محمد عبده

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الشيخ محمد عبده ..مولده وحياته وفكره (1849-1905م)

موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)

إعداد: محمد الصياد

تمهيد

الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله ، هو واحد ممن حفر التاريخ أسماءهم من المصلحين الذين صنعوا مشروعا فكريا حضاريا مصبوغا بالصبغة الإسلامية ، ومستندا إلي حضارة إسلامية عريقة .

وكان هو –ومدرسته- عقل الصحوة الإسلامية المعاصرة بعبارة المفكر الإسلامي محمد عمارة ، حيث اعتبر أن مدرسة المنار كانت عقلا للصحوة ، لكن الصحوة لابد لها من الجسد ذي العضلات ومن العقل ، فأنشأت المنار عقلها ، وجاء الإمام البنا فهذب العقل وصاغه صياغة محكمه ، وسبكه سبكا متينا ، ثم كَوّن عضلات الصحوة المعاصرة والمشروع النهضوي بالجماهيرية والأمواج الجارفة لجماعة الإخوان المسلمين .

وكان من الطبيعي أن يثار حول الرجل الجدل الواسع من كل الجوانب والاتجاهات ، ممن لا يروقهم مشروعه الإصلاحي من الجامدين والمحافظين والراديكاليين ، وممن خافوا علي مشاريعهم التغريبية –التنويرية!- الذين كانوا يزعمون أن لا بديل للأمة عن ركب الحضارة المعاصرة إلا بتلك الصبغة الأوربية الغربية ، فخافوا من البديل الإسلامي الذي جاء به محمد عبده ، فهم كانوا دائما يزعمون أن لا بديل إسلامي للحاق بالمشروع الغربي وبالنهضة الصناعية الحديثة ، بل دعوا لتنحية الدين الإسلامي جانبا .

ونحن في هذه الترجمة الصغيرة سوف نقف علي الملامح الكلية لمشروع الأستاذ الإمام محمد عبده ، ومدي جديته وتوافقه مع آراء ومشاريع المصلحين ممن جاءوا بعده !.

وسوف نومئ إلي تلامذته وأساتذته في العالم الإسلامي شرقا وغربا . وجهوده الإصلاحية وموقفه من الاستبداد السياسي ، والتربية الأخلاقية ، وتطبيب داء الأمة بصفة عامة ، وفوق كل ذلك سوف نترجم له الترجمة التقليدية من مولده ونشأته وحياته لأنها تهم الباحثين .

مولده ونشأته

ولد الشيخ محمد عبده حسن خير الله في قرية محلة نصر بمركز شبراخيت من أعمال محافظة البحيرة سنة 1849م=1266هـ ، في أسرة تعتز بكثرة رجالها ، ومقاومتهم لظلم الحكام ، وتحملهم في سبيل ذلك العديد من التضحيات : هجرة وسجنا وتشريدا وضياع ثروة ، وهو يحكي عن هذا الأمر فيقول : إنه قد سعي واش بأهلي عند الحكام بحجة أنهم ممن يحمل السلاح ويقف في وجوه الحكام وأعوانهم عند تنفيذ المظالم ، فأخذوا جميعا ، وزُجوا في السجون واحدا بعد واحد ، ومن دخل منهم السجن لا يخرج إلا ميتا ، وكان جدي "حسن" شيخا بالبلدة وهو الذي بقي من رجال البيت مع ابن أخيه إبراهيم .

فهذه النشأة علمته الاعتزاز بالمجد والأصالة وعدم الربط بين هذه الأصالة وبين الغني والثروة ، والضن باحترامه علي أهل الثراء ، خصوصا المسرفين منهم والعاطلين عن الكفاءة ، وأيضا الضن بهذا الاحترام علي الحكام الظالمين . ولقد لمس الأفغاني فيه هذا الخلق السامي فقال له : "قل لي بالله .. أي أبناء الملوك أنت ؟!" ، وقال له الخديو عباس : "إنه يدخل علي كأنه فرعون" .

تلقي تعليمه الأولي للقراءة والكتابة ، وحفظ القرآن بالقرية ، وبدأ ذلك وهو في السابعة من عمره ، ثم ذهب إلي الجامع الأحمدي بطنطا ليحضر هناك دروس تجويد القرآن الكريم في سنة 1862م = 1379 هجري .

وبدأ في سنة 1864م يتلقي أول دروسه الأزهرية في الجامع الأحمدي ، بعد أن استكمل تجويد القرآن ، ولكن أساليب التدريس العقيمة قد صدته عن قبول الدروس ، فقرر هجران الدراسة بعد عام من شروعه فيها ، وعاد إلي القرية سنة 1865م ، وتزوج ، وعزم علي العمل بالزراعة مع أبيه وأخويه والانقطاع عن السلك التعليمي ، ولكن والده رفض ذلك ، وقرر إعادته إلي الجامع الأحمدي في العام نفسه .

في هذه الفترة التقي بالشيخ درويش خضر –خال والده- وهو صوفي كان علي اتصال بالزاوية السنوسية ، فألقي إليه ببعض من حكمة التصوف وقاده إلي شيء من سلوك الصوفية ، فعادت إليه الرغبة في التعليم ، وعاد إلي الجامع الأحمدي سنة 1865م = 1282 هجري .

وبدأ يفكر في الذهاب إلي القاهرة كي يلتحق بالجامع الأزهر ، وتحت تأثير التصوف حدث ذلك الذي صور به تلك الرغبة عندما كتب ليقول : "في يوم من شهر رجب من تلك السنة -1282هجري- ، كنت أطالع بين الطلبة ، وأقرأ في شرح الزرقاني ، فرأيت أمامي شخصا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب ، فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه : ما أحلى حلواء مصر البيضاء .. فقلت له وأين الحلوى التي معك ؟ فقال : سبحان الله ! من جد وجد ! ثم انصرف .. فعددت ذلك القول إلهاما ساقه الله إليّ ، ليحملني علي طلب العلم في مصر دون طنطا".

وذهب إلي الأزهر ، بمصر ، في فبراير ، سنة 1866م ، وكان الأزهر يومئذ حزبان : حزب شرعي محافظ ، وحزب صوفي أقل في محافظته من الشرعيين ، وحضر محمد عبده دروس كلا الفريقين.. (1)

حال الأزهر

منذ أن استولت الدولة العثمانية التركية علي مصر وجعلتها ولاية تابعة لها كسائر ولاياتها أخذ الأزهر في الضعف ، ولم يأتي عليه القرن الثاني عشر الهجري حتى كان قد انقطعت صلته بماضيه المجيد ولم يبق فيه وجود لسلفه الصالح الذي كان يُعني بالعلوم علي اختلاف أنواعها ولا يفرق في هذا بين ما يسمي علوم الدنيا وما يسمي علوم الدين ، لأن كل علم نافع كان عنده من فروض الكفاية ، فيجب علي علماء الأمة الاهتمام بدرسه ، ليقوم به أمر دينها ودنياها . لأنه لا غني لأحدهما عن الآخر .

فلم يكن يدرس في الأزهر علي هذا العهد إلا قليل من العلوم الدينية ، كعلم الفقه والتفسير ، وإلا قليل من علوم العربية كالنحو والصرف ، وبهذا لم يكن في الأزهر علي هذا العهد عالم يضاهي علماء السلف في سعة الاطلاع واتساع الأفق العلمي ، وإنما كان هناك علماء قلت بضاعتهم في العلم فلا يعرفون إلا قشورا لا تنهض بأمة ولا تقوم بدولة وقد انقطعوا بها في عزلة عن العالم فلا يشعرون به ولا يشعر بهم ، ولا يتعدي تفكيرهم جدران الأزهر الذي صار عندهم كل شيء في دنياهم .

إقناع الشيخ محمد عبده عباس باشا بإصلاح الأزهر

قام عباس باشا الثاني بالأمر في مصر بعد وفاة أبيه توفيق باشا سنة 1309 ، وكان شابا لم يجاوز سنه سبع عشرة سنة ، وقد تعلم في النمسا بمدرسة يتعلم فيها أبناء الملوك والأمراء ، فتأثرت نفسه بتلك البيئة التي قضي فيها مدة الطلب ، فلما تولي بعد أبيه أراد أن يكون له سلطة فعلية في حكم مصر وأبي لأن يرضي بما كان يرضي به أبوه من استئثار الإنجليز بالسلطة الفعلية في مصر ، ورأي أن خير وسيلة توصله إلي هذا أن يضم إليه ذوي الزعامة من المصريين .

فتوجه نظره إلي الشيخ محمد عبده لأنه كان أقوي تلامذة [جمال الدين الأفغاني] وكان قد عاد من منفاه إلي مصر سنة 1306 هجري ، بعد أن اتصل في منفاه بأستاذه جمال الدين الأفغاني ، وأقام معه مدة في باريس أنشأ فيها مجلة العروة الوثقي لتجاهد في الإصلاح الإسلامي ، وتحارب الاستعمار الذي يحاول القضاء علي البلاد الإسلامية ، فتعلم الشيخ محمد عبده اللغة الفرنسية في باريس وجمع إلي ثقافته الأزهرية ثقافة أوربية حديثة ، فلما عاد من منفاه لمصر عاد إليها أقوي سلاحا ن وأمتن علما ، وأشد رغبة في الإصلاح الذي بدأ حياته بالدعوة إليه ، حتى انتهي به إلي النفي من مصر لاشتراكه في الثورة العرابية .

فقربه عباس باشا إليه ، ليساعده في الوصول ، إلي مأربه في مناهضة الإنجليز ، ورأي الشيخ محمد عبده أن يستغل تقريبه له في الوصول إلي ما يريده من الإصلاح ، وقد ذكر السيد رشيد رضا في تاريخ الأستاذ الإمام كيف استغل الشيخ محمد عبده فرصة تقريب عباس باشا له في ذلك .

فقال بعد تمهيد له في بدء تمكن الشيخ محمد عبده من العمل في إصلاح الأزهر : وأما بدء عمله في الأزهر فقد أُتيح له بعد وفاة توفيق باشا فإنه لما جلس عباس باشا علي كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال ، وتوجهت إلي أعمال ، كان الغرض منها إزاحة الاحتلال ، ولو كان هذا الغرض مما ترجي إصابته يومئذ بسهام المصريين ، لكان الفقيد –الشيخ محمد عبده- يكون في طليعة العاملين ، لأنه كما نعلم أنفذهم رأيا ، وأقواهم عزما ، وأخلصهم قلبا .

ولكنه كان يعتقد بعد ذلك السعي الذي شرحناه في الفصل السابق أن المسألة المصرية لا يمكن حلها بوسيلة السياسة إلا باتفاق الدول العظام ، وأن الرجاء في اتفاقهم بعيد ، فأراد أن يكون حظه من حب الأمير الجديد للعمل والسعي في إصلاح الأزهر بنفسه ، وإقناع الأمير بالسعي في إصلاح المحاكم الشرعية والأوقاف .

لأن هذه المصالح الثلاث إسلامية محضة ، تشمل إصلاح التربية والتعليم وإصلاح المساجد والإرشاد وإصلاح البيوت ، فاتصل بالأمير وحظي عنده وكاشفه برأيه فيها ، بأن قال له وقد رآه متبرما ضجرا من استيلاء الإنجليز علي جميع أعمال الحكومة : إن لدي أفندينا هذه المصالح الثلاث العظيمة ، فيمكنه أن يصلح الأمة كلها بإصلاحها ، وقد تركها الإنكليز له لأنها دينية ، فهم لا ينازعونه فيها الآن .

ولا يؤمن تدخلهم في شأنها إذا طال العهد ، وساعدت الفرص ، فيجب المبادرة لإصلاحها ، وذكر له كليات هذا الإصلاح ، وكاشف الحكومة بأمله في إصلاح الأزهر بأسلوب آخر ، وجاء بما جاء به من آيات الإقناع ، حتى توصل إلي إنشاء قانون تمهيدي للإصلاح ، يديره مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر ، وقد جعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان من أعضائه ، علي أنهما من قبل الحكومة ، لا رأي لشيخ الأزهر ولا للمجلس في انتخابهما ولا في استبدال غيرهما بهما.. (2)

وكان الوضع التعليمي في الأزهر صعبا جدا ، فكان يدرس فيه علوم الدين من تفسير وحديث وفقه وعقائد وعلوم اللغة من نحو وصرف وبيان ومعان ، في كتب مقررة لها متون وشروح وحواش ، ويقضي الوقت في تفهم تعبيراتها ، وإيراد الاعتراضات والإجابة عنها ، فالعلم شكل علم لا علم ، والنتاج جدل لا حقائق ، والناجح في الامتحان الذي يستحق أن يكون عالما أقدرهم علي الجدل ، وحفظ المصطلحات الشكلية ، أما الجميع فسواء في عدم التحصيل إذا مسوا الحياة الخارجية . فالمناقشة في أن شرب الدخان حلال أو حرام ، والغيبة أشد حرمة أم سماع الآلات الموسيقية ، وخيال الظل تجوز رؤيته أو لا تجوز !!.. (3)

ولقد هاجم هذه الطريقة السمجة الباردة كبار العلماء والعقلاء كالعلامة الفقيه محمد أبو زهرة ، يقول محمد رجب البيومي في كتابه "من أعلام العصر" : كنت متجها إلي زيارة أستاذي الدكتور عبد الحليم محمود ، وكان حينئذ أمينا عاما لمجمع البحوث الإسلامية ، فصادفت الأستاذ الكبير أبا زهرة يجلس معه ، وقد تفضل فرحب بي مشجعا ، وكنت في هذه الآونة مشغولا بكتابة بحث عن الخطابة في العصر النبوي ، فقلت للشيخ : أنا أعرف أن لك كتابا قيما في تاريخ الخطابة وأساليبها المختلفة ، وعجبت كيف انتقلت من الفقه إلي الأدب .

فرأيت أبا زهرة يتنهد ، فأشفقت أن أكون آلمته حيث لا أود ، ثم استمعت إليه يقول : يا بني ، إن الثقافة الإسلامية جزءٌ لا يتجزأ ، وكمٌ لا ينفصل ، فلابد لدارس الفقه والحديث والتفسير أن يدرس علوم الأدب ، لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه إلا إذا رُزق البيان الناصع ، والأئمة الكبار من الفقهاء كانوا يملكون نعمة البيان ، فاستطاعوا أن يضعوا المؤلفات القيمة ، وما انحطت كتب الفقه في العصور المتأخرة إلا لأنها كُتبت بأقلام لم تتذوق البيان العربي ، فجاء أكثرها شبيها بالأحاجي والألغاز .. (4)

محمد عبده والمشروع الإصلاحي

الإصلاح السياسي

يقول محمد عبده في هذا الصدد: إن أهالي مصر قبل سنة 1293 هجري ، كانوا يرون شئونهم العامة بل والخاصة ملكا لحكامهم ، ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم ، يتصرف فيها حسب إرادته ، ويعتقد أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلي أمانته وعدله أو خيانته وظلمه ، ولا يري أحدٌ منهم لنفسه رأيا يحق له أن يبدي في إدارة البلاد ، أو إرادة يتقدم بها إلي عمل من الأعمال يري فيه صلاحا لأمته .
ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوي أنهم مصرّفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم ، وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخري سواء كانت إسلامية أو أوربية ، ومع كثرة من ذهب منهم إلي أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار .
ومع أن إسماعيل أبدع مجلس الشورى في مصر سنة 1283 هجري ، وكان من حقه أن يعلّم الأهالي أن لهم شأنا في مصالح بلادهم ، وأن لهم رأيا يرجع إليه فيها لم يحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن له ذلك الحق الذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشورية ، لأن مُبدع المجلس قيده في النظام وفي العمل ، ولو حدث إنسانا فكره السليم بأن هناك وجهة غير التي يوجهها الحاكم لما أمكنه ذلك ، فإن بجانب كل لفظ نفيا عن الوطن أو إزهاقا للروح أو تجريدا من المال .
ويقول في موضع آخر: لقد ارتفع صوتي بالدعوة إلي أمرين عظيمين ، الأمر الأول : تحرير الفكر من قيد التقليد ، وفهم الدين علي طريقة السلف قبل ظهور الخلاف ، والرجوع في كسب معارفه إلي ينابيعها الأولي ، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه ، وتقلل من خلطه وخبطه .. وأنه علي هذا الوجه يُعدّ صديقا للعلم باعثا علي البحث في أسرار الكون ، وداعيا إلي احترام الحقائق الثابتة ، مطالبا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل .

إصلاح اللغة

والأمر الثاني: إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كانت المخاطبات الرسمية أو في المراسلات بين الناس ، وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في أمرين : كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العرب ، الأول : ما كان مستعملا في مصالح الحكومة وما يشبهها ، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات ، رث خبيث غير مفهوم ، ولا يمكن رده إلي لغة من لغات العالم لا في صورته ولا في مادته ، والنوع الثاني : ما كان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر ، وهو ما كان يراعي فيه السجع وإن كان باردا ، وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس وإن كان رديئا في الذوق بعيدا عن الفهم ثقيلا علي السمع ، غير مؤد للمعني المقصود .

موقفه من الاستبداد السياسي

وهناك أمرٌ آخر كنتُ من دعاته ، والناس جميعا في عمي عنه ، ولكنه الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية ، وما أصابهم الوهن والضعف والذب إلا بخلو مجتمعهم منه ، وذلك هو التمييز بيم ما للحكومة من حق الطاعة علي الشعب وما للشعب من حق العدالة علي الحكومة ، نعم : كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلي معرفة حقها علي حاكمها ، وهي لم يخطر لها هذا الخاطر علي البال من مدة تزيد علي العشرين قرنا ، دعوناها إلي الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم ، وأنه لا يرده عن خطئه ولا يوقف طغيان شهواته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل ، وجهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه ، والظلم قابض علي صولجانه ، ويد الظالم من حديد ، والناس له عبيد أي عبيد .
ولم أكن في كل ذلك الإمام المتبع ، ولا الرئيس المطاع ، غير أني كتبت روح الدعوة وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة .
ولا أبرح أدعو إلي عقيدتي في الدين ، وأقارب بإتمام الإصلاح في اللغة ، وقد قارب . أما أمر الحكومة والمحكوم فتركه للقدر يقدره ، وليد الله بعد ذلك تدبره ، لأني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه ، وتقوم علي تنميته السنون الطوال ، فهذا الغراس الذي ينبغي أن يعني به الآن ، والله هو المستعان.
ولقد قاوم محمد عبده المستبدين حتى اعتقلوه ، وأقر أن خصيان الخديوي قد ذهبوا إلي زعماء الوطنيين في السجن وضربوهم وأهانوهم ، وكان الشيخ محمد عبده نفسه أحد هؤلاء المساجين ، وقد وقعت به الإهانة مثل غيره ، كما يقول سكاون بلنت.. (5)
ويقول محمد عبده بنفسه: وكنت أنتقد الحكومة بشدة في الجرائد الرسمية وكنت لا أضيق علي الجرائد باعتباري رئيس قلم المطبوعات.. (6)

موقفه من الاحتلال البريطاني

الإمام محمد عبده شاباً
الأمر الذي لم يختلف من حوله موقف الأستاذ الشيخ هو عداؤه لاحتلال الإنجليز مصر ، وكراهيته هذا الاحتلال ، وثقته بزواله ، وعمله من أجل حرية البلاد ..
أما الأمر الذي اختلف إزاءه موقفه ، فهو الأسلوب والآلية التي ينبغي اتباعها لبلوغ الغاية وتحرير البلاد من هذا الاحتلال ، فهو قد حارب الاحتلال مع العرابيين ، وكان ثوريا يومئذ ، وجاري أستاذه الأفغاني في سلوك الطريق الثوري لمناهضة هذا الاحتلال ، وهو في المنفي عندما شارك في تنظيم العروة الوثقي السري ، ولكنه بعد العودة من المنفي ، سلك طريق التربية والتعليم ، وتكوين القيادات الفكرية المتحررة والمستنيرة ، ظنا منه أن هذا الطريق التدريجي سوف يثمر ، ولو بعد أزمنة طويلة ، تحقيق حرية البلاد ، عندما تنمو شخصيتها فتصبح أعظم وأقوي من قدرات الاحتلال .
وإذا كانت مناهضته للنفوذ والاحتلال الإنجليزي ، إبان الثورة العرابية ، قضية ليس عليها خلاف ، فإن الوهم الذي يسيطر علي البعض فيجعلهم يقولون إن الرجل قد غير موقفه بعد فشل الثورة العرابية ، إن هذا الوهم في حاجة إلي تبديد .
فعندما زار لندن مبعوثا من قبل قيادة تنظيم العروة الوثقي أدلي بحديث إلي صحيفة البول ميل جازيت عن احتلال الإنجليز لمصر ، خاطب فيه الإنجليز بقوله : إننا نري أن انتصاركم للحرية إنما هو انتصار لما فيه مصلحتكم ، وأن عطفكم علينا كعطف الذئب علي الحمل . ولقد قضيتم علي عناصر الخير فينا ، لكي تكون لكم من ذلك حجة للبقاء في بلادنا .. لم لا تغادرون بلادنا في الحال ؟! ..
لقد علمنا الإنجليز شيئا واحدا هو: التضامن في مطالبتكم بالجلاء .. شكونا من الأتراك لأنهم أجانب عن وطننا ، وأردنا لبلادنا إصلاحا وتقدما كتقدم الأوربيين في طريق الحرية ، لكننا الآن نعلم أن هناك ما هو شر من استبداد الحكام ، وشر من ظلم الأتراك ، وليس في مصر من بلغ به الظلم حدا يرجو معه مساعدتكم .. إن لنا إليكم رجاء واحدا ، وهو : أن تغادروا بلادنا حالا ، إلي غير رجعة .
وفي هذه الزيارة إلي "لندن" يلتقي بوزير الحربية الإنجليزي "لورد هرتنكتون" ويدور بينهما حديث يتناول فيه الوزير الإنجليزي أهل مصر بما يقلل من شأنهم ، ويطعن في استحقاقهم وأهليتهم للحرية والاستقلال ، فيغضب الشيخ محمد عبده لوطنه وحريته ويؤكد رفض طبيعة هذا الوطن لسلطة الحكم الأجنبي ، ويدلل علي أهلية هذه البلاد للحرية وحقها في طرد قوات الاحتلال ، فيقول مخاطبا الوزير الإنجليزي : إن المصريين قوم عرب ، وكلهم مسلمون إلا قليلا ، وفيهم من محبي أوطانهم مثل ما في الشعب الإنجليزي ، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلي الخضوع لسلطة من يخالفه في الدين والجنس .
إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع في فطرة البشر ، وليس بمحتاج للدرس والمطالعة ، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد الأمم توحشا.. (7)

الشيخ محمد عبده وإصلاح الأسرة

كانت المرأة في عصر محمد عبده ممنوعة من بدهيات اليوم ، التعليم ، والخروج للعمل ، والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والدلاء بالرأي ، والجهر بالقول ، والصدع بالحق ، وكانت واقعة تحت عادات قديمة ما أنزل الله بها من سلطان ، ويُنظر إليها علي أنها متاع فقط .
وهي نصف المجتمع لا شك ، مما دعا محمد عبده لمحاولة الإصلاح ولفت الانتباه إلي أن نصف المجتمع في حالة ممات ، تام . ودعا إلي إيقاظ هذا النصف .
وفي عدد غير قليل من الآثار الفكرية التي خلفها لنا الأستاذ الشيخ محمد عبده ، نجد اهتمامه بالأسرة ، وتركيزه علي أن إصلاحها وإقامتها علي أسس سليمة هما الضمان لتكوين المجتمع والأمة علي النحو الذي نريد من جهودنا في الإصلاح ، لأن الأسرة هي اللبنة الأولي في هذا البناء الكبير .
فهو يتحدث عن أن الأمة تتألف من البيوت –العائلات- فصلاحها صلاحها ، ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة .
وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان علي أشدهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد ، ثم بين سائر الأقربين . فمن فسدت فطرته لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجي منه للبعداء والأبعدين ؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمة ، لأنه لا تنفع فيه اللحمة النسبية –التي هي أقوي لحمة طبيعية تصل بين الناس- فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل ، فتجعله جزءا منهم يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ، ويري منفعتهم عين منفعته ومضرتهم عين مضرته ، وهو ما يجب علي كل شخص لأمته .
وهو يري أن هذا التلاحم الأسري له دور في رعاية المحتاجين في المجتمع والفقراء من أهله .
فصلاح البيت الصغير يحدث له قوة فإذا عاون أهله البيوت الأخري التي تنسب إلي هذا البيت بالقرابة وعاونته هي أيضا ، يكون لكل البيوت المتعاونة قوة كبري يمكنه أن يحسن بها إلي المحتاجين الذين ليس لهم بيوت ، تكفيهم مئونة الحاجة إلي الناس الذين لا يجمعهم بهم نسب .
وفي وضع المرأة يقول الشيخ محمد عبده رحمه الله : ( لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصا تقضي بالحجاب ، علي ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين –الحجاب هنا هو المكوث في البيت وعدم الخروج وإذا تم الخروج للضرورات الكادحة فبالبرقع ليس غير- ، لوجب عليّ اجتناب البحث فيه ، ولما كتبت حرفا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر ، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة .
لكننا لا نجد نصا في الشريعة يوجب الحجاب علي هذه الطريقة المعهودة ، وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت من الناس باسم الدين والدين براء منها .
ولذلك لا نري مانعا من البحث فيها ، بل نري من الواجب أن نلم بها ونبين حكم الشريعة في شأنها ، وحاجة الناس إلي تغييرها .
جاء في الكتاب العزيز: ﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكي لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن علي جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا علي عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن﴾ .
أباحت الشريعة في هذه الآية للمرأة أن تظهر بعض أعضاء من جسمها أمام الأجنبي عنها ، غير أنها لم تسم تلك المواضع . وقد قال العلماء : إنها وكلت فهمها وتعيينها إلي ما كان معروفا في العادة وقت الخطاب .
واتفق الأئمة علي أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء في الآية ، ووقع الخلاف بينهم في أعضاء أخري كالذراعين والقدمين .
جاء في "ابن عابدين": (وعورة الحرة بدنها حتى شعرها النازل جميعه في الأصح، خلا الوجه والكفين والقدمين علي المعتمد ، وصوتها علي الراجح ، وذراعيها علي المرجوح . وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة، كمسه وإن امن الشهوة لأنه أغلظ ، ولذلك تثبت به حرمة المصاهرة كما يأتي في الحظر ، ولا يجوز النظر إليه بشهوة كوجه أمرد فإنه يحرم النظر إلي وجهها ووجه الأمرد إذا شك في الشهوة ، أما بدونها فيباح ولو جميلا) .
وذكر في كتاب "الروض" ، في المذهب الشافعي: ( نظر الوجه والكفين عند أمن الفتنة من المرأة للرجل وعكسه جائز ، ويجوز نظر وجه المرأة عند المعاملة وعند تحمل الشهادة ، وتكلف كشفه عند الأداء . ) .
وجاء في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان بن علي الزيلعي" : ( وبدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها ، لقوله تعالي : ﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾ ، والمراد محل زينتهن وما ظهر منها : الوجه والكفان . قاله ابن عباس وابن عمر .
واستثني في "المختصر" الأعضاء الثلاثة للابتلاء بإبدائها ، لأنه عليه الصلاة والسلام نهي المحرمة عن لبس القفازين والنقاب . ولو كان الوجه والكفان من العورة لما حرم سترهما بالمخيط . وفي القدم روايتان والأصح أنها ليست بعورة للابتلاء بإبدائها . ) .
وحكم الوجه والكفين ، أنها ليست بعورة معروف كذلك عند المالكية والحنابلة . ولا نطيل الكلام بنقل نصوص أهل هذين المذهبين .
ومما يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( إن أسماء بنت أبي بكر دخلت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فقال لها : يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يري منها إلا هذا وهذا ، وأشار إلي وجهه وكفيه . ) .
وورد أيضا في كتاب "حسن الأسوة" للسيد محمد صديق حسن خان بهادر: ( وإنما رخص للمرأة في هذا القدر لأن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلي كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والزواج ، وتضطر إلي المشي في الطرقات ، وظهور قدميها ، وخاصة الفقيرات منهن . ) .
خولت الشريعة للمرأة ما للرجال من الحقوق ، وألقت عليها تبعة أعمالها المدنية والجنائية ، فللمرأة الحق في إدارة أموالها والتصرف فيها بنفسها ، فكيف يمكن لرجل أن يتعاقد معها من غير أن يراها ويتحقق شخصيتها ؟!
ومن غريب وسائل التحقق أن تحضر المرأة مغلفة من رأسها إلي قدميها ، أو تقف من وراء ستار أو باب ، ويقال للرجال : ها هي ذي فلانة التي تريد أن تبيعك دارها أو تقيمك وكيلا في زواجها مثلا ، فتقول المرأة : بعت ، أو تقول : وكلت ، والحال أنه ليس في هذه الأعمال ضمانة يطمئن إليها أحد .
وكثيرا ما أظهرت الوقائع القضائية سهولة استعمال الغش والتزوير في مثل هذه الأحوال ، فكم رأينا أن امرأة تزوجت بغير علمها ، وأجَّرت أملاكها بدون شعورها ، بل تجردت من كل ما تملكه علي جهل منها ، وذلك كله ناشئ من تحجبها وقيام الرجال دونها ، يحولون بينها وبين من يعاملها .
كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتخذ صناعة أو تجارة للتعيش منها إن كانت فقيرة ؟ كيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة بمنزل فيه رجال ؟ كيف يمكن لتاجرة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال ؟
كيف يتسنى لزارعة محجوبة أن تفلح أرضها وتحصد زرعها ؟ كيف يمكن لعاملة محجوبة أن تباشر عملها إذا أجرت نفسها للعمل في بناء بيت أو نحوه ؟!
وبالجملة .. فقد خلق الله هذا العالم ، ومكن فيه النوع الإنساني ليتمتع من منافعه بما تسمح له قواه في الوصول إليه ، ووضع للتصرف فيه حدودا تتبعها حقوق ، وسوي في التزام الحدود والتمتع بالحقوق بين الرجل والمرأة من هذا النوع ، ولم يقسم الكون بينهما قسمة أفزاز ، ولم يجعل جانبا من الأرض للنساء يتمتعن بالمنافع فيه وحدهن وجانبا للرجال يعملون فيه في عزلة عن النساء ، بل جعل متاع الحياة مشتركا بين الصنفين ، شائعا تحت سلطة قواهما بلا تمييز .
فكيف يمكن مع هذا لامرأة أن تتمتع بما شاء الله أن تتمتع به مما هيأها له ، بالحياة ولواحقها من المشاعر والقوى ، وما عرضه عليها لتعمل فيه من الكون المشترك بينهما وبين الرجال إذا حظر عليها أن تقع تحت أعين الرجال ، إلا من كان من محارمها ؟ .. لا ريب أن هذا مما لم يسمح به الشرع ولن يسمح به العقل ..
لهذا رأينا أن الضرورة أحالت الثبات علي هذا الضرب من الحجاب عند أغلب الطبقات من المسلمين ، كما نشاهده في الخادمات والعاملات وسكان القرى ، حتى من أهل الطبقة الوسطى ، بل وبعض أهل العلياء من أهل البادية والقرى ، والكل مسلمون ، بل قد يكون الدين أمكن فيهم منه في أهل المدن !!
إذا وقفت المرأة في بعض مواقف القضاء خصما أو شاهدا ، كيف أنه يسوغ لها ستر وجهها ؟ مضت سنون والخصوم وقضاة المحاكم أنفسهم غافلون عما يهم في هذه المسألة ، متساهلون في رعاية الواجب فيها ، فهم يقبلون أن تحضر المرأة أمامهم مستترة الوجه ، وهي مدعية أو مدعى عليها أو شاهدة ، وذلك منهم استسلام للعوائد ، وليس بخاف ما في هذا التسامح من الضرر الذي يصعب استمراره فيما أظن . ذلك لعدم الثقة بمعرفة الشخص المستتر ، ولما في ذلك من سهولة الغش .
كل رجل يقف مع امرأة موقف المخاصمة من همه أن يعرف تلك التي تخاصمه . وله في ذلك فوائد كثيرة ، من أهمها صحة التمسك بقولها ، ولا أظن أنه يسوغ للقاضي أن يحكم علي شخص مستتر الوجه ولا أن يحكم له .
ولا أظن أنه يسوغ له أن يسمع شاهدا كذلك . بل أقول : إن أول واجب عليه أن يتعرف وجه الشاهد والخصم ، خصوصا في الجنايات ، وإلا فأى معنى لما أوجبه الشرع والقانون من السؤال عن اسم الشخص وسنه وصناعته ومولده ؟ . وماذا تفيد معرفة هذه الأمور كلها إذا لم يكن معروفا بشخصه ؟!.
والحكمة في أن الشريعة الغراء كلفت المرأة بكشف وجهها عند تأدية الشهادة ، كما مر ، ظاهرة ، وهي تمكن القاضي من التفرس في الحركات التي تظهر عليه ، فيقدر الشهادة بذلك قدرها .
لا ريب في أن ما ذكرنا من مضار التحجب يندرج في حكمة إباحة الشرع الإسلامي لكشف المرأة وجهها وكفيها ، ونحن لا نريد أكثر من ذلك .
واتفق أئمة المذاهب أيضا علي أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلي المرأة التي يريد أن يتزوجها ، بل قالوا بندبه ، عملا بما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم حيث قال لأحد الأنصار –وكان قد خطب امرأة- : { أنظرت إليها ؟ } ، قال : لا ، قال : { انظر إليها ، فإنه أحري أن يؤدم بينكما } .
هذه هي نصوص القرآن وروايات الأحاديث وأقوال أئمة الفقه كلها واضحة جلية في أن الله تعالي قد أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها ، وذلك للحكم التي لا يصعب إدراكها علي كل من عَقل .
هذا حكم الشريعة الإسلامية ، كله يسر لا عسر فيه ، لا على النساء ولا علي الرجال ، ولا يضرب بين الفريقين بحجاب لا يخفي ما فيه من الحرج عليهما في المعاملات والمشقة في أداء كل منهما ما كلف به من الأعمال ، سواء كان تكليفا شرعيا أو تكليفا قضت به ضرورة المعاش .
أما دعوى أن ذلك من آداب المرأة فلا إخالها صحيحة ، لأنه لا أصل يمكن أن ترجع إليه هذه الدعوى .
وأي علاقة بين الأدب وبين كشف الوجه وستره ؟! وعلى أي قاعدة بني الفرق بين الرجل والمرأة ؟ أليس الأدب في الحقيقة واحدا بالنسبة للرجال والنساء ؟ وموضوعه الأعمال والمقاصد لا الأشكال والملابس ؟
وأما خوف الفتنة الذي نراه يطوف في كل سطر مما يكتب في هذه المسألة تقريبا فهو أمر يتعلق بقلوب الخائفين من الرجال وليس علي النساء تقدير ، ولا هن مطالبات بمعرفته ، وعلي من يخاف الفتنة من الرجال أن يغض بصره ، كما أنه علي من يخافها من النساء أن تغض بصرها .
والأوامر الواردة في الآية الكريمة موجهة إلي كل من الفريقين بغض البصر علي السواء ، وفي هذا دلالة واضحة علي أن المرأة ليست بأولي من الرجل بتغطية وجهها.
عجبا ! لم يؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن ؟ هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة ، واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم علي هواه ؟ واعتبرت المرأة أقوي منه في كل ذلك ، حتى أُبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال ، ومنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعا مطلقا خوف أن ينفلت زمام هوي النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأي امرأة تعرضت له مهما بلغت من القبح وبشاعة الخَلْق ؟
إن زعم زاعم صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافا منه بأن المرأة أكمل استعدادا من الرجل ، فلم توضع حينئذ تحت رقه في كل حال ؟ فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحا فلم هذا التحكم المعروف ؟
علي أن البرقع والنقاب مما يزيد من خوف الفتنة ، لأن هذا النقاب الأبيض الرقيق الذي تبدو من ورائه المحاسن وتختفي من ورائه العيوب ، والبرقع الذي يختفي تحته طرف الأنف والفم والشدقان ويظهر منه الجبين والحواجب والعيون والخدود والأصداغ وصفحات العنق .. هذا الساتر في الحقيقة من الزينة التي تحث رغبة الناظر وتحمله علي اكتشاف قليل خفي بعد الافتتان بكثير ظهر . ولو أن المرأة كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلقها ما يرد في الغالب البصر عنها .
ليست أسباب الفتنة ما يبدو من أعضاء المرأة الظاهرة ، بل من أهم أسبابها ما يصدر عنها من الحركات في أثناء مشيها ، وما يبدو من الأفاعيل التي ترشد عما في نفسها .
والنقاب والبرقع من أشد أعوان المرأة علي إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة ، لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد ، فيقول : فلانة أو بنت فلان أو زوجة فلان كانت تفعل كذا ، فهي تأتي كل ما تشتهيه من ذلك تحت حماية ذلك البرقع وهذا النقاب .
أما لو كان وجهها مكشوفا فإن نسبتها إلي عائلتها أو شرفها في نفسها يشعرانها بالحياء والخجل ويمنعانها من إبداء حركة أو عمل يتوهم منه أدنى رغبة منها في استلفات النظر إليها .
والحق أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب ، بل هما من العادات القديمة السابقة علي الإسلام والباقية بعده .
ويدلنا علي ذلك أن هذه العادة ليست معروفة في كثير من البلاد الإسلامية وأنها لم تزل معروفة عند أغلب الأمم الشرقية التي لم تتدين بدين الإسلام .
وإنما من مشروعات الإسلام ضرب الخمر علي الجيوب ، كما هو صريح الآية ، وليس في ذلك شيء من التبرقع والانتقاب .
هذا ما يتعلق بكشف الوجه واليدين . أما ما يتعلق بالحجاب بمعني قصر المرأة في بيتها والحظر عليها أن تخالط الرجال ، فالكلام فيه ينقسم إلي قسمين : ما يختص بنساء النبي صلي الله عليه وسلم ، وما يتعلق بغيرهن من نساء المسلمين ، ولا أثر في الشريعة لغير هذين القسمين:
أما القسم الأول فقد ورد فيه ما يأتي من الآيات :
  • ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ﴾ ... ﴿ وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ﴾ { الأحزاب 53 } .
  • ﴿ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي ﴾ { الأحزاب : 32 و 33 } .
الإمام محمد عبده
ولا يوجد اختلاف في جميع كتب الفقه من أي مذهب كانت ولا في كتب التفاسير في أن هذه النصوص الشريفة هي خاصة بنساء النبي صلي الله عليه وسلم ، أمرهن الله سبحانه وتعالي بالتحجب وبين لنا سبب هذا الحكم وهو أنهن لسن كأحد من النساء .
ولما كان الخطاب خاصا بنساء الرسول صلي الله عليه وسلم ، وكانت أسباب التنزيل خاصة بهن لا تنطبق علي غيرهن ، فهذا الحجاب ليس بفرض ولا بواجب علي أحد من نساء المسلمين .
وأما القسم الثاني: فغاية ما ورد في كتب الفقه عنه حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم ، نهي فيه عن الخلوة مع الأجنبي وهو : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ) . قال ابن عابدين : الخلوة خربة ، أو كانت عجوزا شوهاء أو بحائل ، وقيل : الخلوة بالأجنبية مكروهة كراهة تحريم ، وعن يوسف ليست بتحريم .
وقالوا: إن الخلوة المحرمة تنتفي بالحائل وبوجود محرم أو امرأة ثقة قادرة ، وهي تنتفي أيضا بوجود رجل آخر لم تره.
ربما يقال : إن ما فرضه الله علي نساء نبيه يستحب اتباعه لنساء المسلمين كافة .
فنجيب : إن قوله تعالي ﴿ لستن كأحد من النساء ﴾ ، يشير إلي عدم الرغبة في المساواة في هذا الحكم وينبهنا إلي أن في عدم الحجاب حكما ينبغي لنا اعتبارها واحترامها ، وليس من الصواب تعطيل تلك الأحكام مرضاة لاتباع الأسوة .
وكما لا يحسن التوسع فيما فيه تيسير أو تخفيف ، كذلك لا يجعل الغلو فيما فيه تشديد وتضييق أو تعطيل لشيء من مصالح الحياة .
وعلي هذا وردت آيات الكتاب المبين ، قال تعالي : ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ ، وقال : ﴿ ما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ ، وقال أيضا : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ .. ولو كان اتباع الأسوة مطلوبا في مثل هذه الحالة لما رأينا أحد المشهورين بشدة التقوى والتمسك بالسنة يجري في عائلته علي ما يخالف الحجاب .
واستدل علي ذلك بذكر الواقعة الآتية: بعث سلمة بن قيس برجل من قومه يخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بواقعة حربية ، فلما وصل ذلك الرجل إلي بيت عمر قال : ( فاستأذنت وسلمت ، فأذن لي ، فدخلت عليه ، فإذا هو جالس علي مسح متكئ علي وسادتين من أدم محشوتين ليفا ، فنبذ إليّ بإحداهما ، فجلست عليها . وإذا بهو في صفة فيها بيت عليه ستر فقال : يا أم كلثوم ، غداءنا .
فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق . فقال : ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا ؟ قالت : إني أستمع عندك حس رجل .
قال : نعم ، ولا أراه من أهل البلد . قالت : فذلك حين عرفت أنه لم يعرفني ، ولكن لو أردت أن أخرج إلي الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته وكما كسا الزبير امرأته وكما كسا طلحة امرأته .
قال : أو ما يكفيك أن يقال : أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر ؟! فقال : فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا !! ) انتهي .
هذا مثال واحد من المعارك الشرسة التي خاضها محمد عبده رحمه الله لإصلاح الوضع الاجتماعي للمرأة ودعوتها للمشاركة في الحياة العامة بالضوابط والأسوار الإسلامية التي لا خلاف فيها بين علماء الأمة .

قالوا عنه

1- عبد الرحمن الكواكبي

سأل الخديو عباس حلمي الشيخ عبد الرحمن الكواكبي : كيف رأيت الشيخ محمد عبده ؟ قال الكواكبي : إن إفريقية أخرجت كثيرا من العلماء في العلوم والفنون المختلفة دون الفلسفة ، ولكنها أخرجت فيلسوفا واحدا بزّ جميع الفلاسفة هو ابن خلدون ، وكذلك مصر أخرجت من لا يحصي من العلماء دون الفلاسفة والحكماء ، ثم أخرجت أخيرا حكيما فاق جميع الحكماء ، وهو الشيخ محمد عبده .
وكان الكواكبي رحمه الله يعتقد أن الشيخ محمد عبده أعلم من أستاذه الأفغاني وأنه هو الذي كبَّر صِيته ، وهذا غلط منه كما يقول رشيد رضا .. (8)

2- ماكولم مكاريث مستشار الحقانية بمصر

نوه جناب المستشار في تقريره عن تلك السنة بما كان من خدمته الثمينة لوزارة الحقانية في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية ومحاكمها ، ثم قال : وكانت آراؤه علي الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن سعة في الفكر ، كثيرا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها ، فوق ذلك فقد قام لنا بخدمات جزيلة لا تقدر في مجلس شوري القوانين في معظم ما أحدثناه أخيرا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ، ويناضل عنها ، ويبحث عن حل يرضي الفريقين كلما اقتضي الحال ذلك ، وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته ، نظرا لسمو مداركه وسعة اطلاعه وميله لكل دروب الإصلاح ، والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظفه في محكمة الاستئناف وسياحاته إلي مدن أوربا ومعاهد العلم .
كانت النظارة تريد أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاءها ومراقبتها مراقبة فعلية ، أما الآن فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة بهذه المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته ، فلكل هذه الأسباب أخشي أن نظارة الحقانية ستظل زمنا طويلا تشعر بخسارتها بفقده .

3- جورجي زيدان المؤرخ السوري

قال في مجلته "الهلال" بعد نشر مجمل ترجمته ومناقبه وأعماله: علي أن عظمته الحقيقية لا تتوقف علي ما تقدم من أعماله الخيرية أو العلمية أو القضائية وإنما تُقوّم بمشروعه الإصلاحي الذي لا يتصدي لمثله إلا أفراد لا يقوم منهم في الأمة الواحدة مهما طال عمرها إلا بضعة قليلة ، وهذا ما أردنا بسطه علي الخصوص من هذه العجالة . ثم بسطه وذكر خطته وخطة أستاذه السيد ، وضرب له المثل بمصلح النصرانية "لوثر" فقال إنه أول من جاهد في سبيلها ، وقد فاز بجهاده لقيام السياسة بنصرته .
وأما مصلح الإسلام فكانت السياسة ضده ، وإنما حمله علي تلك المجاهرة حرية ضميره وجسارته الأدبية ومنصبه الرفيع في الإفتاء .
وقال في محاولته إصلاح الأزهر: إنه لم ينجح فيه إلا قليلا ، ولكنه وضع الأساس ، ولابد من رجوع الأمة إلي تأييد هذه النهضة ولو بعد حين ، فيكون له الفضل في تأسيسها .

4- سعد زغلول

قال السيد رشيد رضا: قال لي سعد زغلول: إذا كان شيخنا قد عجز عن الإصلاح الأزهري ، وقد أوتي من العلم وقوة الإرادة والعزم ما لم نؤت ، فماذا يمكنني أن أفعل في إصلاحه .
ويقول الشيخ رشيد رضا عن شهادة سعد زغلول: لو أراد سعد أن يكتب كلمة فيما يعلمه من مناقب أستاذه لتدوّن في التاريخ لكتب ما هو أبلغ من كل ما رويناه عن غيره ، لأنه اعلم من غيره بسيرته من أول نشأته الفاضلة إلي نهايتها الكاملة ومن أقدرهم علي بيان ما يعلم.. (9)

5- محمد الغزالي

يقول رحمه الله في كتابه "علل وأدوية" (10): أكره التعصب المذهبي وأراه ضيق عقل وقلة علم ، أو ضيق خلق وقلة مروءة .
وأستحب التقليد المذهبي للعامة وأشباههم ، وللإخصائيين في علوم الكون والحياة وشئون الدنيا ، حتى لا تشغلهم الفضول عن الأصول ! وأعني بالأصول ما توفروا عليه من مهارات فنية وحيوية ، مدنية أو عسكرية لابد منها لدعم أجهزة الجهاد ورفع كفايتها ، فإن مصاب المسلمين في هذه الميادين فادح أو فاضح .
أما المشتغلون بعلوم الدين التقليدية ، فلا بأس أن يوازنوا بين وجهات النظر المختلفة ويرجحوا دليلا علي دليل ومذهبا علي مذهب .
مع إكنان الاحترام للرجال الذين قادوا ثقافتنا القديمة ، وليس هذا تفضلا عليهم نتطوع به ، بل هو أدب ننزل به علي قول الرسول صلي الله عليه وسلم "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" .
واحترامي لك لا يعني بتاتا أن أسلم بكل ما تقول ، وتخطئتي لإنسان ما لا تعني أبدا أني أفضل منه ، إن حقيقة الفضل لا يعلمها إلا الله ، والأئمة الراسخون قد تقع منهم هنات ، وما يهدم ذلك مكانة حصلوها بالسهر والإخلاص والدأب والتفاني .
وقد نبتت في عصرنا هذا نابتة سوء ، تغمز الأكابر بما تراه مأخذا عليها ، وتتعامي عن كل ما لهم من حسنات .
من المعروف أن الإمام الشافعي هو أحد مجدي الإسلام ، وهو واضع علم الأصول ، والمحامي المجيد عن السنة النبوية ، ومع ذلك فإن البعض لا يذكرونه إلا بأنه يبيح زواج البنت من الزنا ، ويقترف بدعة القنوت في الفجر .. وتوافه أخري يذكرونها .
وبهذا المنطق الصبياني لا يبقي في تاريخ المسلمين رجل موضع ثقة !.
فمن من عباقرة الأرض رُزق العصمة ؟ ذاك لو سلمنا بأن ما ذكروا مآخذ ..
أقول ذلك لمناسبة ما قرأت من تهجم علي الشيخ محمد عبده وهو أحد رواد الإصلاح الحديث ، وروح الفقه المتجدد في مدرسة المنار .
أول ما عرفت الشيخ محمد عبده في كتابه "رسالة التوحيد" وهو عرض جيد لعلم الكلام ردم الفجوة بين السلف والخلف ، وشرح العقائد شرحا يمزج بين العقل والنقل ، وتجاوز الترف العقلي والجدل اللفظي ومنهج المتون والشروح ، وقدّم أصول الإسلام تقدمة دقيقة جيدة .
ثم قرأت كتابه عن الإسلام والعلم الذي رد به علي فرح أنطون فرأيت رجلا عليما بالإسلام وتاريخه وفضله علي الحضارة الإنسانية ، عليما في الوقت نفسه بالنصرانية والهندوكية وتاريخهما وما يكتنفه من غيوم .
مَنْ مِن علماء المسلمين في عهده تحرك بهذه العاطفة ورد بهذا الرسوخ ؟
ثم قرأت تفسيره للقرآن الكريم ، ووجدت بواكير التفسير الموضوعي للسورة فيما كتب ، اهتدي إليها ذهن لماح مستوعب ، وبصر حديد في إدراك الخيوط التي تشد أجزاء السورة ، كما تشد الأعصاب أجزاء الكائن الحي .
وخصوم محمد عبده يكادون يتهمونه بالزيغ لأنه رفض حديث سحر الرسول صلي الله عليه وسلم ، مع أنه رفضه تعليقا بظاهر القرآن الكريم وإعلاء لقدر المصطفي .
وأخلص من هذا التطويل إلي أن اتهام الرجل برفض السنة كلها لأنه اعترض أثرا محددا ، جورٌ شديد ، ومدرسة المنار شديدة الاحترام للسنة ولكن القرآن عندها الدليل المقدم ، ومن يعترض هذا ؟!.

وفاته ورثاؤه

ومات الشيخ محمد عبده رحمه الله سنة 1905م ، ورثاه العلماء والكتاب والأدباء والشعراء.

وقال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي:

مفسـر آي الله بـالأمـس بيـننا

قـم اليـوم فسـر للـورى آية الموت

رُحِـمت ، مـصير العالمين كما تري

وكـلُّ هنـاء أو عـزاء إلي فــوت

هو الدهـر : ميلاد ، فشغلٌ ، فمأتمٌ

فذكرٌ كما أبقي الصدي ذاهب الصوت (11)

وقال شاعر النيل حافظ إبراهيم في رثاءه :

سـلامٌ عـلي الإسـلام بعـد محمد

سـلام علـي أيـامه النضـرات

علي الدين والدنيا ، علي العلم والحجا

علي البر والتقوى ، علي الحسنات

لقد كنت أخشي عادي المـوت قبله

فأصبحت أخشي أن تطول حياتي (12)

المراجع

(1) الأعمال الكاملة لمحمد عبده ، بعناية محمد عمارة ،1/ 25 وما بعدها ، 1/170 ، ط2/ الشروق .

(2) تاريخ إصلاح الأزهر ، عبد المتعال الصعيدي ، 44 ، ط1/ القاهرة 1943م ، ط2/ الهيئة العامة لقصور الثقافة 2011م .

(3) زعماء الإصلاح لأحمد أمين ، نقلا عن النهضة الإسلامية لمحمد رجب البيومي 1/52 .

(4) من أعلام العصر ، لمحمد رجب البيومي ، 76 ، ط2/ الدار المصرية اللبنانية 1998م .

(5) التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر – مستر ألفريد سكاون بلنت ، ص330 ، ط/ مكتبة الآداب 2008م .

(6) التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر ، 360 .

(7) الأعمال الكاملة لمحمد عبده 1/89 .

(8) الشيخ الإمام محمد عبده والتنوير قرن من الزمان علي وفاته ، دكتور عاطف العراقي ، 104 وما بعدها ، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010م .

(9) تاريخ الأستاذ الإمام ، بقلم محمد رشيد رضا ، ط/الفضيلة .

(10) علل وأدويةمحمد الغزالي – ص97 وما بعدها ، ط/ أخبار اليوم .

(11) ديوان أحمد شوقي 2/41 ، ط/ مصر د.ت .

(12) ديوان حافظ إبراهيم ، ص458 ، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب ، بتحقيق وشرح أحمد أمين ، 2008م .

(*) النص القرآني أو النبوي ، إذا كان قطعي الثبوت ننظر فيه فإذا كان قطعي الدلالة أيضا لا يجوز رده أبدا ويجب العمل به ، أما إذا كان ظني الدلالة فهو محل اجتهاد من أهل الاجتهاد .

وخلاصة القول انه إذا وجد الدليل النقلي فلا مجال للرفض العقلي ، لكن قد يكون ثمة مجالا للفهم العقلي إذا كان ظني الدلالة كما قلنا . لكن إذا لم يكن النص قطعي الثبوت فيطرح ولا وزن له .