كلمتان بعد الهدنة العامة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
كلمتان بعد الهدنة العامة

بقلم / الإمام حسن البنا

الآن وقد استجاب الله دعاء الملايين من عباده، وأقر القلوب الواجفة، ورحم النفوس المعذبة، فأعلنت نهاية الحرب الحالية، ورفرفت حمامة السلام وطلع هلال رمضان ومعه الطمأنينة والسلم والأمان، لنا كلمتان:

أما الأولى فللدول الظافرة المنتصرة نحب أن نقول لها: إن للظفر نشوة وإن للنصر سورة قد يخفى معها وجه الحق ويستخف فيها الظافر المنتصر بغيره من الناس، وهكذا الإنسان فى الضراء دائم التضرع والرجاء، فإذا انكشفت الغمة عادت إلى طبيعة النسيان: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾[الزمر: 8] ولكن أغلب الظن أن هذا الدرس القاسى العنيف الذى تلقته الإنسانية فى هذه الحرب طوال ست سنوات لا ينسى بمثل هذه السهولة ولا يتبخر من الرءوس والنفوس بمثل هذه السرعة، والأمل معقود فى استقرار الطمأنينة واستمرار السلام بإدراك الدول الكبرى لهذه الحقيقة، وكثيرا ما ردد زعماؤها قولتهم المشهورة: "لقد كسبنا الحرب وبقى أن نكسب السلم".

وهناك حقائق مسلمة لا تقبل الجدل ولكنها قد يطغى عليها النسيان أو التناسى، نضعها بين يدى الدول الكبرى بهذه المناسبة فيما يتعلق بمصر والبلدان العربية والإسلامية.

(1) هناك يقظة وصحوة، وإدراك عميق ووعى قومى دقيق يجرف هذه الشعوب فى مصر وفى كل بلد عربى وفى كل قطر إسلامى، ويلح عليها إلحاحا عنيفا أن تطالب بحقوقها، وأن تتلمس الحياة العزيزة الكريمة، حياة الحرية والاستقلال والتمتع بالحقوق الطبيعية للإنسان الراقى، ولا يمكن بحال أن تخدع هذه الشعوب عن هذه الحقوق بعد اليوم، فقد تلقى فى طريقها الأشواك والعقبات ولكنها لن تمنعها عن مواصلة السير، وكل تأخير سيفوت على الإنسانية الظامئة للسلام الحقيقى والتعاون الصادق ما نأمله منهما ونرجوه.

وقد أدركت الدول الكبرى هذه الحقيقة ولم تستطع أن تتجاهلها أو تتناساها ولكنها تحاول أن ترضى هذه اليقظة ببعض القشور والمظاهر، وتستر الأوضاع البغيضة بالأساليب الحبيبة، ولكن حذار فلن يدوم هذا الوضع طويلا، وثوب الرياء يشف عما تحته، وسيكون أثر رد الفعل حين تنكشف الحقائق وتظهر النيات مرا قاسيا يطيح بالثقة وهى أساس التعاون ودعامة السلام.

(2) وقد أخلص هذا الشرق العربى الإسلامى لقضية الحلفاء فى هذه الحرب إخلاصا منقطع النظير، وعاون فى المجهود الحربى رسميا وعمليا معاونة فعالة كان لها أثرها الجليل فى الوصول إلى النصر.

ولقد كان إجماع مصر والبلاد العربية والإسلامية على هذا الموقف، وبذلها كل مجهود فوق الطاقة، وإيثارها مصلحة الدول الحليفة على مصلحتها الخاصة، موضع إعجاب وإكبار وثناء زعماء الأمم المتحدة ورؤساء حكومتها وصحافتها بما لا يدع زيادة لمستزيد، فقد وقف العرب والمسلمون من حدود الهند إلى الدار البيضاء ومن حدود الأستانة إلى جنوب إفريقيا صفا واحدا يرمى عن قوس واحدة ويهدف إلى غرض واحد؛ هو مساعدة الحلفاء على النصر، وأخفقت كل الدعايات والأساليب والإغراءات فى تحويل هذه الشعوب العربية والمسلمة عن هذا الموقف.

ومن الإجحاف أن ينكر إنسان فضل هذه المساعدات القيمة فى وقت كان لكل مساعدة قدرها ولكل ساعة من الوقت قيمتها.

لقد جندت مصر -مثلا- بكل أهلها ومواردها فى خدمة المجهود الحربى، ولقد آثرت بقوتها وملبسها ومساكنها وأرضها ومرافقها ومواصلاتها وراحتها وأمنها وطمأنينتها، فلم تدخر وسعا فى هذا الإيثار، ولم تسمح لنفسها أن تساوم على أساسه فى ساعات العسرة ولا أن تفاتح فى شىء فى غير الوقت المناسب، معتمدة فى ذلك على نبل حلفائها، تاركة هذه الحقوق وديعة مقدسة بين يدى الضمير الإنسانى حين تجىء ساعة السلام.

ومثل مصر فى ذلك سودانها وكل بلد عربى وكل بلد مسلم، فالهند وإيران والعراق وأفغانستان وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن وليبيا وتونس والجزائر ومراكش، كل هذه الأقطار قد جندت تجنيدا كاملا واشتركت اشتراكا فعليا فى أعنف قتال رأته الدنيا إلى الآن.

ومن حق هذه البلاد –إذن- أن تنال نصيبها من العدالة والإنصاف، وأن يعترف لها بحقوقها، وأن تمنح حريتها كاملة واستقلالها غير منقوص.

(3) وهذه البلاد العربية المسلمة لا تريد علوا فى الأرض ولا فسادا، ولا تبغى استطالة على أحد أو عدوانا، ولا تطالب بغير الحقوق الطبيعية التى يعترف بها الجميع ولا يعترض عليها أحد، والتى ملأ زعماء الأمم المتحدة الدنيا صراخا ونداء من أجل إحقاقها وإيصال البشرية إليها.

تريد هذه البلاد حرية كاملة فى أرضها، واستقلالا يحرم على غيرها أن يتدخل فى صميم شئونها، ولا يمكن أن يكون هذا الاستقلال حقيقة وتلك الحرية صحيحة إلا إذا جلت الجنود الأجنبية جلاء تاما عن أرض هذه الأوطان، وسلمت مرافقها لأهلها تسليما كاملا، وانكفت يد التدخل فلم تمتد إلى شأن من الشئون كائنا ما كان.

وتريد هذه البلاد أن يعترف لها بحدودها الطبيعية، وألا يزاحمها غيرها فى أرضها الأساسية، فحينما تطلب مصر أن تتوحد مع السودان وأن ترفع عنهما معا سلطة إنجلترا وتدخلها، لا تريد بذلك أن تستعمر قطرا ولا أن تتملك شعبا ولا أن تغنم أرضا، ولكنها تريد أن تحرر نصفها الجنوبى الذى ربطه بها النيل رباطا لا انفصام له، وستتكلف مصر فى سبيل ذلك كثيرا وتضحى بالكثير، فإن السودان-وهو أكبر من مصر مساحة وأكثر مطالب فى شئون الإصلاح عامة- سيكلف مصر كثيرا، ولكن متى كان الأخ يبخل بتعهد أخيه والإنفاق عليه؟

ليس السودان مستعمرة تريدها مصر، ولكنها مصر الجنوبية حين تضم إلى أختها الشمالية، وبتوحد وادى النيل ستتوحد الإدارة والنيابة، وتنشأ المدارس فى السودان كما تنشأ فى مصر تماما، وتتوحد القوانين وتنشأ المحاكم فى السودانكما تنشأ فى مصر، وتعمم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية فى السودان كما تعمم فى مصر، وتتوحد الجنسية فتتوحد بذلك الحقوق، فيكون السودانى مديرا أو وزيرا أو رئيس حكومة لأنه مصرى لحما ودما وجنسا وقانونا، فمصر هبة النيل والسودان كذلك. فهل يقال بعد هذا: إن مصر تريد أن تستغل السودان أو تحول دون استقلاله؟! بل إنه ليس هناك ما يمنع أبدا إذا تم هذا التوحيد أن يغير اسم المملكة المصرية إلى مملكة وادى النيل حتى لا تستأثر مصر بالاسم دون نصفها الجنوبى السودانى.

وحينما تطالب فلسطين -ويؤيدها فى ذلك كل الشعوب العربية- أن تظل أمة عربية وحكومة عربية وأن يدفع عنها شر البلاء النازل بها من مطامع الصهيونية فهى لا تنابز بهذا أحدا خصومة ولا تضيق على أحد السبيل حتفظ بوجودها الأساسى، ففلسطين عربية ولن تكون غير ذلك: وما يريده اليهود بها قضاء عليها وبلاء على جيرانها، وتمزيق لوحدة أمة لم تعرف يوما من الأيام بأن شيئا استطاع أن يفرق بينها ويحول دون شعورها القوى العميق بوحدتها التى لا نظير لها فى وحدات غيرها من الأمم.

وحينما تطالب لوبيا وتونس والجزائر ومراكش بحقها فهى لا تعنى أكثر من أن تتحرر وتستقل، ويرفع عنها احتلال غاشم فرض نفسه عليها بغير حق طوال هذه السنين.

وهكذا نرى أن هذه البلاد لا تطلب شططا، ولا تعنت أحدا، ولا تبالغ فى مطلب، وتقف عند الحدود الضرورية الأساسية لكل أمة تحب أن تعيش فى كرامة واعتزاز.

وتريد هذه البلاد بعد ذلك أن تترك لها الحرية فى داخل بلادها فى إقامة الحكم فيها على قواعد صالحة من دينها وفضائلها وأخلاقها، وأن يرتكز الإصلاح الاجتماعى فيها على هذه الدعائم الروحية التى ورثتها من أديانها وفلسفاتها وروحانياتها؛ لأنها لا يمكن أن تعيش إلا كذلك، وهى مهد الأديان والفلسفات والشرائع؛ ولأنها أو لأن بعضها جرب غير هذه السبيل فلم يستفد إلا الضرر والفساد، لأنه جرى على غير طبعه وبنى على غير تصميمه؛ ولأن من خير الإنسانية كلها أن تعود إلى هدى السماء بعد أن أفلست تعاليم الأرض..

وعلى الدول الكبرى أن تحسن الظن بهذا الاتجاه، فليس هو من التعصب الممقوت ولا هو من الجمود الذميم، وقد قضت الحوادث والأيام على هذه الأوهام ومكنها روح السلام الحقيقى وحنين الإنسان إلى أسمى ما أودع فيه من معان، ولفتة كريمة يوجه الله بها عباده إلى ما فيه الخير لهم فى الدنيا والآخرة: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[المائدة: 15-16].

أليس من العدل والإنصاف أن تجيب الدول الكبرى هذه الشعوب إلى ما تريد؟

(4) وإن الشعوب العربية والإسلامية لتدرك تمام الإدراك أن من المستحيل الآن على أمة من الأمم أن تعيش فى معزل عن العالم، أو بمنجاة من تيارات الحوادث العامة التى صارت تتعرض لها الأمم على السواء، ولو كانت العزلة تصح لأحد لصحت من قبل لأمريكا التى أخلدت إليها حينا من الدهر، ثم غرقت بعد ذلك فى الشئون العالمية إلى الأذقان.

إن الشعوب العربية والإسلامية لتدرك هذا المعنى تمام الإدراك، وهى لهذا مستعدة تمام الاستعداد للتعاون مع غيرها، بل إنها لتذهب فى هذا التعاون إلى أبعد حدوده، وليس ذلك بغريب على هذا الشعوب، بل هو مستقر فى أعماق نفوسها، وفى ثنايا تاريخها، وفى توجيهات شرائعها وأديانها وفلسفتها، ولكنها تريده تعاونا يعترف بوجودها، ويحفظ حقوقها، ولا تنال معه عزتها وكرامتها، ولا تستلب فيه خيراتها بدون فائدة تعود عليها من غيرها.

(5) ولا محل مطلقا للخوف من تقوية هذه الشعوب وإنهاضها بعد تطور العلائق الإنسانية بين الناس هذا التطور، وتنظيمها، وتنسيقها بالمعاهدات والمؤتمرات، وتدعيمها بنظم التربية والتعليم، والتنشئة المركزة على حب الخير والسلام.

ثم هناك بعد ذلك القوة العالمية التى نيط بها حفظ الأمن والسلام، تردع المعتدين بالجزاء الرادع، وتأخذ بتلابيبهم بالعقاب الزاجر، على أن ماضى هذه الشعوب وطبيعة تكوينها النفسانى خير ضمان يكفل ابتعادها عن العدوان.

فإذا كانت هذه الحقائق الخمس مسلمة من الدول الكبرى، فهل ترى أن هناك شيئا يصح أن يكون عقبة فى طريق إنصاف هذه الدول العربية الإسلامية وإراحة بالها بتقرير حقوقها وتدعيم حريتها واستقلالها.؟! وأما الكلمة الثانية فلحكومات والشعوب العربية والإسلامية.

وهذه نحب أن نقول لها: إن الفرصة الآن سانحة للكلام وللعمل وللمطالبة ولتحقيق الآمال والأمانى التى طال عليها الأمد، وإن هذا الوقت هو أنسب الأوقات لذلك، بل لعله لا وقت سواه الآن، فإن أفلتت هذه الفرصة فالله وحده هو الذى يعلم متى تعود، ولهذا يجب عليها أن تبذل كل مجهود، وأن تعمل كل ما فى وسعها لتصل إلى ما تريد، وإنما يتأتى لها ذلك بأمرين:

بالوحدة: الوحدة الكاملة التى تجمع كلمة الأمة فتكون صفا كالبنيان المرصوص، وتؤلف بينها وبين حكومتها فى العاطفة والرأى والعمل، فتحسن الحكومة التوجيه وتحسن الأمة الطاعة والتنفيذ، ويتعاون الجميع بقلب رجل واحد على تحقيق المقصود، وبغير هذه الوحدة يكون الأمل فى النجاح ضعيفا أو معدوما، وقد تخسر الأمة من حيث تريد الكسب. والغريب أن هذا الشعور إجماعى مستفيض وأن عناصر السلامة فى الشعوب لا زالت كثيرة متأصلة، وإنما يكون الضعف فى القيادة دائما وإلى الله المشتكى: فعلى الصف الأول أن يسوى نفسه، وأن يجيد الاستماع لهذا الإنذار الذى لن يطول به وقت حتى يتحقق "اعتدلوا أو اعتزلوا".

فالوحدة هى الأساس الأول.

والجهاد هو الأساس الثانى: فإلى الجهاد أيها المظلومون فقد جاءت ساعتكم وبدأ دوركم، ولست أقصد جهاد السلاح فقد ملته الدنيا وكرهت اسمه ومجت مدلوله ومعناه، ولكن الجهاد بالحق ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾[الفرقان:52].

حددوا مطالبكم وأهدافكم ثم أصموا الآذان نداءا وصراخا بها، وأعلنوها على الملأ، وأظهروا للناس تمسككم بها بكل سبيل، اخطبوا، واكتبوا، وجهزوا الوفود والبعثات فى الداخل والخارج لتظهر حقكم ولتدل الناس على مبلغ الإجحاف بكم، اتخذوا كل سبيل حتى تشعر الدنيا كلها بما تريدون، وستجدون فى الناس منصفين ينضمون إليكم ويشدون أزركم ويدافعون عن قضيتكم، وإذا كان زعماء الدول قد فجعوا الدنيا فى الحرب الماضية بما نسوا من تعهداتهم وأخلفوا من وعودهم، فأكبر الظن أن الضمير الإنسانى اليوم أصفى نفسا وأدق حسا وأحكم تقديرا منه إذ ذاك، وبين أيدينا قوة الإيمان بحقنا، وقوة الثبات والدأب على المطالبة به والعمل له، وقوة الاجتماع على هذا الحق، وقوة الله العلى الكبير الذى ينصر المظلومين ويدافع عن الذين آمنوا،ومتى اجتمعت لنا هذه القوى فلن نغلب أبدا، وإن واجهتنا القنابل الذرية! فهل نجتمع؟ ذلك ما نهيب بشعوبنا أن تصل إليه والله غالب على أمره.

المصدر: مجلة الإخوان المسلمون، العدد (67)، السنة الثالثة، 15 رمضان 1364ه- 23 أغسطس 1945م