شهداء على الطريق

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حسن دوح ... شهداء على الطريق

المقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

الصور التي أعرضها في هذا الكتيب هي بعض من كل ... وقد حدث مئات من أمثالها شهدتها وشهدت لها أرض فلسطين الطيبة، وأرض مصر وما حولها من الأرض المبتلاة بدنس الاستعمار والصهيونية وأحلافهما ... الأرض الطيبة لا بد أن تنبت نباتا طيبا طاهرا ...

وأرضنا التي سقاها الإسلام من عذب أنهاره لن تكف بإذن الله عن إمدادنا بأوفر وأنضج الثمار، ولسوف تشهد هذه الأرض قصصا جديدا ترجع الناس إلى عصر حمزة، ومصعب بن عمير، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبيد وأم عمارة وآلاف من أمثالهم ... سوف يشهد الناس سير هؤلاء الرجال الأفذاذ شاخصة في إخوانهم الذين سلكوا طريقهم ونهجوا منهجهم ...

وبغير هؤلاء لن تكون أمة ولن يحيا شعب، ولن تبعث نهضة ولن تتحرر أرض ...

إن الذين أرادوا نزع إسلام "معركة فلسطين" كانوا ولا يزالون من أخطر المتآمرين على فلسطين وعلى الأمة العربية والأمة الإسلامية وليس أقل منهم تآمرا أولئك الذين حاصروا قضية فلسطين في "قطعة من الأرض" وفي "شعب فلسطين" فهذه القضية لم ولن تكون رهينة ركام من طين، وآلاف من البشر .. إنها قضية أكبر من حدود الأرض التي أطلق عليها "فلسطين" وأضخم من الآلاف أو الملايين الذين سموا "الفلسطينيون" إنها قضية كل أرض ارتفع على رباها مؤذن "كبر باسم الله" وقضية كل إنسان هتف ملبيا "الله أكبر".

إن قدم "الصهيوني" وطئت كل بيت، وكل مسجد، وكل معهد، وكل مصنع، في أرض السبعمائة مليون ... وبهذا المفهوم سوف تسقط كل الشعارات المزيفة التي تلوح بها "المنطقة العربية" سوف تسقط شعارات "الثورة الفلسطينة" لتحل محلها "الثورة الإسلامية" وسوف يضرب شعار "حزيران والجلاء عن الأرض المحتلة" ليحل محله "جلاء الصهيونية عن أرضنا"، وسوف تتوارى كل العبارات المزيفة الإمبريالية والعنصرية، والاستعمارية ... لتحل محلها شعار "الطهارة من الكفر" الكفر كل الكفر ...

ويوم أن تحتل المفاهيم الجديدة أنفسنا وأرضنا سوف يقفز الماضي كله ليعيش حاضرنا ... سوف نجد من بيننا من يقاتل بروح بدر لا يشكو قلة الرجال أو المال ... وسوف يشتد العابد في أحراش نيجيريا، والرابض في جزر أندونيسيا، والمتخفي بإيمانه في أوروبا وأمريكا لينضوي وتسقط الإقليمية، ونعيش معركة إسلام جديد ومن هنا نبدأ ... ولن ننتهي ...

إن الذين قاتلوا في فلسطين من أبناء مصر وسوريا في سنة 1948 تجاوزوا إقليميتهم إلى دينهم ... إن أرض مصر كانت مستعمرة إنجليزية ومع هذا كله مد ابن مصر المسلم يده اليمنى ليقذف حجرا في فم بريطانيا ومد الأخرى بحجر آخر في وجه عصابة زفاي وآرجون ... وإن شهداء الهند الذين قتلهم البوذيون يوم أن ثأروا لحريق المسجد الأقصى لا يعرفون عن "الإمبريالية" و "الرجعية" و "التقدمية" شيئا، وإنما ذكروا رسولهم وكأنه يصلي في المسجد الأقصى ومن خلفه حشد النبيين، والمسجد الأقصى يحرق عليهم ...

بشعار "إسلامية" المعركة سوف يتبدل كل شيء في المعركة ... سوف نجد حشودا زاخرة من أبناء بلال الحبشي الأسود، ومن أحفاد صهيب الرومي، ومن ذرية سلمان الفارسي، ومن أصلاب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ... سوف نجد الأسود والأبيض والأصفر وقد تجردوا من أصباغهم وجنسياتهم إلى دينهم وعقيدتهم ... وسوف تسقط حدود التاريخ وحدود الأرض وتتوارى نزعات الجنس والإقليمية والوطنية، ويحتويها رحاب الإسلام الكبير ...

ومن هنا نبدأ

إن تجربة ربع قرن من "الكفاح" ضد الصهيونية في "فلسطين" انتهت بهزيمة سبع دول عربية في سنة 1948 وشغفهم في سنة 1967 وآلام وأحزان وخراب لا حدود له ... والسبب في هذا أن "الطرف العربي" جفل من إعلان "إسلامية المعركة" فتخير لها أسماء أخرى أضلت المقاتل وأوهنت من سلاحه وحددت آماله .. المقاتل منى بوسام ونجمة ودرجة ولم يمن بشهادة وجنة .. فأهمته دنياه عن أخراه .. وأهمته العاجلة عن الآجلة.

نريد أن نعيش في عالم الشهداء، نرى الجنة وهي تفتح أبوابها عند باب المسجد الأقصى .. ونرى أصحابنا وإخواننا الكبار الذين سبقونا وسجلوا أروع وأعظم صفحات الخلود .. خلودهم في الجنة، وخلود دعوتهم في الأرض ...

وليسمح لي القارئ أن أعيش معه على هامش سيرة بعض هؤلاء الرجال ... لنأخذ طرفا من سيرهم ونجعلها سيرتنا ومسيرتنا على الطريق ...  

سيد شراقي

قليل من الناس من يستمتع بطبيعة سيد شراقي ... وقليل جدا من يدانيه في صبره وإخلاصه وشجاعته ... نسمع الآن عن البطل "جيفارا" يملأ اسمه سماء هذه الأمة .. ويتواثب الشباب وثبات عليه ليلحقوا بركب الثائر العظيم .. وشهيد البروليتاريا! أما سيد شراقي وأمثاله فتراب تذروه الرياح والعواصف!!

إن سيد شراقي وأمثاله إشراقة ومضت في سماء الشرق المظلمة فبهر نورها الجميع ...

الشباب المؤمن استهدى بهديها ومضى على طريقها ... أما أحلاف الشيطان فأثاروا عاصفا من الدخان ليحجبوا الشمس المشرقة ...

وقصة سيد شراقي يمكن أن أسجلها في كلمات ويمكن أن تتسع لها كتب ومجلدات ... الكلمات تقول .. فلاح، فقائد، فمعلم، فشهيد ... والكتاب يتسع فيفرد لكل كلمة بابا يفيض في ذكرى سيد ..

ولندخل لدنيا سيد من أوسط الأبواب ...

بعد أن أعلن الإخوان المسلمين عن فتح باب التطوع لحرب فلسطين في أوائل سنة 1948 توافد الشباب والشيوخ على دار الإخوان لتحملهم إلى الميدان .. وبدأت معسكرات التدريب تباشر نشاطها، كما بدأت حملة إعلامية كبرى لجمع التبرعات للحرب ...

سمع سيد شراقي بالدعاية الكبيرة للحرب وجمع التبرعات .. إلا أنه لم يعجل بالحضور للقاهرة لتسجيل اسمه في كشف المتطوعين، وانتظار دوره في الطابور .. بل تخط خطوات هادئة ومتعقلة، جمع بعض أبناء حوض نجيح الذين يثق بإخلاصهم .. وناقش معهم قضية فلسطين ...

وانتهى لقرار عجيب تفرد به من دون المقاتلين ..قال لأبناء القرية، وهم يتحلقون حوله في الدوار ... لم لا نجمع التبرعات من الإخوة والأقارب بما يفي ثمن السلاح والتموين ... ثم يهيئ أنفسنا للتدريب ... ونتقدم بعد ذلك لدار المركز العام للإخوان ومعنا عدتنا من السلاح والتموين ... وبذلك نقطع الطريق على الحجيج التي تعترض طريق سفرنا .. وهي عدم توفر المال والسلاح ...

وافق أبناء القرية على فكرة "الشيخ سيد" كما كانوا يسمونه علما بأن "الشيخ" لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره، وبدأ الشباب العشرة بأنفسهم ثم بزوجاتهم وأهليهم يجمعون منهم القروش القليلة يقتطعونها من أقواتهم ... حتى تجمع لكل مقاتل مبلغ يكفيه لزاد الطريق وثمن قطعة السلاح ... وكان طبيعيا أن يختاروا الشيخ سيد أميرا عليهم فهو قائد بفطرته وسليقته ..

وعلى الفور بدأ القائد يمارس وظيفته، فأرسل إلى قيادة الإخوان رسالة، يخبرهم فيها بكل الخطوات التي قام بها أبناء القرية، ومدى استعدادهم للسفر لأرض المعركة ... فلم يملك الإخوان إلا الاستجابة لرغبة أبناء حوض نجيح .. لم يشأ الشيخ سيد أن يترك القوة المرافقة له تتبعه على غير هدى وعلم، فقد كان بعضهم لا يكاد يلم بالقراءة والكتابة .. فبدأ معهم دراسة منظمة على هيئة مناقشات وقراءات، يدور أغلبها حول شرعية القتال وآدابه وثواب المقاتل الشهيد ...

وكان تركيزه كبيرا على الشهادة يفيض في الحديث عنها ... ويحرص على أن يلزم نفسه بكل ما يؤهله لبلوغها ... كان يدقق في محاسبة قلبه على النية ويصفيها وينقيها من كل شائبة .. ويفرض على نفسه أسلوبا دقيقا في العمل والسلوك ... وبنفس الفهم كان يحاول أن يستوعب كل شيء عن السلاح وطريقة استعماله .. ثم الالتزام المبصر بطاعة قادته واتباع أوامرهم بدقة ...

أما مسلكه الشخصي وعلاقته بزملائه المقاتلين فكان سيد رقيقا لينا سهلا أليفا، يتسع قلبه لكل من يعرفه .. ومن أبرز خصاله التواضع الجم فقد كان يشعرنا أنه يحتاج لمعونتنا للتعرف إلى أمر دينه ودنياه، كان يقول لنا إنه فلاح بسيط وليس له من زاد من الشهادات الدراسية والعلمية ... ثم يأخذ مجلس التلاميذ ... وبعد أن يحصل على حاجته يفيض عليك من الشكر وكأنك أعطيته كنزا من ذهب ..

وقد يكون سيد أوفر علما من محدثه .. أما إذا اضطرته الظروف ليجلس في مقام المعلم، فإنه يأخذ بأسلوب سقراط في الدراسة .. ويحاول عن طريق التساؤل أن يصل إلى النتائج، حتى لا يشعرك بأنه أستاذك ... إن أكبر ميزة أذكرها للشهيد سيد تطلعه للمعرفة والتماسه لأسبابها، والحرص عليها .. وأعنى بالمعرفة هنا كل ما يتصل بها ... المعرفة بالتاريخ والفقه والسلاح والطب والعلوم .. كان حريصا على أن يكون جامعة متحركة ...

قدر لأبناء حوض نجيح أن يكونوا ضمن أول كتيبة تدخل فلسطين، وهي الكتيبة التي رافقت الشهيدين محمد فرغلي ويوسف طلعت ... واتخذت لها معسكرا في "النصيرات" منطقة تقع ما بين خان يونس وغزة ... وبدأ رجال حوض نجيح يمارسون أعمالهم على أحسن وأكمل وجه ...

واندمجوا في عمليات القتال الأولية، من استطلاع لمواقع العدو ... إلى استكشاف للمناطق المحيطة بنا ... هذا عدا التدريب العملي المتصل، وكان سيد شراقي متألقا في كل هذه العمليات ... يقفز فوق الحواجز العالية ويتخفى في كثبان الرمال، ويبدع أيما إبداع في كل المناورات الحربية التي كنا نقوم بها ...

وعلى الرغم من ميزة الصمت التي كان يتحلى بها سيد شراقي إلا أنه كان يفاتحني بكثرة برغبته في نزال العدو .. إلا أنه كان يتردد كثيرا في الإلحاح على قادته حتى لا يخرج عن آداب الجندية ... ووقعت معركة "ديروم" الأولى ...

وكان سيد مكلفا بقيادة قوة البنادق والمرابطة على الجانب الغربي من المستعمرة ... فنفذ دوره بدقة في انتظار صدور الأوامر إليه ... ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد كشف ضوء الفجر مخططنا بالكامل، وتمكن العدو من تصيد رجالنا الذين كانوا قد تقدموا من المستعمرة حتى هموا بدخولها .. واستشهد في هذه المعركة إثنا عشر شابا مؤمنا ...

عدنا بعد المعركة إلى معسكرنا، وقد أخذ منا الحزن كل مأخذ على زملائنا، أما سيد فكان حزنه على نفسه أشد من حزنه على الآخرين .. كان شعوره بأن هؤلاء الشباب قد مضوا إلى حياة أسعد من حياتهم، يكاد يكون شعورا بأن هؤلاء الشباب قد مضوا إلى حياة أسعد من حياتهم، يكاد يكون شعورا حيا وحسيا، وأنهم ماضون إلى جنة أرحب من أرضهم وديارهم ..

أما هو فلا يزال مشدودا إلى الأرض بضيقها وظلامها ... إنه في سجن الدنيا .. لقد كان يتمنى الخروج من هذا السجن ولكن لم يوافق في جولته الأولى ...

وكان الجولة الثانية والثالثة ... والمعارك تتابع ويعود سيد من جميع معارك فلسطين دون أن تمسه رصاصة واحدة ... ويعود إلى تساؤله عن الشهادة والطريق الموصل إليها .. ولكنه لا يجرؤ على سؤال واحد كلما اقترب من لسانه ابتعله وآثر السكوت ... كان السؤال الذي تنطق به عيناه ويكتمه لسانه لم حرمت الشهادة؟ كنت أقرأ هذا السؤال في عينيه الباسمتين.

ولكنه لفرط حرصه على أدبه مع الله تعالى لم يستطع أن يبوح بما يختلج في صدره ...

قال لي ذات يوم إن أخانا .. قد استشهد!! ثم سكت طويلا .. فقد ثقلت عليه العبارات ولم يستطع أن يطلقها .. وكان أخونا هذا يؤثر الضحك كما كان مغرما بتقليد الديكة في صياحها .. وكأن لسان حال سيد يقول إن الشهيد إنسان عادي .. وإن الشهادة يمكن أن ينالها حتى الذين لا يهتمون بها !!!

قال لي سيد ما قاله بعينيه ثم استسلم لتفكير عميق تحكمه انفعالات وتساؤلات متكومة ...

وتقع أحداث أقرب ما تكون إلى الخيال منها إلى الحقيقة، ولا يتسع المقام هنا لأتعرض لها تفصيلا، ولكن أكتفي بالقدر الذي يصلنا بسيرة سيد ومسيرته .. فقد صدرت أوامر من الحكومة المصرية للواء صادق القائد العام للجيش في فلسطين بإلقاء القبض علينا في الميدان، وإرسالنا للطور مع إخواننا المدنيين الذين سبقونا إلى هناك عقب مقتل رئيس الوزراء النقراشي، واستشهاد الأستاذ حسن البنا مرشد الإخوان ... ولكن القائد الأبي يرفض إطاعة الأوامر .. وتتأزم الأمور فنؤثر تسليم سلاحنا للجيش بعد أن تم وقف إطلاق النار نهائيا ...

وينتهي الأمر بأن يحتجزنا القائد العام مضطرا في معتقل عسكري بمنطقة رفح إلا أن يبقى على كل امتيازاتنا العسكرية من راتب ورتب، وقد قام الرجل بزيارتنا أكثر من مرة في معتقلنا مواسيا لنا بل منح بعضنا أنواطا وأوسمة عسكرية تقديرا لجهودهم في المعارك الحربية ...

كان سيد شراقي من بين المعتقلين .. إلا أنه لم يكن غاضبا من الاعتقال، بقد ما هو آسف لأن الفرصة قد أفلتت منه ... فرصة الاستشهاد ..

وفي المعتقل أشرقت نفسه بمعنى كبير .. أفاض عليه اطمئنانا وسكينة، فقد اعتبر المعتقل مدرسة صامتة تلقن في الصبر والتحمل فتقبله بصدر رحب ... وتصل قلبه بالأنبياء والرسل الذين سجنوا في سبيل الله، تذكر قصة يوسف .. وتذكر معتقل الشعب الذي حوصر فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ... واسترجع تاريخ الأئمة الذين سجنوا في سبيل عقائدهم .. تذكر أحمد بن حنبل وابن تيمية ..

فسعد بصحبتهم جميعا .. ولكن هذه النشوة الروحية كانت تنحسر في نفسه إذا اقترب من الأسلاك الشائكة المحيطة بالمعسكر، ومد بصره بعيدا إلى حيث تقوم القلاع اليهودية في صحراء النقب ... كان لسان حاله يقول لقد أقام قومنا بيننا وبين عدونا حاجزا!!

كان من برنامجنا في المعتقل عقد اجتماع دوري بعد صلاة العصر من كل يوم نتبادل فيه الآراء ونناقش مشاكلنا العامة ونتدارس فيه أمر ديننا ودنيانا .. كان الحديث يمتد ما بين فقه العبادات إلى فقه الجهاد، وكان الشيخ سيد يحرص على هذه الندوات حرصه على الصلاة نفسها .. كان يفتح كل نوافذ قلبه وعقله لتلقي كل جديد ويثبته بإحكام في أعماقه .. وبعد أن يفرغ من درسه يحاول استرجاع ما سمعه من زملائه ليتأكد من صحته ..

وينتهي المعتقل بنهاية حكم إبراهيم عبد الهادي الذي خلف النقراشي في الحكم، وتفتح الأبواب أمام المعتقلين ليعودوا لبيوتهم .. ويرجع سيد إلى قريته الحبيبة "حوض نجيح" ويبدأ على الفور ممارسة مهنته الزراعية فيمسك بالفأس طيلة النهار يضرب بها الأرض ليخرج مخبؤها، حتى إذا غربت الشمس اجتمع بأبناء قريته يتدارس معهم أمر دينهم يناقش مشاكلهم ..

ثم يفرغ نفسه مسترجعا الماضي .. فتلح عليه الذكريات وتؤرقه الآمال .. فيلجأ لربه داعيا سائلا في إلحاح أن يهبه نعمة اللقاء به ..

وينصرم عامان بعد الخروج من المعتقل .. ويأتي عام 1951 حافلا بأخطر الأحداث في تاريخ مصر .. فقد بلغت الثورة المصرية أوج قوتها .. وحطم الشباب كل القيود التي كانت مفروضة عليه .. وتمرد على العرض وسدنته من رجال الأحزاب .. ورفض وجود الاحتلال في أرضه وكان حزب الوفد ذكيا فأدرك أن الموج الهادر قد يقتلعه من جذوره .. فسدد ضربة قاسية لخصومه وذلك بإلغائه معاهدة سنة 1936 .. فخرج الشباب بغير تنظيم لمواجهة عدو مزود بأحدث الأسلحة ..

وتنشب معارك ارتجالية ما بين أولئك الشباب وبين أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط .. ويفكر الإخوان في تنظيم عمليات حربية قوية لتحطيم كبرياء العدو وإرغامه على الجلاء ... ويدب النشاط في شعب الإخوان، فيتدافع الشباب للتطوع، فيقع اختيار قادة الإخوان على مجموعة من الشباب الذين سبق لهم التدريب في فلسطين وفي الخلايا المنظمة ...

وبنفس الأسلوب، وبنفس التفكير، وبنفس الهدوء جمع سيد رجال "حوض نجيح" ليواجه بهم "بريطانيا العظمى" !! التقيت بسيد عند "تل بسطة" (جبل صغير يقع بالقرب من الزقازيق) حيث أعد الإخوان مركزا للتدريب ولإمداد الرجال .. وأبى سيد إلا أن يدخل الميدان على أصول ثابتة فبدأ يسترجع التدريبات السابقة ويضيف إليها ما يستجد في دنيا السلاح ...

التقيت به عند مشارف تل بسطة .. وكان يقف على كومة من "قش الأرز" ويداه تديران عصاه الصغيرة .. أما عيناه فكانتا تدوران في عالم آخر تنشد شيئا بعيدا .. وإن كانت العشرون سنة الماضية قد أنستني الكثير من الأحداث الكبار، إلا أن الذاكرة المنهكة لا تزال تسجل روعة المشاعر والأحاسيس التي كنا نستمتع بها .. كان حبنا كبيرا ورائعا وممتعا ..

وكان أجمل ما فيه أننا كنا نسمع همس القلوب وخفقاتها .. كنا نستشف المشاعر والأحاسيس وكأننا نراها رؤيا العين .. وهذا ما كان بيني وبين سيد فقد كنت أقرأ خلجات قلبه مرتسمة في عينيه، شاخصة في وجه السمح .. كانت عيناه تؤكدان عزما وتصميما على أمر ما .. وتأملا في تحقيق رجاء تستعذبه النفس ... قال لي سيد بقلبه ما تمتمت به شفتاه .. ألم يئن الأوان؟

ونظر بعيدا بعيدا في الأفق يحاول أن يستجلي جوابا واضحا .. ثم عاد ثانية يسألني عن نية المقاتل .. وعن الاستشهاد .. وعن رضاء الله وكيف يتحقق وعن الصدق في العمل .. وعلى الرغم من إيماني بأن سيد كان على علم بهذه الأمور كلها، إلا أنه كان يحب أن يستزيد علما ومعرفة ..

وفي أدب التلاميذ حاولت استدراج سيد ليجيبني على كل أسئلته .. فقد شعرت أن زميلي وحبيبي يوشك على الرحيل إن إشراق وجهه ينبئ بأن سيد لم يعد منا .. وكان وجهه يشرح صفات أهل الجنة .. فقط قدماه ترتبطان بأمراس الأرض وجسده مشدود إليها .. أما روحه فقد اتصلت بالأسباب أسباب السموات .. والتحمت في إخاء أبدى مع حمزة وأبى أيوب وإرتال الشهدات على الطريق الطويل ..

وكان استشهاد سيد على غير ما ينتظر وننتظر، فقد أصابته رصاصة خاطئة وهو يزحف فوق تلال بسطة حيث كانت تجري مناورات عسكرية .. وأسند الرجل العظيم وفلاح مصر الكريم، والمسلم الكبير سيد شراقي رأسه فوق الرمال ورفع وجهه المشرق الباسم ليتلقى تهاني الملائكة .. عشت حيا عند ربك وعشت حيا في ضمير إخوانك .. وعشت حيا في قلب شعبك يا سيد ...  

وفاء

دخل رجل على أبي بكر الصديق فرآه يحمل طفلة صغيرة بين يديه يدللها ويقبلها فقال له الرجل ... من هذه!!

قال أبو بكر وهو ينظر بحنان إلى الصغيرة: "هذه بنت رجل خير مني سعد بن الربيع كان من النقباء يوم العقبة وشهد بدرا واستشهد يوم أحد ...".

يا أبت إن الجهاد فرض

يا أبت إن الجهاد فرض علي كما هو فرض عليك .. وقد واتتك من قبل أكثر من فرصة مارست فيها القتال .. فهلا هيأت لي فرصة مماثلة ..

ووقف الرجل حائرا يتقلب بين الفكر والعاطفة .. وكلمات زوجته لا تزال حية يتردد صداها في أذنه.. إنها تلح عليه للاكتفاء بسفره لأنه لا ترد له كلمة ..

والإبقاء على ابنها محمد إلى جوارها ليقوم على رعايتها .. وأولادها .. وأخيرا وجد نفسه يقف إلى جوار ابنه متحديا عاطفة الأبوة، طارحا حنان الأمومة .. لأن فقهه للجهاد وممارسته له عمليا وفي فلسطين بالذات .. كان أرجح في نفسه من كل عاطفة ولو كانت عاطفة الأبوة والأمومة ...

لقد كان للشيخ عبد الخالق جولات ومغامرات في فلسطين قبل أحداث سنة 1948، عمقت حب القتال في نفسه، وحب فلسطين حتى إنه اختار شريكة حياته منها .. وهذه فرصة جديدة قد واتته بعد أن أعلن عن فتح باب التطوع للحرب في دار الإخوان المسلمين، فشد الرحال إلى القاهرة يصحبه ابنه ..

ثم لحق به ابن أخيه "أحمد الجميل"، وابن عمته "السيد عابدين" وكان نصيب الحاج عبد الخالق وابنه في الكتيبة الأولى بقيادة الشهيدين الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت، وتحت إشراف الشهيد حسن البنا بنفسه ..

وفي النصيرات تقيم الكتيبة معسكرها الحربي .. وتبدأ على الفور بإعداد نفسها لمجابهة اليهود .. دراسة دقيقة للمواقع، واستكشاف نقاط الضعف في العدو، مع مواصلة التدريب العملي .. أما أوقات الفراغ فكانت محشودة بمناهج ثقافية وعلمية ..

وكان التسابق والمنافسة بين الابن وأبيه يثيران الإعجاب ويبعثان على الزهو، وأشد ما تكون المنافسة عندما يقع اختيار أحدهما للخروج لدورية استطلاع أو دورية قتال .. ومن أطرف ما أذكره أن "محمدا" كلف بحراسة أحد المواقع ..

فشاهد فرسا صغيرا شاردا يهرول نحو باب المعسكر .. فأطلق عليه النار فأرداه قتيلا فلما سألناه عن سبب إطلاق النار على الفرس قال إنه خشي أن يكون أحد الأعداء قد ربط نفسه ببطن الفرس .. أو أن يكون الفرس محشوا بالديناميت لينفجر بالقرب منا فيروعنا .. واتخذ أفراد المعسكر من مقتل الفرس مادة تسلية لهم خاصة بعد أن دفعنا ثمن الفرس القتيل لصاحبه ...

بدأ الاستعداد لعملية حربية كبيرة، وهي اقتحام مستعمرة "كفار ديروم" بعد أن تم استكشافها .. وحشد لهذه العملية أكفأ المحاربين وكان من بينهم الأب والابن .. الأب يحمل بندقية، والابن يحمل لغما لنسف المستعرة ..

وأقف بالقارئ قليلا، وأستأذنه أن يصاحبني لصلاة العشاء في مسجد بمنطقة الروضة بالكويت .. في هذا المسجد سوف نصلي خلف رجل يدور حول السبعين يمتعك بسماع القرآن وهو يرتله في خشوع وسكينة .. هذا الرجل هو الحاج عبد الخالق .. والد الشهيد محمد .. وهو لا يزال يحمل في صدره عزيمة الماضي، وصدق النية .. وشبابا لم تهزمه الأحداث الجسام التي هدت عزائم الرجال ...

وأهتبلها فرصة لأستوثق من سجل ذاكرتي الذي عبثت به الأيام بل الأعوام المثقلة بالمعاناة والآلام، فأستجدي ذاكرة الحاج عبد الخالق فيسجل البقية الباقية من القصة .. يقول طلب إلينا فضيلة المرشد (رحمه الله)" أن نعد أربعة رجال إعدادا كاملا من كل مركز جهاد من مراكز الإخوان ..

فعزمت أمري أن أكون من بينهم، وفاتحت ابني محمدا في الأمر، فلما طلبت منه أن يخلفني في أهلي .. قال لي ولم لا أذهب أنا وتبقى أنت!! ثم ردف قائلا هل تمنعني من الجهاد في سبيل الله فقلت له أما هذه فلا، فالجهاد فريضة من الله ..

وتدخلت أمه لتحول بينه وبين السفر فقال لها: "يا أمي أحب الأمور إلى نفسي أن ألقى ربي والدماء تنزف من وجهي لونها لون الدم وريحها ريح المسك" فسكتت الأم وودعتنا قريتنا الحبيبة "عرب الرمل" بقويسنا وداعا حارا .. وفي المركز العام خلعنا ملابسنا الريفية، وارتدينا ثياب الحرب .. ثم مضينا إلى فلسطين .. وكانت أول عملياتنا الهجوم على مستعمرة "ديروم" ..

فأعددنا سلاحنا وأنفسنا للمعركة .. وتقدم مني ابني محمد وقبل يدي وقال لي "ادع لي بالشهادة يا أبت ثم أوصاني بما له وما عليه للناس فقلت له وهو يوصيني، ولم لا أكون أنا الشهيد وتبقى أنت من بعدي" فقال وهو يشخص ببصره إلى السماء .. "إنني رأيت نفسي في نومي وكأني طائر يحلق في السماء ثم ينزل بين أشجار كثيفة ويعشش فيها".

وهنا وجدتني أقف أمامه في خشوع وإجلال .. فابني سوف يصاحب الأنبياء الصديقين والشهداء .. وقد يلحق بهم بعد قليل .. فملأت عيني ونفسي منه، وارتويت من روحه .. وبسطت إليه يدي وأنا أدعو: "أستودع الله دينك وأمانتك، وخواتيم أعمالك .. أستودعك عند الله يا بني يا محمد" .. ومضت كل ساعة ما أثقل وزنها في حياتي .. ابني محمد سوف يختفي من دنياي .. ولن أراه .. لن أسمعه ..

لن أشم أنفاسه وأتعطر بها . لن أسمع كلمة "يا أبي" منه .. سوف أعيش وحدي .. ولن أجد من يقاسمني الجهاد فإخوانه أطفال لا يصلحون لصحبتي في الميدان.

واستسلمت لقضاء الله .. وأسلمت أمري إليه، وضغطت على عواطفي بكل ما أوتيت من قوة الإرادة .. فالموقف أكبر وأجل من أن أستسلم للحزن والبكاء .. ووجدت آيات القرآن تنساب في أعماقي وتمسح برفقي كل آلامي وتضع الطمأنينة والسكينة والرضا .. صدرت إلينا الأوامر بالتقدم، فوثب الرجال في سرعة مذهلة إلى المستعمرة وفي عينيها ..

إنها تحمل التآمر اليهودي على الأمة الإسلامية، ممتدا من المدينة المنورة إلى فلسطين عبر أربعة عشر قرنا من الزمان .. هذه المستعمرة لم تزد عن كونها قلعة من قلاع "بني النضير" أو "بني قينقاع" .. نفس السمة ونفس الوصف الذي أورده القرآن الكريم "لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى".

ويعود الحاج عبد الخالق بنا إلى المعركة فيقول: تقدمت أنا وزملائي من الموقع المحدد لنا .. لا تسترنا إلا شجيرات الشعير الجافة ففوجئنا بالرصاص يمرق من بيننا فظنناه من المستعمرة ولكن تبين لنا أن المزارعين العرب ارتابوا في أمرنا فأطلقوا عدة رصاصات لإرهابنا .. فهتفت بهم "نحن عرب" فسكتوا ومضينا في طريقنا .. ولست هنا بسبيل وصف المعركة .. ولكن يكفيني في إيجاز أن أقول إن ظروفنا كثيرة لم تكن تمكننا من دخول المستعمرة .. كان أهمها عامل الوقت ...

المهم أنا لم نتمكن من اقتحام الأسلاك ونسف أبراج الحراسة كما كان قدرا .. فغمرنا العدو بوابل من نيران مدافعه الرشاشة وأصابت رصاصة غادرة قلب ابني محمد واستقرت أخرى في ذراع ابن أخي .. وانسحبت مع زملائي .. وكان لقاء وكان وداعا لمحمد لا أنساه ...  

يا أبت لو كان غير الجنة لآثرتك

قال خيثمة سيد بني عمرو بن عوف لابنه سعد قبيل غزوة بدر الكبرى: "لا بد أحدنا أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم أنت مع نسائنا" .. فأجابه سعد على الفور: "لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا" .. ولكأن السماء تسمع هذا الحوار الأمين بين الأب وابنه فاستجابت لرغبة الابن ولقي سعد ربه في بدر ...

ثم مضت الأيام وتعاقبت الليالي ولا تزال كلمات الابن تتجاوب أصداؤها في قلب الشيخ الكبير، حتى أقبلت أحد فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يستشيرهم في الخروج، وكان من بينهم خيثمة الذي أشار على الرسول برأي رآه ثم قال للرسول متوسلا: لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصا، وقد بلغ من حرصي أن ساهمت وابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت على الشهادة حريصا ..

وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: "الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا" ..

وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ووهن عظمي، وأحب لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن الله يرزقني الشهادة ..

دعا الرسول لخيثمة أن يرزقه الشهادة وتحققت دعوة الرسول وتحققت أمنية خيثمة ولقي الرجل ربه وهو يذب الأعداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ...  

عمر شاهين

الشهيد الذي قاد أمته

كان قطعة من نفسي .. من حياتي، من قلبي .. كان أبي وأخي وابني، وأستاذي .. وكان وليت "كان" هذه لم تكن حتى أسعد بعمر وأتوكأ على كتفه على الطريق الشاق العنيد ..

كان عمر نموذجا للشاب الذي يتمناه كل أب ليكون له ابنا .. وكل صديق ليكون له خليلا .. وكلا امرأة ليكون رجلها .. وكل ابن ليكون ابن عمر ..

كل ما تحب أن تراه في شاب يمكنك أن تجده في عمر .. فيه جمال الرجولة بكل ما تحمله هذه العبارة .. قسمات وجهه نضرة رائعة، عضلاته قطعة من صلب، فارع الطول، سوي البنيان .. راسخ الخطوات مهيب النظرات .. تتمثل فيه القوة والرقة .. الإصرار والحنان .. والجمال والرجولة ..

كان عمر مجموعة من الرجال في رجل واحد .. إذا التمست الرجل التقى العابد وجدته فيه .. وإذا شئت بطلا رياضيا أثار إعجابك وحماسك .. وهو مع هذا كله محب للعلم والدرس مغرم بالتعمق في الفلسفة وعلم النفس في غير جدل أو مراء ..

وأجمل ما في عمر طفولة روحه التي تتضح براءة طهرا في قسمات وجهه ... وكأن الرافعي يعنيه وهو يقول: "إذا اكتملت للرجل رجولة أعماله عادت إليه طفولة روحه".

وليسمح لي القارئ أن أبدأ الرحلة مع عمر شاهين بعد توقف القتال في فلسطين سنة 1948 عدت من الميدان لقضاء عطلة قصيرة وأداء بعض المهام الخاصة بالعمل .. إلا أن ظروفا جدت على الميدان اضطرت القيادة العامة للجيش لإصدار أوامرها إلينا بقطع الإجازة والعودة فورا للعمل ..

فلبينا الطلب وتوجهنا إلى معسكر "هايكستب" بالعباسية، حيث استبقينا أكثر من أسبوعين في انتظار إقلاع الطائرة الحربية التي ستقلنا إلى "عمان" ومنها نتجه إلى حيث تحاصر القوات المصرية في الفالوجا في محاولة لفك حصارها وإمدادها بالتموين .. ولكن لم نتمكن من أداء رسالتنا لأن حكومة الأردن رفضت نزول طائرتنا في أراضيها.

كان عمر من بين أفراد هذه القوة .. وكان استعداده لمرافقة الحملة لا حدود له، على الرغم من أنه لم يكن قد بلغ السابعة عشرة إلا أن نشاطه وحيويته وإقباله على التدريب واستعداده النفسي، كانت له خير شفيع لدى قادته .. وكان من رأيي إفساح المجال أمام أمثال عمر ليتلقوا تربية عملية في ميدان القتال، لتضاف لتربيتهم النظرية والدراسية حتى تكتمل أسباب تربيتهم، إلا أن بعض شباب الإخوان كان لهم رأي آخر هو يميل إلى إشباع الشباب بالتربية الثقافية أولا، ثم يفسح لهم حوار وناقش طويل مع عمر اضطره لموافقتهم والعودة إلى القاهرة لمواصلة الدراسة .. وانطوت أول محاولة قام بها عمر ..

عاد عمر إلى مدرسته، ومضت كتيبتنا إلى الميدان عن طريق البر لأداء واجبها، ولكن لم يتسن لعمر مواصلة دراسته، فقدت جدت أحداث في مصر دفعت بعمر وعشرات من أمثاله لقفص الاتهام ثم للسجن بتهمة مقاومة السلطة ونظام الحكم، وبعد الإفراج عنه واصل دراسته إلى أن التحق بكلية الآداب ...

وكان عام 1951 حافلا بأحداث كبيرة في مصر، فبعد إلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية في أكتوبر سنة 1951، تدافع الشعب المصري لطرد 60 ألف جندي بريطاني من أرض القناة، التي عسكروا على ضفافها أكثر من سبعين سنة .. وكان للجامعة دور قوي وفعال في هذه المعركة فقد تجمع الشباب الجامعي في معسكرات للتدريب استعدادا للنزول لميدان القتال ..

وكانت فرصة عمر الذهبية .. فهو طالب بكلية الآداب بالجامعة ومن حقه التدرب شأنه شأن غيره .. هذا إلى جانب إيمان زملائه باشتراكهم في المعركة ...

والذين رافقوا عمر في المعسكر يجمعون على أنه كان أبرز شخصية في كل شيء .. كان رائعا في تدريبه رائعا في خلقه .. حتى إننا لم نملك إلا أن نضعه في صفوف القادة فأسندنا إليه قيادة مجموعة من زملائه ..

تعرض عمر لمحنة جديدة لم تكن في حسابه .. فبعد أن أكملنا فترة التدريب .. بدأنا نستعد للنزول للميدان .. ولما كان تزاحم الشباب شديدا، لمنازلة العدو فقد تقرر إجراء قرعة بين طلبة الإخوان المنتمين للمعسكر .. بشرط أن يكونوا متكافئين في فرص التدريب ومؤهلين نفسيا وصحيا ..

وطرح اسم عمر شاهين في القرعة ولكنه لم يفز، فأصابته كآبة نفسية ارتسمت على قسماته البريئة حتى تأثر له إخوانه، فتحايلوا بصورة ما لا أذكرها لإجراء قرعة أخرى فكان من الفائزين ..

فاندفع بكل مشاعره وعواطفه يهنئنا ويهنئ نفسه وأعلن إقامة حفلة بمناسبة نجاحه في القرعة وبلوغه العشرين من عمره ...

تحركت قوة الجامعة في فجر أحد الأيام حاملة أول فوج من المقاتلين إلى الشرقية حيث يقوم معسكر للتدريب في فاقوس .. وبعد استكمال آخر مراحل التدريب انتشرت قواتنا على طول جبهة القناة .. وكان التل الكبير من نصيب قوة عمر شاهين ...

انتقل شباب الجامعة الذين كانوا يوصفون بالرقة ونعومة العيش، إلى قرية بيوتها من الطوب وسعف النخيل، وأسرتها من الجريد، ومصابيح الجاز تخلف القمر في غيبته، تاركين خلفهم المدينة بأضوائها وزينتها ..

وكانوا مع هذا فرحين لأبعد حد بحياتهم الجديدة .. واستكمالا للتخفي لبسوا "الجلاليب" و "الطواقي" واندسوا في صفوف فلاحي التل الكبير ...

بدأ عمر شاهين وزيله الشهيد أحمد المنيسي وعشرون طالبا، يعدون لأول معركة منظمة مع عدوهم .. وانتهوا إلى خطة عملية بسيطة وهي اعتراض طريق قطار سكة حديد اعتاد على التردد فيما بين المعسكرات البريطانية ..

درس طالب الهندسة والزراعة والعلوم والآداب والطب والحقوق الخطة بإحكام وأعملوا خبرتهم وعلمهم في رسم خريطة المعركة ..

ثم قاموا بدراسة الموقع على الطبيعة، وحددوا أدوار كل واحد منهم بدقة فائقة .. وهنا برز شاب آخر كان يلتزم الصمت والهدوء، وبرز كعملاق كبير يقف إلى جوار عمر وهو الشهيد أحمد المنيسي الطالب بكلية الطب وأحد أبناء فاقوس (بلدة بالشرقية) .. وكان أحمد لا يقل روعة عن عمر .. كان إنسانا في كل تصرفاته .. يملأ قلبه الحب والرقة والصفاء مع رجولة غامرة وشخصية قوية ...

وقف العملاقان حيث كان يقف أحمد عرابي ورجاله في وجه الزحف الإنجليزي منذ سبعين سنة .. وقفا في تحد وكبرياء تجللهما عظمة الإسلام وتملأهما الثقة بالنفس .. وكأنهما يقولان للستين ألف جندي بريطاني إننا جئناكم لنثأر لجدنا عرابي .. ولن تجدوا فينا خائنا أو جبانا ...

ليلة وقوع معركة التل الكبير كنت في زيارة خاطفة للقوة التي يشرف عليها الشهيد عمر .. وكان لقاؤنا عجيبا وحديثنا أعجب .. كان عمر منهكا من فرذ العمل طيلة يومه .. فاستلقى على أرض الغرفة وأرسل يديه إلى جانبيه في استرخاء .. ونظر إلي بعينيه البريئتين ثم أجراهما على جسده الممدد، وكأنه يرسم نفسه في قبره وقال لي مازحا: يبدو أنها ستكون نصيبي هذه المرة فقلت له مداعبا: بل هي من نصيبي أنا ..

ثم ابتسم في براءة واعتدل في جلسته، وهم أن يقف وأخذ يلوح بيديه في الفضاء ويقول: لا، إنك ستقف هكذا وتقول .. الشهيد عمر .. ثم أرسل ضحكة بريئة هزتني من أعماقي ..

(وصدق عمر فيما قال فقد ألقيت خطابا في ميدان الأوبرا في رثائه وتذكرت ساعتها كل إشاراته ونبرات صوته فكانت إلهام نفسي) ثم عاد عمر إلى هدوئه وسكينته وابتسامته الطيبة، فنظرت في وجهه وشعرت وقتها بمهابة كبيرة له ..

شعرت بأن الشاب قد منح من قوة البصيرة ما جعله يستشف شيئا لم تدركه بصائرنا، فآثرت السكوت وانسحبت من الغرفة تاركا إياه ليأخذ نصيبه من الراحة .. وألقيت نظرة على وجهه المشرق وكأني أودعه الوداع الأخير ...

جرت أحداث ذلك اليوم في غيبتي، وقد سجلتها في كتاب آخر، ولكن الحقائق البسيطة التي سجلها زملاء الشهيد تقول إن عمر وأحمد المنيسي ضربا أروع الأمثلة في البطولة والفداء والصبر .. ومن مواقف عمر المشهودة يومها أنه أصدر أوامره إلى إخوانه بعدم إطلاق النار على الجنود الإنجليز الذين تجمعوا حول المكان الذي تم فيه نسف الخط الحديدي، لأنه لاحظ بعض العساكر المصريين يقفون مع الإنجليز لمعاينة "الحادث" ..

ولكنه لجأ لحيلة لطيفة فقد ألقى بقنبلة صوتية تفرق على أثرها الجميع وأمكن تصيد عسكر العدو الشاردة .. كما أصدر أوامره بعدم التعرض لسيارات الإسعاف الإنجليزية التي جاءت لإنقاذ جرحاهم في حين أن الإنجليز المتحضرين!! تركوا جثة عمر وأحمد وستة من أبناء الشرقية طعما للكلاب ولكن الكلاب كانت أكرم منهم واحترمت جثث الشهداء فلم تمسها بسوء ...

انتهت معركة التل الكبير باستشهاد عمر وأحمد المنيسي وستة من شباب قرية التل الكبير، وأسر ستة من شباب الجامعة ..

يقول الأسرى إن الإنجليز كانوا ينظرون بخوف شديد إلى عمر وهو مضرج بدمائه .. كانوا يتخيلونه حيا وقادرا على مطاردتهم .. حتى إن بعضهم هم بوخذه مرارا بالحربة للتأكد من موته، بل إنهم كانوا حريصين على استيفاء جثته، ولكن الضغط الشعبي المتزايد ومخافة الانتقام من الإنجليز المقيمين بالقاهرة اضطرتهم لتسليمنا جثث قتلانا ..

كان لقاء لا أنساه ما حييت .. فقد اجتمعت مع الشهداء الستة في غرفة واحدة .. عشت معهم ساعة أقلب وجوههم لأتعرف إلى قتلى الجامعة كان الستة ينادونني من سمائه العالية .. نداء ملأ نفسي ومشاعري بالرهبة .. كان نداء فرحا متهللا مغردا .. وكدت أسمع ترتيلهم وصدى قول الله تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا لله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".

حملنا الشهداء معنا .. إلا أن أبناء الشرقية أبوا إلا الاستئثار بأبنائهم الستة .. أما القاهرة فقد خرجت عن بكرة أبيها في موكب عمر شاهين كان عمر يومها قائد القاهرة بل قائد مصر كلها.

كان زعيم أمة وخطيبها وأميرها ..

ووقفت يومها أردد صدى قلب عمر الكبير في حشد بلغ ثلث مليون مواطن عربي .. ولا أذكر ما قلت ولكن قيل لي إنك لم تكن تتكلم بلسانك ولكنك كنت لسان عمر وقلبه وروحه ..

ووقف وائل شقيق عمر يعلن في الأمة إصراره على مواصلة مسيرة عمر ..

رحم الله عمر ورحم الله رجالا يطمعون في مكانة عمر من الله تعالى ...  

ذكرى شهيد للأستاذمحي الدين عطية

زميل الشهيد في معركة القناة

الزمن: 19511952

المكان: التل الكبير – مصر

العدو: فلول الاستعمار الإنجليزي ..

الفدائيون: كتيبة جامعة القاهرة ...

الشهيد: عمر شاهين ...   حنانيك يا ذكريات العمر

ورفقا بقلب ذوى وانفطر

هناك على الجدول المنحدر

ظلال النخيل وضوء القمر

شهود على دمعي المنهمر

هناك التقينا ونعم الرفيق

فتيا، أبيا ، ذكي البريق

شفيقا ، رهيفا ، كلحن رقيق

وفي صدره أمل يستفيق

بأعماقه ، ثورة تستعر

سرى بيننا كشعاع وليد

كرمز لإنسان جيل جديد

كحب تغنى بأحلى نشيد

كزرع روته دماء الشهيد

فشب بها ناميا، وازدهر

إلى أن تردد يوما ، ندا

ودمدم صوت يشق الفضاء

لصيحات شعب تحدى الفناء

ويقسم بالله أن ينتصر

ودارت رحى الحرب ، لا ترحم

معارك يذكي لظاها الدم

وحقد العداء ناره تضرم

وفتياننا قدر ملهم

أتوا فوق ما يستطيع البشر

وقالوا رأيناه بين الصفوف

يحث خطاه بقلب لهوف

وبين المعاقل ليلا يطوف

عمالقة في بطون الكهوف

وخلفهمو أمة تنتظر

ويوم أتى فجره كالغريب

بأنباء ليل عصيب رهيب

أفقنا، وأسماعنا تستريب

نسائل عنه وما من مجيب

سوى أدمع بالأسى تنهمر

أحلم؟ وفتشت حولي أرى

أحقا؟ كا ظن قلبي جرى؟

أحقا قضيت؟ طواك الثرى؟

وكيف طعنت؟ وكيف انبرى؟

ذراعا لطيفك، لم ينكسر؟

وقالوا دم من دماه سرى

على الترب خط كلاما يرى

حكاه الرواة بتلك القرى

حديث كفاح مرير جرى

على أرضهم، ثم لم يندثر

ودار الزمان على أرضنا

تضج ربانا بأعدائنا

فتلفظهم في بحار الفنا

كأن السماء استجابت لنا

وعمرك ما ضاع فينا هدر

وبعد ، رفيقك ماذا دهاه؟

وغرسكما .. يا ترى هل جناه؟

أتعلم كيف اكفهرت كف الحياة

كؤوس المرارة حتى سكر

لقد ضؤل الكون في وهمه

وغاضت مناهل أحلامه

سوى طائف طاف في نومه

يرتل أعذب أنغامه

مقاعد صدق، معا يا عمر

شهيد بئر السبع

كان وجهه هادئا رقيقا ينبئ عن سلام واستقرار نفسي لا حدود له، وكان ثغره باسما كثغر الإسكندرية التي أنبتته .. أما خلقه فقد سعد به وبرفقته جميع زملائه ببئر السبع ..

استيقظنا كعادتنا في الصباح لنؤدي صلاة الفجر في فناء المدرسة التي كنا نعسكر فيها في بئر السبع .. وكان كعادته قد سبقنا إلى المصلى لختم تهجده .. فقد كان من عادته قيام طرف من الليل يقف بين يدي ربه راكعا ساجدا داعيا متبتلا.

بعد أن صلينا الصبح مال على أذني وقال في همس يظهر أن الله قد أذن، قلت وفيم؟ قال في قبولي، فإنني رأيت في ليلتي أنني أمرح وأرتع في حدائق شجراء تملؤها الزهور والرياحين .. وما أظنها إلا بشير الجنة.

لم أحاول الجدال معه فقد كانت قسمات وجهه تحملك على تصديق قوله .. فملأت عيني من النور الذي كان يشع من وجهه وعينيه .. ثم تركته وانصرفت إلى عملي ...

وأقف عند هذا القدر من قصة "علي صبري" وأقدم للقارئ زميلي "علي صديق" الذي انتدبه القائد المحنك الصاغ "محمود عبده" ليعد لمعركة بئر السبع .. يقول علي:

كانت العملية التي وكلت إلى مجموعتنا التي لا تتجاوز الثمانية من شباب الإخوان هي نسف كوبري يقع ما بين مستعمرتين يهوديتين تقعان في قضاء بئر السبع .. وكان بطل القصة علي صبري من بيننا ..

خرجنا بليل نتحسس طريقنا عبر الوديان والجبال .. يتقدمنا رجل ن أبناء فلسطين الأوفياء هو الحاج سلامة بن سعيد .. وحملنا أمتعتنا على جمل قوي فالمسافة بعيدة من الموقع ..

كانت كشافات المستعمرات ترسل أضواءها القوية في كل اتجاه .. فتمزق ظلام الليل، وتكشف كل صغيرة وكبيرة في بطن الوادي مما يضطرنا للتوقف طويلا .. والتخفي في المغارات وخلف التباب.

استطعنا أن نصل إلى أرض العملية قبل بزوغ ضوء الفجر .. وقمنا على الفور بحفر الخنادق ثم ثبتنا الألغام تحت الجسر وفي جنباته ..

ولم تطلع الشمس علينا إلا ونحن في غيابة الحفرة بحيث نرى العدو ولا يستطيع أن يرانا .. وزيادة في الاحتياط وزعنا الطعام الجاف على جميع زملائنا مخافة أن يطول بنا الانتظار ...

انتظرنا اليوم الأول بنهاره وليله، نرقب حركات المستعمرات المحيطة بنا، فمنها وإليها تتردد المصفحات حاملة التموين والعتاد .. ولكن شيئا لم يحدث، فانتظرنا اليوم الثاني .. ونحن راقدون في الخنادق وعيوننا تدور في الوديان والسفوح باحثة عن الصيد الثمين .. وقلوبنا تنبض بذكر الله وألسنتنا لا تكف عن الدعاء.

وكان اليوم الثالث وهو يوم الجمعة .. يوما تاريخيا في حياتنا، ويوما فاصلا في حياة الشهيد علي صبري .. فقد أطلت علينا مصفحة ضخمة للعدو، كأنها قطعة من الجبل، تمشي في خيلاء، فهي صاحبة تاريخ مشهود في المنطقة .. تغير على القرى وتهاجم القوافل .. تعربد وتقتل بلا قيود أو حدود ..

ولا يستطيع أحد أن ينفذ إليها .. فرصاص البنادق والمدافع لا يمكنه أن ينفذ إلى قلبها الصلد .. تدحرجت الدبابة من قلب الوادي وهي تهدر كالثور الهائج، وما أن مست الجسر "الكوبري" حتى زلزلت الأرض من تحتها وانشقت إلى نصفين، وهوت المصفحة الملعونة من عليائها إلى بطن الوادي ..

أما نحن فكاد انفجار اللغم يقتلعنا من أماكننا .. أما نشوتنا فلم يتسع لها الوادي ولا الدنيا كلها .. نشوة النصر !! ولو كنا في غير هذا الموقف لشق هتافنا عنان السماء .. ولكن للميدان حكمة .. وهو قادر على التحكم في العواطف والمشاعر ...

كنا نتوقع من اليهود المتحصنين في المصفحة أن يخرجوا منها نجاة بأنفسهم، أو يسلموا لنا، أو حتى يطلقوا نيرانهم تحذيرا لنا، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، بل ران صمت غريب فقلنا ننتظر قليلا لعل رءوس الشياطين تظهر من المصفحة المتهالكة .. وأخيرا قررنا إرسال مجموعة القنابل التي كان يقودها الشهيد علي صبري لتقصف المصفحة بقنابلها الشديدة الانفجار ..

كل هذا والمصفحة صامتة مستسلمة .. فاقتربنا منها الهوينى حتى تمكنا من الوثوب على ظهرها فوجدنا جميع من بها قد هلكوا فانتزعنا سلاحهم .. وعدنا على عجل إلى خنادقنا، ثم اتصلنا عن طريق اللاسلكي بقائدنا محمود عبده ليرسل إلينا نجدة تساعدنا على الانسحاب لأننا كنا نتوقع هجوما انتقاميا تشنه علينا المستعمرات المجاورة ...

وحدث ما توقعناه فقد هجم علينا العدو بقوة كبيرة في محاولة للالتفاف حولنا وتطويقنا، وأرسلوا علينا وابلا من نيرانهم فلم نرد عليهم فظنوا أننا أفلتنا من قبضتهم .. فتجمعوا في عربات نقل الجنود .. وكانت فرصة هيأتها لنا قوات عدونا فأخذنا نتصيدهم واحدا تلو الآخر ...

ويقول علي صديق وهو يسترجع أحداث ما يقرب من ربع قرن .. أصدرت أوامري لقواتنا بالانسحاب .. فالعدو قد تكاثر علينا وخشينا أن يتمكن من عزلنا عن قواتنا الرابضة في بئر السبع، وبدأت عملية الانسحاب وكانت شاقة للغاية .. وهنا كانت السماء قد تفتحت عن آخرها لتستقبل منا خير رجالنا "الشهيد علي صبري" فقد تمكن أحد قناصة اليهود من إصابته وهو يحمي انسحابنا ...

وأخيرا وصلت النجدة وولى اليهود الأدبار فارين .. فجمعنا رجالنا وحملنا شهيدين بين أيدينا وعدنا إلى بئر سبع ...

انتهى علي صديق من روايته، ولن أجد ما أضيفه إليها .. إلا أننا اجتمعنا في مسجد بئر السبع في ظهر يوم الجمعة ومن حولنا أبناء البلدة الباسلة لنودع ابن الإسكندرية الذي ترك دنياها المترفة وشواطئها الفاتنة .. ودفع بشبابه الطاهر إلى الموت في سبيل الله ورضي بتراب بئر السبع له مدفنا .. سعد به التراب، وفرحت به ملائكة السماوات .. رحمه الله ورحمنا جميعا ...

عظمة الأمومة

ودع النعمان بن عمرو وسليم بن الحارث أمهما "السميراء بنت قيس" قبل خروجهما لموقعة أحد .. وهما يسألانها الدعاء .. ثم مضيا إلى أرض المعركة ..

استبطأت الأم عودة ولديها فخرجت تسأل عن أخبارهما فقال لها الناس إن ابنيها قد استشهدا، فقالت دون تردد ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطمأنوها عليه ولكنها أصرت على رؤيته فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل .. وقامت إلى ابنيها وحملتهما على ناقتها وانصرفت عائدة إلى المدينة فلقيتها عائشة فقالت لها: ما وراءك، قالت السميراء باطمئنان:

أما رسول الله بحمد الله بخير لم يمت واتخذ من المؤمنين شهداء: "ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال".

فنظرت عائشة إلى القتيلين وقالت للسميراء: ومن هؤلاء ..

قالت السميراء: ابناي ..  

صلاح المعلم .. والمقاتل

لم يكن صلاح حسن فردا عاديا من الذين يعدون في الأمم بأيدي الأخصائيين .. كأن آلافا من الرجال اجتمعت في رجل واحد .. كان جامعة كبيرة للمعرفة .. كان معلما وداعيا، ورياضيا، وصحفيا، ومقاتلا .. وأبا يملأ حياة بيته حبا وخيرا وحنانا ..

والغريب في حياة صلاح أنه استطاع أن يحقق نجاحا في كل ميدان طرقه .. حتى إنني عجبت وأنا أقرأ له بحثا اقتصاديا ممتعا يحاجج فيه الدكتور محمود أبو السعود .. وعجبت أكثر لما فاتحني في مشروع إنشاء مجلة للأطفال .. وكان يحمل بين يديه مجموعة قصص الأطفال ..

وعلمت أنه استطاع أن يصور أفلاما سينمائية تربوية .. والأمر الذي لم أستغربه هو أنه، وفي سن الثانية والأربعين بدأ يخوض معارك عنيفة ضد الصهيونية، فتاريخه وتاريخ أسرته يشهدان له أمام الله والناس بأنه نشأ بطلا شجاعا مقداما لا يهاب الموت ...

لقد فهم صلاح المعنى الأصيل للرياضة .. فهي ليست وسيلة لملء العضلات، واستعراض الأكتاف .. وحمل الكؤوس الفضية، وتسجيل الانتصارات ..

إن صلاح أخذ الرياضة من مأخذها السليم .. إنها وسيلة وليست غاية .. إن الجسم الصحيح يستطيع أن يخدم العقل والقلب .. ويعين الضعفاء ويأخذ بيد المحرومين ويضرب على يد المحرومين ..

إن الرياضة وسيلة لغاية .. وتأسيسا على هذه النظرية حمل صلاح عضلاته التي فتلها في معهد التربية العالي بعد أن تخرج منه سنة 1952، واندفع بكل قواه ليدرب طلبة الجامعة الأزهرية وطلبة جامعة عين شمس على التكتيك العنيف .. ونجح صلاح في أول خطوة إيجابية استغل فيها كفاءته واستعداده ..

وانطوت الصفحة الأولى من حياة صلاح عام 1952 .. وكانت الثانية في ميدان جديد عليه .. فقد ذهب إلى جنوب السودان في "جوبا" وعمل مبشرا لدينه ودعوته .. وفي قلب الأحراش جلس صلاح معلما ومربيا واستطاع أن يسهم في سد الطريق أمام التبشير الأوروبي الزاحف ..

وتختنق السودان .. وتضيق الحياة هناك بصلاح .. فيخرج منها وكله أسى لأنه ترك ميدانا شاغرا لا يملأه أحد .. وولى وجهه شطر الشمال فوجد باب النيل مسدودا في وجهه .. فقرر ترك أفريقيا لحين وولى شطره شطر الصحراء، وانتهى به الأمر إلى الكويت، وظل يتقلب في مدارسها الثانوية معلما ومربيا ثم انتقل إلى دنيا الأعمال الحرة ..

ولكن الشيء الذي لم يغادر حياة صلاح والذي لم تصرفه عنه كل مصاعب الحياة .. هو أنه خلق ليكون مربيا ومقاتلا .. مربيا للأجيال على منهج الكتاب والسنة بأسلوب تفرد به، فقد كان يرى أن الطالب في صغره إلى الثانية عشرة من عمره ينبغي أن يتفرغ لدراسة الأصول الحية للإسلام، ولا تقحم عليه أساليب العربية الزاحفة من الغرب أو الشرق ..

أما حبه للقتال في سبيل الله فقد كان أقوى في نفسه من كل شيء .. وكان ميدان فلسطين أحب إليه من غيره .. وقد بدأ عمله في الميدان بدراسة قضية فلسطين من جميع جوانبها .. ثم قام بدراسة أرض المعركة والإلمام بكل الظروف المحيطة بها .. وحتى يكون ظهره سليما أشبع أهله وولده الرغبة في الجهاد وحب الاستشهاد .. حتى إنه كان يمني أولاده بالذهاب لميدان العمليات إذا نجحوا في المدرسة .. وقد بر بوعده لأولاده وزوجته ...

ومن خلال البرقية التي أرسلها لجمال عبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 ندرك مدى تفهم صلاح للقضية التي يدافع عنها .. قال في برقيته: "إن هدف اليهود من الاعتداء هو الاستيلاء على شرم الشيخ وفتح طريق العقبة للاتصال بأفريقيا" وأظن واحدا منا لا ينكر الآن مدى بعد نظرة صلاح بعد أن تكشفت الأمور ..

ونقطع الطريق عدوا ونلهث خلف صلاح لنحاول أن نلحق به وهو يمضي قدما إلى قلاع العدو الرابضة فوق فلسطين الحبيبة ...

في أغسطس من سنة 1970 .. كانت وجهة صلاح "كفار روبين" وليست جبال سويسرا أو مرتفعات لبنان أو الزبداني في سوريا .. خرج صلاح في رحلة طويلة وممتعة، ممتعة للنفس .. خرج من بيته ومن بين أفراخه الأربعة ..

ليغسل عار سنة 1948 وسنة 1967 ويرد للأمة الإسلامية المنهكة أنفاسها .. ويحقق أمل الملايين الذين افتقدوا وجود اليد المتوضئة في المعركة .. وظنوا أنها قطعت ولم تعد صالحة للعمل .. خرج صلاح ليلة 18 أغسطس ليواجه تحديات العصابة التي نشرت في دنيا الناس الفساد والظلم والبغي .. ويتحدى معها جبروت الدول العظمى التي صنعت من الظلم عدلا ومن البغي حقا .. ومن عصابة الصهيونية دولة .. وأعطتها شهادة ميلاد دولية ...

خرج صلاح ليواجه هؤلاء جميعا .. ويواجه معهم كل أساليب التآمر والخداع والدجل متخفية وراء الحرص والكياسة والدبلوماسية رافعة رايات الاستسلام باسم السلام !!

السلام مع شتيرن وزفاي .. وراجون!!

خرج صلاح على رأس قوة من زملائه يتحسسون الطريق إلى مستعمرة "كفار روبين" وتمكنوا من تركيز أسلحتهم في مواجهة عدة مراكز، وبدأ القصف على المستعمرة وعلى مدينة بيسان .. وكانت ضربات ناجحة أصابت أهدافها .. وحرصا على الاستفادة من العملية، وتضليلا للعدو أطلق نيران في عدة اتجاهات مما أثار الذعر في كل مكان فجن جنون اليهود ..

ودفعوا بجنودهم في كل مكان يطلقون نيرانهم على أشباح الأشجار وخلف المكامن ولكن صلاح استطاع أن يسحب رجاله إلى شرقي النهر بعد أن أدى رسالته على أحسن وجه ...

تمكن العدو من إرسال قوة إلى الجانب الشرقي .. وهو الجانب الذي كانت تعسكر فيه القوات النظامية .. والتي انسحبت بعد الموافقة على مشروع روجرز!!

واستطاعت القوة اليهودية أن تطوق موقع انسحاب صلاح ورجاله، وأغرقت المنطقة، بالقنابل الشديدة الانفجار والرشاشات .. وتنفذ أول رصاصة إلى قلب "أبو جندل" ويمضي إلى ربه شهيدا، وتنفذ الثانية إلى "أبو عمر – صلاح حسن" ويصاب "شرحبيل" إصابة قاتلة ..

ولكن بقية من أنفاس تمكنهما من تتبع العدو الذي كان يحاول حمل قتلاه وجرحاه إلى الضفة الغربية .. فتضغط الأصابع المنهكة على الزناد فيباركها الله وتندفع منها طلقات إلى العدو الغافل فتصرع الكثير منهم: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".

ويأبى الله إلا أن يضم صلاح وشرحبيل إلى أحبائه الشهداء .. فتنزف جراحهما ما تبقى في قلبيهما الطاهرين ويتمدد الجسدان على الأرض الطيبة، وقد حملت كتف صلاح راس زميله الشهيد شرحبيل .. وناما في سلام وأمن وحب بعد أن أديا أروع رسالة على أحسن وجه وأكرم صورة، وتذكرني هذه الصورة بصحابيين جليلين هما عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام، يوم أن مر عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن قتلا في "أحد" فقال:

"ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد" وبعد دقائق تصرخ الطائرات اليهودية وتزأر المدافع فترسل نيرانها في كل مكان فتتحول الأرض إلى قطع من اللهب .. كل هذا والشهداء الثلاثة يرقدون في مواقعهم .. وأرواحهم تطل في سخرية على الجبروت الكاذب!!

يستمر الحال كذلك طوال النهار وطرفا من الليل .. وكل تركيز العدو على مواقع الشهداء .. وبعد جهد جبار يستطيع رجالنا الأبطال أن يحملوا الشهداء ويعودون بهم إلى مواقعهم ...

ويتحلق الرجال حول جثة صلاح والشهيدين شرحبيل "وأبو جندل" ويقف "عمرو" بن صلاح صامتا يحاول أن يغالب دمع على أبيه .. إن أباه قد أوصاه بأن يخلفه في أداء رسالته .. ويقوم مقامه ويتذكر أول درس تلقاه من والده الصبر والثبات والتحمل فالطريق طويل وشاق .. ويقف تلامذة صلاح وحوله يستذكرون دروسه ووصاياه .. إن وصيته الأخيرة ..

تعتبر درسا ساميا رائعا .. وصية أودعناها صدور أبنائنا لقطعنا الشوط في أقصر وقت .. قال لزملائه الذين كانوا يعدون للمعركة .. وقد تشاغل بعضهم بسبب الزعماء الذين قبلوا مستسلمين مشروع روجرز ... قال لهم: "كفوا عن هذا وركزوا أذهانكم في العدو والمعركة، واشغلوا أنفسكم بذكر الله" .. فتعجب بعض زملائه من نصيحته .. فقال لهم .. "هل يجوز أن نلتفت وسط الصلاة لنسب هذا الزعيم أو ذاك ثم نستأنف صلاتنا، هكذا الجهاد إنه أسمى من أن يتدلني إلى ذكر هذا أو ذاك ...".

وكانت زوجة الشهيد قد رافقته في رحلته الأخيرة، وأنزلها في مكان قريب من المعسكر .. فلما سمعت باستشهاده، قالت: "هذا ما كنت أتوقعه .. فلقد رأى في منامه قبل استشهاده بأيام أنه يصعد فوق مئذنة عالية يتوجها نور ساطع يملأ السماء كلها .. فلما قص علي رؤياه علمت أن الله سوف يختاره شهيدا".

وعاد صلاح إلى مهجره في الكويت تحف به قلوب إخوانه وأحبابه وتلامذته .. رحمك الله يا صلاح ورحمنا جميعا ...  

لا نقاتل إلا بهذا الدين

وقف عبد الله بن رواحة يخطب في ثلاثة آلاف من المسلمين انتدبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرب الروم وكان عدد الروم مائة ألف مقاتل فقال عبد الله: "يا قوم والله إن التي تكرهون، للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة".فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة.

فلما قتل زيد بن حارثة وقتل من بعده جعفر بن عبد المطلب، وقف ابن رواحة يقول:

يا نفس إلا تقتلي تموتي

هذا حياض الموت قد صليت

وما تمنيت فقد لقيت

إن تفعلي فعلهما هديت

وإن تأخرت فقد شقيت  

سيد منصور

كان من عادتنا إذا فرغنا من التدريب في معسكر "هايكستب" جلسنا في حلقة دراسة نقرأ القرآن، ونستمع لحديث عن السيرة العطرة، ثم نتناول العديد من الموضوعات العلمية خاصة ما يتصل بالقضية التي هيأنا أنفسنا لها ...

وكان سيد منصور يحرص على هذه الدروس حرصه على التدريب الذي كان يتولى أهم شطر منه، وهو التدريب على بث الألغام أو إعدام مفعولها .. كان يجلس في صفوف التلامذة المتطلعين إلى المعرفة، وكأن لسان حاله يقول يجب على الأساتذة أن يتعلموا كيف يجلسون في صفوف تلامذتهم ..

وكان يحسن الصمت كما يحسن الكلام .. ولكنه ينفتح بكل مشاعره إذا عرضنا في حديثنا لذكر الشهادة والشهداء ومقامهم عند الله .. كان يحاول أن يرسم نفسه على طريق الشهداء .. يسأل عن نواياهم .. وعزائمهم .. وسيرهم .. وكل ما يتصل بأخبارهم .. ثم يستجمع هذه السير ليتخذ بينها طريقا له ...

وكنت كلما نظرت إليه تخيلته يمضي على الأرض بقدم واحدة .. أما الأخرى فتركض إلى الجنة في ثبات ..

ومضت ثلاثة أسابيع، ولم تصدر الأوامر إلينا بالتحرك لأداء الواجب المناط بنا فازداد قلق الخمسين شابا الذين كانوا يعسكرون معنا في "هايكستب" وكان سيد أشدهم قلقا .. وكانت أنباء الفالوجا المحاصرة تلهب الثورة في صدورنا جميعا .. إن جيشنا يعيش محنة قاسية، وهو يصرخ في الأمة مستنجدا بأبنائها وشبابها .. ثم إن الجيش كان قد استأنف القتال بعد نهاية الهدنة المشؤومة، ولكنه كان في وضع لا يحسد عليه، فقد اضطره العدو لإخلاء مواقع هامة، والانسحاب إلى مراكز خلفية ..

وبدأت الأسئلة الحائرة تدور فيما بيننا .. لم عجز الجيش المحاصر عن فك حصاره وفيه قيادة سميت وقتها "بضبع الفالوجة" ولم عجز الجيش المصري كله عن فك هذا الحصار!! وأين الجيوش العربية السبع التي اتفقت فيما بينها على سحق اليهود !!!

ثم صعد إلى القمة سؤال كبير، لم اختارنا القائد العام الجديد من دون الشعب؟ واصطفانا من بين كتائب الفدائيين الأخرى!!

والأجوبة السريعة والمتلاحقة عن هذه الاستفسارات تقول إن جيش الفالوجة كان يفتقد الأسلحة الصالحة لمغامرة فك حصار مضروب حوله بدقة وإتقان .. وإن الجيش كان متدهورا معنويا ولم يكن في وسع رجاله المجازفة بحياتهم ..

وإن الجيوش السبعة كانت انعكاسا للأوضاع المتحكمة في دولهم .. كانت جيوش استعراضات واحتفالات ونياشين!! أما الجواب الأمين فيكمن في إيماننا بأن الميدان العملي يحتاج لنوعية سيد منصور .. يحتاج لطلاب الشهادة دون أجر الدنيا من نياشين ورتب ومكافآت ...

انتهت فترة القلق بخبر مفزع طالعنا به قائد عام المعسكر على أثر إشارة تلقاها من عمان بأن ملك الأردن رفض نزول طائراتنا في أراضيه .. وكانت صدمة لمشاعرنا الملتهبة!! جيشنا يصرخ مستنجدا والعدو يخنقه بكل قوته!! وقائد عام الجيوش العربية يرفض إنقاذه!!

ولكن ماذا نفعل؟ هل نتظاهر كما كنا نفعل في الجاعة إذا خنقت الحكومة حريتنا؟ إن ميدان القتال صورة عملية للرفض ولا بد من الدخول إليه ومن كل الأبواب .. ولا بد من قتل الخطيئة في شخص اليهود الذين يمثلون "تجمع الصهيونية والصليبية".

قمنا بتعديل خطتنا .. وهي تتلخص في الذهاب إلى غزة عن طريق السكة الحديد ثم نحاول من هناك شق صحراء النقب، إلى الخليل، ومن هناك نكمل عمليتنا وهي فك حصار الفالوجة حسب الخطة المرسومة .. ونفذنا المرحلة الأولى .. ووصلنا إلى معسكر البريج "مخيم البريج الآن"

وكنا قد استولينا عليه من الإنجليز عقب جلائهم عن فلسطين في 15 مايو سنة 1948، وبدأنا ندرس فكرة عبور الصحراء، وما تتطلبه هذه المغامرة من جهود، وما قد تسببه من خسائر، ولكن كل هذه الدراسات انهارت بعدما ترامت إلينا أنباء من أن اليهود تمكنوا من الهيمنة على الدروب المؤدية للخليل، وأنهم استطاعوا الاستيلاء على قافلة بأسرها كانت في طريقها للخليل وأجهزوا على كل رجالنا ..

فاضطررنا للعدول عن الفكرة، وتركنا أمر إنقاذ الفالوجة وإمدادها بالتموين والسلاح لقواتنا المرابطة في بيت لحم، والتي كان يتولى شطرا منها أحد ضباط الجيش الأفذاذ "معروف الحضري".

بدأنا نعمل في قطاع غزة، وهو الجزء الذي تبقى لنا بعد الهدنة ... وكانت عملياتنا تنحصر على الإغارة على المستعمرات الراقدة في مواجهة القطاع، وقطع الطريق الذي يصل هذه المستعمرات، وذلك ببث الألغام في الممرات الصحراوية والمرابطة في أوكار جانبية .. هذا بالإضافة إلى تلبية نداءات الجيش في كل العمليات الفدائية باعتبارها فرقة كوماندوز ملحقة بالجيش ...

وبدأ سيد منصور ينطلق بكل طاقاته .. لا تكاد تفلت منه دورية قتال أو استطلاع .. وقد كان التنافس على هذه الدوريات شديدا . لدرجة اتهام القيادة "بالمحسوبية" لأنها آثرت جنديا على الآخر في عدد الدوريات .. وكنا نضعف أمام روعة التنافس بين شباب لا يتجاوز العشرين من عمره وبين آباء تجاوزوا الأربعين .. أيهما أفضل!!

أما سيد منصور فكانت عيناه تتوسلان في صمت، فلا نملك إلا الاستجابة لرغبته!! وكانت حجتنا أمام الآخرين أن سيد له خبرة ببث الألغام حتى أن الجيش نفسه كان يطلب إليه تدريب ضباطه على عملية بث الألغام وتفجيرها ...

علمنا ذات يوم أن اليهود سيغيرون على قرية مجاورة، وكانت العملية تحتاج لشباب سريع الحركة .. ولم يكن أمامنا وقت "للمساومات" و "الوساطات" فانتدبنا عبد الرحمن البنان وكان في السابعة عشرة، وسيد منصور وكان في الثلاثين من عمره أو يزيد قليلا ...

فانطلقنا في الوادي الفسيح لا يحميها إلا الظلام المتراكم ودعاء المئات من زملائهم المقيمين في المعسكر .. وانتظرنا إلى منتصف الليل ولكن الإخوان لم يعودا فران علينا صمت كثيف يسبق عادة نبأ استشهاد أحد الزملاء .. فوجفت قلوبنا وتحجرت الدموع في عيوننا .. فالميدان لا يسمح بإظهار العواطف بل على العكس يوصي بحبسها ...

وفجأة تبددت أوهامنا ونحن نسمع وقع أقدام الرجلين وهما يقطعان الطريق إلى داخل المعسكر وقد حمل كل واحد منهما مجموعة من الدجاج ... وكان منهكين لدرجة كبيرة ..

ومع هذا لم نعفهم من الاستماع لمغامرتهم فتولى عبد الرحمن سرد أحداث القصة .. أما سيد فكان ينصت في سكون .. وكأنه لا يعرف شيئا مما حدث .. وكان يسرح بين الحين والآخر وكأنه يبحث عن مجهول يحاول استكناهه.

لم ننتظر على الدجاج حتى الصباح، بل عجلنا بإعداد عشاء دسم ونحن نستمع لعبد الرحمن وهو يقص علينا ما حدث .. قال: إن اليهود أغاروا على القرية فقلتوا من قتلوا، وحرقوا حصاد القرية، وسرقوا منها ما امتدت إليه أيديهم ..

ثم حاولوا الهروب قبل أن نشعر بهم .. ولكننا تمكنا من اللحاق بهم وهم في طريق العودة إلى مخابئهم في المستعمرات المجاورة .. واستطعنا أن ننال من عربة جيب كانت محملة بالمسروقات ومنها هذا الدجاج ..

أما خسائرنا فلم تكن سوى هذا البيريه .. وخلع من فوق رأسه غطاءها وأشار إلى ثقب رصاصة نفذت من خلاله .. وقال ضاحكا وهو يشير إلى سيد الذي ظل ساهما مطرقا .. وعدنا برئيسنا كما ترون .. فتعشوا هنيئا لكم ... وكان عشاء ضاحكا كما يقولون ...

ومضت فترة قصيرة على هذه الحادثة إلى أن امتحنا في أكبر معارك فلسطين ...

كان الجيش المصري قد مني بهزائم متلاحقة بعد استئناف القتال، فقد تمكن العدو من تجهيز نفسه بأحدث المعدات، كما عزز قواته بمحاربين أكفاء من جميع أنحاء العالم، وخاصة من أبناء أمريكا وأوروبا الغربية والشرقية ..

وقيل وقتها إن روسا اشتركوا في المعارك التي وقعت بعد ذلك .. وقد انتشرت إشاعة طريفة في الجيش المصري أن الروس يمتازون برءوس ضخمة لا يخترقها الرصاص .. ولذلك لا جدوى من قتالهم ...

لنقترب من معركة "تبة 86" .. ولنكتف بالقدر الذي يقربنا من دور الشهيد سيد منصور ..

فلقد أعد اليهود خطة لفصل الجيش المصري المتمركز في غزة عن مراكز إمداداته في خان يونس ورفح والعريش، وذلك بقطع الطريق ما بين غزة وخان يونس، وحشد لذلك أمهر قناصته وقدم لعملية الزحف بوابل من نيران مدفعيته على اللواء المتمركز في هذه النقطة .. ثم تقدمت مصفحاته تكنس الطريق أمامها من فلول الجيش التي بدأت الفرار من الساعات الأولى للاشتباك ..

ويؤسفني هنا أن أعرض هذه الصورة عن جيشنا ... ولكن للأسف الشديد كانت هذه هي الحقيقة .. وعذره الوحيد هو أن رائحة الخيانة والغدر من الحكومة والقصر وقيادة الجيش المركزية كانت قد فاحت في صفوفه، فأوهنت من عزيمته القتالية وزلزلت من ثقته بنفسه ..

فهو يواجه عدوا مزودا بأسلحة قوية ومعنويات عالية .. أما هو فأسلحته الفاسدة كانت ترتد إلى صدره فتقتله قبل أن تقتل عدوه .. ويكفي أن أضع هذه الحقائق البسيطة .. لقد كانت أسلحة الجيش التي زود بها بعد الهدنة عبارة عن بنادق إيطالية لا تصلح الواحدة منها لإطلاق أكثر من خمس رصاصات ثم ترتفع درجة حرارتها وتنشق ماسورتها ..

أما الذخيرة فالصالح منها لا يزيد على العشر أما الباقي فلا يحدث مفعولا .. فإذا أضفنا لهذا المستوى المعيشي للجنود، لما تحاملنا على الجيش بهذا القدر فالجندي الذي تقدم له الطعمية كترفيه في ميدان القتال، حتى ترددت أغنية صعيدية "جابولنا الترفيه يا بوي يا بوي عيش وطعمية يا بوي" هذا الجندي لن يجد له زادا معنويا أو ماديا في مواجهة عدو ترعاه دول متحضرة وقوية ...

واستدراكا أقول إن الجندي كان على استعداد لتحمل شظف العيش لو قيل له إن دولته لا تملك غير هذا .. ولكن كان يعلم مدى الخيانة المرابطة وراء أمثال هذه التصرفات ...

نعود إلى المعركة .. لنقول إن الجيش المصري كان قد أحيط به من كل جانب .. المدفعية تصليه بنيرانها .... والقناصة تتصيد الضباط والمصفحات تطوقه ...

وكانت هذه الأخبار تصلنا في معسكرنا "البريج" فنثور ونتهيج رغبة في إنقاذ إخواننا، ولكن جاء الفرج وتلقينا رسالة مستعجلة من اللواء أحمد فؤاد صادق قائد عام الجيش المصري بالتحرك على وجه السرعة .. وعلى الفور أعد الأخ كامل الشريف قوة من 35 شابا من شباب المعسكر .. كان من بينهم سيد منصور، وعبد الحميد خطاب، وسيد عيد، وفوزي فارس ...

وصلنا لأرض المعركة في أدق مرحلة من مراحلها، وتمت عملية انتشار سريعة .. وتمركزنا في مناطق رئيسية بحيث تمكنا من اكتشاف مراكز تجمعات العدو والدشم التي يسدد منها نيرانه إلى صدور رجالنا.

وكان يوما ممطرا، شديدة البرودة، ومع هذا كانت سخونة المعركة تعطينا دفئا وحرارة، وطاقة رائعة .. وتذكرنا يومها ما أنزله الله في أرض بدر:

"وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام" فنشطت قلوبنا وألسنتنا بالذكر والدعاء ونشطت عقولنا بالتدبير لتطويق العدو وكسر شوكته ...

كان تكتيك العدو في هذه المعركة إرهابنا وإلقاء الرعب في صدور جنودنا ثم تشتيتنا وتصيدنا بعد ذلك، فألقى الآلاف من قنابل الهاون الصوتية والحارقة وشديدة الانفجار ..

وقد حقق نجاحا في الجولة الأولى، فبدأ الجنود يتبعثرون في كل مكان واستحال على قيادة المعركة إعادة الضبط والربط، بل إن كبار ضباط الجيش لم يجدوا مناصا من التخفي لتجنب قنابل اليهود وسخط الجنود الفارين، وأذكر أنني التقيت باللواء علي عامر (الفريق) يرابط في حفرة في الخطوط الأمامية .. وقلت للرجل إن بقاءك هنا لا جدوى منه بعد أن فر الجنود .. قال لي:

إنني ألتزم الأوامر وكان الرجل في موقف لا يستطيع منه التقدم أو التراجع فآثر انتظار القضاء ...

سبق أن قلت إننا حاولنا التمركز في مواقع قريبة من تحصينات العدو، ومراكز إطلاق نيرانه، ولكن لم يكن هذا ليتم إلا إذا قطعنا طريقا مكشوفا ومعرضا للنيران .. فطلبنا من قيادة الجيش السماح لنا بدبابتين لنتخذهما ساترا متحركا نحتمي به إلى أن نتسلق تبة عالية .. ووافق القائد .. وبدأت قواتنا تتحرك خلف الساتر تكتنفها نيران العدو من كل جانب ..

وفي ظلال دبابة مكشوفة كان يركض سيد منصور وعبد الحميد خطاب الطالب الأزهري الذي لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة، ونيران العدو تنفذ من بين أيديهما وتتساقط فوق رءوسهما، ودوي القنابل يزلزل الأرض من تحتهما، ومع هذا مضى سيد وعبد الحميد لغايتهما في إقدام وجرأة وتحد للعدو ..

وإصرار على مواجهته، ورغبة صادقة في لقاء الله مع النبيين والصديقين والشهداء، ويشعر العدو بالخطر المتحرك خلف الدبابة فيسدد جميع أسلحته في اتجاهها، ويركز عليها نيرانه .. وتطوق الدبابة بسحاب من الدخان ..

فيرتبك قائدها، وتضطرب عجلة القيادة في يده .. وتتحكم فيه ولا يستطيع الهيمنة عليها، فتتدحرج الدبابة إلى الوراء، ويسقط الرجلان تحتها فتعتصر جسد عبد الحميد وتضغط تروسها على النصف الأسفل من سيد منصور فتعجنه في الطين .. وتمضي المعركة .. ويتمكن الثلاثون شابا من تغيير مجرى المعركة من هزيمة إلى نصر .. ويشعر اليهود بصلابة العنصر الجديد الذي هبط فجأة .. واستطاع أن يقتحم عليهم مواقعهم ويغير في جرأة على الدشم ويلتقي وجها لوجه بهم ..

والمعروف أن اليهودي لا يحتمل المواجهة، ولا يصمد أمام المقاتل الأصيل وصدق الله العظيم: "لا يقاتلونكم جميع إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى" فيضطر للانسحاب حاملا معه قتلاه وجرحاه ..

كانت الأرض تسبح في بركة من الدم الذكي ممزوجا بماء المطر ...

وجثث القتلى تتناثر على التباب والطرقات وتحت أشجار التين الشوكي .. ومن بين هؤلاء يرقد البطلان عبد الحميد خطاب الذي أسلم روحه لربه، وعلى قيد خطوات منه يرقد نصف سيد منصور ساكنا مستسلما. اقتربت من سيد، وتحسست جسده، فإذا بنبض خافت ينبئ عن بقية حياة .. وفتح الرجل عينيه وأدارهما في وجهي وكأنه يدعوني إليه فحنوت عليه إلى أن لثمت جبهته ..

فتمتم بعبارات .. فظننته يملي علي وصية لأبنائه الستة وزوجته، فأرهفت السمع فإذا به يردد عبارة واحدة: "اللهم انصر دعوتنا .. اللهم بارك مرشدنا" .. ثم يقفل فمه قليلا حتى يدفع عنه ماء المطر المتدفق من باب السماء .. ويعود لدعائه يكرره في إلحاح ورجاء ..

ونسرع بطلب عربة إسعاف لإنقاذ سيد فيحضر رجال الإسعاف بمحفاتهم .. ويهمون بسيد ليستخلصوه من الطين فيستعصي عليهم لأن ساقيه كانتا قد امتزجتا بالطمي حتى صارتا قطعة واحدة .. فيحملونه بكل الطمي المتراكم عليه .. ويمضون به إلى المستشفى العسكري ويقرر الأطباء بتر الساقين لاستخلاص بقية الجسد وتجرى عملة سريعة .. كان قضاء الله أسرع منها .. وترتفع روح سيد متمتمة بالدعاء: "اللهم انصر دعوتنا ...".

ويسمع قائد الجيش اللواء فؤاد صادق بوفاة الجندي سيد منصور، فينزعج للنبأ ويحضر على الفور لمعسكرنا ليقوم بنفسه بواجب العزاء في "الشهيد سيد منصور" ثم يصدر أعجب قرار وهو ترقية الجندي سيد منصور إلى رتبة ملازم أول تقديرا لخدماته في الجيش .. والجزء الذي نسيته من القصة أن سيد منصور كان يقوم بتدريب ضباط الجيش النظامي على طريقة بث الألغام وانتزاعها ...

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موقعة أحد: "من رجل ينظر إلى فعل سعد بن الربيع في الأحياء أم في الأموات، فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك ما فعل سعد .. وذهب الصحابي يلتمس سعد بن الربيع فوجده جريحا وفي النزع الأخير فقال سعد: ما شأنك؟

فقال الرجل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات فقال سعد: أنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته .. وأبلغ قومك عني السلام ..

وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف".  

أنا عائد .. أنا حي

هي قصة واقعية .. وليس لي من سبيل لتأكيدها إلا ثقة القارئ فيما أكتب .. وأنا أعتبر أن الكلمة المكتوبة تظل شاهدا على كاتبها ما عاشت الورقة في دنيانا .. وأما بين يدي الله فهي شاهد قائم يدونها أهل صدق لا يكذبون: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

القصة فسرها الصالحون بأنها كرامة شهيد وهي لا تخضع لمنطق العقل والمقاييس العادية للأمور .. أما الماديون فقالوا إنها ظاهرة غير عادية .. أما رأي فيها فهي درس خالد أراد الله لنا أن نأخذه على يد شهيد .. درس صامت لكنه أسمى من كل الدروس الناطقة ..

القصة وأحداثها تسحبنا إلى أواخر عام 1948 حيث كنا نعسكر في مخيم البريج الواقع ما بين خان يونس وغزة .. وكانت مهمتنا قد تجمدت بعد الهدنة المشؤومة .. وتحولنا من قوة مهاجمة إلى قوة مدافعة .. نلبي طلب القيادة إذا دعتنا لأي عملية فدائية ...

وكانت قيادة الجيش قد نما إليها أن اليهود سوف يقومون بهجوم كبير في منطقة العوجة، مستهدفين احتلال بلدة العريش وقطع الطريق على الجيش المصري المعسكر في قطاع غزة .. واحتشد الجيش المصري في منطقة قريبة من العوجة، وكان نصيبنا قطاعا خاصا يقع على تبة عالية تقع على ميمنة الجيش، ولم يكن عددنا كبيرا ... كنا في حدود الخمسين ..

كانت المعركة عنيفة وقاسية وقد أعد لها العدو كل إمكانياته وكانت معنوياته عالية بعد أن حقق انتصارات كثيرة، وعلى العكس كانت قوات الجيش المصري بل والجيوش العربية كلها قد أصيبت بهزيمة نفسية شديدة ..

ولذلك لم تمض ساعات إلى والجيش الكبير قد ولى الأدبار أمام عصابات اليهود، تاركا وراءه مئات العربات والدبابات قد ولى الأدبار أمام عصابات اليهود، تاركا وراءه مئات العربات والدبابات ممددة على طريق لا تقل طوله عن ثلاثة كيلو مترات، ولم تكن ظاهرة الفرار هذه غريبة عن ناظرنا فقد تكررت أمامنا الصورة عدة مرات، ومرجع هذا كان لعدة عوامل أهمها انهيار معنويات الجيش المصري بعد أن خانته حكومته وأرسلت له ذخيرة فاسدة في الميدان .. ثم تخلى "جيش جلوب" عن المعركة وغدره بالقوات العربية .. وأعني بجيش جلوب الجيش الأردني الذي كان يتولى قيادته قائد بريطاني "جلوب باشا".

نعود إلى أرض المعركة ... فبعد أن هزم الجيش المصري وفر أمام العدو بقيت قواتنا في مواقعها في محاولة لصد الهجوم ولكن تبين لنا أن الأمر ليس يسيرا فقد ركز علينا العدو نيرانه .. وأصلانا بآلاف القنابل وقام بمحاولة لتطويقنا بعد أن انهارت كل أجنحة الجيش ..

حتى إنه تمكن من الوصول إلى منطقة قريبة من تلة كان يقوم على حراستها بعض رجالنا، وكان منهم بطل هذه القصة "الشهيد علي الفيومي" الذي تمكن هو وزملاؤه من صد هجوم الجيش اليهودي وتعويق زحفه وحماية ميمنتنا .. ولكن العدو ركز بشدة على التلة الصغيرة حتى سكتت نيرانها .. وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل قررنا الانسحاب حتى لا تباد القوة عن آخرها إذا طلع عليها الفجر، ولكن تبين لنا فقدان أحد زملائنا وهو علي الفيومي ...

قال بعض زملائه إنه أصيب، ولكنهم لم يتأكدوا من وفاته، وذهبنا في تفسير الأمر مذاهب كثيرة، من قائل إنه ذهب شهيدا، ورجع آخرون أن اليهود تمكنوا من أسره ...

وعدنا للعريش حيث نزلنا في معسكر إمداد الرجال، ولبثنا هناك اثني عشر يوما لم تغادرني صورة الفيومي في يقظتي ولا في منامي .. كان يزورني في الليل ويقول لي: "أنا عائد أنا حي".

وعلى الرغم من تفسيرات إخواني الكثيرة للرؤيا فمن قائل أنه مع الأسرى حي يرزق! وآخرون فسروها بأن الصحراء التيه التي ابتلعت بني إسرائيل أربعين سنة قد لفته في دروبها المعقدة! والواقع أن هذه الصحراء غريبة في تكوينها وهي كفيلة بأن تضل من يدخل إليها، وقد حدث أن ضللت الطريق فيها مع زميلي الضابط المهندس الرائد محمود خليل ولم نهتد إلى معسكرنا إلا بعد جهد كبير ...

نعود إلى قصة الشهيد، وإلى الرؤيا التي ظلت تطاردني طوال إقامتي في العريش ... والتي تأكدت في نفسي حتى خيل إلي أنه قد يدخل علينا خيمتنا في أي لحظة ...

صدرت الأوامر إلينا بالعودة إلى سد الروافع حيث يقوم قصر صغير للملك السابق فاروق فأسرعنا إلى هناك .. وكان اليهود قد سلبوا القصر الذي كان الملك فاروق يعده لنفسه، ولم يتركوه إلا هيكلا يقف كالشبح .. وإن كنت لا أنسى عبارة حفروها في مدخل القصر تقول العبارة:

"ذكرى انهيار الجيش المصري" وسجلوا تحتها هذا التاريخ 1/1/ 1949 ثم رسم أحدهم صورة لجندي يهودي وهو يركل بعنف جنديا مصريا ويطرده خارج فلسطين .. العبارة والصورة .. حفرها اليهود في نفسي أكثر عمقا وبعدا مما فعلوه بالجدار ...

أصدر قائد اللواء الخامس "اللواء نعمة الله" أوامره لنا باستكشاف القصيمة التي كان قد احتلها اليهود بعد هزيمة الجيش ..

وكان الطريق إلى القصيمة محفوفا بالمخاطر فهو عبارة عن دروب عميقة تحفها جبال شاهقة، وفي إمكان أحد القناصة اليهود أن يهيمن على الطريق كله، وبالتالي يعزل القرية الصغيرة، عن العالم .. ولذلك قطعنا الطريق الموصل إلى القصيمة وهو حوالي عشرة أميال في أكثر من أربع ساعات، لأننا كنا نرسل بالكشاف لاستطلاع الطريق الجبلي قبل التقدم في الوادي ..

وأخيرا وصلنا إلى قرية فلم نجد فيها إنسانا واحدا، لقد هرب أهلها جميعا ولاذوا بالجبال فتذكرت قول الله تعالى وأنا أطالع القرية المحطمة: "وبئر معطلة وقصر مشيد".

كان أول عمل قمنا به هو محاولة عن أهل القرية حتى نعيدهم لديارهم التي سلبها اليهود، ونؤمنهم فيها .. فأرسلنا رجالنا في مسالك الجبال للبحث عنهم ..

ولعبت الصدفة دورها في آخر لحظة فقد عثرنا على أحد أبناء القرية وهو يحاول الهرب من بيته المخرب، وبيده مصباح به بقية من زيت، وبعد أن طمأناه وهدأنا من روعه أرشدنا إلى مخابئ قومه، فذهبنا إليهم وأعدناهم في أمان لقريتهم، بعد أن أدينا واجبنا الذي كلفنا به قائد اللواء وأمنا أبناء القرية .. عدنا إلى مركز القيادة حيث استقبلنا اللواء نعمة اله بحفاوة كبيرة ..

وأذكر أنه قال لي إنني لا أدري كيف أكافئكم على مغامرتكم الكبيرة قلت له إنني آمل ألا تعتقلونا .. فظهر الامتعاض في وجه الرجل واستغرب ردي ..

فلما فسرت له تخوفاتي، وذكرت له طرفا من حملة الاعتقالات التي تعرض لها الإخوان في مصر، على أثر حل الجماعة ومقتل النقراشي سكت الرجل وهو يهز رأسه في أسف .. ومن عجائب القدر أن يتم اعتقالنا فيما بعد وتسند حراسة معتقلنا لسرية من جنوده ..

وإن كنت أحب أن أسجل بإعجاب موقف جميع ضباط الجيش منا وعلى رأسهم اللواء فؤاد صادق أثناء اعتقالنا، فقد كان تعاطفهم معنا لا حدود له، وعلى العكس من ذلك كان موقفهم من الحكومة ومن القصر، وأذكر عبارة خالدة قالها اللواء فؤاد صادق: "لقد حاربنا شرتوك واحد في فلسطين وينتظرنا شراتيك كثيرة في مصر".

ولنعد إلى قصتنا مع الشهيد حتى لا تستدرجنا الذكريات .. فبعد الحديث الذي دار بيني وبين اللواء نعمة الله .. قال لي الرجل وهو يشير إلى أعرابي يجلس القرفصاء بجوار إحدى الخيام إننا وجدنا هذا الرجل يتجول حول مواقعنا، ثم طلب مني أن أقوم بالتحقيق معه – (وقد كنت طالبا بكلية الحقوق).

عجبت من تكليف الرجل لي بهذه المهمة في حين كان حوله مئات من الضباط القادرين على أداء هذه المهمة ولكنني امتثلت للأمر ... وحملت الرجل في العربة وانصرفت عائدا إلى معسكرنا في سد الروافع .. وبدأت أنفذ أوامر القائد ..

من خلال استجوابي للأعرابي تبين لي أنه بسيط وساذج حتى كدت أصرف النظر عنه .. ولكن حانت مني التفاتة إلى قدمه، فوجدته ينتعل حذاء عسكريا، فسألته عن مصدره فتردد كثيرا ثم قال لي إنه وجده في قدم قتيل فخلعه منه ثم لبسه، فتأملت الحذاء ثانية فإذا به من الأحذية التي كانت تصرفها لنا الجامعة العربية، قبل انضمامنا للجيش النظامي ..

فأمرت الرجل على الفور بأن يخلع الحذاء وقلبته بين يدي، فلاحظت وجود عبارة "عربية" محفورة في أسفل النعل، وتذكرت على الفور أن الفيومي كان قد وضع علامة لحذائه حتى لا يضيع بين الأحذية، واختار اسم الجامعة العربية ليسجله في أسفل الحذاء، احتقارا منه لموقف الجامعة العربية بسبب تصرفاتها النابية من القضية الفلسطينية، وتصرفاتها المخزية من المجاهدين، كانت الجامعة تقدم لنا ثيابا بالية، وأطعمة أقرب ما تكون شبها بحذاء الفيومي ..

وأسلحة قديمة عديمة الفائدة .. تأكد لي بعدها أن الحذاء مملوك للفيومي فعدت أشدد على الأعرابي ليكشف لي عن سر حصوله على الحذاء .. قال إنه وجد قتيلا ملتحيا في أحد المواقع فأعجبه حذاؤه فسلبه إياه .. وإنه قام بدفن هذا القتيل في موقع يستطيع أن يرشدنا إليه واشترط الإفراج عنه فوعدناه بذلك ... وعلى الفور اصطحبنا الرجل في سيارة جيب إلى الموقع الذي حدده .. وكنت مدفوعا بشوق لا حدود له لألتقي بالشهيد الحي الذي عاد إلينا ..

أشار الرجل إلى المكان الذي وارى فيه الشهيد، فأزحنا الرمال من فوقه .. والتقيت وجها لوجه بالثغر الباسم، وكأن يد الموت الصفراء لم تمسه ..

حتى خيل إلينا أنه بعث حيا من قبره فجثوت عليه وقبلته وصافحته فما شممت نه رائحة الموت .. وجدتني أكلمه بلا وعي وانتظرت منه جوابا .. ولكن صمته كان أروع بيانا.

حملنا الشهيد في عربتنا إلى مركز اللواء نعمة الذي اهتز من أعماقه وانفعل بشدة وهو يستمع للقصة من أولها .. وأصر على أن يلف الشهيد في غطائه الخاص، وأن يحمل في عربته إلى مثواه الأخير وودعه هو وضباطه باحترام وإجلال ...

حملنا الشهيد إلى مقبرة قريبة من سد الروافع .. وكان شعوري بلقائه وبوداعه وبقصته أكبر من أي تصور ومن أي خيال .. شعرت وكأن مواكب ملائكية كانت تحف بنعشه المتواضع .. وكانت فرحة به وهو ينضم إلى النبيين والصديقين والشهداء ..

لقد عاد الفيومي إلينا وكان حيا كما وصفه ربه ...

"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".

ونحن في طريقنا إلى المعسكر بعد أن وارينا الشهيد التراب، صدرت إلينا الأوامر بالتحرك إلى موقع آخر .. وكأن القدر كان على موعد معنا ليكتمل نسيج العجيبة ...

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يدفنون شهداء أحد: "زملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليكم ما من مسلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دما – اللون لون الزعفران والريح ريح المسك"...  

وشهداء

وشهداء كثيرون عشت في كنفهم، واستمتعت بصحبتهم .. وتتلمذت على أيديهم ... كانوا عمالقة عصرهم .. وأساتذة أجيالهم .. كانوا قبسا من الماضي أرسل إشعاعه إلى حاضرنا فتفتحت لهم القلوب .. وأشرقت بهم النفوس كانوا بعضا من عمر وأبي بكر وعلي وعثمان ..

وكنا نسعى بين أيديهم في أمن نفسي تظلنا روحهم الشامخة من لفح الهجير .. وتدثرنا قلوبهم من عواصف الحياة ... وكنا لفرط دلالنا نرتع ونلعب بين أيديهم مطمئنين إلى أبوة غامرة عامرة بالعطف والحنان ...

والعجيب في الأمر أنهم كانوا من فرط تواضعهم يشعروننا بإلف وكأنه بعض منا، وأننا منهم في موضع الصديق لا التلميذ .. وكان هذا يطعمنا لتسلق القمم العالية في محاولة للوصول لأبراجهم .. بل كان هذا يغري بعضنا بالتطاول فيرى الغمام الخفيف وكأنه ركام ظلال ثقيل يحجب ضوء القمر ..

كان المتطاولون منا يرون هناتهم عظائم لا تغتفر، واللمم جرائم كبيرة .. وفي الواقع لم يكن هذا عيبنا ولكنه كان انعكاسا طبيعيا فالمرآة الصافية يعكر صفاءها طفيف الغبار، والثوب الأبيض تعيبه النكتة السوداء.

أين ذهب هؤلاء الرجال ...

يقول الجهلاء إنهم ماتوا .. اختفوا من الحياة .. لفهم التراب .. ويقول العقلاء .. بل هم أحياء في ضمير الأحياء من تلامذتهم .. إنهم يغمرون الدنيا بنورهم .. إنهم يسعون فيما بيننا ينثرون علينا الورود ويسقوننا من رحيق الحياة .. ويعدوننا بزاد وفير على طول الطريق، إنهم وقاية لنا من عثرات الحياة، وحماية لنا من شراسة أنفسنا .. إنهم حصننا نلوذ به من كر الأعداء وضراوتهم.

من قال إنهم ماتوا؟ إننا نسمع نبض قلوبهم تخفق في قلوبنا فتلهمنا الحب والخير والمعرفة .. إننا نحس بمسرى أرواحهم فينا فتنتشي أرواحنا وتدفع الأمل إلى النفوس الواهنة ...

من قال إنهم ماتوا؟!

وكل هذا الذي نراه من صنع أيديهم .. مؤمنون يملؤون الأرض تكبيرا وتهليلا .... ومؤمنات رفضن مسلك إماء عصرنا وقمن راكعات تائبات .. وشباب الموت أحب إليهم من الحياة يقتلون البغي ويقتلهم البغاة .. وأناس كثيرون حاصرهم الظلم، وخنقهم الظلام وأحاط بهم جبروت الإنسان فهم تبتل وضراعة ومصابرة .. وآخرون أنهكهم السير، وأجهدهم الحمل فأبطأوا عن الموكب، ولكن الأمل لم يزايلهم .. أما سقط المتاع فكنتم يا قادتنا أعلم بهم منا .. يغفر الله لهم ...

من قال إنهم ماتوا؟!

وليس من صوت قوي إلا رجع صوتهم .. أن لا .. الرافضة .. كانت ملكهم في عصر "النعم" هي لغة من عداهم .. وعاشت "اللا" يواجه بها تلامذتهم طواغيت عصرهم .. لا ظلم لا استعمار لا صهيونية لا شيوعية لا طغيان .. لا .. لا .. لا ... أن "لا" تثبت حياتهم .. و "نعم" فقطع بموت أعدائهم..

من قال إنهم ماتوا؟!

وهم الذين تفردوا بثلاثة أعمار .. عمر أنفقوه سخيا يعلمون ويجاهدون ويقودون موكب الشباب، وعمر امتد من بعد رحيلهم فغطى الأرض علما ومعرفة وخيرا .. وعمر خالد يحيونه عند الله في رغد من عيش "أحياء عند ربهم يرزقون" .. أعمار ثلاثة ...

من قال إنهم ماتوا؟!

وهم يقتلون الظلم والبغي .. ويجهزون على كل أعدائهم .. ويرهبون من عاداهم وما أكثرهم .. لم يمت حسن ولا عبد القادر ولا سيد ولا الآلاف من تلامذتهم .. وحسن البنا، وسيد قطب، وعبد القادر عودة ... عناوين قضايا هائلة تفجر عنها القرن العشرون ..

قضايا هائلة تشرح الصراع الجبار بين حلف الإنسان وحلف الشيطان .. أراد الرجال أن يردوا أنفاس الإنسانية بعد طغيان الحيوانية الرهيبة .. وكان بيانهم: "تنزيل من التنزيل وقبس من نور الذكر الحكيم" .. لم يقولوا إنهم خلقوا فكرا، أو جاءوا بمعجزة ...

ولكنهم قالوا إنهم مبلغون رسالة عن رسول هو رحمة مهداة للناس .. رحمة بهم ورحمة لهم .. وحددوا مهمتهم في الالتزام بما قال وبما فعل الرسول ورفاقه .. فهم أتباع لمحجة بيضاء وطريق مستقيم .. وكان نداؤهم الجامع: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن ..". وكان لندائهم وقع جميل في النفوس الصافية .. فأسرعت مستجيبة لداعية الخير والحب .. ولكن الفزع تملك عبدة الطاغوت والذهب والجسد فأجلبوا بكل قواهم على الدعاة المسالمين ..

وكان لا بد من وقوع الصراع بين الحق والباطل .. الحق يؤمن به آحاد مسالمون .. والباطل يدين له جبابرة شرسون .. حاول الحق أن يدفع هجمة الباطل .. ولكن الباطل أغار بضراوة مخيفة فغرقت الأرض بدماء زكية ...

وسؤال يطل من كل عاقل الإجابة عنه .. من القاتل ومن المقتول ومن الميت؟

القاتل شيطان كبير ممتلئ حقدا وظلما وجهلا .. القاتل هو ذلك الأوروبي الجهول الذي غرق في ضلال ما سماها "عقيدة دينية" فتصلب عليها فصار قطعة من الحديد الأصم!! وحمل كرها وبغضا لكل معالم الخير الجديدة .. كره محمدا دون أن يفهم أن محمدا هو حبيب المسيح وأخوه ..

وانتقل كرهه لمحمد إلى كل رجاله قديمهم وحديثهم .. والقاتل هو ذلك النفر الذين رفضهم موسى من قبل، وهرب من بطشهم عيسى، وتصدى لهم محمد فأوجعهم في المدينة، فحملوا له ولصحبه ومن تبعه ثأرا لا يطفئه في لغتهم إلا الدم والقتل ...

والقاتل هو الذي انفك من إنسانيته، وهرب من مثاليته .. وحكم معدته وشهوته في عقله ومشاعره، وبنى له محرابا هائلا من الشهوات، وكانت ترانيمه وصلواته على قيثارة لينينية ستالينية وماوية ... وقاتل كبير يحمل كما هائلا من الغباء والبلاهة، ولد ضخما فكان له خوار كخوار "عجل الذهب" يرفس بلا وعي، ويقتل بلا تفكير ... ويحكم العالم بعصابات واشنطن وسفاحيها ..

ومن المقتول .. إنه ابن الأرض الطيبة .. نسل النطفة النظيفة وارث العلم والفكر والحضارة .. الناطق بكلمة الحق .. الرافض لعبودية الرجل الأبيض والفكر الأحمر .. الداعي إلى الرقي الإنساني فتنتقي سيادة الإنسان لأخيه الإنسان: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دن الله" ..

المنادى بكلمة "الله أحد" المعلن لعظمة الأحد "الله أكبر" المؤمن بكتبه "كتاب أنزلناه إليك" ورسله: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل".

إن هذا الداعي إلى الله قتله داعية الشيطان .. ولو كان اسمه غير حسن، وغير سيد، وغير عودة لقتل .. المهم أن يقتل هذا الداعية وكل داعية، والشركاء .. الشركاء في هذه الجريمة كثيرون .. كل الجهلة شركاء وكل المفسدين شركاء .. وعبدة السلطان وعبدة المال كلهم شركاء ..

لقد وجد فيهم القتلة أداة طيعة في التنفيذ فأمدهم بأدواته، أعطاهم سلطانا وسلطهم به ضد "خصومه" !! وأغدق عليهم مالا وإرهابا لحماية المال .. ونشر فيهم "فكرة" فكانوا ببغاوات عقلها في أذنيها .. وبالمال وبالسلطان وبالجهل "المثقف" نبذ عرب مسلمون لعرب ومسلمين .. واتسعت حبال المشانق للأئمة والأعلام .. وقتل الرجال!!

وكان يتما وكان مأتما ..

كان يتما للأبناء الذين كانوا يعيشون في رحاب الأبوة ينعمون بعطفها وبرها وخيرها .. وجدوا أنفسهم بين يوم وليلة في العراء تلفحهم الشمس ولا ظلال .. ويقبض أنفاسهم البرد ولا دفء ويتخطفهم اللصوص .. وتعضهم الكلاب .. وتنهشهم الذئاب وتلسعهم الأفاعي ..

وجوع وعطش أقسى من فقدان الخبز والماء .. إنه جوع النفوس وظمأ القلوب .. وسرى اليتم في الأمة كلها .. وسواء أحست به أو لم تستشعره إلا أن آثاره امتدت في حياتها ففاضت بسمة الحياة، وانطوى القلب على حزن كبير ..

ونصت مأتم كبير في كل نفس استشعرت رحيل الرجال .. والتفت الأمة بوشاح أسود .. وقامت أعمدة المأتم تظل سيناء والقدس والجولان تعلن حدادا على مقتل الرجال الذين قتلت فيهم كل كلمة الحق .. فأغرقت الأمة في دماء أبنائها .. غرقت سيناء في دماء أبنائها لأن كلمة "اللا" ذبحت فانطلقت "النعم" تخضع الجميع للآمر والناهي وسحلت الأمة على وجهها إلى نهايتها ...

وأفراح راقصة دقها أعداء كانوا يرابطون بالباب .. باب الأمة الكبير كان الرفض الإسلامي قد دفع بهم إلى الخارج .. فلما قتل زعماء الرفض بدأ الكر من جديد ..

صحيح أن جيوشهم وأوكارهم وأعشاشهم كانت لا تزال تقيم في أرضنا وتسعى بيننا .. لكن الرفض كان لبقائهم في نفوسنا وفي بيوتنا وفي عقولنا وفي أبنائنا .. لقد استطاع البنا وأصحابه أن يطردوهم بإسلامهم .. طردوهم من عقول ونفوس الشباب .. ثم رفسوهم بأقدامهم .. دفعوهم عنا بمصحف وسيف، المصحف زكى النفوس والسيف قطع الرءوس.

كان دعاة الوطنية – وفيهم خيرون كثيرون – يستعينون بالشجر والحجر والنهر ليدفعوا غارة همج أوروبا علينا .. ولكن الرجال الكبار تنادوا بمحمد وموسى وعيسى، والكتاب المعلم، وحمزة وأم عمارة، تنادوا بهؤلاء من فوق الشجر والحجر والنهر فتدافع الناس من ورائهم يدفعون عن أنفسهم "إننا قطعة من أوروبا" ويتنادون بأن أوروبا والعالم أرض الله وهم مستخلفون عليها ..

فهي أرضهم باسم الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وعلى سنن أبي بكر وعمر وخالد رضي الله عنه .. هذا المعنى الغزير روع "سادة العالم" من البيض والحمر وزلزلت الأرض من تحت أقدامهم وأوشكت قلاعهم أن تتداعى من فوق رءوسهم ... فتنادوا فيما بينهم، وبدأوا يستجمعون قواهم ونسوا أو تناسوا عداواتهم القديمة .. وهبطوا علينا بكل أسلحتهم وخيانتهم وغدرهم ..

وكان همهم الأكبر قطع الهامات الكبيرة ثم تمزيق الجسد .. وقتلوا البنا، وقطب، وعودة، وفرغلي، ويوسف .. وشربوا كؤوسا مترعة بالدم الزكي الطاهر .. ورقصوا فوق الأشلاء والمزق البشرية .. وماتت الأيدي القاتلة .. ماتت في حياتها، وماتت في ضمائرها ...

وماتت في وطنها ووطنيتها .. وتكفنت في أوزارها وآثامها .. ماتت من حيث إرادة الحياة ... ماتت في كل مكان وفي كل زمان ... ماتت في أرضها وفي كل أرض .. وماتت في زمانها وفي كل زمان .. قد يقال إن التاريخ سيحفل بأسمائهم وآلائهم ..

والتاريخ ليس دليل حياة الناس وليس دليل خلود .. والخلود ليس ذكر الاسم ولكنه بذكر الفعل .. وليس بذكر الفعل وحده ولكن بذكر الصالح من الفعل، والفعل الصالح الذي يعطي الخلود هو العدل والخير والحق .. التاريخ بل والقرآن ذكر اسم فرعون وموسى، ومحمد وأبي لهب، وإبراهيم وأبيه، ونوحا وابنه ، بل إن التاريخ دوى بأسماء الطغاة ونسي أكثر الدعاة .. لقد ماتت الأيدي القاتلة .. ماتت وانتهت .. لقد مات من مات وقتل من قتل ..

وتيتم من تيتم .. ورقص من رقص وبقي الميراث .. والوراثة .. وما أثقله من ميراث، وما أفدحها من تركة .. ميراث كبير وثقيل .. أن تعلم وتعلم .. أن تجاهد وتصبر .. أن تحب وتكره .. أن تقاتل وتقتل .. أن تعيش حياتك لدينك وللناس .. أن تسجن وتنفى وتتشرد ..

أن يعتل جسدك، ويخلو جيبك، ويطمع فيك الكلاب والذئاب والأوباش .. وأمام هذا الميراث الثقيل .. تفلت الكثير .. وصبر القليل .. ومات من مات ...

ومات من مات ...

تفلت الكثير تحت إلحاح الحياة ووفرة مطالبها .. وتحكم نسائها ودلال صغارها .. تفلتوا خوفا من طغيان الفتنة .. ومطحنة الجوع والحرمان من العمل والخبز .. والتفريق ما بين الولد والزوج .. وفقدان الأمن النفسي وإسراف السلطة والسلطان في المطاردة والاتهام ..

وانتفاء العون من الصديق والقريب .. واستبطاء رحمة الله استيئاسا .. واستبعاد رحمة الحاكم في غفلته ونسيانه .. تفلت الرجال من هذا العبء الثقيل ووجدوا تعلات في خطأ السياسة "وخطأ القيادة" (وقد يكون هذا صحيحا ولكن ما قولهم في موسى وهو يقتل خصمه، وما قولهم في محمد وهو يلام من ربه "عفا الله عنك لم أذنت لهم" .. وما قولهم في خلاف عمر وأبي بكر في حرب المرتدين .. وقد يكون الخطأ في السياسة ومن القيادة مبررا للإفلات من الرباط الموقف ..

ولكن هل يعفى هذا من مسئولية العمل والدعوة والإنفاق والجهاد في سبيل الله .. وأرضنا تئن من وطء أقدام الأصفر والأحمر والأبيض .. ما نادانا الله من خلال البنا أو سيد أو عودة، ولكنه نادانا بكتابه ومن خلال رسوله .. والكتاب حجة قائمة والرسول سيرة حية صلى الله عليه وسلم ...

وصبر القليل .. والقليل هؤلاء هم الذين أدركوا أن البنا وغيره ما هم إلا دعاة .. والرسول بعظمته ما هو إلا مبلغ "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" .. "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" ...

عرفوا هذه الحقائق السهلة فغطوا يتمهم بالصبر .. واحتسبوا الطعن والجوع والفقر وشماتة العدو وتفلت الصديق .. والزوج والأخ والأهل دعوا واستغفروا للناس جميعا حتى للآثمين الغافلين .. ورصدوا الدين وحده يعملونه في أنفسهم وحياتهم ومعاشهم، ثم ينقلون ما علموا وما عملوا إلى كل أذن صاغية ونفس صافية .. ولم يلههم القيد عن إبلاغ كلمة الحرية ..

وعاشوا سني يوسف في سجنه وهو يهتف "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار" .. كانت دعوتهم في صدور تنطلق إذا فتحت لها النوافذ، فإذا حيل بينها وبين الآذان والقلوب تحولت إلى نجوى وضراعة وأنس بالله وتسليم بقضائه:

"واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين" .. وشهد الصابرون في تأملهم وضراعتهم مآل أرض، رفض الحاكمون بأمرهم فيها أن يكون الأمر والنهي والحكم لله وحده .. رأوا بقلوبهم ثم بعيونهم مصير "النعم" في غيبة "اللا" والتمسوا تفسيرا لما يرون فأسعفهم كتابهم "وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا .." .. "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ...".

وكان للصابرين إزاء هذا الحدث الجلل موقف ثابت أن يمضوا في العمل لله .. محتسبين ما لقوا عند ربهم .. رافضين جزاء الحياة الدنيا، إلا أن يكون فيضا من الله ... آملين أن يتجدد شباب الأمة بإسلامها .. وتنهض برسالة "اللا" تتحدى بها جيوش الظلام الزاحفة وخفافيشه المتنطعة ..

وهتاف قلوبهم ونشيد صدورهم ونجوى نفوسهم ... "يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويغفر لكم ..." واستقامت حياتهم على أسلوب سوي .. دمعة متحسرة بليل، وخطوة مباركة في نهار .. وأمل في نصر أو لحاق بالصالحين من قومهم ..

"رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" أما من ماتوا .. فلم تكن لهم حياة من قبل .. كانوا حركة كاذبة وأسطورة خيالية .. امتلأ فمها بالقول، تجعر وتنعر .. واتسعت أمعاؤها لتأكل باسم الدعوة سحتا وظلما .. وغرقت في شهواتها .. وعلى سلم "الدعوة" صعدت إلى أعلى الكراسي، وعلى سلم "الدعوة ركبت خيلا من ذهب، وعلى سلم "الدعوة" صارت بوقا عاليا .. ولم يكن كل هذا إلا علامات فناء وحشرجة أموات ..

وما أظنهم إلا بناءين في مسجد "ضرار" .. رحم الله الرجال .. رحمة من عند الله ورحمة لما قدموا من فضل وخير وما صبروا وصابروا وهم يجالدون طواغيت زمانهم .. ورحم الله من تبعهم بإحسان .. ورحم الله من "خلط عملا صالحا وآخرسيئا" ورحم الله من عاداهم من جهل وغباء ...

ورحم الله آلافا قتلهم الظلم والظالمون .. قتلوهم بالسيف والقيد والجوع والمرض والحرمان والأسى ... ورحم الله شبابهم وشيوخهم ونساءهم ..

رحم الله من قتل في فلسطين وفي القناة، وفي مصر .. وفي كل بلد عربي وإسلامي ..

ورحم الله من قتله اليهود ومن قتله الإنجليز ومن قتله الروس ومن قتله العرب "والمسلمون"!!

ورحم الله رجالا مقيدين بأغلال يعيشون بين الموت والحياة، سجونهم قبور، وحريتهم سجون .. السيوف مسلطة على رقابهم .. والخناجر تجتذ ألسنتهم .. لا يؤذن لهم بقول .. ولا يسمع لهم إذا قالوا ..

يرصدهم أعداؤهم في غدوهم ورواحهم .. في بيوتهم وأعمالهم .. يتهددهم القتل والجوع .. غلقت دونهم أبواب بيوتهم وأبواب أممهم فهم مشردون في الأرض .. رحمهم الله جميعا .. ورحم الله أمة استذلها أذل إنسان .. يقتل أبناءها ويستحيي نساءها، وينكل بصغارها وكبارها ..

ذبتهم الدنيا عن وجهها فألقوا بأوساخهم في أرضنا .. وأعانهم ويعينهم خلق كثيرون ليسوا من الإنسان ولا من الحيوان في شيء ...

كل هؤلاء يعيشون في أرضنا ويرتعون ويمرحون في ديارنا ونفوسنا ورءوسنا وهم في مأمن من حسن وسيد وعودة ...

رحمها الله ووهبها رجالا يخلفون الرجال يعيشون في أمتهم ولأمتهم .. وعافاها ممن يقتل الرجال أو يذل الرجال ...

آل طفيل على أرض فلسطين

لو لم يحمل إلينا تاريخ التضحية والفداء إلا قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وابنه عمرو لكان في ذلك الكفاية فما هي قصة الأب والابن .. الأب رجل غني وسيد في قومه وشاعر أديب والابن قطعة من الأب ... إن قريشا كانت حريصة على الحيلولة بين هذا الرجل وبين محمد خشية أن يسمع القرآن فيتذوقه فيؤمن به، فأحاطته بسياج قوي من الرعاية، وسدت عليه جميع المسالك، حتى إنه كان يضع في أذنه خرقة فلا يسمع حديث النبي ..

ولكن هذا الأمر لم يطل على الشاعر المفكر ففتح أذنه ثم قلبه واستمع للآيات تنساب من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للرسول: وهو يعلن إسلامه: ما سمعت قولا قط أحسن من هذا ولا أمرا أعدل منه ... ثم طلب من الرسول أن يجعل له آية حتى يصدقه قومه إذا دعاهم للإسلام .. فقيل إنه كان يرى له نور بين عينيه وبدأ الرجل يعلن دعوته .. وكان أول من لقي أباه قال له:

إليك عني يا أبتاه فلست مني ولست منك ..

فقال الأب: .. ولم يا بني ..

قال طفيل: إني أسلمت واتبعت دين محمد ...

فقال الأب: .. ابني ديني دينك ...

ثم قام فاغتسل واستمع إلى القرآن من ابنه وأسلم ..

وجاء دور زوجته .. قال لها: إليك عني فلست منك ولست مني.

فقالت: ولم بأبي أنت؟

فقال لها: فرق بيني وبينك الإسلام.

فطلبت منه أن يعرض عليها الإسلام، فأسمعها كلام الله بعد أن تطهرت .. فأعلنت إسلامها ..

ولكن قبيلته تستعصي عليه فيعود للرسول يطلب منه أن يدعو له بالتوفيق في دعوته وهداية قومه فيدعو الرسول: اللهم اهد دوسا وائت بها ...

ثم يوصيه: اذهب إلى قومك فادعهم وارفق بهم ..

وتستجاب الدعوة ويستجيب لها قومه، ويذهب مع وفد من أصحاب الرسول ويحتفلون بإحراق "ذي الكفن" أكبر صنم كان يعبده قومه.

وينتقل الرسول إلى جوار ربه، ويرتد بعض الضعفاء فيجرد لهم أبو بكر حملة قوية، يكون من بينها طفيل فيقاتل الرجل هو وابنه حتى يستشهد ويصاب ابنه بجروح ..

وفي اليرموك .. يندفع عمرو بكل إيجابية وصدق هزيمة يطارد فلول الروم إلى أن يسقط شهيدا على أرض فلسطين ..

بهذا الأسلوب وحده تحررت أرض الله من "استعمار" المشركين واستغلال "اليهود" .. واستبداد "الأكاسرة" وطغيان الرومان وبمثل هذا الأسلوب سوف تتطهر من الاستعمار والاستغلال والاستبداد والطغيان، فالكفر ملة واحدة، وإن لبس أجمل ثياب الحضارة والمدنية، ووضع فوق رأسه تاج العلم والمعرفة ..

وأمسك بيده القنابل والصواريخ .. والإيمان لن توهنه مسيرة التاريخ .. لن تضعفه مسيرة أربعة عشر قرنا .. والمؤمنون بوسعهم أن يعيشوا حاضرهم بإرادة آبائهم وأجدادهم فيتجدد فيهم عمرو وزيد وطفيل وحمزة وأم عمار ..

والزمن دوار .. ودورة الفلك توشك أن تنتهي من حيث بدأت .. وما أظن أيامنا هذه إلا قتامة ليل يوشك أن يبددها صبح قريب ...

(تم بحمد الله)