لا تلعنوا الظلام ولكن أشعلوا الشموع "

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

بقلم الدكتور / وائل الزرد إمام المسجد العمري الكبير - غزة

الشموع.jpg

دأب كثير من الناس في هذه الأيام ومن قديم الزمان على لعن الظَلام وسبِّ الظُّلَّام، يزيدون الليل حلكةً وعسعسةً، ويمسكون الصبح أن يتنفسَ، يبحثون عن الباطل فيذكروه مفصليين فيزداد ذكراً ويتركون الحق فيزداد هجراً، وإن ذكروه فعلى انتقاص وازدراء واستحياء.


وساغ للكثيرين أن يزيدونا يأساً بعظيم تفصيلهم لأفعال أهل الباطل، لأقوالهم وأفعالهم وتخطيطهم ومكرهم، فهم ينفقون أموالهم بالليل والنهار، ويمكرون في الصباح والمساء، ويبرمون الأمور العظام، بل وتكاد أن تزول الجبال من خطر مكرهم وهم وهم !!!


ويحلو لهم أن يستدلوا على جواز لعن الظلام وتركه يستشري ببعض النصوص التي لا أراها إلا أحاديث أخطئوا في فهمها وما هي إلا أحاديث تحكي زماناً خاصاً أو حالة خاصة، وتعارف أهل العلم على تسمية هذا النوع من الحديث بـ (أحاديث حكاية حال)، وقد سماها شيخنا القرضاوي بأحاديث ساء فهمها، ولو سلمنا للذين لا يحسنون إلا لعن الظلام وسب الذين يدعون من دون الله وإنكار المنكر بذكره والإكثار من الحديث عن السيئات المنتشرة في عالمنا الإسلامي، والإطناب في تفصيل مناحي الفساد الإداري والمالي والسياسي والاجتماعي ووو، أقول لو سلمنا لهؤلاء بسلامة منهجهم جاز لنا أن نتساءل : ما الذي سيتغير ؟ بل وما الذي تغير ؟ وهل يساهم هذا الكلام كله في مسيرة الإصلاح والتغير الذي ترفع شعاره اليوم الحركة الإسلامية في كل مكان ؟!! لقد علمنا الإسلام العظيم ألا نبخس الناس شيئاً فقال [ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ] وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الناس بخير على ما هم فيه من كفر !


روى ابن إسحق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَو خَرَجتُم إِِلَى الحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكَاً لَا يُظلَمُ عِندَهُ أَحَدُ وَهِيَ أَرضُ صِدقٍ "،

إن هذا المنهج القويم الذي يعطي كلَّ ذي حق حقَهُ بلا إفراط ولا تفريط، هو منهج الوسطية الذي ربّانا القرآن عليه فقال " [ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ] ، هذا المنهج هو الذي يكفل للحق أن يحيى بكثرة ذكره، ويضمن للباطل أن يموت بكثرة هجره، وهذا الذي علمنا إياه علماؤنا بقولهم : أحيوا الحق بذكره وأميتوا الباطل بهجره. إننا في أمس الحاجة في هذه الأيام لإعادة تشكيل الكثير من المفردات الفكرية في عقول أبناء الصحوة ليدعوا إلى الله على بصيرة، وهم يتنسمون اليوم عبير الانتصار، إن النظر إلى النصف الفارغ من الكأس دون إعارة النصف المليء الآخر اهتماماً، إنما يمثل حالة هي أشبه بحال المرأة الغير عاقلة التي نقص دينها وعقلها !!! عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ :" مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ ". رواه البخاري 29


أرأيتم هذه العبارة الأخيرة ! هي عبارة تشبه إلى حد كبير ما يقوله الكثيرون منا، عندما يرون شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، يسارعون بقولهم : هلك الناس، وإنها والله العبارة المذمومة التي حذرنا منها نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ قَالَ أَبُو إِسْحَقَ لَا أَدْرِي أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْع ِ" مسلم


  • يقول : " هَلَكَ النَّاسُ " فيقال له : " هُوَ أَهْلَكُهُمْ " لأنه رأى الناس على ما هم فيه من هم وغم، ولم ينطق ببنت شفه، بل ربما قال [ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ].


  • يقول : " هَلَكَ النَّاسُ " فيقال له : " هُوَ أَهْلَكُهُمْ " لأنه لم تتحرك مشاعره إيجابياً، ورأى المنكر بعينيه ولم يغير لا بيده ولا بلسانه، بل ربما لم ينكر بقلبه.


  • يقول : " هَلَكَ النَّاسُ " فيقال له : " هُوَ أَهْلَكُهُمْ " لأنه أغلق على قلبه أبواب الأمل، وأذن لليأس والإحباط أن يستقر في فؤاده فأخذ يردد مع اليائسين : " آه لو يجدي الكلام ماتت الأمة والسلام " هكذا بكل بساطة ماتت عنده الأمة، وهلك عنده الناس !والمتتبع لسير الأنبياء عليهم السلام يجد الأمر مختلفاً، فقد بعثهم الله بالهدى ودين الحق، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فقال : [ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ]، فأقاموا لنا ميزاناً لا يظلمُ أحداً، وإنما يذكر الشيء بما فيه من كل جوانبه


روى الإمام عبد الرزاق في مصنفه عَن مَعمَرٍ عَن أَبَان " أَنَّ عِيسَى بنَ مَريَمَ عليه السلام مَا عَابَ شَيئَاً قَطُّ...، فَمَرَّ هُوَ وَأَصحَابُهُ عَلَى كَلبٍ مَيتٍ فَقَالَ لَهُ بَعضُهُم : مَا أَنتَنَ رِيحُهُ !!فَقَالَ عِيسَى بنُ مَريَمَ : مَا أَبيَضَ أَسنَانُهُ ".


إن الحديث بالتفصيل عن الجاهلية ودروبها ليس من الحكمة في شيئ، إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، والضرورة تقدر بقدرها ما لم يكن لها بدل كما يقول الأصوليون، ولنا في أمين سر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القدوة الحسنة، عن أَبُي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ : " كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فهل بعد هذا الشر من خير ؟؟ " رواه البخاري 3036


هكذا يقول حذيفة رضي الله عنه بلا تفصيل ولا إطناب، بل إنه يعلم أحدنا قائلاً له : " اضرب صفحاً عن السيئات، وحلق بعيداً في سماء الحسنات، ولا تنظر كثيراً للذنب بل طر بقلبك نحو التوبة ".


إن مسألة لعن الظلام وأهله يحسنها كل أحد، العالم والجاهل والعاقل والمجنون، لأنها لا تكلف إلا اللسان، بينما إشعال الشموع ومحاولة الإصلاح والتغير لا يحسنها إلا العلماء العقلاء، وكان من أوائل هؤلاء العلماء والعقلاء : الأنبياء عليهم السلام، فهم الذين أضاءوا القناديل في وسط ظلام الجاهلية


وهذا مثال من التطبيق العملي لنظرية إشعال الشموع، لكنَّ المُشْعِلَ الآن هو سيدنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " رواه البخاري 6780


الله أكبر يجاء به شارباً الخمر، بل لقد شرب حتى ثمل مرات عدة ومع ذلك يحب الله ورسوله !!


إن هذه النظرة النبوية الجامعة التي تجلد على شرب الخمر وفي نفس الوقت تذكر الشارب بالخير لهي والله نظرة من الوحي المعصوم الذي لا ينطق صاحبه "عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"، إنها النظرية القائمة على الموازين الربانية، التي لا تظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون


واليوم ونحن نرى الكثيرين من شباب الأمة قد أتعبهم البحث وراء تفاصيل المنكرات، ودقائق السيئات، لندق على شغاف قلوبهم وعقولهم لنقول : إنَّه لمن العبثية بمكان أن نتعب أنفسنا اليوم بلعن ظلام الجاهلية، فنلعن الزمان والشيطان، أو نسب الدهر والأيام، أو أن نذم الأموات والمقبورين.


يقول شيخنا القرضاوي في كتابه التربية الإسلامية : " ويكره الإسلام للمسلم أن يصرف أصغريه ـ قلبه ولسانه ـ إلى السب واللعن للناس والأشياء، فليس المسلم سباباً ولا لعاناً، ولهذا جاءت جملة أحاديث وفيرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها تقول : ( لا تسبوا ) منها : " لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ ، لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ... "، وأعجب من ذلك النهي عن سب الشيطان، فإن واحداً من الصحابة عثر عن البعير فقال : تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ : لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ وَيَقُولُ بِقُوَّتِي وَلَكِنْ قُلْ : بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ " أبو داود وهو صحيح يقول الشيخ : إنَّ سَبَّ الشيطان عملٌ سلبيٌّ لا يؤذي الشيطان نفسه، بل يسره ويرضي غروره، وإن الذي يؤذي الشيطان ويغيظه أن يتجه الإنسان إلى عمل إيجابي كأن يذكر الله تعالى "


وقد ذكر الصحابة رضي الله عنهم مرة واحداً ممن كانوا يعتقدون أن نصيحته للمنافقين واسمه مالك، حتى قَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ "، وقالوا " فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ " لاعنين بذلك الظلام فحسب، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ "


على أبناء الأمة اليوم أن يتخلقوا بالإيجابية، التي تتعالى عن سفاسف الأمور وتتطلع لمعاليها، وقديماً قالوا: من علا رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا


أختم فأقول :

أنْ نُشْعِلَ شَمْعَةٍ خَيْرٌ لَنَا - أَلْف مَرَّةٍ - مِنْ لَعْنِ الظَّلاَمِ أَلْف مَرَّةٍ


هذا، وَصَلِّ اللهُم وَسَلِّم عَلَى سَيِّدِنَا المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين


المصدر : شبكة مساجدنا الدعويّة