رسالة المؤتمر السادس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٥:١٧، ٢٩ مايو ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات) (←‏المصدر)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رسالة المؤتمر السادس


بقلم: الإمام الشهيد حسن البنا

2003-01-04

مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ وصلى الله على سيدنا محمد إمام المجاهدين وعلي آله وصحبه ومن جاهد في سبيل دعوته إلى يوم الدين.

من هم الإخوان المسلمون

أيها الإخوان المسلمون:

بعد عامين من مؤتمركم الماضي بدار آل لطف الله (في الثالث عشر من ذي الحجة سنة 1357 هجرية) دار فيهما الفلك دورته، ورأى العالم فيها مختلف الأحداث والظروف، وانفجر أخيرًا (مخزن البارود)، ودوي علي الأرض من جديد نفير الحرب بعد أن زعم أهلوها أنهم قد أقروا فيها السلام، تجتمعون الآن ـ أيها الإخوان ـ لتراجعوا صفحة أعمالكم، ولتبينوا مراحل منهاجكم، ولتتحدثوا إلى أنفسكم وإلي الناس عن دعوتكم من جديد، لعل في ذلك تبصرةً وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

أيها الإخوان المجاهدون الذين اجتمعتم الليلة من أقصى مصر المباركة إلى أقصاها..

أحب أن تتبينوا جيدًا من أنتم في أهل هذا العصر؟ .. وما دعوتكم بين الدعوات.. وأية جماعة جماعتكم.. ولأي معنى جمع الله بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم، وأظهر فكرتكم في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ.

فاذكروا جيداً أيها الإخوة.. أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام، وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفاء صحابته من بعده، فَضُلَتْ دعوتكم الدعوات، وسمت غايتكم علي الغايات، واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقى لا انفصام لها، وأخذتم بنور مبين وقد التبست علي الناس المسالك وضلوا سواء السبيل، والله غالب على أمره. تجرّد:

واذكروا جيدًا أيها الإخوان أنه ما من رجل منكم ـ أو من إخوانكم الذين حبسهم العذر عن حضور مؤتمركم ـ يرجو بمناصرة هذه الدعوة والعمل تحت رايتها غاية من غايات الدنيا أو عرضاً من أعراضها، وأنكم تبذلون من ذات أنفسكم وذات يدكم، لا تعتمدون إلا علي الله، ولا تستمدون المعونة والتأييد إلا منه، ولا ترجون إلا ثوابه ولا تبتغون إلا وجهه، )وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً( (النساء:45).

فهم

واذكروا جيداً أيها الإخوان.. أن الله قد منَّ عليكم، ففهمتم الإسلام فهماً نقياً صافياً، سهلاً شاملاً، كافياً ووافياً، يساير العصور ويفي بحاجات الأمم، ويجلب السعادة للناس، بعيداً عن جمود الجامدين وتحلل الإباحيين وتعقيد المتفلسفين، لا غلو فيه ولا تفريط، مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالحين استمداداً منطبقاً منصفاً، بقلب المؤمن الصادق، وعقل الرياضي الدقيق، وعرفتموه علي وجهه: عقيدة وعبادة، ووطن وجنس، وخلق ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون. واعتقدتموه علي حقيقته: دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143).

أُخوّة

واذكروا جيداً أيها الإخوان.. أن كل شعبة من شعبكم وحدة متصلة الروح مؤتلفة القلوب، جمعتها الغاية السامية علي هدف واحد وأمل واحد وألم واحد وجهاد واحد، وأن هذه الوحدات المؤتلفة يرتبط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض ويحن بعضها إلى بعض ويقدر بعضها بعضاً، وتشعر كل أمة منها أنها لا تتم إلا بأخوتها ولا تَكمُل أخواتها إلا بها، كلبنات البناء المرصوص يشد بعضه بعضاً، وأنها جميعاً ترتبط بمركزها العام أوثق ارتباط وأسماه وأعلاه، روحياً وإدارياً وعملياً ومظهرياً، وتدور حوله كما تدور المجموعة المتماسكة من الكواكب المنيرة حول محورها الجاذب وأصلها الثابت، لتحقق بذلك قول الله تبارك وتعالي:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10).

جهاد

واذكروا جيداً أيها الأخوة أن الله تبارك وتعالي قد بارك جهادكم ونشر فكرتكم وجمع القلوب عليكم، فلا يمر يوم حتى تتكون لكم شعب وينتصر لمبادئكم عدد غير قليل ممن كانوا يجهلونها أو ييأسون من نجاحها أو يتبرمون بها أو يكيدون لها، وبذلك وصلت دعوتكم إلى مختلف الطبقات، وتغلغلت في المجتمعات، ووجدت الأتباع والأنصار في كل الأوساط والبيئات:

آلاف من الشباب المؤمن مستعدون للعمل والجهاد في سبيل الإصلاح الحق.

دور في كل مكان مجهزة للدعوة والإرشاد والتوجيه الصالح.

فرق منظمة تزاول الرياضة البدنية والروحية بلذة وشغف وسرور.

شُعَب منبثة في القرى والكفور والنجوع والمدن والحواضر تربو على الخمسمائة تتعاون وتتكاتف وتتسابق في الخيرات.

ألسنة وأقلام مفصحة مبينة تكشف للناس عن جمال الإسلام وروعة الإسلام وحقائق الإسلام.

بعثات مستمرة تنفر في سبيل الله لتتفقه في الدين ولتعلمه الناس.

هذه بعض آثار جهادكم أيها الإخوان ترونها واضحة تتضاعف وتزداد:(ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الأنعام:88).

تضحية

واذكروا جيداً أيها الإخوان أن دعوتكم أعفُ الدعوات، وأن جماعتكم أشرف الجماعات، وأن مواردكم من جيوبكم لا من جيوب غيركم، ونفقات دعوتكم من قوت أولادكم ومخصصات بيوتكم وأن أحداً من الناس أو هيئةً من الهيئات أو حكومةً من الحكومات, أو دولة من الدول.. لا تستطيع أن تجد لها في ذلك منّة عليكم, وما ذلك بكثير على دعوة أقل ما يطلب من أهلها النفس والمال:(إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة:111).

إخلاص

اذكروا هذا جيدًا ـ أيها الإخوان ـ لا للفخر ولا للمباهاة, ولكن لتعلموا أن الله قد كتب لدعوتكم من الإيمان والإخلاص والفهم والوحدة والتأييد والتضحية ما لم يكتبه لكثير من الدعوات الرائجة السوق, العالية البوق, الفخمة المظاهر, وتلك الصفات هي دعائم الدعوات الصالحة. فاجتهدوا أن تحرصوا عليها كاملة، وأن تزيدوها في أنفسكم ثباتاً وقوةً، واعلموا أنه ليس لكم في ذلك فضل ولا منة, (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17).

هل نحن قوم غامضون

أيها الإخوان المسلمون..

بعد اثني عشرة عاماً مضت وأنتم تجهرون بدعوتكم وتبلغونها للناس, لا زال هناك فريق يتساءل عن الإخوان المسلمين, ويراهم أمامه جماعة غامضة, فهل أنتم قوم غامضون؟ وسأجيب على هذا السؤال بصراحة ووضوح.

وسأتكلم عن غاية الإخوان المسلمين, وعن وسيلتهم وعن موقفهم من الهيئات المختلفة, وعن موقفهم في هذه الظروف الحاضرة التي تظلل الناس حوادثها. والكثير منكم أحاط بذلك علمًا, وقد سبق لنا أن فصلناه في رسائل الإخوان وكتاباتهم ومحاضراتهم, وإنما نذكر ذلك الآن في إيجاز تذكرة للغافل وتعليمًا لمن لم يكن يعلم.

غاية الإخوان المسلمين:

يعمل الإخوان المسلمون لغايتين: غاية قريبة يبدو هدفها وتظهر ثمرتها لأول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة, أو تظهر الجماعة الإخوانية فيه في ميدان العمل العام. وغاية بعيدة لابد فيها من ترقب الفرص وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين.

فأما الغاية الأولى فهي مساهمة في الخير العام أيًا كان لونه ونوعه، والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف.

يتصل الأخ بالإخوان، فيكون مطالبًا بتطهير نفسه وتقويم مسلكه وإعداد روحه وعقله وجسمه للجهاد الطويل الذي ينتظره في مستقبل الأيام, ثم هو مطالب بأن يشيع هذه الروح في أسرته وأصدقائه وبيئته، فلا يكون الأخ أخًا مسلمًا حقًا حتى يطبق على نفسه أحكام الإسلام وأخلاق الإسلام, ويقف عند حدود الأمر والنهي التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا, فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا, قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا, وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10).

وتتكون الجماعة من جماعات الإخوان، فتتخذ داراً وتعمل علي تعليم الأميين وتلقين الناس أحكام الدين وتقوم بالوعظ والإرشاد والإصلاح بين المتخاصمين، وإقامة المنشآت النافعة من مدارس ومعاهد ومستوصفات ومساجد في حدود مقدرتها والظروف التي تحيط بها، وكثير من شعب الإخوان ينهض بهذه الواجبات يؤديها على حالة مرضية من حسن الأداء.

فهل هذا ما يريده الإخوان المسلمون ويجهزون أنفسهم له ويأخذونها به؟!

لا أيها الإخوان ليس هذا كل ما نريد، هو بعض ما نريد ابتغاء مرضاة الله.. هو الهدف الأول القريب، صرف الوقت في طاعة وخير حتى يجيء الظرف المناسب وتحين ساعة العمل للإصلاح الشامل المنشود.

أما غاية الإخوان الأساسية.. أما هدف الإخوان الأسمى.. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان ويهيؤن له أنفسهم.. فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعاً وتتجه نحوه الأمة جميعاً ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل.

إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة، ويؤمنون بمنهاج، ويناصرون عقيدة، ويعملون في سبيل إرشاد الناس إلى نظام اجتماعي يتناول شؤون الحياة جميعاً اسمه (الإسلام).. نزل به الروح الأمين علي قلب سيد المرسلين ليكون به من المنذرين بلسان عربي أمين.. ويريدون بعث الأمة الإسلامية النموذجية التي تدين بالسلام الحق، فيكون لها هادياً وإماماً، وتعرف في الناس بأنها دولة القرآن التي تصطبغ به والتي تذود عنه والتي تدعو إليه والتي تجاهد في سبيله وتضحي في هذا السبيل بالنفوس والأموال.

لقد جاء الإسلام نظاماً وإماماً، ديناً ودولة، تشريعاً وتنفيذاً، فبقي النظام وزال الإمام، واستمر الدين وضاعت الدولة، وازدهر التشريع وذوي التنفيذ. أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان؟ ! وإلا فأين الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض؟ والله تبارك وتعالي يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49).

والإخوان المسلمون يعملون ليتأيّد النظام بالحكام، ولتحيا من جديد دولة الإسلام، ولتشمل بالنفاذ هذه الأحكام، ولتقوم في الناس حكومة مسلمة، تؤيدها أمة مسلمة، تنظم حياتها شريعة مسلمة أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه حيث قال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون, إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثـية:18-19).

بعض نتائج فساد النظام الاجتماعي الحالي في مصر

أيها الإخوان

إننا في أخصب بقاع الأرض وأعذبها ماءً, وأعدلها هواءً, وأيسرها رزقًا, وأكثرها خيرًا, وأوسطها دارًا, وأقدمها مدنيةً وحضارةً وعلمًا ومعرفةً, وأحفلها بآثار العمران الروحي والمادي والعملي والفني, وفي بلدنا المواد الأولية والخامات الصناعية والخيرات الزراعية وكل ما تحتاج إليه أمة قوية تريد أن تستغني بنفسها وتسوق الخير إلى غيرها, وما من أجنبي هبط هذا البلد الأمين إلا صح بعد مرض واغتنى بعد فاقة وعز بعد ذلة وأترف بعد البؤس والشقاء.. فماذا أفاد المصريون أنفسهم من ذلك كله؟ لا شيء.. وهل ينتشر الفقر والجهل والمرض والضعف في بلد كما ينتشر في مصر الغنية مهد الحضارة وزعيمة أقطار الشرق غير مدافعة؟!

إليكم أيها الإخوان بعض الأرقام التي تنطق بما يهددنا من أخطار اجتماعية ماحقة ساحقة إن لم يتداركنا فيها الله برحمته فسيكون لها أفدح النتائج وأعظم الآثار:

أولاً: الفلاحون فيمصر يبلغون ثمانية ملايين, والأرض المنزرعة نحو ستة ملايين من الأفدنة وعلى هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان.

فإذا لاحظنا على جانب هذا أن الأرض تفقد خواصها لضعف المصارف وكثرة الإجهاد، وإنها لهذا السبب تأخذ من السماد الصناعي أضعاف غيرها من التي تقل عنها جودة وخصوبة, وإن عدد السكان يتكاثر تكاثرًا سريعًا, وإن التوزيع في هذه الأرض يجعل من هذا العدد أربعة ملايين لا يملكون شيئًا, ومليونين لا يزيد ملكهم عن نصف فدان ومعظم الباقي لا يزيد ملكه على خمسة أفدنة, علمنا مبلغ الفقر الذي يعانيه الفلاحون المصريون ودرجة إنحطاط مستوى المعيشة بينهم درجة ترعب وتخيف.

إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشًا في الشهر بشق النفس, فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل الأسر المصرية عامة, كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين, وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار, فإن الحمار يتكلف على صاحبه (140 قرشًا خمس فدان برسيم و30 قرشًا حملاً ونصف الحمل من التبن و150 قرشًا أردب فول و20 قرشًا أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشًا) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر, وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون أقل من عيشة الحيوان.

ثم إذا نظرت إلى طبقة الملاك الكبار وجدتهم مكبلين بالديون أذلاء للمحاكم والبنوك.

إن البنك العقاري وحده يحوز من الرهون قريبًا من نصف مليون فدان, ويبلغ دينه على الملاك المصريين 17 مليونًا من الجنيهات إلى أكتوبر سنة 1936, وهذا بنك واحد.

وقد بلغ ثمن ما نزعت ملكيته للديون من الأرض والمنازل في سنة 1939 (346.256 جنيهًا) فعلى أي شيء تدل هذه الأرقام؟

ثانيًا: العمال في مصر يبلغون (5.718.127) أي نحوًا من ستة ملايين عامل, يشكو التعطل (511.119) أي أكثر من نصف مليون لا يجدون شيئًا, وهناك الجيوش من حملة الشهادات العاطلين.

فكيف يشعر إنسان هذه حاله بكرامته الإنسانية أو يعرف معنى العاطفة القومية والوطنية وهو بلد لا يستطيع أن يجد فيه القوت, ولقد استعاذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الفقر, وقديمًا قيل: يكاد الفقر أن يكون كفرًا, فضلاً عن أن المشتغلين من العمال مهددون باستغلال أصحاب رأس المال وضعف الأجور والإرهاق في العمل, ولم تصدر الحكومات بعد التشريع الكافي لحماية هؤلاء البائسين, وقد ضاعفت حالة الحرب القائمة هذا العدد من المتعطلين وزادت العاملين منهم بؤسًا على بؤسهم.

ثالثًا: شركات الاحتكار في مصر قد وضعت يدها على مرافق الحياة والمنافع العامة, فالنور والمياه والملح والنقل ونحوها كلها في يد هذه الشركات التي لا ترقب في مصري إلاّ ولا ذمة, والتي تحقق أفحش الأرباح وتضن حتى باستخدام المصريين في أعمالها.

لقد بلغت أرباح شركة المياه منذ تأسست في 27 مايو سنة 1865م إلى سنة 1933م عشرين مليونًا من الجنيهات, وقد بلغ التفريط والتهاون بالحكومة المصرية أن باعت حصتها في أرباح الشركة في عهد وزارة رياض باشا (وكان ناظر الأشغال حينذاك محمد زكي باشا) بمبلغ عشرين ألفًا من الجنيهات مع أن حصتها في صافي الربح من تاريخ البيع وهو 10 يوليو سنة 1899م إلى سنة 1934م فقط مبلغ مليونين ونصف من الجنيهات.

إن في مصر 320 شركة أجنبية تستغل جميع مرافق الحياة, وقد بلغت أرباحها في سنة 1938م الماضية (7.637.482 جنيهًا) وهذه الشركات جميعًا تخالف نصوص العقود في كثير من التصرفات ثم لا يكون التصرف معها إلا متراخيًا ضعيفًا يفوت الفائدة على الحكومة والجمهور معًا.

ولعل من الطريف المبكي أن نقول إن عدد الشركات المصرية إلى سنة 1938 بلغ إحدى عشر شركة فقط مقابل 320 شركة أجنبية.

رابعًا: لقد استقبلت العيادات الحكومية المصرية سنة 1934 (7.241.383) مريضًا منهم مليون بالبلهارسيا, وأكثر من نصف مليون بالأنكلستوما, ومليون ونصف بالرمد, وفي مصر 90 في المائة مريض بالرمد والطفيليات, وفيها 55.575 من فاقدي البصر, ويكشف لنا الكشف الطبي في المدارس وفي المعاهد وفي الجامعة ـ ومنها الكلية الحربية ـ حقائق عجيبة عن ضعف بنية الطلاب وهم زهرة شباب الأمة, وكل ذلك في أمة علمها نبيها أن تسأل الله أن يعافيها في أبدانها وفي سمعها وفي بصرها.

خامسًا: إن مصر بعد هذا الجهاد الطويل لا زالت بها آلاف كثيرة ممن لا يخط الألف, ولازال عدد المتعلمين فيها لا يجاوز الخمس (20 في المائة) من بينهم تلاميذ المدارس الإلزامية الذين لا يحسنون شيئًا وكثير منهم لم يجاوز شهادة إتمام الدراسة الابتدائية وحتى الذين تعلموا تعليمًا عاليًا لا تنقطع الشكوى من أن مؤهلاتهم العلمية لا تمكنهم من النجاح الكامل في الحياة العملية, وتتردد هذه الشكوى على لسان وزراء المعارف ورؤساء دوائر العمال وغيرهم.

سادسًا: وقد انحط مستوى الخلُق انحطاطًا عجيبًا فقد بلغ عدد الذين حوكموا بجرائم تخالف القانون في سنة 1938م أكثر من مليون مصري ومصرية دخل منهم السجن زهاء مائة ألف أو يزيدون, عدا من لم تصل إليهم يد القضاء ولم تعرف جرائمهم بعد.

هذا مع جرأة كثير من الشبان وغير الشبان على المخالفات الدينية التي لا يؤاخذ عليها القانون الوضعي كشرب الخمر والإقبال على القمار واليانصيب والسباق ونحوها, والعبث وما إليه مما لا يحصيه العد, بدون خشية ولا حياء.

سابعًا: ومع أننا فقدنا مقومات الحياة المادية من العلم الدنيوي النافع ومن الثروة والمال ومن القوة الصحية، فهل أبقينا على شيء من قوانا الروحية؟ كلا.. كلا.

كم من المصريين يؤمن بالله حق الإيمان, ويعتمد عليه حق الاعتماد؟...

وكم منهم يعتز بكرامته القومية وعزته الإسلامية؟...

وكم منهم يؤدي الصلوات؟...

وكم من هؤلاء المؤدين يقيمها على وجهها ويتعرف أحكامها وأسرارها؟...

وكم منهم يؤدي الزكاة ويتحرى بها مصارفها والغاية منها؟...

وكم منهم يخشى الله ويتقيه ويبتعد عن المعصية ويتجنب كبائر الإثم والفواحش؟...

يجيبنا الواقع المشاهد عن الأسئلة جميعًا جوابًا يؤلم ويحزن ويحز نفس كل مؤمن غيور.

الداء والدواء

أيها الإخوان..

هذه لغة الأرقام, وهذا قليل من كثير من مظاهر البؤس والشقاء في مصر.

فما سبب ذلك كله؟..

ومن المسؤول عنه؟..ً

وكيف نتخلص منه، وما الطريق إلى الإصلاح؟..

السبب

أما سبب ذلك ففساد النظام الاجتماعي في مصر فسادًا لابد له من علاج, فقد غزتنا أوربا منذ مائة سنة بجيوشها السياسية وجيوشها العسكرية وقوانينها ونظمها ومدارسها وعلومها وفنونها, وإلى جانب هذا بخمرها ونسائها ومتعها وترفها وعاداتها وتقاليدها, ووجدت منا صدورًا رحبة وأدوات طيعة تقبل كل ما يعرض عليها, ولقد أعجبنا بذلك كله, ولم نقف عند حد الانتفاع بما يفيد من علم ومعرفة وفن ونظام وقوة ومنعة وعزة واستعلاء, بل كنا عند حسن ظن الغاصبين بنا فأسلمنا لهم قيادنا, وأهملنا من أجلهم ديننا, وقدمو لنا الضار من بضاعتهم فأقبلنا عليه, وحجبوا عنا النافع منها وغفلنا عنه, وزاد الطين بلّة أن تفرقنا على الفتات شيعًا وأحزابًا يضرب بعضنا وجوه بعض وينال بعضنا من بعض, لا نتبين هدفًا ولا نجتمع على منهاج. المسؤول:

أما المسؤول عن ذلك فالحاكم والمحكوم على السواء: الحاكم الذي لانت قناته للغامزين, وسلس قياده للغاصبين, وعني بنفسه أكثر مما عني بقومه, حتى فشت في الإدارة المصرية أدواء عطلت فائدتها وجرت على الناس بلاءَها.. فالأنانية والرشوة والمحاباة والعجز والتكاسل والتعقيد كلها صفات بارزة في الإدارة المصرية, والمحكوم الذي رضي بالذلة وعجز وغفل عن الواجب وخدع بالباطل وانقاد وراء الأهواء وفقد قوة الإيمان وقوة الجماعة فأصبح نهب الناهبين وطعمة الطامعين.

الخلاص

أما كيف نتخلص من ذلك فبالجهاد والكفاح, ولا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة, فنخلص من ذلك كله بتحطيم هذا الوضع الفاسد وأن نستبدل به نظامًا اجتماعيًا خيرًا منه, تقوم عليه وتحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها وتعمل جاهدة لإنقاذ شعبها, يؤيدها شعب متحد الكلمة قوي الإيمان, ولئن فقدت الأمم مصباح الهداية في أدوار الانتقال فإن الإسلام الحنيف بين أيدينا مصباح وهاج نهتدي بنوره ونسير على هداه.

ولا تستطيع حكومة مصرية أن تقوم بهذا الإصلاح الاجتماعي حتى تتحرر تمامًا من الضعف والعجز والخوف والتدخل السياسي الذي يقيد خطواتها, وتتخلص من هذا النير الفكري الذي وضعته أوربا في أعناقنا فأضعف نفوسنا وأوهن مقاومتنا.

ونحن نستقبل في هذه الأيام حوادث جسامًا تغير النظم والأوضاع وتجدد الدول والممالك, فأولى بنا أن نتخذها فرصة سانحة للتحلل من آثار الماضي وبناء المستقبل المجيد على دعائم قويمة من هذا الإصلاح الإسلامي القويم. ولهذا كان هدف الإخوان المسلمين يتلخص في كلمتين:

-العودة للنظام الإسلامي الاجتماعي.

-والتحرر الكامل من كل سلطان أجنبي.

وبذلك نستطيع أن ننقذ مصر من آثار هذه الويلات.

ولنا بعد ذلك آمال جسام في إحياء مجد الإسلام وعظمة الإسلام, يراها الناس بعيدة ونراها قريبة: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60).

وسيلة الإخوان المسلمين

أما وسائلنا العامة...

-فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان.

-ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح.

-ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية، وعلى هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان المسلمين حين يجيء الوقت المناسب إلى الأمة ليمثلوها في الهيئات النيابية، ونحن واثقون بعون الله من النجاح مادمنا نبتغي بذلك وجه الله )وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ( (الحج:40).

أما سوى ذلك من الوسائل فلن نلجأ إليه إلا مكرهين، ولن نستخدمه إلا مضطرين، وسنكون حينئذ صرحاء شرفاء، لا نحجم عن إعلان موقفنا واضحًا لا لبس فيه ولا غموض معه، ونحن على استعداد تام لتحمل نتائج عملنا أيًا كانت، لا نلقي التبعة علي غيرنا، ولا نتمسح بسوانا، ونحن نعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الفناء في الحق هو عين البقاء، وأنه لا دعوة بغير جهاد، ولا جهاد بغير اضطهاد، وعندئذ تدنو ساعة النصر ويحين وقت الفوز، ويتحقق قول الملك الحق المبين: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110).

نحن والسياسة

وقد يقول بعض الناس: وما للإخوان والبرلمان والإخوان جماعة دينية وهذه سبيل الهيئات السياسية؟ أليس هذا يؤيد ما يقول الناس من أن الإخوان المسلمين قوم سياسيون لا يقفون عند حد الدعوة للإسلام كما يدعون؟

وأقول لهذا القائل في صراحة ووضوح: أيها الأخ.. أما أننا سياسيون حزبيون نناصر حزبًا ونناهض آخر فلسنا كذلك ولن نكونه، ولا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل.

وأما أننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشئون أمتنا، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه وتندرج تحت أحكامه، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه وفريضة من فرائضه، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية فنحن كذلك، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد، فهذا هو المعروف عن كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة ونحن لا نعلم دعوتنا ولانتصور معنى لوجودنا إلا تحقيق هذه الأهداف. ولم نخرج بذلك قيد شعرة عن الدعوة إلى الإسلام، والإسلام لا يكتفي من المسلم بالوعظ والإرشاد ولكنه يحدوه دائمًا إلى الكفاح والجهاد (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).

أما موقفنا من الهيئات في مصر فصريح واضح نتحدث به ونكتب عنه في كل الظروف والمناسبات...... نحن والحكومات:

فأما موقفنا من الحكومات المصرية على اختلاف ألوانها فهو موقف الناصح الشفيق, الذي يتمنى لها السداد والتوفيق, وأن يصلح الله بها الفساد, وإن كانت التجارب الكثيرة كلها تقنعنا بأننا في واد وهي في واد, ويا ويح الشجيّ من الخليّ.

لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرًا من مناهج الإصلاح, وتقدمنا لكثير منها بمذكرات إضافية في كثير من الشؤون التي تمس صميم الحياة المصرية..

لقد لفتنا نظرها إلى وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها باختيار الرجال وتركيز الأعمال وتبسيط الإجراءات ومراعاة الكفايات والقضاء على الاستثناءات..

وإلى إصلاح منابع الثقافة العامة بإعادة النظر في سياسة التعليم ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة، واستدراك نواحي النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة.

وإصلاح القانون باستمداده من شرائع الإسلام, ومحاربة المنكر ومقاومة الإثم بالحدود وبالعقوبات الزاجرة الرادعة..

وتوجيه الشعب وجهة صالحة بشغله بالنافع من الأعمال في أوقات الفراغ.

فماذا أفاد كل ذلك؟.. لا شيء, ولقد قامت وزارة الشؤون الاجتماعية لسد هذا الفراغ فماذا فعلت وقد مضى عليها أكثر من عام ونصف عام؟

ماذا أنجزت من الأعمال؟ .. لا شيء، وستظل "لا شيء" هي الجواب لكل المقترحات مادمنا لا نجد الشجاعة الكافية للخروج من سجن التقليد والثورة على هذا الروتين العتيق, وما دمنا لم نحدد المنهاج ولم نتخير لإنفاذه الأكفاء من الرجال، ومع هذا فسنظل في موقف الناصحين يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين. نحن والأحزاب:

وأما موقفنا من الأحزاب السياسية فلسنا نفاضل بينها ولا ننحاز إلى واحد منها ولكننا نعتقد أنها تتفق جميعًا في عدة أمور:

تتفق في أن كثيراً من رجالها قد عملوا على خدمة القضية السياسية المصرية، واشتركوا فعلاً في الجهاد في سبيلها، وفي الوصول إلى ما وصلت إليه مصر من ثمرات هذا الجهاد الضئيلة أو الجليلة، فنحن في هذه الناحية لا نبخس هؤلاء الرجال حقهم.

وتتفق كذلك في أن حزبًا منها لم يحدد بعدُ منهاجًا دقيقًا لما يريد من ضروب الإصلاح، ولم يضع هدفًا يرمي إليه، وهي لهذا لا تتفاوت في المناهج والأغراض والغايات.

وتتفق كذلك في أنها جميعًا لم تقتنع بعدُ بوجوب المناداة بالإصلاح الاجتماعي على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام، ولا زال أقطابها جميعًا يفهمون الإسلام على أنه ضروب من العبادات والروحانيات لا صلة لها بحياة الأمم والشعوب الاجتماعية والدنيوية.

وتتفق بعد ذلك في أنها تعاقبت على حكم هذا البلد فلم تأت بجديد، ولم يجد الناس في ظل حكمها ما كانوا يأملون من تقدم مادّي أو أدبيّ, ولقد كان لهذا أثره العملي, فقامت في مصر الحكومات غير الحزبية في أحرج الظروف وأدق المواقف، ومنها الحكومة الحالية.

وإذاً فلا خلاف بين الأحزاب المصرية إلا في مظاهر شكلية، وشؤون شخصية، لا يهتم لها الإخوان المسلمون، ولهذا فهم ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعًا نظرةً واحدةً، ويرفعون دعوتهــم ـ وهي ميراث رسول الله ـ فوق هذا المستوى الحزبي كله، ويوجهونها واضحةً مستنيرةً إلى كل رجال هذه الأحزاب على السواء، ويودّون أن لو أدرك حضراتهم هذه الحقيقة، وقدّروا هذه الظروف الدقيقة، ونزلوا على حكم الوطنية الصحيحة، فتوحدت كلمتهم، واجتمعوا على منهاج واحد، تصلح به الأحوال وتتحقق الآمال، وليس أمامهم إلا منهاج الإخوان المسلمين، بل هدى رب العالمين(صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى:53).

ونحن لا نهاجم لأننا في حاجة إلى الجهد الذي يبذل في الخصومة والكفاح السلبي لننفقه في عمل نافع وكفاح إيجابي وندع حسابهم للزمن معتقدين أن البقاء للأصلح (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد:17).

نحن والهيئات الإسلامية

وأما موقفنا من الهيئات الإسلامية علي اختلاف نزعاتها، فموقف حب وإخاء وتعاون وولاء، نحبها ونعاونها، ونحاول جاهدين أن نقرب بين وجهات النظر ونوفق بين مختلف الفكر توفيقاً ينتصر به الحق في ظل التعاون والحب. ولا يباعد بيننا وبينها رأي فقهي أو خلاف مذهبي، فدين الله يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. ولقد وفقنا الله إلى خطة مثلى، إذ نتحري الحق في أسلوب لين يستهوي القلوب وتطمئن إليه العقول، ونعتقد أنه سيأتي اليوم الذي تزول فيه الأسماء والألقاب والفوارق الشكلية والحواجز النظرية وتحل محلها وحدة عملية تجمع صفوف الكتيبة المحمدية حيث لا يكون هناك إلا إخوان مسلمون، للدين عاملون وفي سبيل الله مجاهدون: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:56). كلمة حق:

نحب بعد هذا أن نقول كلمةً صريحةً لأولئك الذين لا زالوا يظنون أن الإخوان يعملون لحساب شخص أو جماعة:

اتقوا الله أيها الناس، ولا تقولون ما لا تعلمون.

واذكروا قول الله تعالي:(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أبغضكم إلىَّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرءاء العيب)، وليعلموا تمامًا أن اليوم الذي يكون فيه الإخوان المسلمون مطية لغيرهم أو أداة لمنهاج لا يتصل بمنهاجهم لم يخلق بعد. وأذكر أنني كتبت في إحدى المناسبات خطاباً لأحد الباشوات جاء في آخره: (والإخوان المسلمون يا رفعة الباشا لا يقادون برغبة ولا برهبة، ولا يخشون أحداً إلا الله، ولا يغريهم جاه ولا منصب، ولا يطمعون في منفعة ولا مال، ولا تعلق نفوسهم بعرض من أعراض هذه الحياة الفانية، ولكنهم يبتغون رضوان الله ويرجون ثواب الآخرة، ويتمثلون في كل خطواتهم قول الله تبارك وتعالي:(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50).

فهم يفرون من كل الغايات والمطامع إلى غاية واحدة ومقصد واحد هو رضوان الله، وهم لهذا لا يشتغلون في منهاج غير منهاجهم ولا يصلحون لدعوة غير دعوتهم، ولا يصطبغون بلون غير الإسلام:(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (البقرة:138)... فمن حاول أن يخدعهم خدع، ومن أراد أن يستغلهم خسر، ومن طمع في تسخيرهم لهواه أخفق... ومن أخلص معهم في غايتهم ووافقهم على متن طريقهم سعد بهم وسعدوا به، ورأى فيهم الجنود البسلاء والإخوة الأوفياء، يفدونه بأرواحهم ويحوطونه بقلوبهم وجهودهم، ويرون له بعد ذلك الفضل عليهم..

أكتب لكم هذا يارفعة الباشا لا رجاء معونة مادية لجماعة الإخوان المسلمين ولا رغبةً في مساعدة نفعية لأحد أعضائها العاملين، ولكن لأدعوكم إلى صف هؤلاء الإخوان بعد دراستهم دراسةً جديةً صحيحةً تقنعكم بمنهاجهم وتنتج تعاونكم معهم في إصلاح المجتمع المصري على أساس متين من الخلق الإسلامي وتعاليم الإسلام.. و(للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5).

بمثل هذا الأسلوب نخاطب الناس، ونكتب لرفعة النحاس باشا ومحمد محمود باشا وعلي ماهر باشا وحسين سري باشا، وغيرهم مما نريد أن نعذر إلى الله بإبلاغهم الدعوة وتوجيههم إلى ما نعتقد أن فيه الخير والصواب لهم وللناس..

أفيقال بعد هذا أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب شخص أو هيئة كبر ذلك أم صغر قل أم كثر..(لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) (النور:12). ومعاذ الله أن نكون في يوم من الأيام لغير الإسلام وتعاليم الإسلام.

موقفنا في الظروف الحاضرة

من المؤتمر الخامس إلى المؤتمر السادس مضى عامان، تعاقبت فيها الحوادث الجسام على مصر في الداخل والخارج. وقد قابل المركز العام للإخوان المسلمين ومن ورائه شعبه جميعًا كل حادثة بما يناسبها، ووقفوا منها الموقف الذي يلائمها، من تأييد أو تسديد أو نقد أو تزكية, مستنيرين في ذلك بوحي الغاية السامية، وبقواعد منهاجهم السليم.

وكان أجل تلك الحوادث وأشدها خطرًا وأعمقها أثرًا إعلان الحرب وامتداد لهيبها إلى مصر, ووقوف أوربا معسكرين متناحرين يعمل كل منهما على إفناء الآخر وإبادته، حتى أخفقت وسائل التهدئة وسُلَّ الحسام بعد أن خرس الكلام.

لقد أعلنت الحكومة المصرية موقف مصر، وأيدها في ذلك البرلمان، وأيدها في ذلك الرأي العام، وأيدها الإخوان المسلمون أيضًا، ويمكن تلخيص هذا الموقف في كلمتين (الحياد والاستعداد).

وهو موقف واضح مستنير لو استكمل شروط الصحة فإن هذا الحياد محال أن يكون حقيقيًا والمعاهدة المصرية الإنجليزية تفرض علينا أن نقدم كل المساعدات الممكنة للقوات البريطانية ونحن قد قمنا بذلك فعلاً، وجندت مصر تجنيدًا حقيقيًا لمساعدة إنجلترا، فأعلنت الأحكام العرفية وفرضت الرقابة على الصحف واستخدمت السكك الحديدية والمطارات والموانئ والتليفونات والتلغرافات وكل طرق المواصلات، وقدمت طلبات السلطة العسكرية البريطانية في جميع الشؤون على كل الطلبات، وحجزت المواد اللازمة للجيش وللأعمال الحربية مهما كانت الحاجة إليها شديدة، وأرسل الجيش المصري إلى الحدود وإلى السودان، وصارت مصر حقيقة لا خيالاً في حالة حرب مما جعل هذا الحياد لا قيمة له في الواقع.

كما أن الاستعداد لن يكون كاملاً وأمامه عقبات مادية وسياسية تجعل الوقت يمر دون أن نجهز أنفسنا بالقليل من المعدات العسكرية أو المدنية.

وإذاً فرضاء مصر بهذا الموقف الصوري العجيب ليس عن طواعية واختيار، ولكنه عن كراهية واضطرار، وليس هناك موقف أفضل منه مادمنا مجبرين عليه، ونهيب بالحكومة المصرية جاهدين أن تعمل ما وسعها العمل على استكمال العدة، وتجهيز الشعب بوسائل الدفاع العسكرية والمدنية أخذًا بالحيطة واستعدادا للطوارئ.

أما الوقف الذي ترضاه مصر وتهش له وتقنع به فلا يخرج عن أحد أمرين:

إما أن إنجلترا لا تثق بنا ولا تعتمد علينا ولا تعتبرنا حلفاء حقيقين لها، وحينئذٍ يكون عليها أن تصارحنا بذلك وأن تخلي أرضنا وأن توفر علينا مساعداتنا وأن تحلنا من قيود المعاهدة التي تنص على المحالفة وترتب عليها المساعدة، وذلك فرض مستبعد طبعًا.

وإما أنها تثق بنا وتعتبرنا حلفاء لها وتقدر حسن نيتنا وصدق معونتنا، وقد قدمنا البرهان على ذلك فعلاً، فمنذ نشبت الحرب إلى الآن والحكومة المصرية لا تدخر وسعًا في مشاركتها سرّاء الحرب وضرائها، فعليها حينئذٍ أن تطمئننا على مستقبلنا في هذه الحوادث وبعدها، فتعلن الآن بصفة رسمية المحافظة على استقلال مصر والسودان، وأن بقاء القوات البريطانية في مصر موقوت بالحرب، وتشمل هذا الإعلان بالمساعدة الفعلية لنا، فتسمح لنا بزيادة عدد جيشنا وبتقوية سلاحنا وبإعداد شعبنا، وحينئذٍ نتعاون تعاونًا صادقًا ونحمل أعباء الحرب معًا ونتقاسم الأعمال العسكرية والمدنية، فيحمل الجيش المصري عبء الحرب في السودان مثلاً حتى يطهره الله من العدو المغير، وتحرس الجيوش البريطانية الحدود الغربية حتى تضع الحرب أوزارها.

هذا كلام صريح نعتقد أنه من الخير أن يكون واضحًا، ولا يغني مصر شيئًا أن تسمع ثناء الجرائد والمجلات الإنجليزية وعبارات المجاملة التي يحييها بها الساسة البريطانيون، ولا عبارات التقدير التي يشكرون بها المساعدة المصرية الجليلة، وإنما ينفعها الكلام الرسمي والعمل المنتج.

إن مصر ستفي من جانبها بالتزاماتها التي سجلتها عليها المعاهدة، لأنها لا تملك إلا هذا ولا تستطيع غيره ماديًا وأدبيًا، ولكن تمسك الحكومة البريطانية تمسكًا جامدًا بروح المعاهدة ونصها في وقت واحد تفسر فيه هذه النصوص لمصلحة طرف واحد، وفي ظروف تعصف بالدول والشعوب والأموال والأرواح والأمم والحكومات والنظم والمعاهدات، فهو تمسك إن رضيه الفقه السياسي فلن يرضاه الشعب الأبي، ولقد جاهدت مصر في سبيل استقلالها، وستجاهد في سبيل ذلك إن أعوزها الجهاد، وهي ضنينة بهذا الاستقلال أن يسلب قبل أن يكتمل، ويزول قبل أن يتم، ولا تريد أن تكون في حمى غيرها، أو أن تظل تحت رحمة سواها مهما كلفها ذلك من التضحيات، وإذ كانت الحكومة البريطانية تسمع من الحكومة المصرية أو الساسة المصريين كلامًا غير هذا فإنما هي المجاملة الدبلوماسية.

أما نحن فنصور عقائد الشعب الحقيقية على صورتها الطبيعية، لا نبتغي من وراء ذلك إلا تعاونًا سليمًا على أساس سليم.

بل إننا نريد أن ننتهز هذه الفرصة، فنتقدم مخلصين إلى الساسة الغربيين فنلفت أنظارهم إلى فرصة سانحة لعلها إن أفلتت منهم اليوم فلن تعود إلا بعد حين لا يعلم إلا الله مداه، وإن وفقوا إلى الانتفاع بها فهو الخير لهم وللعالم أجمع.

لقد ردد الساسة جميعًا كلمة " النظام الجديد "... فهتلر يريد أن يتقدم للناس بنظام جديد، وتشرشل يقول إن إنجلترا المنتصرة ستحمل الناس على نظام جديد، وروزفلت يتنبأ ويشيد بهذا النظام الجديد، والجميع يشيرون إلى أن هذا النظام الجديد سينظم أوروبا ويعيد إليها الأمن والطمأنينة والسلام، فأين حظ الشرق والمسلمين من هذا النظام المنشود؟

نريد هنا أن نلفت أنظار الساسة الغربيين إلى أن الفكرة الاستعمارية إن كانت قد أفلست في الماضي مرة، فهي في المستقبل أشد فشلاً لا محالة، وقد تنبهت المشاعر وتيقظت حواس الشعوب، وإن سياسة القهر والضغط والجبروت لم تأت في الماضي إلا بعكس المقصود منه، وقد عجزت عن قيادة القلوب والشعوب، وهى في المستقبل أشد عجزًا.

وأن سياسة الخداع والدهاء والمرونة السياسية إن هدأ بها الجوُّ حينًا فلا تلبث أن تهب العاصفة قوية عنيفةً. وقد تكشفت هذه السياسة عن كثير من الأخطاء والمشكلات والمنازعات، وهى في المستقبل أضعف من أن توصل إلى المقصود.

وإذاً فلابد من سياسة جديدة، وهى سياسة التعاون والتحالف الصادق البريء، المبنى على التآخي والتقدير، وتبادل المنافع والمصالح المادية والأدبية بين أفراد الأسرة الإنسانية في الشرق والغرب، لا بين دول أوروبا فقط، وبهذه السياسة وحدها يستقر النظام الجديد وينتشر في ظله الأمن والسلام.

إن حكم الجبروت والقهر قد فات، ولن تستطيع أوروبا بعد اليوم أن تحكم الشرق بالحديد والنار. وأن هذه النظريات السياسية البالية لن تتفق مع تطور الحوادث ورقى الشعوب ونهضة الأمم الإسلامية، ولا مع المبادئ والمشاعر التي ستطلع بها هذه الحرب الضروس على الناس.

ولسنا وحدنا الذين نقول هذا، بل هم الساسة الأوروبيون أنفسهم، ونحن نضع هذه النظريات أمام أعين الساسة البريطانيين والساسة الفرنسيين وغيرهم من ساسة الدول الاستعمارية، على أنها نصائح تنفعهم أكثر مما هي مطالب تنفعنا، فليأخذوا أو ليدعوا، وقد وطنَّا أنفسنا على أن نعيش أحراراً عظماء أو نموت أطهاراً كرماء.

ونحن لا نطمع في حق سوانا، ولا يستطيع أحد أن ينكر علينا حقنا. وأن خيراً لكل أمة أن تعيش متعاونةً مع غيرها، من أن تعيش متنافسةً مع سواها حينًا من الدهر، يندلع بعده لهيب الثورة في البلاد المغصوبة، وجحيم الحرب بين الدول المتنافسة.

هذا كلام قد يراه الناس من الإفراط في حسن الظن، ولعله إلى الخيال أقرب، ولعل من الناس من يرى أن من الكياسة ألا يقال في مثل هذه الظروف، ولكني أعتقد أن المصارحة دائمًا هي أفضل طريق للوصول، ولا ندري متى وكيف تتم هذه الحرب، ولأن ننبه أذهان قومنا إلى ما يجب أن يكون فنبرئ بذلك ذمتنا ونقدم نصيحتنا أولى بنا من أن نفوت الفرصة المواتية، (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4).

وعلى هذه الأسس العادلة يظفر العالم بتعاون شريف وسلام طويل، أما أغنية الديمقراطية والديكتاتورية فأنشودة نعتقد أن الحرب الحالية ستُدخل عليها ألحانًا جديدة وأنغاما جديدة، ولن يكون في الدنيا بعد هذه المحنة ديمقراطية كالتي عهدها الناس، ولا ديكتاتورية كهذه الديكتاتورية التي عرفوها. ولن تكون هناك فاشية ولا شيوعية على غرار هذه الأوضاع المألوفة، ولكن ستكون هناك نظم في الحكم وأساليب في الاجتماع تبتدعها الحرب ابتداعًا ويخترعها الساسة اختراعًا، ثم يضعونها موضع التجربة من جديد. وتلك سنة الله ونظام المجتمع.

وما أجلّ أن يهتدي أولئك الساسة يومئذ بنور الله، ويكشفوا عن قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم غشاوة التعصب الممقوت، ويتخذوا الإسلام الحنيف الذي أخذ من كل شيء أحسنه أساسًا لنظمهم السياسية والمدنية والاجتماعية، فتتحقق الوحدة الإنسانية الروحية التي طال عليها الأمد والتي لا يحققها إلا سماحة الإسلام وهدي الإسلام، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ, يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16).

الله أكبر ولله الحمد

المرشد العام للإخوان المسلمين

حسن البنا


المصدر