سيادة الشريعة الإسلامية في مصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سيادة الشريعة الإسلامية في مصر


بقلم: د.توفيق الشاوي

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

(ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) ، فصلت/ 33 ، صدق الله العظيم

لا شك في أن الحوار الدائر حول "تطبيق الشريعة الإسلامية" سوف يطول ويتشعب في جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي، لأنه علامة من علامات اليقظة، ومرحلة من مراحل النهضة في بلادنا لاستكمال سيادتنا التشريعية وتدعيم مقوماتنا الذاتية التي نستمدها من عقيدة الإسلام وتاريخه وحضارته وثقافته وشريعته.

في نظري أن هذا الحوار يجب أن يؤدي إلى خطوات عملية حتى لا يتحول إلى جدل عقيم ولا تدخل فيه المهاترات التي تحوله عن أهدافه الجدية. وما زلت أرى أن تكن نقطة البداية هي تقرير مبدأ "سيادة الشريعة" وهو التعبير الإسلامي عن سيادة القانون ومبدأ الشرعية وهما المبدآن المعروفان في النظم العصرية ولا يجهلهما أي دارس للقوانين أو مشتغل بالشئون السياسية أو الاجتماعية.

لقد كثر الكلام وطال فترة من الزمن في مصر وغيرها من البلاد حول "سيادة القانون" وقبل أن يستقر هذا المبدأ في العمل ويستفيد الناس من حمايته ظهر هم أن القوانين نفسها أصبحت سلاحا في يد الطغاة والمستبدين يهددون به حريات الأفراد وحقوقهم – لقد أثبتت التجارب في كثير من البلاد أن الجهة التي تصدر القوانين الوضعية لم تعد مستقرة ولا مضمونة نتيجة تعرض الدساتير ونظم الحكم إلى الانقلابات والنظم المفروضة التي تغير في القوانين وتستعملها سلاحا لفرض سيطرتها على المجتمع وأفراده ومؤسساته.

لذلك لا يستقر المجتمع إلا إذا زودناه بوسيلة لنزع سلاح التشريع من يد الحكام الذين تفرض الظروف، أو يفرضون أنفسهم على الشعوب في كثير من الأحيان دون علمها ودون موافقتها. ولقد أقر الدارسون والباحثون في ميادين الفقه والتشريع أن الإسلام قد سبق جميع النظم إلى حل هذه المشكلة وعلاج هذه الحالة منذ عدة قرون؛ لأنه زود أمته بأقوى سلاح لمقاومة الطغيان، حيث قامت شريعته على مصادر سماوية تسمو على كل سلطة بشرية – وينتج عن ذلك حرمان الحكام من سلطة وضع القوانين على هواهم دون الالتزام بمصادر الشريعة الإلهية الأصيلة ومبادئها السامية التي يلتزم بها الحكام كما يلتزم بها الأفراد والعامة – هذا المبدأ السامي الذي أقرته شريعتنا جعل الشعوب تعتبر أن الاحتماء بالشريعة الإسلامية ضرورة لا بديل عنها لحماية نفسها والدفاع عن حرياتها ومقوماتها – وأصبح مطلبا ملحا للجماهير لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه. فلا بد من الاستجابة له.

عندما تطالب شعوبنا بتطبيق الشريعة الإسلامية قد يظن البعض أن الهدف من ذلك هو تطبيق الفقه الإسلامي على علاقات الأفراد في المجتمع، سواء في النواحي المدنية أو التجارية أو الجنائية أو غيرها، ولكن هذا لا يكفي لأن الهدف الأول هو أن تلتزم الدولة نفسها بالخضوع لسيادة الشريعة وإلزام جميع من يمثلها من هيئات أو مؤسسات لسلطاتهم قبل أن يطبقوها على عامة الناس وأفراد المجتمع – وهذا المقصود الأول من مبدأ سيادة الشريعة وما يجعلها أسمى وأعلى وأقوى من سيادة القانون الذي يتكلمون عنها الآن. يريد الناس أن تسود المجتمع المبادئ والمثل والقيم والقواعد والأحكام الإلهية التي تمثلها الشريعة الإسلامية – وأن تكون سلطات الدولة وحكوماتها أول من يخضع لذلك وتلتزم به قبل أن تفكر في إلزام الناس به.

هذا هو المقصود من سيادة الشريعة التي يجب أن يكون تقريرها أو الاعتراف بها أو الإجماع عليها هو الخطوة الأولى العملية والفعلية في التطبيق الجدي للشريعة الإسلامية – وهو التطبيق الذي يشمل بعد ذلك جميع نواحي حياة المجتمع والأفراد في النواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها – وسيادة الشريعة بهذا المعنى هي التي تعطي لمبدأ الشرعية مضمونا محددا وعلميا ولا يبقى مجرد شعار يفسره كل على هواه، كما هو حادث في عالم القانون الوضعي في هذا العصر.

لقد أجهد علماء الفقه الدستوري الحديث أنفسهم في ابتكار المبادئ التي توفر للأفراد ضمانات تحمي حقوقهم الشرعية وحرياتهم الشخصية من حيف ممثلي السلطة العامة والمسئولين عن تنفيذ القوانين – هذه المبادئ تعطي للمجتمع صفته الشرعية وتخضع جميع أفراده لمبدأ الشرعية – ولم يكن مبدأ سيادة القانون إلا خطوة موفقة في هذا السبيل – ولكنهم اكتشفوا أن احترام القانون قد يحصن الأفراد ضد تعسف الموظفين وممثلي الحكومة الذين يخالفون قوانين الدولة، ولكنها لا تحصنهم من تعسف الدولة نفسها إذا كانت الدولة أو حكامها – بواسطة سلطتهم التشريعية – تستعمل القوانين الوضعية وسيلة للاستبداد أو لتحقيق مصالح الفئات الحاكمة أو المسيطرة أو تنفيذ أهواء الحكام على حساب حريات الأفراد وحقوقهم.

لقد لجأت النظم الحديثة إلى مبدأ دستورية القوانين لتجعل منه قيدا على تعسف السلطة التشريعية وتضع حدا لاستبدادها – ولكن الضمانات التي تحمي الأفراد من مخالفة القوانين للدستور لم تصل بعد إلى درجة تجعل هذا المبدأ يوفر للأفراد وحقوقهم حماية جدية كافية – كما أنه تبين أن من يحكمون بواسطة قوانين وضعية استبدادية أو استثنائية يضعونها على هواهم لا يعجزون عن إلغاء الدساتير ذاتها، أو تبديلها أو وقف العمل بها.

بل أصبح تغيير الدساتير وتعطيلها أمرا عاديا في كثير من البلاد، فتأكد للجميع أن دستورية القوانين لا تكفي لوضع حد لطغيان بعض الأنظمة والحكام الذين يفرضون أنفسهم، أو تفرضهم ظروف خارجة عن إرادة الشعوب ورضاها ومصالحها.

لقد فكر بعض الفلاسفة في ابتكار نظرية القانون الطبيعي الذي يسمو عن القوانين الوضعية ويهيمن عليها وعلى الهيئات التي تصدرها (سواء كانت القوانين عادية أو دستورية) ولكنهم لم يصلوا للآن إلى تحديد مضمون فعلي لهذا القانون الطبيعي الذي يفترضون وجوده – ولا قيمة لقانون بدون محتوى محدد معروف – كما أنهم لم يتفقوا على المصدر الذي يرجع إليه لمعرفة هذا القانون الطبيعي المزعوم.

هنا تظهر ميزة الشريعة الإسلامية، فإن مبادئها ليست مجرد نظرية فلسفية أو افتراضية وإنما اشتملت على قواعد محددة ومفصلة تهيمن على جميع أنظمة المجتمع وعلاقات الأفراد فيما بينهم وبين حكامهم أو بينهم وبين غيرهم من الأفراد – هذه القواعد الشرعية هي التي تهيمن على الأحكام الوضعية التي قد تصدر عن أية سلطة أو هيئة من هيئات الدولة. وبذلك توفر للأفراد ضمانة جدية وعملية تحميهم من طغيان الحكام الذين يفرضون إرادتهم وسلطانهم بواسطة قواعد ملزمة سواء أخذت تلك القواعد اسم القوانين أو الأنظمة أو الدساتير أو غير ذلك.

معنى ذلك أن هيمنة الشريعة على كل نواحي حياة الفرد والمجتمع هي المحتوى الفعلي والجدي لمبدأ الشرعية الذي يتكلم عنه كثير من فقهاء القانون الحديث دون أن يقدموا له محتوى يمكن أن يطمئن الفرد أو الجماعة على فاعلية وجديته – ويكون مبدأ الشرعية وسيادة الشرعية الإسلامية في نظر شعوبنا أمرا واحدا من حيث أنهما تعبير عن هيمنة الشريعة على أنظمة المجتمع وقوانينه وعلاقات الدولة بالأفراد وعلاقات الأفراد فيما بينهم.

إن مبدأ الشرعية وسيادة الشريعة في هذه الحالة هما قاعدة متينة صالحة لإقامة مجتمع تسوده المساواة والعدالة – فما دامت السيادة لمبادئ شريعتنا مستمدة من المصادر السماوية الأصيلة، فإنه لا يجوز لبشر أن يدعي لنفسه السيادة على غيره ولا يحق له أن يمارس ما يتصل بالسيادة من تشريع إلا في حدود مبادئ الشريعة العادلة أو أحكامها الثابتة التي لها وحدها السيادة في المجتمع – ويصبح ادعاء السيادة لفرد أو جماعة أو طبقة من طبقات المجتمع صورة من صور التأله، وطريقا لاستعباد الناس وفرض عبودية البشر للبشر التي جاء الإسلام لإخراج الناس منها، وتأكيد مساواتهم جميعا في العبودية لله الواحد القهار، وخضوعهم لشريعته ... وهذا هو معنى الإيمان الذي تقوم عليه شريعة الإسلام.

د. توفيق الشاوي

إجماع على سيادة الشريعة الإسلامية وسيادة القانون في مصر

الإسلام بخير في مصر العزيزة، والشريعة الإسلامية تحظى بكثير من الثناء والاحترام، تشهد بذلك هذه الصفحات التي خصصتها الصحافة المصرية والإعلام المصري لمناقشة موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية، وشارك في الحوار كتاب ومفكرون وأساتذة ومعلقون وقراء من جميع الهيئات والأحزاب والاتجاهات السياسية والفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

ولقد رأيت أن أساهم مع من سبقوني في هذا الحوار، لأن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يخص مصر وحدها، بل إنه موضوع يشغل المسلمين في جميع أنحاء العالم، وا يقال بشأنه يهم جميع أقطار العالم الإسلامي من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلنطي، بل إنه يتابع باهتمام من جانب مراكز الأبحاث والدراسات الاجتماعية والسياسية في الدول الأجنبية التي لها علاقات وثيقة بالبلاد الإسلامية ومن جانب كثير من الباحثين والمعلقين الأجانب الذين يعتقدون أن مستقبل العالم الإسلامي لا بد أن يكون له تأثير في مصير الحضارة الإنسانية وتقدم البشرية.

لقد سارت مصر، حكومة وشعبا، منذ عدة سنوات على الإشادة بمبدأ سيادة القانون باعتباره مبدأ دستوريا يقوم عليه نظام الحكم. ومقتضى هذا المبدأ أن تلتزم الحكومة وجميع من يمثلها من هيئات ومؤسسات وأفراد بالقوانين، فالقانون سيد يخضع له المحكومون.

ومن المتفق عليه في ميادين التشريع والسياسة أن أي إصلاح سياسي أو اجتماعي لا يمكن أن يتم إلا على أساس مبدأ سيادة القانون، لأن القانون هو الأداة التي تستخدم لكل إصلاح في المجتمع، ولكل تغيير أو تنظيم في الدولة، فإذا لم يكن محترما من الجميع – حكاما ومحكومين – فإنه لا يمكن أن يحقق أغراضه أو يقوم بوظيفته في نظام الدولة واستقرار المجتمع وأمنه وتقدمه.

بهذا المعنى نجدد أن مبدأ سيادة القانون ليس خاصا بمصر وحدها، بل هو مبدأ عام في جميع النظم الدستورية والتشريعية لأنه لا قيمة للدساتير ولا للقوانين إلا إذا احترمتها الدولة كما يحترمها الأفراد.

لكن الشعب في مصر وغيرها من الدول الإسلامية يطمح الآن إلى مبدأ أعلى من ذلك وأسمى، وهو مبدأ سيادة الشريعة الإسلامية وهو مبدأ يعتبر خطوة تقدمية بالنسبة لمبدأ سيادة القانون، إن سيادة الشريعة الإسلامية في نظر العلماء والمفكرين الذين شاركوا في الحوار الدائر في مصر أعم وأخطر من سيادة القانون، لأن المقصود بها أن القانون الذي يصدر من السلطة التشريعية الوضعية يجب أن يخضع لمبادئ الشريعة أو أصولها العامة – وبذلك يتم خضوع الحكام والأفراد للشريعة نتيجة لخضوعهم للقوانين التي يلتزم من أصدروها بمبادئ الشريعة وأصولها العامة. ذلك أن مبدأ سيادة القانون ، وإن كان خطوة عملية وضمانة ضرورية لمبدأ سيادة الشريعة الإسلامية إلا أنه لا يغني عنها ولا يحل محلها.

وبيان ذلك أن معنى سيادة الشريعة هو تقييد سلطة المشروع الوضعي وحماية الأفراد والمجتمع من طغيان الحكام الذين يتخذون القوانين وسيلة لفرض سلطاتهم واستبدادهم. في حين أن مبدأ سيادة القانون معناه حماية الأفراد والمجتمع من مخالفة مؤسسات الدولة وحكامها للقوانين الوضعية التي أصدرتها السلطات المختصة في الدولة، ويبقى الباب مفتوحا للحكام لإصدار القوانين الوضعية التي تعطي لاستبداده وطغيانه وانحرافاته صورة قانونية، والظلم والاستبداد بواسطة القوانين أخطر بكثير من الظلم والانحراف عن طريق مخالفة القوانين سواء كانت هذه القوانين عادلة أو ظالمة.

وإذا أردنا أن نعبر عن هذا المبدأ بلغة الفقه الدستوري المعاصر، فإن الفريق بين سيادة الشريعة وسيادة القانون هو أن المبدأ الأول تلتزم به السلطة التشريعية الوضعية (كالبرلمان أو رئيس الدولة أو أي هيئة أخرى خاضعة أو ممثلة له) أما المبدأ الثاني فتلتزم به السلطة التنفيذية ولا تلتزم به السلطة التشريعية، لأن وظيفتها هي صنع القوانين وتعديلها ولا يعتبر هذا التعديل خروجا عليها، أما السلطة القضائية فهي بلا شك تلتزم بمبدأ سيادة القانون – أما التزامها بسيادة الشريعة الإسلامية فيتوقف على حقها في تطبيق مبدأ دستورية القوانين وشرعيتها – وهذا الحق يختلف مداه في كل دولة عن الأخرى.

إن مبادئ الشريعة الإسلامية باعتبارها تشريعا إلهيا مرتبطا بالعقيدة ونابعا من مصادر أسمى من مصادر التشريع الوضعي مؤهلة – في نظر شعوبنا – لكي تكبح جماح هذا التشريع الذي تصنعه الدولة، ولكي تفرض عليه حدود وقيودا تمنعه من أن يكون وسيلة للفساد والطغيان إذا اتخذه الحكام والمشرعون الوضعيون أداة لتمكين سلطانهم وتحقيق أهوائهم أو أهواء الأحزاب أو الطوائف أو الطبقات التي يمثلونها.

لذلك فإن تمسك الشعوب الإسلامية بسيادة الشريعة ومطالبتهم باحترامها ودفاعهم عنها يزداد قوة وعنفا كلما أحسوا بانحراف أو ظلم لا يستطيعون دفعه إلا بالاستنجاد بالله سبحانه وتعالى والاستعانة بشريعته والتشبث بمبادئها وأحكامها.

من ذلك يتبين أن الحوار حول تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر لا يقتصر على رجال الفقه والقانون والقضاء وأساتذة الجامعات، بل إن أعلى الأصوات وأكثرها حماسا واندفاعا، هي أصوات ممثلي الاتجاهات السياسية المؤيدة للحكومة أو المعارضة لها والذين يتكلمون بلغة السياسة والتحزب والتعصب أكثر ممن يتكلمون بلغة القانون أو الفقه.

ومن حسن الحظ أن موضوع سيادة الشريعة وسيادة القانون وأسلوب تطبيق كل منهما هو من موضوعا الفقه القانوني والدستوري، ولذلك فإنه يهمنا يهمنا ما قيل بشأنه في تعليقات الأساتذة والعلماء والمفكرين بعيدة عن المهاترات السياسية والصيحات الإعلامية التي تختلط بها وتحاول إبعادها عن الحوار العلمي الجدي والجدل المنطقي النزيه.

وسوف نستعرض هنا أقوال من اشتركوا في هذا الحوار من العلماء والمفكرين لأنها تؤكد أن هناك إجماعا على مبدأ سيادة الشريعة الإسلامية وحماسا له في التشريع المصري، وهو حماس لا يقل عن الحماس الذي لقيه مبدأ سيادة القانون من قبل ...

قال الدكتور جمال الدين محمود نائب رئيس محكمة النقض المصرية – في ندوة الأهرام التي نشر ملخصها في الأهرام 2/ 8/ 1985:

"إن الدين أو العقيدة بالنسبة للفرد والمجتمعات الإنسانية. ضرورة حياة ولا يمكن الاستغناء عنه أبدا، والإسلام تميز بكونه منهج حياة ولا يعني ذلك أنه وضع أحكاما تفصيلية ولكنه وضع الأسس العامة التي يمكن أن يسير عليها أي مجتمع إنساني، ولذلك فنحن حينما نقول إن الإسلام عقيدة ومنهج حياة فلا نعني بضعة أحكام قطعية في مسائل جزئية، ولكن نعني أن الأصول الاجتماعية الإسلامية لا يمكن مطلقا أن يثور حولها خلاف كأصل الشورى الذي ينفي الظلم، وأصل كرامة الإنسان التي تعني حرمة النفس الإنسانية والبدن الإنساني من أن يمس أحدهما بغير حق ...".

كما أشار إلى المبادئ الإسلامية في التطبيق السياسي قائلا:

"إن الإسلام أقام الدولة على الشورى لمنع الاستبداد من أساسه، سواء بالنسبة للحاكم الفرد، أو حتى بالنسبة للمؤسسات ولو تعددت، وليس الشورى نظام حكم ولكنها منهج حياة في كل المؤسسات أو الأجهزة التي تحتاج إلى الوقت والتفكير، فكلمة الشورى في الواقع أوسع من كلمة الديمقراطية، لأن الديمقراطية قد تكون شكلا نيابيا، لكن الشورى منهج حياة في كل مؤسسات الدولة بدءا من الحاكم حتى أصغر وحدة سياسية".

وعن وجوب تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية والالتزام بها في مصر قال الدكتور حامد جامع الأمين العام للمجلس الأعلى للأزهر في أهرام (9/ 8/ 1985م):

"هل تطبيق الشريعة الإسلامية يعارض نظامنا القائم؟ وإذا عارضه فما الحل؟ أستأذن في أن أقول للأهرام بكل صراحة إنه إذا عارض أي نظام شرع الله فشرع الله أولى ... لأن الحكم، ، لله وما الحكم إلا لله ... هذا إذا حصل تعارض ولكنني أقرر بضمير مستريح تماما أن نظامنا لا يتعارض مع الإسلام ، ولكن هذا النظام القائم ينبغي أن يطبق شرع الله ".

وفي نفس العدد من جريدة الأهرام أكد الشيخ/ عطية صقر عضو مجلس الشعب وعضو مجمع البحوث الإسلامية وجوب سيادة أصول الشريعة الإسلامية بقوله:

"إن الإسلام الحقيقي يكمن في عقائده وأصوله المجمع عليها، ومن هنا يكون تطبيق الشريعة بهذا المعنى واجبا على كل مسلم على المستويات كافة: الأفراد والجماعات.

لأن كل مسلم لا يصح أن يطلق عليه لفظ مسلم إلا إذا طبق هذه الأصول الكبرى الأولى في الإسلام".

وعن الدستور قال فضيلته:

" وفيما يتعلق ب الدستور فإن دستور الله هو [[القرآن الكريم]] تتبعه السنة المطهرة لأنها كالمذكرة التفسيرية الشارحة لدستور الله".

وفي الندوة التي نظمتها جريدة الأهرام ونشرت ملخصا لها في العدد المؤرخ 2/ 8/ 1985م، أكد الدكتور أبو الوفا التفتازاني وكيل جامعة القاهرة أن الشريعة الإسلامية هي أساس وجودنا وهويتنا المستقلة في العالم المعاصر، ولها أهميتها في تحديد هويتنا السياسية في عصر الصراع الفكري والتكنولوجي حيث تتضارب النظريات السياسية الآتية من الشرق والغرب والتي ترتبت عليها الحيرة التي يعيشها معظم شبابنا حيث يدعي البعض انتماءه إلى هذه النظرية الغربية، أو تلك الشرقية في الوقت الذي ينبغي ألا نتبع الغير سياسيا أو فكريا أو حضاريا، وتكون لنا ذاتيتنا المتميزة.

وقوله أيضا: إن الإسلام هو الإسلام لا أن نقول إن إسلامنا ليبرالي أو اشتراكي، ولكن قد تتفق بعض النظم الوضعية السياسية مع الإسلام في بعض المبادئ.

ثم قال سيادته أيضا: إذا كنا نريد تطبيق المنهج الإسلامي في مجال السياسة فيجب أن نعطي اهتماما كبيرا لجوانب الاعتقاد حتى تتسنى لنا مواجهة الأيديولوجيات الدخيلة والنظريات السياسية المستوردة ومن هنا كان موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي من الأهمية بمكان لأن هذا هو أساس وجودنا في هذا العالم المعاصر.

قال الدكتور السيد ياسين مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية ب الأهرام بتاريخ 1/ 8/ 1985م: "إننا نعتبر الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية دعوة للأصالة الحضارية تحتاج – لكي تسير في الطريق الصحيح – إلى أن نقوم جميعا – مهما كانت اتجاهاتنا السياسية – ببعض الاجتهاد والإبداع الفكري في مجال تراثنا الإسلامي حتى لا نترك مستقبلنا تحدده عقول جامدة أو اتجاهات منغلقة".

كما أشار في نفس المقال إلى أن الدعوة للشريعة الإسلامية تهدف إلى مقاومة التبعية للفكر الأوروبي، التي انغمس فيها من يرفعون شعار العلمانية مع اعترافه بأنه منهم وذلك بقوله:

"إننا نحن جمهرة المثقفين والمفكرين والكتاب والباحثين العلمانيين قد انغمسنا في اقتباس الفكر السياسي والاجتماعي الأوروبي نقلا وترجمة، وأن الأجيال الأولى من المفكرين العرب والأجيال التالية لهم قد تأثرت بالاتجاه الذي عمد إلى التهوين من قيمة التراث الوطني والديني، وإننا نشهد الآن ثورة نقدية عنيفة ضد هذا الاتجاه الأوروبي المتعالي".

في مقال الدكتور/ فؤاد زكريا بالأهرام بتاريخ 29/ 7/ 1405 هـ قال:

"إن هناك بالفعل أعدادا غفيرة من الناس تؤمن بصدق هذه الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وتطالب بها بحماسة وإخلاص، والأهم من ذلك أن الغالبية الساحقة من هؤلاء المواطنين هم من ذوي النوايا الطيبة الذين يسعون سعيا جادا إلى إصلاح أنفسهم ومجتمعهم".

وقال كذلك: "إن الجموع الكبيرة من الشبان والفتيات الذين تحركهم نوازع خيرة ونوايا طيبة يحتاجون إلى أسلوب خاص في التعامل ... وإنهم يؤمنون بأنهم يريدون الإصلاح ، بل ويؤكدون لأنفسهم أنهم هم وحدهم الذين يملكون طريق الخلاص من جميع المشاكل الفردية والاجتماعية ... وأن الذي يفتقرون إليه حقا هو الحوار الذي يدور على أساس من احترام نواياهم الطيبة ورغبتهم في الإصلاح .

هذه الأعداد الغفيرة من الناس، والجموع الكبيرة من الشبان والفتيات، هي جماهير الشعب المصري وعامته الذين يجمعون على وجوب الالتزام بمبادئ الشريعة وأصولها، ولذلك أصبح من المؤكد أن أي مفكر أو مثقف لا يمكن أن يقوم بدور قيادي في مصر، إلا إذا أعلن لهذه الجماهير أنه يؤيد مطلبها الأساسي في سيادة الشريعة الإسلامية. وقد عبر عن ذلك الدكتور يوسف إدريس في مقال له بالأهرام الصادر في 15/ 8/ 1405 بكلمات ذات مغزى حين قال:

"إن أحدا لا ينادي أبدا بعدم تطبيق الشريعة الإلهية الإسلامية. إنه يكون مجنونا لو فعل. فالشرائع السماوية كلها – وعلى رأسها الإسلام فوق أنها أمر الله سبحانه وتعالى إلا أنها – لم تأت إلا لتقيم العدل بين البشر ...".

فإذا لاحظنا أن من يقول ذلك هو من الكتاب الذين ينتمون إلى الاتجاهات الاشتراكية الماركسية، أمكن القول بأن المفكرين والكتاب والعلماء وقادة الفكر في مصر يجمعون اليوم على الالتزام بمبدأ سيادة الشريعة الإسلامية ويعتبرونه مطلبا جماهيريا لا يمكن لعاقل أن يتنكر له أو يعارضه، ولكنهم مع ذلك يختلفون في كيفية تطبيق هذا المبدأ، وهذا هو جوهر المشكلة القائمة الآن وما زال الحوار حولها قائما. ولنا أمل كبير في أن يؤدي هذا الحوار إلى خطوات إيجابية عملية في سبيل إقامة المجتمع وإصلاحه على أساس هدى الإسلام ومبادئه الخالدة.

مبدأ سيادة الشريعة الإسلامية وشرعية القوانين مبدأ دستوري في التشريع المصري

في البلاد التي يوجد فيها دستور مكتوب كما في مصر، يكون الدستور قانونا أعلى، وما عداه من القوانين والأنظمة يخضع لنصوصه ومبادئه. وينتج عن ذلك أن القانون العادي الوضعي إذا خالف أحكام الدستور فإنه يكون باطلا لأنه غير دستوري، أي أنه يكون غير شرعي في لغة الدستور الوضعي.

معنى ذلك أن القانون الوضعي، كغيره من أعمال البشر وتصرفاتهم، يمكن أن يكون صحيحا وأن يكون باطلا أي أنه يمكن أن يكون شرعيا أو غير شرعي بالمعنى المقصود في القانون الوضعي ذاته.

لكن هذه الشرعية الوضعية تختلف عن الشريعة الإسلامية فالشرعية الوضعية مبدأ عام في الفقه الدستور الحديث، لا يخص مصر وحدها وإنما يجب الالتزام به في جميع البلاد التي توجد فيها دساتير مكتوبة أو غير مكتوبة.

بل أكثر من ذلك فإن بعض أساتذة الفقه الدستوري الحديث يرون أن الشرعية مبدأ أسمى من الدستور نفسه، ويجب الالتزام به في جميع النظم القانونية التي تعترف بوجود مبادئ إنسانية عامة تلتزم بها جميع المجتمعات البشرية سواء وجد لها دستور أو لم يوجد، لأن هذه المبادئ العليا هي دستور طبيعي عند من يقولون بوجود قانون طبيعي أو دستور إنساني أو إلهي حسب اختلاف العقائد، ومن أمثلة هذه المبادئ العليا مبدأ المساواة بين الناس واحتراق حقوق الإنسان الأساسية ... إلخ ومن أشهر الأساتذة الذين توسعوا في بحث مبدأ الشرعية الوضعية الأستاذ "دوجيه " الذي كان عميدا لكلية الحقوق بجامعة القاهرة في فترة من الفترات ولم يقصر في الإشادة بمبادئ الشرعية الإسلامية في بحوثه عن مبدأ الشرعية.

أما الشرعية الإسلامية فإنها تربط المبادئ الإنسانية السامية بمصادرها الإسلامية الأساسية في الكتاب والسنة، ولذلك فإن الشرعية الإسلامية يقصد بها الالتزام بالمبادئ والأحكام المستمدة من المصادر الأساسية للشريعة الإسلامية.

فمبدأ الشرعية معناه وجود مبادئ عليا تمثل السيادة التشريعية في النظام القانوني، إنما تختلف إلى أنواع بحسب مصادر هذه المبادئ، فإن كان مصدرها هو الشريعة الإسلامية كانت شرعية إسلامية، وإن كان مصدرها الدستور الوضعي كانت شرعية دستورية وضعية، أما إن اجتمع المصدران واتفقا فلا مناص من اعتبار الشرعية إسلامية ودستورية وضعية في آن واحد.

لقد أسفر الحوار الدائر في مصر حول تطبيق الشريعة الإسلامية عن نقطة إيجابية لا بد من تسجيلها لتكون نبراسا يستضاء به عند دراسة هذه القضية في أنحاء أخرى من العالم الإسلامي. هذه النقطة الأساسية هي إمكان التقاء الشرعية الوضعية بالشرعية الإسلامية واندماجهما ليصبحا مبدأ واحدا هو مبدأ الشرعية بالمعنى الإسلامي والمعنى الوضعي معا.

ولم تكن هذه الفكرة طارئة أو كلاما جدليا استحدثه هذا الحوار، بل إنها ظهرت في أحكام القضاء المصري بصورة فعلية من مدة طويلة عندما تعرض القضاء للنظام العام الذي يقصد به المبادئ غير المكتوبة التي يجب احترامها دون حاجة إلى نص في القوانين العصرية الوضعية سواء في مصر أو في غيرها. ونجد في أحكام القضاء المصري إشارات صريحة إلى أن النظام العام في القانون المصري هو أحكام الشريعة الإسلامية التي يجب إعمال أحكامها والالتزام بها حتى ولو لم يوجد نص صريح بذلك، فهي القانون غير المكتوب الذي يماثل القانون العام المسمى في النظم الإنجليزية – COMMON Law – ولا جدال في سلامة هذا الاتجاه ما دام لا يتعارض مع نص وضعي مكتوب. أما إذا حدث تعارض، فإننا نواجه بحث عدم شرعية القانون الوضعي بالمعنى الإسلامي، أو عدم دستوريته لمخالفته نص الدستور الذي جعل مبادئ الشريعة مصدر القانون الوضعي.

لقد كان الحوار الذي يدور في الصحافة المصرية فرصة لرجال القضاء المصري لتأكيد فكرة الارتباط بين الشرعية الإسلامية والشرعية الوضعية في التشريع المصري وأساس هذا الارتباط هو نص الدستور الحالي الذي يقرر في المادة الثانية منه أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقوانين (الوضعية طبعا).

خير مثال لذلك مقال الدكتور جمال الدين محمود نائب رئيس محكمة النقض المصرية بجريدة الأهرام بعددها الصادر في 15/ 8/ 1985، حيث قال:

"إن صياغة نص المادة الثانية من الدستور المصري قد جعلت "مبادئ الشريعة الإسلامية" هي المصر الرئيسي للتشريع، وهي تعين ولا شك على اختيار المنهج القويم الذي يحقق الهدف، وهو أن تكون القوانين في مصر مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية وأصولها العامة".

ويضيف سيادته: إن هذا النص يماثل المبدأ الذي أعلنه الملك عبد العزيز آل سعود في البلاغ الذي أصدره في الثاني عشر من جمادى الأولى 1343 هـ والذي جاء به: "إن مصدر التشريع والأحكام في المملكة العربية السعودية لا يكون إلا من كتاب الله ومما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو ما أقره علماء الإسلام بطريق القياس أو ما أجمعوا عليه". ويشير سيادته إلى هذا المبدأ الذي تسير عليه المملكة العربية السعودية لم يمنعها من إصدار تقنيات أو "أنظمة" تحكم المسائل المهمة والرئيسية مثل نظام الحكم والقضاء والعقوبات وغيرها مما هو ضروري ولازم لاستقرار الأحكام في دولة حديثة. وبناء على ذلك فإن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدر التشريع والأحكام لا يمنع من وجود تقنيات (وضعية) في نظره بل يرى أن التقنيين مفيد وضروري. وعبر عن حجته في ذلك بقوله.

"إن الإحالة إلى القرآن الكريم والسنة ليحكم القاضي بمقتضاها – نظر خاطئ وخطير – فإن القرآن الكريم والسنة هما الأصلان العظيمان للتشريع وهما أجل وأعظم من أن يكونا كتابي قانون يعهد إلى القاضي أو الحاكم بتطبيقهما مباشرة، كما أن هذا الرأي يفتح الباب للفساد والعبث بأحكام الشريعة ويهدر ثروة فقهية وعلمية قامت على الكتاب والسنة طوال قرون عديدة ويجعل حقوق العباد وحقهم في العدل والمساواة بالذات، مهددا باختلاف الأفهام وتعدد الآراء وسوء التأويل".

ويلاحظ أن الحكومات التي تطبق الشريعة الإسلامية تعالج هذه الناحية بأن تفرض على القضاة الأخذ بمذهب واحد من مذاهب الفقه الإسلامي، بل بقول واحد في مذهب واحد.

يستنتج الدكتور جمال الدين محمود من ذك أن التقنين ضروري في الوقت الحاضر لأنه في حالة عدم التقنين يلتزم القضاء بمذهب واحد، أما التقنين فإنه يتيح الفرصة للاستفادة من المذاهب الفقهية المختلفة وخاصة في القوانين الأساسية التي تنظم معاملات الناس أو سياسة التجريم والعقاب كالقانون المدني أو قانون العقوبات حيث لا يتصور أن يكون هناك التزام بفقه مذهب واحد ينبغي أن يكون الالتزام بالأحكام القطعية في الشريعة الإسلامية وأصولها العامة.

خلاصة هذا الرأي أنه يمكن أن تلتقي الشرعية الإسلامية بالشرعية الدستورية في القوانين الوضعية، وبذلك تصبح الشريعة نافذة بحكم الدستور الذي تخضع له القوانين الوضعية وتلتزم حدوده وتكون باطلة إذا خالفته.

وهذه النظرة قد تؤدي إلى إسباغ صفة الشرعية بالمعنى الإسلامي على التقنينات الوضعية في مصر، ولكن ذلك يستلزم شروطا معينة لا بد من توفرها لكي يمكن وصف التقنين الوضعي بأنه شرعي، وهذه هي النقطة الأساسية في الحوار الدائر في مصر، والتي تثير كثيرا من النقاش الذي نرجو أن يسفر عن نتائج عملية وألا يقف عند الأفكار النظرية والمناقشات الجدلية.

سيادة الشريعة الإسلامية تستلزم تغيير المنابع والمصادر والأصول في التشريع المصري

من حسن الحظ أن الحوار الذي دار في مصر بشأن تطبيق الشريعة الإسلامية قد شارك فيه مجموعة فذة فريدة من علماء الفقه والقانون وأساطين القضاء وقادة الفكر في مصر، وأنه قد أتيح لهم أن يناقشوا الموضوع من نواح متعددة، وأن يستعرضوا كل ما يتعلق به من الحجج الدستورية والفقهية والقانونية والاعتبارات الاجتماعية السياسية والاقتصادية، مما جعل متابعة هذا الحوار متعة لكل صاحب فكر ورأي، وفائدة كبرى لكل دارس يهمه استقراء التطورات الفكرية في العالم الإسلامي، وما أسفر عنه هذا الحوار يشهد لمصر بأنها ما زالت جديرة بأن تقوم بدورها التاريخي الرائد في نهضة العالم الإسلامي ومسيرته الحديثة نحو التقدم والرقي والسيادة، وكفاحه لاسترداد أصالته الإسلامية والاعتزاز بتاريخه المجيد وتراثه العلمي والفقهي الخالد.

أول ما نستفيده من هذا الحوار هو أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو موضوع خطير لا يجوز أن يعالج بإجراءات أو قرارات مرتجلة ولا مظاهرات غوغائية ولا مناورات سياسية ولا حملات إعلامية. إنه مشكلة أعمق من ذلك تحتاج إلى استراتيجية بعيدة المدى طويلة الأمد. وقد سار الدستور المصري بخطى حكيمة ترسم خطوات إيجابية تفرض على المشروع الوضعي تغيير منابع التشريع الوضعي ومصادره وأصوله لكي يصح بعد ذلك وصفه بأنه شرعي بالمعنى الإسلامي والمعنى الدستوري معا، حسبما نص عليه الدستور القائم.

إن هذه الاستراتيجية قد فرضها نص الدستور القائم، عندما نص في مادته الثانية على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ذلك أن هذا النص يوجه المشروع الوضعي إلى ضرورة تغيير المصدر في القوانين الوضعية جميعا، بما في ذلك التقنيات التي تنظم جميع فروع القانون وتغطي أغلب موضوعات المعاملات المدنية والتجارية والجنائية والإجراءات والمرافعات وغيرها.

وقد عبر عن ذلك الدكتور جمال الدين محمود نائب رئيس محكمة النقض في مقاله بعدد الأهرام الصادر في 15/ 8/ 1985 بقوله:

"تستدعي الدعوة إلى تطبيق الشريعة – وهي محل اتفاق بين الجماهير والدولة – النظر في قضية أخرى تتصل بها اتصالا وثيقا وتعد جانبا هاما منها وهي قضية تقنين الشريعة، وطبقا للدستور فقد وضعت المادة الثانية منه القاعدة العامة وأشارت إلى السلطة المختصة بأعمال هذه القاعدة حين نصت على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.

فمبادئ الشريعة الإسلامية هي المرجع الأول عند سن التشريع الذي تتولاه بحكم الدستور السلطة التشريعية ممثلة في مجلس الشعب طبقا للمادة 86 من الدستور، ونص المادة الثانية من الدستور يتوجه بلا شك إلى السلطة، ويفرض عليها عند سن التشريع – أيا كان الموضوع الذي يعالجه – أن يكون مصدره مبادئ الشريعة الإسلامية".

إن تغيير المنابع والمصادر والأصول التشريعية هدف خطير له نتائج بعيدة المدى، وهو نتيجة حتمية ومنطقية للخطوات التي سارتها مصر في طريق استرداد سيادتها التشريعية التي قيدتها الامتيازات الأجنبية فترة طويلة من الزمن. كما أنه ثمرة لحركة علمية وفكرية وسياسية أثبتت قدرة مصر على الاعتزاز بمنهجها الذاتي في ميادين التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتشريعي، وهو منهج ينبع من تراثها الإسلامي الخالد.

هذا التغيير الذي فرضه الدستور ليس ظاهرة سياسية أو مطلبا حزبيا بل هو خطوة استراتيجية تستمد جذورها من أعماق تاريخنا وموقعنا الحضاري في العالم الإسلامي، ولها آثارها العديدة البعيدة المدى في مستقبل العالم كله ومستقبل العالمين العربي والإسلامي بصفة خاصة.

هذا الهدف الاستراتيجي عبر عنه أحد أعضاء مجلس الشعب ورئيس لجنة الشؤون الدينية، والأستاذ بجامعة عين شمس الدكتور محمد علي محجوب – ووزير الأوقاف حاليا – وفي مقال له بمجلة "منار الإسلام" عدد يونيو 1985 بقوله:

"إن هدف هذا المنهج هو تحقيق ما نادى به المصلحون والفاهمون من قيام النهضة التشريعية على أساس من أحكام الشريعة الإسلامية محاولين بذلك استعادة مجدنا العلمي من خلال الرجوع إلى تراثنا التشريعي المستمدة من قانون السماء العادل.

ذلك أن الشريعة الإسلامية أصبحت مطلبا شعبيا في جميع بقاع البلدان الإسلامية – الجميع يريد أن يعودوا إلى الله، والكل يتسابق إلى المنهج الإلهي الذي ارتضاه لحكم البشر".

لقد قاست مصر وغيرها من البلاد التي خضعت للحكم العثماني من مساوئ الامتيازات الأجنبية التي قيدت سلطات الدولة وانتقصت من سيادتها على المقيمين في أرضها، سواء من ناحية التشريع أو القضاء أو التنفيذ، ولكي تتخلص بلادنا من هذه الآفة وجد حكامها أنفسهم مضطرين إلى نقل التشريعات الأجنبية السائدة في الدول الأجنبية صاحبة الامتيازات، ليكون ذلك حجة لدى المفاوض المصري لطلب إلغاء الامتيازات، استدعى هذا الأسلوب في استيراد القوانين أن يقوم الفقه والقضاء بمجهود كبير في سبيل الملاءمة بين القوانين المستوردة وبين المجتمع المصري حتى أصبحت لدينا "ثروة فقهية وقضائية استغرق بناؤها عشرات السنين واستقرت الأحكام بناء عليها".

كما يقول الدكتور جمال الدين محمود في مقاله المشار إليه. ولا شك أن فقهنا وقضاءنا قد قام بجهد جبار في سبيل تطويع النصوص الشريعية المستوردة لمقتضيات بيئتنا الاجتماعية وشخصيتنا الذاتية والأصول التي تمثل رصيدنا العلمي وتراثنا التاريخي، وهو مجهود لا بد من الاعتراف به والثناء عليه وتمجيد جميع من أسهموا فيه من أساتذة وقضاة فقه، حتى صار البعض ممن شاركوا في الحوار يشعرون بأن القوانين والأنظمة القائمة في مصر أصبحت تتفق في الجانب الأعظم منها مع مبادئ الشريعة الإسلامية على حد قول الدكتور جمال الدين محمود في مقاله سالف الذكر، وإن كان كثيرون يرون أنه ما زال هناك بعض نقاط تتعارض مع مبادئ الشريعة بنصوص صريحة، صادرة عن المشرع الوضعي نفسه – ويصعب على القضاء والفقه إهمالها أو تطويرها – لذلك فإنهم يلحون على المشرع الوضعي في تعديل هذه النصوص لكي يصبح التشريع الوضعي متفقا مع أحكام الشريعة الإسلامية.

لكن هذا التصحيح الواجب لإزالة التعارض بين النصوص الوضعية وبين أحكام الشريعة الإسلامية لا يكفي لتنفيذ النص الدستوري الذي يوجب على المشرع الوضعي أن يجعل الشريعة المصدر والمنبع الذي يستمد منه مبادئ التشريع وأحكامه، إن تنفيذ هذا النص يستلزم أن يقوم صانعو التشريع الوضعي بالرجوع إلى مبادئ الشريعة وأصولها عند وضع القوانين وقبل إصدارها، حتى يستمدوا من روح الإسلام وتعاليمه ومصادره الأساسية أحكام قوانينهم، وبذلك تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع الوضعي فعلا وعملا. وتنفيذا لهذا النص الدستوري سارعت وزارة العدل بالحكومة المصرية – بمجرد صدوره – بتشكيل لجان لإعداد مجموعات تقنيات جديدة تستمد أصولها من الشريعة الإسلامية وكان يرأس هذه اللجان شيخ قضاة مصر في ذلك الوقت وهو رئيس محكمة النقض الأستاذ جمال الدين المرصفاوي ، وكان من أعضائها عدد كبير من أساتذة القانون وكبار القضاة والمستشارين ورجال الفقه والقانون، وكان لي الشرف أن كنت عضوا بتلك اللجان التي شهدت مناقشات طويلة حامية، أسفرت عن مشروعات أمضت اللجنة عامين لإعدادها وقدمتها لصانع القوانين الوضعية، وهو مجلس الشعب الذي أحالها إلى الأزهر لإبداء رأيه فيها، فأعاد علماؤه مناقشتها ودراستها وأرسلت بعد ذلك لمجلس الشعب وما زالت تحت نظره. وإنا لنأمل أن تحظى منه بكل اهتمام وتقدير.

وإذا كانت هناك ظروف وقتية حملت الأغلبية من أعضاء مجلس الشعب في العام الماضي على تأجيل مناقشتها، فإننا نأمل أن يكون في التأجيل فسحة من الوقت لإعطاء الحكومة والمجلس فرصة كافية لإعداد المجتمع لهذا التغيير الاستراتيجي في التشريع الوضعي، كما نادى بذلك كثيرون ممن ساهموا في هذا الحوار، ومن بينهم رئيس لجنة الشئون الدينية بمجلس الشعب الدكتور محمد علي محجوب في مقاله المشار إليه بمجلة "منار الإسلام" عدد يونيو 1985 حيث قال:

"إن تطبيق الشريعة الإسلامية وإن كان مطلبا عاما لكل مسلم غيور على دينه وعقيدته خاصة بعد أن غابت عن سماء كثير من بلدان العالم الإسلامي سنين طويلة، وأصبح لا مخرج ولا خلاص لهذه البلدان مما حل بها إلا بتطبيق شرع الله الذي أنزله لحكم البشر، إلا أن هذا يقتضي عملية إصلاح شاملة تسبق هذا التطبيق يهيأ فيها المجتمع الإسلامي لاستقبال هذا التشريع العادل، وذلك من خلال القضاء على كافة مظاهر الغواية والفساد في المجتمع، فالشباب لم ينحرف وحده ولكن البيئة المحيطة به قد انحرفت وهذا يقتضي إصلاح المناخ الاجتماعي والإعلامي والفني وقطع دابر الاستغلال الاقتصادي بكافة أشكاله قبل أن نأخذ الناس بالعقاب، وكذا وقف هذا السيل العارم من الغواية والإثارة التي تشاهد في أفلام العري والأغاني الهابطة. ومن ثم فلا بد من التدرج والأخذ بمبدأ تطبيق الشريعة على مراحل، فلا يمكن أن نحول مجتمعا هابطا إلى مجتمع فاضل بين عشية وضحاها بمرسوم وزاري أو قانون تشريعي، ولا يمكن أن نحول الهبوط الفني إلى سمو فني في لحظة واحدة، بل لا بد من التدرج في التطبيق وحينما تزداد حرارة الإيمان في المجتمع وتسكن القلوب إلى بارئها لا يعود الفرد يختار إلا ما اختاره له خالقه ويصبح هواه فيما شرعه له مولاه.

وإلى أن يتحقق ذلك فمن الممكن أن نبدأ بتطبيق شريعة الإسلام في القوانين المدنية والتجارية، والمجتمع مهيأ الآن لاستقبالها، ولتكن هذه القوانين هي اللبنة الأولى في صرح هذا البناء التشريعي العادل وبعدها تطبق باقي فروع القانون الإسلامي في شتى المجالات ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. وعلى الله قصد السبيل".

إذا كان هذا رأي الأغلبية في مجلس الشعب، فإننا نأمل أن يعد المجلس برنامجا عمليا يبين مراحل التدرج في تطبيق الشريعة وإعداد المجتمع هذا التطبيق، وأن يوضع لذلك جدول زمني ينتهي بإصدار هذه المشروعات التي ما زالت معروضة على المجلس، ونحن في انتظار ذلك ممن يدعون إلى التدرج والاعتدال.

إن هذه المشروعات التي أعدتها لجان متخصصة في وزارة العدل – وراجعتها لجان أخرى في الأزهر بناء على طلب مجلس الشعب لا يجوز تجاهلها أو إنكار وجودها – إنها ثمرة جهود علمية ومناقشات فقهية وتجارب قضائية وقانونية يحق لمصر أن تفخر بها وتعتبرها عملا تاريخيا تعتز به وتدعو غيرها من البلدان لكي تستفيد منه، وأن تعلن أن كل عقبة تحول دون مناقشتها أو إصدارها الآن هي عقبة مؤقتة لا بد أن يتعاون الجميع لإزالتها، خصوصا أن ممثلي الشعب قد أعلنوا تمسكهم بمبادئ الشريعة ورغبتهم في إزالة كل تعارض بين نصوص القوانين الوضعية وبين مبادئها وأحكامها.

سيادة الشريعة هي سيادتنا التشريعية

إن ما قرره الدستور المصري الحالي من أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع الوضعي، كان خطوة تاريخية لها أهميتها في تحديد هدف النهضة التشريعية في مصر، وتوجهها نحو مصادر الشريعة وأصولها. كما أنها وضعت الشريعة إلى جانب اللغة العربية والعقيدة الإسلامية باعتبارها الملامح الثلاثة الرئيسية لشخصية الشعب المصري. وبهذا النص وضع الدستور حدا لأسلوب استيراد التشريع الأجنبي – ذلك الأسلوب الذي فرضته ظروف خارجية خاصة تمثلت في الامتيازات الأجنبية ومعاهدة مونتريه ، التي أبقت الامتيازات في صورة ضمانات لمدة اثني عشر عاما انتهت في عام 1949 م – بل اشتملت المعاهدة المذكورة على نص قصد به تقييد حرية مصر في التشريع بعد انتهاء تلك الفترة، حسب التفسير الاستعماري لذلك النص، وإن كان فقهاء مصر وعلماؤها لا يوافقون عليه.

إن نص الدستور الحالي قد قطع الخلاف حول تفسير نص معاهدة مونتريه الذي أريد به فرض وصاية أبدية على سيادة مصر وتشريعها، فأعلن الدستور صراحة أن سلطة التشريع والقضاء في مصر قد بلغت رشدها وتحررت نهائيا من وصاية الدول الاستعمارية الأجنبية التي كانت تعتبر الامتيازات الأجنبية أبدية. فلم يكن إذن مجرد نص ارتجالي، بل هو استجابة واضحة لطموح شعب مصر الذي ما زال يعتبر الشريعة الإسلامية رمز ذاتيته وسيادته وإرادته المستقلة عن كل تدخل أجنبي.

لقد سادت الشريعة الإسلامية في مصر، وغيرها من أقطار العالم الإسلامي خلال أربعة عشر قرنا كانت فيها محور ذاتية الأمة وأساس وحدتها وحضارتها وسيادتها، وبقيت كذلك ما دامت الدول الإسلامية كاملة السيادة على أرضها وعلى جميع سكانها. وعندما بدأت عصور الاضمحلال والضعف، وبدأت هجمات الاستعمار ترسي سفنها على شواطئنا، وتجد في ضعفنا فرصة لكي تكون لها قواعد على أرضنا تمثلت في "الامتيازات الأجنبية" التي قيدت سلطة الدولة العثمانية بمقتضى معاهدات فرضت بالخديعة تارة وبالقوة تارة أخرى. هذه الامتيازات كانت تزحزح سيادة الشريعة عن مجموعة من القاطنين في بلادنا بحجة أنهم "أجانب" أو يتمتعون بحماية الأجانب. وكان ذلك تقييدا لسيادتنا عن طريق الانتقاص من سيادة شريعتنا. فالسيادة واحدة لا تتجزأ، ولا يمكن لدولة أن تدعي أن سيادتها كاملة إذا كانت سيادة شريعتها ناقصة. ومنذ ذلك اليوم إلى الآن ونحن نجاهد ونسعى لاستكمال سيادتنا وسيادة شريعتنا، ولا نفرق بينهما.

لذلك فإن نص المادة الثانية من الدستور المصري الحالي إذا كان قد أعاد للشريعة سيادتها في مجال التشريع، فإنه أكد بذلك سيادتنا التشريعية في بلادنا بإزالة آخر القيود التي خلقها الامتيازات الأجنبية ومعاهدة مونتريه وهو قيد استيراد القوانين الأجنبية الوضعية.

لقد كانت القيود المفروضة على التشريع والقضاء المصري أبشع صور العدوان الاستعماري على سيادتنا وحريتنا، وكانت جماهير شعب مصر في المدن والقرى تحس بهذا العدوان الذي مكن بعض الأجانب من السيطرة على اقتصاد مصر، ومكن المرابين من انتزاع ملكية كثير من الأراضي بأساليب الغش والخداع التي كان يمارسها عملاؤهم ووكلاؤهم في ساحات المحاكم المختلطة والمحاكم القنصلية، التي كانت تتجاهل قوانين بلادنا وأعرافنا، بل ولغتها وحكوماتها وإدارتها، وكان عامة الشعب وخصوصا الفلاحين وسكان القرى يعتبرون هذه القوانين الأجنبية سببا لكثير من المظالم التي حلت بهم والتي تمثلت في نزع ملكية كثير من أراضيهم لصالح المرابين والمستغلين من "الخواجات" وورث هذه الثورة أبناؤهم الذين كانوا يحسون بالمرارة كلما رأوا محضري هذه المحاكم يجوسون خلال القرى يوزعون الإنذارات ويحررون المحاضر بلغة أجنبية وينزعون ملكيات الأغنياء والفقراء على السواء لأنهم وقعوا فريسة للمرابين الأجانب الذين تحميهم قوانين أجنبية ومحاكم مختلطة وقنصلية. وكان أبناء المدن يعرفون كثيرا من الأوباش وطريدي العدالة من الأجانب الذين يجيئون من أوروبا ومستعمراتها بل وبعضهم من أصل مصري استطاع أن يشتري "الحماية" من القناصل بالمال ليعيث في الأرض فسادا دون أن تمتد إليه يد ممثلي الحكومة الوطنية التي تقف عاجزة أمام هذه الامتيازات.

وكان أكثر الناس ثورة على الوصاية الأجنبية على تشريعاتنا وقضائنا هم رجال القضاء ورجال القانون والمحاماة في المحاكم "الأهلية"، ويكفي أن هذا الوصف في ذاته كان يستعمل للحط من قيمتهم وقيمة محاكمهم والمتقاضين أمامها من "الأهالي"، بل وقيمة الدولة المصرية الناشئة العاجزة عن رفض قوانينها على أصحاب الامتيازات والحمايات المقيمين على أرضها، العاجز قضاؤها حماية رعاياها من عبث هؤلاء الأجانب واعتداءاتهم. وكانوا يرون الدولة المصرية الناشئة مضطرة إلى أن تستورد بعض "الخواجات" ليضعوا لها قوانين يستوردونها من بلادهم وتفرض هذه القوانين المستوردة على المشرع المصري، لكي يرضى بذلك الدولة صاحبة الامتيازات فتمنحنا شهادة بالتمدن والتحضر نستخدمها في استعطافهم من أجل أن "ينازلوا" عن امتيازاتهم. إن استيراد القوانين من الخارج كان في نظر حكامنا ضرورة لترويض الاستعمار الذي لا يريد أن يرانا نحكم شريعتنا ونعتز بتراثنا، ولكنها ضرورة مؤقتة.

هذه القوانين المستوردة إذن لم تكن تعبيرا عن إرادة مصر ولا إرادة شعبها – ولم تكن نابعة من ذاته ولا من أصالته وتاريخه وتراثه – فمن الطبيعي إن كان شعبا بجميع طوائفه وطبقاته وفي مقدمتهم رجال القانون والقضاء يعتبرون استعادة الشريعة الإسلامية للسيادة في التشريع المصري هدفا وطنيا يجاهدون من أجله منذ بدءوا نهضتهم وكفاحهم ضد المظالم الاستعمارية.

وقد أشار الدكتور جمال الدين محمود في مقاله بالأهرام بتاريخ 7/ 8/ 1985 إلى تلك المظالم بقوله:

"إن العالم الإسلامي في مجموعه تعرض في العصر الحديث إلى العدوان المباشر من الغرب ومحاولة الهيمنة الفكرية وطمس الهوية الإسلامية، فم نر من الغير "الغرب أو الشرق الأوروبي"، خلال سنوات طويلة سوى المظالم السياسية والاقتصادية، والكثير منها ما زال مستمرا حتى الآن في أنحاء العالمين العربي والإسلامي.

لقد كانت المظالم السياسية والاقتصادية ومحاولات طمس الهوية الذاتية للشعوب الإسلامية شديدة الوطأة طوال عشرات السنين. أزال الغرب القوة الذاتية للأمة الإسلامية بهزيمة ممالكها عسكريا، ثم أزال رمزها السياسي الذي كانت تمثله الخلافة الإسلامية ولم يهتم الغرب أصلا بالحوار حين كان يملك السيطرة على مقدرات هذه الشعوب، بل إنه يستطيع حتى الآن بمسلكه وسياساته أن يؤثر في فهمنا واختيارنا للمواقف في الحوار ونتائجه، فهم لم يبد حتى الآن رغبة صادقة في الكف عن إيقاع المظالم السياسية والاقتصادية بالعالمين العربي والإسلامي، ولم تتجه سياسته فعلا إلى تحقيق العدل والسلام لجميع الشعوب دون تفرقة".

إذن كان استرداد الشريعة الإسلامية لسيادتها كاملة في التشريع المصري رمزا ودليلا على استرداد مصر لسيادتها واستقلالها في نظر دعاة الأصالة من قادة شعبنا والمعبرين عن إرادته وطموحه، فالدعوة لها هي دعوة إلى الأصالة والسيادة التشريعية والقضائية الكاملة. وهي دعوة عميقة الجذور لا يمكن وقفها بالصرخات الهستيرية التي يطلقها بعض المعارضين لها في الداخل والخارج. لأنها مستمدة من منابع العقيدة الإسلامية ومن أمجاد أربعة عشر قرنا من السيادة والعزة والعلم والفقه الذي نفخر به حتى الآن.

لهذا السبب فإن الحوار الذي دار في الصحافة المصرية قد أكمل بك صراحة ووضوح إجماعا على مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية وسيادتها في التشريع المصري – وهذا الإجماع لا يقتصر على جماهير الشعب بجميع طبقاته، وإنما تؤيده الحكومة وتشارك فيه – وهذا الإجماع ليس جديدا، بل هو حقيقة ثابتة مؤكدة منذ أن بدأت شعوبنا نهضتها وكفاحها لاسترداد سيادتها، والدليل على ذلك أنه ما كادت حكومة مصر توقع معاهدة مونتريه في عام 1937 حتى شكلت لجنة من كبار رجال القانون لوضع قانون مدني جديد موحد يحل محل القانون المدني المختلط الذي وضعه خواجات الامتيازات الأجنبية – والقانون الأهلي الذي وضعه "خواجة" آخر (هو محام بلجيكي) – ليكون أول قانون موحد يطبق على جميع المتقاضين من المصريين والأجانب بعد انتهاء معاهدة مونتريه ، التي حددت فترة انتقال تنتهي في عام 1949 ، بقيت فيها الامتيازات باعتبارها ضمانات للأجانب. هذه اللجنة بدأت عملها في عام 1937 وكان يرأسها أكبر رجال القانون في جيلنا المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري ، وتقدم للحكومة عدد من رجال القانون والفقه والقضاء على رأسهم مستشارو محكمة النقض وبعض علماء الأزهر، يطالبون الحكومة بأن تفرض على اللجنة أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الذي تستمد منه اللجنة نصوص هذا القانون الجديد.

ويشير إلى ذلك الدكتور جمال الدين محمود نائب رئيس محكمة النقض في مقاله بالأهرام عندما قال:

"وكان مستشار محكمة النقض ولفيف من أساتذة الأزهر قد طالبوا بالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية في إعداد القانون لاتصالها بشعور الأمة ودقتها الفنية، ثم أنها – على حد قولهم – أقرب الشرائع إلى "القانون الفرنسي" الذي استوردت منه نصوص القانون المدني المختلط والأهلي على السواء"...،(أهرام 15/ 8/ 1985م).

هذه العبارة الأخيرة تدل على أن هؤلاء المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية كانوا في منتهى الحذر خشية أن يثيروا القوى الأجنبية على مصر بحجة أنها ابتعدت عن التشريع "العصري" فأكدوا لها أن شريعتنا هي أقرب الشرائع إلى القانون الفرنسي .

في ذلك الوقت الذي اتجه فيه رجال القضاء والقانون والفقه من دعاة الأصالة والتحرر التشريعي والقضائي بهذا النداء إلى الحكومة عام 1937، كانت الحكومة تعلم يقينا أنها لم تسترد بعد حريتها الكاملة في التشريع والقضاء، وأن معاهدة مونتريه لم تضع نهاية للقيود المفروضة على سيادة مصر بل إنها حولت الامتيازات إلى ضمانات في فترة الانتقال وهي اثنا عشر عاما. لذلك فإن الحكومة لم تستجب لهذا النداء، وقد تكفلت اللجنة بالرد على هذا النداء ردا ذا مغزى إذ ورد في تقريرها ما يلي:

"إذا ما أريد حقا أن تضع مصر لنفسها ولأهل العروبة قانونا مدنيا يضارع أحدث قوانين العالم، بل يسمو عليها، كان لزاما عليها أن تتجه إلى ثروتها الوطنية وتراثها المجيد، ألا وهو الشريعة الإسلامية "وأضافت اللجنة" لذا قد وضعنا مشروعا كاملا لكتاب العقد – وهو أساس المعاملات المدنية مستمدا من أحكام الفقه الإسلامي ووازنا بينه وبين ما يقابله، كما رجعت اللجنة إلى نحو عشرين قانونا من القوانين الحديثة في العالم ...".

إن عبارة "إذا ما أريد حقا" يفهم منها أن اللجنة تشير إلى أن هناك محاذير تحول "في ذلك الوقت" دون أن تستجيب الحكومة لنداء المستشارين والقضاة والعلماء، وأن اللجنة قد راعت تلك المحاذير ولكنها تتمنى أن تزول، وأنها إذا زالت فإن مصر ستضع لنفسها ولأهل العروبة قوانينها الذاتية المستمدة من ثروتها التشريعية، وتراثها المجيد، ألا وهو الشريعة الإسلامية.

إن نص الدستور الذي أشرنا إليه – الصادر في 1971 – الصادر في 1971 – يعلن زوال هذه المحاذير، وإن كانت بعض العناصر في الخارج وفي الداخل ما زالت تلوح بها ضمنا إن لم يكن ذلك بعبارات صريحة، وما زال المعتدلون الذين يدعون للتدرج في التنفيذ يأخذون ذلك بعين الاعتبار. وأحسن مثال لذلك ما قاله الأستاذ عمر التلمساني في مقاله بمجلة الوفد بتاريخ (26 سبتمبر عام 1985 م) حيث أشار إلى أنه يدعو لتطبيق الشريعة على مهل لتعقد الأمور التي تحيط بمصر ...".

هذا التعقيد الذي ألمح إليه ناتج عن سلوك بعض الأوساط الأجنبية ذات العقلية الاستعمارية التي تتصرف إلى اليوم كأنها ما زالت تعطي لنفسها نوعا من الوصاية على شعوبنا وحكوماتنا.

يكفي مثالا لذلك أن نراجع ما نشرته مجلة "أكونومست" البريطانية عدد أول مايو 1985 م حيث ذكرت على لسان من سمته "مراسلها الإسلامي" الصعوبات التي يواجهها تطبيق الشريعة الإسلامية في إيران وباكستان والسودان ومصر وماليزيا وسوريا والجزائر والمغرب وأندونيسيا، وأكدت أن الصعوبات المالية التي تواجهها هذه الدول لها دخل كبير في تعطيل تطبيق الإسلام وكذلك وجود أقليات غير مسلمة، وطائفة كبيرة من ذوي الثقافة العربية ..." وكذلك ما نشرته مجلة "نيوزويك " الأمريكية عدد 5/ 8/ 1985 بتوقيع "جوزيف ترين" التي رددت نفس النغمة وركزت على الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها مصر. معنى ذلك أن هذه الصعوبات تضطرها إلى أن تأخذ بعين الاعتبار تحذيرات أصدقائها الذين نطلب إليهم. مساعدتها اقتصاديا.

إن سبب هذا الموقف العدائي الذي يقفه "أصدقاؤنا هو الغرور الذي يمارسه الأوروبيون والأمريكيون الذين يعجزون عن تصور حضارة أو شريعة مغايرة أو متميزة عما ألفوه في بلادهم، فكل ما يختلف عما عندهم يعتبر تخلفا عن "العصرية" وقصورا في "المدنية" وقد أشار إلى ذلك السيد سامي خشبة في الأهرام بتاريخ 27/ 9/ 1985 بقوله:

"إن الأوروبيين يعجزون عن تصور "المغايرة". إنها عندهم "الخروج" أو "المروق" بل "والسقوط". بذلك يكون الإلحاح المحموم في الطعن والزراية عندما يناقشون اختلاف المجتمعات غير الأوروبية عنهم".

لو وقف الأمر عند هذه الفئة من الأجانب لهان الأمر، ولكن الواقع أن الامتيازات الأجنبية ومحاكمها المختلطة قد تركت في مجتمعاتنا طائفة مختلطة الثقافة والعقل والتربية والفكر والمنطق، ومنطق هؤلاء أخطر علينا وأشد إضرارا بنا من منطق الاستعلاء والاستكبار الذي نأخذه على أساتذتهم وسادتهم الأجانب، وقد أشار لهؤلاء الأستاذ سامي خشبة في مقاله سالف الذكر ب الأهرام قائلا:

"مشكلتنا هي ناسنا الذين يتاح لهم أو يلزمهم أو يتوجب عليهم الاقتراب من الغرب دارسين أو ممثلين دبلوماسيين أو رجال أعمال أو عاملين أو سائحين، لماذا يعود هؤلاء إلينا ويحكون لنا عن الغرب أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، أين يكتمون مواجعهم من ترفع الإنسان الأوروبي وفتوره وعماه؟

"ناسنا هؤلاء يرجعون إلينا يحكون لنا ويكتبون عن الغرب الأساطير ثم يفاجأ جمهورنا بين آن وآخر بالوجه الغربي القبيح في شيء. مثل ما كتبه عنا جان بول سارتر أو جان كوكتو أو فلوبير في القديم أو غيرهم ذهبوا، وغيرهم ممن يجيئون".

"أيا ما كان الأمر فإن المخيف أن من ناسنا أناسا أدخل في روعهم أن الاختلاف عن أوروبا هو بعينه "السقوط" فهم يسوطون ظهورنا ليلا ونهارا بسوط المثل الأوروبي، والليل والنهار يشتمون بلادتنا وجهلنا وتخلفنا، ونسمع في أصواتهم الرنة الأوروبية وفي ألسنتهم اللكنة الغربية".

"وأكرر ما أقول المرة بعد المرة، إننا منذ مائة وثمانين عاما بالتمام والكمال، منذ مجيء محمد علي الكبير إلى السلطة في مصر، منذ ذلك الوقت ونحن نلهث وراء المثل الأوروبي، فماذا حصلنا وماذا وصلنا؟ تكون النموذج الأوروبي على أرضنا صورة شائهة مضطربة متسخة عاجزة مشلولة، لا هي هو ولا هو نحن. ألا يحفزنا هذا لأن نجرب شيئا آخر؟

فبدلا من افتقاد المثل الأوروبي يكون اعتبار هذا المثل وتدبره ونقله وفهمه بلا انبهار ولا خوف، وبدلا من الإحساس العميق بالخجل من أنفسنا تكون محاولة معرفة حقيقتنا ومقدار احتياجاتنا وواقع طموحنا، وبدلا من بناء نموذج أوروبي على أرضنا تكون محاولة بناء وطن لنا يشبهنا ويفي باحتياطاتنا ويشبع طموحنا!".

هؤلاء الذين يشير إليهم كاتب المقال ما زال بعضهم يعارض الدعوة لتطبيق الشريعة ويجرحون دعاتها رغم أنهم الآن أصبحوا يقرون بأن تطبيق الشريعة هو مطلب شعبي واسع النطاق، حتى قال أحدهم إن أحدا لا يستطيع أن يعارض في ذلك وإلا كان مجنونا، فهل لنا أن نتوقع منهم أن يستجيبوا لدعوة الأستاذ أحمد بهجت التي وجهها لهم على صفحات الأهرام بتاريخ 27، 28/ 9 بأن يعتبروا العودة إلى الأصول الإسلامية والصحوة الإسلامية مشروعا متكاملا هدفه إنقاذ الإنسان وبناء الحضارة الذاتية لأمتنا، وأن يذكروا أن توجه شعوبنا إلى ذاتها وتاريخها هو أساس نهضتها وشخصيتها، وأن الاعتماد على الذات أفضل من الاعتماد على الغير.

سيادة الشريعة الإسلامية أساسها العلم والإيمان

يسود في مصر شعار "دولة العلم والإيمان"، وقد علل بعضهم تقديم العلم على الإيمان بأن العلم هو مفتاح الإيمان والطريق إليه، فالعلم وسيلة والإيمان هو الغاية والهدف. هذا هو الفهم السائد في مصر لدى المفكرين ولدى الجماهير، هذا الشعار يدل على أن الإيمان والعلم صنوان متكاملان، ولم يقل أحد في مصر إنهما متناقضان أو إنهما متعارضان.

لذلك دهشنا أن نرى بعض كتاب الصحف في مصر يعودون إلى النغمة القديمة البالية، فيزعم أن دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية "يعرضون حججهم على أساس التصديق والإيمان المطلق، لا على أساس من العقل!" فيتوهم بعض القراء أنه يلوح بأن الإيمان المطلق يتعارض مع العقل أو مع العلم، أو أن العلم يستلزم الخروج من دائرة الإيمان المطلق، وأنا شخصيا لا أعتقد أنه يقصد ذلك لأنه يعلم أن نغمة التفرقة بين الإيمان والعقل أو العلم نغمة أوروبية ظهرت في القرون الوسطى لمواجهة موقف الكنيسة المسيحية المعارض للفكر والعلم بحجة أنها وحدها الواسطة بين الله والناس. أما في الإسلام فلا توجد كنيسة تفرض على الناس رأيها، ولا يوجد من يدعي الوساطة بين الله والناس – وإنما يوجد علماء من البشر يناقشون الحجة بالحجة ويجتهدون فيؤخذ من قولهم ويترك، كما قال الإمام مالك – رحمه الله.

أمام قول الإمام مالك – لا نرى أننا في حاجة للرد على هذه الشبهة بأقوال أحد من المعاصرين سواء من المسلمين أو غيرهم – وإن كان يسرنا أن نشير إلى ما نشرته الصحف نقلا عن العالم الإنجليزي الدكتور "آرثر البيون " رئيس قسم الهندسة الإلكترونية والكهربائية بجامعة سيتي البريطانية، "الذي أشهر إسلامه بالقاهرة أمام شيخ الأزهر عقب اشتراكه في مؤتمر الإعجاز الطبي في القرآن الكريم ، وعقد مؤتمرا صحفيا ذكر فيه أن الذي يميز الإسلام هو "أنه لا يتعارض مع العقل ولا مع العلم – لأن الله أنزل القرآن هو الذي خلق العقل – وأن القرآن لم يتناقض مع العلم، فالإسلام دين الفطرة الذي يخاطب العقل والوجدان".

أهمية هذا القول أنه صدر من أستاذ كان عالما قبل أن يكون مسلما – وأنه تخصص في تدريس الهندسة الكهربائية والإلكترونية بجامعات بريطانيا أعواما طويلة – فضلا عن أنه كان رئيسا لجمعية للدراسات النفسية والروحية في بريطانيا لمدة ستة أعوام، ويشارك حاليا في إعداد بحث عن "العلاقة بين الموت والنوم" لأن جزءا من هذا البحث يعلق كما يقول بالآلات الكهربائية التي تخصص فيها. ومعنى ذلك أن تعمقه في العلم هو الذي قاده إلى الإيمان والإسلام، وأن العقل والفكر الحر وحده هو الذي هداه للإسلام – ولم يكن مسلما بالوراثة مثل بعض الذين يتجاهلون أن العقل هو أساس الإيمان.

إذا كان كثير من المتحمسين لتطبيق الشريعة الإسلامية يحرصون على تذكير الناس بإيمانهم المطلق بسمو الشريعة وصلاحيتها لك زمان ومكان بسبب مصدرها الإلهي فعلة ذلك أنهم يخاطبون العقلاء ليذكروهم بميزة خاصة بالشريعة الإسلامية، هي أن مصدرها الإلهي يعطي لأحكامها والتشريع المستمد منها قوة في التطبيق تفوق قوة التشريع الوضعي، لأن الناس يلتزمون بها طائعين مختارين سعداء، لأن طاعتهم للشريعة فريضة دينية وخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى، أما الخضوع للتشريع الوضعي فهو مجرد خضوع لإرادة الحاكم وسلطة الدولة التي أصدرته. إن المصدر الإلهي للشريعة في نظر كل مسلم هو الأساس الذي يوجب سيادتها على التشريع الوضعي لكي تعطيه احتراما أكبر في نظر الناس – وأقوى فاعلية في المجتمع.

ومن المؤكد أن ميزة ارتباط الشريعة بالعقيدة والإيمان بالله هي أساس تعلق الجماهير بها واستجابتهم للدعوة لتطبيقها – حتى أصبح تطبيقها مطلبا شعبيا واسع النطاق، كما أقر بذلك الجميع في مصر حكاما ومحكومين، مؤيدين ومعارضين، وبهذا الإجماع الشعبي صارت الاستجابة لهذا الطلب التزاما دستوريا مستمدا من إرادة الشعب ورغبة الأغلبية الساحقة من جماهير هذه الأمة – وهذا الالتزام الدستوري كاف لإقناع الذين لا يفكرون في الخضوع لأوامر الله وطاعته بالعقيدة الإسلامية لأنهم ينتمون لدين آخر أو يرفعون شعار الإلحاد.

إن الأصول السماوية والمصادر الإلهية للشريعة الإسلامية المتمثلة في القرآن والسنة لا تتعارض مع الجهد العقلي والجانب العلمي الذي يعتبر مصدرا بشريا للفقه تحت اسم الاجتهاد أو الإجماع القائم على الأصول الشرعية. وارتباط الاجتهاد البشري بالكتاب والسنة يكسب التشريع قدرا من الثبات والاستقرار يحمي الناس من نزوات الحكام الذين يثبتون إلى السلطة بطريق غير مشروع أو يتخذونها وسيلة لفرض أهوائهم وتنفيذ مآرب الأحزاب أو الطوائف أو الطبقات أو العصبيات التي يمثلونها.

إن الشعوب اليوم تشعر أنها في أشد الحاجة إلى هذا الاستقرار والأمن الذي تضمنه لهم الشريعة الإسلامية – لأنهم قاسوا كثيرا من نزوات الحكام وأهوائهم التي تفرض عليهم في صورة "قوانين" وضعية تتغير بتغير الحكام وتتبدل بتبدل الأنظمة الحاكمة التي لا يعرف الناس كيف تأتي وكيف تفرض عليهم وماذا وراءها وما هي أهدافها. هذه الأنظمة سلاحها هو القانون الوضعي هو إرادة الحاكم الذي يدعي أنه الحكومة أو الدولة، أما الشريعة الإسلامية فميزتها عند شعوبنا أنها لا تمنح الشرعية إلا لقانون مستمد من مصادر الشريعة ومبادئها وأحكامها ولا تعترف بالقانون الوضعي الذي يستمد من إرادة الدولة وحكامها – سواء كان الحاكم الذي وضعه قد استولى على السلطة بطريق شرعي، أو بطريق الغصب والسطو الذي تكرر في هذه الأيام، وسواء كان هذا الحاكم عاقلا أو مجنونا وقد رأت الشعوب حكاما يوصفون بالجنون والشذوذ وبالطغيان والطاغوت – فكيف تسمح شعوبنا لنفسها أن تخضع لقوانين يصنعها هؤلاء ويفرضونها عليهم بحجة أنها قوانين وضعية، وهم يرونها تخالف مبادئ الشريعة وأحكامها وتشذ عنها وتتعارض معها؟

ولو وقف الأمر عند احتمال فساد الحكام أو استبدادهم أو استغلالهم لهان الأمر، ولكن كل حاكم يلتف حوله بطانة تؤيده وتشاركه – فإن كانت هذه البطانة من المنافقين والانتهازيين والاستغلاليين الذين يغرونه بالظلم والفساد ويشاركونه فيه، فإنهم غالبا يعملون لمصالحهم الذاتية أكثر مما يعملون لحسابه – وهو قد لا يعلم ذلك ولا يشعر به – هذه البطانات المستغلة الفاسدة تكره شريعة الله أكثر ما يكرهها الحكام. لأن الحاكم، حتى ولو كان مستبدا أو مغتصبا، قد يكون لديه قدرة من الإيمان والخلق يوجهه إلى طاعة الله وتنفيذ شريعته، إذا وجد حوله بطانة مؤمنة صالحة تخشى الله وتصدق له النصح – وإن كان هذا لا يحدث كثيرا في العمل.

إن الإيمان يدفع الشعوب للإلحاح على تطبيق الشريعة الإسلامية دائما لكنه يزداد قوة، وقد تتحول قوته إلى تعصب وتطرف وعناد وعنف إذا زادت آلام شعوبنا ونفد صبرها بسبب ما شاهدوه أو قاسوه من فساد بعض الحكام أو فساد أنظمتهم وبطانتهم أو قوانينهم، ولكن بطانة السوء بدلا من أن تطالب الأنظمة والحكومات بإصلاح حال شعوبها وإرشادها إلى عيوب أنظمتها وقوانينها الوضعية المرتجلة أو المتكاثرة أو المتناقضة، وبدلا من أن تساعدها على إصلاح هذه العيوب فإنها تزين لهم أن العيب ليس في أنظمتهم أو قوانينهم، بل تؤكد لهم أو توهمهم أن كل شيء في بلادهم هو على أتم ما يراد، وأن جماهير الشعوب سعيدة بقوانينهم المتكاثرة المتغيرة بتغير الحكام وتقلب أهواء بطاناتهم، ويزعمون لهم إنه لا يزعج هذه السعادة ويهدد هذا الاستقرار الموهوم إلا فئة قليلة هم "الأصوليون" أو المتطرفون الذين يطالبون بتحكيم شريعة الله.

إن هذا النوع من بطانة السوء هم طائفة قليلة من المنتفعين من الأوضاع القائمة، المستفيدين من مآسي الجماهير، بل والمستغلين لسخطها وسوء حالها، هؤلاء لا يشعرون بآلام شعوبهم ولا يعبرون عن مطالبها، تؤيدهم جوقة من الصحافة الأجنبية تتجاهل الطابع الشعبي المتزايد للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية وتنسبه إلى جماعات محدودة تطلق عليهم اسم "الأصوليين" – بل إن بعض المخدوعين بالدعاية الاستعمارية يسمونهم متطرفين أو متشددين، ويقصدون بذلك استعداء الحكومات عليهم وإحداث فتنة داخلية يستفيد منها المتآمرون الذين يحركون الفتن ليستفيد منها كثير من الأعداء المتربصين الذين يكيدون لشعوبنا في كل بلد إسلامي كلما وجدوا سبيلا لذلك.

ومما يؤسف له أن بعض المعترضين الذين يلوحون من حين لآخر بأن ارتباط تطبيق الشريعة بالعقيدة الإسلامية يبعدها عن "رحابة الفكر العقلي" و "المنهج العلمي" ليسوا من علماء الفقه أو القانون حتى يتصدوا للإفتاء أو للكتابة في مسألة تدخل في إطار علم القانون والفقه، وكان أولى بهم أن يلتزموا بالمنهج العلمي الذي يحترم آراء ذوي الاختصاص ويوجب الرجوع إليهم في كل ما يتعلق باختصاصهم.

إنهم يعرفون أن من تصدوا لهذا الموضوع من علماء القانون قد أكدوا مرارا أن أحكام الشريعة في جميع فروع القانون لا تقل دقة وأصالة عن أرقى الأنظمة القانونية، بل هي أسمى وأرقى من كثير من النظم المعاصرة، وأن مصدرها الإلهي لا يعني أنها تجافي الأصول العامة في التشريع أو أن أحكامها تتعارض مع مصالح المجتمعات والأفراد، بل إنها تتمتع بخصائص تجعلها أصلح من غيرها في جميع الأزمان والأقطار.

ويكفي أن نذكر هنا قول المرحوم عبد الرزاق السنهوري باشا في مذكرة لجنة تعديل القانون المدني: "إن مصر إذا أرادت أن تضع لنفسها ولأهل العروبة قانونا يضارع أحدث قوانين العالم – بل يسمو عليها – كان لزاما عليها أن تتجه إلى ثروتها التشريعية وتراثها المجيد المتمثل في الشريعة الإسلامية".

هذا هو قول أكبر فقيه في القانون في هذا الجيل أنجبه العالم العربي كله، فلا يمكن لشعبنا أن ينصرف عنه ويستمع إلى تهجمات بعض الصحافيين أو مؤلفي القصص أو دارسي الطب أو الفلسفة. ونضيف لذلك ما قاله الدكتور محمد علي محجوب الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة عين شمس، ورئيس لجنة الشئون الدينية بمجلس الشعب المصري: "نستطيع أن نقرر بكل تأكيد ووضوح أن الشريعة الإسلامية قد امتازت بالسمو والكمال ... وليس هناك فرع من فروع القانون الحديث لم يتكلم عنه الفقهاء المسلمون، بل إن النظريات التي وضعها هؤلاء الفقهاء والأحكام التي استنبطوها من روح الشريعة الغراء تعتبر المنار الذي أنار لمن بعدهم طريق الفكر القانوني الأصيل في نطاق القانون العام والخاص على حد سواء ..." (مجلة منار الإسلام عدد يونيو عام 1985 م).

ولمزيد من الوضوح، نحيل القارئ إلى ما جاء على لسان أحد الشيوخ القضاء في مصر وهو الدكتور عبد الرحمن عياد في مقاله بالأهرام في 27/ 8/ 1985 قائلا: "إن أكثرية المتحمسين لتطبيق الشريعة الإسلامية يبنون اعتقادهم بصلاحية هذا التطبيق، ليس فقط على إيمانهم كمسلمين، وإنما على ذات الفكر العقلي البحث الذي أوجب الإسلام نفسه أعماله وأن اقتناعهم جاء نتيجة دراساتهم أو نتيجة تجاربهم في الحياة وتفكيرهم المستقل أو الإثنين معا".

كما كتب المستشار علي محيي الدين ياسين رئيس محكمة عابدين يدافع عن التشريع الجنائي الإسلامي وسياسة العقاب في الحدود الشرعية في مقال له بجريدة الجمهورية في 1/ 9/ 1985م فقال: "إن الإسلام أقام سياسة التجريم والعقاب على أسس وأهداف تعود على المجتمع بالخير والأمن والاستقرار وهي الحفاظ على العقيدة والنوع البشري والعقل والعرض والمال ... وبهذا استطاع الإسلام أن يقدم للإنسانية كل أنواع النفع العام، وأقام للحضارة معالم لولاها لظلت أوروبا غارقة في ظلمات العصور الوسطى ...".

هذه الفكرة أكدها مرة ثانية نائب آخر من نواب رئيس محكمة النقض هو الدكتور جمال الدين محمود في مقاله بالأهرام في 4/ 9/ 1985 تحت عنوان "الحدود الإسلامية وسياسة التجريم والعقاب في مصر" قال فيه: "إن الذين يطالبون بتطبيق الحدود في مصر لا يدفعهم إلى ذلك الحماس الديني وحده، فهم يدافعون عن منهج علمي واضح المعالم في سياسة التجريم والعقاب ولهذا المنهج أسانيده العقلية والعلمية، فضلا عن الإيمان بصحته وسلامته وفائدته، ومن الظلم أن يدعي البعض التعارض بين المنهج الديني والمنهج العقلي في المسائل المتعلقة بالتشريع الجنائي الإسلامي فهذه المسائل ليست من الغيبيات ولا تختلف في بحثها ودراستها عن السياسات الوضعية المعروفة في التجريم والعقاب إلا في جوانب معينة، وهذا الاختلاف حين يدرس دراسة جادة يؤكد قدرة المنهج الإسلامي في السياسة الجنائية على تحقيق العدل والمصلحة الاجتماعية بطريقة أوفى مما تحققه المناهج المطبقة حاليا. وربما لا يعلم الكثيرون أن القواعد العامة في التجريم والعقاب والتي، استقرت في السياسات الجنائية الحديثة أو ما يطلق عليه أساتذة القانون الجنائي "القسم العام في قانون العقوبات" تتماثل مع قواعد التشريع الجنائي الإسلامي ...".

وكتب الأستاذ مختار محمد نوح المحامي وعضو مجلس نقابة المحاميين في أخبار اليوم بتاريخ 24/ 8/ 1985 قائلا: "الحقيقة هي أن الإسلام غني بحل المشكلات جميعا حتى المشكلات التي صنعها الإنسان بنفسه ... وأنه وضع الأساس الأعلى الذي يجب أن تنبثق منه القوانين ... والخطوط العالمية والدستورية التي تهيمن بدورها على كافة القوانين ...".

هذه هي آراء رجال القانون الوضعي المعاصرين، ولقد أسهبنا في استعراضها حتى يتضح للجميع أن الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية ليست دعوة غوغائية يروجها بعض السياسيين أو الصحافيين أو الخطباء أو الكتاب، بل هي حركة علمية أصيلة بدأها رجال القانون والفقه والقضاء في مصر، وما زالوا يغذونها بآرائهم واجتهاداتهم التي رسمت مسار النهضة القانونية والقضائية التي استهدفت إلغاء الامتيازات الأجنبية أولا ثم تطهير القوانين الوضعية من رواسب القوانين المستوردة من الخارج أو المفروضة في عهد الاحتلال، ثم بدأت المرحلة الثانية بنص الدستور على تغيير مصادر التشريع الإسلامية، هذه النهضة التشريعية والحركة العلمية يعرفها جيدا رجال القانون والقضاء، ويدعمونها بحجج علمية وأدلة قانونية مستمدة من أبحاثهم وتجاربهم كأساتذة أو قضاة أو محامين أو علماء، فالزعم الذي تروجه بعض الصحف الاستعمارية ويجد صداه لدى بعض الصحافيين في مصر، الذين يوهمون القراء بأن المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية مجرد نزعة عاطفية تغذيها طائفة محدودة أو جماعات معينة يصفهم البعض بأنهم "أصوليون" كما تفعل الصحافة الأجنبية، ويصفهم آخرون بأنهم "متطرفون" أو "متعصبون" أو "متشددون" مجاراة لأجهزة الأمن والمباحث، هذا الزعم المبتكر في هذه الأيام إنما هو مجرد اختلاف وافتراء للتشويش على جهود الأساتذة والقانونيين والعلماء والفقهاء والقضاة والمحامين الذين هم أصحاب الاختصاص في توجيه نهضتنا القانونية والفقهية، ويتجاهل ما قاموا به من أجل استعادة قوانيننا لأصالتها المستمدة من الشريعة الإسلامية.

هذا الزعم الخاطئ المضلل يتولاه فئة قليلة تهدف إلى تعطيل حركة تطبيق الشريعة الإسلامية بتوجيه الأوساط الحكومة والرأي العام إلى الدخول في معركة جانبية مع سموهم متطرفين.

ومما يؤسف له أن بعض هؤلاء يسيء استخدام صفحات الصحف التي فتحت صدرها للحوار حول تطبيق الشريعة الإسلامية، فيتخذونها منابر لتجريح دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية والتشكيك في صلاحيتها، بل والتشهير بتاريخنا وحضارتنا وأمجادنا العلمية في ميدان التشريع والفقه والقانون، مع أنهم ليسوا من ذوي الاختصاص في علوم القانون أو الفقه أو التشريع، ونحن ندعوهم للرجوع إلى نقطة البداية في مناهج البحث العلمي النزيه والمنطق العقلي السليم، وهي الاستماع إلى رجال القانون والفقه الحاليين والسابقين، لأنهم أهل الاختصاص في مادة البحث وموضوعه، وندعوهم إلى احترام آرائهم بدلا من تجاهلها والتظاهر بتوجيه اللوم إلى آخرين يزعمون تارة أنهم أقلية متطرفة، ويصفونهم تارة أخرى بأنهم متشددون متعصبون. إننا نأمل ألا يغريهم على الاستمرار في هذا المسلك الاستفزازي أن كثيرين من الكتاب قد تعففوا حتى الآن عن الدخول معهم في مهاترات كلامية أو حوار علمي حول موضوع لا اختصاص لهم في البحث فيه بحثا علميا موضوعيا بالمعنى الصحيح، خصوصا بعد أن أثبتت أقوالهم وكتاباتهم ذلك، سامحهم الله وهداهم وإيانا إلى سواء السبيل.

تعالوا إلى كلمة سواء

نداء:

هذا هو عنوان نداء شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق في جريدة الأهرام بتاريخ 14/ 7/ 1985م، وقد ورد فيه ما يلي:

إن هذا الشعب المصري يسوءه أن تهوي المعاول لهدم قيمه وشريعته بل ووحدته، لقد عاش هذا الشعب حينا من الدهر أكثر من عشرة قرون في ظل الإسلام وشريعته عيشة راضية مستقرة مستنيرة، كل يعرف حقه وما عليه من واجبات ... فأعيدوا لهذا الشعب هدوءه النفسي وأوقفوا هذه الحملات على الشريعة وتطبيقها.

إن شيخ الأزهر، يمثل أكبر مؤسسة للعلم والفكر الإسلامي الرسمي في مصر، بل وفي العالمين العربي والإسلامي كله، في الماضي والحاضر. فلا يمكن أن تصدر منه هذه الصرخة ولا هذا التحذير إلا إذا كان صبره قد نفد، وصدره قد ضاق بما نشر في بعض الصحف من مقالات فيها تهجم على مبادئ الإسلام وقيمه وشريعته وتاريخه وهي مقدسات يعتبر نفسه مسئولا عن الذود عنها وحراستها. لذلك دعا وسائل الإعلام التي تورطت في تلك الحملة إلى كلمة سواء، وطلب وقف هذه الحملة الظالمة على الشريعة وتطبيقها. وحذرهم من غضبة عامة الشعب وجماهيره المسلمة المؤمنة بعقيدتها وشريعتها ومقدساتها، كما دعا المسئولين إلى أن يعيدوا لهذا الشعب هدوء النفسي. الذي تهدده هذه الحملة الظالمة.

سبب غضبة شيخ الأزهر

لاحظ شيخ الأزهر أن هذه الحملة الظالمة على شريعة الإسلام ومبادئه وتاريخه جاءت متناقضة مع نتائج الحوار الذي أسفر عن الإجماع على مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية، ذلك أن القارئ الذي تتبع الحوار الدائر في مصر حول تطبيق الشريعة الإسلامية تبين له من هذا الحوار أن مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية هو مبدأ أجمعت عليه الحكومة والشعب في مصر، فمن يتجرأ على تجريح الشريعة أو تحقيرها أو التهجم عليها إنما يهاجم الحكومة والشعب ويستفزهما معا، ويخرج عن إجماع قادة الرأي والفكر في مصر على مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية الذي أصبح حقيقة مؤكدة لا يمكن إنكارها بعد أن نص الدستور صراحة عليه. ولذلك فإن الحملات التي يشكو منها شيخ الأزهر لا يمكن أن يكون مصدرها أي حزب من الأحزاب أو الهيئات أو المؤسسات السياسية المعترف بها، والتي أعلنت بالإجماع تأييدها لمبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية. كما أن هذه الحملات لا تعبر عن رأي الحكومة، ولا تتكلم باسم جماهير الأمة. ومع ذلك وجدت في بعض الصحف والمجلات مجالا لا تستحقه.

إجماع الشعب والحكومة

لم يعد هناك شك في مصر أن الشعب والحكومة قد أجمعا على مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الحوار يدور حول كيفية تطبيق هذا المبدأ وأسلوبه ولقد عبر عن هذا الإجماع الأستاذ أحمد السيوفي في كلمة له بمجلة الشعبالصادرة في 15/ 10/ 1985 بقوله:

"إن تطبيق شرع الله أمل تتوق إليه أعناق الملايين وغاية ترخص أمامها الأرواح، وهو فضلا عن أنه شرع الله الحكيم فإنه مطلب شعبي ملح للشعب المصري ولا سبيل للتفريط فيه أو المساومة عليه، ولم ينعقد إجماع على شيء مثلما انعقد على ضرورة تطبيق شرع الله في مصر بلد الأزهر.

ولم تجمع الأحزاب المصرية جميعها بيمينها ويسارها ووسطها على شيء مثلما أجمعت على ضرورة تطبيق شرع الله، وقد نص على هذا في جميع برامج الأحزاب المصرية ابتداء من الحزب الوطني الديمقراطي ومرورا بحزب التجمع وانتهاء بحزب الأمة.

وفوق كل هذا فإن دستور مصر الذي أقسم كل المسئولين على حمايته وعدم الخروج عليه ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في البلاد، ومعنى عدم تطبيق شرع الله أن نصا من نصوص الدستور قد تعطل. "والجماهير المسلمة التي أجريت عليها عدة استفتاءات من مواقع مسئولة مثل المركز القومي للبحوث وكانت النتائج أن 96% من هذه الجماهير طالبت بتطبيق شرع الله، وكل الاستفتاءات التي أجريت كانت نتائجها مثل هذه النسب، فالجماهير إذن لها مطلب واضح يجب أن يحترم".

الخلاف على أسلوب تطبيق الشريعة لا على المبدأ

لقد كان هذا الإجماع واضحا في الندوات التي نشرتها الصحف المصرية التي فتحت باب الحوار حول تطبيق الشريعة وعقدت لها لقاءات تابعها الناس جميعا بكل اهتمام وتقدير. وعرضت فيها آراء المؤيدين المتحمسين للتطبيق الفوري العاجل والمعارضين الذين يدعون إلى التأني والتدرج. ولكل من الفريقين أدلته وحججه الموضوعية التي تستحق التقدير كلما كانت تستند إلى اعتبارات تتفق مع أصول الشريعة ومبادئها وأهدافها ولا تتعارض مع المبدأ المجمع عليه.

الحوار الموضوعي

ولقد لخص هذا الحوار الموضوعي أحد أساتذة الحقوق في الجامعات المصرية وهو الدكتور محمد علي محجوب في مقاله المنشور بمجلة منار الإسلام في عدد يونيو 1985 بقوله:

"إن الكل يتسابق إلى المنهج الإلهي الذي ارتضاه لحكم البشر. وبجانب هؤلاء وقف فريق يطالب بالتأني والتدرج لأن الشريعة رحمة ووقاية وصيانة ودفاع عن الضعفاء من بطش الأقوياء. وكلا الفريقين محق فيما ذهب إليه، ونحن نرى أنه من الممكن التوفيق بين الاتجاهين لأن تطبيق الشريعة يقتضي عملية إصلاح شاملة تسبق هذا التطبيق، يهيأ فيها المجتمع لاستقبال هذا التشريع العادل من خلال القضاء على كافة مظاهر الغواية والفساد في المجتمع".

إن الصحف التي نظمت ندواتها وفتحت صفحاتها لنشر وقائع هذا الحوار قد أحسنت اختيار من شاركوا فيه من رجال الفكر والقانون والعلماء والفقهاء والقضاة والمستشارين. وقد كان من الواضح أنهم أجمعوا على مبدأ سيادة الشريعة وتطبيقها التزاما بالعقيدة واحتراما لنصوص الدستور الصريحة القاطعة، فكان من الطبيعي أن يكون ما أجمعوا على كيفية التطبيق ووقته ووسيلته، إلا أن أدلتهم وحججهم كانت لا تتعارض مع مبادئ الإسلام وأصوله وأهدافه وتاريخه وتراثه، ولم يدع أحد من دعاة التأني والتدرج أنه يعارض في تطبيق الشريعة أو يشك في صلاحيتها ولكنهم قدموا عللا وأسبابا ترجع إلى ظروف المجتمع المصري، وعبر عن ذلك الأستاذ عمر التلمساني – رحمه الله – وهو من رجال القانون والمحاماة، فضلا عن أنه زعيم الإخوان المسلمين، فقال في كلمة نشرتها له مجلة الوفد الجديد بعددها الصادر في 26/ 9/ 1985م:

"إن المنصف يجب أن يقدر كل ما يحيط بمصر داخليا وخارجيا. فإذا ما طالب بأمر لا بد أن يقدر ما في هذا الأمر من نفع أو ضرر ... إن الكل يسعده أن يرى شرع الله مطبقا في الأرض ... وهذا ما ندعو إليه وعلى مهلن لتعقد الأمور التي تحيط بمصر، والضرورة تبيح المحظور ...".

استغلال حرية الصحافة

لكن القراء لاحظوا – كما لاحظ شيخ الأزهر – أن هناك أقلية شذت عن هذا الإجماع واستغلت حظوتها لدى مراكز القوى في بعض الصحف التي أفسحت لهم في صفحاتها مجالا أكبر بكثير مما يمثلونه في ساحات الفكر أو السياسة أو المجتمع فاستغلها بعضهم للهجوم على الشريعة الإسلامية التي يقدسها الجميع ويدين لها المؤيدون والمعارضون بالاحترام والولاء، ولهذا السبب بادر شيخ الأزهر بتوجيه الدعوة إلى نقابة الصحافيين والمسئولين عن الإعلام والصحافة في مصر إلى التدخل لوقف هذه الحملة الاستفزازية التي تثير عامة الشعب وتهدد أمن البلاد واستقرارها. لأن التهجم على عقائد الإسلام وشرائعه وأحكامه في صحافة دولة إسلامية بحكم دستورها أسلوب مستحدث في العدوان والاستفزاز لم يعهده المسلمون من قبل ولا يمكن أن يقبلوه أو يسكتوا عليه.

حملات المستعمرين والمستشرقين

لقد واجه المسلمون من قبل حملات قاسية من كتابات بعض المستشرقين وأمثالهم ممن يعملون لحساب القوى الاستعمارية الأجنبية، لكنهم كانوا واثقين دائما من أن تلك الحملات هي افتراءات يروجها المستعمرون أعداء الإسلام، لأنهم يعتبرونه أكبر عقبة في سبيل فرض سيطرتهم على بلادنا وتمزيق أوطاننا واستبعاد شعوبنا واستغلال مواردنا. ثم إن تلك الحملات كانت تظهر في كتب أجنبية تنشر بلغات المستعمرين وتوجه لغير المسلمين من مواطني الدول الاستعمارية وعملائهم بقصد إثارتهم وتغذية حملات الكراهية والبغض لديهم لكي يتابعوا خططهم المعادية للشعوب الإسلامية، ولم يتجرأ هؤلاء الأجانب على إرسال مثل هذه الافتراءات إلى صحيفة عربية لتنشرها على قرائها المسلمين، ولو فعلوا ذلك لما قبلت نشرها بل ولمنعهم من ذلك رؤساؤهم من ساسة الاستعمار ومفكريه ولثار عليه جميع القراء المسلمين.

وأنا واثق أن بعض الذين شاركوا في الحملات الشاذة التي شكا منها شيخ الأزهر سوف يكونون ممن يردون على حملا الأعداء على الإسلام. فعليهم الآن أن يعذرونا إذا ثرنا على الأسلوب الذي لجئوا إليه، حتى أن شيخ الأزهر وجد من واجبه أن يردهم إلى الصواب، كما أن عليهم ألا يدهشوا لتأييد كثيرين له في استنكاره وتحذيره، وأن يعتبروا أن هذا هو رد الفعل الطبيعي مثل هذه الحملة الجائزة.

إلا إذا كانوا فعلا قد قصدوا أو تعمدوا إثارة المؤمنين الصادقين واستفزاز أولئك الذين لا يمكن أن يسكتوا على مثل ما صدر منهم لأنه تجاوز كل الحدود التي كان يمكن أن يتوقعها مسلم يعيش في بلد مسلم، ولهذا كان لا بد من تذكير المسئولين عن نقابة الصحافة والمسئولين عن الإعلام في مصر بأن من واجبهم أن يوقفوا هذا الأسلوب الشاذ الذي يستفز عامة الناس ويوقع بينهم وبين حكامهم عداوة وخصومة لا مبرر لها، وهذا ما قصده شيخ الأزهر بندائه الموجه للمسئولين.

إن النداء الذي وجهه الإمام الأكبر على صفحات الأهرام، يذكرنا بالمواقف التاريخية التي سجلها التاريخ لكبار العلماء وشيوخ الأزهر، ولذلك فإنه لا يمكن أن يمر دون أن تكون له آثار بعيدة المدى، لأن عباراته ذات معان وإشارات عميقة تستحق من المسئولين ومن المختصين أن يقفوا عندها طويلا، وأن يوضحوا مواقفهم على ضوئها حتى يطمئن العلماء وأهل الرأي الذين يتطلع الرأي العام وجمهور الأمة إلى قيادتهم، والعبارة الأخيرة في هذا النداء تهمنا بصفة خاصة، لأنها تشير إلى وجود صنفين ممن يهاجمون الشريعة حين يقول:

"إن الطعون التي وجهت إلى الشريعة، والتي سالت بها أنهر الصحف والمجلات منذ ثار فيها الحوار حول تطبيق الشريعة الإسلامية قد تكون صدرت عن سوء قصد، كما قد تكون صدرت عن قصور في الفهم والتحصيل، وكلا الأمرين معيب، وقد قيل قديما الناس أعداء لما جهلوا".

إننا لا نريد الآن أن نتعقب الحملات التي أشار إليها الإمام الأكبر من أجل كشف حقيقة الذين يقومون بهذه الحملات عن (سوء قصد) كما ورد في نداء شيخ الأزهر وفضح أهدافهم وبواعثهم، ولكننا نحاول إظهار ما وقعوا فيه من قصور في الفهم، آملين أن يصححوا موقفهم حتى لا ينخدع الجمهور بهم ولا يصدق ما يريدون أن يوهمونا به أنهم يمثلون اتجاهات فكرية عصرية أو وطنية، ويستطيع الرأي العام أن يكشف من بينهم من يعملون لصالح جهات أجنبية أو تيارات فكرية معادية لأمتنا وحكومتنا.

ومن المؤكد أنه ما دام هناك احتمال جدي في أن يكون التهجم على الشريعة أو الطعن في سيادتها أو أحكامها راجعا إلى قصور في الفهم والتحصيل. كما قال شيخ الأزهر، فإنه لا داعي لأن يتهم المتهجمون على الشريعة بسوء القصد لأن هذا الاتهام لا يجوز أن يوجه إلا لمن أبدوا انتقاداتهم وهم يعلمون بعدم صحتها.

إن مهمة تعريف هؤلاء المقصرين في الفهم والتحصيل وإيضاح الحقائق لهم يقع عبئها في الأصل على عاتق العلماء والمتخصصين من رجال الفقه والقانون فهم المسئولون عن التعريف بمبادئ الشريعة وأصولها وأحكامها بكل وضوح وأمانة للعامة، وللخاصة أيضا، حتى لا يقع البعض فريسة لآراء خاطئة أو معلومات فاسدة أو بيانات ناقصة يروجها أعداء الإسلام، وتمتلئ بها صفحات الكتب والنشرات المسمومة التي تروجها دور النشر ومراكز الإعلام المعادية للإسلام، فتثير الشكوك لدى قرائها حول بعض الأحكام الأصولية أو الفرعية في شريعتنا.

إننا نؤيد الخطة الحكيمة التي يتبعها الدعاة العقلاء الذين لا يسارعون إلى اتهام صحفي أو كاتب بسوء القصد أو فساد في العقيدة إلا أن يقوموا هم من جانبهم بواجبهم في عرض الفكر الإسلامي في الموضوع الذي التبس عليه الأمر فيه عرضا واضحا هادئا مقنعا، يقوم على أدلة علمية ومنطقية موضوعية دون الاستعانة بالحماس العاطفي في غير موضوعه، ولا شك أن ذلك يكون ممكنا فقط لمن يتوفر لديهم إلمام بالموضوع مع المقدرة العلمية والمعرفة الكافية لكي يعرضوا المبادئ أو الأحكام التي يدافعون عنها عرضا علميا، وأن يكون لديهم إلى جانب ذلك الشجاعة الكافية ليقولوا كلمة الحق دون خوف من سخط الساخطين أو غضب ذوي المصالح أو ذوي النفوذ، وهذه هي أول صفات العلماء الصادقين، وقد حفل تاريخ الإسلام بكثير من المواقف البطولية الشجاعة لعلماء الإسلام التي نعتز بها، وإني أعتقد أن بيان شيخ الأزهر يعتبر قدوة ونموذجا يحتذى ويضعه في مستوى أسلافه المشهود لهم من شيوخ الأزهر وعلمائه ونحن نسجله له بمداد الفخر.

ولقد تبعنا ما نشر في الصحف عن جلسات الحوار التي نظمتها جريدة الأهرام، ونشرت ملخصا لها على صفحاتها حول تطبيق الشريعة الإسلامية، ولاحظنا أنه عندما تطرق النقاش إلى مبادئ الإسلام في سياسة الحكم ونظام الدولة قنع كثيرون بالإشارة إلى أوجه التوافق بين مبادئ الدستور المصري ومبادئ الشريعة لأن الأسئلة التي وجهت لهم كانت تدور حول رأيهم في النظام القائم، وقد يكون في ذلك تلميح إلى أن المقصود هو معرفة مدى تأييدهم للحكومة أو معارضتهم لها، أو لعل هذا هو ما فهمه بعض من سارعوا إلى التعليقات العامة دون أن يتعرضوا لما توفره الشريعة من مبادئ وأصول كافية لإصلاح ما يشكو منه الناس من عيوب بعض أجهزة الحكومة أو مؤسسات الدولة. لقد كنا نتوقع على الأقل أن يشيروا إلى مبدأ هام هو مبدأ فصل السلطات الذي يعتبر حجر الزاوية في نظام الحكم الإسلامي والذي يكفل استقلال التشريع الإسلامية الأساسية وهي القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد، التي لا تسمح الشريعة للحكام بالتدخل فيها.

إننا لا نستطيع أن نلوم الذين شاركوا في الحوار على هذا القصور لأن ما نشرته الصحف هو ملخصات، وليس لدينا دليل على أن ما نشر كان النص الكامل لما قاله كل المتحدثين الذين شاركوا في الحوار. إن السادة العلماء ورجال القانون الذين حظوا بالمشاركة في ذلك الحوار يعرفون جيدا مبادئ الشريعة الخاصة باستقلال التشريع عن الدولة استقلالا كاملا، ومبدأ الفصل الكامل بين مصادر التشريع التي يرجع فيها إلى العلماء المجتهدين وبين السلطات السياسية في الحكومة والدولة. إن عامة الناس ينتظرون من علمائنا أن يبينوا لهم ما هي الجهة التي لها حق الاجتهاد أو التشريع في الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية لا تعترف للحكومة أو أحد أجهزتها بالحق في إصدار تشريع يخالف أحكامها، وأن الدولة لا تتولى سلطة التشريع دون العلماء والمجتهدين ولا تحتكرها كما هو الحال في الدساتير العصرية، إن هذا التوضيح ضروري حتى لا يتركوا فرصة للجاهلين أو المغرضين للزعم بأن الشريعة الإسلامية لم تعرف مبدأ الفصل بين السلطات الذي عرفته أوروبا فقط في العصر الحديث، في حين أن الجميع يعلمون جيدا أن الشريعة الإسلامية سبقت أوروبا بعشرة قرون في تقرير هذا المبدأ ...

تساؤل ورجاء:

أخيرا فإن الذين يؤيدون شيخ الأزهر في ندائه من حقهم كذلك أن يتساءلوا عن مصدر تلك الحملة الشاذة التي يشكو منها شيخ الأزهر – ويبحثوا عمن يوجهها ويقف وراءها – ومن حقهم أن يعرفوا أهدافها القريبة والبعيدة وأن يفندوا ما اشتملت عليه من مزاعم، ولا يكون ذلك إلا بمناقشة موضوعية لكل ما تضمنه تلك الحملة من ادعاءات وافتراءات، لذلك فنحن ندعو الصحف التي نشرت هذه الكتابات التي شكا منها شيخ الأزهر إلى أن تفسح في صفحاتها لرجال العلم والفكر – ورجال القانون بصفة خاصة – الذين يتقدمون لها بالرد عليها، بل إننا نرجوها أن تدعو من تختاره منهم لكي يتولوا هذا الرد بصورة منطقية علمية هادئة وبذلك يكونون قد استجابوا لنداء شيخ الأزهر، ونزعوا من صدور عامة الشعب شكوكا وظنونا بأنهم يؤيدون هذه الأفكار أو يروجون لها أو يظاهرون المروجين لها.

الشريعة الإسلامية والأصالة الفكرية

الأصول الأوروبية

إن كثيرا من الأوروبيين عندما يتكلمون عن تطور أنظمتهم الاجتماعية والسياسية والقانونية وعندما يدرسون مقومات حضارتهم يبدءون بعلوم اليونان والرومان ثم العصور الوسطى المسيحية والإقطاعية، وينتهون بعصر النهضة الصناعية والفكرية التي بدأت في القرن السابع عشر الميلادي، وما تلاه من عصور الاستعمار والسيطرة الأوروبية العالمية، ويصفون حضارتهم بأنها مسيحية استمدت جذورها وأصولها من الحضارتين اليونانية والرومانية القديمتين، ولم يعيرهم أحد بأن اعتزازهم بتلك الأصول يعتبر رجعية أو جمودا أو تعصبا.

الأصول الإسلامية

ولكن في بلادنا – نظرا لواقع الضعف والتخلف الحالي الذي خلفه لنا الاحتلال والسيطرة الأجنبية – ما زال لدينا طائفة أصيبت بمركب النقص ولذلك تفزع من كل دعوة إلى بناء نهضتنا على الأصول والمبادئ والقيم الإسلامية، ويسارعون إلى اتهام الأصوليين بأنهم متطرفون أو متعصبون، وهي نفس الاتهامات التي تغدقها علينا صحافة الاستعمار ودعاته وعملاؤه في الثقافة والفن والسياسة. وقد كشف الحوار الذي دار في مصر حول تطبيق الشريعة الإسلامية أن هذه الطائفة لم تكتف بالتشهير بالأصوليين الإسلاميين، بل تعدوا ذلك إلى التهجم على الإسلام وشريعته حتى اضطر شيخ الأزهر إلى إصدار بيان تاريخي نشرته الأهرام في 14/ 7/ 1985 يحذر فيه من هذا الاتجاه.

النظام العالمي الجديد

إن ظاهرة المد الديني ليست خاصة بمصر ولا بالعالم الإسلامي، بل إنها تمثل أمل كثير من الشعوب التي كشفت مساوئ الفلسفات المادية والإلحادية ولجأت إلى العقائد الدينية لتستمد منها الطاقة الضرورية لكفاحها من أجل مستقبل أفضل، وجميع الحكومات والأحزاب غير الشيوعية تؤيدها وتشجعها، ولا تخشاها إلا الحكومات الإلحادية والشيوعية، ذلك أن جميع شعوب العالم تشعر بالأخطار التي تهدد الحضارة المادية العصرية بالانهيار ويسعى مفكروها وعلماؤها للتعاون من أجل إنشاء حضارة أكثر إنسانية تقوم على القضاء على سيطرة الدول الكبرى والمذاهب المادية على العالم واحتكارها للثقافة العالمية والاقتصاد العالمي وإتاحة الفرصة لجميع الأمم للمساهمة – على قدم المساواة – في بناء نظام عالمي جديد تساهم فيه كل منها في بناء الحضارة الإنسانية المشتركة التي تتسع للحضارات والثقافات المتنوعة المتعددة الأصيلة التي تبنيها الأمم على أساس معتقداتها وتراثها ودورها التاريخي لتساهم بها في تقدم الإنسانية وتطورها.

الفكر الإنساني في الغرب

هذا هو التيار الإنساني الجديد الذي يمثله عدد كبير من المفكرين والباحثين الغربيين الذين يدعون لإعادة النظر في النظريات الغربية الموروثة عن عهد الاستعمار. إن هؤلاء المفكرين يعترفون بمنجزات الحضارات الشرقية ودورها في بناء المدنية الحديثة ويستشهدون على ذلك بالكشوف الأثرية التي دل على ما وصلت إليه تلك الحضارات من تقدم في جميع مظاهر المدنية، كما يستشهدون بالبحوث التاريخية التي أثبتت مساهمة الفلسفات والعقائد الشرقية في الفكرين اليوناني والروماني، والمساهمة الكبرى للعلوم العربية والفكر الإسلامي في إخراج أوروبا من ظلمات العصور الوسطى، وبعث النهضة الأوروبية في جميع مجالات العلم والمعرفة فضلا عن أثرها في الكشوف الجغرافية والتطورين الصناعي والاقتصادي.

الخطر المادي على الحضارة

إن الخطر الذي يهدد مستقبل البشرية نتيجة لتغلب النزعة المادية في الفكر والفلسفة الأوروبية والأمريكية، وسيطرة الآلة على الاقتصاد والسياسة، جعل هؤلاء المفكرين الغربيين الإنسانيين يعتقدون أنه لا يمكن حماية الحضارة من خطر الانهيار إلا إذا قامت فيها بدور أكبر جميع الشعوب الآسيوية والأفريقية ذات المدنيات الكبرى في العالم، سواء في الصين أو الهند أو فارس أو في مصر وبابل وغيرها من الحضارات القديمة. كما يعترفون بأن حضارة الإسلام كانت رائدة للمدنية الحديثة لأنها استوعبت ثمار الحضارات الشرقية القديمة ومزجت بينها وبين علوم اليونان والرومان تحت مظلة العقيدة الإسلامية ثم نقلت خلاصتها لأوروبا المسيحية التي استفادت منها في حركة الإصلاح الديني أولا ثم في بناء نهضتها العلمية ثانيا.

دور الإسلام والحضارات الشرقية

إن بحوث هؤلاء العلماء تبرز الدور الكبير الذي قامت به منجزات تلك الحضارات، وعلى رأسها حضارة الإسلام في بناء الحضارة الحديثة وتدعو إلى إعادة النظر في الأفكار الاستعمارية المبنية على الغرور الأوروبي والجشع الاستعماري الذي قامت عليه عنصرية الرجل الأبيض ومطامعه السياسية وسياسته التوسعية وسيطرته العسكرية. وسعى كثير منهم إلى الاستعانة في بحوثهم بأبناء الشعوب الناهضة في العالم الثالث الذين يعتزون بأصالة تاريخهم وتراث أممهم، فساهم هؤلاء العلماء الشرقيون بأصالتهم واعتزازهم بحضارتهم في الدراسات التي تكشف عن مزايا الأنظمة والمبادئ التي قامت عليها ثقافة بلادهم وحضارتها ولفتوا نظر العالم إلى ما قدمته أممهم من عوامل التقدم في بناء المدنية المعاصرة أولا، وإلى ما يمكن أن تساهم به تلك المبادئ والقيم الشرقية الأصيلة في دفع عجلة الرقي الإنساني وإنقاذ الحضارة الحديثة من خطر الانهيار الذي يؤدي إليه إسرافها في الإنتاج الآلي والفكر المادي وما يتبعه من انحلال خلقي وفوضى فكرية.

تياران في الفكر الغربي

يمكن القول إذن إن الفكر الغربي الآن يتنازعه تياران متميزان، أحدهما استعماري، يمثل رواسب التعصب والأنانية والغرور الأوروبي، ويسعى إلى استمرار السيطرة العسكرية العالمية لدول أوروبا وأمريكا، ويخضع خططها لاستغلال شعوب العالم الثالث، لأنه يعتبرها شعوبا يجب أن تقنع بالتبعية السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية للدول الكبرى المتقدمة.

الفكر الاستعماري وأتباعه

هذا التيار الفكري الاستعماري يعتبر المدنية الحديثة أوروبية بحتة يتوقف مصيرها على استمرار سيطرة أوروبا وأمريكا وهيمنتهما على العالم. ولتنفيذ خطط هذا التيار الفكري الاستعماري يعمل أصحابه على أن يستعينوا ببطانة وأعوان من أبناء شعوب العالم الثالث الذين يستسلمون لنظرياتهم وأفكارهم ويدعون شعوبهم إلى الاستكانة والاستسلام لخطط الاستعمار وسيطرته والسير في طريق التقليد الأعمى والتبعية للدول الكبرى بحجة أنها أكثر تقدما ورقيا. هذه الطائفة تضم المصابين بمركب النقص الذين يعتقدون بأن شعوب العالم الثالث لا حق لها في الطموح للقيام بأي دور إيجابي في الحاضر أو المستقبل كأنداد للأوروبيين والأمريكيين في تقرير مصير العالم وبناء مستقبل الإنسانية. إنهم قانعون بما وصلهم من رواسب الفكر الاستعماري الأوروبي الذي ينسب كل المزايا للشعوب الأوروبية. إن بعض هؤلاء يستفيدون من تبعيتهم للفكر والنفوذ الاستعماري فيظهرون على سطح بعض مجتمعات شعوب العالم الثالث، ويحتلون بعض مراكز القوى في بلادهم ليقوموا بتقديم الأفكار الاستعمارية على أنها أفكارهم ليخدعوا بها شعوبهم، في حين أن ما عندهم هو فتات موائد الأفكار الاستعمارية العنصرية التي ترددها وسائل الإعلام للقوى الأجنبية وكتب الغزو الفكري ومجلاته ودوائر معارفه وآدابه وقصصه.

الأصالة الفكرية

إلى جانب ذلك التيار الفكري الاستعماري الذي أشرنا إليه يوجد في الفكر الغربي تيار إنساني أصيل يعترف بأن مستقبل الحضارة ملك للإنسانية جميعا، وأن تقدمها وتطورها يتوقف على مساهمة جميع الأمم في بناء الحضارة الإنسانية في المستقبل كما ساهمت في الماضي، ويرى أنه لا بد من إفساح المجال لأبناء الأمم المتخلفة الناهضة للاعتزاز بشخصيتهم والدفاع عن أصالتهم والقيام بدورهم كأنداد وشركاء في بناء الحضارة الإنسانية.

ويرون أن على الأصوليين من أبناء الشعوب الشرقية أن يقوموا بالدور الأكبر في البحوث التي تكشف عن أصالة مجتمعاتهم وسمو المبادئ والنظم التي أنتجتها عبقرية شعوبهم ويفتحون أمامهم باب العمل في مراكز البحوث الخاصة بالحضارات الشرقية وأقسام الجامعات للدراسات الشرقية وعلى الأخص منها دراسات الشرق الأوسط التي تقوم بنشر البحوث العلمية التي تبرز أهمية الدور الذي قامت به حضارات شعوب آسيا وأفريقيا وفي مقدمتها الحضارة العربية الإسلامية في تقدم البشرية وبناء أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

إن مصر خاصة لها الحق في أن تعتز بما قام به كثير من أبنائها وأبناء الشعوب الإسلامية الشقيقة، وخاصة المغتربين والمهاجرين منهم في البحوث الخاصة بالإسلام والشريعة والحضارة الإسلامية تشهد بها الكتب والرسائل التي تسجل وتبرز للعالم ما أغفله الأوروبيون من تراث حضارتنا ومقوماتها وقيمها الأصيلة التي نعتز بها ونقدمها للعالم اليوم لأنه في أشد الحاجة إليها لبناء مستقبل أفضل للحضارة الإنسانية.

إن مستقبل البشرية يتوقف على التعاون العلمي والثقافي بين أصحاب الاتجاه الإنساني في الغرب وبين الأصوليين من أبناء الأمم الشرقية الذين يرون أن من واجبهم أن يبنوا نهضتهم التي قامت عليها حضارات بلادهم الأصيلة، وفي مقدمة هؤلاء "الأصوليين" دعاة النهضة والأصالة الإسلامية.

الأصوليون

هؤلاء الأصوليون من أبناء أمتنا هم أقدر الناس على التعاون مع تيار الفكر الإنساني الأصيل ويمثله في الغرب بعض المنصفين من علماء أوروبا وأمريكا، الذين لا ينكرون على المسلمين ولا على الشرقيين عامة حقهم في الاعتزاز بمقومات حضارتهم ومزايا تراثهم الفكري والحضاري، بل يعتبرون هذه الأصالة الفكرية عاملا مهما في تقدم الحضارة الإنسانية وتطورها نحو مستقبل أفضل، ويعتبرون التعاون بين الأصوليين من مختلف الأمم والقارات ضروريا للتقدم العلمي والحضاري الذي يتوقف عليه مستقبل الشرق والغرب معا، ومستقبل الجنس البشري بصفة عامة، وليكون هذا التعاون إيجابيا مثمرا يجب أن يقوم على الاحترام المتبادل، وعلى تنمية المقومات الذاتية والأصالة الحضارية لجميع الأمم، لا على السيطرة من ناحية، والتبعية الذليلة السلبية التي يدعو لها تيار الفكر الاستعماري ومن يتحدثون باسمه ويرددون شعاراته من أبناء شعوبنا من ناحية أخرى. إن هؤلاء إنما يتولون حراسة واقع التخلف وتثبيت التبعية التي فرضها الفكر الاستعماري على شعوبنا ويهاجمون من يقاومها من "الأصوليين".

التبعية الفكرية

إن "الأصوليين" من أبناء الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم الشرقية عندما يعارضون سيطرة الفكر الغربي، إنما يوجهون معارضتهم للتبعية للفكر الاستعماري الذي يستغل الغزو الثقافي الأجنبي للقضاء على المقومات الذاتية للحضارة الإسلامية والحضارات الشرقية الأخرى وطمس معالم شخصية أمتنا لأنه يعتبر وجودها عقبة في سبيل استمرار السيطرة على مصير العالم وشعوبه، ويوجه أتباعه في البلاد الناشئة لمقاومة كفاح شعوبنا لاسترداد أصالتها واستقلالها الفكري والتشهير بالأصوليين واتهامهم بالرجعية أو التطرف أو الجمود لمجرد أنهم لا يستسلمون لمستوردات الفكر الاستعماري كما يدعون شعوبهم للتحرر منها والاعتزاز بأصالة فكرهم وحضارتهم وتراثهم وشريعتهم.

إن أنصار التبعية الفكرية في بعض البلاد يستغلون الأخطار الخارجية التي تحيط بدولنا، والصراعات الحزبية الداخلية في بعض البلاد، ومراكز الحظوة والقوة التي يحتلونها في بعض المؤسسات الإعلامية أو الثقافية ليوهموا الناس بأنهم يتحدثون باسم الحكام أو باسم بعض ذوي السلطة والنفوذ.

أثرها في الحوار

ولقد كان هذا واضحا لمن يتتبعون الحوار الذي دار في مصر حول تطبيق الشريعة الإسلامية، فقد لاحظنا أن الأسئلة كانت تدور حول نظام الحكم القائم في مصر، كأن المقصود هو معرفة رأي المتحدثين فيه ومدى تأييدهم له بدلا من وجيه أسئلة موضوعية حول الأصول الإسلامية بشأن نظام الحكومة الإسلامية، ونتج عن ذلك أن اكتفى كثيرون بتعليقات سطحية وعبارات عامة دون أن يتطرقوا إلى جوهر نظام الحكم الإسلامي. ولو كان الحوار علميا موضوعيا لظهر منه أن الباحثين في القانون المقارن بصفة عامة، ولو كان الحوار علميا موضوعيا لظهر منه أن الباحثين في القانون بصفة عامة، والذين درسوا نظام الحكم الإسلامي بصفة خاصة سواء في مصر أو في الخارج مجمعون على أن مبدأ الفصل بين السلطات هو حجر الزاوية في نظام الحكم الإسلامي سواء من الناحية النظرية أو الناحية العملية وهو أهم أصل من أصول نظام الحكم في الإسلام.

كتاب الخلافة

وأكبر شاهد على ذلك هو كتاب "الخلافة أو الحكم الإسلامي" للمرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري وهو بحث تفرغ لإعداده في أعز سنوات شبابه أثناء دراسته في فرنسا بمعهد القانون المقارن بجامعة ليون تحت إشراف أستاذه البروفيسور "إدوارد لامبير" الذي كان يعتز بأنه كان عميدا للمدارسة الخديوية للحقوق بالقاهرة (التي أصبحت فيما بعد كلية الحقوق بجامعة القاهرة).

لقد استفاد الأستاذ لامبير من إقامته بمصر وعمله بها للاطلاع على ما يتصل بالفقه الإسلامي والشريعة، فحرص بعد عودته لفرنسا على أن يوجه تلاميذه المصريين الذين يلتحقون بمعهد القانون المقارن بجامعة ليون إلى البحوث المتعلقة بمبادئ الشريعة الإسلامية ونظرياتها التي يجهلها الفقه القانوني الغربي الحديث، وكان يعتبر هذه البحوث من أهم ما أنتجه معهده للثقافة القانونية الأوروبية عامة والفرنسية بصفة خاصة، وفي كتاب الخلافة الذي أشرنا إليه، كتب له مقدمة أبدى فيها اعتزازه بمؤلفات الباحثين المسلمين وخاصة الدكتور محمد فتحي صاحب كتاب "نظرية التعسف في استعمال الحق في الشريعة الإسلامية" الذي كشف للعالم الغربي أن هذه النظرية التي لم تعرفها القوانين الأوروبية إلا في العصور الحديثة وجدت في الشريعة الإسلامية قبل ذلك بعدة قرون، ولنفس السبب أعلن هذا الأستاذ الفرنسي اعتزازه بكتاب السنهوري عن الخلافة، لأنه كشف عن أن مبدأ الفصل بين السلطات والسيادة الشعبية – الذي لم تعرفه أوروبا إلا في العصر الحديث – هما من أصول الحكم الإسلامي في الشريعة الإسلامية قبل أن يعرفهما الفقه الأوروبي بعدة قرون.

السنهوري وفصل السلطات

لقد خصص المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري فصلا تمهيديا في كتابه تحت عنوان "الفصل بين السلطات والنظام النيابي في الحكومة الإسلامية – ومبدأ الإجماع". فنرجو أن يراجعه كل من يهتم بهذا الموضوع ليجد فيه الرأي القانوني الموضوعي، في كتاب نشرته أرقى معاهد القانون المقارن في أوروبا التابع لجامعة ليون الفرنسية عام 1926م، ونرجو أن يعطي هذا الرأي اهتماما خاصا لأن الأستاذ "إدوار لامبير" عميد المعهد أعلن في مقدمته اعتزازه وفخره به، ولم يناقضه أحد من العلماء والباحثين حتى اليوم.

وإذا كان الذين شاركوا في الحوار حول الشريعة لم يصرحوا بهذا الرأي اهتماما خاصا لأن الأستاذ "إدوار لامبير" عميد المعهد أعلن في مقدمته أعلن في مقدمته اعتزازه وفخره به، ولم يناقضه أحد من العلماء والباحثين حتى اليوم.

وإذا كان الذين شاركوا في الحوار حول الشريعة لم يصرحوا بهذا الرأي القانوني الموضوعي، في كتاب نشرته أرقى معاهد القانون المقارن في أوروبا التابع لجامعة ليون الفرنسية عام 1926م، ونرجو أن يعطي هذا الرأي اهتماما خاصا لأن الأستاذ "إدوار لامبير" عميد المعهد أعلن في مقدمته اعتزازه وفخره به، ولم يناقضه أحد من العلماء والباحثين حتى اليوم.

وإذا كان الذين شاركوا في الحوار حول الشريعة لم يصرحوا بهذا الرأي فإن لديهم الفرصة لبيان وجهة نظرهم. فربما كان الغموض الذي ترتب على سكوتهم هو الذي أدى إلى أننا فوجئنا بكاتب مصري ينشر في صحيفة الأهرام بعددها الصادر بتاريخ 23/ 9/ 1985م اعتراضا على ما قاله الأستاذ خالد محمد خالد من أن الشورى التي يقوم عليها الإسلام تشمل جميع مزايا الديمقراطية، بما في ذلك فصل السلطات، فكان من بين اعتراضات الدكتور فؤاد زكريا استنكار هذا القول بحجة أن "هذا القول مستحيل لسبب بسيط هو أن مبدأ فصل السلطات لم يعرف إلا في العصر الحديث".

ليسمح لي الكاتب الفاضل أن يراجع مؤلف السنهورري ويكتب لنا برأيه فيما ورد في ذلك الكتاب، من أن مبدأ الفصل بين السلطات عرفته الشريعة الإسلامية قبل أوروبا بعدة قرون، إننا واثقون من أنه بعد ذلك سيشاركنا في الاعتزاز بشريعتنا بأصولها السامية ومقاومة كل خروج عن هذه الأصول أو انحراف عنها.

الشريعة الإسلامية والأصالة العلمية

قصة كتاب الخلافة الذي ألفه المرحوم عبد الرزاق السنهوري تستحق أن تكون نموذجا للأسلوب العلمي الأصيل في مناقشة الموضوعات الخاصة بالشريعة الإسلامية.

في عام 1925 ميلادية، وهو في العشرينيات من عمره، يدرس الحقوق حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ليون في فرنسا، وكانت رسالته التي حصلت على جائزة أحسن الرسائل من تلك الجامعة، عن موضوع خاص بالقانون الإنجليزي حازت إعجاب جميع أساتذة القانون المقارن وتقديرهم، ويكفي أن نذكر أن الأستاذ لامبير قال عنها ما يلي:

"لقد نشر السنهورري في عام 1925 ضمن مجموعة مكتبة معهد القانون المقارن بحثا ممتازا حول "القيود التعاقدية على حرية العمل في القضاء الإنجليزي". وهو البحث الذي منحته كلية الحقوق بجامعة ليون جائزة أحسن رسائل الدكتوراه.

ويكفي أن خبيرا مشهورا ذا نظر ثاقب هو الأستاذ "جورج كورنيل". قد أثنى عليه في مجلة جامعة بروكسل ووصفه بأنه من أحسن ركائز مجموعة معهد القانون المقارن في جامعتنا.

"لقد قام السنهورري في ذلك البحث بفحص القضاء المدني والتجاري بأسلوب علمي دقيق في إطار تخلله بحوث اجتماعية قانونية حول دور ومزايا كل من القاعدة القانونية و (المعيار القضائي) رغم أنني حاول صرفه عن هذا الأسلوب لأنني كنت أعتقد أنه يتجاوز مقدرة باحث مبتدئ مهما يكن نبوغه. ولكنني الآن أعترف بأنني أخطأت في اعتراضي. لأن هذا الأسلوب المبتكر الذي سار عليه السنهورري في معالجة ذلك الموضوع البكر من موضوعات العلوم الاجتماعية هو الذي لفت إليه نظر الأستاذ الكبير (موريس هوريو) وجعله يفرض نفسه عليه، حتى أنه ناقش وجهة نظر السنهورري حول القاعدة القانونية والمعيار القضائي مناقشة تنم عن تعاطف وتقدير كبير، وذلك في إحدى مقالاته القيمة المنشورة في المجلة الفصلية للقانون المدني. ولقد جعل (هوريو) من هذه المناقشة حجر الزاوية في بناء نظريته حول النظام القانوني".

إنني لا يمكن أن أتوقع لباحث مبتدئ نجاحا أكبر مما حققه السنهورري، إذ اختار بحثه أستاذ في مستوى. "البروفيسور هوريو" لكي يكون نقطة انطلاق نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع التشريعي.

ولكنه أثناء إعداد هذه الرسالة كان يتابع أنباء وطنه الإسلامي الكبير، وحز في نفسه ما آل إليه العالم الإسلامي من ضياع، ووقوع أقطاره، واحدا بعد الآخر، فريسة لاحتلال الدول الاستعمارية الأوروبية عقب انتصارها على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبدأت تتقاسم السيطرة عليها بناء على اتفاقات سرية مثل "معاهدة سايكس بيكو" المشهورة، التي مكنت فرنسا من احتلال سوريا ولبنان، ومكنت بريطانيا من افتراس فلسطين لتسليمها للصهيونية تنفيذا لوعد بلفور، فضلا عن سيطرتها على الأردن والعراق ومصر، مقابل السيطرة الفرنسية على الأقطار العربية في شمال أفريقية، (الجزائر وتونس والمغرب) ومقابل استعمار إيطاليا لليبيا وأريتريا، هذا فضلا عن توزيع أقطار العالم الإسلامي غير العربي على مناطق النفوذ المختلفة، حتى أن اليونان حصلت هي الأخرى على نصيب كبير من السيطرة على شواطئ الدردنيل وبحر إيجه الشرقية وقبرص، ولكنها اضطرت للتراجع إلى حد كبير أمام المقاومة العنيدة للشعب التركي والعسكريين الأتراك.

هذا الواقع الأليم أثار الطالب عبد الرزاق السنهوري الذي كان يعيش في فرنسا ليتم دراسته وكان يؤلمه أن يشهد ابتهاج شعبها وحكومتها بما حصلت عليه من مغانم بتحقيق أحلامها في السيطرة على أقطار المشرق الأدنى (سوريا ولبنان) فضلا عن أقطار المغرب في شمال إفريقية، وذلك على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية.

فماذا فعل الطالب العصامي الذي أتم دراسته وتأهل لكي يعود إلى وطنه معززا مكرما كأستاذ في الجامعة المصرية الناشئة يحمل تهاني أساتذته وشهاداتهم له بالنبوغ والعبقرية؟ إنه أصر على ألا يعود إلى بلاده إلا بعد أن يستأنف بحوثه في القانون المقارن في فرنسا ذاتها ليقدم لجامعاتها وأساتذتها وعلمائها بحثا عن نظرية "الخلافة" الإسلامية وتاريخها وتطورها ومستقبلها.

وظاهر من حجم المؤلف الذي أعده السنهورري عن الخلافة والذي يتكون من ستمائة وخمس وعشرين صفحة – ومن قائمة المراجع العربية والفرنسية والإنجليزية التي تشير إليها الهوامش المطولة في ذلك الكتاب – أن السنهورري قد بدأ في إعداده في نفس الوقت الذي كان يعد فيه رسالته الأولى عن القانون الإنجليزي، وأنه بلا شك أعطى له من جهده ووقته أكثر مما أعطى لرسالة الدكتوراه التي ابتعث لإعدادها، وأنه سار في عمله على حذر خوفا من ردود فعل الفرنسيين، ولذلك لم يخاطر بتقديم هذا البحث للحصول على الدكتوراه مرة ثانية، ولم يعلن عزمه على تقديم بحث عن الخلافة إلا بعد أن حصل فعلا على شهادة الدكتوراه الأولى في موضوع خاص بالقانون والقضاء الإنجليزي، أي أنه بعيد جدا عن القانون الإسلامي، وبعد أن اطمأن إلى حصوله على الدكتوراه الأولى وتفوقه فيها وحصوله على جائزة أحسن الرسائل، أعلن اختياره لموضوع الخلافة ليقدم فيه رسالة ثانية أهم من الأولى وأعمق أثرا.

إنه أقدم على ذلك ليثبت للعالم كله أن النظام الإسلامي الذي قامت عليه الخلافة ليس قائما على القوة السياسية والعسكرية، ولكنه مجموعة مبادئ تشريعية وأصول اجتماعية ترتكز على عقيدة خالدة لا يمكن أن تمحوها الهزيمة العسكرية أو يضعفها الفشل السياسي، وأن العقيدة والشريعة التي قامت عليها هذه الأمة وحضارتها التاريخية ووحدتها قادرة على النهوض بها وبناء وحدتها ونظامها السياسي على أسس إسلامية تناسب روح العصر من جديد.

إنه وهو شاب عصامي يقاسي الغربة والوحدة في فرنسا التي تجتر ما حصلت عليه من مغانم استعمارية من أسلاب الخلافة الإسلامية، يسخر عبقريته ونبوغه في وضع خطة لإعادة بناء الخلافة على أسس جديدة كمنظمة دولية في المستقبل، ويسجل هذه الخطة العبقرية في رسالة ثانية يقدمها إلى معهد القانون المقارن في نفس الجامعة الفرنسية التي منحته قبل ذلك بعام واحد شهادة الدكتوراه، وتحمل هذه الرسالة الثانية اسم "الخلافة" تمجيدا لها وتخليدا يتعارض مع الاتجاه الأوروبي لإسدال ستار النسيان على نظام الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية – ومما يؤسف له أن يوجد لدينا الآن من يؤيد هذا الاتجاه ويدافع عنه .

كان السنهورري يعرف وهو يتجه لدراسة الخلافة أن هذا الموضوع الذي اختاره لا يعجب زملاءه وأساتذته الفرنسيين، وأن ما سيكتبه عنها سيثير "حساسيات" لديهم، وأن أستاذه لامبير نفسه قد حذره من ذلك ونصحه مرارا بأن يترك هذا البحث الذي قد لا يعجب الأوروبيين في ذلك الوقت، ولكنه أصر على أن ينصف أمته ويدافع عن قانونها وحضارتها، بل ويرسم الخطة لها لكي تعيد وحدة دولتها التي حطمها الفرنسيون وحلفاؤهم في الحرب العالمية الأولى، وها هو الأستاذ لامبير يسجل في مقدمته عناد السنهورري وإصراره على هذا البحث رغم ما قدمه له من نصائح للابتعاد عنه، ويعلن سروره بهذا العناد من باحث شاب عصامي مصري مسلم، ولكنه عبقري نابغة قدم لمعهده وجامعه مؤلفا في القانون المقارن فخر به وتكسب به سبقا ونفوذا في مجال الدراسات القانونية المقارنة، وهذه هي عباراته:

"لقد راودني القلق عندما وجدت السنهورري ينساق رغم مقاومتي واعتراضي نحو استكشاف موضوع واسع عميق الأثر شديد التعقيد، وهو موضوع الخلافة وتاريخها كما يراه هو: إنه المرآة الكبرى للفقه الإسلامي التي يمكنه تاريخها من تتبع المراحل التاريخية لانهيار وحدة العالم الإسلامي، وتقييم الجهود المبذولة في العصر الحاضر استعدادا لإعادة بنائها الذي يقترح أن يكون في صورة أكثر مرونة وأكثر ملاءمة لمتطلبات القوميات الناشئة".

"للمرة الثانية، كان عناد السنهورري خصبا ومثمرا، فإن كتابه الذي نقدمه ليس أقل جدارة من كتابه الأول ... إنه يشهد له بمزايا من نوع جديد وهي ليست أقل أهمية لمن يعد نفسه ليكون أستاذا جامعيا في المستقبل، فبعد أن كان كتابه الأول رائدا للمتخصصين في القانون وعلم الاجتماع التشريعي؛ أثبت كتابه الثاني الذي نقدمه أنه يستطيع أن يكتب للجمهور الواسع العريض؛ لا أقصد فقط جمهور أبناء وطنه، الذي لن يصل إليه هذا الكتاب إلا بترجمته إلى اللغة العربية؛ وإنما أقصد كذلك جمهور الأوروبيين الذين يهمهم أن يطلعوا على وجهة نظر شرقية من عقلية مفكر مسلم ذي ثقافة عالية، بشأن مشكلة الخلافة التي تناولتها بحوث أوروبية عديدة؛ إلا أنها على كثرتها وتنوع اتجاهاتها، لا تقدم هذا الموضوع إلا من زاوية وجهة نظر أوروبية، أو أوروبية أمريكية، واقعة تحت تأثير المحاذير المسيحية ..".

"لقد استخدم السنهورري كثيرا المراجع الأوروبية الأمريكية التي كانت تحت تصرفه مع حرصه على الانتقاء الدقيق. وكان أكثر اعتماده على ما كتب منها بالإنجليزية أو الفرنسية أو ترجم إليهما، وإذا كان قد أهمل إلى حد ما ما كتب باللغة الألمانية، فإنه على العكس من ذلك قد استطاع أن يغترف بنهم وشره من المؤلفات المكتوبة باللغة العربية التي هي في الحقيقة تكون المراجع المباشرة الوحيدة في مثل هذا الموضوع".

هذا هو ما قاله "لامبير" في مقدمته لكتاب الخلافة باللغة الفرنسية.

إن علماء فرنسا المعتزة بانتصارها على الدولة العثمانية، وبما حصلت عليه من غنائم نتيجة لمساهمتها في القضاء على الخلافة التي تمثل وحدة الأمة الإسلامية – هؤلاء العلماء هم الذين ناقشوا كتاب السنهورري عن نظرية الخلافة وتاريخها ومستقبلها وشهدوا له مرة ثانية بالنبوغ والعبقرية، وأهم من ذلك أنهم يسجلون اقتناعهم من خلال هذا الكتاب بأن قوانين الإسلام وحضارته وثقافته وعلومه تراث عظيم للإنسانية جمعاء يجب العناية به والغوص في أعماقه لمعرفة ما به من كنوز تحتاج إليها الإنسانية لبناء مستقبل أفضل لجميع الأمم والشعوب. وقد أيده في ذلك أستاذه لامبير، الذي يسجل في مقدمة كتاب الخلافة أن علماء القانون المقارن الأوروبيين لا يجوز بعد الآن أن يعتمدوا في بحوثهم عن الشريعة الإسلامية والقانون الإسلامي على المراجع المترجمة إلى اللغات الأوروبية والأمريكية، بل عليهم من الآن فصاعدا أن يتعلموا اللغة العربية ليستطيعوا أن يتعاونوا مع الباحثين المسلمين في الدراسات المقارنة عن قوانين الإسلام وحضارة الشرق، وأنه قد وجه ابنه "جاك لامبير" إلى تعلم اللغة العربية الفصحى ويعده ليعيش في إحدى البلاد الإسلامية ليتم دراسته لهذه اللغة التي تمكنه من الاطلاع على المراجع العربية في الشريعة الإسلامية والتعمق في بحوثها.

وهذه هي عبارة الأستاذ لامبير:

إن فقر مكتباتنا اليوم وعدم توافر المراجع الأجنبية بها كان جديرا بأن يثبط همتي في استئناف بحوث المركز – مركز الدراسات القانونية والاجتماعية الشرقية – والتوسع فيه – إلا أنني آمل أن يخلفني في القيام بمهمة الإشراف على البحوث من يتسلحون بالقدرة على الرجوع مباشرة إلى المصادر الشرقية (العربية) وهذا هو الذي شجعني على مواصلة هذا العمل. لهذا الغرض فإن ابني "جاك لامبير" – إلى جانب دراسته للقانون والفقه المقارن عن طريق الدراسات التاريخية التي اعتمدت عليها – يتابع أيضا دراسته للغة العربية الفصحى التي بدأها منذ أكثر من أربع سنوات تحت إشراف زميلي وصديقي "جاستون ويت". وأعتقد أنه لو تمكن من إتمام دراسته للغة العربية.

لأن التعاون الصادق بينه وبين زملائه من المسلمين الدارسين بمعهد القانون المقارن في ليوم أمثال السنهورري هو الذي اعتمد عليه لكي يعطي دفعة علمية حقيقية لأبحاث المركز الشرقي للدراسات القانونية والاجتماعية، ها هو أثر كتاب الخلافة على فكر أستاذ فرنسي من أساتذة القانون "العصري".

ولقد سجل لنا السنهورري في مقدمة كتابه الأسباب التي دعته لاختيار الموضوع المتعلق بالشريعة الإسلامية، وشرح لنا الصعوبات التي واجهته بقوله:

"للمرة الثانية في تاريخ الإسلام وجد العالم الإسلامي نفسه دون خليفة أن الجمهورية التركية عقب انتصارها (على اليونان). أعلنت أنها عاجزة عن أن تتحمل المسئولية التي كانت تقع على عاتق الإمبراطورية العثمانية منذ عدة قرون. وبذلك أصبح موضوع الخلافة مشكلة عصرية حادة".

في هذه الدراسة تناولت الخلافة من وجهة نظر مزدوجة: من الناحيتين النظرية والتاريخية. ولا أدعي أنني بريء من كل تحيز عاطفي في معالجتي لموضوع يثير من الحماس العاطفي ما يجعل للمحاذير الناتجة عن البيئة والارتباط الغريزي بالتقاليد العريقة بعض التأثير على طريقة معالجته، حتى من جانب أحرص الباحثين على الموضوعية. بل إنني أقر بأنني منذ حداثة سني لم أستطع أن أقاوم تعلقي الواضح بكل ما يصل بالشرق، وإنني كنت دائما أشعر بحماس شديد لدراسة حضارة الإسلام التي أعتز بها وأعجب بها ... ومع ذلك فقد بذلت جهدي في هذه الدراسة لكي يكون عملي علميا قد استطاعتي. لقد التزمت الموضوعية وعملت دائما على ضبط العاطفة حتى لا تطغى على الحقيقة.

"لقد واجهت أثناء هذا البحث عدة صعوبات كان لا بد من التغلب عليها بعضها صعوبات عملية: إذ أن هذا الموضوع تستلزم دراسته التوفيق بين احترام الحقائق العلمية ومداراة بعض الحساسيات المشروعة، ولأن المراجع التي يجب الرجوع إليها كانت واسعة لا حدود لها، فضلا عن أنه كان علي أن أكتب بلغة أجنبية لا يمكن لألفاظها أن تؤدي بدقة كافية المعاني التي تؤديها عبارات اللغة الأصلية (العربية). ثم أنه كان يجب علي أيضا أن أتابع ما يجري في العالم الشرقي يوما بعد يوم، وما يلتزم به كل من يدرس القانون الإسلامي بأن يكون له أسلوب شخصي يمكنه من عرض الأفكار والآراء والفقه الإسلامي بترتيب وتنسيق يتناسب مع أسلوب الدراسات العصرية".

ثم أضاف لذلك قوله:

"لقد تكلمت كثيرا عن الإسلام في هذه الدراسة، ولكني لا أتكلم عنه باعتباره عقيدة دينية. لا شك أنني كمسلم ألتزم بإخلاص شديد واحترام عميق للإسلام كدين. ولكن الذي يهمني في هذا البحث هو ثقافة الإسلام وعلمه".

هل يمكن أن يكون هذا درسا في الأصالة العلمية والفكرية لبعض إخواننا من الكتاب والصحافيين الذين يهاجمون الشريعة ويشككون في أنظمتها ومبادئها بصورة مزعجة ومؤسفة، اضطرت شيخ الأزهر ليصدر نداءه التاريخي الذي يطلب فيه إلى المسئولين عن الإعلام والصحافة في مصر أن يوقفوا هذه الحملات التي تستفز الجماهير وتجرح شعورهم وعواطفهم.

إنني لا أدعي أن أحدا من هؤلاء الذين وجه لهم شيخ الأزهر نداءه هم أقل تدينا أو إيمانا بالإسلام من المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري ، ولكنهم يقررون معي بأن الجيل لم ينجب عالما في القانون ينافسه أو ينكر عليه نبوغه وعبقريته كعالم في القانون. إن هذه العبقرية القانونية هي التي تجعل شهادته وبحوثه عن الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي لها قيمة خاصة لدى جميع من يبحثون عن الحقيقة دون هوى أو غرض، ولي أمل كبير في أن يكون كثيرون ممن شاركوا في هذه الحملة الظالمة على الشريعة الإسلامية من الباحثين عن الحقيقة المقدرين للعلم والعلماء، ولذلك أدعوهم لكي يقرأوا كتاب السنهورري ليدركوا معنا أن شريعتنا جديرة بأن نعتز بها ونفخر بمبادئها ونظمها، وأن بعض الحكام إذا كانوا قد قصروا في الالتزام بما قررته من أحكام، وما أقامته من نظم فإن علينا الآن وفي المستقبل أن نقوم بذلك بدلا من أن نأخذ تقصيرهم حجة للهجوم على الشريعة وعلى الإسلام كما قال شيخ الأزهر. هدانا الله وإياهم إلى سواء السبيل.

دروس في الشجاعة والأصالة

أستاذي السنهوري

يحسن أن يسترطع التلميذ بعض الدروس التي تلقاها عن أساتذته من حين إلى آخر، حتى يطمئن إلى أن قلبه وعقله ما زالا عامرين بمعانيها ومغزاها.

ويحسن أن يفعل ذلك أيضا كل جيل من أجيال أمتنا حتى لا ينسى الدروس التي تلقاها عن الأجيال السابقة. ولا تقتصر الدروس على ما يلقى في قاعات الدراسة والتعليم، بل إن أهمها وأبعدها أثرا هي المواقف التاريخية في مواجهة الأحداث والشدائد، سواء كانت مواقف فرد أو جماعة أو شعب.

لا أذكر أنني استمعت إلى دروس المرحوم عبد الرزاق السنهوري في كلية الحقوق رغم أنه عاد من العراق أثناء دراستي بها، لكنني أعتبره أكبر أستاذ لي، لأنني عرفته بعد ذلك وتتلمذت عليه من خلال كتاب "الخلافة" الذي اطلعت عليه في فرنسا أثناء دراستي بها.

لقد عثرت على نسخة منه في إحدى المكتبات بالحي اللاتيني أثناء جولة به في أحد أيام شهر مارس عام (1946) وعدت به إلى منزلي أتصفحه وأتمعن في كل سطر من سطوره، وأعجبني في المقدمة التي كتبها المسيو إدوار لامبير الذي أشرف على الرسالة، أنه أشاد بالكتاب لأن فائدته لا تقتصر على المتخصصين في القانون المقارن بل إنه يهم الجماهير العريضة من القراء الأوروبيين والمسلمين، وإن كان استدرك فقال إن العرب لكي يستفيدوا منه فلا بد من ترجمته إلى اللغة العربية، وقد دهشت حينذاك لأنه قد مضى على نر الكتاب بالفرنسية عشرون عاما، حيث نشر في ليون 1926م – ولكنه لم يحظ بالترجمة للعربية حتى ذلك الوقت.

وفي نظر الأستاذ لامبير:

أن فائدة الكتاب لمن يقرأ اللغة الفرنسية وخاصة منهم الأوروبيين والأمريكيين أنه يعرض هم نظرية الخلافة وأصول الحكم في الشريعة الإسلامية من وجهة نظر عالم مسلم ناشئ فذ، تضيء لهم الطريق ليعيدوا النظر فيما قرءوه عن هذا الموضوع "المعقد" لكثير من الأوروبيين والأمريكيين الذين تشوب كتاباتهم "محاذير العقلية المسيحية".

أما فائدته للقراء العرب والمسلمين فإنه يوضح الفرق بين المبادئ الإسلامية التي تقوم عليها نظرية الخلافة ونظام الحكم، وبين الممارسات الواقعية التي ابتعدت عن تلك المبادئ وقام عليها نظام الخلافة "الواقعية" أو "غير الراشدة" خلال تاريخها الطويل. وأنه فوق ذلك يستخلص من الأصول النظرية والتجارب التاريخية والواقع العصري للعالم الإسلامي وشعوبه – التي تجتاحها موجة القوميات – خطة جديدة لإعادة بناء الخلافة في المستقبل في صورة منظمة، دولية شرقية إسلامية.

وفيما يتعلق بي شخصيا فإن هذا الكتاب قد صاحبني في كل مراحل حياتي منذ اطلعت عليه حتى الآن، وأعتقد أنني استفدت منه وعشت معه أكثر مما استفاد منه مؤلفه الذي صرح لي أنه انشغل عنه منذ عودته لمصر، بعد أن أتم دراسته في فرنسا لأنه اتجه إلى التخصص في تدريس القانون المدني، وهناك عديدون قد أسعدهم الحظ بأن كانوا تلاميذه في دراسة القوانين المدنية أو تقنينها سواء في مصر أو العراق أو سوريا أو الكويت، أما أنا فما زلت أعتز بأنني تتلمذت عليه في القانون العام من خلال هذا الكتاب، وإنني إذا كنت قد شغلت عن ترجمته فإنني لم أقصر قط في مراجعته والاستفادة منه في جميع ما أقدمت عليه من بحوث أو أعمال لا مجال هنا للتحدث عنها.

ترجمة كتاب الخلافة

لقد مضى على قراءتي لهذا الكتاب أربعون سنة، ومع ذلك فلم تنشر له ترجمة باللغة العربية فيما أعلم، لكي يستفيد منه قراء اللغة العربية كما وقع الأستاذ لامبير.

وإنني أقر بأنني أعتبر نفسي مسئولا عن هذا التقصر والتأخير أكثر من أي باحث آخر، فإنني بعد اطلاعي عليه في باريس عدت إلى مصر في عطلة صيف عام 1947، والتقيت بالمؤلف – رحمه الله – فأنبأته – باطلاعي على كتابه واقتناعي بأهميته للباحثين في الفقه الإسلامي والنظريات الدستورية، وتعهد له بأن أتولى ترجمته، فأذن لي بذلك وشجعني عليه لأنه كان يتمنى أن يقوم بذلك بنفسه، ولكن الظروف لا تسمح له، ورغم أنني مدين لهذا الكتاب بكثير مما حصلته من فقه الشريعة وما أعتز به من يقين بسمو مبادئها وتفوق علمائها وفقهائها فإنني للآن لم أنجز ما التزمت به رغم محاولات عديدة قاهرة عطلت استمراري في القيام بهذه المهمة، كما عطلت كل مشروعاتي في التأليف والتدريس والكتابة في ميدان البحوث القانونية.

واليوم أشعر بأنني مدين بهذا الوعد الذي قدمته للمؤلف – رحمه الله – وما زلت ملتزما بالوفاء به، وقد استعنت بالله على أن أعود لهذا الكتاب وأتم ما بدأته من ترجمة وتعليق وحواش لا بد منها لكي يصدر الكتاب في الصورة المناسبة للظروف الحاضرة لأن الستين عاما التي مضت على تأليفه قد حفلت بالبحوث والأحداث التي لا يمكن تجاهلها عند نشره الآن.

لذلك لا بد من أن أضيف إليه بعض الحواشي التي تربط بينه وبين واقع الجيل الجديد الذي سيطلع عليه، ولا بد كذلك من مراجعة ما نشر من آراء وبحوث في موضوعه واستعراض تجارب الشعوب الإسلامية متفرقة ومجتمعة فيما يتعلق بتطبيق مبادئ الشريعة وأحكامها وإقامة المنظمات الدولية الإقليمية التي تسير في الاتجاه الذي اقترحه المؤلف لتحويل الخلافة إلى منظمة دولية.

إنني أشعر بصعوبة العمل الذي أعود إليه بعد أربعين سنة كاملة من اليوم الذي فكرت فيه أن أبدأ بتنفيذه، ولكن الذي يشجعني على إتمامه اليوم هو أن الدكتورة نادية السنهوري – وهي البنت الوحيدة لأستاذنا العظيم – قد تعهدت بالمساهمة في عملية الترجمة من الفرنسية إلى العربية، وهي مهمة أدركت صعوبتها منذ بدأت أفكر في هذا العمل بسبب ضخامة المؤلف وكثرة هوامشه واقتباساته من المراجع العربية القديمة والحديثة، وخاصة كتب الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه وفروعه، مما يستلزم الرجوع إلى هذه الكتب لنقل تلك النصوص منها بدلا من ترجمتها بعبارات قد تبعدها عن الأصل الذي نقلت منه.

وإني لآمل أن يعينني بعض أصدقائي وإخواني وتلاميذي في هذه المهمة إن شاء الله.

أهميته في الحوار حول الشريعة

إن أهمية هذا الكتاب قد ازدادت في هذه الأيام التي يحتدم فيها الحوار حول الشريعة الإسلامية وسيادتها وتطبيقها والاستفادة من أصولها ومبادئها سواء في ميدان القانون الخاص أو القانون العام، ذلك أن الحوار يدور ظاهريا حول التعجيل أو التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، ولكن هناك خلافا أهم حول النقطة التي يجب أن نبدأ منها في تطبيق الشريعة الإسلامية، فالبعض يطالبون بأن يبدأ التنفيذ في ميدان القانون العام، وخاصة منها ما يتعلق بالضمانات الشرعية للحريات الفردية، والمبادئ التي تحمي الأفراد من طغيان الدولة واستبداد الحكام، وحجتهم أن هذا هو المطلب العاجل الملح الذي تتطلع إليه الشعوب الناشئة.

أما تطبيق الشريعة الإسلامية في ميدان القانون الخاص، وبالأخص فيما يتعلق بالعقوبات الجنائية، فإنه في نظرهم قد يحول الأنظار عن الإصلاح ات الضرورية في نظم الحكم وقد يعطي للحكام المستبدين سلاحا جديدا يفرضون به سلطتهم واستبدادهم ويهددون به معارضيهم وخصومهم، ويستشهدون على ذلك ببعض التجارب القديمة والحديثة.

وفي الوقت نفسه نجد بعض المتعجلين في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية يبدءون بتقنين المعاملات والأحوال الشخصية والحدود وقد يقف بعضهم عند هذا الحد لأنهم يعتقدون أن إصلاح النظم السياسية هي مسئولية الشعوب والحركات السياسية، ولا يمكن أن يطالب فقهاء الشريعة، أو علماء الفقه بعلاج استبداد بعض الحكام أو سلبية بعض الشعوب، ويكفيهم المطالبة بتقرير مبدأ الرجوع إلى الأصول التي وضعتها الشريعة لتكون أساسا للنظم الاجتماعية والسياسية ونظام الحكم بصفة خاصة.

المهم إذن هو اتفاق الطرفين على ضرورة العناية بدراسة المبادئ الإسلامية الأساسية لنظام الدولة والمجتمع التي يلتزم بها الحكام والشعوب معا، والتي يترتب على مخالفتها زوال صفة الشرعية عن كل عمل يخالفها وكل واقع يتعارض معها، أما مبدأ الشرعية الذي يوجب على الجميع تغيير الواقع وإصلاحه وتعديله فهو واجب عامة الشعوب ورجال السياسة ومسئوليتهم.

ولكن قيام الأفراد والشعوب بهذا الواجب يحتاج أولا إلى فهم عميق للمبادئ والأصول الشرعية لنظام المجتمع والدولة، وإلى كثير من الشجاعة والأصالة للدفاع عنها والتصدي لها.

الدرس الأول في المقدمة

والدرس الأول في الشجاعة والأصالة الذي استفدته من مقدمة هذا الكتاب هو موقف السنهوري وهو باحث شاب يتعلم في فرنسا عندما أقدم على هذا البحث، وهو يعلم أنه لا يلقى ترحيبا كبيرا من أساتذته وزملائه الفرنسيين في جامعة ليون الذين ملأتهم نشوة النصر الذي أحرزته بلادهم وحلفاؤها في الحرب العالمية الأولى، ذلك النصر الذي أدى إلى الإطاحة بالخلافة العثمانية وتوزيع ممتلكاتها وأسلابها بين دول الحلفاء المنتصرين وفي مقدمتهم فرنسا.

وسبب هذا الموقف الشجاع العنيد الذي أقدم عليه السنهوري، هو ثقته الكاملة بسمو مبادئ الفقه الإسلامي وتفوقه على الفقه الأوروبي، في مجال النظم القانونية والسياسية والاجتماعية، هذا التفوق لا ينقص من قيمته ما أصاب دولته من هزيمة عسكرية أو محنة سياسية أدت إلى إلغاء الخلافة، ولهذا فقد آمن إيمانا قاطعا بضرورة إعادة هذا النظام واستفاد من عبقريته في إعداد خطة لهذا الغرض تعتبر تحديا لأعداء الخلافة والشامتين في مصيرها والمهاجمين لها في الماضي والحاضر والمستقبل.

وقد نجح السنهوري في هذا التحدي لأنه أثبت كفاءته كباحث موضوعي قادر على دحض الحجج الاستعمارية التي تشوه الشريعة وتهاجم الخلافة، وهو قد فعل ذلك بمنطق وحجة لا يملك المتخصصون في القانون إلا الاقتناع بها.

شهد بذلك الأستاذ لامبير في المقدمة التي كتبها لهذا البحث إذ قال إنه حذر السنهورري من أن يقتحم هذا المجال "المملوء بالتعقيدات" ولكنه رفض نصيحته وتحذيره، ويضيف لذلك أنه بعد أن اطلع على الكتاب كان سعيدا لأن تلميذه رفض الاستماع إلى تحذيره ونصحه، لان مخالفته كانت مثمرة للعلم والقانون، إذ أنه قدم لمعهد القانون المقارن كتابا يفخر به في مجال الدراسات المقارنة، كما قدم لعلم القانون المقارن وللبحوث القانونية بصفة عامة أكبر خدمة علمية بإبراز مبادئ الشريعة الإسلامية الأصيلة فيما يتعلق بنظام الدولة وأصول الحكم على حقيقتها التي يجهلها العلماء الأوروبيون أو يتجاهلونها نتيجة "للمحاذير" السياسية ورواسب التعصب التي ينسبونها إلى المسيحية، وهي في حقيقتها مظهر من مظاهر الأطماع الاستعمارية.

التحدي

ولقد أشار السنهوري في المقدمة إلى أن أول الصعوبات التي واجهها في هذا البحث هو ما سماه من ضرورة مداراة بعض "الحساسيات المشروعة" ولا شك عندي أنه قصد بذلك الإشارة إلى ما لمسه لدى أستاذه وغيره من زملائه الفرنسيين من أنهم قد يعتبرون مجرد الكتابة عن الخلافة في ذلك الوقت استفزازا لهم وتحديا لانتصارهم التاريخي على الدولة العثمانية، ذلك الانتصار العسكري الذي جعل فرنسا تعتبر نفسها أكبر إمبراطورية أوروبية في ذلك العصر.

ومما يزيد في الاستفزاز أن الكتاب لا يقتصر على دراسة الخلافة كظاهرة تاريخية انتهت وزالت، ولكنه بعد استقراء الواقع الناتج عن زوالها يسرع ويرسم الخطة لعودتها في صورة منظمة دولية في المستقبل تحمل راية الإسلام وتخلد مبادئه ونظمه وتحمي وحدة أمته ومستقبلها وتمكنها من أن تقوم بدورها في مستقبل العالم كأمة عظيمة خالدة موحدة.

ورغم هذه الحساسيات التي أشار إليها السنهوري وحذره منها "لامبير" فإن السطور الأولى في مقدمة الكتاب تقرر أنه:

"للمرة الثانية في تاريخ الإسلام وجد العالم الإسلامي نفسه دون خلافة لأن الجمهورية التركية أعلنت أنها عاجزة عن أن تتحمل المسئوليات التي كانت قع على عاتق الإمبراطورية العثمانية منذ عدة قرون ...".

فأول جملة في مقدمة الكتاب تشبه الهجمة الأوروبية على الخلافة العثمانية بهجوم التتار على الخلافة العباسية في بغداد من حيث الأثر ... أما إشارته إلى أن الجمهورية التركية ألغت الخلافة لعجزها عن تحمل مسئوليات الإمبراطورية العثمانية، ففيها إشارة واضحة إلى أن التهديدات الأجنبية هي التي دفعت الأتراك لذلك، وأن إلغاء الخلافة لا يعني تخليهم عن الإسلام أو التنكر الذي يريد البعض أن يستدرجهم أو يدفعهم إليه أو يشجعهم عليه.

هذا هو درس قيم في الشجاعة الأدبية التي يتحلى بها عالم يعتز برأيه ويعلنه في جميع الظروف دون تردد أو تراجع أمام "الحساسيات" أو "التعقيدات" التي تحيط به كما أنه درس في الأصالة التي تستلزم الدفاع عن القيم الأصيلة للأمة، خصوصا في أوقات المحن والشدائد التي تدفع الجبناء والأنانيين والانتهازيين والنفعيين إلى التبرؤ من أصالتهم والتنكر لعقيدتهم أو شريعتهم، أو قيم أمتهم حضارتها ومبادئها، إرضاء للقوى الأجنبية المنتصرة التي يخيل إليهم أنها أصبحت تقرر مصائر الشعوب والأفراد، ولا يتوروعون عن التقرب من مراكز السلطة التي يعلمون أنها أصبحت خاضعة لأعداء أمتهم والمعتدين عليها.

الحماس والموضوعية

لقد ختم السنهوري مقدمته موجها حديثه للقارئ الأوروبي يدعو ليطرح جانا كل ما يتصل بالتعصب ضد الإسلام كدين، لأن موضوع بحثه ليس الدين الإسلامي وإنما الشريعة باعتبارها علما وثقافة قانونية زاخرة بالنظريات التي تثري الفقه القانوني في العالم كله، قال: "لقد تكلمت كثيرا عن الإسلام في هذه الدراسة ولكني لا أتكلم عنه باعتباره عقيدة دينية. لا شك أنني كمسلم ألتزم بإخلاص شديد واحترام عميق للإسلام كدين ولكن موضوع هذا البحث هو ثقافة الإسلام وعلمه".

إن الفقرة الأخيرة في المقدمة هي قمة التحدي لأن المؤلف الشاب لا ينكر حماسه للإسلام كمسلم ملتزم بعقيدته، معتز بحضارته وثقافته وعلومه، ولكنه يؤكد أنه التزم الموضوعية، لأن بحثه انصب على علم الإسلام وتشريعه وفقهه وثقافته. إن الباحث الشاب المسلم يدعو القارئ والباحث الأوروبي المنصف – إن استطاع – أن ينزل إلى ميدان بحوث القانون المقارن فيما يتعلق بأصول الشريعة ونظمها السياسية والاجتماعية وأن يلتزم الموضوعية التي التزم هو بها.

وقد نجح السنهوري في تحديه، وناقش رسالته أساتذة فرنسيون في جامعة فرنسية وأقروا له بالتفوق والعبقرية، وكان هذا الكتاب استهلالا بارعا لحياة علمية حافلة بأكبر المؤلفات والإنجازات في ميدان القانون والفقه والتشريع في العالم العربي في العصر الحديث، وسيبقى هذا الكتاب منارا يضيء الطريق لكل باحث في "نظام الدولة وأصول الحكم في الإسلام"، ونحن ندعو كل من يقرون للمؤلف بالتفوق والنزاهة العلمية أن يرجعوا إلى هذا الكتاب، وأن يستفيدوا منه في معالجة المشاكل الحاضرة بشأن تطبيق الشريعة الإسلامية في ميدان القانون العام.

سيادة الشريعة فوق سيادة البشر

عندما نتكلم عن سيادة الشريعة، فإن المقصود بالسيادة هي السلطة العليا وقد حفلت كتب القانون العصري بتعريفات متعددة تؤدي إلى هذا المعنى، فالجهة أو الهيئة التي يعترفون لها بالسيادة هي التي يكون لها الكلمة العليا والأخيرة، وتخضع غيرها من الجهات أو الهيئات لأوامرها وتوجيهاتها، ولا يجوز لها الخروج على ما تفرضه من مبادئ وما تضعه من قيود وحدود.

السيادة المطلقة

معنى ذلك أن السيادة تكون لمن يعتبر المرجع الأخير والسلطة العليا في المجتمع البشري، وبذلك يكون لصاحب السيادة سلطة مطلقة لا تملك أية جهة أو هيئة أخرى أن تعقب عليها أو تخرج عن حدودها، وإلا كان شريكا لها في سيادتها، وهذا يتعارض مع السيادة التي يجب أن تكون كاملة لا تتجزأ ولا تتعدد، وبذلك لا يمكن الاعتراف بها إلا لجهة واحدة لا شريك لها، وكل سلطة تمنح لغير هذه الجهة لا بد أن تكون محدودة ومقيدة.

ويلاحظ أن بعض الكتب المعاصرة وخاصة ما كتبه بعض المؤلفين من المسلمين غير العرب يعبرون عن السيادة المطلقة بالحاكمية لتمييزها عن السيادة النسبية التي نتكلم عنها فيما يلي.

السيادة النسبية

رغم إشارة الفقه الحديث إلى أن السيادة يقصد بها السلطة العليا أو المطلقة، فإننا نجد في كتب القانون العصري، وفي لغة الإعلام والثقافة والصحافة كذلك كلاما كثيرا عن السيادة التي تنسب إلى جهات متعددة لا جهة واحدة، مما يتنافى مع الزعم بأنها سيادة مطلقة، ويوجب علينا المقارنة بينها للبحث عما يمكن أن يكون منها سيادة مطلقة، وتمييزه عن غيره مما يدخل في نطاق نوع آخر هو السيادة النسبية.

فهناك سيادة الدولة، ويجب أن نفرق بين "السيادة الخارجية" والسيادة الداخلية لكل دول من الدول، وهناك أيضا سيادتها الإقليمية، والسيادة الوطنية ... إلخ.

ويكثر الكلام عن سيادة الشعب، أو سيادة الأمة.

وإلى جانب ذلك يتكلم الناس عن "سيادة القانون"، وسيادة "الدستور".

وفوق ذلك نتكلم عن سيادة الشريعة: ومع ذلك لا ننكر سيادة القانون، إذا كانت خاضعة سيادة الشريعة، ب اعتبرناها خطوة ضرورية وعملية لتطبيق سيادة الشريعة بإخضاع القوانين الوضعية لها واستمدادها من أصولها ومبادئها والتزامها بقيودها وأحكامها. وعندما يكون مصدر القانون هو الشريعة فإنه يكتسب صفة شرعية رغم أنه قد يوصف بأنه قانون وضعي، ولا ضرر بعد ذلك أن يصدره برلمان أو تصدره دولة أو حكومة ما دامت تستمده من مصادر الشريعة وتلتزم بأحكامها، وهنا يتضح من كل ذلك أن سيادة الشريعة أعلى من سيادة القانون ومهيمنة عليها، بل هي مصدرها في المجتمع الإسلامي.

بل في فقه القوانين الوضعية تكون سيادة القانون نسبية لسببين: أولهما أنها تهيمن على أعمال الأفراد والهيئات التنفيذية والقضائية، ولكن يصعب القول بأنها تهيمن على السلطة التي تباشر التشريع لأن لها الحق في تعديله وإلغائه وإصداره. والسبب الثاني: أنه في كثير من الدول يوجد هناك قانون أعلى يسمى الدستور أو القانون الأساسي الذي يعتبر مصدر السلطات وتهيمن على جميع أجهزة الدولة بما في ذلك الهيئة التشريعية التي يجب أن تلتزم به لأنه هو أساس وجودها ومصدر شرعية قوانينها بالمعنى الوضعي.

وقد نتج عن ذلك أن قال البعض بأن سيادة الدستور هي السيادة المطلقة، لأنه يصدر مباشرة عن السلطة الدستورية التي تنسب إلى الشعب بطريق الاستفتاء، أو بطريق جمعية تأسيسية منتخبة. ومع ذلك فيوجد فقهاء كثيرون ينكرون على الدساتير سيادتها المطلقة لأنها يجب أن تتقيد بالمبادئ العليا الأساسية التي تحمي حريات الأفراد وحقوق الإنسان. والتي تستمد مما يسمونه القانون الطبيعي أو المبادئ الإنسانية العليا، وما نسميه نحن "الشريعة الإسلامية".

سيادة الشعب

كثيرون هم الذين يتكلمون عن سيادة الشعب، ولكنهم لا يتفقون في أهدافهم ولا في الأسس التي يبنون عليها ادعاءهم. فالأفراد الذين يشكون من استبداد الحكام أو طغيانهم يريدون أن تكون هناك سلطة أعلى من سلطة الدولة والحكومة تقيد من سلطاتها وتحكم تصرفاتها، فيلجأون للسيادة الشعبية لتقوم بدور حماية الحريات الفردية والحقوق الإنسانية من الاستبداد والطغيان.

لكن هذا الهدف السامي يضيع في زحمة المزايدات التي يلجأ إليها كثير من الحكام الذين يرفعون أصواتهم بالمناداة بالسيادة الشعبية لأنهم يعتبرون أنفسهم متكلمين باسم الشعب، ويمارسون سيادته ويفرضون بها كل ما يريدون من أسباب الفساد والعبث والطغيان، حتى اشتهر المثل القائل – كم من الجرائم ترتكب باسم الشعب – وكم من جرائم ترتكب باسم الدفاع عن حقوق الشعب أو مصالحه ممن ينصبون أنفسهم متكلمين باسمه ويدعون أنهم مفوضون لممارسة سيادته.

إن الذين يلحون في القول بأن سيادة الشعب أو الأمة مطلقة، يهدفون بذلك إلى جعلها فوق سيادة الدولة وسلطة الحكومات وتمكين الشعوب بها من تقييد صلاحيات الدولة وسلطاتها بحدود دستورية صادرة عن إرادة الشعب أو الأمة. ومعنى ذلك أن البحث في سيادة الشعب والأمة هو نفس البحث في سيادة الدستور. ولكن هناك دولا كثيرة لا تكون لها دساتير أو قوانين أساسية ويرى البعض أن أشهر نموذج لها هو بريطانيا العظمى لأنها ليس لها دستور مكتوب، فالذي يمثل الشعب أو الأمة هو البرلمان، ولم توجد بها هيئة تأسيسية ولا سلطة دستورية غيره، ولذلك وجد المثل السائر الذي يقول بأن البرلمان الإنجليزي يملك أن يقرر بطريق التشريع كل شيء إلا شيئا واحدا هو أن يحول الرجل إلى امرأة. ومن الناس من أصبح يشك في هذا الاستثناء أيضا بعد ما قيل عن إباحة اللواط و "الزواج" المزعوم بين المصابين بالشذوذ الجنسي.

ولا شك أن الجميع يسلمون بأن التشريع هو التعبير الأساسي عن السيادة، وكل ما هنالك أن البعض يحاول أن يفرق بين التشريع الأعلى – أي القانون الأساسي أو الدستوري – الذي يعتقدون أنه يعبر عن السيادة المطلقة، والتشريع العادي أو الأدنى الذي يعبر عن السيادة المحدودة، ولكن وصف سيادة الدستور بأنها مطلقة يقوم على الظن بأنه لا توجد سلطة أعلى من الهيئة الدستورية، وهو ظن لا يسلم به كثير من العلماء المعاصرين، فضلا عن فقهاء الشريعة الإسلامية.

سيادة الشريعة ومصدرها السماوي

إن الذين يتكلمون عن سيادة الشريعة يضعونها فوق التشريع الوضعي، سواء كان في صورة قوانين أساسية أو دستورية أو قوانين عادية، أو نظم وبذلك تكون هي صاحبة السيادة المطلقة، ويصبح الدستور كأي تشريع وضعي آخر في مرتبة أدنى وتكون سيادته – إن وجدت – نسبية محدودة بحدود الشريعة.

وبما أن الشريعة ذات مصدر سماوي – لأنها شريعة الله سبحانه وتعالى – فإنها تصبح مظهر السيادة الإلهية، وبذلك نصل إلى ما نصل إلى ما قاله كثير من العلماء، من أن السيادة لله وحده، ويقصد بذلك أن الله سبحانه هو وحده صاحب السيادة المطلقة والكلمة العليا، وإرادته هي المرجع الأسمى.

أما ما ينسب إلى البشر من أي صنف كانوا، وبأي صفة عملوا – فلا يمكن أن يكون سيادة مطلقة بأي حال من الأحوال، وإذا كان لا بد من نسبة السيادة إلى جماعة أو هيئة من البشر – فلا بد من التأكيد على أنها سيادة نسبية محدودة بحدود الشريعة الإلهية، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تكون بغير حدود ولا قيود، ولا يمكن أن يعني بها – "السلطة المطلقة"، وبذلك نصل إلى الغاية التي يسعى لها العالم في العصر القديم والحديث، وهي سد الطريق أمام السلطة المطلقة التي يدعيها فرد أو هيئة إنسانية في هذا العالم – وحماية الشعوب والأفراد من طغيان الحكام واستبدادهم وذلك بإعمال المبدأ الذي قرره فقهاؤنا، وهو أن السلطة المطلقة والسيادة المطلقة تتركز في يد الله سبحانه وتعالى خالق الكون وبارئه ومدبره ومسيره، وخالق البشر ومصورهم ومعبودهم لا إله إلا هو – وبذلك يكون فقهاء الإسلام قد حرموا نسبة السلطة المطلقة لأي مخلوق لأنها من مستلزمات الألوهية وخصائصها، وادعاؤها هو ادعاء للألوهية والتسليم بها نوع من الشرك أو الوثنية التي جاء الإسلام لتحرير البشر منها، فأخرج الناس بذلك من عبادة البشر إلى عبادة الله وحده لا إله إلا هو.

ولقد أشار إلى هذا المبدأ أستاذنا السنهوري في بحثه عن الخلافة (بند 6 ص 18) مستشهدا بأقوال كثير من علماء الإسلام وخاصة السيد عبد الرحيم في كتابه "مبادئ الفقه الإسلامي" وعبر عنه بما يأتي:

"إن روح التشريع الإسلامي تؤكد أن السيادة بمعنى السلطة المطلقة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، وكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله لأنه وحده صاحب السيادة العليا ومالك الملك.

ومظهر السيادة الإلهية والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن الكريم وسنة الرسول المعصوم الملهم.

والتوضيح الأخير يشير إلى مبدأ ختم الرسالة الذي يعتبر أهم ركائز العقيدة الإسلامية، ويقفل الباب نهائيا أمام كل من يزعم لنفسه الحق في التعبير عن السيادة الإلهية أو السلطة المطلقة بعد وفاة خاتم الأنبياء والمرسلين. وهو أكبر سلاح زود به الإسلام أمته لمقاومة أدعياء الألوهية أو النبوية أو السيادة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لأن وفاته قطعت عن العالم خبر السماء كما قال عمر بن الخطاب – وأصبح القرآن الكريم والسنة المحمدية هما التعبير الوحيد الخالد عن إرادة الله وشريعته، وكل ما يكملهما من اجتهادات بشرية أو إجماع أو ما يماثل ذلك إنما يكون علما وفقها أو تشريعا ثانويا خاضعا للأصول والمبادئ والقيود والحدود المستمدة من القرآن الكريم وأوضحتها السنة المطهرة، من أجل ذلك كان حفظ القرآن وخلوده من أهم الأصول الإسلامية التي تعهد بها الله سبحانه وتعالى بقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". وكان من أهم أصول التربية والثقافة الإسلامية هو حفظ القرآن الكريم وتلاوته لأنه الدستور الأسمى للبشرية الصادر عن صاحب السيادة العليا سبحانه وتعالى ...

سيادة الشريعة فوق سيادة الدولة

عندما يقول علماؤنا إن الله سبحانه هو وحده صاحب السيادة لا يشاركه فيها أحد من خلقه، فمعنى ذلك أن الله وحده هو الذي لا يسأل عما يفعل. "وهم يسألون". وهذه العبارة الأخيرة تؤكد المبدأ القائل بأن كل سيادة تنسب إلى أحد من البشر هي سيادة محدودة، وتؤكد كذلك أن البشر جميعا مسئولون عن أعمالهم ومحاسبون عليها. والمرجع الأعلى الذي يسألون أمامه هو الله سبحانه وتعالى وشريعته المتمثلة في القرآن والسنة النبوية المطهرة. فالكتاب والسنة هما التعبير عن الإرادة الإلهية والمرجع الوحيد للسلطة العليا للشريعة الإسلامية التي يحاسب الجميع بمقتضاها. فكل من يباشر سلطة من البشر مسئول أمامهما ومحاسب على أعماله بمقتضاهما.

كما أن بعض علماء القانون العصري الذين بنوا نظرياتهم على إبعاد الدين عن الدولة ونظمها، حرصوا مع ذلك على وضع المبادئ التي تجعل سلطة الحكام محدودة، فلجأوا إلى وضع دساتير تقوم على توزيع السلطات عند حدود السلطتين الأخريين فتكون كل واحدة منها مقيدة للأخرى وحارسة لحدودها فلا تتجاوزها.

الدولة شخصية معنوية افتراضية

ولكيلا يقولوا باجتماع السلطات الثلاث في يد واحدة، ابتكروا فكرة الشخص المعنوي الذي تنسب إليه جميع السلطات وعبروا عنه بأنه "الدولة" وقالوا إن الدولة هي صاحبة السيادة. وفهم البعض من ذلك أن الدولة هي صاحبة السلطة المطلقة. ولكن هذا كان مجرد افتراض واستنتاج ممن لا يؤمنون بوجود الله سبحانه وتعالى ولا يعترفون بشريعته التي يحاسب الجميع أمامها سواء كانوا حكاما أو محكومين، ولا يعرفون مبادئها التي تقرر أن الحكام كغيرهم من الأفراد هم بشر لا يجوز لهم ادعاء سيادة مطلقة للتهرب من المسئولية الشرعية.

سيادتها نسبية

والحق إن الذين تكلموا عن سيادة الدولة من علماء القانون الحديث لم يقصدوا بذلك إعطاءها سلطة مطلقة في مواجهة الأفراد أو الشعوب، وأن ما يسمى بسيادة الدولة – إذا صح هذا التعبير – فإنه إنما يعني به في نظرهم سيادة نسبية في مواجهة غيرها من الدول، بمعنى أن المقصود بهذا المبدأ هو حرمان "الدول" الأخرى من أن تدعي لنفسها الحق في التدخل في الشئون الداخلية أو الخارجية أو الوطنية أو الإقليمية لدول أخرى "ذات سيادة" فسيادة الدول من قواعد القانون الدولي، والمقصود بها إذن هو تحقيق قدر كاف من المساواة بين الدول بحيث تصبح كل دول مستقلة عن الدول الأخرى بشئونها الداخلية والخارجية والوطنية والإقليمية دون هيمنة أو تدخل من الدول أو القوى الخارجية، ويتقرر مبدأ التساوي بين الدول في السيادة.

إساءة استغلال فكرة السيادة

لكن بعض الحكام قد يسيئون استغلال "السيادة"، فبدلا من التحصن بها ضد تدخل الدول الأجنبية أو هيمنتها أو سيطرتها نجدهم يتحصنون بها ضد الرقابة الشعبية، ويعطلون بها حق شعوبهم في محاسبتهم ومساءلتهم عن تصرفاتهم ومؤاخذتهم عن استبدادهم أو أخطائهم أو استغلالهم لما وكل إليهم من سلطة لأهوائهم الشخصية ومصالحهم النفعية ومصالح ذويهم وحزبهم وعصبيتهم وأنصارهم وحاشية السوء التي تزين لهم الفساد وتعينهم عليه.

بل إن بعض هؤلاء المستبدين لا يقدرون على مواجهة التهديدات والضغوط الخارجية فيخضعون لها ويستعينون بالقوى الأجنبية ويتواطئون معها ويفتحون لها باب التدخل في الشئون الخارجية والداخلية لبلادهم، مقابل ما تقدمه تلك الدول الطامعة لهم من سلاح أو معونة تمكنهم من إحكام سيطرتهم على شعوبهم وقهرها وحرمانها من حقها في الرقابة على أعمالهم ومجازاتهم على استبدادهم أو فسادهم أو طغيانهم.

الواقع الأليم أن مبدأ المساواة بين الدول – وهو الهدف الأصلي الذي وضعت من أجله نظرية السيادة – فقد فاعليته العملية نتيجة هيمنة الدول الكبرى في مجال العلاقات الدولية، ففي عهد عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى وصفت الدول الصغرى بأنها دول ذات مصالح محدودة، وبعد الحرب العالمية الثانية أعلن بعض ساسة الدول الكبرى أن الدول التي تدور في فلكها وارتبطت معها في محالفات دفاعية تصبح بذلك محدودة السيادة، وأعطى ميثاق الأمم المتحدة لطائفة من الدول الكبرى حق الفيتو الذي تميزت به عن غيرها من الدول مما يهدم فكرة المساواة بين الدول، وفي الوقت نفسه كثرت الانقلابات وانتشرت في دول العالم الثالث بتشجيع وتحريض من القوى الخارجية والدول الكبرى التي تتخدها وسيلة للتدخل في شئون الدول الصغرى، وفرض الحكام الذين يقبلون وصايتها وتدخلاتها التي تقيد سيادة الدول التي يفرضون أنفسهم عليها.

المعارضون لشخصية الدولة وسيادتها

من أجل ذلك فإن بعض علماء القانون يعارضون فكرة سيادة الدولة، بل إن بعضهم ينكر ذاتية "الدولة" قائلين إنها كائن وهمي لا وجود له – كل ما يوجد في الواقع هو الحكومة في مواجهة الشعب – وأن اصطلاح الدولة وسيادة الدولة إنما هو افتراض يسيء بعض الحكام استغلاله ليتهربوا من مواجهة مسئوليتهم أمام شعوبهم بأن يتستروا وراء "الدولة" أو يتمسكوا بما يزعمونه من سيادتها لحماية أنفسهم من المساءلة والمحاسبة. وقد كان لويس الرابع عشر ملك فرنسا المستبد صريحا في التعبير عن ذلك عندما قال كلمته المشهورة "أنا الدولة" وإذا كان بعض الحكام لا يصرحون بذلك الآن، إلا أن كثيرا منهم يتصرفون على هذا الأساس، فالدولة هي الحكومة في نظرهم والحكام هم الدولة والحكومة معا.

هذه هي الحقيقة في نظر الفقهاء الذين ينكرون وجود شيء اسمه الدولة يختلف عن الحكومة ويرون من الواجب أن يكتفي بالكلام عن الحكومة لأنها هي الموجودة والقائمة فعلا والمسئولة أمام الله والناس.

الدولة هي الحكومة

وإذا رجعنا إلى الفقه الإسلامي وجدنا أن كلمة الدولة إنما قصد بها دائما الحكومة والحكام والسلطة التنفيذية فقط، ولم يقصد بها شيء غير ذلك. فالدولة الأموية أو العباسية أو غيرهما من "الدول" المعروفة في تاريخ الإسلام كان يقصد بها دائما نوع الحكومة القائمة وشخصية الحاكم وعصبيته ونظام حكمه، وهذه الحكومات الإسلامية كانت تمارس السلطة التنفيذية والإدارية فقط، ولم تدع إحداها أن لها سلطة التشريع أو إصدار القوانين أو تغييرها أو تبديلها أو التدخل في نطاق التشريع بأي صورة من الصور، ولم يدع أحد أن لها شيئا اسمه "السيادة – فالسيادة اصطلاح ابتكره الفقه الدستوري الحديث، للغرض المحدد الذي أشرنا إليه في بداية الحديث، وهو تقرير مبدأ المساواة بين الدول، ولكن أسيئ استعماله في الواقع كما بينا.

والحق أن المهمة الأولى والأساسية للحكومة في الإسلام هي الدفاع عن أرضها وشعبها في مواجهة القوى الخارجية أو الدول الأجنبية، فإذا قصد بالسيادة منع الدول والقوى الخارجية من التدخل في شئون بلادنا أو السيطرة على شعبنا وأرضنا فلا بأس من ذلك، وهنا لا يعترض أحد على وجود دولة إسلامية ذات سيادة نسبية في مواجهة القوى الخارجية يستخدمها في رفض أي تدخل أجنبي في بلادنا وشئوننا الخارجية والداخلية.

أما الكلام عن السيادة لتعطيل أحكام الشريعة أو التهرب من المسئولية أمامها فهو ما لا يمكن لمسلم قبوله.

ولم يفت بعض علماء القانون الدستوري المعاصر ما يقع من مساوئ بسبب تستر الحكام وراء سيادة الدولة، للاحتماء بها من المسئولية والمحاسبة، فقرروا أن السلطات الثلاث في الدولة لا يجوز أن توضع على قدم المساواة، وأن السلطة العليا يجب أن تباشرها الهيئة التشريعية الممثلة للشعب، ووصلوا بذلك إلى مبدأ السيادة الشعبية الذي يعني أن الشعب هو صاحب السلطة العليا في كل دولة، وأنه صاحب السيادة في داخل الدولة، وأن له الهيمنة على من يمارسون السلطة التنفيذية، فالكل يعمل باسم الشعب ولحسابه ومسئول أمامه.

وظاهر من ذلك أن الشعب يمارس سيادته في النظم الدستورية المعاصرة بواسطة التشريع، فالسيادة في الدولة هي للتشريع، ومن هنا جاء الاعتراف بسيادة القانون، وهذا هو المنطق الذي يؤكد سيادة الشريعة، باعتبار أنها هي مصدر القانون وأصله وأساسه بل هي القانون ذاته، وبذلك تهيمن على جميع سلطات الدولة وقوانينها ونظمها ومن يعملون، باسمها أو يمارسون السلطة فيها.

السيادة الشعبية وسيلة لتقرير سيادة التشريع

يتضح من ذلك أن مبدأ السيادة الشعبية إنما كان وسيلة لتقرير مبدأ سيادة القانون، وكلاهما له غرض نبيل وغاية محمودة: هي وجود سلطة أعلى من سلطة الحكومة التي يعمل باسمها الحكام التنفيذيون ويمثلونها، ولذلك يسعى واضعو الدساتير والنظم السياسية إلى تزويد عامة الشعوب بالوسائل والأجهزة التي تمكنهم من فرض السيادة الشعبية بواسطة التشريع، ويختلف مدى نجاحهم في تحقيق هذا الهدف النبيل باختلاف ظروف كل أمة وكل شعب من الشعوب، وتتفاوت الشعوب في المدى الذي تصل إليه في فرض سيادتها وسيادة شريعتها على حكامها بحسب ما وصلت إليه من رقي وتقدم واحترام مواطنيها للمبادئ والقيم السامية، واعترافهم بسيادة القانون والدستور، ومن الواضح أن الشعوب المتخلفة أو النامية أو شعوب العالم الثالث في العصر الحديث، لم تنجح إلى الآن في تحقيق هذا الهدف بالقدر المناسب الذي يمكنها من فرض سيادة القوانين على من يمارسون السلطة وما تضمنته من حدود أو قيود كافية لحماية حريات الأفراد وحقوقهم الإنسانية والمدنية فضلا عن أعراضهم وأموالهم وحرماتهم، وغير ذلك مما يوفر لهم الحد الأدنى من الحياة الإنسانية الحرة الكريمة والأمن والطمأنينة.

لقد أظهر الواقع أن إعلان سيادة القوانين الوضعية لم يكن كافيا لوقف التجاوزات التي تهدد حريات الأفراد، ما دام بعض الحكام يعطي لنفسه الحق في تغييرها وتبديلها على هواه دون التزام بشريعة سماوية تسمو سيادتها على سيادة الدولة التي يسيطرون عليها أو يدعون لأنفسهم تمثيلها، لذلك كان من أهم أصول الإسلام في الحكم أن الحكام مهما بلغوا من سلطان لا يملكون سلطة التشريع وأن مهمتهم هي تنفيذ أحكام الشريعة والالتزام بها وإلزام غيرهم بها، لأن التشريع هو الشريعة الإسلامية صاحبة السيادة العليا في المجتمع.

لذلك فإنه لا يهمنا الجدل حول اصطلاح سيادة الدولة والاعتراف بها أو عدمه إنما المهم في الإسلام هو أن سلطات الدولة لا يجوز أن تتعارض مع سيادة الشريعة، بل ويجب أن تخضع لها وتعمل في إطارها وتلتزم بحدودها، وهذا هو ما نقصده بسيادة الشريعة، التي لا يمكن لأحد أن يدعي لنفسه سلطة لا نستمد منها ولا تلتزم بحدودها، وهذا هو ما يعبر عنه بمبدأ الشرعية في الفقه الإسلامي الذي يقابله مبدأ سيادة القانون في الفقه الحديث، والفرق بينهما أن سيادة الشريعة مستمدة من الإيمان باله سبحانه وتعالى الذي يبرر هيمنة شريعته على الناس جميعا – حكاما ومحكومين – فأساس الخضوع للشريعة والالتزام بها هو طابعها السماوي ومصدرها الإلهي، وكل قانون يستمد منها يكتسب سيادة فعلية في المجتمع وفي ضمير الأفراد – وكل حاكم يلتزم بحدودها وأصولها يكتسب الشرعية في نظر المؤمنين بها، ويكون الخضوع له في هذه الحالة خضوعا لله والاحتكام إليه احتكاما لله سبحانه وتعالى وطاعته طاعة لله. ولا يحتاج الحكام المسلمون بذلك إلى استخدام مظاهر السلطة ووسائل القهر والاستبداد لفرض سيطرتهم على شعوبهم، ولا يحتاج فقهاء القانون للكلام عن السيادة إلى إقناع الناس بطاعة الحكام والخضوع للدولة والاعتزاز بها. وإذا كان لا بد من الكلام عنها فلا بد من التأكيد على أنها سيادة نسبية محدودة لا تعني التهرب من سيادة الشريعة والخضوع لها أو تعطيل أحكامها.

شرعية نظام الحكم "الوطني"

إن ما وضعه فقهاؤنا من قواعد لنظام الحكم الإسلامي، يفترض فيه وحدة الدولة الإسلامية في ظل الخلافة. فكيف تطبق هذه الأحكام في حالة انهيار دولة الخلافة وقيام دول إسلامية متعددة على أساس وطني أو قومي وإلى أي حد تلتزم هذه النظم الوطنية بالأحكام الشرعية.

عندما كتب السنهوري بحثه عن الخلافة كان العالم الإسلامي يغلي ويثور نتيجة للصدمة التي أصابته بصدور قرار تركيا الكمالية بإلغاء نظام الخلافة العثمانية تنفيذا لما فرضته عليها الدول الاستعمارية، وصرحت به معاهدة لوزان. وفي ذلك الوقت كان كثير من المفكرين وقادة الرأي في العالم الإسلامي يظنون أنهم يستطيعون أن تقوم بمسئولية الخلافة التي تخلت عنها تركيا لعجزها عن تحمل أعبائها، أو على الأقل شخصية إسلامية تقبل أن تكون رمزا شكليا لطموح الشعوب لإعادة الخلافة.

لقد عقدوا لذلك مؤتمرات وقاموا باتصالات انتهت بالفشل، لأن الذين فرضوا على تركيا التخلي عن الخلافة لم يكن من المتوقع أن يسمحوا لغيرها من الدول أو الأشخاص بالتصدي لها، ولو كان هذا التصدي رمزيا أو شكليا فقط.

وفي غمرة البحث عن البديل تبارى المفكرون في البحث عن المقومات الأساسية التي تستلزم الشريعة توفرها في هذا النظام لكي يكون شرعيا وفي نفس الوقت يكون ممكنا وعمليا في هذا الجو المضطرب الذي تمارس فيه القوى الاستعمارية المعادية للإسلام سيطرة مباشرة أو غير مباشرة على كثير من الأقطار الإسلامية، فضلا عما لديها من وسائل الضغط والهيمنة الدولية والعالمية التي مكنته من محاصرة الأقطار الأخرى التي تخرج رسميا من نطاق سيطرتها، لتمتعها باستقلالها (ولكنه استقلال شكلي لأنها واقعة تحت نوع من الحصار العسكري والسياسي الذي تمارسه الدول الاستعمارية وتستخدمه لتطويق إرادتها وتقييد سيادتها والحد من حريتها في التصرف، وكانت الجمهورية التركية الناشئة في أنقرة الكمالية أحسن نموذج لذلك).

لقد كانت أول محاولة يقوم بها الأتراك أنفسهم قبل إلغاء الخلافة هو "الفصل بين الأمور الدينية والسياسية" وإبقاء الخلافة كمؤسسة دينية إسلامية عالمية محصورة في الشئون الدينية البحتة، لا شأن لها بالأمور السياسية والدنيوية – ورغم أن هذا التصور كان يفقد الخلافة أهم خصائص النظام الإسلامي فقد اتجه البعض إلى الاستسلام له قانعين بهذه المؤسسة كرمز فقط لوحدة الأمة الإسلامية لأن هذه الوحدة ضرورية لبقاء الأمة الإسلامية وتمسكها بشخصيتها التاريخية الكفيلة ببعث نهضة جديدة تكون وسيلة لبناء دولة إسلامية كبرى موحدة من جديد على أسس متينة. ورغم ذلك فإن هذا البديل الرمزي لم يحظ بقبول القوى الأجنبية فسارع أتاتورك وأصحابه لإرضائه بإلغاء الخلافة؛ وبدأت جوقة من بعض الأقلام المخدوعة أو المضللة أو الحاقدة على الإسلام تتبارى في تقديم المبررات – سياسية وقانونية وشرعية لهذا الإلغاء – فركز السنهوري بحثه في الرد على هذه الأفكار المسمومة، وبنى نظريته التي قدمها في رسالته على أن إقامة نظام الخلافة ولو كانت ناقصة هي ضرورة دينية ليست واجبة فقط بل هي ممكنة كذلك إذا أخذت صورة منظمة دولية بدل كبرى موحدة.

إنه لاحظ أن هناك واقعا جديدا لا بد من أخذه بعين الاعتبار وهو انفصال الأقطار الإسلامية بعضها عن بعض نتيجة انهيار دولة الخلافة، مما أدى إلى انشغال كل قطر منها بكفاحه الوطني ضد الغزو أو النفوذ الاستعماري، وتمكن بعضها من تكوين دولة "وطنية" في حدود القطر التي رسمتها له وفرضتها عليه القوى الأجنبية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في حين بقي البعض الآخر (وهم الأغلبية) أسرى للاحتلال الأجنبي (كما في الهند) أو خاضعين للسيطرة الاستعمارية مباشرة أو بطريقة غير مباشرة (كما هو الشأن في البلاد العربية).

هذا الواقع الجديد كان لا بد للسنهوري أن يتعرض له، وأن يأخذه في اعتباره حتى يستطيع أن يرسم لشعوبنا طريقا لبناء جديد للخلافة يعالج هذا الواقع الأليم ويتلاءم معه – وقدم لنا بذلك خطته التي تضمنتها خاتمة رسالته والتي تتلخص في تحويل الخلافة إلى منظمة دولية عالمية، ما دامت الضرورات الواقعية تحول دون إقامة دولة موحدة عظمى (كما كان الحال منذ فجر الإسلام حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية الذي أدى إلى إلغاء الأتراك لنظام الخلافة).

إن من سبقه من الكتاب أو القادة الذين عقدوا المؤتمرات أو قادوا حركة الدفاع عن الخلافة بنوا اجتهاداتهم على أساس أن انهيار الخلافة العثمانية عارض وقتي لا بد أن يسارع المسلمون لمواجهته باختيار خليفة من بلد آخر ودعم نظامه ولو كان نظاما ناقصا أو ضعيفا – كما فعل المسلمون عقب انهيار الخلافة العباسية أمام غزو التتار ولجوء الخليفة إلى مصر. لكن السنهوري لمح بعبقريته أن واقع التمزق والانقسام الذي فرض على الأقطار الإسلامية رغم أنه واقع أليم فإنه سيبقى ما دامت السيطرة الأوروبية باقية على مصائر العالم ... ولذلك يجب مواجهته بنظريات جديدة وحلول جذرية عاجلة. وعلى هذا الأساس بنى مقترحات خطته.

مثل هذه الخطة لم تكن تدور بخلد فقهاء الشريعة الإسلامية من قبل – لأن كتاباتهم كلها بنيت على أساس قيام دولة إسلامية موحدة عظمى تحمل رسالة الإسلام وتمثل وحدة الأمة الإسلامية وسيادتها واستقلالها؛ وهذا هو ما تحقق فعلا منذ فجر الإسلام حتى انهيار الدولة العثمانية – لذلك فإن حادث انهيار الدولة العثمانية قد فوجئ به المسلمون. ولم يكن يدور بخلد أحد من علماء المسلمين أو عامتهم مجرد إمكان وجوده واستمراره، وبالتالي فم يكن بين فقهائنا من قدم لنا صورة لنظام جديد يمكننا من التوفيق بين مبدأ وجوب الخلافة وبين واقع التجزئة والانقسام الحزين المؤلم، الذي لم يشهده العالم الإسلامي قط في تاريخه الطويلة؛ وها هو السنهوري يتصدى بعبقريته ليسد هذا الفراغ – ونعتقد أنه قدم لنا أحسن حل ممكن يوفق بين مبادئ الشريعة ومأساة التمزق الذي فرض على العالم الإسلامي في هذا العصر.

من أجل هذا فإن كتابه يستحق منا أن نجعله نقطة تحول في تاريخ الفقه الإسلامي – وبابا من أبواب الاجتهاد الذي يجب على المسلمين أن يلجئوا إليه لمواجهة "النوازل" التي لم يشهدها أسلافهم ولم يواجهها فقهاؤهم من قبل، حتى في نطاق التصور والخيال، والتي من أجلها شرع الله لنا الاجتهاد والإجماع ليقدم لنا الحلول الشرعية التي نواجه بها هذه "النوازل" الجديدة.

إننا نعتبر أن بحث السنهوري كان مجرد بداية لانطلاق جديد في عالم الفكر والفقه وعالم السياسة والواقع – ولذلك حرصنا على ترجمته وإضافة ما يلزم من حواش تربط بينه وبين التطورات السياسية والفكرية التي جدت بعد تأليفه. وكنا نتمنى أن يقوم المؤلف بذلك – وقد صرح هو لي بذلك في حياته – ولكنه بكل أسف كنا قد انصرف عن طريق الدراسات المتعلقة بالقانون العام واتجه بكليته إلى دراسات القانون المدني، التي شهد له الجميع بعبقريته فيما أنتجه في مضمارها. وليس هنا مجال البحث عن السبب الذي دفعه إلى التخلي عن دراسات القانون العام والتفرغ المدني، وإن كان قد عاد إليه رئيسا لمجلس الدولة ولقي بسبب مواقفه المثالية الجريئة ما يعرفه الجميع وما أدى لاعتزاله العمل العام بسبب اصطدامه مع السلطة الحاكمة في ذلك الوقت.

لقد كان من نصيبي أن عشت مع كتاب السنهوري منذ عام 1946 إلى اليوم أكثر مما عاش معه المؤلف نفسه. فقد بدأت قراءته ودراسته في باريس – فترة دراستي بها – وكنت في ذلك الوقت في نفس السن التي كان فيها المؤلف عندما كتبه. ولكن الطريق الذي سار فيه كل منا كان مختلفا كل الاختلاف. فإنه سار في طريق البحث العلمي والتأليف ودراسة الفقه والقانون طوال بقية حياته وخاصة في نطاق القانون المدني. أما أنا فقد اختار الله لي طريقا آخر فيه من العمل السياسي أكثر مما فيه من البحث والتأليف، وليس هنا مجال التحدث عن دروبه ومسالكه ومصاعبه ومزالقه التي حرمتني من الاستقرار في دراسة معينة أو مهنة واحدة أو بلد واحد أو عمل واحد منذ ذلك التاريخ إلى الآن.

ورغم ذلك فلم يفارقني هذا الكتاب بل جعلته هو برنامج كفاحي وعملي السياسي منذ قرأته. وأقر بأنه كان له دور كبير في اختياري الطريق الذي سرت فيه رغم ما فيه من محاذير ومخاطر الاصطدام بالسلطات الحاكمة الذي واجهته منذ مطلع شبابي في عام 1954، وهو نفس العام الذي وقع فيه للسنهوري ما وقع – والفارق بيننا هو أنني كنت في بداية حياتي العملية ولازمني ذلك طوال حياتي فعاقني عن الإنتاج العلمي الذي كنت أرجوه – أما هو فقد واجهه بعد حياة علمية حافلة بالمؤلفات والكتب التي تخلد ذكراه. هذا هو الذي صرفني عن إتمام ما بدأته في عام 1947 بقصد ترجمته ونشره باللغة العربية وإضافة تعليقات عليه. ولقد فكرت مرارا في نشر مؤلف مكمل له وسائر في الطريق الذي افتتحه أستاذنا العظيم، ولكن ذلك لم يتم لنفس الأسباب التي أخرتني عن إتمام ترجمة كتاب الخلافة.

هذا المؤلف الذي كنت أعتزم أن أكمل به رسالة السنهوري كان ضروريا في نظري ليسد الفراغ الذي لمسته في كتاب "الخلافة" منذ قرأته – وهو اقتحام الفقه الإسلامي لميدان البحث في نظم الحكم ودساتيره في "الدول الإسلامية الوطنية"، ووضع نظرية كاملة لهذه النظم الجديدة التي تطرق السنهورري إلى إمكان الاعتراف بها في حالة الضرورة.

لقد خطا السنهوري خطوة جريئة بإدخال هذه النظم الوطنية التي تقوم في أقطار العالم الإسلامي المختلفة الممزقة في إطار المنظمة الدولية العالمية التي يرى أن تكون الصورة الجديدة الخلافة في الظروف الحاضر للعالم الإسلامي – بل إنه جعل هذه الدول الوطنية أساس المنظمة وجزءا منها – ولكن مجال دراسته لم يتسع للبحث في معيار "شرعية" تلك النظم المستحدثة – لذلك أصبح مجال البحث فيه متروكا لمن يأتي بعده.

إن هذا البحث يستلزم إبراز الأصول الفقهية التي تحكم هذه النظم، وبناء نظرية متكاملة لها، سواء استظلت بمظلة المنظمة الدولية التي اقترحها السنهوري، أو كانت خارجة عن إطارها، ويزداد الأمر تعقيدا إذا كانت تستظل بمظلة قوة أجنبية غير إسلامية.

لقد كنت أطمع في أن تتاح لي الفرصة للمساهمة في بحث هذا الموضوع مستعينا بما قدمه السنهوري في نظرية الخلافة – وراودني هذا الأمل كلما أتيح لي بعض الاستقرار في العمل الأكاديمي. ولكني الآن – وقد بلغت السن التي يتلاشى معها مثل هذا الأمل – قد آثرت أن أقدم ما لدي من آراء في هذا الصدد في صورة حاشية مكملة لترجمة كتاب السنهوري، التي آمل أن أقدمها لقراء العربية بعد أن تأخر ذلك ستين عاما – وكنت أسعى لإتمامها ولم أتمكن من ذلك خلال أربعين عاما مضت.

لقد كتب السنهوري بحثه عن الخلافة وهو في العشرينات من عمره وهو يدرس في فرنسا. وقرأته وأنا في مثل تلك السن أدرس في فرنسا وعدت إليه مرات بعد ذلك من حين لآخر – ولكني الآن قد تجاوزت الستين وأشرفت على السبعين وقد عقدت العزم على إتمام ما بدأته – إذا أعانني الله عليه – ويشرفني أن أقدم آرائي في صورة حاشية مكملة لكتاب السنهوري – اعترافا له بالسبق وإقرارا له بالفضل وإحياء لسنة أجدادنا من العلماء الذين كانوا يحرصون على الاعتراف لأسلافهم من الباحثين بالإمامة والفضل وتخليد تراثهم وأفكارهم بإضافة الحواشي إليها. وأرجو أن تواصل الأجيال القادمة بحوثها في هذا الموضوع لكي تقدم لأمتنا ما تحتاج إليه من معالم طريق النهضة على أساس الوحدة والسيادة إن شاء الله.

إن نظرية الخلافة التي قدمها لنا السنهوري هي مجموعة المبادئ والقواعد الفقهية التي يقوم عليها نظام الخلافة "الصحيحة" – وأحسن نموذج لها هو نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة.

أما نظم الخلافة غير الصحيحة التي جاءت بعد ذلك والتي بدأت بحكم الأمويين وانتهت بالدولة العثمانية – فإنه اعتبرها خلافة "ناقصة" لكنه لم يهملها بل قدم لنا نظرية متكاملة لها جعلها مكملة لنظرية الخلافة الصحيحة، وذلك لسبب واضح وهام وهو أنها في نظره استثنائية فرضتها حالة الضرورة وقد اعترف بها المسلمون لكي تكون طريقا لإعادة الخلافة الصحيحة عندما تزول حالة الضرورة التي أوجدتها – ولذلك خصص لها السنهوري بابا وضعه ضمن أسباب انتهاء الخلافة الصحيحة – وصرح بأنه قصد بذلك تأكيد الصفة الاستثنائية المؤقتة لهذه النظم مهما كان أمدها طويلا – وأن الاعتراف بشرعيتها على أساس نظرية الضرورة يجعلها وسيلة لإعادة بناء نظام الخلافة الصحيحة الراشدة متى توفرت الظروف التي تجعل ذلك ممكنا.

ولتأكيد هذه الفكرة نجد أنه عند دراسة أسباب انتهاء الخلافة الناقصة حصر بحثه في سبب واحد، هو انتهاؤها لتحل محلها الخلافة الصحيحة.

معنى ذلك أنه لم يتعرض لانتهاء الخلافة الناقصة بتمزق الدولة وانهيارها وقيام دول وطنية قطرية متعددة تحل محلها، رغم أن هذا هو ما شاهده عندما كان يعد بحثه. ولكن الذي دعاه إلى تجاهل تلك الصورة هو أنه كان واثقا بأنها لن تدوم طويلا، وأن العالم الإسلامي لن يسمح ببقاء هذا التمزق والانقسام وسوف يسارع إلى بناء وحدته في صورة من الصور أقربها في نظره هي صورة المنظمة الدولية التي اقترحها. لكي تبقى وحدة الأمة في الفترة التي توجد فيها ضرورة قاهرة تمنع وحدة الدولة.

إن نظرية الضرورة من الركائز الأساسية الأصيلة في الفقه الإسلامي عامة – وفي فقه الخلافة بصفة خاصة. وقد استفاد منها السنهوري في بحثه استفادة لفتت نظر أستاذه الفرنسي المسيو إدوار لامبير الذي نوه بما أقدم عليه السنهوري – مشيرا إلى أن نظرية الضرورة مبدأ عالمي تقوم عليه كثير من الأحكام القانونية عامة وأحكام القوانين الدستورية بصفة خاصة، بل والمبادئ الدينية كذلك، كما هو واضح في القوانين الدستورية بصفة خاصة، بل والمبادئ الدينية كذلك، كما هو واضح في مقدمته لكتاب الخلافة.

إن نظرية الضرورة هي الحلقة المجهولة التي تربط نظم الحكم الواقعية في البلاد الإسلامية بالفقه الإسلامي المثالي المستمد من الخلافة الراشدة. إن هذا الحكم الراشد هو النموذج الخالد للحكم الإسلامي الصالح الشامل العام المتكامل. إنه النموذج المتمثل في نظرية "الخلافة الصحيحة" التي يجب أن تبقى أمام كل مسلم مثلا أعلى يطمح إليه، ويجب أن تكون الأحكام والقواعد المستمدة منها منبعا لكل تطور تسير فيه الشعوب الإسلامية نحو الكمال الذي تنشده وينشده العالم أجمع في هذا العصر الذي أصبحت فيه الوحدة العالمية والتضامن العالمي هدفا عمليا لا مجرد حلم خيالي. إن مساهمة الأمة الإسلامية في بناء الوحدة العالمية هي بناء وحدتها وتضامن شعوبها وحكوماتها ودولها وتوثيق عرى التعاون بينها لتكون جديرة بالمساهمة في إقامة الوحدة العالمية والتضامن والتعاون العالمي.

إن نظرية الضرورة مكنتنا من أن نقدم للضمير المسلم ما يحرره من الشعور بالتناقض بين عقيدته وشريعته من ناحية، وواقعه العملي من ناحية أخرى وهذا التحرر يعطيه طاقة عقدية إيجابية توجهه إلى سلوك الطريق العملي للسعي لعلاج هذا التناقض وإزالة أسبابه كلما استطاع إلى ذلك سبيلا.

إن نظرية الضرورة عندما تعطي للمسلم المبرر الشرعي لاعترافه بنظام الحكم القائم وخضوعه له في حالة الضرورة، إنما تربط ذلك بواجبه الشرعي في السعي الجدي من أجل تصحيح ما يعتقد بوجوده في ذلك الواقع من نقص أو خلل أو عيب أو فساد، بدلا من الاستكانة إلى سلبية الرفض الذي يجعل البعض يديرون ظهورهم للواقع المفروض، ويهجرونه إلى صوامع الخيال والأحلام التي تبعدهم عن طريق العمل الجدي المثمر.

إن النظرية العامة التي نحاول رسمها لنظام الحكم الإسلامي في حالة تعدد الدولة، هي الأساس الذي ينطلق منه الفقه الإسلامي ليكون عاملا إيجابيا فعالا في إصلاح النظم الدستورية في جميع الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية المختلفة، لأنها في الوقت الذي يجيز للمسلم الاعتراف بتلك النظم والخضوع لها ترسم له الطريق العملي الذي يسير فيه نحو إعادة بناء النظام الإسلامي الشامل الصالح الصحيح المتكامل العام.

وقد رسم لنا السنهوري الخطوات العملية والمراحل المتوالية التي يمكن أن تحقق لنا هذا الهدف الأسمى في صورة تناسب ظروف العصر الذي نعيش فيه، وتربطنا في نفس الوقت بشريعتنا وعقيدتنا في عصر تعذر علينا فيه إقامة الدولة الإسلامية العظمى الموحدة، فلا بد لنا على الأقل من إيجاد تنظيم دولي يضم الدول الإسلامية المتعددة ويرسم لها سبل التعاون والتضامن والوحدة في مجالات التعاون التي سبقتنا إليه دول أخرى أقامت وحدتها رغم تعدد دولها، على أسس اقتصادية (كما في أوروبا) أو على أسس سياسية (في أفريقيا).

وواضح من الواقع المعاصر أن الدول العربية والإسلامية لم تتخلف في هذا المضمار بل كانت سباقة إليه عندما أقامت جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وما تفرغ عن كل هاتين المنظمتين من منظمات متخصصة في الشئون الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والفقهية. وبذلك يكون طريق العمل المفتوح أمامنا الآن هو تدعيم تلك المنظمات واستكمال فاعليتها لكي تؤدي إلى تحقيق هدفنا الأسمى، وهو وحدة العالم الإسلامي وتضامنه ليكون عضوا فاعلا في مجال التطلع إلى الوحدة العالمية والتضامن العالمي الذي أصبح هدف جميع الأمم والشعوب في عصرنا الحاضر.

الإسلام والقومية

هل يعني الاعتراف بالحكومات الوطنية رفع شعار القوميات وشغل الشعوب بها؟ وهل تتعارض الحركات الوطنية مع القول بأن الشعوب الإسلامية هي أمة واحدة؟ الأصل أن الإسلام لا يتعارض مع الوطنية بشرط أن تكون الوطنية (أو القومية) أهدافا مرحلية تؤدي إلى إقامة الوحدة الإسلامية الشاملة وليست بديلا عنها. وألا يكون أساسها النعرات العنصرية التي تثير خلافات ومنازعات بين شعوبنا. إذا كان ما يقصد بالوطنية (أو القومية) هو السعي لاستخلاص حقوق الشعوب القومية والكفاح ضد السيطرة الأجنبية على بلادنا، فإن هذه المطالبة واجب إسلامي، ولا يمكن أن يعارضه داعية للإسلام، لأن ضمان حقوق الأفراد والشعوب هو جزء لا يتجزأ من نظم الإسلام ومبادئه وشريعته، أما إذا كان المقصود بالقومية هو تعطيل الوحدة الشاملة للأمة الإسلامية – فالعمل للواحدة يوجب علينا مقاومتها لأنها تخلق خصومات وعداوات.

القوميات التي تمزق وحدة الأمة

إن شعار القومية أصبح سلاحا ذا حدين، فإنه في مرحلة النضال ضد السيطرة الاستعمارية كان في نظر شعوبنا وسيلة لتجميعها وتوحيدها وتوثيق عرى الأخوة والتضامن بينها ضد العدو الأجنبي، ولكن منذ إعلان استقلال هذه الأقطار أصبحت الدعوة إلى القوميات الآن تتخذ مبررا لبعض الدعوات الانفصالية والعنصرية التي تستخدم لتمزيق الوحدة الداخلية في كثير من أقطارنا. فقد اتخذها البعض وسيلة لدفع الطوائف والعناصر المختلفة في داخل كل شعب من شعوبنا، لكي تدعي لنفسها قومية لها الحق في (الاستقلال) أي الانفصال، بحجة أنها تريد تكوين دولة أو دويلة طفيلية مصطنعة مصيرها أن تقع حتما تحت حماية القوى الأجنبية العالمية التي تزود دعاة هذه الحركات بالمال والسلاح لإشعال نيران الحروب الأهلية في بلادنا باسم حركات التحرير أو الثورات التي تغذيها القوى الأجنبية لتحطيم وحدة كل دولة من الدول العربية أو الإسلامية كما يحدث في لبنان والسودان والمغرب وباكستان وإيران والعراق، بل وفي نيجيريا وتشاد.

فضلا عن ذلك، فإن بعض أنظمة الحكم الاستبدادي تستغل هذا الشعار لتعطيل التقارب والتضامن والوحدة بين شعوبنا بخلق مشاكل مع جاراتها وإخوانها في العقيدة واللغة والتاريخ والأهداف.

ويتم ذلك بتغذية النزعات العنصرية باسم القومية واصطناع نزاع على الحدود يتحول إلى حرب عدوانية أو أهلية كلما رأت إحدى القوى العالمية أن تشجعها على ذلك وتمدها بالعون المالي أو السياسي. بذلك أصبحت منطقتنا مجالا للحروب بين الحكومات المتنافسة والأنظمة المتخاصمة، التي تتخذ القومية شعارا ومبررا لتمزيق وحدتها التاريخية التي أقامها الإسلام وقامت عليها دول كبرى إسلامية تضم شعوبنا من المحيط إلى المحيط. إن هذه الوحدة الكبرى هي القادرة على إذابة هذه الخصومات وإقفال باب النزاعات التي تغذيها القوى الأجنبية الطامعة وتستغلها في النهاية لمصالحها وحدها.

الدول الصغيرة مصيرها الزوال

منذ حصول كل قطر من أقطارنا على استقلاله أصبحت الشعارات القومية عقبة في طريق الوحدة بين أقطارنا، ووسيلة لتغذية الخصومات والانقسامات والعداوات بين شعوبنا لبقاء التجزئة التي فرضها الاستعمار على أمتنا. إن الحدود الحالية لدولنا الصغيرة قد رسمها الاستعمار. وهو يسخر أعوانه وعملاءه لكي تتمكن القوى الأجنبية الطامعة من أن تحكم سيطرتها على دولنا الصغيرة. إن الدول الصغيرة لم يعد لها وزن في المعترك الدولي إذا لم تنضم إلى مجموعات كبيرة، ولا تستطيع أن يكون لها كيان اقتصادي أو عسكري تقاوم به الضغوط والمطامع الأجنبية.

لقد أصبح من المؤكد أن عالمنا الحاضر تسيطر عليه دول كبيرة في إقليمها وعدد سكانها، بل إن هذه الدول الكبرى تسعى إلى جانب ذلك لكي تكون حولها مجموعة من الدول التي تشاركها في عقيدتها ونظامها السياسي والاقتصادي لكي تزداد بها قوة ونفوذا في المجال الدولي. ولم تعد للدول الصغيرة قدرة على مواجهة أطماع هذه الدول الكبرى وتكتلاتها في شرق أوروبا أو غربها (بما في ذلك أمريكا) إلا إذا تجمعت واتحدت وكونت فيما بينها مجموعة كبرى يكون لها وزن في المجتمع العالمي سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية.

إن مهمة الجيل الجديد هي قيادة شعوبنا المختلفة نحو الوحدة. وعليه أن يختار بين التبعية أو الاندماج في أحد التكتلات الأجنبية وبين الوحدة الأصيلة على أساس نظام إسلامي اجتماعي واقتصادي وأخلاقي متكامل وتضامن شامل بين جميع الشعوب الإسلامية التي وحدتها العقيدة.

إن طريق التبعية يفتح الباب لسيطرة عملاء المذاهب المستوردة التي تدعو إلى الانضمام للقوى الرأسمالية الغربية (التي ترفع شعار "الليبرالية" كوسيلة لفرض سيطرتها الاقتصادية والسياسية والثقافية)، أو الانضمام للديمقراطيات الشعبية (المبنية) على المبادئ الماركسية أو الاشتراكية الثورية الإلحادية وما يشتق منها، والتي تدعو إلى الاشتراكية العالمية).

الشعارات القومية تتجاهل المطالب الاجتماعية

إن الأغلبية الساحقة في بلادنا قد اختارت العمل لإقامة وحدة أصيلة متميزة على أساس مقوماتنا التاريخية والعقيدية الإسلامية. ونحن واثقون من أن ذلك هو اختيار جميع الأحرار المكافحين في سبيل الأهداف السامية التي تطمح لها شعوبنا. ولكي يؤكدوا هذا الاختيار عليهم أن يسموه باسمه الإسلامي بدلا من الأسماء والشعارات المستوردة التي يستغلها أعداء شعوبنا وعملاؤهم.

إن الشعارات القومية أصبحت قاصرة عن تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية في هذه المرحة من مراحل كفاح شعوبنا، لأنها شعارات سياسية بحتة ليس لها مضمون اجتماعي أو اقتصادي – ونحن الآن نحتاج إلى أن يكون لكفاحنا السياسي محتوى فكري أو عقيدي أو اجتماعي أو اقتصادي متميز يغنينا عن المضمون الليبرالي الذي تدعو له الكتلة الغربية، وعن المضمون الاشتراكي الذي تدعو له الكتلة الشرقية – وليس أمامنا مضمون أصيل نستطيع أن نعتمد عليه في تطوير نظمنا الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الأصيلة إلا المضمون الإسلامي المستمد من عقيدتنا وتاريخنا – وبه وحده تستطيع شعوبنا أن تتحصن ضد التبعية الفكرية والأيديولوجية للتكتلات التوسعية الغربية والشرقية في أوروبا وأمريكا – وتستطيع في نفس الوقت أن تصلح أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها له السيطرة الأجنبية والفرقة والتمزق الذي تغذيه الشعارات القومية.

إننا ندعو المخلصين منهم إلى أن يتميزوا عن دعاة التبعية أو الاندماج في التكتلات الأجنبية التوسعية التي لها مطامع استراتيجية واقتصادية تحول دون سير اقتصاديات بلادنا نحو الاكتفاء الذاتي، وتطوير إنتاجنا لتستغني عن الاعتماد عليهم في تطوير صناعاتها وزراعتها ومؤسساتها الاجتماعية والثقافية على أساس مقوماتها الذاتية وشخصيتها التاريخية.

عقيدتنا تزودنا بطاقة نضالية كبرى

إن دعاة الإسلام قد ارتفعت أصواتهم في الفترة الأخيرة مطالبين بهذه الوحدة تؤيدهم الغالبية العظمى من شعوبنا بعد أن مرت بتجارب الفترة الماضية وعرفت من تجاربها أن القوى الإسلامية هي التي تقدمت صفوف المقاومة للمطامع الخارجية والنظم الاستبدادية وأنها قدمت في سبيل هذه المقاومة ضحايا وشهداء – هؤلاء الشهداء لم يقدموا أرواحهم في سبيل أهداف جزئية أو مرحلية، بل في سبيل الله الذي سلحهم بعقيدة الإسلام وفرض عليهم التضحية من أجل إقامة نظمه وتطبيق شريعته. إن شعوبنا الآن قد اكتشفت المنبع الخالد الذي يزود كفاحها ضد أعداء وضد عملائهم بقوة ذاتية لا يمكن أن تقهر، ولا بد أن يحقق لها النصر إن شاء الله، فلا يجوز بعد ذلك إرجاعها للوراء لترديد شعارات شكلية جوفاء تصرفها عن طريق الكفاح والتضحية في سبيل الله.

إن العقيدة الإسلامية كان لها الدور الأكبر في إمداد شعوبنا بالقدرة على مقاومة الاستعمار والطغيان بروح التضحية والفداء ... وهي تؤمن بأن الإسلام هو المصدر الأول الذي يمدها بالقدرة على المقاومة والتضحية .. وأمامها الآن مرحلة جديدة للجهاد من أجل إقامة الوحدة الإسلامية وهو هدف لا يمكن أن ننشغل عنه بترديد الشعارات المستوردة التي لا تغنينا عنه أصالة الإسلام ولا تصلح بديلا عن الإيمان به وبقيمه وشريعته وأصالته.

حوار علمي

صحيح أن هناك أسئلة جادة وعميقة يرددها البعض عن كيفية تحقيق النظام الإسلامي، وهي تفتح الحوار العلمي في موضوعات واسعة تحتاج إلى دراسات واجتهادات وتجارب، وتحتاج إلى مناقشات علمية وفقهية ولا بد من بحثها ومناقشتها بل والاجتهاد فيها على ضوء التجارب المعاصرة إذا كنا نريد فعلا أن نصل إلى إقامة وحدة إسلامية ونظام إسلامي لا زيف فيه ولا تجاوز. ولكن المناقشة تكون بعد إقرار المبدأ والتسليم به وهذا ما يطالب به الآن دعاة الإسلام. وأعتقد أننا في كثير من البلاد قد وصلنا إلى نوع من الإجماع على هذا المبدأ – ولم نعد نكتم إيماننا بضرورة إقامة نظم الإسلام ووحدة شعوبه وأصبح من حقنا أن نفتح الحوار حول هذه الأسئلة التي تشغل كثيرين في الوقت الحاضر في كثير من البلاد العربية والإسلامية.

إننا نواجه مشكلة حقيقية عندما نفكر في الإجابة عن هذه الأسئلة، وأعتقد أن المحاولات المعاصرة قد كشفت عن ذلك، والتجارب التي نشاهدها في بعض الأقطار لإقامة نظم إسلامية عصرية سوف تفيدنا كثيرا في هذا المجال ويجب علينا أن نستفيد منها بدلا من التشهير بها – إن لها فضل السبق – ويجب أن نعرف أن التطبيق وحده هو الذي يضطرنا اضطرارا إلى البحث عن حلول إسلامية للمشاكل العصرية التي تواجهنا، وإقامة النظام الإسلامي عمليا هو الذي يدفع بنا دفعا نحو الاجتهاد في استكشاف أصول الحكم الإسلامي الصحيح وتدعيمها وتحصينها من الانحراف أو التزييف. ولا يمنع من ذلك أن تواجه هذه التجارب عثرات أو تجاوزات لأنه لا تجارب بدون شوائب – لكنها شوائب لا تحسب على الإسلام أو على نظامه أو مبادئه وإنما هي محسوبة على الأفراد أو الجماعات الذين يحاولون ويخطئون، والخطأ من طبيعة البشر. وعلينا الآن أن نفكر جديا في البحث عن الوسائل والمبادئ والقواعد الإسلامية التي يمكننا أن نعالج بها هذه الأخطاء أو الانحرافات التي وقعت والتي ستقع بعد ذلك مسترشدين بعقيدة الإسلام ومبادئه السامية وشريعته السمحاء.

مبدأ الشرعية بين نظام الحكم المثالي ونظام الحكم الوطني

الدولة الإسلامية التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وسار على نهجه في بنائها خلفاؤه الراشدون على الأصول والأسس التي استمدوها من القرآن والسنة تمثل نظام الحكم المثالي الذي يبقى أمام الأجيال التالية نموذجا يحتذى، ويستنبط منه علماؤنا وفقهاؤنا القواعد التي تبنى عليها نظم الحكم في الدولة التي تنتسب للإسلام، وتبنى على أساس مبادئه وشريعته.

إن أحكام هذا النظام المثالي هي التي عرضها لنا السنهوري في نظرية الخلافة وسماها "الخلافة الصحيحة" – وميزها عن نظم الحكم التي فرضها الواقع على الأمة الإسلامية بعد عهد الخلفاء الراشدين، والتي وضع لها السنهورري نظرية "الخلافة الناقصة"، لكي يميزها بذلك عن الخلافة الراشدة الصحيحة، وأعلن لنا أنه قصد بذلك تطهير أحكام الخلافة الصحيحة من التأثر بالسوابق التاريخية التي وجدت في عهود الخلافة الناقصة.

رغم أن نظرية الخلافة الناقصة – هي باعتراف الجميع – مشوبة بعيوب تخالف الأصول والمبادئ التي وضعتها الشريعة للحكم في الخلافة الصحيحة – فإن السنهوري قد استفاد من نظرية الضرورة ليجيز للمسلمين الاعتراف لهذه الحكومات بالشرعية – لأن ما شابها من نقص أو عيب أو فساد إنما نتج عن أسباب طارئة عارضة لا بد من إزالتها لإعادة نظام الخلافة الصحيحة الراشدة الملتزمة بالأصول والمبادئ الشرعية التزاما كاملا.

في نظرية السنهوري أن النقص أو العيب أو الفساد الذي يشوب الخلافة الناقصة ليس إلا مرضا عارضا أصاب نظام الخلافة الصحيحة، واعتراف المسلمين بالشرعية لهذا النظام الذي فرضته الضرورة يلزمهم بعلاج هذا المرض والقضاء عليه لتصحيح نظام الحكم وإعادة الخلافة الراشدة.

لهذا السبب نجد أن السنهوري يصور لنا أن نهاية أحد النظامين لا بد أن تكون بقيام النظام الآخر – فالخلافة الناقصة هي السبب الوحيد الذي قدمه لنا لانتهاء نظام الخلافة الصحيحة – وكذلك إقامة الخلافة الصحيحة هي النهاية التي يجب أن تنتهي بها الخلافة الفاسدة.

ويدهش القارئ عندما يجد أنه لم يذكر لنا إلغاء الخلافة أو إنهاءها تماما (سواء كانت صحيحة أو فاسدة) باعتباره أحد أسباب انقضاء النظام الصحيح أو النظام الناقص – كأن هذا الإلغاء أمر مستحيل التصور أو الوقوع.

إن فقهاءنا الأقدمين لم يدر بخلدهم إمكان إلغاء الخلافة وزوالها – وقد كانوا معذورين في ذلك لأن إقامة دولة المسلمين في دار الإسلام في نظرهم فريضة باقية ما بقيت العقيدة والشريعة إلى يوم الدين، ولا يمكن أن يوجد إسلام بدون دولة. فزوال دولة الإسلام لا يكون متصورا لديهم إلا بزوال الإسلام أو انقراض المسلمين من على ظهر الأرض.

ولكن ما لم يتصوره فقهاؤنا الأقدمون قد رآه السنهوري وعاصره وعاينه. ففي العام الذي بدأ فيه كتابة هذا البحث أصدر حكام تركيا قرارا بإلغاء الخلافة بهذا القرار أم لا؟ إن إجابته كانت صريحة وواضحة: وهي أن النظام يجب أن يبقى ويتطور ليتلاءم مع الظروف الحالية. وقدم لنا تصورا يضمن استمرار نظام الخلافة رغم وال الدولة العظمى التي كانت تمثله، وهي الدولة العثمانية، ونشوء عدة دول وطنية على أنقاضها – وعدم احتمال قيام دولة عظمى مماثلة تخلفها في تحمل مسئولية الخلافة. ولكي يتحقق ذلك دعا إلى أن تأخذ الخلافة صورة اتحاد بين عدة دول أو على الأقل منظمة دولية إسلامية تمارس مسئوليات الخلافة في الحدود التي تسمح بها إمكانيات العالم الإسلامي، بدلا من أن تكون في صورة دولة عظمى موحدة، لأن ذلك أصبح غير ممكن في الظروف العالمية الحاضرة.

معنى ذلك أن تمزيق وحدة الدولة الإسلامية وتجزئة العالم الإسلامي إلى أقطار متفرقة لا يعني حتما انتهاء نظام الخلافة، لأنه يمكن للمسلمين أن يقيموها في الصورة التي تسمح لهم ظروفهم – وهي صورة تنظيم عالمي تلتف حوله الأقطار الإسلامية المختلفة، لأن دينهم وشريعتهم تفرض عليهم بقاء نظام الخلافة ما بقي الإسلام في قلوبهم وضمائرهم.

النتيجة إذن أن إلغاء الخلافة العثمانية الذي فرض على تركيا لم يكن نهاية لنظام الخلافة – بل إنه مجرد بداية لتطويرها إلى صورة تتناسب مع ظروف المسلمين في عصرنا وهي صورة المنظمة الدولية.

إن إلغاء الخلافة ليس معناه إذن انتهاء للنظام لأن انتهاءه غير وارد في ذهن السنهوري كما كان مستبعدا في تصور الفقهاء الذين سبقوه – بل ربما كان هو أكثر تفاؤلا منهم، لأنه شهد بنفسه ما لم يشاهدوه. إنه شهد كارثة انهيار الدولة الإسلامية التي كانت تمثل الخلافة وترفع علمها وتتحمل مسئوليتها بقدر استطاعتها. لكن هذه الكارثة لم تدفعه إلى قبول ما سارع إليه غيره ممن استسلموا لهذا الإلغاء واعتبروه نهاية للنظام وبدءوا يبحثون في بطون الكتب عن أسباب تبرر للمسلمين التخلي عن الالتزام بإقامة نظام الخلافة، بل ذهب بعضهم إلى إنكار وجود هذا النظام في الماضي لمجرد أن المسلمين اختلفوا فيمن يتولى هذا المنصب. (كما فعل الشيخ علي عبد الرازق سامحه الله وغفر له).

الفكرة الأساسية في خطته هي أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تتخلى عن مسئوليتها بإقامة نظام يضمن لها ما تستطيع توفيره من مقومات الوحدة أو الاتحاد. أنه في هذه الحالة سيكون لدينا نظام حكم إسلامي، يتكون من قاعدة تضم الدول الوطنية المستقلة في العالم الإسلامي. أما القمة فهي منظمة دولية تساهم فيها هذه الدول وتختص برعاية المسائل المشترك بينها.

معنى ذلك أن الخطة التي اقترحها السنهوري قد فتحت أمام المسلمين بابا للاعتراف بشرعية نظم الحكم القطرية الوطنية لكي تكون هي القاعدة التي تقوم عليها المنظمة التي اقترحها. ينتج عن ذلك في نظرنا أن كل أحكام الخلافة الناقصة يجب أن تطبق على الحكومات الوطنية في الأقطار الإسلامية المختلفة. أي أن نظرية الخلافة الناقصة التي قدمها تطبق على كل حكم لا يستكمل شروط الخلافة الصحيحة ولا تتوفر فيه أركانها ومقوماتها بصورة كاملة.

إن تقرير هذا المبدأ يفتح لنا باب استكمال النقص الذي يشوب تلك النظم، ويرسم لنا الطريق الذي يجب اتباعه لكي نصل إلى ما نطمح إليه من حكم مثالي. ولكي نرسم معالم هذا الطريق سوف نستعرض الثغرات التي يمكن أن تفصل هذه الأنظمة الناقصة عن الحكم المثالي وهذه الثغرات هي:

1 – عدم اكتمال السيادة الإسلامية في دار الإسلام، لأنه من البديهي أن أول شروط صحة الحكم في الدولة الإسلامية – سواء كانت دولة خلافة موحدة أم دولا وطنية متعددة – هو عدم خضوعها لسيطرة أجنبية أو نفوذ أجنبي مهما تكن صورة ذلك النفوذ.

وعلى ذلك فإن وجود محاذير أو قيود تفرضها الدول الأجنبية على حرية الدولة سواء كانت دولة وطنية أم دولة خلافة – يجعل نظام الحكم فيها غير مستقل، وبالتالي فإنه لا يكون حكما صحيحا لا من الوجهة الوطنية ولا من الوجهة الإسلامية.

2 – فساد عقد الولاية نتيجة استخدام الإكراه والعنف لفرض سيطرة حاكم معين أو جماعة معينة: ذلك أن الأساس الشرعي الوحيد لولاية الأمر في الإسلام هو عقد البيعة وهو عقد رضائي يخضع في صحته لجميع أحكام العقود. ويفسد هذا العقد لجميع العيوب التي تشوب إرادة المتعاقدين ويترتب عليها فساد العقد وأهمها الإكراه والعنف – فضلا عن التدليس والغش والخطأ.

وعلى ذلك فإن نظام الحكم الذي يتولى فيه الأمر من مارس الإكراه أو الضغط أو العنف يكون نظاما فاسدا شرعا نتيجة لهذا الإكراه، سواء كان نظاما وطنيا أو خلافة شاملة.

3 – عدم الصلاح أو عدم الصلاحية فالحكم الصالح شرعا هو الذي يضمن للشعب أمنا واستقرارا ويقوم بشئونه الدنيوية والدينية، فإذا لم يقم بهذه الالتزامات بصورة مرضية يكون مقصرا أو ناقصا ويعتبر حكما غير صالح سواء كان حكما وطنيا أو خلافة شاملة. وظاهر أن مقياس الصلاح هنا هو مقياس واقعي يرجع إلى طموح الشعب والدرجة التي وصل إليها من الرقي الاجتماعي والاقتصادي والحضاري بصفة عامة فهو الذي يقرر إذا كان من يتولى الأمر قد قام بالتزاماته في هذه النواحي جميعا أم أنه قصر في ذلك.

4 – عدم الشمول أو عدم وحدة دار الإسلام لأن ولاية الحاكم الوطني محدودة بحدود إقليمية قطرية تقوم على تجزئة ديار المسلمين ولا تحقق وحدة الأمة الإسلامية. وهذا النوع من الدول المحدودة الإقليم قد تفرض وجودها قوة قاهرة سواء كانت قوة خارجية استعمارية – أو كانت اعتبارات عرقية عنصرية أدت إلى سيطرة الزعامات الانفصالية أو تعارض المصالح القومية الاقتصادية أو السياسية أو غير ذلك من الفوارق التي أذابها الإسلام ولكنها قد تعود للظهور لأسباب عارضة ... وقد يكون سببها مجرد تنافس بين الحكام المتعددين والتنازع بينهم إذا أدى إلى عدم اعترافهم لأحدهم بالولاية الشاملة على دار الإسلام مما يجعل نظمهم ناقصة سواء حملت اسم الخلافة، أو حملت اسم الحكومات الوطنية.

5 – سيادة مبدأ الشرعية، وهو ما يعبر عنه في النظم النيابية والديمقراطية بسيادة الدستور والقانون. ومن وجهة نظر الإسلام في الدستور والقانون كلاهما يتمثل في الشريعة الإسلامية وبذلك تكون سيادة الشريعة الإسلامية من أهم مقومات نظام الحكم المثالي، وإذا قصر في ذلك كان نظام الحكم ناقصا وأصبح من واجب الأمة أن تسعى لاستكمال هذا النقص الجوهري في نظام الحكم سواء كان هذا الحكم وطنيا أو كان يحمل اسم الخلافة الشاملة.

ويمكن للباحث أن يلاحظ بسهولة أن جميع المقومات المستمدة من الأصول الشرعية لنظام الحكم المثالي التي استعرضناها، كما استخلصها السنهوري من مؤلفات فقهائنا، لا تختلف عن المقومات التي يقدمها الفقه المعاصر لنظم الحكم الحديثة، والتي تحمل شعار الديمقراطية أو الليبرالية النيابية الحرة مع اختلاف في الشكل أو اللفظ: فما نسميه بيعة حرة يسمونه انتخابا أو استفتاء حرا، وما يسمونه مصالح أمنية أو اجتماعية أو اقتصادية نسميه نحن شئونا دنيوية ودينية، وما يسمونه وحدة التراب أو الإقليم نسميه وحدة دار الإسلام ... وما يسمونه سيادة القانون نسميه سيادة الشريعة.

كما يمكن للباحث أن يلاحظ أن الفارق الوحيد بين ما يسميه السنهوري نظم الخلافة الناقصة، وبين نظم الحكم الوطنية هو أن الأولى تقوم على وحدة دار الإسلام في ظل دولة كبرى موحدة، أما الثانية فتقوم أساسا على تقسيم دار الإسلام إلى عدة دول لكل منها إقليم "وطني" يشمل فقط جزءا من دار الإسلام.

إن الخطة التي اقترحها السنهوري تفتح الطريق أمام الدول الوطنية في العالم الإسلامي لكي تشترك في إقامة منظمة دولية إسلامية، وبذلك نسير في طريق التضامن وتوحيد الشعوب الإسلامية سلميا دون حاجة إلى الالتجاء إلى سير إحداها في طريق التوسع وفرض سيطرتها على الدول الأخرى من أجل تحقيق هذه الوحدة.

وفي الوضع الحاضر الذي تتربص فيه القوى الخارجية لمنع إقامة دولة إسلامية عظمى موحدة كما كان الحال في الماضي – فإن هذا الحل الذي اقترحه السنهوري يفتح الباب أمام المسلمين للاعتراف بشرعية النظم الوطنية مع السعي لإقناعها بالسير في طريق التضامن والتعاون في إطار منظمة دولية إسلامية. وبذلك يكون الفرق بينها وبين دول الخلافة الناقصة أنها تسلك للوحدة طريقا سلميا على أساس المساواة والتعاون والتضامن فيما بينها بدلا من طريق التوسع وفرض السيطرة إحداها على الأقطار الأخرى.

وقبل أن نبحث الفرق بين نظم الحكم الإسلامية المختلفة يجب علينا أن نرسم الخط الفاصل بينها وبين النظم المعاصرة، وهذا الخط الفاصل هو الفرق بين القانون الوضعي، والشريعة الإسلامية الإلهية السماوية المصدر والمنبع – وهو مبدأ الشرعية الإسلامية.

ولإيضاح هذه المقارنة يجب أن نستبعد أولا نظم الحكم الشمولي المطلق، التي لا تعترف بمبدأ الشرعية ولا تلتزم به، فهذا النوع من نظم الحكم لا تدخل ضمن المقارنة التي نعقدها، لأن إرادة الحاكم مطلقة يفعل ما يشاء – فالقانون هو إرادته وهواه دون رقيب ولا حسيب، سواء كان الحكم ديكتاتورية فردية أو ديكتاتورية جماعية يمارسها حزب واحد يملك جميع السلطات التنفيذية والتشريعية. معنى ذلك أن الموازنة بين النظام الإسلامي ونظم الحكم المعاصرة تنحصر في المقارنة بينه وبين نظم الحكم النيابية الليبرالية (في الديمقراطيات البرلمانية الغربية).

ففي النظم النيابية الليبرالية (الديمقراطية) الحديثة تكون سيادة القانون هي المثل الأعلى الذي تتفاوت في احترامها تلك النظم، وأقصى ما تتباهى به تلك النظم هي أن تخضع جميع أجهزة الدولة للقوانين الوضعية الصادرة من سلطتها التشريعية – ولكنها كلها تعتبر القانون تعبيرا عن إرادة الدولة وصادرا عن سيادتها – فسيادة الدولة هي منبع القانون ومصدره.

أما في الشريعة الإسلامية فإن الشريعة تهيمن على الدولة ذاتها لأن الدولة ليست هي مصدر التشريع بل إن الشريعة تعبير عن الإرادة الإلهية المتمثلة في القرآن والسنة. والفقه المستمد منها يسود فعلا على الدولة بجميع أجهزتها، بما في ذلك المجالس النيابية التي تمارس في الدساتير العصرية مهمة إصدار القوانين الوضعية – إن هذه المجالس تلتزم بأحكام الشريعة ولا يجوز لها أن تصدر قانونا وضعيا يخالفها – فسيادة الشريعة هنا سيادة حقيقة فعلية على جميع سلطات الدولة بما فيها سلطة إصدار القوانين الوضعية.

ولهذا أثره الواضح على نظام الحكم. فكل دولة عصرية ديمقراطية (ليبرالية أو غير ليبرالية) هي التي تختار المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم فيها – وتصدر ذلك في صورة دستور تلتزم به لأنه صادر عن سلطتها الدستورية.

إن هذا يستلزم أن تكون الهيئة التي تملك سلطة إصدار الدستور وتغييره معروفة مقدما ومستقرة. ولكن جاءت صور عديدة من الانقلابات استطاع فيها كل من يسيطر على الحكم أن يدعي لنفسه حق تغيير الدساتير وإلغائها بحجة أن حكمه ثوري – وأن الشرعية الثورية تجيز له تغيير كل القوانين والدساتير والأنظمة.

أما الشريعة الإسلامية فإن لها حصانة لا يجوز أن تعبث بها السلطات الثورية التي تدعي لنفسها سلطة إلغاء الدساتير الوضعية، لأن الشريعة سماوية تفرض العقيدة الإسلامية على الجميع احترامها وتقديسها والخضوع لها، هذا الخضوع هو محتوى مبدأ الشرعية الإسلامية ومضمونه.

والنتيجة العملية لهذا المبدأ هي أن الأسس التي يقوم عليها نظام ا لحكم الإسلامي مستمدة من مصدر أعلى من الدولة ومهيمن عليها، فليست الدولة الإسلامية حرة في تغيير مبادئ دستورها أو المساس بالمبادئ الشرعية التي تحدد مقومات الحكم الشرعي، أو خصائصه وأصوله، وإذا فعلت إحدى الدول أو الحكومات ذلك وهو ما يحدث من حين لآخر – فإنها تخرج في نظر جمهور المسلمين عن حدود الشرعية، ويلتزمون بالسعي لتصحيح الوضع الذي فرضه مخالفا للأصول الشرعية، على النحو الذي بيناه فيما سبق.

وقد يشمل النقص أكثر من واحد من هذه المقومات. فهذه الأصول الخمسة هي المقياس الدقيق للمدى الذي يبتعد به الحكم الناقص عن الحكم المثالي (سواء كان هذا الحكم الناقص خلافة ناقصة أو حكما وطنيا) وهذا المقياس يرسم لنا الطريق الذي تلتزم الشعوب الإسلامية بالسير فيه لكي تصبح العيوب التي شابت مقومات الحكم المثالي الخمسة كلها أو بعضها.

إن بعض نظم الحكم الناقصة قد تحرص على تنفيذ أحكام الفقه الإسلامي على الأفراد سواء في ميادين القانون والأحوال الشخصية أو المواد الجنائية، لأن هذه أول واجبات الحاكم المسلم. ولكن هذا لا يكفي لتطبيق أحكام الشريعة، لأنها أوسع من ذلك نطاقا: فلا يجوز إهمال مبادئها المتعلقة بنظام الحكم والتي لخصناها في المبادئ الخمسة الأساسية التي تحدد لنا مقومات الحكم المثالي.

فالحاكم الراشد يبدأ بتطبيق مبادئ الشريعة فيما يتعلق بالبيعة الحرة وصحة عقد الولاية، وحماية سيادة الإسلام في دار الإسلام من الخضوع للقوى الأجنبية والقيام بواجبه في حسن تدبير جميع الشئون الدينية والدنيوية للأمة ووحدة دار الإسلام هذا كله يدخل في إطار التزامه بتطبيق الشريعة الإسلامية، ولا يكفي إذن مجرد إلزام الأفراد بها دون أن يلزم نفسه وحكومته بأصولها وفروعها، لأن الأصل أن يكون قدوة للناس في احترام مبادئ الإسلام، وإذا قصر هو في ذلك فإن حاشيته وأعوانه وغيره من الأفراد لا بد أن يسير في نفس الاتجاه الذي يسير فيه وبذلك يسيطر الفساد والظلم والأهواء على تصرفات الحكام والأفراد وينهار المجتمع وتسقط الدولة ذاتها في النهاية.

من ذلك يتضح أن جميع مقومات الحكم في الإسلام تستمد كلها من مبدأ واحد هو سيادة الشريعة والالتزام بها، لأن كل القواعد والمبادئ المتعلقة بنظام الحكم ونظام المجتمع وحقوق الأفراد وحرياتهم لها مصدر واحد هو شريعتنا الغراء، فسيادتها هي نقطة البداية في كل إصلاح وكل نهضة ومصدر كل عزة وسيادة ووحدة وتقدم.

الإسلام والديمقراطية

يتساءل كثيرون عما إذا كان هناك تناقض بين الإسلام من ناحية، وبين ما يسمونه بالديمقراطية من ناحية أخرى، ويتساءلون لماذا لا يرفع دعاة الإسلام شعارات الديمقراطية الرائجة في هذه الأيام. لا تعارض ولا تماثل:

والرأي عندي أن الإيمان بأن الإسلام نظام كامل شامل لا يتعارض مع ما يقوم به البعض مما يسمونه المطالبة بالديمقراطية، بشرط أن يكون مفهوما أن الديمقراطية توفر المناخ الضروري لإقامة النظام الإسلامي الشامل.

إن ما يقصد بالديمقراطية هو إقامة نظام حكم نيابي يضمن رقابة الشعب على الحكومة ويضمن للأفراد حرياتهم وحقوقهم في ظل مبدأ الشرعية والعدالة القضائية المستقلة. فالمطالبة بهذه الحريات والحقوق واجب شرعي، ولا يمكن أن يعارضه داعية للإسلام، لأن ضمان حقوق الأفراد والشعوب هي جزء لا يتجزأ من نظم الإسلام ومبادئه وشريعته.

لكن الذي يجب أن نضيفه هنا هو أمر هام: ذلك أنه إذا لم يكن هناك تناقض بين الإسلام وبين المطالبة بالديمقراطية أو حقوق الشعوب وحريات الأفراد إلا أن هناك فارقا كبيرا بين الإسلام وبين هذه المطالبات – نلخصه فيما يلي:

الديمقراطية والمضمون المستورد

أولا: إن العمل الإسلامي لا تنحصر أهدافه في نظام الحكم كهدف سياسي بل هو أوسع نطاقا من ذلك وأعم لأنه يهدف إلى إقامة نظم أخلاقية واجتماعية واقتصادية عادلة هي المضمون والمحتوى العقيدي والاجتماعي والأخلاقي للتنظيم السياسي الإسلامي.

إن الإسلام لا يقف عند حد ما يسمى بالديمقراطية السياسية الجوفاء الفارغة من المضمون الاجتماعي والأخلاقي التي تفتح الباب لغزو مجتمعنا بالنظريات الرأسمالية القادمة من الدول الاستعمارية الأوروبية والأمريكية التي تكون الكتلة الغربية كما تفتح الباب لدعاة الأفكار المادية الماركسية الإلحادية التي تصدرها لنا الكتلة الشيوعية التي تضم الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية التي تدور في فلكه والتي تسمي نفسها "الديمقراطيات الشعبية الاشتراكية".

لهذا السبب فإن من حق دعاة الإسلام أن يتفادوا شعار الديمقراطية لعدة أسباب: أولها أنه لفظ مستورد يستمد جذوره من النظم اليونانية القديمة، وثانيها أنه يستغله دعاة النظم الرأسمالية من ناحية، ودعاة النظم الماركسية من ناحية أخرى، فكلا الطرفين يرفع شعار الديمقراطية. إن دعاة الإسلام لا يقبلون أن يكونوا ضمن هذا الفريق أو ذاك، لأن النظام الإسلامي أصيل في مصدره متميز في مصطلحاته ومستقبل في مضمونه عن هذه النظريات والأيديولوجيات المستوردة من الغرب الاستعماري أو الشرق الشيوعي الأوروبي، لأن هذا الاستيراد يؤدي إلى التبعية لهذه الكتلة أو تلك.

إن شعوبنا ترفض التبعية للقوى العالمية الكبرى في الغرب والشرق الأوروبي، وتؤمن بأنه لا بد لها من نظام أصيل شامل يحصن مجتمعنا من أخطار المطامع التوسعية لهاتين الكتلتين، ويحصنه أيضا من الصراع الطبقي، والفتن الطائفية وكل عوامل التجزئة والانقسام بين عناصر الأمة التي يروجها في بلادنا عملاء هذه القوى الأجنبية الطامعة. إن أمتنا قد وحدها الإسلام وزودها بمبادئ اجتماعية أخلاقية عقيدية مشتركة ومتميزة تحميها من الغزو الفكري المتمثل في المذاهب المستوردة – وشعوبنا تعلم أن النظام الوحيد الذي يضمن لها استقلالها الفكري وذاتيتها المتميزة، يجب أن يكون مستمدا من عقيدتها وشريعتها وشخصيتها التاريخية الإسلامية الأصيلة.

أما الديمقراطية السياسية الشكلية التي يرفع شعارها "المطالبون بالديمقراطية". فإنها قد أصبحت شعارا أجوف تجاوزته الأوضاع الحاضرة في بلادنا حيث تحتاج شعوبنا إلى مبادئ اجتماعية واقتصادية وأخلاقية تملأ فراغ هذه الديمقراطية الشكلية وتتجاوزها إلى الأهداف الاجتماعية.

المطالبة لا تكفي:

ثانيا: إن المطالبة بالديمقراطية أو حقوق الشعوب إنما تعني رغبة شعوبنا في الحصول على دساتير تعطي الحكم صورة من صور الحكم النيابي أو "الديمقراطية".

لكننا في المرحلة الحاضرة من تطور أنظمتنا السياسية نريد أكثر من ذلك. فلم يعد يكفينا إعلان الدستور، بل لا بد لنا من قوة ذاتية تكفل لشعوبنا القدرة على مقاومة الأساليب التي ابتكرها أعداؤنا ومن يعملون لحسابهم والتي استطاعوا بها – في كثير من البلاد وفي كثير من الحالات – أن يسلبوا من شعوبنا مزايا الدساتير التي حصلت عليها شعوبنا – بل وتلجأ بعض النظم إلى إلغائها وتغييرها وتزييفها – فلا بد لنا من قوة شعبية أصيلة تمكن شعوبنا من مقاومة هذه الانقلابات. وهذه القوة الذاتية لا يمكن أن تستمد إلا من عقيدة الإسلام وشريعته.

إن دعاة الإسلام إذن لا يكتفون بالمطالبة بالحقوق والحريات بل يؤمنون بالجهاد والتضحية للدفاع عنها أولا ولإقامة النظام الإسلامي الكامل من خلالها – وذلك بالدفاع عن محتواه العقيدي والأخلاقي والاجتماعي الذي يستمد من الشريعة والمثل العليا الإسلامية التي توفر الضمانات لحريات الأفراد وحقوق الشعوب في نظام الحكم فضلا عن وحدة الأمة الإسلامية – لأن إقامة هذا النظام الإسلامي الكامل الشامل هو فرض ديني توجب العقيدة الإسلامية الجهاد في سبيله ولو اقتضى ذلك الجهاد التضحية والاستشهاد.

هناك فرق كبير بين المطالبة وبين العمل والجهاد والتضحية، ومن المؤكد أن دعاة الإسلام الذين يقدمون حياتهم في سبيل عقيدة الإسلام وشريعته ويضحون بأموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك لا يمكن أن نلومهم إذا ضاقوا ذرعا بمن يسلكون طريق المطالبة الكلامية والشعارات المستوردة التي تصرف الشعوب والأفراد عن طريق الجهاد والتضحية.

إن من يرفعون شعارات الديمقراطية السياسية في كثير من الأحيان لا يستطيعون مقاومة مؤامرات القوى العالمية التي تستغل الانقلابات العسكرية للإطاحة بها في بلادنا – كما أن ديمقراطيتهم الشكلية أصبحت لا تغني عامة الشعوب عن مطالبها الاجتماعية التي يستغلها دعاة الأيديولوجيات الماركسية الذين يعملون لحساب بعض القوى الأجنبية العالمية والذين يدعون للديمقراطية "الشعبية" بحجة أنها تحتوي على مضمون اجتماعي مستمد من المذاهب والنظريات الماركسية الشيوعية والاشتراكية.

الاختيار:

لقد سعى جيلنا في سبيل الأهداف السياسية كالديمقراطية والوطنية، لكن الجيل الجديد أمامه مرحلة أخرى للكفاح من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والوحدة الشاملة، وليس أمامه لتحقيق هذا الهدف إلا أن يختار بين طريقين:

طريق الأصالة الذي يدعو للوحدة الإسلامية والشريعة الإسلامية حيث يقوم النظام النيابي في إطار نظام إسلامي اجتماعي واقتصادي وأخلاقي متكامل وتضامن شامل بين جميع الشعوب الإسلامية التي وحدتها العقيدة.

أو طريق التبعية الذي يفتح الباب لعملاء المذاهب المستوردة التي تدعو للتبعية للقوى الرأسمالية التي ترفع شعار "الليبرالية" كوسيلة لفرض سيطرتها – أو تدعو للديمقراطية الشعبية المبنية على المبادئ الماركسية أو الاشتراكية الثورية الإلحادية وما يشتق منها، والتي تدعو إلى التضامن مع الكتلة الاشتراكية .

إن الأغلبية الساحقة في بلادنا قد اختارت طريق الأصالة ولن تحيد عنه، ونحن واثقون من أن ذلك هو اختيار الأحرار المكافحين في سبيل الأهداف السامية التي تطمح لها شعوبنا. ومن حقنا أن نطلب إليهم أن يؤكدوا هذا الاختيار ويسموه باسمه الصحيح بدلا من الأسماء المستوردة التي يستغلها أعداء شعوبنا وعملاؤهم.

لهذا السبب نرى أن بعض دعاة النظام الإسلامي الذين يضيقون ذرعا بمن يرددون شعارات الديمقراطية لا يقصدون معارضتها أو يعترضون طريقها، كل ما هناك أنهم يريدون أن نتجاوزها إلى هدف أكبر وأبعد.

ثم إن فريقا ممن يطالبون بالديمقراطية في هذه المرحلة الحاضرة إنما يقدمونها كبديل عن الأهداف الإسلامية الأكثر شمولا والأبعد مدى، وقد يقصد بعضهم بالإصرار على هذه التسميات المستوردة أن يصرفوا شعوبنا وشبابنا عن طريق العمل الإسلامي الذي أصبح الآن ضروريا لإعطاء الشعوب مصدرا للقوة الذاتية التي تحقق وحدتها وتغذي كفاحها وتزود أفرادها بروح التضحية والفداء المستمدة من عقيدة الإسلام وشريعته. إن صرف الشعوب عن منابع شخصيتها وعقيدتها والوقوف بها عند حد تكرار أهداف جزئية كالديمقراطية السياسية قد يؤدي إلى أن ندور في حلقة مفرغة حول هذه الشعارات التي أفرغت من محتواها الاجتماعي فضلا عن أنها لا تقدم مضمونا عقائديا تتسلح به شعوبنا لمقاومة الأنظمة الاستبدادية التي تدعمها القوى الخارجية وتسخرها لتحقيق خططها الهادفة إلى تمزيق وحدتنا وإبقاء أوضاع التجزئة والتمزق الذي نشاهده اليوم في العالمين العربي والإسلامي.

إننا نريد أن يكون النظام الإسلامي الكامل والوحدة الإسلامية الشاملة هي الهدف الذي يجمع عليه جميع المكافحين في سبيل حقوق شعوبهم وحريات أفرادها ولا يجوز أن يقدم على هذه الأهداف العظيمة البعيدة أية شعارات أخرى جزئية أو مرحلية تعتمد على مصطلحات أجنبية مستوردة يمكن أن يستغلها أعداء شعوبنا كالديمقراطية أو القومية.

إن دعاة النظام الإسلامي يعتبرون شعارات الديمقراطية السياسية قد استنفدت أغراضها وفات أوانها، وأصبح من حق شعوبنا أن تبدأ مرحلة جديدة تسعى فيها لأهداف أكبر وأعظم هي قيام النظام الإسلامي بمحتواه الاجتماعي والثقافي الأصيل – هذه أهداف تلتزم شعوبنا وأفرادها أن يجاهدوا من أجلها ويضحوا في سبيلها بحكم عقيدتهم وواجبهم الديني.

الإسلام يغني عنها ولا تغني عنه

إن من يعملون من أجل حقوق الشعوب وحريات الأفراد يجب ألا يضيقوا بمن ارتفعت أصواتهم بالدعوة للإسلام لأنه في نظرهم أعم وأشمل، فالإسلام يغني عن الديمقراطية والقومية، في حين أن هذه الشعارات الجزئية لا تغني عنه ولا تصلح بديلا عنه. إن دعوتهم تعني ترفيع أهداف شعوبنا والسمو بها إلى أن تكون أهدافا أبعد وأعلى. وبها وحدها تستطيع شعوبنا أن تواصل نضالها وتقدم شهداء في سبيل هذه الأهداف السامية. إننا نرى أن أعداءنا قد كشفوا بوضوح عن خططهم الهادفة إلى تمزيق شعوبنا واستعبادها، ووجدوا لهم عملاء يستخدمون أساليب الطغيان والاستبداد لفرض سلطانهم وإسكات معارضيهم، ولا يمكن مقاومة هذه النظم الاستبدادية العميلة إلا بجيل جديد يتسلح بالإيمان والتضحية والفداء في سبيل الله وتكوين هذا الجيل المؤمن هو أول عمل يقوم به دعاة الإسلام.

خاتمة

معركة السيادة الشرعية

هناك ظاهرة بارزة في تاريخنا الحديث. هي أن شعوب العالمين العربي والإسلامي قاومت الغزو الاستعماري أطول مدة ممكنة، وكانت دائما رائدة لشعوب العالم الثالث في الكفاح من أجل التخلص من آثاره ورواسبه سواء في النواحي السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الفكرية.

لقد سيطرت الدول الاستعمارية على أغلب أقاليم آسيا وأفريقيا مدة طويلة قبل أن تتمكن من السيطرة على أقطار المنطقة العربية والإسلامية – ولم يتم لها ذلك إلا بعد الحرب العالمية الأولى عقب هزيمة الدولة العثمانية مع حلفائها الألمان والنمساويين – واستغلت دول أوروبا الغربية هذه الهزيمة لفرض احتلالها وسيطرتها المباشرة أو غير المباشرة على أقطار العالمين العربي والإسلامي.

وكما أن السيطرة الاستعمارية قد تمت على خطوات تدريجية، فإن التحرر منها والقضاء على آثارها لم يتم دفعة واحدة. فقد بدأت شعوبنا جهادها منذ فرضت عليها السيطرة الأجنبية وواصلت كفاحها إلى أن حققت أغلب أقطارنا استقلالا نسبيا في المجالين السياسي والدولي، وما زالت تعمل في سبيل استكمال سيادتها الإقليمية وشخصيتها الدولية – وتسعى لاسترداد مقومات شخصيتها المستقلة اقتصاديا ولغويا وثقافيا وتشريعيا – وهدفها هو التحرر من التبعية للقوى الأجنبية في جميع النواحي بما في ذلك النواحي الاقتصادية والثقافية والتشريعية.

إن الاستعمار لم يكتف بالاعتداء على سيادتنا الإقليمية والسياسية باحتلال أقطارنا واحدا بعد الآخر – بل إنه رسم الخطة لتحطيم مقوماتنا الاقتصادية والثقافية والتشريعية، وللقضاء على شخصية أمتنا وذاتيتها ووحدتها التي كانت تزودها بقدرة فائقة على المقاومة والكفاح، ميزتها عن غيرها من شعوب العالم الثالث التي لم يحصل كثير منها على استقلاله السياسي إلا بعد أن فقد مقومات شخصيته الاقتصادية واللغوية والثقافية والتشريعية وأصبح تابعا للدولة الاستعمارية وعالة عليها في جميع هذه النواحي رغم استقلاله – كما حدث بالنسبة لدول "الكومنولث البريطاني" و "المجموعة الفرنسية".

لقد كانت سيادتنا التشريعية هي سيادة الشريعة الإسلامية في بلادنا قبل الاحتلال الأجنبي – وكان القضاء على سيادتنا التشريعية يعني في نظر الاستعمار استبعاد الشريعة الإسلامية من ميدان التنفيذ والتشريع، وكان ذلك من أهم أهداف الخطط الاستعمارية وما زال كذلك حتى اليوم – ففي الأقاليم التي احتلتها تلك الدول الأجنبية، كان أول عمل لسلطات الاحتلال هو إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية والقضاء الشرعي، أما في الدولة العثمانية والأقطار التابعة لها التي لم يستطع الاستعمار احتلالها فقد فرضت عليها الامتيازات الأجنبية، وتوسعت الدول في تطبيقها حتى أصبحت سيادة القضاء الوطني والتشريع الإسلامي مقيدة وناقصة وقاست بلادنا من ازدواج التشريع والقضاء – حتى اضطر حكامنا من أجل توحيد التشريع والقضاء إلى التخلي عن تطبيق الشريعة الإسلامية واستوردوا قوانين وضعية أجنبية إرضاء لأصحاب الامتيازات حتى يقبلوا "التنازل" عن امتيازاتهم، وتتحقق وحدة التشريع والقضاء، ولكن ذلك كان في نظرهم إجراء مؤقتا حتى تسترد بلادنا سيادتها الدولية، وتستعيد استقلالها التشريعي والثقافي بعد ذلك.

لذلك كان أول أهداف شعوبنا بعد حصولها على الاستقلال السياسي أن تكمله باسترداد سيادتها التشريعية التي تعني سيادة الشريعة الإسلامية في التشريع والقضاء.

إن قضية تطبيق الشريعة الإسلامية في نظر شعوبنا، هي قضية التحرر من الاستعمار التشريعي ورواسبه المتمثلة في القوانين الوضعية المستوردة، التي حلت محل الشريعة الإسلامية، إرضاء للقوى الأجنبية، وثمنا لتنازلها عن الامتيازات.

إن الدول الاستعمارية كانت تصف احتلالها لبلادنا بأنه عمل تمديني، وأنها احتلت بلادنا لتخرجها من التخلف وتفرض عليها السير في طريق الحضارة. في حين أن هدفها كان تحقيق مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والثقافية – وكذلك وصفت الإجراءات التي فرضتها، وتدخلاتها الحالية لاستبعاد التشريع والقضاء الإسلامي بأنه عمل تمديني، زاعمة أن قوانين الشريعة متخلفة وغير صالحة لهذا العصر – وكما وجدت القوى الاستعمارية لها أعوانا في الميدان السياسي يدعون أن سيطرتها وحكمها لبلادنا كان للدفاع عنا كما يقولون – كذلك وجدت أعوانا يرددون مزاعمها ضد الشريعة الإسلامية والقضاء الإسلامي – ولكن رجال القانون والقضاء وقادة حركة التحرر الفكري والثقافي قاوموا هذا التصوير المنحرف وأثبتوا تفوق الشريعة على القوانين المستوردة – ونمت حركة المطالبة بتطبيق الشريعة وسيادتها حتى أصبحت محل إجماع الهيئات الشعبية والرسمية والثقافية والعلمية في مصر وغيرها من أقطار العالمين العربي والإسلامي – كما يتضح ذلك في هذه المقالات.

لكن هذا الإجماع في مصر على مبدأ تطبيق الشريعة وسيادتها لا يمنع من وجود أصوات شاذة ترتفع من حين إلى حين لترديد الادعاءات الاستعمارية الهادفة إلى تجريح الشريعة الإسلامية والتشهير بالتيار الشعبي الإجماعي الذي يتمسك بسيادتها وتنفيذها، ووجود هذه الأصوات الشاذة إنما هو استثناء يؤكد القاعدة التي أشرنا إليها وهي الإجماع الشعبي والرسمي على مبدأ سيادة الشريعة وتطبيقها.

ثم إن هذا الإجماع لا يمنع من وجود خلاف حول كيفية هذا التطبيق ووقته وشروطه – هذا الخلاف ظهرت آثاره في الحوار الذي دار في الصحافة المصرية بين المطالبين بالتطبيق الفوري الشامل والمنادين بالتدرج والتأني في التطبيق – ولقد استطاعت بعض الأصوات الشاذة المهاجمة للشريعة أن تستغل هذا الخلاف وتصور المطالبين بالتطبيق الفوري بأنهم متطرفون تارة، أو أنهم رجعيون تارة أخرى – ولم يكتفوا بذلك بل تطاولت أقلام بعضهم على بعض أحكام الشريعة ومبادئها مرددة النغمة الاستعمارية البالية التي تسعى لتجريح الإسلام ومبادئه وأنظمته وشريعته بكل الوسائل. ومما يؤسف له أن هذه الأصوات الشاذة تحتمي بالضغوط الأجنبية التي تمارسها بعض القوى الخارجية التي ما زالت تتصرف كأنها تتمتع في بلادنا بامتيازات تعطي لها الحق في التدخل في شئوننا التشريعية والثقافية، وتصر على أن تمكن أعوانها من احتلال مواقع لا يستحقونها في مجال الصحافة والنشر.

واعتمادا على هذه الحماية الأجنبية استغل هؤلاء المهاجمون للشريعة مراكزهم في أجهزة الإعلام فأساءوا إلى الشريعة وإلى الشعب إساءة بالغة، حتى اضطر شيخ الأزهر إلى التنديد بذلك وطالب بوقف هذه الحملات الشاذة.

ومما يؤسف له أن الأوضاع الدولية والظروف الحالية لا تسمح للجهات الرسمية ولا الهيئات السياسية أن تكشف الأيدي الأجنبية التي توجه هذه الحملة ضد الشريعة الإسلامية ودعاة تطبيقها – ولكنها مع ذلك معروفة بعد أن كشفت نفسها وأعلنت مرارا معارضتها لتطبيق الشريعة الإسلامية في إيران والسودان وباكستان، وإن كانت تقدم لذلك أعذارا زائفة مثل الادعاء بوجود نظم استبدادية أو شفقتها الزائفة على الأقليات غير الرسمية وتضامنها مع البهائية وغيرها من الفئات العميلة.

إنه مما يؤسف له أن بعض الصحف وأجهزة الإعلام في مصر ما زالت تفسح صدرها لهؤلاء بحجة أنهم يوالون حملاتهم ضد من يسمونهم المتطرفين (لأنهم يطالبون بالتطبيق الفوري الكامل للشريعة الإسلامية)، أو أنهم يروجون لأسلوب التدرج والاعتدال في تطبيق الشريعة. وهم في الواقع إنما يريدون أن يقدموا خدمة كبرى للقوى الاستعمارية التي تعتبر المسلمين جميعا متطرفين، لأن التطرف أمر نسبي، وهم ينسبون تهمة التطرف والرجعية لكل من يدعو للإسلام أو يدافع عن شريعته ونظمه ومبادئه ونهضته التي تهدد سيطرتهم الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط بل إن بعضهم يعتبر أن الإسلام ذاته تطرف لأنه يدعو للجهاد.

والحقيقة أن التدرج وإن كان محمودا فإنه يكون في ميدان التنفيذ والتطبيق العملي، لا في ميدان الدعوة والفكر. إنه لا يحتاج إلى أن يكون شعارا فكريا يرفعه البعض. لأن المطالبة يجب أن تكون دائما بالأكمل والأمثل، والتطبيق الكامل والفوري هو الشعار الذي يجب أن يتبناه المفكرون والدعاة دائما. وما زلنا نذكر أننا كنا في شبابنا نهتف بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، وما زال هذا الهتاف شعار جميع أجيالنا المقاومة للاستعمار رغم أنه في العمل لم يمكن أن يتم ذلك عملا إلا بالتدرج الفعلي. ولم يطلب أحد من الشباب أن يهتفوا للتدرج في المطالبة بالاستقلال أو أن يقصروا مطالبتهم على الاستقلال الداخلي أو الإصلاح ات الجزئية، بل كانت هذه نغمة القوى الأجنبية وعملائها، وهذا هو الشأن اليوم بالنسبة للمطالبة باسترداد سيادة الشريعة الإسلامية وتطبيقها.

إذ من واجب كل مسلم – وخاصة الشباب منا – أن يهتف للتطبيق الفوري الشامل الكامل ويدعو له. أما من يريدون التدرج فعليهم أن يفعلوا ذلك إن كانوا صادقين في التنفيذ ولكن ليس من حقهم أن يفرضوا على الشباب أو المفكرين أو الدعاة أن يهتفوا بذلك أو يدعو له.

والحقيقة أن الكلام عن التدرج في صحافتنا قد أصبح شعارا يرفعه بعض الذين يقاومون تطبيق الشريعة ويتهربون من تنفيذها. بدليل أنهم لم يفعلوا شيئا في سبيل هذا التدرج المزعوم، وقد مضت سنوات وأعوام ولم يقدموا خطة واحدة لهذا التدرج الذي يدعونه.

ولم نر أي خطوة عملية في سبيل تطبيق الشريعة الإسلامية من جانب المنافقين والمثبطين الذين يرفعون شعارات الاعتدال والتعقل والتدرج المزعوم رغم أنهم يستطيعون ذلك لو كانوا مخلصين أو صادقين أو بعيدين عن النفاق الذي يزين لهم الترويج لتهمة التطرف والتشدد وتوزيعها على كل من يدعو للإسلام أو إلى تطبيق شريعته وتنفيذ أحكامه. إن توزيع هذه الاتهامات إنما هو وسيلة يلجأ إليها طلاب المناصب والمنافع ليقنعوا سادتهم بأن وجودهم ضروري لمقاومة هذا الخطر المزعوم الذي يستخدمون منابر الإعلام للزعم بوجوده، وتضخيم آثاره ليكون النظام القائم محتاجا إلى سماسرة الاعتدال، وليكون لهؤلاء عمل يقومون به بحجة حماية سادة المجتمع وحكامه والمنتفعين من النظم القائمة التي يهددها دعاة التغيير والإصلاح والتطبيق الكامل للشريعة وتنفيذ أحكامها. بهذه الوسيلة المصطنعة ينجح هؤلاء السماسرة في الاحتفاظ بمقاعدهم والمنافع التي يستفيدونها مقابل مقابل ما يدعونه من دفاعهم عن النظم القائمة التي لا يجوز تغييرها ولا تبديلها، مع أن سنة الكون هي أنه لا توجد أوضاع مؤبدة بل كل أوضاع العالم عرضة للتغيير والتبديل.

إن هؤلاء المنافقين الذين يهاجمون الشريعة الإسلامية ويتهمون دعاتها بالتطرف لا يفكرون إلا في مناصبهم ومنافعهم التي يغدقها عليهم المنتفعون بالنظم القائمة والمستفيدون من الأوضاع الحالية التي يشكو منها عامة الناس ويستغيثون مما يصيبهم من شططها وانحرافها. إنهم يعتقدون أن وجود التطرف والتشدد هو المبرر لوجود من يدعون الاعتدال ويتاجرون به ويستفيدون منه. لذلك نجدهم يصرون على ترويج تهم التطرف وينسبونها للمعارضين للنظم القائمة لكي يستمروا هم في التحدث باسمها والدفاع عن بقائها ... والاستفادة مما يمنحه ذلك لهم من مناصب ومنافع لا يستحقونها.

ولكشف هذا النفاق الذي يتسترون به، قدمنا لهم نموذجا لآراء أستاذ القانون العصري المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري في دفاعه عن مبادئ الشريعة فيما يتعلق بنظام الحكم، وفقه القانون العام، كما سجله في كتابه عن "الخلافة" الذي نشره عام 1926، فرغم أنه كان في ميدان التنفيذ العملي من الذين اتبعوا أسلوب التدرج والاعتدال ومراعاة مقتضيات الظروف التي تحيط بالعالم الإسلامي. فإنه عندما يكتب أو يؤلف كان يدافع عن سيادة مبادئ الشريعة ووجوب الالتزام بها التزاما كاملا شاملا في جميع بلاد المسلمين. وقد فعل ذلك في وقت كان الهجوم الاستعماري على الشريعة الإسلامية والدولة الإسلامية قد بلغ ذروته بإلغاء الخلافة، وتنكر تركيا وأعوانها للشريعة وتنفيذها وتطبيقها في نظام الحكم وفي جميع مسائل القانون العام والخاص. يمكن لمن يقرءون دفاع السنهورري عن وجوب الالتزام بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية أن يتهموه بأنه متطرف ومتشدد، لأنه يؤكد أن هذا الالتزام مرتبط بالعقيدة والإيمان فلا يستطيع المؤمن أن يتنكر له أو يعترض عليه.

وكل الذين يدعون لتطبيق الشريعة تطبيقا كاملا فوريا لا يقولون أكثر مما قاله السنهورري في مجال الفقه والدراسة. أما في مجال العمل والتنفيذ فإن السنهورري كان يعمل ما يستطيع عمله في الظروف القائمة، ولذلك اضطر إلى العمل التدريجي وسار في خطة الاعتدال، دون أن يتنكر لمبدأ وجوب الالتزام بالشريعة التزاما كاملا عندما يكون ممكنا، إنه كان يقر بوجود قوى خارجية تعترض على التطبيق الفوري الكامل للشريعة، ولم يكن ينكر ذلك أو يتستر عليه، كما يفعل أدعياء الاعتدال والتدرج في الوقت الحاضر، الذين يتصدون لإخفاء واقع التدخل الأجنبي وينكرون وجود ضغوط خارجية وينسبون لأنفسهم ما يدعيه الاستعمار من تجريح للشريعة ونقد لأحكامها لكي يهدئوا من غضبة الشعوب على التدخل الأجنبي، وهم بذلك إنما يتصدون لحماية ذلك التدخل بإخفائه عن أعين الشعوب.

لقد توسعنا في استعراض دفاع السنهورري عن فقه نظام الحكم الإسلامي ووجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد الإسلامية جميعها، آملين أن يكون ذلك مفيدا لكل من يدعي الدعوة للتطور والتقدم ويتمسح بالقوانين العصرية. إذ لا ينكر أحد في جيلنا أن المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري كان رائدا للتقنيات العصرية وأستاذا للقانون الوضعي في ميادين الفقه والتشريع والتقنين، وما زالت آثاره باقية في مجموعات القوانين التي تولى بنفسه إعدادها ودافع عنها في مصر والعراق وسوريا والكويت وليبيا، ولكنه مع ذلك كان يعتبرها تشريعات مرحلية مؤقتة يجب تجاوزها إلى التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية كقانون موحد لجميع الشعوب العربية والإسلامية بمجرد أن تصل شعوبنا ودولنا الوطنية إلى مرحلة تؤهلها للاستقلال التشريعي والوحدة الثقافية. وكثير ممن يشتغلون بالقانون في الوقت الحاضر يرون أننا قد وصلنا إلى هذه المرحلة التي دعا إليها السنهورري وغيره سواء وصفوا بالاعتدال أو التطرف في الدفاع عن الشريعة الإسلامية.

إننا نقدم هذه المقالات إلى كل من ينشد الفكر الهادئ الصادق ويفكر من أجل الوصول ببلادنا إلى مثلها الأعلى وهو السيادة التشريعية الكاملة للشريعة الإسلامية التي تحقق لنا الوحدة الثقافية في جميع أقطار العالمين العربي والإسلامي، سواء في ميادين الفكر أو التشريع أو القضاء وتكون بلادنا بذلك جديرة بدورها الرائد في العالم الثالث من أجل تصفية آثار الاستعمار الثقافي والتشريعي، آملين أن يتجه الجميع إلى ميدان العمل الجدي ويترفعوا عن المهاترات التي يروجها الذين لا يعملون شيئا ولا يريدون أن يعمل الناس.

والله ولي التوفيق.