رسائل الإمام المرشد حسن الهضيبي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رسائل الإمام المرشد حسن الهضيبي


تحيــة وواجــب

بِســمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ

أيها الإخوان ..

أحييكم أحسن تحية وأرجو أن أبعث إليكم جميعا بحبي ووفائي .. وأدعو الله أن يعيننا على ما فيه خير دعوته وإعلاء كلمته ويهدينا صراطه المستقيم ..

إن عليكم واجبا .. وعلينا واجبا ..

فأما واجبنا .. فأن نكون عاملين لدعوة الإخوان المسلمين ما وسعنا الجهد , مستعينين بكل مقبل علينا راغب في معاونتنا باذل نفسه وماله , ومن لم يجد في نفسه هذا الإقبال وتلك الرغبة فليس له أن يدعي الأخوة في الله .

وأما واجبكم يا إخواني .. فهو أن تعيشوا في القرآن تتلونه تلاوة تدبر وفهم وإمعان , وتتخذونه منهجا لكم في حياتكم , وتحققون ما أمكنكم تحقيقه من أوامره ونواهيه , وأن تجعلوا الأخوة والحب شعاركم .. فعليها تقوم الألفة بينكم , وأن تجتنبوا اللغو من الكلام , ولا تذكروا أحدا بسوء , ولا تبغضوا من يخالفكم في رأي , وقابلوا إساءة الناس برفق .. فالرفق ما دخل في شيء إلا زانه , وليؤد كل منكم حق الدعوة عليه , ويبذل نفسه وماله في سبيلها , ويقوم في شعبته بما يُعهد إليه محتسبا في ذلك وقته وجهده لله ..

والله يحفظكم ويرعاكم

أخـوكم: حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين

دســـتورنـا

مقدمة

بِســمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ...

القرآن دستورنا

في هذه الأيام التي يكثر فيها الكلام عن الدستور , ولجنة الدستور , وكيفية وضعه , وماذا ينص عليه فيه , يتساءل الناس عن معنى قول الإخوان المسلمين: (القرآن دستورنا) , ومكان هذا الكلام من الدستور المرتقب , وما ينبغي أن يكون عليه الدستور الجديد حتى يكون متفقا مع ما جاء بالقرآن الكريم من أحكام.

ليست دعوة الإخوان المسلمين شيئا جديدا , وإنما هي الدعوة التي أمرنا الله تعالى بها إلى آخر الزمان (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران:104) , وقد أذن الله لهذه الدعوة أن تنشأ في مصر ثم تجتاز حدودها إلى جميع البلاد الإسلامية , حتى لم يعد (الإخوان المسلمون) اسما لجمعية أو هيئة في مصر , ولكنه أصبح علما على بعث فكرة الإسلام الخاص النقي , ونهضة المسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها.

ولما كان هذه البعث لا يتفق مع ما وقع فيه المسلمون ـ بسبب تركهم دينهم وعدم اتباع أوامره ونواهيه والأخذ بفضائله ـ من جهل وذل واستعباد , كان أعداء الإسلام والمستعمرون وطلاب المنافع الحرام والجهلة من كبراء المسلمين حربا على دعوة الدين .. يشوهون من مقاصدها , وينسبون لها ما ليس منها , بالكذب والافتراء وتزييف الوقائع , حتى لقد أخبرني بعض العائدين من السويد أن الجرائد نشرت صور نفر من الناس مقطوعي الأيدي يظن أنهم من مشوهي الحرب , وكتبت تحتها: هكذا يقطعون الأيدي في القاهرة من أجل السرقة. وأخبرني بعض مراسلي الصحف الأجنبية أن القوم في إنجلترا يعتقدون أن دعوة الإخوان المسلمين هي دعوة إلى ترك جميع مظاهر المدنية والرجوع إلى معيشة البدو في الصحراء ... فرأيت لذلك أن أعبر عما يمكن أن يشتمل عليه الدستور الجديد من مبادئ مأخوذة من القرآن.

وقبل ذلك يجب أن نعلم أن القرآن لم يقم على القوانين وما اشتملت عليه من عقوبات ومعاملات وعبادات فقط , فإن القرآن نحو ستة آلاف آية ومجموع آيات الأحكام فيه لا يزيد عن خمسمائة آية فصلها العلماء وبنوا عليها فقها كثيرا لا يختلف لا يختلف إلا في قليل عن أحكام العصور الحديثة.

وإنما قام القرآن على تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس وتطهيرها , وإصلاح المجتمع من المفاسد والعمل على سد الذرائع للجرائم كلية , وما العقوبات التي وردت فيه إلا عقوبات صارمة , الغرض منها كف الناس عن الشر إن لم يثمر فيهم التهذيب وتجاوزوا حدهم بعد أن استوفوا حقوقهم.

فنحن حين نطالب بالعمل بالكتاب وسنة رسول الله لا نسعى من وراء ذلك إلى تطبيق الأحكام الواردة في القرآن فحسب , ولكننا نرجو أن يجعل القرآن منهاجا يسار عليه في الحياة يطبق بحذافيره.

وكان هذا حسبنا من كل دستور آخر لأن القرآن هو الدستور الكامل الشامل الذي لم يترك صغيرة وكبيرة في بناء الأمة إلا عالجها , تارة بالتفصيل , وتارة بالإجمال تاركا لها أن تمضي في التفاصيل على ما تقضيه مصالحها ولا تتعارض مع الأصول التي وضعها.

هل الحكم بالقرآن فرض؟

ولنذكر الآيات التي تدل على أن الأخذ بكتاب الله فرض علينا لا يحق لنا أن نتحلل منه بأي وجه من الوجوه , ولا ينبغي أن نتعلل في عدم تطبيقه بالظروف والمناسبات , لأن هذه الظروف والملابسات من فعلنا ويجب العمل على إزالتها .

هذه هي الآيات فاقرأها إن شئت:

ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).

ـ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103).

ـ (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء:14).

ـ (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة:48).

ـ (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ , أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:49-50).

ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام:114).

ـ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153).

ـ (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام:155).

ـ (المص , كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ , اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:1-3).

ـ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44).

ـ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45).

ـ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة:47).

ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (المجادلة:5)..

هذه آيات بينات فيها أقطع برهان على وجوب الحكم بكتاب الله , ولا يقول بغير ذلك إلا من رضي لنفسه بالكفر والظلم والفسق , ومحادة الله ورسوله وعدم الاعتصام بحبل الله .. فهو قليل الحظ من التوفيق والهداية.

أحـكام القـرآن

اشتمل القرآن ـ فيما اشتمل عليه ـ على أحكام عملية يمكن تلخيصها فيما يأتي:

1 – العبادات:

وهي ما شرعه الله لتنظيم علاقته بخلقه كالصلاة والصوم والزكاة والصدقات والحج... الخ

2 – المعاملات:

وهي الأحكام التي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض , وتقيم الروابط بينهم على العدل والرحمة والتعاون والمحبة , ورفع أسباب الضر والعدوان , واجتلاب الخير والمنفعة للناس جميعا , ويدخل في ذلك نوعان:

المعاملات المدنية: من بيع وإجارة ورهن وشركة .. الخ , وهذه القوانين في الشريعة كأحدث القوانين في العصر الحاضر , إلا ما حرم الله فهو حرام إلى يوم القيامة.

والأحوال الشخصية: من زواج وطلاق وعدة وثبوت نسب .. الخ , وهذه وقد أمرنا فيها بترك الناس وما يدينون فإن جاءوا إلينا حكمنا عليهم بما أنزل الله.

3 – العقوبات:

وقد شرعت لحفظ حياة الناس وأعراضهم وأموالهم , تأديبا للناس وزجرا لهم عن ارتكاب الجرائم مثل عقوبات القتل والسرقة وقطع الطريق وأهل الفساد والزنا والقذف أي القصاص والحدود.

4 – أحكام نظمت العلاقة بين الحاكم والمحكوم:

وبيان حقوق ولي الأمر على الرعية , وحقوق الرعية على ولي الأمر , وأحكام الشورى والعدل والمساواة بين الناس.

5 – وأحكام شرعت للحرب والقتال: وتنظيم العلاقة المسلمين بغير المسلمين..

علاقة الحاكم بالمحكوم

ولما كان هذا الدستور المراد وضعه ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم جريا على ما تجري عليه الأمم الغربية وتحسب أنها سباقة إليه كما يحسب جهلة المسلمين , فليس من الممتنع علينا أن نضع الأحكام من القرآن ونبرز فيها المعاني المهمة التي تقوم عليها حياة الأمة وصلاح حالها.

ـ فينص فيه على أن الأمة تختار الحاكم لمدة محدودة أو غير محدودة على أن يكون محاسبا ليس فقط على أعماله السياسية بل على أعماله الجنائية والمدنية , ويحاكم أمام أية محكمة عادية , بل إن لأي إنسان أن يرفع عليه الدعوى أمام المحاكم , فالإسلام لا يعرف في ذلك كبيرا ولا صغيرا كلهم عنده سواسية كأسنان المشط.

ـ وكذلك ينص فيه على أن القوانين تصدرها شرائع الإسلام , وشرائع الإسلام من الطول والعرض بحيث تتسع لأحكام الزمان جميعا , فما اتفق منها مع أصولها كان شرعا بإقرار ولي الأمر له , وما لم يتفق أطرحناه اعتقادا منا بأن الله ما أراد لنا أن نتجنبه إلا لخير أراده لنا.

ـ وينص على وجوب تعليم الرجل والمرأة شرائع الإسلام على السواء , أما العلوم الأخرى فهي فرض كفاية يتحمل المسلمون إثم التقصير في تحصيلها إلى أن يحصلها من بينهم من يفي بحاجة الأمة في كل فرع وفن.

ـ وينص على حق الفقراء جميعا من المسلمين وغير المسلمين في العمل وفي المسكن وفي الملبس والمأكل.

ـ وينص فيه على احترام الأديان الأخرى وحرية أهلها في عقائدهم , وعصمة أرواحهم وأعراضهم وأموالهم إلا بالحق.

ولست في ذلك أضع مواد الدستور فذلك مجال آخر , وإنما أشير إلى بعض المسائل التي يظنها الناس من مميزات العصر الحاضر وما هي كذلك , وإنما هي من قواعد الإسلام وأصوله , يأثم تاركها ويعاقبه الله على عصيانه فيها ولو كانت المعصية بينه وبين نفسه.

التربية الدينية هي الأساس

قلت إن الإسلام لم يقم نظامه على العقوبات بل قام في حقيقة الأمر على تهذيب النفس وتطهير القلب.

وقد قال الرسول عليه السلام: (ما تركت من خير إلا وأمرتكم به , وما تركت من شر إلا ونهيتكم عنه) , فالتربية كفيلة بتنشئة المرء على حب الخير ومساعدة الناس ومودتهم والإحسان إليهم , وهي التي تخلق فيه روح التسامح وتبعده من روح البغي , وكلما تعصب المسلم لعقيدته بعد عن التعصب ضد الناس واحترم عقائدهم وأموالهم وأعراضهم وأرواحهم , أما العقوبات فهي لا تأتي إلا في المقام الأخير لأنها إنما وضعت لشواذ الناس الذين لا تردهم الموعظة الحسنة.

والأديان كلها سواء في ذلك , فإذا طالبنا بحكم القرآن فإننا نطالب بما أمر الله به في سائر الأديان من الفضيلة والنهي عن الرذيلة , والبغي دائما يصاحب الجهل , والاعتداء لا يتأتى إلا من عدم الشعور بالواجب , وإنه لخير للمسلمين والمسيحيين أن يتهذبوا بتهذيب دينهم حتى يلتقوا على الخير والفضيلة , ويجب على الحكومة أن تُدخل هذا التعليم بصورة جدية في المدارس الابتدائية والثانوية للمسلمين والمسيحيين على السواء.

الأحوال الشخصية لغير المسلمين

إن مما أتى به الإسلام فيما يعتبر من المعاملات ما يسمى بقوانين الأحوال الشخصية , وهذا لا ينطبق على المسيحيين ولا على غيرهم بل ينطبق على حكم ديانتهم , لذلك أمرنا بتركهم وما يدينون , فماداموا متفقين على التحاكم فليس لنا بهم شأن , وأما إذا جاءونا فإننا نحكم بينهم بما أنزل الله.

المعاملات

وأما المعاملات مثل البيع والإجارة والرهن فليس للمسيحية فيها نصوص , لذلك كان الأخذ بما تراه الأغلبية في مصلحتها واجبا .. يأخذه المسلمون على أنه دين , ويأخذه المسيحيون على أنه قانون , ولعله من الخير لهم أن يأخذه المسلمون على إنه دين لأن هذه الفكرة تعصمهم من الزلل في تنفيذه , وعين الله الساهرة ترقبهم لا رهبة الحاكم التي يمكن التخلص منها في كثير من الأحيان , على أن المعاملات في شريعة الإسلام غاية في السمو والعدالة , وليس للمسيحيين أن يشكوا من أنها تحرم الربا , فهو محرم في ديانتهم , وقد أقام المسيحيون على ذلك ثلاثة عشر قرنا , حتى أصبحت شرائع الإسلام في هذه الناحية بالنسبة لهم في هذه الناحية شرائع قومية.

العقـوبات

وأما العقوبات .. فأكثر ما يعترض بها علينا قطع يد السارق ورجم الزاني المحصن , وقد بينا في كثير من المناسبات أنه لا تقطع يد سارق إلا إذا استوفى حقه من التعليم ومن المسكن والمأكل والعلاج , وسداد دينه إذا كان مدينا , ولذلك لم يثبت في تاريخ الإسلام أن قطعت أيدي أكثر من ستة أشخاص , ورهبة العقوبة مانعة من التعدي.

وأما حد الزنا فحسبنا أنه لم يثبت ولا مرة واحدة بشهادة الشهود ـ وهم أربعة لابد أن يروا رأي العين ـ فهذه عقوبات تهديدية لكي تبين للناس فداحة الجرم إن هم أقدم عليه , وعادلة لأنها لا تطبق إلا في مجتمع إسلامي متكامل توافرت فيه دعائم التربية السليمة , وأسباب الاستقرار الاجتماعي المادي والأدبي.

ووراء الحدود القليلة ـ التي نص عليها الكتاب وبينتها السنة ـ باب واسع لنظام العقوبة في الإسلام اسمه (التعزير) استفاضت فيه بحوث فقهاء الإسلام , وبلغت حدا من الغنى والدقة يعز معها على دارس القانون أن يرى جهل المسلمين وغفلتهم عن الاستفادة منها , وآراء الفقهاء التي تقابل الآراء المعمول بها في القوانين القائمة , فماذا علينا لو تلمسنا الرأي الأنفع فيما عندنا قبل أن نتسول من عند غيرنا , فنكون بذلك قد أرضينا ربنا الذي قال: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) (المائدة:49) , ولم يقل بمثل ما أنزل الله , ونكون كذلك قد حفظنا لأمتنا عزتها القومية , وأمانتها في رعاية الميراث العزيز الذي ألقاه التاريخ أليها ..

وبعد , فإنه يجب أن يتبين الناس أغراضنا من الدعوة إلى الإسلام والحكم بشرائعه .. إنها الدعوة إلى العلم والعمل , وإلى النظام الإلهي المحكم في محاربة الجهل والرذيلة والمرض ... دعوة إلى الطهر والاستقامة والخير للناس كافة ..

والله يتولانا بتأييده ..

حسن الهضيبي

في ذكـرى المولـد

مقدمة

ألقى فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي هذا الخطاب في الاحتفال بذكرى مولد الرسول عليه الصلاة والسلام وحضره الرئيس محمد نجيب وعدد من رجال العروبة والإسلام ...

بِســمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين .. وعلى سائر رسله وأنبيائه أجمعين ..

أيها الإخوان:

أحييكم بتحية الإسلام ، فتحية طيبة مباركة من عند الله تعالى ، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ولكم جزيل الشكر على تشريفكم حفلنا وجزاكم الله عنا خير الجزاء.

هدف إحياء ذكرى المولد

لم يكن أسلافنا الأقدمون يقيمون مثل هذا الاحتفال بمولد الرسول عليه السلام أو هجرته من مكة إلى المدينة , لأنهم لم يكونوا في حاجة إلى من يذكرهم بخطر هذا الميلاد وبخطر هذه الهجرة وما حاجتهم إلى ذلك وقد كانوا يعيشون كل يوم فيما تحقق للناس كافة من خير في رسالة محمد عليه الصادة والسلام ، وكانوا يدركون قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً , وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب:45-46).

وكانوا يدركون قول الرسول عليه السلام: (إنما أنا رحمة مهداة) , ولكنا قد نسينا ما جاء به الرسول ونسينا أنه رحمة مهداة إلى الناس كافة فاتخذنا هذا الاحتفال لنذكر فيه ذلك ونذكر به ونجتمع على كلمة الله وبيان حقائق الإسلام نجليها للناس كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44) , والإخوان في بيان ذلك وتذكير الناس به قوم عمليون يريدون أن يفهم الناس أن تلبية داعي الله لا يكون إلا عملا , وأنهم مسئولون أن يأخذوا أنفسهم وأوضاعهم بأحكام الله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).

مغزى المطالبة بالأخذ بكتاب الله

وإنا لا نطلب بالأخذ بكتاب الله تعالى لنتشفى بالعقوبات الصارمة التي سنها الله تعالى ، بل نطلب الأخذ به كلا لا يقبل التجزئة لأنه ما من حكم فيه إلا وهو مترتب على أحكامه الأخرى ولا تجد عقوبة إلا وقد سدت الذريعة إليها وأسقط الجاني في جنايتها.

واجبات ولي الأمر

التعليـم وأسباب العلوم الأخرى

وأول ذلك هو التعليم , وهو واجب على كل مسلم ومسلمة حق لهما لا يجوز أن يحرما منه , وعلى ولى الأمر أن يهيئ لهما أسباب تعلم الإسلام وأحكامه وبلوغ دعوته إلى الناس , وهذا فرض عين على كل أحد ويجب أن تكون مهمة التعليم الأولى هي تعلم إقامة الوازع النفسي في الناس حتى يكون إقبالهم على طاعة الله والتخلق بالأخلاق الفاضلة مبنيا على هذا الوازع فإذا غاب الوازع عند بعض الناس جاء دور العقوبة . وقد ذكر الله تعالى العقوبات في آيات معدودات ولم يذكرها إلا مرة واحدة ولكن القران بعد ذلك مليء بمناجاة النفوس وحضها على الخير والبر والأخلاق الفاضلة.

(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة:7).

وعلى ولي الأمر كذلك أن يهيئ أسباب العلوم الأخرى التي تحتاج إليها الأمة في شئون حياتها من في زراعة وتجارة وطب وهندسة وطيران وفنون حرب إلى غير ذلك . وهذا فرض على الكفاية يلزم المسلمين جميعا ولا يسقط عنهم إثم تركه إلا حين يتعلم منهم من يسد حاجة الأمة في كل فن.

لذلك يجب على ولي الأمر أن يكون حريصا أشد الحرص على إيفاء كل جانب من جوانب الحياة حقه من التعليم , فلا يحق لنا أن نشكو من نقص في عدد الأطباء أو المهندسين أو الكيمائيين أو الميكانيكيين أو الضباط أو العساكر.

السهر على توفير الأرزاق

والواجب الثاني على ولي الأمر: هو أن يسهر على توفير الأرزاق للناس فإن شريعة الله تقضي بأن يكون لكل إنسان في الدولة مسلما كان أو غير مسلم الحق في منزل يرد عنه حر الصيف وبرد الشتاء ويمنع عنه الأعداء والمتطفلين , والغذاء الذي لابد منه لحفظ كيانه وصحته ، والكساء الذي لابد منه للشتاء والصيف ، والعلاج الذي يلزمه إذا مرض.

هذه حقوقا لازمة في عنق الدولة وليست صدقات يأتيها الناس أو لا يأتونها , والسبيل إلى توفيرها لهم هو العمل , فكل إنسان عليه واجب الحصول على عيشه من طريق العمل الحلال بحسب ما تؤهله له مواهبه وتهيئه له ظروف حياته , ويجبر على العمل إذا هو قعد عنه ، فالإسلام لا يحب القاعدين (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:105).

تدبير فرص العمل

فإذا فرض بعد ذلك أن لم يجد أحد عملا كان على ولي الأمر أن يدبر له العمل , ويهيئ له وسائله ويمده بأدواته ثم يتعهده في ذلك كله لكي يتحقق أنه ناجح في عمله مستريح فيه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما فعله إلا إشارة لواجب الحاكم في هذا الشأن وإن كانت أساليب العمل تختلف.

كفالة من لم يجد

فإذا كان عمل العامل لا يكفيه أو لم يجد عملا أو كان غير قادر على العمل أصلا فهو في كفالة المسلمين عامة وفي كفالة الدولة تمده بما يحتاج إليه من نقص في حاجاته الضرورية.

واجب الدولة إذا لم تكف الزكاة

وسبيل الدولة إلى ذلك هو الزكاة التي يجب على كل مسلم أن يؤديها ويجب على الحكومة أن تحصلها ، وللفقراء حق معلوم منها لا يجوز بحال من الأحوال أن يحرموا منه , ولا أن ينقص شيء منه قبل أن يستوفوا حقوقهم التي ذكرناها , فإن لم تكف الزكاة فقد أصبح واجبا على كل من عنده فضل من المسلمين أن يعود به على إخوانه في الإنسانية بما يوفر لهم حاجاتهم.

الزكاة تصرف في المكان الذي جمعت فيه

والحاكم مسئول أن يحقق لهم ذلك ، والزكاة تصرف في المكان الذي جمعت فيه ولا تنقل إلى جهة أخرى إلا إذا استغنى أهل الجهة التي جمعت فيها ـ وهو أحدث ما أخذ به في معالجة الفقر في الأزمنة الحديثة ـ أما تنظيم ذلك كله فهو من الأمور التي تخضع لظروف الزمان والمكان.

الإسلام يرفع الحياة الاجتماعية للناس

وهكذا أيها الإخوان.. يرفع الإسلام الحياة الاجتماعية للناس بالعلم وبلوغ الدعوة لإعطاء الفقير حقه , ويعالج الأمور من أساسها بطريقة عادلة ميسورة , ثم هو يطلق القوى والمواهب لتحصيل العيش كما يريد الإنسان.

للمسلم أن يجمع من الثروة ما شاء بشرط أن يكون من حلال

وكل أحد من المسلمين له حق في أن يجمع من الثروة ما شاء بشرط أن يكسب ماله من حلال وينفقه في الحلال , فلا يباح لأحد أن يصرف في غير الأوجه التي أحلها الله تعالى ـ فلا خمر ولا ميسر ولا شيء مما تعارف الناس على عده من المباحات ـ فإذا فعل ذلك وأدى حق الله فيه فإن الإسلام يحمى ماله ويقطع اليد التي تمتد إليه.

عقـوبة السـرقة

إن عقوبة السرقة التي يرتجف منها الناس عقوبة فيها غاية الرحمة بالناس , لأنها لا يصح إنزالها بالسارق إلا إذا كان قد استوفى حقوقه التي ذكرنا كلها , ووفر له المجتمع تعليمه ولباسه وطعامه ومسكنه وعلاجه ، بل وسد عنه دينه وهى بعد عقوبة زاجرة تمنع البغاة الذين نالوا حقوقهم من الجماعة من أن يفكروا في السرقة ومن فعل منهم فعليه الجزاء الحق (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة:38).

وتاريخ المسلمين الذي كان فيه هذا النوع من الحياة مستقرا لم تنفذ فيه عقوبة القطع إلا نحو ست مرات.

فلما نسي حكام المسلمين أن يهيئوا للناس تلك الحياة الاجتماعية النظيفة الراقية , وجدوا أن عقوبة القطع لا تتفق مع أحوال المسلمين فمنعوها وهم على حق في منعها ولكنهم كانوا بغاة ظالمين في حرمانهم من حقوقهم في التعليم وضروريات الحياة وكانوا بذلك مسئولين عن تعطيل حدود الله.

الربـا

أيها الإخوان:

إن الربا في معاملاتنا حرام لا شك فيه ولا ينبغي لنا أن ندافع عنه بحال من الأحوال ، بل يجب أن نتناهى عنه كما نتناهى عن أي منكر ، وليس الربا حراما في ديننا فحسب , ولكنه حرام في المسيحية كذلك وفى كل الأديان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:278-279) , وعلينا أن نبين للناس فضائل ديننا وفلسفته العالية في تحريمه , وفوق ذلك ندل الناس على التعامل الذي يحل محله ويكون خيرا وبركة على الناس أجمعين.

بعض علماء الغرب نقدوا نظام الربا

إن بعض علماء الإنجليز وبعض علماء الألمان نقدوا هذا النظام وردوا إليه الاضطراب في أحوال العالم الاقتصادية واقترحوا إلغاءه بالتدريج ، وهم في ذلك يعودون إلى أصول الأديان من عدم التعامل بالربا , وإن كانوا يبنون آراءهم على فكرة تنمية الأعمال الاقتصادية في العالم , وما من شك في أن في مقدور العمل الإنساني أن يحل من المعاملات الناجحة في الاقتصاد ما يغنى عن الربا.

ويجب علينا أن نتخلص منه فقد حقق الله وعيده إذ أذننا بحرب: هذه الحرب الماثلة في انهيار الأخلاق وعدم تحمل التبعات ، وفى الاختلاسات التي لا يظهر منها إلا القليل الفينة بعد الفينة , والسرقات التي أصبحت من لوازم الأعمال الحكومية والأعمال الخاصة , والآفات الزراعية التي تأكل الكثير مما تنبته الأرض (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِداً) (لأعراف:58).

فما نكسبه من الحرام يذهب في الحرام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا , وكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به).

مقترحات الإخوان في هذا الشأن

وفي اعتقادي أن عند الإخوان المسلمين من المقترحات في هذا الشأن ما فيه مصلحة الأمة ويرضى عنه الأجانب والمصريون على السواء.

ارتباط أحكام الإسلام بعضها ببعض

هذه مثل من أمثلة ارتباط أحكام الإسلام بعضها ببعض وتوقف النصوص على الأخذ بأصولها جميعا ولله المثل الأعلى ـ ولا أحب أن استقصي كل هذه الشئون فلاستقصائها مجال آخر.

فضائل الإسلام ـ العـدل

أيها الإخوان:

أريد أن أحدثكم حديثا آخر عن فضائل الإسلام في العدل الذي يرجى أن يسبغه المسلم على المسلمين وعلى غيرهم:

إن عدل الإسلام عدل إلهي شامل كامل لا يختص الله به فريقا دون فريق ، يشمل الناس جميعا غنيهم وفقيرهم ، قريبهم وبعيدهم ، عدوهم وصديقهم ، مسلمهم وغير مسلمهم . قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء:58) , فهذا عدل لكل الناس ليس للمسلمين وحدهم ، وفى النهى عن محاباة الأقارب يقول الله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) (الأنعام:152) , ويقول في النهى عن ظلم الأعداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).

لا يظلم عدوه

ومن أروع الآيات التي نزلت في تحقيق العدالة ما نزل في قصة ابن أبيرق يكشف للرسول عن حقيقة الأمر فيها وما دبره الخائنون لصرفه عن الحق حتى كادوا يوقعونه في ظلم بريء لم يستحق إثما ويسمهم بما هم أهله: سرق ابن أبيرق درعا لجار له فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده ففر ، وجاء قومه إلى الرسول وزعموا أنه لم يسرق الدرع وإنما الذي سرقها هو فلان اليهودي وما زالوا به حتى مال إلى قولهم فأنزل الله هذه الآيات التي تعتبر دستورا لأعظم نوع من العدل الصرف الذي يشمل الإنسانية كلها ، العدل الخالص البريء من الهوى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً , وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً , وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً , يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً , هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً , وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً , وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً , وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً , وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء:105-113)

أكثر الناس لا يعدلون إلا مع بني جنسهم

فليعلم كل مسلم أنه لا يكون مسلما حقا إلا إذا أصبحت عقيدته جزءا لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه فيكون عادلا مع جميع الناس.

ويحذر نوازع الهوى أن تميل به عن هذا العدل إلى غيره من أنواع الظلم التي يرتكبها الإنسان مع بنى جنسه , فإن أكثر الناس لا يعدلون إن عدلوا إلا بين بنى جنسهم.

عدل الإنجليز والأمريكان

فعدل الإنجليز للإنجليز خاصة , وللفرنسيين خاصة , وللأمريكيين خاصة , أما غيرهم فلا عدل فيهم ، ففي كينيا وقناة السويس أو فلسطين عدل غير العدل في الجزائر البريطانية , وفى شمال إفريقيا عدل غير العدل الذي للفرنسيين ، وفى أمريكا عدل للبيض وعدل للسود , أما عدل الله فهو رحمة للعالمين , وصدق الله العظيم (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9).

الإسلام والمصالح المشروعة للناس

أيها الإخوان:

إن هذا العدل يقتضينا أن نحرص الحرص كله على المصالح المشروعة للناس كافة .. نحرص على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم , فكل ذلك حرام على المسلمين إلا بالحق , ولكن ليس لهم أن يدعونا إلى التسامح معهم فيما نهى الله عنه مما جر على بلاد المسلمين تحلل الأخلاق بإشاعة الفساد في الأرض , فإننا نقاوم هذا الفساد بكل قوة حتى نمحوه فإنه أضر علينا من جيوش الاحتلال , بل الاحتلال لم يكن ليعيش في بلادنا لولا إفساده الأخلاق وإفشائه المنكرات بين الناس.

حركة الجيش تمت بنجاح ويجب أن تستمر بنجاح

أيها الإخوان..

إن حركة الجيش قد تمت بنجاح ويجب أن تستمر بنجاح , ويجب أن يجد الناس في الإخوان المسلمين قوما يعملون ولا يتكلمون ويحقون الحق ويبطلون الباطل ولو كره الناس أجمعون.

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41).

حسن الهضيبي

في ذكـرى غـزوة بـدر

مقدمة

نص بيان الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين في ذكرى غزوة بدر

رمضان 1372 ـ يونية

في رحاب غزوة بدر

بِســمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ

لما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام إلى لقاء أعدائه في موقعة بدر لم يخل هذا الخروج من متاعب , فقد جادله في الحق قوم وكرهوا أن يخرجوا معه , وفي ذلك يقول الله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ , يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (الأنفال:5-6) , فهو قد أخرجه الله من بيته بالحق , ووجد قوما يجادلونه بعد ما تبين لهم الحق جدالا عنيفا يريدون ألا يخرجوا , فلم يتأثر رسول الله عليه الصلاة والسلام بذلك ولم يستمع إلى قول المثبطين الذين لا يريدون قتالا في سبيل نصرة عقائدهم.

ثم أنه ذهب يريد شيئا وأراد الله شيئا آخر , أراد الرسول وأصحابه أن يلحقوا بعير أبي سفيان تعويضا لهم عما أخذت قريش من أموالهم حين الهجرة , ولكن أبا سفيان انحاز إلى الشاطئ , وأتت قريش بخيلها ورجلها تريد أن تحارب لرسول وتقضي على دعوته , وهنا يقع في قلوب بعض الناس أن الغاية التي جاءوا من أجلها قد انتهت , وأن أبا سفيان قد فاتهم بما معه من عروض التجارة التي كانوا يطمعون في غنمها , وأنه لا ضرورة لقتال قريش لأنهم الفئة ذات الشوكة التي إن انهزمت فقد انهزم الشرك كله , وأخذت الدعوة سبيلها إلى الذيوع والانتشار وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (الأنفال:7).

التقى الجمعان وكان المسلمون قلة آمنت بحق , وكان المشركون كثرة تجمعت على باطل , لذلك وجد الابن يقاتل أباه , والأخ يقاتل أخاه , ووجدت صلة الأخوة في الله بين المسلمين أقوى من صلة الدم , أقوى من القرابة القريبة (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (التوبة:24).

عوامل النصر

انتصر المسلمون .. انتصر الحق على الباطل .. فلنتأمل في عوامل هذا النصر لعلنا نفيد منها شيئا.

الإيمـان

فأول هذه العوامل ـ الإيمان: الإيمان الذي لا يخالجه شك . إن قلوب المؤمنين كانت عامرة بالإيمان , كلهم آمن بأن الموت حق وأن الحروب تقصر الآجال , وأن القعود في البيوت لا يطيلها : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) (آل عمران:154) , (إن روح القدس نفث في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها وعملها) , والذين يمنون على أمتهم بأنهم ضحوا بأرواحهم لم يقدموا في حقيقة الواقع شيئا . وإنما يجب عليهم أن يشكروا الله أن وفقهم لهذه التضحية , فلنؤمن بالله وبحقنا , ولنؤد ما يفرضه علينا الحق تعالى غير خائفين من الموت ولا مما يخيف الناس عادة , (لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه أبدا , وما أخطأه لم يكن ليصيبه لم يكن ليصيبه أبدا , طويت الأقلام وجفت الصحف).

المضـي

ومن عوامل النصر أنه يجب علينا أنه يجب علينا حين نعتقد أمرا لا نلتفت إلى تثبيط المثبطين ولا تخذيل المخذلين , بل نمضي فيما اعتزمنا بعد تدبر وتفكر نزود عن أفكارنا ما عسى أن يكون قد علق بها من دواعي القعود , وأن للمثبطين والمخذلين طرقا غاية في البراعة يلبسون فيها الحق بالباطل حتى يشتبه الأمر على الناس , فليحذر الإخوان أن يستمعوا إلى شيء من ذلك أو أن يسرعوا إلى تصديق الأخبار التي تذاع فإن أغلبها مما يرجف به المغرضون.

التفويـض

ومن دواعي النصر تفويض الأمر لله تعالى والرضى بما اختار والاعتقاد بأن الخير كله في ذلك , فالخير الذي نجم عن فوات أبي سفيان للرسول وكان قد خرج للقائه , ثم لقاء قريش وحربها والانتصار عليها وهي الفئة ذات الشوكة لم يكن هينا في تاريخ الإسلام , بل كان شيئا خطيرا , فقد انتصرت فئة قليلة على فئة كانت ثلاثة أضعافها فأدى ذلك إلى علو مكانة الإسلام وهيبته في نفوس العرب وإلقاء الرعب في نفوس المعاندين .. وهذا وذلك من عوامل قوة الدعوة وإضعاف خصومها.

العـدة

إن الله تعالى قد أمرنا أن نتخذ العدة فقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال:60) , وهذه هي سنة الله الكونية في الأمم والشعوب , وإعداد القوة لا يقتصر على القوة المادية , ولعل قوة النفس بالإيمان وتحصينها بالتقوى والبعد عن المعاصي تقع في المرتبة الأولى من وسائل الإعداد , ولكن لا يجب أن نعتقد أن العدة وحدها كفيلة بالنصر , وقد ذكر الله في آيات كثيرة من القرآن (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) (آل عمران:123) , (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ , ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:25-26) , (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (الأنفال:17).

لذلك كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو الله في عريشه أن ينصر المسلمين ويبالغ في دعائه مع أن الله قد وعده بالنصر , ولعله فعل ذلك مخافة أن يختلج قلب مسلم بالظن بأن العدة كافية , أو أن يختلج قلب مسلم معصية فيحبط عمله , فعلينا أيها الإخوان أن نزود أنفسنا بالقوة : قوة الإيمان وقوة التقوى وقوة الأخلاق والاستقامة , وأخيرا القوة المادية بجميع أنواعها.

الإخوان دعوة قرآنية

أيها الإخوان..

إن ما تمتاز به دعوتكم أنها تذكر الناس بقرآنهم وسنة رسولهم .. هذا القرآن طالما قرأه الناس على الأموات , وما أنزله الله إلا ليقرأه الأحياء فيكون لهم به حياة , وصدق الله العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال:24).. ومن ثم يقرؤه الإخوان المسلمون معانٍ لا ألفاظا , يقرؤونه وطنية وأخلاقا واجتماعا , وما أشد حاجة الناس إلى هداية القرآن في هذه النواحي لو كان أعداؤنا يعرفون أن القرآن يقرؤه المسلمون اليوم كما كان يقرؤه المسلمون في الصدر الأول ويتأثرون به كما كانوا يتأثرون وأن قراءته تهز شعرة واحدة في أبدان المسلمين لما أذاعته على المسلمين إذاعات لندن وباريس وإسرائيل , ولكنهم يذيعونه على أن المسلمين يطربون له كأنغام توقع للتسلية وتقضى بها أيام المآتم والأفراح ثم لا شيء وراء ذلك.

الإخوان دعوة إسلامية عالمية

أيها الإخوان ...

إن دعوة الإخوان المسلمين لم تعد دعوة محلية في حدود وطن صغير , وإنما أصبحت دعوة عالمية تشمل الوطن الإسلامي بأسره , وتوقظ في المسلمين روح العزة والكرامة والتقوى , فهي اليوم عنوان انبعاث لا نوم بعده , وتحرر لا عبودية معه , وعلم لا جهل وراءه. ولم يعد من السهل على أي طاغية أن يحول دون انتشار هذه الروح أو امتدادها , وما ذلك إلا لأنها تعبير صادق عن شعور عميق يملأ نفوس المسلمين جميعا ويستولي على مشاعرهم وعقولهم وهو أنهم لا يستطيعون اليوم نهضة بدون الإسلام فالإسلام في حقيقته ضرورة وطنية واجتماعية وإنسانية.

الإسلام ضرورة وطنية

هو ضرورة وطنية لأن الوطن في حاجة إلى قلوب أبنائه وسواعدهم وتضحياتهم , وليس كالدين عامل قوي يبعث في نفوس المثقفين وعامة الشعب على السواء حب الوطن والتضحية في سبيله والذود عن كيانه , والتاريخ الإسلامي القديم وعظمته ليست إلا أثرا بينا لما أوجده الدين في نفوس المسلمين الأوائل من هذه الحياة المليئة بأروع معاني التضحية والإيثار.

وفي عصرنا الحاضر استطاعت الدعوة الإسلامية أن تحيي هذه المعاني بما رآه الناس من ضروب التضحية والفداء في حرب فلسطين ومعركة القنال الأولى على أيدي الإخوان المسلمين , ولو أن جميع من اشتركوا في حرب فلسطين كانت تملأ نفوسهم تلك الروح التي بثها الدين في نفوس الإخوان المسلمين لتغير مصير هذه المعركة من هزيمة إلى نصر.

إن الجيوش لا تنتصر بقوة السلاح فحسب , ولكنها تنتصر بقوة الروح المعنوية قبل كل شيء وقادة الجيوش في العصر الحديث يحرصون على الروح المعنوية في جيوشهم في وسائلهم الخاصة , ونحن المسلمين لا نجد أذكى لهذه الروح من الدين حين يفهم على وجهه الصحيح.

الإسلام ضرورة اجتماعية

والدين ضرورة اجتماعية , فكل الغيورين على مصالح الشعب وكرامته يشعرون معنا بأن مجتمعنا ملئ بالنقائص والمفاسد وأن الواجب يحتم علينا المبادرة إلى معالجة هذه النقائص والمفاسد من الواجب من أقرب طريق وأحكمه. ولا يشك كل من درس الإسلام بروح منصفة وعرفه على حقيقته من مصادره الصافية في أنه خير وسيلة لإصلاح العيوب التي نشعر بها في وطننا , وأسرع طريق للوصول إلى الإصلاح الذي ننشده , ذلك لأنه يكفل لكل مواطن حقه من العلم والعقيدة والعبادة والحياة الكريمة التي من ضرورتها في الإسلام المسكن الصالح والغذاء الصالح والملبس الصالح والعلاج الكافي , كما أنه من ضرورتها توفير الكرامة لكل إنسان حتى لا يهان بشتم أو تحقير أو عقوبة بغير حق , والإسلام يسخر قوى الدولة كلها لتحقيق هذه الضرورات للمواطنين جميعا ولا يترك أمرها لضمائر الناس حين تغفل القيام بواجبها.

ولعل مما يجهله كثير من الناس أن من مقاصد الجهاد في الإسلام رفع الظلم بمختلف أنوعه عن الضعفاء والمظلومين في الأرض (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75).

إن هذه المبادئ التي ينادي بها الإسلام لإصلاح المجتمع هي جزء من نظامه العام وعقيدته الشاملة , وهو بذلك يلامس عقائد الناس , فالاستجابة إلى هذه المبادئ التي ينادي بها الإسلام هي نظر المسلم فرض يجب تحقيقه كالصلاة والصيام.. فلماذا نترك هذا السلاح الفعال السريع في إصلاح أحوالنا؟

أما الخوف من أن تؤدي الاستفادة من الإسلام في إصلاحنا الاجتماعي إلى الإساءة إلى إخواننا المواطنين من غير المسلمين فهو خوف لا محل له لأن ما يستفيده المجتمع من إصلاح الإسلام يشمل الناس جميعا , وخير لغير المسلمين أن يعيشوا في مجتمع تكفل فيه أسباب السعادة والعيش الكريم وتحكمه مبادئ الأخلاق الفاضلة التي نادت بها الشرائع جميعا من أن يعيشوا في مجتمع مفكك كمجتمعنا الحاضر الذي يفيض بالمآسي والمظالم.

ومن الضرورات الاجتماعية التي تحتم الاستفادة من الإسلام في وضعنا القائم أنه خير علاج للقضاء على التعصب الديني الذميم والنعرات الطائفية البغيضة , فالإسلام قدر الحقيقة الواقعة وهي اختلاف الناس في أديانهم , وقدر الحاجة إلى تعاونهم في الحياة مع اختلاف أديانهم فأمر المسلمين باحترام عقائد الآخرين , وحرية عباداتهم , بل أوجب علينا الإيمان بالأنبياء السابقين وكتبهم المنزلة (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136) , ومن أجل ذل كان المجمع عليه في الإسلام أنه لا يجوز شتم أهل الكتاب في دينهم وأنبيائهم وكتبهم , ومن الظواهر البارزة في تاريخ الإسلام كله أنه لم تحاول دولة من الدول الإسلامية سواء في عصور العزة والعلم أم في عصور الضعف والجهالة أن تتدخل في شئون غير المسلمين الدينية بل كانت تترك لهم حرية التحاكم إلى محاكمهم الملّية في أحوالهم الشخصية , وكل ماله علاقة بعقائدهم.

فعل المسلمون هذا في مختلف العصور لا مجاملة ولا تفضلا .. بل نزولا على حكم الإسلام ولو أمرهم الإسلام بغير ذلك لفعلوا , ونزيد على ذلك أن ما أوجبه الإسلام على المسلمين من آداب المعاملة في الجوار لم يفرق فيه بين مسلم وغير مسلم ,قال الرسول عليه السلام: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) .. هذا هو موقف الإسلام وعمله في القضاء على التعصب الطائفي لا كما يظنه المغرضون على الإسلام والجاهلون به.

الإسلام ضرورة إنسانية

والإسلام ضرورة إنسانية فإنه أمر بالتعاون بين الشعوب على أساس الحق والكرامة , ومبادئ العدالة المطلقة التي لا تتأثر بالمصالح الشخصية والفروق الجنسية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13).

وهو دين سلام , ولذلك كانت تحية المسلمين السلام , وختام عبادتهم السلام , واسم لله السلام , وتحيته لعباده يوم يلقونه سلام , بل إن هدف الإسلام هو إيصال الناس لطرق السلام (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة:15-16).. ولهذا وجب على المسلمين كافة أن يدخلوا في السلم ولا يجوز لهم ولا يجوز لهم القتال إلا دفعا للعدوان عن أنفسهم وعن غيرهم.

وإنما يعكر صفو السلام بين شعوب الأرض اليوم أن قادة هذه الشعوب لا ينظرون إلى مصلحة الإنسانية مجتمعة وإنما ينظرون إلى مصلحتهم ومصلحة شعوبهم , فهم يدعون إلى السلام ف جو من الحقد والجشع والتعصب , وهي من أكبر عوامل الحروب بين الشعوب.. فهذه الدعوة التي تتصاعد هنا وهناك للسلام من رجال يصرون على استعمار الشعوب واستلاب خيراتها , والعدوان على كرامتها ليست إلا نفاقا وخداعا يستحق الرثاء.

مهمتنا في الوقت الحاضر

أيها الإخوان ..

نحن نحيي هذه الذكريات لنتحدث عن الماضي فنعتبر به , وعن الحاضر فنذكر أنفسنا يما يجب علينا القيام به ... وقد حدثتكم عن العبر المستفادة من وقعة بدر , وعن الإسلام كضرورة وطنية واجتماعية وإنسانية .. والآن أحدثكم عما يهمنا من شئون الحاضر ..

في سبيل تحرير مصر

لقد كنا نود أن تنتهي المحادثات التي جرت بين الحكومة المصرية والإنجليزية بالاعتراف بحق مصر في الجلاء الناجز فنوفر على البلاد مجهوداتها وأموالها وأوقاتها لتدعيم نهضتنا في الإصلاح والتعمير , وتمكين مصر من خدمة قضايا شقيقاتها العربية والإسلامية والمساهمة في قضية السلام العام الذي يتطلع إليه العالم , ولكن المطامع الاستعمارية تغلبت على الإنجليز وأبت أن تعترف بحقنا بالسيادة الحقيقية على أرضنا , وتذرعت بأسطورة الدفاع عن العالم الحر لتبقى جيوشها مثلا للعدوان على شعب حر يريد أن يعيش قويا كريما , وبذلك أصبحت مصر في حل من أن تسلك كل طريق كل طريق يؤدي بها إلى تطهير أرضها من الغاصبين.

والإخوان المسلمون يضعون كل إمكانياتهم رهن وصول مصر إلى حقها الكامل , لا يضنون في سبيل ذلك بدمائهم ولا بأموالهم ولا بجهودهم , وإن لهم من إيمانهم وصدق وطنيتهم وقوة تربيتهم مما يجعلهم قادرين على تحمل الأعباء الجسيمة في معركة مصر المقبلة , وإذا كان غيرهم يعتبر قيامه بهذا الواجب مما تفرضه عليه الوطنية , فإن الإخوان يرون في قيامهم بنصيبهم في تلك المعركة عبادة يتقربون بها إلى الله ويشترون بها الجنة.

في سبيل الإصلاح الداخلي

وإننا مع هذا نتابع جهودنا في ميدان الإصلاح الداخلي متعاونين مع كل من يريد الإصلاح والخير لهذا الوطن , مؤيدين رجال العهد الحاضر في ذلك تأييد الكريم للكريم , لا يألوه عونا إن أصاب ولا نصحا خالصا إن أخطأ , معرضين عن كل ما يحاوله أعداء الإصلاح في عهده الجديد من إيغار الصدور وتفريق الصفوف , وموقفنا هذا مما يفرضه حق الأمة والوطن على جماعة تدعو إلى الله وتحمل لواء الإسلام لا تبتغي من الناس جزاء ولا شكورا , وليس علينا بعد ذلك أن تكون نصيحتنا مقبولة أو غير مقبولة , ونحن لا ندعي العصمة في الرأي وإنما نسأل الله التوفيق والسداد.

في سبيل تحرير الشعوب العربية والإسلامية

وإذا كنا قد أعلنا عن استعدادنا للعمل لتحرير مصر من كل أثر للاحتلال , فإننا نعلن بهذه القوة نفسها وهذا العزم نفسه عن استعدادنا للعمل على تحرير الشعوب العربية والإسلامية من الاستعمار والاحتلال حتى يتبوأ العالم الإسلامي مكانه اللائق في عالم الحق والخير , وما دام الإسلام يعتبر معركة الحرية في بلاد الإسلام واحدة لا تتجزأ فإن على كل مسلم أن يساهم بنصيبه في تحرير الوطن الإسلامي من قيود الاستعمار وآثار الطغيان.

وصـية

أيها الإخوان ...

إن الله قد جعلكم جنودا لقضية الحق والفضيلة والعزة في وطنكم وفي العالم الإسلامي كله , وإذا كان من واجب الجندي المخلص أن يكون مستعدا دائما للقيام بواجبه في خوض المعركة , فإن من واجبكم أن تكونوا مستعدين دائما لما يؤدي بكم إلى النصر في ميادين الإصلاح والتحرير ..

فزكوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وحاربوا أهوائكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعدائكم , فإن من انهزم بينه وبين نفسه في ميدان الإصلاح أعجز من أن ينتصر على عدوه في معركة السلاح , وكونوا مثلا حيا بأقوالكم للأخلاق القرآنية حتى يعرفكم الناس بأخلاقكم قبل أن يعرفوكم بأقوالكم ...

حسن الهضيبي

في ذكـرى الهجـرة

خطاب فضيلة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي في الاحتفال بذكرى الهجرة بحضور عدد من قيادات الإخوان منهم الأستاذ سيد قطب.

المنصورة ـ المحرم 1373 ـ سبتمبر 1953

بِســمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ

أيها الإخوان:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

الأستاذ سيد قطب كان يقول في كلمته أننا لا يجب أن نهتم كثيرا بالخطب , ولا ننشر الدين بالخطب , ولهذا فسأكلمكم وأنا جالس لأني لا أريد أن أكون خطيبا , ولا أحب أن أكون خطيبا..

يا إخوان..

كنا زمانا في المدرسة الثانوية , وحيث لم تكن هناك وقتها احتفالات بالعام الهجري , بدرت عندنا فكرة من الغيظ من الاحتلال .. فكرة نتنفس بها في جانب من جوانب الحياة .. فقلنا نحتفل بالعام الهجري , وبعد تعب أجبنا إلى أن نحتفل بهذا العيد , ثم مرت أيام , وأنا فكرت: ما الذي استفدناه من الاحتفال بالعام الهجري؟ وجدت أولا أنه لا فائدة لهذا الاحتفال بالمرة .. ندخل الاحتفال عُصاة ونخرج منه عُصاة , يعني مثلا كنا ندخل بغير صلاة المغرب ونخرج ولم نصل العشاء , وكنا ندخل ولا علم لنا بآية واحدة من القرآن ونخرج بنفس الحال ولا نعرف أية واحدة من القرآن ..

كنا ندرس القانون في مدرسة الحقوق ولا نشعر بأنه ينقصنا شيء , وما كنا نشغر بأن هناك دين اسمه الإسلام يستوجب علينا أن ندرس شريعة الإسلام على اعتبار أنها قانون حي.. على اعتبار أنها قانون لازم للحياة .. فما فائدة هذه الاحتفالات؟.. وبقينا على هذه الحال وكلما مر الوقت قلّ أملي في هذه الاحتفالات , لأن الكلام الذي يقال فيها "يدخل من أُذن ويخرج من أُذن" , ولا نتقدم به شيئا .. أليس هذا هو الحق؟.. نعم هو الحق وهو الواقع , وجاءت أحداث بالبلد أمّلنا فيها خيرا , فلم ينتج عنها خير , إلى أن وقعت على دعوة الإخوان المسلمين , فعلمت أن هذا قبس من نور , وأن هذا النور يوشك أن يهدي الناس كما هداهم أول الأمر..

يا إخوان ..

إن دعوة الإخوان المسلمين ليست شيئا جديدا .. إنها الدين الخالص .. الدين الذي ليس فيه كتب لمطالعتها ليلا ونهارا ونرجع إليها .. إنها قول بسيط جدا: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .. إنها الأخلاق .. أنها الفطرة السليمة .. إنها شيء عملي نعمه كل يوم.

وقد نظرنا حولنا فوجدنا أن الإخوان المسلمين أوجدوا في البلد حياة .. أوجدوا في البلد طائفة من الشباب استعدت بالروح وبالجسم وبالجسم وبالمال لافتداء الدين والوطن , ووجدنا أن هذه الفئة ثابتة لا تتكلم , لا تهتف باسم أحد , ولا تعظم شخصا ولا تحيّي إنسانا , إنما تحيّي الله سبحانه وتعالى , تحيتهم هتاف لله سبحانه وتعالى , عاملين منيبين طيبين يتوجهون لله بالعمل الطيب , ويعملون في صمت وسكون , إلى أن أتت الأحداث فأثبتت أنهم جنود الله حقا..

الدعوة الإسلامية دعوة تشمل الحياة كلها .. تدخل على الإنسان .. تغير من عقيدته كما غيرت عقيدة عبدة الأوثان وعبدة الناس .. تدخل في قلوب الناس فتنير بصائرهم .. تدخل في قلوب الناس فتريهم الحق حقا والباطل باطلا .. تريهم الحق فيتبعونه , وتريهم الباطل فيجتنبونه , هذه هي دعوة الإخوان المسلمين التي نتحدث عنها , ونقيم هذا الاحتفال في الحقيقة لا لنقول لهم العام الهجري فحسب , إنما لنبيت شيئا من حقيقة دعوة الإخوان المسلمين , ولا أيد أن أطيل في هذا الأمر , إنما أريد أن نرجع إلى يوم الهجرة فقط لأعرض بعض اعتبارات نستفيدها من الهجرة.

يا إخوان ..

الحاجة الأولى التي نستفيدها من كلام أخي عبد المعز وكلام أخي سيد .. استفدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم منح الدعوة كل وقته وكل روحه وكل جسمه وكل ماله إن كان عنده مال.

فيا أيها الإخوان لا تظنوا أن كلامي لكم تملقا , إن أمامكم الشيء الكثير الذي يجب أن تفعلوه , ولا تظنوا أن من انتسب إلى دعوة الإخوان المسلمين قد بلغ منها حظه حقا , يجب على من يدخل الدعوة أن يهبها ويمنحها كل وقته وكل جهده وكل ماله وكل نفسه , فلا نكتفي بالحضور إلى الشعبة فيمكث الواحد فيها طول النهار , إنما يجب أن يمنح الدعوة كل وقته , وليس معنى كلامي الواحد يدور في الشوارع ينادي بدعوة الإخوان المسلمين ولا أن ينصرف عن أعماله ولا يجعل له من سبيل إلا الكلام عن دعوة الإخوان المسلمين , ولكن أقول مع ذلك أنه يجب أن يمنح دعوة الإخوان كل وقته وكل جهده وكل ماله وكل نفسه , وذلك بأن يحقق في نفسه وفي عمله وفي سائر النشاط الذي يعمله في يومه معلني القرآن العظيم.

يجب أن يمنح الواحد هذه الدعوة .. يمنح هذا الدين كل الوقت ليحقق المثل الأعلى الذي بينه القرآن ونحن في هذا الطريق لنا مثل أعلى , وفينا من هو مثل أعلى , وفينا من يصلح وفينا من لا يطيق , ولكن كلنا يريد الوصول لله سبحانه وتعالى , وكلنا يريد الصعود إلى جبل .. فمنا من يصل إلى القمة , ومنا من يصل إلى منتصف الجبل , ومنا من يظل في السفح , ومنا من يبدأ , لكننا جميعا لنا وجهة واحدة هي وجهة الله (أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ).

فيا أيها الإخوان ..

الدين الخالص يقتضينا أن في التجارة وفي الزراعة , وفي معاملتنا للناس , التلميذ في مدرسته , الزارع في زرعه يعبد الله بإتقان عمله.. ويعبد الله بأن يفكر دائما في الله حين يعمل العمل فيعمله لوجهه تعالى , إذن نكون قد منحنا الدعوة كل وقتنا وكل جهدنا وكل مالنا , فلا يدخل على الحياة زيف منها , ولا يدخل علينا الغرور من أي جانب من جوانب أنفسنا.. فيجب علينا دائما أن نكون مستغرقين في دعوة الله سبحانه وتعالى كما كان رسول الله عليه السلام مانحا كل وقته بالليل والنهار , كل حاجة .. كل عمل من أعماله كان خالصا لوجهه تعالى في تجارته .. في نشاطه .. في كل عمل من أعماله .. كان خالصا لوجهه تعالى ,وكان يؤدي هذا الواجب عن طيب خاطر وهو شغوف به , فيجب كذلك أن يكون لنا في رسول الله أسوة حسنة , وأن نتجه إلى الله العلي العظيم بكل أنفسنا وكل قلوبنا وبكل أرواحنا وبكل ما نملك ونعمل لهذه الدعوة , وبذلك يمكن أن نقول أننا أدينا شيئا نلقى الله به بوجه حسن..

يا أيها الإخوان ..

الدعوة كما سمعتم يا إخواني لا تزال كما كانت في أول الأمر , تحفها العقبات وتحفها الصعاب .. وأراكم حين تشمون طعم العافية تطمعوا في هذا , وتفكروا أنكم وصلتم إلى شيء كبير .. فأنا أتمنى لكم الشدائد حتى تستحقوا أن تكونوا الإخوان المسلمين.

فنسأل الله أن يديم علينا الشدائد حتى يديم علينا الإيمان الكامل , فلا نستطيع أن نمضي في دعوتنا إلى الله إلا إذا أيقنا أننا أمام عقبات كثيرة وصعوبات جمة ويجب أن نجتازها .. والصعوبات والعقبات تتجدد كل يوم ليس فقط اليوم , وليس فقط صعوبات وعقبات إبراهيم عبد الهادي , إنما مازال أمامنا الكثير من هذه الصعوبات والعقبات , , فيجب علينا أن نفكر في ذلك , ويجب علينا أن نكون مستعدين لذلك .. ودعوة الإخوان المسلمين لا تحتاج إلا إلى يقظتهم , ولا تحتاج إلا إلى عنايتهم بعد عناية الله بطبيعة الحال , لأن دعوة الإخوان المسلمين أصبحت من الدعوات العالمية التي لا يمكن لشخص من الأشخاص أن ينال منها , إن دعوة الإخوان لم تعد دعوة جماعة أو جمعية في مصر يقال لها الإخوان المسلمون , إنما أصبحت دعوة عالمية .. دعوة يعرفها المشرق والمغرب , دعوة ينتظرها الناس جميعا شرقيهم وغربيهم .. دعوة ينتظرها المسلمون لإنقاذهم من كل ما هم فيه من بلاء .. ينتظرونها في مراكش وفي تونس وفي المغرب الأقصى وفي ليبيا وفي خليج العرب وفي إندونيسيا وفي تركيا وفي باكستان وفي كل مكان ينتظرون دعوة الإخوان المسلمين .. ويعتقدون أنه لا سبيل لإنقاذهم إلا بالإخوان المسلمين , فإذا كان هذا هو اعتقاد الناس فيكم , وإذا كان هذا أمل الناس فيكم فيجب أن تحققوا أمل الناس , ويجب أن تحققوا رجاء الناس , ويجب أن تهتموا بالدعوة وتتفانوا فيها , وحينئذ لا يستطيع أن يمسكم أحد , إن دعوة الإخوان المسلمين لست شعبا وليست مكاتب إدارية , وليست مكتب إرشاد , وليست حاجة اسمها جماعة الإخوان المسلمين , إنما هي دعوة أصبحت في القلوب , لا يمكن أن يحِلّها إلا الله , قد تكفل لا بحلها ولكن بصيانتها , أنكم إن فعلتم كنتم مجاهدين في سبيل الله , والله تعالى وعد المجاهدين بالخير الكثير فقال (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) , فإن فعلتم ذلك فلينصركم الله , والله قد تكفل بالنصر , لأن النصر ليس بالكثرة ولا بالقلة , وليس بيد مخلوق , وإنما هو بيد الله تعالى , في آيات القرآن الكريم جميعا أنه اختص نفسه بالنصر , فلا يمنحه إلا لعباده العاملين , إلا لعباده المتقين , إلا لعباده الذين ينصرونه وينصرون دينه (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).

فدعوة الإخوان المسلمين لم تصبح لعبة في يد الناس , وإنما أصبحت حقيقة في هذا البلد , وحقيقة في بلاد العالم الإسلامي , ولابد من أن ننتصر , ولابد من أن ننال حقنا وواجبنا بتطبيق كتاب الله تعالى إن عاجلا أو آجلا..

يا إخوان..

في كثير من الأحيان يسأل الإخوان ويسأل الناس عن علاقتنا بالحكومات وعلاقتنا بالهيئة , وهذا سؤال أرجو من الإخوان المسلمين ألا يكثروا ترديده .. ما شأننا بالناس سؤال لا يجب نسأله كثيرا , فإذا كنا سائلين , فيجب أن نسأل أنفسنا أولا ما علاقتنا بالله تعالى , إذا كنا نسأل أنفسنا هذا السؤال ونقول ما علاقتنا بالله تعالى ونقف عند هذه المسألة لنرى مقدار علاقتنا بالله تعالى , فلا نسأل عن علاقتنا بالناس أبدا , إن علاقتنا بالله هي الأمر الواجب النظر فيه أولا , ثم نترك أمورنا بعد ذلك على الله .. نعمل الواجب علينا ونسأل عن علاقتنا بالله .. نعمل مثل ذلك الراعي الذي قيل له: لماذا لا تحرس غنمك , فقال: أنا والله أصلحت ما بيني وبين الله فأصلح الله ما بين الغنم والذئب ,فإذا ما اتبعنا هذا القول الحكيم .. أتبعنا ألا نسأل إلا الله ولا نحرص إلا على مرضاته , فإنه سيصلح بين الذئب وغنمنا .. ومع ذل فإني أراكم تبحثوا وتسألوا.

بمناسبة ما قيل أن بين الإخوان المسلمين وبين رجال الجيش سوء تفاهم أو عدم انسجام أو عدم تعاون .. أنا في الواقع يا إخوان أقوال لكم : الحق أني أبحث عن سبب واحد يقتضي هذا القول فلا أجد في نفسي شيئا مطلقا , وأنا أتحدى كل فرد بهذا القول ..

ما هو الأمر الذي طلب من الإخوان المسلمين أن يفعلوه فلم يفعلوه؟ .. ولما يكون فيه غضب , نقول سبب الغضب على ماذا؟.. ماذا طلبتم ؟.. ما الذي طلبوه منا؟.. أنا لا أريد أن أقول أن طلبا واحدا يتفق مع دعوتنا اتفقنا عليه ولم ينفذ!.. بل لم يطلب منا أي طلب , في الواقع أن بعض الناس حلا لهم هذا الكلام وأخذوا يكررون فيه حتى أصبح حقيقة في رؤوسهم لا غيرها .. عندهم وحدهم لأننا لا نجد له أثرا في أنفسنا ولا في تصرفاتنا , هيئة التحرير , نحن اتفقنا مقدما مع بعض على أن يظل الإخوان هيئة قائمة بذاتها حيث اعترف بأنها هيئة مفيدة وهيئة عاملة , ولا ينكر عملها إلا مكابر , اتفقنا على أنهم يريدون إنشاء هيئة تحرير .. وهذا أمر لا يهمنا , لكن في الحقيقة , لا يرجى من الإخوان المسلمين , وإذا قلت: لا يرجى من الإخوان أن يساعدوا على إنشاء هيئة التحرير , فذلك لأنهم أصحاب دعوة ولا يمكن أن نعين دعوة أخرى أو منظمة أخرى تخالف دعوتنا.. هذا , والأمر الثاني: أننا قد أعطينا أوامر صارمة للإخوان المسلمين بألا يعترضوا مطلقا على إنشاء هيئة التحرير .. بل كان بعض القائمين في لقائهم بالإخوان المسلمين يعاكسون هيئة التحرير .. وليسوا راضين عن هيئة التحرير .. وهذا حقيقة الأمر , حقيقة الواقع .. لكن من جانبنا نقول ما هو العمل الواحد الذي عمله الإخوان المسلمون لكي يضايقوا به هيئة التحرير أو يعاكسوها .. لا يوجد غير هذا الكلام .. الكلام الفارغ .. الكلام الذي ليس فيه شيء من الصحة.

فكنت أعالجه , ولكن لم يحدث شيء من ذلك مطلقا .. كلها إشاعات .. كله كلام لا أصل له في الحقيقة , بل هو أوهام في رؤوس بعض الناس , وأوهام تجسمت في النفوس حتى ظنوا أنها حقيقة .. لا شيء في ذلك بالمرة .. وإنما أقول لكم أنه في كل حالة , وفي كل حالة تقضيها الدعوة .. مثلا: البلد في حاجة إلى الدفاع فنحن مع الجيش في هذا الدفاع .. هناك حاجة لزرع الصحراء فنحن مستعدون لزرع الصحراء .. هناك حاجة لكنس الشوارع فنحن مستعدون إلى كنس الشوارع .. هناك حاجة إلى إضاءة بلمبات كبيرة وصغيرة فنحن مستعدون أن نوقدها معا .. نحن مستعدون إلى أن نضع يدنا في يد أي عامل لمصحة هذا البلد لأننا لا نعمل لغير الله .. نحن لا نعمل شيئا نتملق به أحدا , ونحن لا نعمل شيئا من أجل شخص معين , إنما نعمل لله فقط والعمل لله لا يختلف فيه اثنان .. تريدون الحرب نحارب معكم , تريدون الإصلاح نصلح معكم ..تريدون أي شيء من هذا فنحن معكم لأنها مسائل يقبلها الإسلام , نعملها بنياتنا الإسلامية ويعملها غيرنا كيفما أراد..

فيا أيها الإخوان ..

إذا سمعتم شيئا من هذا القبيل فأرجو أن يكون ردكم هكذا بسيطا .. ما العمل الذي طلبتموه منا ولم نعمله؟ .. ما هو؟ .. اسألوا عن التفصيل .. اسألوا لماذا الجيش غضبان من الإخوان المسلمين؟ .. هذه إشاعات مغرضة القصد منها التفريق بين الناس , تفريق أهل الوطن الواحد ..لكي لا تجتمع كلمتهم ولا يتفقوا على مصلحة من مصالح البلاد , ونحن في زمن أحوج ما نكون فيه إلى الاتحاد وإلى فعل الخير .. البلد تحتاج إلى أعمال كثيرة جدا , ولا تحتاج لكلمة واحدة من كلمات التثبيط , ولا تحتاج واحدة من كلمات التهديد.

نحن يا إخوان لسنا مختلفين مع أحد , ونريد أن نمد أيدينا لكل عامل في البلد .. نريد أن نحيي موات هذا البلد بمجهوداتنا ومجهودات الناس جميعا .. فقط لا نريد أكثر من ذلك .

وبعد هذا أستطيع أن أقول كما بدأت: لسنا نحن في غضب من الجيش وإذا كان هناك غضب في ناحية فلا نعرفه . ولكن لسنا غاضبين من جهتنا.

إن أغلب ظني أنهلا يوجد غضب من جهة الجيش .. أغلب ظني أن اليهود هم الذين ينشرون هذه الأقاويل وهي فتن إنجليزية , فلا يصح أن نعيش على سماع الأقوال , ولا يصح أن نعيش على الريب والظنون , ولا يصح أن نعيش على اتهام السرائر , ولا يصح أن نعيش على سماع كلام من الناس ونبني عليه ونجعله حقائق .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).

يا إخوان ..

لم يبق إلا أن أؤكد عليكم أن الإنسان لا يدعو بالخطب مثلما قال الزميل سيد قطب , ولا يدعو باللسان , إنما يجب أن تتمثل فينا أخلاق القرآن في جماعة المسلمين فهذا حسبهم , لأنهم يدلون الناس على أن الدعوة الإسلامية قد بلغت من نفوسهم المبلغ المطلوب والمبلغ المرجو , وعلموا أن دعوة الإسلام حق , وأنها تصلح من النفوس مالا يصلحه أي قانون في البلد.. نحن في بلد أصبحت تحوطها حالة عسيرة جدا لأن تربية الإخوان المسلمين ليست بهينة .

أيها الإخوان ..

تربية الإخوان المسلمين تحوطها الصعاب والعقبات .. إن كل شيء في هذا البلد يضرب تربيتهم .. السينما الفاحشة تضربهم .. الخمارات .. المراقص .. الفساد في الشوارع .. كل هذا يضرب هذه التربية فلما نجد واحدا من الإخوان المسلمين يحافظ على كتاب الله يجب أن نسميه بطلا من الأبطال.

يا أيها الإخوان ..

لا أريد أن أطيل عليكم , وأرجو أن أراكم بخير وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

حسن الهضيبي

رسـالة الطـلاب

بِســمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

من فضيلة المرشد العام إلى الإخوان الطلاب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ..

أيها الإخوان :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد:

أصبحت نهاية العام الدراسي تقترب رويدا رويدا , وتضيق الشقة بيننا وبينها , وكأننا نريد أن تقف حركة الأيام حتى يتسع لنا الوقت لاستذكار دروسنا وتحصيل ما فاتنا .. ولكن هيهات أن يكون لنا من الوقت إلا ما يضيق شيئا فشيئا , فلا تأخذنا الحيرة , ولا يعترينا الارتباك , ولنبادر إلى تنظيم أوقاتنا تنظيما دقيقا محكما يمكننا من التعب ومن الراحة , ومن أن نأخذ حظنا من متع الحياة البريئة , فلا يطغى شيء في ذلك على شيء , فوقت للاستذكار نحدده ونعرف مقداره , ووقت لغير ذلك من الشئون نحدده ونعرف مقداره , ولا ينبغي أن يجور أحد منا على ساعات نومه فإن هذا الجور حري أن يعقبنا بطء في الإدراك وقلة في التصور.

بهذا النظام الذي نتوخاه من حياتنا نستطيع أن نثب إلى الأمام وثبات مباركة , وليعلم كل واحد منا أن انصرافه إلى الدرس وعكوفه على طلب العلم عبادة من أجلّ العبادات وقربى إلى الله تعالى من أجلّ القرب , وعمل لدعوة الإسلام من أفضل الأعمال ... ذلك بأننا إذا أردنا أن نقيم دولة الإسلام فلنقمها ـ فيما تقام عليه ـ على العلم النافع الذي يجب أن نفيده من غيرنا أو بأنفسنا , والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث يجدها , ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طلعت علي شمس يوم لم أزدد فيه علما).

وعلينا ألا نغفل لحظة عن تعهد أنفسنا وأخذها بالأخلاق القرآنية العظيمة: العزة , والكرامة , والصدق , والأمانة , والوفاء , والنجدة , والكف عن المحرمات والغيبة والنميمة وقول الزور ... إلى آخر ما أمر الله به أو نهى عنه , وأن نتميز عن غيرنا بهذه الأخلاق الكريمة , فلا يحتاج الأخ المسلم إلى أن يقول أنه كذلك , وإنما يجب عليه أن يدعهم يعرفون ذلك من أفعاله , وليس أصدق من الأفعال حديثا عند الناس.

ولتكن معاملتنا لإخواننا من الهيئات الأخرى مما يرتفع به المعنى الحزبي من نفوسنا ونفوسهم لأننا أصحاب دعوة إلى كتاب الله , وهي دعوة يجب أن تطمئن إليها القلوب عاجلا أو آجلا , فلا ينبغي لأحدنا أن يصد عنها إنسانا بما ينفره منها , ويبعده عنها , بل ينبغي أن نعمل الناس بالحسنى , ونبصرهم بالكلمة الطيبة , ومن لم يقتنع اليوم فسيقتنع غدا إن شاء الله.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ , وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

حسن الهضيبي

تذكـرة الإخوان

بِســمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , وعلى آله وصحبه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ..

أيها الإخوان ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد ..

فأسأل الله تبارك وتعالى أن تكونوا على خير ما يحب لعباده المؤمنين المخلصين المجاهدين من الصبر والاحتساب , وأن ينزل السكينة في قلوبكم لتزدادوا إيمانا مع إيمانكم , ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما.

إن دعوة الإخوان المسلمين ـ وهي دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لم تزد ولم تنقص ـ كانت ولا تزال صراعا بين الحق والباطل , بين الإيمان والإلحاد , بين المعروف والمنكر , بين العقل والهوى , بين الخلق القويم والتحلل الذميم , بين الإنسانية الفاضلة والأنانية الخاسرة.

من أجل ذلك كانت بحاجة إلى جهاد قوم مؤمنين يخلصون لله دينهم ويهبونه أرواحهم طيبة بذلك نفوسهم , لا تزيدهم المحن إلا ثباتا على حقهم وازدراء لباطل خصومهم , وكانوا في عزائمهم أشد وأقوى , وإلى ربهم أقرب وأدنى , وبانتصارهم يؤمنون , وعلى ربهم يتوكلون .. (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

وإني مذكركم ـ فالذكرى تنفع المؤمنين ـ ببعض ما توحي به الظروف التي خلقها أعداء الدعوة حتى تكونوا على بينة من طريقكم الحق .. ولا تجروا مع خصوم دعوتكم فيما جروا فيه من الإثم والبغي بغير الحق افتراء على الله , أذكركم بالصدق في القول والعمل وترك الجدل واللجاجة مع المخالفين .. اصدقوا أنفسكم واصدقوا الله واصدقوا الناس .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

إن خصوم الدعوة توهموا أنهم بأكاذيبهم يغلبون حقكم فاتهموا السرائر واختلقوا الوقائع (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

قيل: يا رسول الله .. أيكون المؤمن جبانا؟.. قال: نعم , قيل: أيكون بخيلا؟.. قال:نعم , قيل: أيكون كذابا؟.. قال: لا .. (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ).

فلا تهنوا ولا تحزنوا .. فلن يبلغ الكذب من دعوتكم شيئا , إنكم على الحق بإذن الله , ولن يخلف الله وعده .. (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ).

وقد ذكرناهم بالحق فكرهوه وضاقت به صدورهم , وظنوا أن الكذب ينجيهم , والله تعالى يقول: (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى).

وليس الكذب على الأشخاص وحدهم , فقد حرص خصوم دعوتكم على أن ينسبوا أخطاء المسلمين في بعض العصور إلى الدين نفسه , وظنوا أن ذلك يصرفكم عن دعوتكم إلى الإسلام دينا ودولة ...

فانتبهوا لما توحي به هذه الاتجاهات , وتفهموا ما وراء هذا مما يضمره المبطلون , (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ).

أيها الإخوان ...

(اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

أخـوكم: حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين

تمت بحمد الله