 لم تكن مفاجأة لجهاز أمن الدولة الذي أعد مذكرة شاملة في 27/ 12/ 1976 وهو يروي فيقول:

" أعدت مذكرة شاملة في 27 ديسمبر 1976 بتفصيلات هذا الموضوع من حيث التخطيط لتفجير الموقف والمنطلقات التي ستحدد ساعة الصفر للتنفيذ وانتهت الدراسة إلى أهمية إجهاض هذا المخطط في وقت مبكر
وفيما يتصل بالمسئولية الأمنية اقترح ضبط 67 شخصا من القيادات المسئولة في ذلك التنظيم السري والضالعين في تدبير هذا المخطط على مستوى الجمهورية وتقديمهم إلى النيابة العامة، وأرسلت تلك الدراسة بهذه المقترحات إلى وزير الداخلية، وكان المرحوم اللواء سيد فهمي في ذلك الوقت.
وبعد حوالي أربعة أيام أعيدت المذكرة من مكتب وزير الداخلية دون التأشير عليها بأي راي سواء من حيث الموافقة على ما ورد بها من اقتراحات أمنية، أو ما يشير غلى أن منطلقات ذلك التخطيط فيما يتعلق بالموازنة العامة للدولة لن تشمل أي قرارات تمس الجانب المعيشي للمواطنين.
ونظرا لما كان واضحا تماما من خطورة هذا التخطيط في ظل تفاعلات سلبية كثيرة تم رصدها، فقد أعدت الاتصال تليفونيا بوزير الداخلية وناقشته ثانية في مضمون هذه الدراسة وأهمية اتخاذ قرارا بشأن ما ورد بها من مقترحات واتفق على إعادة الدراسة ثانية إليه لدراستها".
"ومضى بعدذ لك يومان وأعيدت المذكرة ثانية من مكتب وزير الداخلية مؤشرا عليها بتلك العبارة "التوجه هو عدم ضبط شيوعيين في هذه المرحلة، ويكتفى بالمتابعة" ثم فهمت بعد ذلك بوقت قليل أن الموضوع عرض على رئيس الوزراء
وأن مرجع هذا التوجيه أنه كانت تتم في ذلك الوقت عملية مراجعة لجدولة الديون مع الاتحاد السوفيتي، وأكذر أنني علقت في ذلك الوقت بما معناه، وما علاقة ذلك بأشخاص مصريين يدبرون للخروج على القانون وأعترف أن التبرير لم يكن مقناعا لي".

وهكذا يتضح لنا بجلاء شديد أن العوامل التي تتحكم في صاحب القرار في مصر لم تكت بالسهولة التي نتصورها اليوم فهؤلاء ثلاثة : وزير داخلية سابق: ممدوح سالم رئيس الوزراء، ووزير حالى: سيد فهمي، ووزير لاحق: اللواء حسن أبو باشا مدير أمن الدولة لا ينقصهم الحس الأمني بالطبع ولكن القرار يصدر على غير ما يعتقدون لأسباب أخرى.

ويقول صاحب الذكريات بعد قليل :

" لم يكن أمامنا بعد هذا القرار ، إلا الاستمرار في عمليات المتابعة الأمنية العادية، ولكنني انتهزت فرصة حديث صحفي معي أجراه أحد المحررين بجريدة "الأهرام" في الأسبوع الأول من شهر يناير 1977
وتعمدت أن أشير فيه إلى أن أجهزة الأمن على علم بما يدبره البعض للإخلال باستقرار الجبهة الداخلية، استثمارا لبعض المشكلات التي تعاني منها الجماهير، وكان في خلفية تفكيري في تلك اللحظة ذلك الممخطط الذي يدبره ذلك التنظيم السري، في محاولة إلى دفع قياداته وغيره من جبهات أخرى تعمل خارج إطار الشرعية والقانون للتراجع عن أي محاولات تدبر للإخلال بالاستقرار العام".
" ثم تأتي المفارقة الأخيرة في ذلك الوقت، متمثلة في بعض البيانات التي نشرتها الصحف قبل بداية الأحداث بأيام قلائل والتي أعطت مؤشرات بأن قرارات تتصل بالسيطرة على الأسعار ستصدر خلال أيام قلائل بما أوحى ثانيا غلى الجماهير بأن الموضوع بأكمله تحت السيطرة الكاملة للحكومة فعلا. ولكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما، فقد كانت القرارات قد أعدت على وجه اليقين، وكان التفكير كيف تصدر، ويبدو أنه انتهى أخيرا لكي يتم ذلك بأسلوب الصدمة".

ويروي حسن أبو باشا تفصيلات هامة عن تطور الأحداث في 17 و 18 يناير ينبغي لكل من يحب دراسة تاريخنا أن يقرأها بلتفصيل ولكن الذي لابد لنا أن نطلع القاريء عليه في هذا الفصل هو تلك الفقرة التي يروي بها ابو باشا نجاح أمن الدولة في تحقيق السيطرة على الأحداث

وذلك حيث يقول:

" ولقد دارت مناقشة مستفيضة بين وزير الداخلية المرحوم اللواء سيد فهمي وبيني حول هذا الإجراء، وكان المنطق الذي حكم المناقشة أن الاعتبارات الأمنية التي تتعلق بتأمين الوطن في لحظات الخطر الشامل، لابد من أن تتسع إلى المدى الذي يضمن الإحاطة بجميع العوامل والمؤثرات التي تعمل عن عمد لتصعيد حالة الخطر والوصول إلى اقصى مدى من التداعيات
ومن البديهي والمنطقي في مثل هذه الظروف أن تختلف طبيعة الإجراءات الأمنية عن مثيلاتها التي تتخذ في الظروف العادية في مواجهة حالات فردية أو محدودة التأثير من حيث النطاق المكاني، أو احتمالات التداعيات، ومن هذا المنطلق فقد تطلبت الاعتبارات الأمنية للحد من التداعيات
ومن الخسائر البشرية والمادية، ضرورة اتخاذ قرار فوري لتتسع دائرته وتشمل ضبط حوالي 300 شخص من عناصر التنظيمات الشيوعية المختلفة الذين أشارت متابعات سابقة على الأحداث وأثناءها أن لهم دورا بارزا في محاولات تصعيد الموقف
ولقد نفذ هذا القرار الفوري أثناء فترة حظر التجوال مساء 19 يناير واتخذت الإجراءات القانونية لعرض من تم ضبطهم على النيابة العامة، والملاحظة التي يجدر تسجيلها الآن أنه بداية من صباح يوم 20 يناير، لم يقع حادث تظاهر واحد على مستوى الجمهورية، وأعتقد أنه لا مجال لأي تعليق آخر أكثر من ذلك فقد حوصرت عناصر التفجير ولم يعد قي مقدورها إلقاء مزيد من عيدان اللهب.
ولكنني فقط أعود هنا لكي أذكر بتلك الوثيقة التي أشرت إليها قي صدر هذا الفصل والتي ضبطت لدى أحد القيادات الهامة في تنظيم حزب العمال الشيوعي (قدمت إلى النيابة العامة) وكانت تتضمن تحليلا عن أسباب فشل أحداث يناير في الوصول إلى غايتها
وأرجعه إلى عدم تقدير مدى قابلية المواطن المصري لمواصلة أسلوب حرب العصابات بالشوراع والأزقة، وإلى إغفال اختراق قوات الشرطة من رجال الأمن المركزي ومعهم صغار الضباط من العاملين بأجهزة الأمن والقوات المسلحة".

(9)

ويتحدث صاحب المذكرات بعد هذا عن "ظلال التطورات اللاحقة " فيروي لنا اندهاش الوزير سيد فهمي حين علم بخروجه من الوزارة مع أنه أدى واجبه، ثم يروي بعض ما دار في بعض الاجتماعات

ومنها أنه

"في أعقاب التشكيل الوزاري الجديد، وفي اجتماع مع اللواء نبوي إسماعيل الذي عين نائبا لوزير الداخلية للأمن في ذلك التعديل، حرص أن يذكر في بداية الاجتماع أن تحقيقا سيتم لتحديد المسئوليات عما وقع من أحداث وكان الرد أنني أتمنى أن يتم فعلا هذا التحقيق حتى تتضح الحقائق كاملة، وحتى نضع أيدينا على جميع سلبيات ما حدث سياسيا وأمنيا، ولكن بطبيعة الحال فإن شيئا من ذلك لم يتم على وجه الإطلاق".

كما يروي لقاءه بممدوح سالم وكيف أن سيد فهمي كان كبش الفداء الذي توارت خلفه جميع الأخطاء السياسية والتنفيذية ثم يختم حسن أبو باشا الفصل الأول ببعض نقاط يعقب بها على حكم القضاء الذي برأ المتهمين في أحداث يناير 1977.

(10)

وعلى مدى الصفحات الأولى من الفصل الثاني (ص 63- 71) يتناول حسن أبو باشا باقتدار وموضوعية شديدين خلفيات نشأة الإرهاب في مصر من وجهة نظر رجل أمن دولة. ثم يخصص فصلا فرعيا آخر للحديث عن الثورة والإخوان ولعبة التوازنات السياسية، ويروي اللواء حسن أبو باشا واقعة غاية في الأهمية عن لقاء عقدته الثورة في الحوامدية في عام 1953 وهتاف الإخوان أمام عبد الناصر الذي لم يكن معروفا بعد، ومدى الغيظ الذي انتاب عبد الناصر

حتى جعله يقول: " أيها الإخوان لا تكونوا كالببغاء تردد ما لا تعي" كما يروي حسن أبو باشا بعدذ لك ذكرياته الأمنية عن حادث اغتيال عبد الناصر في المنشية (1954) ثم عن أحداث 1965.

وبعد أن يتحدث المؤلف عن دور الإخوان المسلمين على الساحة الداخلية وعن نشأة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فإنه يحدثنا بالتقاد واضح لتفكير الرئيس السادات في تكرار لعبة التوازنات واستغلال الإخوان

فيقول

" وبعد ولاية الرئيس السادات في نهاية عام 1970 حدث تحول هام وتاريخي في موقف نظام الحكم من التيار الديني السياسي ويكاد التاريخ يعيد نفسه فكما حدث في بداية ثورة يوليو عندما دعت اعتبارات التوازن السياسي الثورة إلى ذلك الالتقاء المرحلي مع جماعة الإخوان لكي تكون سندا شعبيا لها في أول مراحلها، فقد تصور الرئيس الراحل السادات أنه يمكن أن يلعب نفس اللعبة مرة أخرى
ومع أنه عاصر خلفيات ذلك الصدام السياسي بين الثورة وجماعة الإخوان واطلع على تفصيلاته، بل شارك في محاكمات قيادات الإخوان عام 1954، فإنه وقه بدوره تحت تأثير ذلك الوهم في لعبة التوازنات السياسية عندما يلجأ الحاكم إلى ضرب قوى سياسية بقوى أخرى تختلف معها في الفكر والمنهج تصورا بأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى نوع من التوازن السياسي الذي يحقق له استقرارا في الوضع السياسي العام".

ويروي المؤلف ذكرياته عن الأحداث التي شهدتها السبعينات بعد عودة الإخوان وظهور المتطرفين، ويعترف حسن أبو باشا في صفحة 83 بأن حادث الفنية العسكرية كان مفاجأة لأجهزة الأمن ولم يكن متوفرا عنه قبل وقوعه معلومات كافية.. ويعترف اللواء حسن أبو باشا أيضا في صفحة 84 بأن معلومات أجهزة الأمن عن حزب التحرير الإسلامي غير كافية حتى الآن.

ويسجل صاحب الذكريات لنفسه ولجهاز أمن الدولة أنه نبه كثيرا غلى خطورة جماعة التكفير والهجرة وأنه أدلى بحديث لمجلة أكتوبر في 12 ديسمبر 1976

قال فيه بالنص:

" الأجراس تنذر وتدق بشدة، لتصل إلى آذان العلماء من رجال الدين والاجتماع والفكر والتربية والإعلام، ليتصدوا لهذه الظاهرة الخطيرة، إنه سرطان يسري بسرعة، وعلاجه ديني ونفسي واجتماعي وإعلامي، ويجب أن تعقد ندوات واسعة تذاع بالتليفزيون والإذاعة وتنشر بالصحف، ليكون حوارا موسعا يحضره علماء الدين ورجال التربية
ورجال الاجتماع والأطباء النفسيون باعتبارها ظاهرة لها أبعاد نفسية، لأن جميع أعضاء الجماعة أصبحوا مسلوبي الإرادة ويتكلمون بلسان رئيسهم، وكل ذلك يرجع إلى القصور الشديد من جانب الأجهزة المعنية في الدولة، وزارة الأوقاف والأزهر، والدعوة الدينية ، وجميع أجهزة الإعلام إذ أنا لابد أن تخصص برامج دورية لعلاج هذه الظاهرة وغيرها".

ويفيض حسن أبو باشا في الحديث عن جذور التطرف وعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين إلى أن يتهم هذه الجماعة صراحة وعلانية وهو يتساءل في ص 89:

" فلماذا لم تقف جماعة الإخوان وهي الأقدم والأكثر عددا وانتشارا والأقوى اقتصاديا، والأكثر في عمليات الأجهزة السرية وأعمال العنف والإرهاب، لماذا لم تقف موقفا حاسما من هذه الجماعات؟ لقد كان موقفها في حقيقة الأمر موقفا زئبقيا منذ بدأت تلك العمليات خلال عام 73 وما تلاه حتى عام 1981 وكان ذلك سببا في صدامها مرة أخرى مع الرئيس الراحل عندما قرر اعتقال عدد من قياداتها، وفي مقدمتهم مرشد الجماعة ضمن من تقرر تطبيق قرارات سبتمبر عليهم، ولكن التساؤل ما زال قائما
هل بدأت الجماعة تنظر إلى تلك الجماعات المتطرفة التي تخصصت في عمليات العنف والإرهاب على أنها بمثابة بديل مرحلي لجهازها السري السابق؟ ولمذا يتصادف أن تكون قيادات هذه الجماعات ممن لهم انتماء إخواني سابق؟ هل يحرثون الأرض للجماعة الأم؟
هي كلها تساؤلات ما زالت تحتاج غلى إجابة وإن كانت هناك إجابة تردد من وقت لآخر على لسان جماعة الإخوان أن أعيدوا لنا الشرعية كحزب سياسي ونحن كفيلن باحتواء كل ذلك" كما يتحدث حسن أبو باشا عن جذور الفتنة الطائفية على مدى الصفحتين (90- 91).

(11)

ويجاهر صاحب هذه المذكرات برأي واضح صريح له أدلته القوية حول علاقة أحداث أكتوبر 1981 بأحداث سبتمبر 1981، فهو قد ترك منصب مدير أمن الدولة إلى منصب آخر

ولكن هذا لا يمنعه من الإنصاف والبعد عن استغلال الظروف للإساءة إلى من خلفوه ثم خلفهم هو بالعودة إلى مكانه فيقول:

" ليس صحيحا على وجه الإطلاق أن مؤامرة أكتوبر التي بدأت بحادث المنصة كانت نتيجة قرارات سبتمبر، فقد ثبت باليقين بعد السيطرة على الموقف الأمني عقب تلك الأحداث، أن تدبير هذه المؤامرة والتخطيط لحلقاتها لم يكونا وليدي اللحظة بعد صدور هذه القرارات وإنما تم التدبير والتخطيط قبل ذلك بعام على الأقل، واستعدت قيادات وعناصر تنظيم الجهاد لساعة الصفر، خلال تلك الفترة من حيث الإعداد التنظيمي والتثقيف الفكري
ثم الإعداد المادي من خلال الأسلحة بأنواعها والمفرقعات بشتى أشكالها والتدريب عليها في أماكن مختلفة من المحافظات، وقد ثبت كل ذلك من خلال عمليات الضبط التي تمت والتحقيقات التي أجرتها النيابة العامة ثم من خلال تحقيقات محكمة أمن الدولة العليا على النحو الذي سيشار إليه فيما بعد".

ويورد حسن أبو باشا واقعة هامة تدل على مدى القصور الأمني الذي وصل إليه الحال في آخر عهد السادات فيروي

" في أوائل النصف الثاني من سبتمبر تقدم مواطن ذكر أنه يعمل سائق تاكسي إلى مكتب اللواء حسين السماحي مدير الأمن العام في ذلك الوقت، وأبلغ بأن أشخاصا آخرين قد سعوا إلى ضمه لتنظيم سري يسعى إلى الحصول على أسلحة وأنهم طلبوا منه محاولة تدبير بعض المدافع الرشاشة.
واتصل بي مدير الأمن العام تليفونيا، وكنت في ذلك الوقت أشغل منصب مساعد أول الوزير للأمن العام، وذكر تفصيلات البلاغ ونظرا لأهمية مضمونه فقد طلبت من مدير الأمن العام أن يرسل المبلغ بصحبة احد الضباط لمدير مباحث أمن الدولة وأن يتصل في نفس ا لوقت بوزير الداخلية ويحيطه علما بموضوع البلاغ وما اتخذ من إجراء، وقد أجرى جهاز مباحث أمن الدولة بعد ذلك إجراءات فنية لفحص الموضوع وتمكن من تحديد شخصية الشخص الذي طلب تدبير هذه الأسلحة من المبلغ
ومن خلال هذا الشخص اكتشف صلته بالعقيد عبود الزمر الضابط بالمخابرات الحربية في ذلك الوقت والذي تمكن من الهرب فور شعوره باكتشاف أمره، ولعلنا نذكر تلك العبارة التي وجهها الرئيس الراحل في خطابه يوم 28 سبتمبر المذاع على الواء في مؤتمر الحزب الوطني عندما قال " الضابط اللي هربان وهو سامعني دلوقت أحسن له يقدم نفسه".

(12)

ويؤكد صاحب المذكرات في صفحة 77 ما تناقلته الإشاعات من أنه أزيح عن أمن الدولة إلى الأمن العام في 1977 لسبب واحد هو ألا يكون بديلا لوزير الداخلية كوزير قادم ويحكي حسن ابو باشا الواقعة بمرارة شديدة (من دون أن يتعرض لذكر الشائعات) في غضون حديثه عن وقائع 6 أكتوبر 1981 حين أعيد مرة أخرى لأمن الدولة

فيقول

" وكنت قد نقلت من موقعي كمدير لمباحث أمن الدولة قبل ذلك بأربع سنوات خلال شهر يوليو 1977 وكان النقل بالصورة التي تم بها بمثابة صدمة نفسية لي سواء من حيث التوقيت أو من حيث ملاءمة الموقع الجديد من الناحية الأدبية مقارنا بموقعي السابق. وكان واضحا أن الأمر في مجمله كان متعلقا بحسابات وهمية عن المستقبل السياسي للقيادات العليا بالوزارة، وابتعدت تماما منذ لك الوقت عن الاتصال بحقل العمل في الأمن السياسي".

وفي هذا الكتاب صفحات مضيئة (صفحة 97 وما بعدها) عن دور الشرطة في تحقيق الاستقرار عقب اغتيال الرئيس أنور السادات في 1981. كذلك فقد دفع حسن أبو باشا نفسه إلى أن يتبنى (في كتابه) قضية الضباط الذين اتهموا بالتعذيب واستطاع أن يدافع عنهم دفاعا مجيدا، ثم ختم هذا الدفاع في (صفحة 107) بحيثيات الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات ببراءة جميع الضباط.

ويستعرض المؤلف على مدى صفحة 110 وما بعدها حلقات مؤامرة 1981 وأسباب فشلها، ويجيد اللواء حسن أبو باشا في حديثه هذا وفي تقديم تحليلات ممتازة لكل جوانب المشكلة.

(13)

كما يقدم صاحب هذه المذكرات للقاريء فكره الواضح في الوسائل الكفيلة بمواجهة الإرهاب، ويضع أمامنا مجموعة من الأسئلة في صفحة 127 ثم يبدأ في الرد على هذه الأسئلة، ويبدو ذكاء أبو باشا في هذا الجانب في أنه لم يقدم فروضا نظرية فحسب، وإنما اتخذ هذه الفروض مدخلا إلى الحديث عن سياسته حين تولى وزارة الداخلية وبدأ عقد ندوات الحوار..

وهكذا نجد أبو باشا يسارع إلى الحديث عن الدور الذي أداه، بل هو يعترف بذلك الإسراع حين يقول في ص 129 :

" وهنا لابد أن أسارع لأذكر أن مبدأ الحوار في إطار ذلك المفهوم لم يكن إلا بداية لمنطق جديد وأسلوب جديد يجب أن يواجه التيار الديني المتطرف، لكي يخرج إلى الساحة العلنية بأسانيده ومنطقه في مواجهة أسانيد مماثلة ومنطق مماثل يطرحه العلماء والفقهاء والنتخصصون في الدراسات الإسلامية
بدلا من تلك الشعارات المبهمة التي تطرح لمجرد التأثير النفسي، وكان التصور أن الأمر لا يخرج عن احتمال من احتمالين: أين الصواب وأين الخطأ، أين السند الصحيح وأين السند الباطل، أين الشعار الذي له بعد ديني صحيح، ولاين الشعار الذي يطرح لمجرد التأثير والاستهلاك؟ وهب كلها يجب أن تكون تساؤلات موضع اهتمام كل مسلم يريد أن يعرف دينه ويلم بتعاليمه وقيمه وجوهره دون أي شائبة تسند إليه"

وكانت البداية عرض الفكرة على عدد من كبار الفقهاء الذين وافقوا على الاضطلاع بها بترحيب كبير، وكان اقتناعهم جميعا أنهم يسهمون بعلمهم في ترشيد الدعوة الإسلامية وتنقيتها من أي تأويل أو سند باطل، ثم كانت الخطوة التالية بعرض الفكرة على عدد من القيادات التي ضبطت خلال أحداث أكتوبر من تنظيم الجهاد، وقبل البعض منهم أن يتحاور مع الفقهاء ورفض البعض الآخر

وبذلك تمت أولى الندوات وحققت نجاحا ملحوظا، من حيث الصراحة المطلقة التي تم الحوار بها، وعمق الأسانيد التي طرحها العلماء الأفاضل في مواجهة كثير من الأفكار التي طرحها أعضاء تنظيم الجهاد وبدأت تتوالى ندوات مماثلة حققت بدورها نفس هذا النجاح".

ويروي حسن أبو باشا كيف تم تسجيل هذه الندوة وكيف فكر في إذاعتها وكيف ثارت تحفظات عديدة على هذا المبدأ، ويقول حسن أبو باشا

" وكان من المحتم في ضوء أن ذلك يفصل رئيس الوزراء الدكتور فؤاد محيي الدين في الموضوع.. وانطلاقا من ذلك فقد عرض على سيادته في عرض خاص بمقر مجلس الوزراء شرائط ندوتين. وسئل عن انطباعه بعد مشاهدتهما، وكان تعليقه أنه من المهم أن يستمع كل مسلم والشباب بصفة خاصة إلى تلك الحقائق التي تدمغ في وضوح تام كثيرا من المفاهيم الخاطئة التي تقحم على الفكر الإسلامي الصحيح، وبديء بعد ذلك في عرض تلك الندوات في برنامج أسبوعي تحت مسمى "ندوة للرأي" ..

ويطالبنا حسن ابو باشا عند تأليف هذا الكتاب (1987) بالعودة إلى هذا الأسلوب مع معاودة ظهور الظاهرة بصورة حادة.

(14)

ويحكي صاحب هذه المذكرات كيف علم باختياره وزيرا للداخلية فيقول:

" ثم كان التطور الثالث على المسرح السايسي عندما شكلت وزارة جديدة في اول يناير سنة 1982 برئاسة المرحوم الدكتور فؤاد محيي الدين، وضمت كثيرا من الوجوه الجديدة
وكانت المفاجأة الأخيرة في حياتي الوظيفية تنتظرني مع هذا التشكيل تالوزاري الجديد وتنقلني إلى معترك الحياة السياسية، فقد علمت ظهر اليوم السابق على إعلان التشكيل الوزارى - من اللواء نبوي إسماعيل وكان هو الذي يشغل منصب وزير الداخلية – بأنه تقرر اختياري وزيرا للداخلية خلفا له. وعندما سألت عن أسباب هذا التغيير كانت الإجابة بأن اعتبارات داخلية متعددة تحتم ذلك وأنه على اقتناع تام بها".

ويتحدث حسن أبو باشا عن فهمه لوظيفة وزير الداخلية فيقول:

" فوزير الداخلية مسئول عن متابعة حركة جميع القوى السياسية والتأكد من أنها تسير في قنواتها الشرعية ولا تتجاوز القوانين التي تحكم المجتمع، ثم هو مسئول عن جانب هام منالعملية الانتخابية، وهي بدورها من أهم أركان الممارسة الديمقراطية والممارسة الحزبية بصفة عامة
سواء في مراحلها الأولى أو مراحلها التالية تحت إشراف السلطة القضائية إلى مرحلة إعلان نتائج الانتخابات، وفي جميع مراحل اضطلاعه بهذه المسئولية فإن قنوات اتصاله بالقوى السياسية وانسيابها في إطار من العلاقات الصحية له تأثير كبير على تهدئة المناخ السياسي العام أو خلق جو من التوتر والتعقيدات لا مبرر له".

(15)

ليس في كتاب حسن أبو باشا إعلان عن خصومة لشخص معين إلا لشخص واحد هو المغفور له الدكتور فؤاد محيي الدين رئيس الوزراء الذي اختلف معه أبو باشا في كثير من الجزئيات طيلة عملهما المشترك في الوزارة

ومع ذلك فإن حسن أبو باشا يسارع غلى اطراء فؤاد محيي الدين والحديث عن مزاياه حيث يقول :

" وفي نفس الوقت فإنني وقد عملت مع الراحل الدكتور فؤاد محيي الدين كرئيس للوزراء وأمين عام للحزب الوطني أسارع لكي أشهد للرجل بأنه كان رجل دولة من الطراز الأول، فهو أولا رجل طاهر عفيف اللفظ، ثم هو ثانيا رجل سياسة واسع الإدراك وله آفاق السياسي التي تمتد إلى جميع الزوايا المؤثرة في قضايا المجتمع
ثم هو كرئيس للوزراء له تلك المقدرة التنفيذية التي تنسق بين العمل التنفيذي في مجالاته وتربط بينه وبين البعد السياسي للواقع الاجتماعي، ولكنه بالرغم من خبرته في العمل السياسي الذي مارسه منذ فجر شبابه في المجال الطلابي
ثم في تنظيمات ثورة يوليو، كانت له تلك الطموحات التي تعسى إلى تطويع الواقع وصولا إلى تميز سيسي يرتضيه. وكان ذلك هو نموذج الرجل السياسي الذي اختلفت معه في عدد من القضايا التي لا تتصل بموضوع الانتخاب فقط
ولا أذكر أن خلافا آخر قد طرأ على علاقتي به كرئيس للوزراء، ولا أدعي أنني أمتلك مثل تلك المقدرة السياسية التي كان يتمتع بها، ولكنني وقد عملت في حقل الأمن السياسي لفترة طويلة من الزمن عايشت خلالها كثيرا من أحداث المجتمع وقضاياه وكانت الخبرة تؤكد دائما أن النتائج لا تأتي من فراغ
وإنما تتراكم التفاعلات لتفرز في النهاية تلك النتائج، وكان في يقيني وقدبدأت ملامح ذلك التغيير، أن مناط الاستقرار رهين بترسيخ البعد الديمقراطية، وأن قضية الانتخاب تمثل محورا أساسيا لهذا البعد".

ثم يعدد المؤلف قضايا الخلاف بينه وبين الدكتور فؤاد محيي الدين، الأولى حول ترشيحات القوائم والثانية حول دور وزير الداخلية وسنعرض لهذا بعد قليل والثالثة ترشيح وزير الداخلية (أي حسن أبو باشا نفسه) لعضوية مجلس الشعب والرابعة حول موقف البابا شنودة والخامسة وهي النقطة الخلافية التس أشار إليها أحمد بهاء الدين في المقال الذي نقله عنه حسن أبو باشا .

وينبغي لنا أن نطلع القاريء هنا على آراء المؤلف فيما يتعلق بدور وزير الداخلية يروي حسن أبو باشا في ص 224 فيقول:

" وخلال إحدى المقابلات الدورية مع رئيس الوزراء، فوجئت بالدكتور فؤاد محيي الدين يتحدث في موضوع لم أتخيل للحظة واحدة أنه كان يمكن أن يكون مثار حديث قال : إن أربعة محافظين من رؤساء تحرير الصحف لا يرقى إليهم الشك، أبلغوه أنهم يلمسون أن الشرطة تقف موقفا معارضا من الحزب الزطني
يضاف غلى ذلك أنه راجع بيانات وتصريحات وزير الداخلية، فلم يجد أي إشارة من قريب أو بعيد إلى الحزب الوطني، ولم يكن من اليسير بطبيعة الحال قبول التصريح الأول المنسوب إلى أربعة محافظين وثلاثة رؤساء تحرير للصحف، وكان ردي أن الأمر إذا كان على هذه الصورة
فمعنى ذلك أنني غير أمين على مسئوليتي ويجب أن أقدم استقالتي من منصبي الوزاري على الفور، ولكن المناقشة امتدت ليسوي الأمر في النهاية على اعتبار الموضوع مجرد استنتاج لا يستند إلى أي حقيقة".

وفيما يتعلق بترشيحه لعضوية مجلس الشعب يحكي صاحب المذكرات فيقول:

"ولكنني فيما يتعلق بترشيحي لعضوية مجلس الشعب، كان هناك قدر كبير من التحفظ من جانبي على هذا الترشيح، وإذا كانت التقاليد السياسية العالمية لا تحول دون مثل ذلك الترشيح حتى في أعرق الدول الديمقراطية
فإن تقديري المبدئي أننا في مصر نمر بمرحلة انتقالية في التحول الديمقراطي، وأنهذه المرحلة تحتاج إلى ترسيخ حياد الدولة في العملية الانتخابية، وفي هذا الإطار فإن ابتعاد وزير الداخلية عن خوض المعركة الانتخابية كمرشح حزبي، يمكن أن يعزز هذا المفهوم ويؤكد البعد القومي لدوره في الإشراف على مسار المنافسة الانتخابية".

وهذا نموذج آخر للخلافات يرويه حسن ابو باشا فيقول:

" كانت المفارقة الأخرى أثناء إعلان نتيجة الانتخاب بد نهايتها، ولقد انعقد مؤتمر صحفي بمكتب وزير الداخلية للإعلان عن النتائج النهائية، وتأكيدا للواقعية في هذه الانتخابات، فقد عمدت إلى البدء في إعلان نتائج المحافظات تصاعديا، بمعنى إعلان نتيجة الانتخابات في المحافظات ذات النسبة الأقل ثم ما يليها تصاعديا حتى آخر المحافظات، وأذكر أن محافظة دمياط كانت أقل النسب فلم يتجاوز نسبة الحضور فيها 22% ولذلك كانت هي البداية ثم ما يليها.
وخلال انعقاد المؤتمر وإعلان النتائج إذا بمدير مكتبي – العميد محمد تعلب- يدخل يقدم لي مذكرة عاجلة، كان فحواها أن رئيس الوزراء المرحوم فؤاد محيي الدين ، وكان أمينا عاما للحزب الوطني في نفس الوقت قد اتصل وسأل عن مجموع عدد الحضور
ونسبة من أعطوا منهم صوتهم لصالح الحزب الوطني، وطلب أن تعلن النتيجة النهائية على هذا الأساس، وكان من مؤدى ذلك أن تكون النتيجة النهائية هي 99% على أساس أن جميع الحضور فيما عدا عددا ضئيلا من الأصوات الباطلة، قد صوتوا لصالح الحزب الوطني الذي لم يكن أمامه قوائم أخرى لأحزاب المعارضة.
ولكن هذا المنطق كان معناه كما يقال في اللغة العسكرية: " أننا نسير محلك سر" فقد كان الهدف تأكيد الواقعية والحيدة في العملية الانتخابية، تنفيذا لتوجيهات القيادة السياسية واستجابة لذلك التغيير الذي طرأ على ا لمناخ السياسي الداخلي
وفي إطار هذا الاقتناع فقد استمر إعلان النتائج بنفس المنطق الذي يترجم حقيقة التفاعل السياسي على الساحة في هذه الانتخابات، وكانت النتيجة النهائية في تلك الانتخابات هي 51% من مجموع الناخبين المقيدين الذين أدلوا بأصواتهم لاصلح الحزب الوطني الديمقراطي الذي تقدم بمفرده في هذه الانتخابات بعد استبعاد الأصوات الباطلة".

ويروي حسن أبو باشا أيضا أنه كان من أنصار الانتخاب الفردي ولكن الآراء تغلبت للقائمة (ص 218) كما يروي خلافه مع د. فؤاد محيي الدين حول سير المعركة الانتخابية وهو يروي هذا الخلاف تحت عنوان "الكل غير راض"

فيذكر أن أحزاب المعارضة لم ترض بسير المعركة ولا نتيجتها، وكذلك رئيس الحكومة فؤاد محيي الدين، وقد آثر حسن أبو باشا أن يروي الخلاف على نحو ما كتبه الأستاذ أحمد بهاء الدين في فبراير 1987 أي بعد وفاة الدكتور فؤاد محيي الدين بثلاثين شهرا..

يقول حسن أبو باشا :

" ولقد رايت أن أجعل مدخلي لهذا الموضوع بكلمة للكاتب الكبير أحمد بهاء الدين – شفاه الله - أوردها في عموده بعنوان يوميات في جريدة الأهرام بتاريخ 8/ 2/ 1987 "

ونصها الآتي:

" كان المرحوم الدكتور فؤاد محيي الدين من أكفأ رؤساء الوزارات وأقدرهم وأطهرهم يدا، ولكن عيبه كانالتعصب الشديد لرأيه والتطرف في تنفيذ إرادته، ومن الشياء التي تعصب لها بشدة قانون الانتخاب الذي تم إلغاؤه (يقصد قانون الانتخاب بالقائمة النسبية الذي صدر عام 84
والذي تم إلغاؤه في نهاية عام 1986 بناء على الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا، والذي تم على أساسه حل مجلس الشعب السابق على المجلس الحالي في أوائل عام 1987) وغير معارضتي لهذا القانون منذ مولده كتابة
والتنبيه على عواقبه الخطيرة كانت لي مشاجرات عنيفة في مكتبه أو على التليفون سمحت بعنفها معرفة شخصية قديمة، آخر مشاجرة تليفونية كانت قبل إجراء الانتخابات (يقصد انتخابات مايو عام 1984) بليلتين اثنتين ، عقب يوميات كتبتها هنا، وأردت أن أكسر حدته في النقاش ونحن في ساعة متأخرة من الليل قلت له : هل أنت منزعج من نتائج الانتخابات المقبلة إلى هذا الحد؟
إنني أعتقد أن الحزب الحاكم سينال ما لا يقل عن 75% من المقاعد، ودون حاجة لكل هذه الألغاز والأشواك والمسامير في قانون الانتخابات، وأذهلني رده الصاعق فقد قال لي بأعلى صوت، وأنا أعلم كم كان مرهقا ومريضا في آخر الحملة الانتخابية 75% بس؟ ليس أقل من 95% ودهشت ليس لهذا التوقع ولكن لهذه الرغبة
وقلت له: لقد تناقشنا في هذا الموضوع كثيرا، والانتخابات بعد غد، فلا مجال للجدل الآن، ولكنني أكرر ما قلته لك في مكتبك، إن الاستقرار في البلاد والتفرغ لما هو أهم من الصراع السياسي لن يتحققا بدون دخول كل الأحزاب السياسية الرسمية على الأقل إلى البرلمان
وقد حسبت أنه قال لي هذا الرقم 95% في ثورة حماس، حتى عرفت بعد ذلك أنه ثار في مجلس الوزراء قبل ذلك على وزير بارز خبير لأنه قال إن تقديره أن الحزب الوطني سينال 75% من المقاعد واعتبر هذا انهزامية وانسحب الوزير من قاعة مجلس الوزراء، لماذا أروي هذه الواقعة الآن، بعبارة بسيطة أريحونا من تفاصيل قانون الانتخابات وقواعده
فأنا لا أفهمها والقراء لا يفهمونها والناخبون لا يهضمونها، تكلموا في السياسة لا في اللوائح، الاستقرار السياسي والديمقراطي لن يتحقق إلا بدخول كل الأحزاب، الممعترف بها كخطوة أولى إلى البرلمان، ما دامت هناك أغلبية قادرة على إدارة عجلة الحكم، هذا ما يمليه بعد النظر".

(16)

أما آخر فصلين من فصول هذا الكتاب "الحكم المحلي والديمقراطية" و "أزمة الديمقراطية في مصر" فهما بلا شك من أهم فصول هذا الكتاب وليس فيهما فقرة إلا وتستحق كثيرا من التأمل والتقدير للأفكار التي احتوتها هذه الصفحات الجميلة المعبرة التي لن يختلف اثنان على قيمتها

بيد أننا في هذا الفصل قد لا نحتاج غلى استعراضها وقد وصلنا إلى هذه المرحلة من ملل القاريء منا، ولكني لا اعتقد أنه سيصيبه الملل ولو لحظة واحدة من قراءة هذا الكتاب العظيم لهذا لوزير العظيم.