فكر مالك بن نبي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
فكر مالك بن نبي


تمهيد

المفكر الجزائرى مالك بن نبي

جاء في تمهيد لإحدى كتب مالك بن نبي قول الدكتور محمد المبارك (عميد كلية دمشق سابقا): [ أنا لا أقول إنه (نبي) لكني أقول أنه ينهل من نفحات النبوة، و يتابع الحقيقة الخالدة]. و لذلك فلن نكون مغالين في تشبيه مالك بن نبي بالعلاّمة ابن خلدون في عمق تفكيره و إسهامه في تقعيد الفكر الإسلامي. و من الطريف أن يمتد هذا التشابه كذلك إلى الظلم الاجتماعي الذي تعرض له كل من المفكرين الذي طوى النسيان إسميهما و دثرت الأيام و السنون أعمالهما. و إذا أدركت المجتمعات العربية و الإسلامية و نخبتيهما أهمية كتابات ابن خلدون بفضل المستشرقين الأوربيين فإن أعمال مالك لا تزال قابعة في الرفوف تنتظر من يفتحها و ينمي ما فيها.

و لا يقتصر الشبه بين ابن خلدون و مالك بن نبي في ظُلم المجتمعات لهما، و إنما يمتد إلى اشتراك جذورهما الجغرافية و سيرتهما العلمية و طريقة طرحهما للأفكار. فطروحاتهما الفكرية تكاد تؤسس مدرسة فكرية إسلامية متميزة قد يكون للعامل الجغرافي أثر في نحتها. و لعل أبرز نقاط الشبه بين فكريهما اشتراكهما في الكثير من المصطلحات الأدبية و العلمية التي تهيكل خطابيهما و التي تختلف لفظا و تشترك في المعنى ألا و هي: العمران البشري و مشكلات الحضارة و دورة التاريخ و التقنين للصيرورة البشرية، و التداول الحضاري. و لذلك فلن نكون مبالغين إذا قلنا أن مالك بن نبي هو ابن خلدون عصرنا أو على الأقل استمرارية لفكر ابن خلدون في زماننا و صورة حديثة و تطويرية له.


روافد فكر مالك بن نبي

لعل ما مّيز فكرمالك بن نبي و إنتاجه الأدبي تكوّنه المزدوج بين الثقافتين الغربية و العربية الإسلامية نتيجة لما كان يسودالجزائر من صراع بين الثقافتين التي كانت تجسد التصادم بين الانتماء الحضاري من جهة و الرغبة في التطور من جهة أخرى.

و قد ترك ذلك أثرا بالغا في نفسه و في كتاباته التي تتميز بالتزاوج بين المصدرين. فبجانب الاستدلال من التراث و التاريخ الإسلاميين مثل حادثة عمر بن الخطاب مع المرأة التي جادلته في الصداق، و حادثة صفين بين علي و معاوية، نجد الحديث عن مفكرين معاصرين في أوربا و العالم مثل البريطاني تونبي و الألمانيان كيسرلنج و شاخت و أعمال الهندي ماهاتما غاندي و غيرهم. و بجانب الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية التي كان يستدل بها في نصوصه و التي تلقاها في الزوايا و المدارس الأهلية، نجد المعادلات الرياضية و التفسيرات الفيزيائية و الكيميائية للظواهر الاجتماعية التي تنم عن فكر رياضي و تقني دقيق و حاد.

و قد كان في هذا الجانب لرصيده التعليمي في مجال الهندسة الكهربائية بدون شك أثر في استعارته تلك الوسائل الرياضية و المعايير الحديثة من بيانات إحصائية و دوال و معادلات غيرها. و للمزيد من التأكيد على هذه الميزة، يمكن المقارنة بين كتب مالك بن نبي و سيد قطب من حيث الأسلوب و الاستدلال. فقد تجسد هذا الاختلاف في حوار غير مباشر دار بينهما حول مفهوم الحضارة، حيث يرى مالك الحضارة إنتاجا بشريا يشترك فيه المسلمون بغيرهم يتطور بفعل التراكم و التجربة، بينما يقيّد سيد قطب مفهوم الحضارة بالمسلمين و يرى أن تقدم غيرهم تطور مادي تقني محض.

و ثمة مصدر آخر لإرهاصات مالك بن نبي الفكرية تتمثل في تلك الوضعية المزرية للشعب الجزائري الذي كان يعيش تحت القمع الفرنسي و في دائرة التدني الحضاري العربي و الإسلامي في تلك الفترة. غير أنه كان ينظر إلى هذه الوضعية بعين التفاؤل و يحاول أن يؤثر في الأحداث بأفكاره.

و قد عاصر حينها حركة الإصلاح التي قادها آنذاك الأفغاني و محمد عبده و الكواكبي و أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في وطنه مثل ابن باديس و الإبراهيمي و العربي التبسي. و رغم تفاعله الكامل مع الحركة إلا أنه كان دائما يحتفظ بحياده العلمي و فكره المتميز الذي كان يدعوه إلا نقد أعمال الإصلاحيين أحيانا، بل و تخطئتهم. فقد اعتبر مثلا مشاركة جمعية العلماء المسلمين في انتخابات البرلمان الفرنسي قبل الحرب العالمية الثانية نكسة في مسيرة الإصلاح و توجها إلى التهريج السياسي لأناس ليس لهم باع في الميدان. و لعل ما ساعده على هذا الوضع الاستطلاعي و النقدي هو تكوّنه المكثف في أحضان الدولة المستعمِرة و زواجه من فرنسية مسلمة. و هكذا فقد كان من أهم اهتماماته كشف وسائل الاحتلال في إخضاع الشعب و تخدير العقول و مسخ الهوية، والاجتهاد في وضع الوسائل الناجعة للمقاومة الفكرية و التي كانت تغيب على علماء الشريعة بحكم تكوينهم التقليدي. و قد وضع لذلك كتابا عن الصراع الفكري في البلدان المستعمَرة لفضح تلك الوسائل.


محاور مالك بن نبي الفكرية

يمكن اعتبار الإطار العام لفكر مالك بن نبي مسألة الحضارة. فقد عنون جميع مؤلفاته تحت شعار كبير هو "مشكلات الحضارة". و تكاد محاوره الفكرية تكون واضحة من خلال العناوين الفرعية التي اختارها لكتبه التي تزيد عن العشرين كتابا. ففي فترة ما يقرب من عشرين سنة من التأليف (1946-1967) أخرج إلى النور "شروط النهضة" و "وجهة العالم الإسلامي" و "مشكلة الثقافة" و "الصراع الفكري في البلدان المستعمَرة" و "البناء الاجتماعي الجديد" و "ميلاد مجتمع" و "تأملات في البناء الجديد" و "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" و "الظاهرة القرآنية" و "المسلم في عالم الاقتصاد" و "الفكرة الإفريقية الآسيوية" و غيرها من الكتب. و لذلك فيمكن توزيع أعماله على عدة مجالات علمية أهمها فلسفة التاريخ و السياسة الثقافية و الاقتصاد و علم النفس الاجتماعي و الفكر الإسلامي. و كما توزعت أعماله على مختلف المجالات كذلك توزعت جغرافيا في عدة عواصم ابتداء من الجزائر و باريس ثم القاهرة و دمشق و بيروت.

وقد تبلورت أفكار مالك بن نبي في مصطلحات علمية معدودة تعتبر مفاتيح كل إنتاجه الأدبي. فالحضارة بداية هي عبارة عن معادلة رياضية من ثلاثة متغيرات هي التراب و الإنسان و الزمن. فكل حضارة على وجه الأرض -الماضي منها و المستقبل- ما هي إلا صياغة متميزة لهذه المعادلة. لكن التفاعل بينها لا يكون إلا بفكرة دينية تلعب دور الوسيط الكيميائي بين أطراف المعادلة. و يجب فهم مصطلح الدين هنا بمعناه الواسع الذي قد يشمل أية عقيدة أو أيديولجيا أو مبدأ أخلاقي. و بذلك يمكن اعتبار الاشتراكية و الليبرالية و الديمقراطية أديانا جديدا، كونها ترتقي عند أصحابها إلى درجة التقديس و تتفاعل مع وجدانهم و تدفعهم إلى بذل كل جهد لتحقيقها كغاية سامية.

و يعتبر مالك كغيره من المؤرخين ابتداء من ابن خلدون إلي الإنجليزي توينبي أن للحضارة دورة كاملة تتكوّن أساسا من ثلاثة مراحل مثلما هو حال البشر. فمرحلة النشأة تتميز بميلاد فكرة سامية أو مثل عال يكون مناصروه في أوج عطاءهم الوجداني و العاطفي، و ذلك لما لهم من محفِّزات نفسية قوية تدفعهم للتضحية و البذل، ثم يتبع ذلك مرحلة الازدهار التي يكون الرجحان فيها للعقل حيث تنمو العلوم و تزدهر الحياة المادية بالعمل و الجد و الوفرة، و أخيرا تأتي مرحلة الهرم الحضاري التي تتغلب عليها نزعة الشهوة الجسدية و الغرائز الطبيعية، حيث تدخل الأمة مرحلة الاستهلاك المحض لمنجزاتها الحضارية. و هنا تكون الحضارة عاجزة عن إصلاح نفسها رغم ما تراه من سير نحو الفناء و الاندثار. و لذلك فإن أية أمة و أي شعب يمكن تصنيفه من حيث موقعه من الدورة الحضارية. و قد تكون بعضها بهذا التصنيف خارجة عن دورة الحضارة. و لكون فكر مالك بن نبي قد انصب في الغالب على الأمة الإسلامية و العرب، فإنه يرى أن تاريخنا يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل. فالأولى مرحلة ما قبل معركة صفين التي كانت الأمة فيها مشحونة بالإيمان و القيم الروحية، و الثانية هي ما بعد هذه المعركة التي دخلت فيها نزعة السلطة و التنافس المادي و انقلبت فيها السلطة إلى ملك عضوض، و التي امتدت رغم ذلك بحكم العقل إلى عهد ابن خلدون و استلام دولة الموحدين الحكم، و الثالثة هي ما بعد الموحدين أو المرحلة التي انتهى فيها الإبداع و استسلمت الأمة لغرائزها، و استهلكت فيها مكتسباتها و ضاعت منها حوافزها النفسية و مبررات وجودها. و ذلك ما كان إيذانا بخروجها من دورة الحضارة.

و بنوع من التفاؤل كان مالك بن نبي يرى أن المجتمعات العربية و الإسلامية هي بصدد بناء حضارة جديدة مغايرة للتي كان عليها أسلافنا بحكم تقدم الزمان، و للتي يقودها الغرب حاليا بحكم القيم الروحية و المعنوية التي نحملها. و قد وضع مالك بن نبي لهذه الحركة الحضارية محورا جغرافيا (ينطبق على محور عدم الانحياز الذي انطلق من مؤتمر باندونغ) يمتد بين طنجة و جاكرتا، يوازي حضاريا محور نيويورك-موسكو. و لذلك يمكن بسهولة تفهم معاني العناوين التي كان يختارها لمؤلفاته مثل "ميلاد مجتمع" و "شروط النهضة" و "تأملات في البناء الجديد" و "الفكرة الإفريقية الآسيوية". و من خلال هذا المنظور الجيو-استراتيجي كان جهده منصبا فيما يعتقد أن الأمة –بما فيها الجزائر- بصدد بنائها الحضاري، بعد خروجها من دائرة الاستعمار.

و لا بد هنا أن نلتفت إلى مصادر مالك بن نبي العلمية لندرك أن هذه النظرية ليست من إنشاء مالك بن نبي و هو يذكر ذلك بكل أمانة حيث يعود دائما إلى مفكرين سابقين له كابن خلدون و كيسرلنج و شبنجلر و توينبي. لكن إبداعه يتمثل في تطبيقه لهذه النظرية على تاريخ العرب و المسلمين، و استخراج الجانب العملي الميداني و البراغماتي في النظرية المتمثل في البناء الحضاري. و علينا هنا أن نعرج على المفكر الإنجليزي كارل بوبر الذي يدحض هذه النظرية بقوة و يرى سذاجة القول بوجود سنن تاريخية و إمكانية تكرر التاريخ أو وجود دورة له.

و من نتائج هذه النظرية لدى مالك بن نبي تقسيمه للمحيط الحضاري إلى ثلاث عوالم هي عالم الأفكار و عالم الأشخاص و عالم الأشياء، التي قد تكون تنطبق على المراحل الثلاث من الحضارة. و يبني مالك بن نبي على هذه التقسيم أفكاره في تشريح حالة الأمة و تشخيص أمراضها. فأكبر مشكلة تعانيها هي مشكلة التقصير في إنتاج الأفكار. و لذلك هي حاليا منغمسة إما في التعلق بالأشخاص و تأليههم و إما في الحالة الأسوأ بالأشياء. و لذلك يمكن تسمية الحالة الأخيرة بحضارة الأشياء التي تنحو فيها الأمة -بما لها من خيرات و سيولة مالية- إلى تكديس الأشياء ظنا منها أنها باقتنائها تلك الأشياء ستنضم إلى ركب الحضارة الغربية. و الواقع أنها أصبحت بمفهوم العصر سوقا للبضائع لتغلب اقتصاد البازار على مسيرتها التنموية المزعومة. و بشيء من الاستعارة الأدبية يضرب مالك بن نبي المثل في بناء المسكن الذي يستحيل بناؤه بمجرد جمع الرمل و الإسمنت و الحديد و الحجارة و باقي مواد البناء لأن البناء يتطلب أفكارا هندسية و تخطيطا يبعث التفاعل الكيميائي الحي بين هذه الأشياء.

و في هذا السياق يحذر مالك بن نبي العرب و المسلمين من اعتبار استيراد المنتجات الغربية من سيارات و آلات و عمارات و غيرها من الأشياء مؤشرات حضارية نقيس بها مدى تقدمنا. فالمنطق يقضي أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها. و [سيكون من السخف و السخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة حين نريد أن نصنع حضارة من منتجات نقتنيها]. و في الوقت نفسه يرى أنه من العبث أن نضع ستارا بين الحضارة الجديدة التي ننشدها و بين الحضارة الغربية الحالية. و لذلك فإن القناة الأسلم للاستفادة من محيطنا المعاصر الذي تتغلب عليه الأشياء المصنوعة في الغرب، هو الاهتمام بالأفكار و محاولة غربلتها و صياغتها وفق مشروعنا الجديد. و يجب أن يندرج موضوع استيرادنا للأشياء ضمن هذا المنظور التحليلي و من منطلق الاحتياج الآني المرحلي. و قد يكون مالك بن نبي متأثرا في هذا المنحى بتوجهات غاندي في حث الشعب الهندي على حرق المنتجات البريطانية و مقاطعتها كسلاح مسالم لنيل الاستقلال. كما لا نستبعد كذلك تأثير التجربة اليابانية في فكر مالك بن نبي، في كيفية الانطلاق من الأشياء نحو الإبداع الفكري. و أستحضر قول أحد أساتذتي -عمر برامة- الذين عايشوا مالك بن نبي حيث ذكر لهم أنه حين كان يأوي إلى أحد الأحياء السكنية الجامعية في باريس في الخمسينات كان الطلبة الجزائريون يجتمعون في إحدى الغرف فيقضون ليلهم في المسامرة و لعب الورق بينما كانت هناك غرفة مجاورة للطلبة اليابانيين الذين كانوا يجتمعون كل أسبوعين فيترجمون محاضراتهم و دروسهم من الفرنسية إلى اليابانية و يرسلونها إلى بلادهم.


تشخيص لبعض الأمراض المجتمعية

يرى مالك بن نبي أن مصدر التخلف الحضاري الذي يعيشه الفرد العربي المسلم في الأساس داخلي حيث يعود إلى تشكيلة عقله و شخصيته الحالية. و يفسر ذلك انطلاقا من مفهوم الثقافة. فالثقافة في تعريفه هي مجموعة من الصفات الخُلُقية و القيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه. و هي على هذا المحيط الذي يشكل في الفرد طباعه و شخصيته. و بتطبيق هذا المفهوم على المجتمعات العربية و الإسلامية فإن العطالة التي يتميز بها الفرد تعود في الأساس إلى جرعات الأفكار و الاعتقادات التي يتلقاها طوال مراحل حياته المتسلسلة. و يساعدنا المنظور التاريخي (وفق الخط البياني الحضاري السابق) أن ندرك بسهولة أن الرواسب الثقافية السلبية التي تراكمت من عهود الانحطاط التي بدأت منذ زمن طويل قبل فترة الاحتلال الغربي هي التي تسيطر على المناخ الثقافي المعاصر. و سنحاول شرح ذلك من خلال بعض التحاليل الاجتماعية و الأمثلة الحيّة المتنوعة التي جاءت في مختلف مؤلفات مالك بن نبي التي لا يزال أغلبها ينطبق على واقعنا الآني.

فمن أمثلة ذلك ما نراه في حياتنا اليومية من اللافاعلية في أعمالنا، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث و المحاولات الهازلة. فبمقارنة بسيطة بين الرجل الأوربي و الرجل المسلم و التساؤل أيهما ذو نشاط و عزم و حركة دائبة؟ نجيب بكل صراحة و أسف أنه ليس الرجل المسلم برغم ما يأمره القرآن بالقصد في المشي (سورة لقمان). و لذلك فإن أهم ما ينقص الفرد المسلم هو شحذ همته بمنطق العمل و الحركة.

و لعل أوضح مثال حي في حياتنا اليومية هو مجال الاقتصاد و التجارة. فحين يتعرض مالك بن نبي إلى المال بصفته المحرك الاقتصادي للأفراد والمجتمعات يفرق بين الرأسمال و الثروة ( و كأنه يستشرف واقع العرب المعاصر). فيقول أن [الثروة معرفة بطابع مكاسب الشخص غير المتحركة وغير الداخلة في الدورة الاقتصادية ، فهي شيء محلي مستقر في حقل صاحبه أو داره أو حول خيمته (أو في إحدى البنوك الغربية حاليا). و ليس لها من عمل مستقل بوصفها قوة مالية تدخل في بناء الصناعات و تمويلها، أو في تجارة التصدير و الإستيراد أو غير ذلك من الميادين الاقتصادية كما هو الشأن في رأس المال]. و هذا يدفعنا إلى القول أن المال العربي سواء العام أو الخاص يمكن تصنيفه في الغالب في خانة الثروة و ليس رأسمال.

و من الأمراض الاجتماعية التي يشكو منها الفرد العربي المسلم في نفس مجال العمل و الإنتاج تعلمه لغة الحقوق قبل لغة الواجبات. و لعل أهم مصدر لهذا المرض تلك الشعارات التي تهيمن على الخطاب السياسي (ابتداء من عهد الاحتلال إلى يومنا). فالشخصيات و النقابات و الأحزاب و التنظيمات السياسية بمختلف اتجاهاتها تنحو في الغالب أثناء الحملات الانتخابية و عرض برامجها إلى الضرب على وتر الحقوق الضائعة لاستمالة أصوات الناخبين. و لذلك فإن ذهن الفرد تعوّد على هذه اللغة التي أصبحت حجة و ذريعة لعدم القيام بواجبه في عمله تجاه مجتمعه أو غياب الجودة فيه. و من أمثلة التذرعات اليومية التي يرددها الفرد العربي في الغالب قلة المواصلات و الحاجة إلى مسكن مقابل الـتأخر و الغياب عن العمل أو الخروج المبكر، و تدني الأجور مقابل بذل الجهد اللازم، و غياب المحفزات مقابل الجودة في العمل، إلخ.

و لمالك بن نبي حاسة مرهفة في تحسس مواطن التخلف و السلبيات في مجتمعاتنا التي تظهر في كل المستويات بما فيها الحس الجمالي. فيرى مثلا أنه [لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالا أقبح، و المجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره و أعماله و مساعيه]. و من أمثلة ما تعرض له مالك بن نبي في هذا المجال الفن السينمائي حين كان مقيما في القاهرة. فهو ينقد مثلا السينما المصرية بكون أغلب أفلامها غير هادفة. فيقول معلقا عنها [لا أريد أن أعتقد بأن الشعب المصري قد تجرّد من حاسة التفرقة بين الجد و الهزل…]. و ينقد كذلك إحدى صور الكتاب المدرسي المصري (قبل الثورة) التي يظهر فيه طفل صغير ترافقه أخته و هما ذاهبان إلى المدرسة و وراءهما خادم يحمل لهما حقيبتيهما. فيرى أن هذه الصورة [… تبعث في نفس الطفل و أخته روح الاتكال و احتقار العمل و العاملين، و كأن الكسل أصبح من ميزات الفن الجميل عندنا]. و للسائل أن يسأل عن هذه المظاهر في بلداننا العربية التي وصفت منذ ما يقرب من الثلاثين سنة هل زالت أم ازدهرت.

و لا يبرئ مالك بن نبي البلدان الاستعمارية في دورها في إبقاء الشعوب في مرحلة ما قبل الحضارة أو الخمول. فالمستعمِر (في زمن الاستعمار) يفرض على حياة الفرد عاملا سلبيا يمكن أن نسميه بالمصطلح الرياضي المُعامِل الاستعماري، و هو بكل بساطة الشعور بالنقص من قيمة الشعوب المستعمَرَة، و تحطيم قواهم الكامنة فيهم، و استعمال واقع الفقر و القلة للاستدلال على ذلك. و في مقابل هذا المُعامِل الخارجي المتمثل في دور البلدان المسيطرة، كذلك هناك مُعامل داخلي في نفس الفرد العربي و المسلم المعاصر يسميه مالك بن نبي "مُعامِل القابلية للاستعمار" (coefficient de colonisabilité). فالمعامل الاستعماري اعتبار خارجي يرينا كيف يؤثر الاستعمار على الفرد من الخارج ليخلق منه نموذج الكائن المغلوب على أمره، أما المعامل الداخلي فهو الذي ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل لنفسه تلك الصبغة و السير في تلك الحدود الضيقة التي رسخها المستعمر، و حدد له فيها أفكاره و حياته.

و يقودنا الكلام عن هذه الوضعية الانهزامية إلى دور الغرب في بث هذه الروح فينا بواسطة ما يسميه مالك بن نبي بالصراع الفكري، و هو محاولات عزل المجتمع عن مصادر الأفكار الحية بطمس مصادرها و ذلك بعزل مفكريها بواسطة موانع مباشرة و غير مباشرة، ابتداء بهدم الأفكار الصادرة عنهم و التشويش عليها ثم بإحاطة المفكر بالمغريات وانتهاء بالإشاعات و الدعايات التي تنال منه. و قد ذكر في كتابه "عن الصراع الفكري" تجارب شخصية تمثلت في إرسال فتيات شقراوات له إلى البيت للسؤال عن مسائل علمية و دينية، و وضعه في مواضع مشبوهة ثم تصويره فيها، و تسميم علاقاته الاجتماعية و الخاصة. و تقديمه في الجرائد و الملتقيات بأسماء توحي إلى الجمهور بمعان غير محبّذة كمستشرق أو مفرنس يدرس الإسلام. و مع التسليم بوجود حصار فكري على المثقفين العرب و المسلمين الملتزمين بقضايا أمتهم، فإن علينا أن نفتح هنا قوسا لنقد هذا الرأي و لو جزئيا. فالاعتقاد القوي بهذه الأمور يجرنا في بعض الأحيان إلى تبني أسلوب المؤامرات و التواطؤ في تفسير الأمور و العوائق التي تواجه المثقفين العرب و المسلمين. و قد حكى لي ابن الأستاذ عبد الرحمن الصابوني حادثة عن مالك بن نبي حين زار دمشق لإلقاء محاضرة هناك أنه أقام في غرفة بفندق و كان في الغرفة المجاورة له مقيم آخر أطلق العنان للموسيقى طوال الليل، فبقي مالك منفعلا طوال تلك الليلة و أخبر الأستاذ الصابوني أن ذلك لا يمكن تفسيره إلا بأنه مؤامرة للتشويش عليه و لمنعه من التفكير، فلم يجد الأستاذ المضيف ما يجيب عليه!

و عند تعرض مالك بن نبي لمشكلة الأفكار التي يعتبرها الأساس لكل ما سبق فهو يعتبر أن تراثنا و عقولنا (كما أن فيهما قيما حضارية إيجابية قادت الحضارة في السابق) فهما يزخران بأفكار خاملة أو معيقة لمسيرة التطور. و من المصطلحات التي وضعها مالك بن نبي لتشخيص هذا الوضع التفريق بين الأفكار الميتة و الأفكار المميتة. فالأولى هي التي تسكن العقول و لا تدفع حاملها إلى أي مجهود أو نشاط و إنما هي مجرد معلومات عقيمة متوارثة. و يعتقد مالك أن هذا النوع في تراثنا كثير، و لا يزال بعضه منذ عهد ما بعد الموحدين إلى يومنا، و هو أحد أسباب انحدار الخط البياني الحضاري في الأمة. أما النوع الثاني فهو الأفكار التي تقتل الإبداع في نفوس أصحابها بما لها من عطالة و كبح لجماح العقول و الهِمم. و لعل إسقاط ذلك على واقعنا المعاصر تجد لها أمثلة كثيرة. منها ذلك الفكر الخرافي الذي يستند إلى الدين، و منها حركات التصوف التي ينزوي أصحابها عن مجتمعات بحجة الاجتهاد في العبادات أو بسبب فساد الزمان. و منها في الحركات الإسلامية المعاصرة نشر ثقافة الفَرْق بين الفِرق الإسلامية القديمة أو المندثرة (أشعرية-معتزلة-مجسمة) التي لا يجني من ورائها الشاب إلا الجدل. و في الغالب تركب هذه "الثقافة" حجة تصفية العقيدة من الشوائب أو أولوية إنشاء النشء على العقيدة الصحيحة قبل أي تربية أو تكوين إسلامي. و يمكن في هذا المجال أن نستحضر قول أحد أعلام الفكر في الأندلس -الإمام الشاطبي- الذي يذكر في موافقاته أن كل علم ( حتى و لو كان من الدين) ليس وراءه عمل لا يستحسنه الشرع، للتأكيد على رسوخ مذهب العمل في مدرسة الغرب الإسلامي.

و لعل من نتائج هذا المرض المضاعف في الأمة الإسلامية ما يذكره مالك من مواقف فكرية للفرد العربي المسلم من تسهيل السهل و تصعيب الصعب. فالكثير منا مصاب باستسهال الأمور مما يدفعه إلى عدم القيام بها لتفاهتها في ميزان عقله المختل و ذلك رغم ضرورتها في حياتنا الخاصة أو الاجتماعية. و في المقابل يرى الكثير منا الأمور الصعبة خارجة عن نطاقنا مما يدفعنا إلى التخلي عنها. و أهم مصدر لذلك غياب القدرة التحليلية لفهم المشكلات المعقدة (تماما مثل المعادلة المركبة التي لا نستطيع حلها إلا بتجزيئها إلى أطرافها الأولية). و يضرب مالك بن نبي المثل بالرجل الأوربي الذي يتمتع بالجد و النشاط المتواصل و المثابرة التي تجعل أمامه كل صعب سهلا بالعمل المتواصل و كل عمل واجبا يجب القيام به مهما كان سهلا.

و لهذا كله يعتقد مالك بن نبي أن المجتمعات الإسلامية اليوم في ساعة الخطر، لا لأنها تحت الهيمنة الغربية و لكنها فقدت مبرراتها التي رفعت من شأنها في القرون الماضية. و لذلك فقد أصبح موقعها زمنيا في عهد ما قبل الحضارة. و مع إحساس هذه المجتمعات و القيادات بهذا الوضع فإن الحلول التي تنتهجها لا تبشر بالخير كثيرا، لانعدام الهمة الحضارية فيها. و يمكن باختصار تشبيه هذه المساعي بمثل الطفل الذي يواجه مشكلات الحياة بمنطق الأشياء لا بمنطق الأفكار. و منه نستنتج ضرورة تغيير المعادلة الشخصية للفرد العربي و المسلم قبل الشروع في بناء بلداننا و تنميتها.

و في نظرة تفاؤلية يعتقد مالك بن نبي أن الإحساس بالصعوبات علامة صحة في المجتمع. فهو من الناحية النفسية أوضح دليل على النهضة و اليقظة. و يستدل في ذلك بإحساس كل من نفسه و أبيه و جده. فهو يتعجب حين يذكر جده و هو مرتاح سعيد هادئ مع أنه كان يعيش تحت وطأة المستعمر الفرنسي محروما من الكثير من حقوقه. و أما أبوه فقد كان يشتكي دوما من الوضع المزري و لكنه لا يجد تفسيرا لذلك. و بعدها جاء دور جيل مالك بن نبي الذي أصبح يحس بالضيق و الصعوبات و يشخص العلل و هو ما أدى إلى اندلاع الثورة الجزائرية. و قد استعار ذلك من كلام المؤرخ البريطاني توينبي الذي يقول أن [الصعوبات هي تحدّ خلاّق لأنه يستحدث الردّ عليه]. و لا شك أن هذا الرد لا يمكن أن يكون إلا بالسعي للتغيير. و من هنا فقد كان شعار مالك بن نبي آية 11 من سورة الرعد في أنه لا تغّير حالة قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

و لا شك أن هذه الصعوبات و الإحساس بها و التوترات الناجمة عنها تدفع إلى نشأة مبررات في نفس الأفراد و حركة المجتمع نحو التغيير. و قد استدل من التاريخ بالمجتمع الإسلامي الأول الذي أحس بضرورة إيصال الرسالة إلى المجتمعات الأخرى و إخراجها من الوثنية. فقد كانت لدى الأفراد مبررات قوية و جامحة دفعتهم للخروج خارج الجزيرة العربية نحو كل الاتجاهات. لكنه عندما فقد المجتمع هذه المبررات توقفت حركته في التاريخ. و كذلك الاستعمار الأوربي في القرن التاسع عشر كانت له مبررات وراء الاكتشافات و حركة التعمير ( و منها جاء مصطلح الاستعمار). و بذلك فقد كان يعتقد أفراده أن الاستعمار رسالة حضارية يجب تبليغها إلى الشعوب الأخرى.

و ما نخلص إليه في هذا العرض المشتت لأفكار مالك بن نبي هو ضرورة طرح مشكلة التأخر الحضاري كنتيجة عطالة داخلية في الفرد و المجتمع قبل أن تكون مسألة إمكانيات مادية. و على النخبة بالتالي تشريح هذه الظاهرة و معرفة أشكالها في نفس الفرد و حياة المجتمعات قبل الانطلاق في أي برنامج تنموي، لأن ذلك سيكون مجرد تكديس للمنتجات الحضارية. و تكون أول خطوة في هذا السياق ضرورة التزام الفرد و المجتمع بممارسة النقد الذاتي لكشف مواطن الضعف و الخوار. و الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.