رحلتى مع الجماعة الصامدة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
رحلتى مع الجماعة الصامدة


رحلتي مع الجماعة الصامدة.jpg

تقديم

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين , سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين .

وبعد ...

فإن الأخ الأستاذ أحمد أبو شادي – حفظه الله وأطال عمره وبارك فيه – من الذين عاشوا دعوة الإسلام فى سرائها وضرائها , وما زلت أذكره فى محنة 1965 ونحن فى السجن الحربى , وفى قمة الأهوال , يمشى بين الإخوان تاليا لآيات القرآن الكريم بصوته الندى , يثبت القلوب ويقوى الإيمان واليقين , ويذكر بالرعيل الأول من حملة المنهج الإلهى , الذين أوذوا فصابروا ورابطوا وصبروا , حتى جاءهم نصر الله , كانت كلماته فى هذا الهجير كالنسمات , ترطب القلوب , وتنعش الصدور , وتقوى الهمم , وتذكر بالله رب العالمين وبسلطانه وبقوته وقدره النافذ الذى لا يقهر ولا يغلب .

واليوم يأبى الأخ أحمد – أكرمه الله – إلا أن يأخذنا معه فى سياحة حبيبة حول تاريخ هذه الجماعة المباركة , التى صنعت تاريخا وربت أمة , وردت عوادى الشر من هنا وهناك , وكشفت أعداء هذه الأمة , وفضحت اتجاهاتهم .. نعم لقد حمت وصانت جماعة الإخوان المسلمين هذه الأمة من الضياع , وحفظتها بإذن الله تعالى من القضاء عليها , وتحويلها إلى أمة مشلولة فكريا وثقافيا وإسلاميا .. لقد وقفت فى وجه الإستعمار , ووجه التغريب والتبشير بكل ألوانه , وفى وجه تجفيف المنابع بكل وسائله , وفى وجه الصليبية والصهيونية بالذات بكل ضراوتها وإجرامها , ونازلتها فى ميدان الجهاد .

لقد وقف الإمام حسن البنا بعقيدة الإسلام الصافية , وبالفهم الصحيح للإسلام الشامل , ومعه الأبرار من الدعاة أمام جميع هذه الطوائف المنحرفة واستطاعوا أن يردوا عدوانها , وان يثبتوا ويفها ويحصنوا الأمة من كيدها ومكرها .

أقول : يأخذنا الأخ أبو شادى فى سياحة يطلق عليها " رحلته مع الجماعة الصامدة " . وهى سياحة مع الماضى القريب ...

حول ذكريات الصبا والطفولة , وأحوال الأسرة المباركة التى نشأ فيها , ويعطينا صورة عن هذه الفترة , وصلة الأمة بالقرآن العظيم , واحتفالها بشهر رمضان ,والقارىء الراتب , وأمانى الآباء بالنسبة لأبنائهم , ويشرح للشباب تاريخ الجماعة وقيادتها فى الفترات المختلفة من خلال مشاهداته , ثم نراه يهتم بالأحداث من حوله ويعمل على رصدها , ويعلق عليها , ويبين وجه الصواب فيها , ونصحبه فى ميدان المحن التى مرت بالجماعة , وما فيها من ضيق وبلاء , وشدائد وأهوال , كما تحدث عن جرأة الظالمين , وعدوانهم على كل القيم , واستهتارهم بكل الأوضاع .

وفى الفصل الثالث ...

تحدث عن محنة من نوع آخر , وهى استغلال جوانب الضعف عند البعض وجرهم إلى ( زحلوقة ) التأييد , ويمنونهم بالإفراج , وتظل الوعود حبرا على ورق , ويظل الأخ يتنازل ويتراجع حتى يهوى إلى القاع , ويعتزل إخوانه , ويترك الصلاة فى جماعة , وقد يترك تلاوة القرآن وقيام الليل .. وهكذا حتى يذوب البائس المسكين ويتحطم , ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ويتحدث فى الفصل الرابع ..

عن ضرورات الانسان المعتقل التى منها , مثل قضاء الحاجة , وآلام البق وأسرابه التى تملأ كل مكان , وشكلها المخيف , والوسائل التى استخدمها الإخوان للقضاء عليها .

وفى الفصل الخامس ...

تحدث عن بعض النماذج من الإخوان , وتمسكهم بهذا الحق , وصبرهم على الأذى , واحتمالهم لمرارة السجن وما فيه من كروب وأهوال .. وصدق اللع العظيم غذ يقول:

( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون , ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) العنكبوت : 2, 3 .

وأشار إلى موقف الأبطال الشهداء , وكيف استقبلوا هذه اللحظات فى ثبات وإيمان وصدق , رضوان الله عليهم , فلقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه , وهؤلاء مثل للوفاء والرجولة والشرف .

ثم تحدث الأخ أبو شادى عن الصورة الأخرى .. صورة الغدر ونسيان الجميل , وقطع اليد التى ساندت وامتدت بالخير والمساعدة والتعاون .. تحدث عن التفنن فى ألوان الأذى وتلفيق التهم , وتدبير الفتن للأطهار والأبرار الذين يريدون لأمتهم بل للعالم كله السعادة والرقى والخير .

وفى الفصل السادس ...

تحدث عن بعض الرجال الذين حفظوا الوفاء لقيادتهم , وأورد بعض النصوص التى سجلوها , ومن خلال كلامهم يستطيع الجيل الحاضر أن يرى ملامح الشخصية الملهمة التى وفقها الله عو وجل , فى أن تضع أسس العمل الإسلامى ونظرياته فى القرن العشرين , وملتزمة فى ذلك كل الإلتزام ا لدقيق بالإسلام ونظامه .

لقد استطاع الإمام الشهيد رضوان الله عليه أن ينقل من بطون الكتب والأوراق الزاد الذى يعيش عليه المسلم , بعد أن ظل حبيسا فى الأدراج وعلى الأرفف .. لقد حول نظم الإسلام وأخلاقياته وسلوكه إلى واقع حى يسير على ظهر الأرض , ويراه الناس بأعينهم مثل : نماذج الأخوة ونماذج الجهاد , ونماذج فعل الخير العام لكل المسلمين .

وفى الفصل السابع ...

أورد المؤلف مختارات من شعراء الدعوة , الذين أشادوا بالعمل الإسلامى , وذكروا بالقضايا الإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين وبيت المقدس , وما يدبره العدو , والمطالبة بتحرك رائد للعالم الإسلامى لمواجهة هذا الطوفان الصهيونى الغادر , ولن يستطيع أحد أن يواجهه إلا الإسلام والأيدى المتوضئة التى تحرص على الشهادة فى سبيل الله .

أخى القارىء الكريم ... بعد هذه السياحة مع الكاتب الكريم الذى طاف بنا هنا وهناك ... أقول : إن هذه الذكريات الغالية التى حواها الكتاب جزء منى ومنك , وتبصرة للشباب , وتذكرة لأولى الألباب .

وفى النهاية ..

أسأل الله أن يجزى الأخ أحمد أبو شادي عنا خير الجزاء , فقد ذكرنا بالأيام الخوالى , فأحيا فينا مشاعر كانت ساكنة , وأيقظ منا نفوسا كانت نائمة .. جزاه الله خيرا وبارك فى عمره وحياته , وتقبل منه هذا الجهد المبارك وجعله فى ميزان حسناته . اللهم آمين .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

محمد عبد الله الخطيب

من علماء الأزهر الشريف

مقدمة المؤلف

الحمد لله رب العالمين , والعاقبة للمتقين , ولا عدوان إلا على الظالمين , والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين , وحجة على الخلق أجمعين . وبعد .

فهذه أحداث عايشتها , ووقائع ماثلة عاينتها , ودروس غالية وعيتها , ليس للخيال فيها نصيب , وليست أقاصيص للتسلى , أو نوادر للتفكه , وشغل الفراغ , أو ألغاز يجهد الذهن فى حلها , وإنما هى دروس وعبر , وعلامات على الطريق , ومنارات تهدى السالكين , أقدمها لرجال الدعوة الذين عاصروها كلها أو بعضها , فتذكر ناسيا , وتثبت على الطريق من التبست عليه السبيل فداخله الشك فى نصر الله للمؤمنين .

ثم إلى شباب الصحوة المباركة الذين تتقاذفهم الفتن وتتنازعهم المذاهب من حولهم , فيقعون صرعى القلق والاضطراب .

ثم إلى ألأمة الحيرى على مفترق الطرق والتى سطرت على هام الزمان آيات المجد والفخار , لتعرف قدرها كما سجله الله لها من فوق صفحات كتابه : " كنت خير أمة أخرجت للناس .. " آل عمران : 110 .

بل إلى كل مسلم ينشد العزة لأمته ويؤمن بالسيادة لها فى الدنيا والسعادة فى العقبى . والله أسأل أن يبارك فى هذا الجهد المتواضع , وأن يجعله فى الميزان يوم تزل الأقدام . إنه سميع الدعاء .

الفقير إلى عفو ربه

أحمد أبو شادي

الفصل الأول :من ذكريات الطفولة والصبا

كان والدى –رحمه الله – رغم اشتغاله بالزراعة , محبا للقرآن , تاليا له , حفيا بحضور دروس الفقه التى كان يلقيها الشيخ عبد الرحيم الشاذلى ومن بعده ابنه الشيخ محمد , كل ليلة فى المسجد الجامع ما بين المغرب والعشاء , كما كان حريصا على ترتيب أحد القراء من ابناء القرية لإحياء ليالى رمضان فى " المنضرة " وأهل الناحية يفدون لسماع القرآن حتى يحين وقت السحور .. وكان إحياء ليالى رمضان بتلاوة القرآن ديدن الكثيرين من أهل القرية , وللقرآن فيها دوى كدوى النحل , وكان يسهر عندنا الشيخ عمر القصراوى أو الشيخ داود عودة الذى كان أيضا القارىء الراتب على مدار السنة , يأتى إلى دارنا بين الحين والحين , فيجلس فى المنضرة يقرأ ما تيسر من القرآن ,وخاصة يوم الخميس , حيث تعد له الوالدة ما تيس من الفطائر , وربما تقدم له شيئا من الفاكهة أو الحلوى أو غيرها تزعم أن جدى كان يحبها و ثم خلفه ابنه الشيخ محمد الذى لا يزال إلى يومنا هذا قارئا راتبا فى دارنا , و كنا متقاربين فى السن , ومن ثم كان التنافس بيننا , يتلو كل منا ربع حزب بالتناوب , ويهرع الناس إلى بيتنا يقضون السهرة .. يستمعون لآيات الله تتلى عليهم خاصة من الشيخ أحمد الذى كان – ولا يزال – مولعا بتقليد سيدنا الشيخ عوض فودة – رحمه الله – شيخ المقرئين فى القرية , وكان الناس يطلقون عليه " فلاح القرآن " لجودة تلاوته وحسن أدائه , ووالدى يشرح لهم ما غمض عليهم , والجميع فى نشوة وبهجة .

وكان الشيخ عبد الوهاب وهدان – رحمه الله – عمدة القرية عالما فذا وخطيبا مفوها ومحدثا لبقا , رغم أنه لم يتخرج فى الأزهر أو فى مدرسة , وكان من عادته فى ليالى رمضان أن يمر على البيوت يرافقه شيخ البلد , أحيانا وخفير يحمل " كلوب " وآخر يحمل سلة مليئة بالبرتقال واليوسفى أو فاكهة من الفواكه السائدة يوزعها على صغار القراء تشجيعا لهم , كل على حسب مستواه فى التلاوة والحفظ , وفى الصباح يلتقى الضغار يتباهون بما نالوا من جوائز كانت على بساطتها فى نظرنا كبيرة , لأنها تعبر عن معنى كبير , وكان رحمه الله يمر يوم العيد فينقد القراء الصغار العيدية , فيعطى هذا قرشين , وهذا ثلاثة و وهذا خمسة , وربما فاز أحدنا : بالبريزة " وقد نلتها مرة فكدت أطير من شدة الفرح , وما أحب أن لى بها جنيها من الوالد , والبريزة فى ذلك الوقت كان لها شأن أى شأن .

وكانت أمنية والدى أن يرانى فى المسجد الجامع خطيبا يقرع الآذان بزواجر الوعظ , ويلقن الناس دروس الفقه , ومن ثم لم يدخر وسعا فى تهيئتى لهذا الأمر , فدفعنى فى سن الخامسة إلى كتاب القرية , حيث سيدنا الشيخ عوض بقامته المديدة وصوته القوى , يمسك عصا اصطلح على تسميتها بالمقرعة , وهى عصا من جريد النخل شقت من أحد طرفيها , يستحث بها الضغار على القراءة والحفظ , فتحدث قرقعة غير مصحوبة بآلام تذكر .. وكانت الكتاتيب فى ذلك الوقت خاضعة لإشراف مجلس المديرية , وما زالت تلك الأنشودة التى كنا نستقبل بها مفتش الديرية حين يأتينا زائرا ماثلة فى ذهنى , لا يكاد المفتش يدلف إلى داخل الكتاب حتى ينتصب الصغار وقوفا ليرددوا هذا النشيد :

أهلا بخير مفتش
أهلا ببدر مشرق
أهلا بصاحب همة
ساع لخير رقينا
كتابنا بتفهنة
الآن صار كجنة
يا حبذا من نعمة
بشرى لنا .. بشرى لنا


و"تفهة " مسقط رأسى واسمها الكامل " تفهنا العزب "- مركز زفتى غربية وقد عزف والدى عن إلحاقى بالمدرسة الإلزامية كى أتفرغ للقرآن , ولم يعبأ بما فرض عليه من مخالفات مالية دفعها دون اكتراث , وحظر على أهل الدار أن يكلفنى أحدهم بأى أمر مهما كان بسيطا قائلا : أنا وهبته للقرآن وبس .

أما سيدنا فكان يحظى بالخير الوفير مما تخرجه لنا الأرض , وتدره علينا ذوات الضرع , حتى خراف الشيخ التى كان مغرما بتربيتها كان ينالها من الخير نصيب , يقتطع لها والدى من حقل البرسيم قردا يحدده , فهو وقف لا يجوز المساس به وإلا راحت البقرة أو الجاموسة ضحية لهذا التعدى الآثم .. وكان الشيخ لا يحرم من قدر من الفطائر أو زوج من البط أو الأوز إذا ختمت جزءا من القرآن , فضلا عما يناله نقدا حين يبيع والدى القطن .

الحفل الكبير

كان يوما تشرئب له الأعناق , حين يحدد الشيخ موعدا للاحتفال بختم الصبى القرآن , فيحضر الوالد قراطيس الكراملة والفوندام وقرطاس ملبس للشيخ خاصة , وفى الكتاب يجتمع عدد كبير من أهل الناحية , ويجلس الشيخ على دكته العتيدة , ويقف الفتى بين يدى سيدنا بين إعجاب الحاضرين وفرح الأقربين يتلو بصوت عال خواتيم سورة البقرة , ويبلغ التأثرمداه والفتى يتلو قول الله تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " . البقرة : 286 ..

ويقبل الفتى يد الشيخ ثم تنهال التهانى على الفقى الصغير , بينما يوزع الشيخ الكرملة على الحاضرين ويستبقى لنفسه الفوندام والملبس , وينصرف الجميع ولا حديث لهم إلا هذا الحدث الكبير .. وتصنع الوالدة ملء حلة المولد – وهى كبيرة تتسع لخروف كبير – الأرز باللبن يوزع على الجيران , ويوضع قدر منه فى ساحة الكتاب فينهال عليه الصبية بأصابعهم حتى يأتوا عليه ويصير الوعاء أنظف من الصينى بعد غسله .

هأنذا قد ختمت القرآن ولما أتجاوز العاشرة , وها هو سيدنا يشرع فى تعليمى مع آخرين أحكام التجويد وطرفا من قواعد الإملاء وهأنذا أتجاوز الحد الأدنى لسن القبول بالأزهر بأشهر قليلة , وكان يشترط فى المتقدم لامتحان القبول بالسنة الأولى الابتدائية حفظه للقرآن الكريم كله مجودا مع الإلمام بقواعد الإملاء والتدريب على الخط الرقعه منه والنسخ , فضلا عن إتقانه مادة الحساب على القواعد الأربع ( جمع وطرح وضرب وقسمة ومسائل عليها ) , وكانت هذه المادى غير واردة فى برنامج سيدنا بالمرة , وكان أترابى فى الكتاب قد قضوا مرحلة الإلزام فى المدرسة وبرعوا فيها , ورأيتنى أمام الاستاذ عبد الشافى ابن سيدنا , وكان قد قطع شوطا فى الدراسة بمدرسة المعلمين ولم يتمها , فانصرف الى عمل " قبانى " يزن محاصيل القطن والقمح وما إليها .. شرع يدرس لنا الحساب دون مراعاة الفرق بينى وبين هؤلاء الرفاق فيكتب المسائل على السبورة ويطلب من الجميع حلها فيسارع الجميع بالحل , وأرانى عاجزا مما أوقعنى فى حرج بالغ إذ لم يسبق لى أن تلقيت أبجديات هذه المادة التى وكأنها قدت من صخر .

وتقدمت لامتحان القبول بالمعهد الأحمدى بطنطا ونجحت بتفوق فى كل المواد عدا الحساب , وكانت صدمة عنيفة خيبت آمالى وآمال والدى على الأخص , وكانت دهشة الجميع بالغة ولم يصدقوا أنى رسبت ... كيف وقد كنت أشنف أسماعهم بالقرآن فى المسجد الجامع .. أتلوه بصوت حسن وإجادة لا يرقى إليها أى من هؤلاء الناجحين ..

وانكفأت على نفسى , ولزمت البيت هربا من ألسنة الناقدين والشامتين , خاصة عوام الفلاحين الذين كاوا يلاحقوننى بهذا الوصف البغيض " ساقط " .. ولم أعد أذهب إلى المسجد , وخفت ذلك الصوت الندى الشجى الذى كان ينطلق بين جنبات المسجد بين إعجاب المعجبين وثناء المادحين , حتى اللعب البرىء مع أترابى فى الليالى المقمرة حرمت منه , وإذا تصادف خروجى تلاحقنى عبارات التأنيب والتبكيت من الكبار والصغار على سواء فتزداد همومى , ولمك أنج من تأنيب والدى كلما وقعت عيناه على , ويجتمع الجميع على العشاء وأنا قابع فى ركن آخر من الدار كئيبا حزينا لا أذوق للأكل ولا للنوم طعما , حتى والدتى التى كانت تفخر بى راحت بدورها تصب على عبارات التقريع من مثل قولها : هو انت نافع ؟ دا الفرخ الفصيح من البيضة بيصيح .. ولا أجرؤ أن أشكو إليها قسوة والدى , وإذا شكوت تلسعنى بقولها : الراجل – تقصد والدى – عمل آخر جهده , هو انت نافع ؟

وزاد من همومى أن كان لشقيقتى الكبرى ابن يكبرنى بسنتين وكان مستواه فى حفظ القرآن وتجويده دون مستواى بكثير , ولكنه سبقنى إلى المعهد الأحمدى لمعرفته الحساب , وكان رحمه الله وسيما يبدو متألقا فى الكاكولة والعمامة حين يأتى لزيارة جده وجدته ( والدى ) فى العيد , فيحظى وينكأ الجراح , فلا أحظى بشىء قليل مما يحظى به الأولاد حتى القرويون من لبس الجديد والفرح بالعيد .

كان معهد المنشاوى باشا بطنطا ( معهد أهلى ) يستقبل الراسبين فى امتحان المعهد الأحمدى , وكذلك من تجاوز الحد الأقصى للقبول ( 16 سنة ) ولم تكن لذلك المعهد منزلة ومكانة المعهد الأحمدى الذى كان لاسمه دوى كدوى الطبل , ونظرة الناس إلى كل من المعهدين مختلفة تماما , وأشار بعضهم على والدى أن التحق بهذا المعهد كنوع من التقوية توطئة للالتحاق بالمعهد الأحمدى فى العام المقبل , وكانت فرصة طيبة للخروج من هذا السجن لذى فرض على والبعد عن تبكيت الأهل وسخرية الجاهلين , وقضيت السنة الأولى بمعهد المنشاوى وفى آخر العام – ولأول مرة – أذوق طعم النجاح , ولكنه نجاح ممزوج بالمرارة , فما لم تكن فى المعهد الأحمدى , فلا عبرة بنجاحك ولو حصلت على النهايات الكبرى .

ثم عدت من جديد لاستأنف دراسة الحساب لدى الأستاذ عبد الشافى الذى كرر معى نفس الدور , وكان لابد من سبيل للخروج من المأزق الصعب الذى كاد يعصف بكيانى كله , ولا أحد إلا الله وحده يدرى ما أقاسى .. جمعت أمرى مع زميل لى مر معى بنفس الدورورحنا نفكر معا فى مخرج , فاهتدينا إلى التوجه إلى الشيخ عبد الفتاح خليل ناظر المدرسة الذى اشتهر ببراعته فى الحساب ولا يكاد يرسب أحد ممن هم تحت يده واتفقنا على ترك الأستاذ عبد الشافى والتوجه إلى الناظر , فالأمر يتعلق بمستقبلنا , وبسط كل منا الأمر لوالده فكانت الموافقة , وذهبنا إلى الرجل وكان عند حسن الظن به , فشرحنا له ظروفنا وأننا نرغب فى البدء من أول السلم , فطمأننا كثيرا وشعرنا بأن عقدتنا فى سبيلها إلى الحل , وكدنا نطير من الفرح إذ اطل علينا فجر مستقبل جديد ينير لنا الطريق إلى النجاح المنشود .

فرحة ما تمت

ما أن علم سيدنا بالأمر حتى أرسل إلينا يستدعينا من بيت الشيخ عبد الفتاح , وما كنا نملك إلا الإنصياع لأمره , فهو الرجل الذى كنا نفرق من مجرد رؤيته حين يمر بنا عرضا , وذهبنا إليه وقلوبنا الصغيرة ترتجف من هول ما سوف يحل بنا .. وهناك نصبت لنا المشنقة – أعنى الفلقة – وتلقينا نصيبنا من عصاه الغليظة , وأغلق دوننا باب الأمل وحل اليأس فى قلوبنا .. والمؤسف أننى حين شكوت إلى والدى أقر تصرف الشيخ باعتباره صاحب الفضل فى حفظ القرآن وتجويده وتستحيل مخالفة أمره , وعصا الفقى من الجنة .. وعدنا إلى عبد الشافى لتتم المأساة فصولها وأرسب فى امتحان القبول للمرة الثانية , بينما نجح زميلى سيد بعد استعانته سرا بقريب له فى دراسة الحساب وحقق أمنيته فى الالتحاق بالمعهد الأحمدى , ولم يكن بد من المضى فى الدراسة بمعهد المنشاوى وقد نقلت إلى السنة الثانية وأمرى لله , علما بأن نظام الدراسة بذلك المعهد كان يقضى باجتياز الطلاب المرحلة الابتدائية نقلا من سنة إلى أخرى وفى السنة الرابعة يعقد الامتحان فى المعهد الأحمدى فى مقرر السنوات الأربع , وعقدت على بذل أقصى جهد ممكن شأنى شأن الطلاب الذين تجاوزوا سن القبول بالأحمدى والتحقوا بالمنشاوى , فإذا ما قدر لى النجاح فى الشهادة الإبتدائية التقيت مع الجميع فى معهد طنطا الثانوى وهناك تتساوى الرءوس .. وعند صفو الليالى يحدث الكدر .. فبينما أنا مقبل على الدراسة لا أتوانى عن التحصيل , إذ فاجأتنا إدارة الجامع الأزهر بقرار غريب لا أدرى حتى الآن الباعث عليه , إذ قررت اعتبار الطلاب الوافدين لرسوبهم فى امتحان القبول فى الأحمدى هذا العام بالذات مستمعين فقط ولاحق فى الامتحان آخر العام , فأرسلت إدارة معهد المنشاوى إلى إدارة الجامع الأزهر لتصحيح الوضع فجاء الرد أنه قرار مشيخة الأزهر ولا سبيل إلى الرجوع فيه , فأوصد الباب فى وجهى وقررت العودة إلى البلد .. وما دريت أننى بعودتى أعود إلى السجن من جديد .. فى البلد لقيت من الأهل والناس ما لقيت حتى انتهى العام الدراسى وعاد الطلاب لقضاء الاجازة الصيفية بين الأهل , وتواترت البشائر بنجاحهم .. ومررت بمرحلة أليمة قاسية يعجز القلم عن وصفها .. كنت أتحاشى الخروج حتى لا توجه إلى سهام العوام , فلا أنا طالب ألتقى بالطلاب فى ناديهم , ولا أنا فلاح أشارك شباب الفلاحين اللعب فى الليالى المقمرة .. ووجدتنى وحيدا معزولا تحيط بى الهموم من كل جانب , وفكر والدى فى عمل يناسبنى , فعزم على أن يفتح لى دكانا ثم عدل عن الفكرة .. وفى خلال ذلك زارنا – قدرا – قريب لنا يعمل فى القاهرة , فرجاه والدى أن يبحث لى عن عمل يلائمنى , فأنا أحفظ القرآن وأجيد الخط النسخ والرقعة , ولم يلبث والدى أن تلقى خطابا من ذلك القريب أنه اهتدى إلى عمل لى فى مطبعة – يعمل فيها ابنه – بأجر يومة 25 مليما ( خمسة تعريفة ) وهى ثمن رطل لحم ضانى إذ ذاك .. ورحب والدى بالفكرة خاصة أن الرجل ذكر له أن هذا الأجر مبدئى وقابل للزيادة , وربما يتمكن أحمد فى المستقبل من إنشاء مطبعة فيكون له شأن , إلا أن والدتى رحمها الله وبعاطفة الأم عارضت ذلك بشدة قائلة : يسكن فين ؟ ومع مين ؟ وازاى يعيش ؟ولا نأمن أن يصمه تروماى أو عربية .. فنزل والدى على رغبتها وعدل عن الفكرة .

ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعا وعند الله منها المخرج .
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج

وبدا فى الأفق شعاع جديد من أمل .. زار والدى رجل فاضل هو المرحوم الأستاذ أحمد رضوان المدرس بمدرسة البلد ذات ليلة , فهاله أن رآنى أقدم القهوة للضيوف , فسأل والدى مستغربا : مش ده الشيخ أحمد ؟ .. وعهده بى أننى لا شك من التفوقين , وكان من المعجبين جدا بقراءتى فى المسجد وفى المحافل .. فرد الوالد : والله احنا عملنا اللى علينا , ولكن أحمد ابنى لعبى .. وهنا كان الكيل قد طفح ولم يعد فى قوس الصبر منزع , ووجدتنى منخرطا فى بكاء شديد وقلت دون تردد : بل أنت السبب فى كل ما حصل , وذكرت قصتى مع الاستاذ عبد الشافى والشيخ عبد الفتاح ناظر المدرسة وما أصابنى من إيذاء على يد الشيخ عوض , وهممت بالانصراف ولبكائى نشيج ووجيب , فلحق بى الرجل وطيب خاطرى وبدا عليه التأثر لحالى , وقال لوالدى : يا عم الحاج : الشيخ أحمد على حق .. شخص ليس عنده أى فكرة عن الحساب يوضع مع جماعة قتلو المادة دراسة وجاءوا للمراجعة والتمكن .. هذا ظلم .. الشيخ أحمد على حق .

ولأول مرة منذ سنتين تسمع كلمة إنصاف – رحم الله الأستاذ أحمد رضوان وجزاه عنى خيرا – ثم اقترح أن أتقدم إلى امتحان القبول للمعهد الأحمدى للمرة الثالثة ولا تزال سنى مناسبة , وابدى استعداده لتدريس مادة الحساب متطوعا , فرفضت ذلك بشدة , إذ على فرض نجاحى فى القبول سألتحق بالسنة الأولى بينما سبقنى إلى السنة الثالثة من كانوا دونى منزلة فى القرآن بكثير , بل منهم من كنت أنوب عن سيدنا فى تسميع القرآن له .. وقلت مستحيل لو كان المعهد الأحمدى هو الجنة .. فعاد الرجل يقترح التقدم إلى المدرسة الابتدائية , فاستنكر الوالد ذلك لما وقر فى نفسه أن طلاب المدارس لا دين لهم .. إما الأزهر وإلا فلا . وعاد الرجل يدلل للوالد بأن ليس كل الطلاب هكذا , وضرب له أمثلة بطلاب من البلد يتمتعون بسمعة طيبة , وكان الوالد يعرفهم , فاقتنع بالفكرة بعد لأى .. وبعد أيام توجهت مع الوالد إلى زفتى حيث مدرسة " أمير الصعيد الابتدائية الخاصة " ,أجرى لى امتحان فى القراءة والإملاء والخط , فاقترح الناظر بعد أن أدرك مستواى إلحاقى بالسنة الثالثة , ويمكن الاتفاق مع مدرس اللغة الانجليزية فينهى معى مقرر السنة الثانية خلال الفترة الباقية من الإجازة .. ولم يكن الانجليزى مقررا على السنة الثالثة فأتساوى بنظرائى فى المعهد الأحمدى وأحصل على الشهادة الابتدائية معهم وتمحى عنى وصمة الرسوب , وكانت فكرة جيدة حقا , غير أن والدى خشى ألا أوافق فالتحقت بالسنة الثانية .

أشرقت نفسى بالأمل بعد ضياع وطول معاناة , وأقبلت على الدراسة بهمة ونشاط , وتفوقت على أقرانى من أبناء بلدتى , إذ كان ترتيبى فى السنة الثانية الخامس ثم تربعت على كرسى الأولوية فيما بعدها , واستعدت ثقتى بنفسى , وحصلت على الشهادة الابتدائية وذقت طعم النجاح بحق .. ولست أنسى يو أقبل البشير بالنجاح .. كان فراشو المدرسة يطوفون بدراجاتهم على القرى يوزعون الشهادات على الناجحين ويومها أقام والدى لهم مائدة دعا إليها بعض الأقارب والجيران بين فرحة الأهل والأحباب .. أحمد أفندى خد الشهادة .. وانطلقت الزغاريد ونفح الفراشون نفحة فرحوا بها كثيرا .

كانت صورة عبد الجليل مالك ومحمد الأغا تتراءى أمام عينى , وكانا قد حصلا على الشهادة الابتدائية من نفس المدرسة والتحقا بالجيش وصار كل منهما بلوك ( بلوكامين ) .. يا سلام .. متى أحظى بهذه الرتبة التى كانت منتهى ما أتمنى بعد رحلة العذاب ؟

المعلم القدوة

ومن جميل الذكريات فى تلك المدرسة أن كان الشيخ أحمد عامر مدرس اللغة العربية والدين من خيرة المعلمين , علما وخلقا ودينا , يحرص على غرس القيم الفاضلة فى نفوس تلاميذه , بصورة عملية , فيصحبهم إلى دورة المياه حين يقترب وقت الصلاة , فيعلمهم الوضوء وكيفية الصلاة ثم يؤمهم .. وكان يرافقهم إلى مكتبة المدرسة فيرشدهم إلى ما يرقى بمعلوماتهم ويحبب إليهم الإطلاع والتزود من الثقافة , بل كان يفرض حفظ مختارات من القرآن بتفسيرها من خارج المقرر , ويضع ذلك فى الإعتبار عند رصد الدرجات وينتقى مختارات من الإملاء والإنشاء والمحفوظات مما لا يتسنى لغيره , ففى وصف ليلة مقمرة أملى علينا هذه اللوحة الفنية وأوصى بحفظها .. أذكر منها :

كانت السماء صافية الإهاب , زرقاء الجلباب , قد بدا فيها القمر كما يبدو الملك يصحبه الجلال وتكتنفه العظمة , فدب الحياء إلى الكواكب فتوارت بالحجاب , اللهم إلا قليلا كان يهبهب هنا وهناك كـأنه رقباء الملك ومن المحفوظات هذه التوجيهات الغالية التى تركت آثارها على سلوك الكثيرين :

الرزق مضمون على واحد
مفاتح الأشياء فى قبضته
قد يرزق العاجز مع عجزه
ويحرم الكيس مع فطنته
لا تنهر المسكين يوما أتى
فقد نهاك الله عن نهرته
من أطلق القول بلا مهلة
لا شك أن يعثر فى عجلته
من شرب الخمر شفاء له
فلا شفاه الله من علته
من جعل الحق له ناصرا
أيده الله على نصرته

ومنها :

اتق الأحمق أن تصحبه
إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رفعت منه جانبا
مر منه الريح وهنا فانخرق

ومنها :

عاشر من الناس كبار العقول
وجانب الجهال أهل الفضول
واشرب نقيع السم من عاقل
واسكب على الأرض دواء الجهول .

وغير ذلك كثير ......

ومن الطرائف التى لا تنسى , أن أحد التلاميذ المشاغبين اعتاد أن يسير خلف هذا الستاذ وهو يغادر قاعة الدرس بعد الحصة ويخرج لسانه ساخرا , وعلم الأستاذ بذلك من بعض التلاميذ , فأبدى عدم اكتراثه بالأمر , فيما راح يرقب سلوك عبد العزيز حتى تأكد بنفسه من الواقعة .

وفى درس المحفوظات ركز على عبد العزيز وضيق الخناق عليه حتى بدا عجزه جليا وقد كان من المتفوقين , فعلت الحمرة وجهه ونكس رأسه خجلا , عند ذلك بادره الأستاذ بقوله : قل يا عبد العزيز فلا يملك جوابا ويكرر الأمر ويزداد عبد العزيز خجلا .

عند ذلك قال له : يا واد يا عبد العزيز .. أنا بلغنى أن لسانك بيحصل مناخيرك .. صحيح ؟ ... ويموت عبد العزيز فى جلده .

وهكذا لقنه درسا أبلغ من ضرب السياط دون أن يؤنبه أو يعاقبه , فنعم المربى والمعلم .. رحمه الله رحمة واسعة .

بين عهدين الوفد والإخوان المسلمون

كان لحزب الوفد الذى أسسه الزعيم سعد زغلول عقب ثورة 1919 شعبية طاغية انتظمت الأمة كلها بجميع طوائفها وفئاتها , وامتدت فى أرجاء البلاد طولا وعرضا وشمالا وجنوبا , حتى لم يعد فى مصر جبهة مناهضة , وانطلقت الألسنة من عقالها تمجد الوفد وتسبح بحمده , حتى بدت ألسنة الجماهير العريضة مقولات : " مكتوب على ورق الفول .. يحيا سعد زغلول " , " يحيا الوفد ولو فيها رفد " , " لو رشح الوفد حجرا لانتخبناه " , " الجاموسة بتاعتنا بتقول : سع ... د " .

كان أحد الوفديين واسمه أبو العينين جعفر مرشحا لعضوية مجلس النواب فى إحدى دوائر المنوفية , فسأل أحد الفلاحين صاحبه عمن سينتخب ؟ فرد عليه بما يفيد أنه سينتخب منافس جعفر .. فقال له : يا شيخ انتخب جعفر .. دا حتى الجاموسة بتاعتنا بتقول جع .. فر .

وتفتحت عيناى على مواكب النحاس باشا وهو يستقبل القطار من القاهرة إلى بلدته سمنود مارا فى طريقه ببلدتنا التى خرجت عن بكرة أبيها تستقبل زعيم الأمة وخليفة سعد ورفيق جهاده , وانطلقت حناجر الشباب تشق عنان السماء تهتف للرئيس الجليل ورفاقه من رجالات الهيئة الوفدية :

يحيا النحاس باشا .. يعيش زعيم الأمة .. يحيا صبري علم الوفد .. يعيش فؤاد سراج الدين الوفد .. يعيش نجيب هلال الوفد .. يحيا النحاس باشا .. ويشير أحدهم إلى النحاس هاتفا .. يحيا العلم الزاهر .. ويتبعه آخر : يحيا الشمس الساطعة .. وثالث : يحيا الكوكب المنير .. فى حماس منقطع النظير .

شاهدت ذلك ولما أتجاوز الخامسة عشرة من عمرى , وتعلقت بهذه المظاهر البراقة , والتى كانت من شعارات حزب الوفد .. أما مهمة الحزب والغرض الذى أنشىء من أجله , فلم يخطر لى على بال .. الجميع يصفقون .. والجميع يهتفون .. والجميع تابعون لا يدرون إلى أين يساقطون .. وكلهم فى الحب " وفد " دون تفكير .. ( واللى يتجوز أمنا نقول له يا عمنا ) .. (وإذا لقيت بلد بتعبد العجل حش وارمى له ) .. وهى أمثلة تحمل فى طياتها الدعوة إلى السلبية ومجاراة الحاكم مهما كان جائرا , خلافا لما تعلمناه فيما بعد فى موكب الدعوة أن يكون المسلم إيجابيا , يأبى الضيم , ويرفض الذل والهوان , وألا يفكر بعقل غيره .. ففى الحديث " من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منى " " لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس , إن أحسن الناس أحسنت , وإن أساءوا أسأت , ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم " .. إن الأمة التى تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم بطن الأرض خير لها من ظهرها – وفى رواية قد تودع منها " رواه الترمذى .. وقبل ذلك كله وبعده قول الله تعالى " إن الذين توفاهم الملائكة ظلمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا , إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا , فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " النساء : 97-99 .

وما من شك أن المقربين من رموز الوفد كانت لهم امتيازات ومنافع لا يدركها من هم فى مثل سنى , وزاد إعجابى بالنحاس باشا براعته الخطابية وفنه فى الإلقاء مع أسلوب جزل فخم يتسم بالسجع والمحسنات البديعية , خاصة وهو يخطب فى الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف , ويكرر كل فقرة من الخطاب الذى أعد له بإتقان وعناية عبارة " سيدى يا أبا الزهراء" .. وكنت بحكم نشأتى أميل إلى كل ما يتصل بالدين , ولا زلت أحفظ قدرا غير يسير من خطابه الذى ألقاه عقب اغتيال أمين عثمان باشا الذى كان يشغل منصب وزير المالية فى وزارة الوفد فى الأربعينات والمقرب جدا من الانجليز , وصاحب العبارة المشهورة ( إن مصر تزوجت بريطانيا زواجا كاثوليكيا ) .. يعنى زواجا مؤبدا لا يقبل الانفصام .

قال النحاس بعد المقدمة ينعى الفقيد : اللهم لا راد لقضائك , ولا مفر من ابتلائك , دقت عن الأفهام حكمتك , وارتفعت فوق مستوى العقول قدرتك , فأنت وحدك الباقى والخلق فانون , وأنت وحدك القادر والكل عاجزون .. جرى تقديرك الأزلى أن تصاب مصر فى ابن لها وفى أحوج ما تكون إلى جهاده وكفاحه وجلاده .. إلى أن يقول " وكذا حم القضاء وجاء الأجل فقد أخفق وخاب الأمل .

كلام منمق يشبع رغبة طالب ثانوى يتدرب على كتابة موضوع إنشاء .

ولكنى أعجبت بالنحاس باشا إعجابا ملك أحاسيسى وكنت مولعا باقتناء صوره وعلى صدره الأوسمة والنياشين , ولآ أكتفى بذلك بل أحرص على تعليقها فى وجه الداخل على جدران المنضرة التى كان والدى يستقبل فيها الضيوف .

وفى هذه الأثناء , أذكر أنه مرت بقريتنا مجموعة من شباب الكشافة فى يوم جمعة , وبعد الصلاة اصطفوا صفوفا منتظمة يتقدمهم شاب يحمل بين ذراعيه مصحفا يرفع صوته بهتافات ترددها المجموعة كلها , ثم مضت إلى حال سبيلها , وسمعت الناس يقولون : دول من جماعة إخواننا المسلمين , فلم أكترث بالأمر .

وأذكر أننا ونحن فى مدرسة زفتى كنا إذا أردنا الصلاة فى المسجد يحذرنا زملاؤنا من الصلاة فى مسجد السنية " الجمعية الشرعية " أوعوا دول بيطولوا فى الصلاة لغاية ما يكسحوا وسطك .. فانطبع فى ذهنى تجنب الصلاة مع السنية أو الإقتراب منهم بل – استغفر الله – وازدراؤهم وكان الكثيرون من ذوى اللحى فى ذلك الوقت ممن أطلقوها لترويج بضاعته .. فهذا الشيخ فراج بائع الجاز , والشيخ محمد السوسى الشهير بالسنى وكان جزارا , والشيخ عوض وكان يتجر فى الطيور والزبدة والألبان .. فكانت نظرتى لهؤلاء نظرة ازدراء وتحقير خلافا لما يتمتع به رجال الوفد من وسامة ووجاهة وألقاب تأخذ بالألباب فكان الوفد وبس وبعده الطوفان .. واستقر فى ذهنى أن الإخوان من الجماعة السنية وأنه يستحيل على مثلى –وأنا من حزب الصفوة – أن يهبط إلى هذا المستوى .. ولكن أحد أبناء قريتنا – لا يزال على قيد الحياة – هو الأخ إبراهيم سلامة بارك الله فيه ومد فى عمره , وقد أتيح له بحكم عمله فى القاهرة أن ينضم إلى الجماعة .. كان دائما يلح على حين يلقانى فى البلد أو يقابلنى فى القاهرة أن أستجيب لدعوة الإخوان , فالإخوان يريدون تطبيق الشريعة .. فأقول : يعنى إيه ؟ فيقول : نحكم بالقرآن بدل ما نحكم بقانون يبيح الخمر والزنا والسفور والقمار والربا , لكن القرآن يحرم ذلك كله , ويوقع على مرتكب أى منهما عقوبة قاسية , السارق تقطع يده , ويؤيد قوله بالآية الكريمة :" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " المائدة : 38 ,والزانى يجلد ويستشهد بقول الله تعالى " الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله " النور : 2 , ويدلل على عقوبة الربا بقوله سبحانه " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين , فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " البقرة 278 – 279 , " يمحق الله الربا ويربى الصدقات " البقرة : 276 .. وعن السفور " يا أيها قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن " الأحزاب : 59 .

ورغم وضوح الحجة فإنى لم ألق لذلك كله بالا , وأنا الذى أحفظ القرآن عن ظهر قلب .. وأنا مالى والجماعة السنية .. الوفد وبس .. وفى مقابلة له فى القاهرة , وكان ذلك فى شهر رمضان , دعانى إلى تناول الإفطار فى بيته بالعباسية , فلبيت الدعوة وبعد الإفطار صحبنى إلى ميدان المحكمة بالعباسية , حيث أقيم سرادق للاحتفال بذكرى غزوة بدر فى تلك الليلة , يخطب فيها الشيخ حسن البنا , وكنت فى هذه الظروف قد بدأت انفتح على الصحف , وأولعت بقراءة الجرائد وخاصة جرائد الوفد , وبالأخص جريدة صوت الأمة التى أصدرها حزب الوفد خصيصا لمهاجمته الإخوان المسلمين والتشنيع عليهم وعلى الشيخ البنا , وتخصه بقدر كبير من الشتائم والسباب مثل قولها : حسن البنا مدرس الخط .. وعن الجماعة : هذه الجماعة تهوى , وتلجأ الجريدة إلى إيراد أسماء تزعم أنهم من الإخوان الذين انشقوا عن الجماعة , ثم يعقد الكاتب مقارنة بين حضرة صاحب المقام الرفيع الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء ورئيس الوفد المصرى وخليفة الزعيم خالد الذكر سعد باشا زغلول , وبين حسن البنا مدرس الابتدائى الذى يقع فى السفح من ذلك الهرم الشامخ الذى يقف على قمته زعيم الأمة , ومن تحته حضرات أصحاب المعالى والسعادة والعزة والوزراء ومنهم وزير المعارف العمومية – كما كانوا يسمونه فى ذلك الوقت – والذى يخضع له وكلاء الوزارة والمفتشون والموجهون ونظار المدارس الثانوية والابتدائية ونظار مدارس المعلمين والمعلمات , ولم تكن الجامعة فى ذلك الوقت تخضع لوزير المعارف بل كان لها نظام خاص بعيد عن سلطة الوزير .. فماذا يكون موقع حسن البنا من هذه التركيبة ؟ .. إنه لا يعدو أن يكون مدرسا فى أسفل الهرم الذى يقف على قمته رفعة النحاس باشا, ويستحيل على المرء الذى تستهويه هذه المظاهر الخداعة أن يترك القمة ويهبط إلى السفح .. الوفد وبس .. أضافت هذه الصورة إلى عقيدتى من السنية عقدة أغلظ من جهة الإخوان .

أعود إلى الأخ إبراهيم سلامة الذى لم أجد بدا من إجابة دعوته لحضور الإحتفال بذكرى غزوة بدر خاصة والرجل مبالغ فى مجاملتى .. وافينا السرادق وهناك راعنى أن رأيت حشدا كبيرا من الناس , وغالبيتهم من الشباب .. يدل مظهرهم على أنهم من طلاب الجامعات والمدارس الثانوية , ودلفت مع صاحبى إلى داخل السرادق , وأذكر أننى كنت أرتدى فى تلك الليلة بدلة ساركسكين سمنى وقميص أبيض ,وسرت أتهادى فى مشيتى مختالا كالطاووس , وفى داخلى شعور بأننى أعلى من هؤلاء جميعا قدرا ومنزلة , وكيف لا وانا من حزب الصفوة .. حزب الباشوات والبكوات أصحاب المعالى والسعادة والعزة , وكأنى مندوب الوفد تنازل وجاء متواضعا يزور الجماعة الغلابة ويجبر خاطرهم .

ولعب الأخ إبراهيم دورا غاية فى الذكاء .. دور المسلم الذى يتمنى الخير للناس جميعا .. كيف وقد ذاق حلاوة الإيمان فى ظل الجماعة أن يبخل على رفيق عمره بهذه المنحة ؟ .. إنه يعلم مدى إتقانى لتلاوة القرآن الكريم وانتهزها فرصة ليصعد بى إلى المنصة , فأسر إلى الأخ المشرف على تنظيم الحفل بشىء , وبعدها انبعث صوت الميكرفون : القرآن الكريم من الخ أحمد أبو شادي .. أخ .. وكانت المفاجأة , إيه الورطة دى يا عم إبراهيم ؟ .. فكلمة أخ كانت إذ ذاك ثقيلة على نفسى وسبحان الله بعد أن من الله على بهذه الدعوة صارت هذه الكلمة وساما أفخر به ولا أود أن لى بها ألقاب سلاطين الدنيا .. ولم أر مفرا من الإذعان , وقمت متثاقلا واعتليت المنصة وشرعت فى تلاوة صدر سورة الأنفال وفيها ذكر بدر حتى أتيت قول الله تعالى : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون , يجادلونك بالحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " الأنفال : 5-6 .. وأحسست أننى من الفريق الكاره الذين " كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون "

وفجأة أدهشنى أن رأيت جموعا تهرول نحو المنصة بشكل مذهل , فظننت أنهم اندفعوا تحت عدوان رجال الأمن الذين كانوا يحيطون بالسرادق , ولكن سرعان ما استبانت لى الحقيقة حين دلف الأستاذ البنا إلى السرادق لحق بركبه جماعة من خارج السرادق رغبوا فى القرب من المنصة وقال الأخ مقدم الحفل مشيرا إلى : صدق الله العظيم , ثم راح يرحب بالمرشد العام بعبارات بليغة تنبىء عن فرح بالغ بالوافد الكبير , وكأنما سرى تيار كهربائى فى عروق الحاضرين , فأشرقت وجوههم بشرا , وتألقت فرحا وسرورا , وتعالت أصواتهم بهتاف الإخوان المعروف " الله أكبر ولله الحمد "

واعتلى الأستاذ المنصة ومد يده إلى مصافحا , فلم أشعر إلا وأنا أقبل يده , وكانت فرصى سانحة إذ صرت قاب قوسين أو أدنى من المنصة , وراح الرجل بصوته الهادىء ينساب انسياب الماء الصافى فى الجدول الرقرار , وتحدث عن غزوة بدر وما فيها من دروس وعبر .. ولا أكتم القارىء العزيز أنه أخذ بمجامع قلبى ولم أستطع فكاكا من تحت سلطانه الآسر وأسلوبه العذب المريح , وكان مما قال : إذا كانت بريطانيا تفخر بأنها سيدة البحار وأنها الامبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس , وإذا كانت أمريكا تزهو بأن لديها القنبلة الذرية , وتفخر روسيا الشيوعية بجيشها الأحمر , فإن لدينا نحن المسلمين بحمد الله ما هو أقوى من هذه القوى جميعا وأضعاف أضعافها .. إن لدينا سلاح الإيمان الذى لا يفل .. وتلا قوله تعالى : " إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان " الأنفال : 12 وقوله تعالى " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " الأنفال : 17 .

وأعقب المحاضرة وابل من الأسئلة فى مختلف الشئون سياسية واجتماعية ودينية , فكان الرجل يجيب عنها مرتجلا دون تلعثم , وكأنما يقرأ من كتاب .. فهو كما وصفه الأستاذ الهضيبي " " عقل واسع ملم بالشئون جليلها ودقيقها .. صغيرها وكبيرها "

ولم يترك الأخ إبراهيم الليلة تمر دون أن يقدم إلى باقة من شباب الدعوة ومعظمهم طلبة جامعيون مما قلب فكرى عن الجماعة رأسا على عقب .

وشعرت فى تلك الليلة بمتعة روحية لم أظفر بمثلها فى حياتى .. متعة تتضاءل بجانبها عشرات الخطب للنحاس باشا وما وعته ذاكرتى من أدبيان طه حسين والمازنى والعقاد .

ورحت بعد ذلك أتتبع خطو حسن البنا لأذهب إليه مستمعا فى لهفة وشغف , حتى جاءت أحداث عام 1948 وأصدر النقراشى باشا رئيس الوزراء قرارا بحل الجماعة واعتقال الإخوان واتهامهم بالإرهاب , وحملت الصحف حملة محمومة كتلك التى نشاهدها فى هذه الأيام من رموز العلمانيين ومن يلف لفهم , فنكصت على عقبى , وانطلى الزور على حتى التحقت بكلية الحقوق عام 1950 , والتقيت بشباب الإخوان هناك , فعرفت الحقيقة ناصعة من خلال مناقشاتهم , ومن بين سطور كتاب " الإسلام وأوضاعنا القانونية " للقاضى الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة الذى عبر عن فكر الجماعة بأجلى بيان , فالتحقت بالركب المبارك على بينة لا أبغى به بدلا .. ولله الحمد والمنة .

رجال تأثرت بهم

أمضيت المرحلة الثانوية بعد أن تخطيت العقبة الكؤوود , وأخذت طريقى إلى كلية الحقوق .. ولكن لماذا كلية الحقوق ؟ .. معلوم أن سوق الحقوقيين فى تلك الحقبة كانت هى الرائجة , تؤلف الوزارة فإذا جل أعضائها حتى وزير الصحة ووزير الدفاع من القانونيين , ويندر أن يكون الوزير من غيرهم , ومن ثم كان لهذه الكلية بريق يبشر بمستقبل زاهر , والحقيقة أن دراسة القانون ممتعة تعطيك زادا وافرا من الثقافة تتميز به عمن سواك من طلاب الكليات الأخرى .

وفى الكلية كان التنافس بين شباب الأحزاب على أشده , كل حزب يسعى للسيطرة على الإتحاد من خلال الانتخابات وفى مسجد الكلية يلتقى ذوو الميول الدينية للصلاة , كما يلتقى فى الكافيتريا ذوو الميول والاتجاهات الأخرى , وكل فريق يحاول التعرف على الوافدين الجدد لعله يكسبهم إلى صفه ..

وفى أحد اللقاءات ألقى إلى أحدهم بكتاب متوسط الحجم عنوانه " الإسلام وأوضاعنا القانونية " للقاضى الشهيد عبد القادر عودة .. قرأته فإذا الرجل قد أودع فيه عصارة نفسه , وحشاشة قلبه .. أخذ الكتاب بمجامع قلبى , وتعلمت منه ما قصرت عنه كتب القانون على وفرتها وغزارة مادتها .

لقد وجدتنى أمام نمط من الفكر الآسر , وأدركت الفرق بين ما كتبه د. طه حسين والعقاد والمازنى , وكنت مغرما بأدبياتهم حتى حفظت فقرات كاملة مما كتبه عميد الأدب متأثرا بالمنهج الغربى , وهو لون يغاير منهج عبد القادر عودة المستمد من هدى الإسلام .. وأضع بين يدى القارىء نموذجا لكل من الرجلين .

يقول العميد : أيتها الحسناء المصونة , والعذراء المكنونة .. لا يغرنك خدك الأثيل وخصرك النحيل .. لا يغرنك وجهك الذى تبارين به ضوء النهار , وشعرك الذى تباهين به فحمة الليل .. فإن زهرك إلى ذبول ونجمك إلى أفول , واعلمى أن الحمام سيصوب إليك سهما لا يطيش , ونصلا لا يخطىء .

ويقول فى موطن آخر : واأسفاه لنار الشبيبة حين تخبو , فلن أجد عنها عزاء ولا سلوى مهما ترتفع بى المنزلة , ولو نص لى بين النجوم خباء , ذلك أن الشبيبة وحدها هى التى تتيح لى اقتضاء لذاتى واكتساب حاجاتى فإذا انقضت فلا أمل فى لذة , ولا مطمع فى قضاء حاجة .. أليس لكل عمل قدر قدر به , ووقت أتيح فيه ؟ .. فليس بعد الخامسة عشرة طفولة ولا صبا , ولا بعد الأربعين مرح ولا مجون ..

أقصى ما يستفاد من الفقرة الأولى , أنها تحذر الفتاة من الافتتان بجمالها , فإن مصيرها إلى الفناء .. أما الفقرة الثانية , فهى دعوة صريحة إلى اغتنام مرحلة الشباب فى اقتناص اللذات فى مرح ومجون .. وأليس د. طه حسين هو القائل فى كتابه " مستقبل الثقافة " : لا سبيل إلى الترقى إلا إذا أخذنا بالحضارة الغربية حلوها ومرها , ما يحمد منها وما يعاب , وما يذم منها وما يمدح .. وهو صاحب كتاب " الشعر الجاهلى " الملىء بالطعن على الإسلام وعلى كتاب الله العزيز , والاستهزاء بسيرة أعظم المرسلين , وتشويه تاريخ الصحابة .. الخ .

فماذا عما كتبه عبد القادر القاضى الشهيد ؟ .. لا أضن على القارىء بطرف يسير مما قرأته وحفظته .. يقول فى مستهل كتابه " الإسلام وأوضاعنا القانونية" بعد المقدمة : " وعلى بعد ذلك واجب أرجو أن أوفق فيه , واجب الاعتذار إلى القانون .. ومن أولى منى بالاعتذار للقانون , ووظيفتى أن أقوم بتفسيره وتطبيقه والتمكن له وحياطته من العدوان والامتهان ؟

إنى اعتذر للقانون لأهاجم القوانين , اعتذر للقانون باعتباره معنى , وأهاجم من القانون النص والمبنى .

معذرة إلى القانون إذا ما هاجمته وأنا من سدنته , أو كشفت للناس ما يخفى عليهم من حقيقته , او فسرته تفسيرا يذهب بجلاله , ويهون على الناس من شأنه , ويغريهم بمناوأته " .

" إن الدستور الأساسى للمسلم هو الشريعة الإسلامية , فكل قانون وضعى جاء متفقا مع نصوصها مسايرا لمبادئها العامة أو روحها التشريعية فهو على العين والرأس يطيعه المسلم بأمر الله , وكل قانون جاء على خلاف ذلك فهو فى الرغام وتحت الأقدام , ولا كرامة لما يخالف الإسلام , ولا طاعة لمخلوق فى معصية الله "

" إن مصر الإسلامية وعلى رأسها ملك مسلم ولها حكومة إسلامية , حرصت على أن تعلن أن دين الدولة الرسمى الإسلام , ونصت على ذلك فى دستورها , ووكلت إلى الدولة أن تشرف على كل شئون الإسلام فسيطرت الدولة على التعليم والتثقيف الإسلامى , وعلى دور العبادة والأوقاف الإسلامية , وجعلت الدولة نفسها مهيمنة على تطبيق المبادىء الإسلامية فى الإجتماع والإقتصاد والآداب والأخلاق وشئون الحكم والسياسة وغيرها وليس فى اختصاص الحكومة الإسلامية والدولة الإسلامية بهذا كله ما يخالف أحكام الإسلام .

ولكن حكومة مصر الإسلامية لم يمنعها إسلامها الذى تطنطن به وتعلنه فى الوثائق الرسمية من أن تعطل شرائع الإسلام " .

" إن أناسا ستحمر أنوفهم عند يقرأون هذا الكلام غضبا وحمية لأصنام العصر الحاضر , وما الأصنام إلا هذه القوانين التى هم عليها عاكفون , هذه القوانين التى يطيعها المسلمون فيما يغضب الله , وتحرم بها الحكومات الإسلامية ما أحل الله وتحل ما حرم الله .

إنهم سيغضبون لأن كاهنا من كهنة هذه الأصنام قد عقها وكفر بها .. وسيعجبون كيف أن قاضيا من خدام القانون يهاجم القانون ويكفر بالقانون . وسيتنادون من كل مكان خذوا على يد هذا الرجل قبل أن يحطم أصنامكم ويهدم نظامكم , ولكنه نداء الإيمان , إنه الكفاح فى سبيل الإسلام , إنه جهاد .. جهاد نتقرب به إلى الله "

ثم يسوق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " ( رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه ) .

لم أجد خيارا إلا الإنحياز إلى هذا الفكر المؤمن الذى بثه حسن البنا فى قلوب تلاميذه , ورحت أتابع فى نهم مؤلفات الشهيد عبد القادر من مثل : ( الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه , الإسلام والمال , الإسلام والحكم .. ثم مؤلفه الفذ " التشريع الجنائى الإسلامي مقارنا بالقوانين الوضعية " ويقع فى مجلدين كبيرين )

ولم يكن عجبا أن يحظى الرجل بالشهادة كما تمنى , حين صدع بقولة الحق فى وجه الطغاة عالية مدوية فى مظاهرة عابدين يوم 28 فبراير 1954 , والتى جرته إلى حبل المشنقة فى نفس السنة بعد تمثيلية المنشية المشهورة , فهنيئا له منزلته فى الجنة بين حمزة وجعفر .

كان حسن البنا قد ألقى إلى بالخيط فى أول لقاء سمعته فيه , فجاءت الأحداث التى انتهت بقيله فقطعت هذا الخيط , حتى كان عبد القادر عودة فوصل بكتاباته ما انقطع .

وممن تأثرت بهم فى طريقى إلى الدعوة , شاعر شاب موهوب من شبرا ( رشيد أبو مرة ) له ديوان قرظه الإمام الشهيد فى الأربعينيات , قدم الشاعر ديوانه بهذه الأبيات يصف شارة الإخوان :

علم الاخاء سطعت فى الأرجاء
تمحو بنورك حلكة الظلماء
فحملت من صور الجهاد إشارة
تبقى مسلطة على العداء
سيفان بينهما الكتاب كأنه
رمز يطمئن مرقد الشهداء

وفى ذكرى غزوة بدر يقول :

خبر غزاة الغرب مهما غرهم
عدد الجنود فزاحموا الميدانا
أو حلقوا بالطائرات فدمروا
بقنابل ذرية بلدانا
أو حاولوا بمناورات خدعنا
أو أطلقوا طربيدهم نيرانا
أو ايدوا جشع اليهود فأنشأوا
وطنا أو حرضوا ترومانا
خبر غزاة الغرب مهما أسرفوا
لا دين عندهموا ولا إيمانا
إن الألى كانوا ببدر قلة
لكنهم قد زلزلوا الأكوانا
فبهم أعز الله دين نبيه
وبهم أباد الشرك والطغيانا
كانوا إذا نودوا كأقوم حزمة
جمعت ولم يتفرقوا وحدانا
كانوا يلقون المنية مثلما
يرد الندى ليقل الأغصانا
صف لى بربك جند ربك هل بدا
جبريل فى صف الجنود عيانا
وانضم للعدد القليل فشتتوا
شمل الكثير وجندلوا الفرسانا
عجبا يخاطب أحمد أعداءه ال
قتلى فيسع منهم الآذانا
أهل القليب كما عصيتم ربكم
ذوقوا العذاب من الحميم الآنا
مت يا أبا جهل كعتبة ظالما
فلسوف تحشر كافرا شيطانا
حاربتم الله القوى وجنده
هل كان كفركمو لكم معوانا
ضلت عقولكمو فساء مصيركم
وحرمتمو نور الهدى حرمانا
الله يخلق ما يشاء ويجتبى
سبحان ربك علم الانسانا
هذا فلسطين الشهيدة تشتكى
خطرا يهدد أختها لبنانا
والإندنيسيون تحرق أرضهم
نار أصاب لهيبها إيرانا
قوم أرادوا بالعروبة سوءة
حتى أضاعوا مصر والسودانا
يا قومنا لمن نجن من علمائنا
إلا العظات تخللت رمضانا
يا قومنا لم نجن من وجهائنا
إلا ثراءهمو .. فما أشقانا
يا قومنا لم نجن من زعمائنا
إلا التنابز بينهم شنآنا
لقيت مطالب مصر منهم مثلما
لقى الشجى من الخلى وعانى
لا كانت الأوطان ما لم نتلمس
دينا يحصن هذه الأوطانا
فالحكم بالقرآن أعدل مطلب
وحماية الدين الحنيف حمانا

ومن روائع ما نظمه هذا الشاعر الفذ , قصيدة يؤيد فيها الحجاب ويحمل على إباحة السفور :

يا هند غضى الطرف عن سبح الهوى
وحذار أن تستقبليه .. حذار
لا تكشفى عن لحظ فاتنة ولا
تتعمدى كشف الحجاب ودارى
ردى إلى ضاحى المحيا سترة
كالليل فوق نمير نهر جارى
إن السفور إذا استبيح ضلالة
كبرى , وكل ضلالة فى النار
خبرت أن يقربكن شقاوة
وبوصلكن بواعث الأوزار
وسبرت غور جراح كل متيم
فى حبكن بعيدة الأغوار
إلا اللواتى عند حسن مظنتى
يغضضن عند ترامق الأبصار
المسلمات الفاتنات التائبا
ت العاملات على اجتناب العار
طوبى لهن .. لهن ربح تجارة
وتجارة التقوى لغير بوار

رجل والرجال قليل

الأخ الكريم الأستاذ محمد كمال إبراهيم المحامى – رحمه الله – رفيق الدرب وزميل الدراسة , لقيته بكلية الحقوق – جامعة إبراهيم باشا ( عين شمس الآن ) ووثقت الدعوة بيننا , وجمعتنا سجون مصر عام 1954 , 1965 , فازدادت الرابطة قوة ورسوخا , وعقب الإفراج عنا عام 1971 رحل إلى الكويت للعمل , ولم يلبث أن بعث إلى بزيارة عمل , وشاء الله أن نقضى هناك أكثر من خمس عشرة سنة , كان خلالها مثال المؤمن السخى الذى لا يبخل على من حوله , القريب منهم والبعيد , فكان أنفع الناس , لا يرد صاحب حاجة , يكسب المعدوم ويقرى الضيف وتلك أبرز خصاله , ويعين على نوائب الدهر , فيغيث الملهوف ويكسو العارى ويطعم الجائع ويحنو على الأرملة واليتميم , ويسعى جاهدا لتشغيل من يقصده من الوافدين , بما له من حظوة لدى كبار الكويتيين الذين أحبوه وأكبروه .

يحدثنى فيقول : والله يا أخ أحمد لو لقينى فى عرض الطريق صاحب حاجة أيا كانت جنسيته أو مذهبه لما ترددت فى السعى له فإن قضى الله حاجته كنت أسعد الناس وإلا فحسبى أننى سعين وأرحت ضميرى .

كان محبوبا من الجميع ,فهو أخ للكبير , وأب للصغير , وكان بيته قبلة لكل قاصد , لا يكاد يخلو من الدعاة والمدعوين , ولا يكاد يفرغ من طعام إلا إلى شراب , ومن هذا إلى ذاك .. ومع ذلك كله فهو حركة دائبة لا تنى , وشعلة من نشاط لا تخبو , وإن شئت قلت : كان لله ولدعوته بكليته , وكان كما قلت : أنفع الناس للناس , فبكى لموته خلق كثيرون من الأرامل واليتامى وذوو الحاجات والمعوزون وغيرهم من عارفى فضله ومحبيه , وصدق فيه قول الشاعر :

كريم كريم الأمهات مهذب
تدفق كفاه الندى وشمائله
جواد بسيط الكف حتى او أنه
ثناها لقبض لم تجبه أنامله
ولو لم يكن فى كفه غير روحه
لجاد بها , فليتق الله سائله
هو البحر من أى النواحى أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله

رحمه الله رحم واسعة , وأجزل له الأجر والمثوبة , لقاء ما قدم وبذل وخلفه فى عقبه بخير ما يخلف به عباده الصالحين .

الهضيبي مرشدا

19 أكتوبر 1951 :

كان لقب الهضيبي غريبا على مسامع الغالبية العظمى من الإخوان , ولم يكن له ذلك الربيق الذى يتمتع به كثير من رموز الإخوان من أمثال الشيخ محمد الغزالي والأستاذ صالح عشماوي والأستاذ عبد الحكيم عابدين وغيرهم , وكلهم دعاة مبرزون وخطباء مفوهون .

ولما برز اسمه على صفحات الجرائد كمرشح لمنصب المرشد العام نكره الكثيرون , فلم تكن تسمع به إلا القلة من الإخوان القريبين من الإمام الشهيد وفى ليلة من ليالى شهر أكتوبر 1951 أذيع أن حفلا سيقام بالمركز العام المؤقت ( 22 شارع صبرى بالظاهر) لتنصيب الأستاذ الهضيبي ومبايعته مرشدا عاما خلفا للإمام الشهيد .. هرعنا إلى مكان الحفل وكلنا شوق لسماع المرشد الجديد , وكان قد استقال من منصبه كمستشار بمحكمة النقض والإبرام .. وافتتح الحفل بآيات من القرآن الكريم , وقدم الأستاذ عبد الحكيم عابدين المرشد المرتقب بكلمة قصيرة , ثم نهض بعده الأستاذ الهضيبي , فحمد الله وأثنى عليه , وترحم على الإمام البنا , ثم لم يزد على أن قال : أيها الإخوان .. هذا أول لقاء بينى وبينكم , ويسعدنى أن أوصيكم بتقوى الله وطاعته , والإقبال على الله بقلوب خاشعة , ونفوس مخلصة وترتيل القرآن الكريم , وأن تستعدوا فى هذه الظروف التى تمربها بلادنا , واله معنا ينصرنا ويوفقنا .. تاركا للأخ الأستاذ سعيد رمضان ليلهب مشاعر الإخوان كعادته .

وفى تلك الظروف , كانت مقاومة الإحتلال على أشدها , بعد أن ألغى النحاس باشا معاهدة 1936 .. وخرجت الصحف تنعى على الأستاذ الهضيبي سلبيته فى الإعراض عن القضية الساخنة واكتفاءه بتوجيه الإخوان إلى تلاوة القرآن وإلى طاعة الله .

عدنا فى تلك الليلة وقد عصر الغم قلوبنا ننعى حظ الدعوة , وكنا إذ ذاك طلابا تعوزنا التجربة , وتستهوينا الخطب الحماسية , خاصة بعد أن خطب الأستاذ سعيد رمضان الداعية الموهوب , وكنا على عهد الإمام نطلق عليه المرشد الصغير . تكلم الأستاذ سعيد رمضان وأفاض فأشعل الحماس وأخذ بمجامع القلوب حتى قلنا ليلتها : إن الأخ سعيد رمضان كان أجدر بهذا المنصب من ذلك الرجل لذى لا يحسن الكلام , ونسينا فى ثورة وحماس الشباب أن الله يختار لدعوته وهو سبحانه " .. اعلم حيث يجعل رسالته " الأنعام : 124 .

وبقينا مدة طويلة غير مقتنعين بقيادة الرجل لهذه الجماعة التى هى أمل المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها , وفى صدورنا من الهم ما فيها , ولكننا على كره منا خضعنا للأمر الواقع , واعترفنا بقيادة الرجل على مضض , حفاظا على كيان الجماعة " اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة " .. وما كنا ندرى أن الله قد ادخره لأيام عصيبة تجعل الولدان شيبا , وما كان لأحد غير الأستاذ الهضيبي القدرة على مواجهتها , ورأينا بأعيننا الرموز التى كانت شامخة قد انكفأت على ذاتها , وبقى الرجل الكتوم الذى لا يحسن الكلام ليقف فى صلابة نادرة فى وجه أعتى حكم عسكرى تتضاءل بجانبه جحافل جيش الإحتلال الإنجليزى التى ارتكبت حادثة دنشواي فى مستهل هذا القرن , والتى استثمرها شهيد الوطن بحق الزعيم مصطفى كامل , فأقام الدنيا وأقعدها وأحرج بريطانيا محليا وعالميا , تلك الحادثة التى شنق الإنجليز فيها أربعة وسجنوا وجلدوا قرابة العشرين من المواطنين العزل الأبرياء .. فجاء انقلاب يوليو 1952 ليقهر الأمة كلها , ويدوسها تحت أقدامه , ويزج بالآف من خيرة رجال الأمة وشبابها فى السجون والمنافى حتى أمضى بعضهم قرابة عشرين سنة , وعلق على أعواد المشانق العشرات من مفكرى الأمة وروادها من أمثال الشهداء عبد القادر عودة وسيد قطب والشيخ محمد فرغلي وإخوانهم ممن دفنوا فى جبل المقطم .. ناهيك عن شهداء مذبحة طرة التى قتل فيها فى ساعات قلائل ثلاثة وعشرون من خلاصة شباب الدعوة العزل رميا بالرصاص .. ووقف عبد الناصر فى إحدى خطبه على الملأ يزهو بأنه قبض على ( 18000 ) من الإخوان المسلمين فى ليلة واحدة .

وقفة

أيام الإحتلال الانجليزى كانت الجماعة والهيئات والجامعات والمدارس تخرج متظاهرة تندد بالإحتلال وتلعن أيامه السود , فتتجاوب مشاعر الأمة كلها , وتسمع التشجيع على ألسنة الطوائف جميعها : الله يقويكم .. الله معكم .. فالجميع وطنيون .. والانجليز غاصبون .

أما فى ظل حكم الإنقلاب .. وإن شئت قلت " الإحتلال الوطنى " فإن القائمين على الأمر وطنيون مسلمون , والأمة كلها – إلا من شايعهم وسار فى ركابهم – خونة .. مارقون .. أعداء للأمة .. انتهازيون .. متطرفون ..

وسرت مقولات نادى بها الزعيم الأوحد :

  • الحرية .. كل الحرية للشعب .. ولا حرية لأعداء الشعب .
  • ارفع رأسك يا أخى , فقد مضى عهد الاستعباد .
  • وتلك هى المعادلة الصعبة التى تواجه الحركة الإسلامية , وهى بحمد الله جديرة باجتيازها والتغلب على ما يصادفها من عقبات , بما أوتيت من إيمان وقوة صبر وحسن إدراك وبصيرة .. وقبل ذلك كله وبعده , الإعتصام بحبل الله , ولزوم صراطه المستقيم .

مواقف تاريخية

ونمضى مع الأستاذ الهضيبي فى صلابته فى وجه الحكم العسكرى الغاشم , ومواقفه الفذة التى تسجل بحروف من نور ,وهى مذخورة له عند الله إن شاء الله ليثقل بها ميزانه " بوم لا ينفع مال ولا بنون , إلا من أتى الله بقلب سليم " الشعراء : 88 , 89 .

1- حين فكر عبد الناصر أول الأمر فى احتواء الجماعة ليضمن لنفسه حكم مصر بلا عوائق , إذ كان يدرك تماما أن الإخوان هم القوة التى تقف حجر عثرة فى طريقه , فعرض عليهم الإشتراك فى الحكم , فجاء القول الفصل على لسان المرشد : " نحن لا يهمنا ان ندخل الحكم بأشخاصنا .. ولكن بمبادئنا , فإذا حكمت مبادئنا فلا فرق عندنا يومئذ أن نكون فى الحكم بأشخاصنا أو لا نكون .. وإذا لم تحكم هذه المبادىء تابعنا عملنا فى سبيلها لنصل إلى الحكم على المدى الأطول , وعن طريق القناعة التامة بها , ونحن نعتقد أن طريقنا ليس بالطريق السهل اليسير .. " .

2- ثم حين أقدم على حل الجماعة فى يناير 1954 واعتقل المرشد مع إخوانه وألصق بالجماعة ورجالها أشنع التهم , أخسها اتصالهم بالإنجليز .. فاجأ الأستاذ الهضيبي الأمة بل الدنيا كلها بما لم يكن فى الحسبان , حي أرسل من محبسه خطابا إلى رجال الإنقلاب قلب أفكارنا رأسا على عقب , نثبته هنا لعل فيه درسا نافعا :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

السيد الرئيس اللواء أركان حرب : محمد نجيب

رئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس الوزراء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد .. فإن مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارا فى 12 يناير سنة 1954 بأن يجرى على جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية . ومع ما فى هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه , فقد صدر بيان نسب إلينا فيه أفحش الوقائع وأكثرها اجتراء على الحق , وقد حيل بيننا وبين مناقشته والرد عليه . واعتقلنا ولم نخبر بأمر الإعتقال ولا بأسبابه و قيل يومئذ إن التحقيق فى الوقائع التى ذكرت به سيجرى علنا , واستبشرنا بهذا القول , لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه لنبين أن ما اشتمل عليه كله على الصورة التى جاءت به لا حقيقة له , فيعرف كل إنسان قدرة ويقف عند حده , ولكن ذلك لم يحصل . وإلى أن تتاح لنا الفرصة , فإننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا إلى ما أمر الله تعالى به رسول الله عليه الصلاة والسلام حين قال " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " آل عمران : 61 .

وقد استمرت حركة الإعتقالات شهرين كاملين حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها بلغوا عدة آلاف , لكثير منهم مواقف فى الدفاع عن البلاد وعن حرياتها شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء , وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس , اما كيفية الإعتقالات ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا .

وقد بدت فى مصر بوادر حركة إن صحت فسوف تغير من شئونها وأنظمتها , وقرار حل الإخوان وإن أنزل اللافتات عن دورهم , فإنه لم يغير الحقيقة الواقعة , وهو أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم لأن الرابطة التى تربط بينهم عى الاعتصام بحبل الله المتين وهى أقوى من كل قوة .

وما زالت هذه الرابطة قائمة ولن تزال كذلك بإذن الله . ومصر ليست ملكا لفئة معينة , ولا حق لأحد أن يفرض وصايته عليها ولا أن يتصرف فى شئونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها .. لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يبت فى شئون البلاد فى غيبتهم.. وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر فى استقرار الأحوال ولا يقيد البلاد بشىء .

وأن دعوتهم إليه من الإتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال , فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجتمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة . نسأل الله تعالى أن يقى البلاد كل سوء , وأن يسلك بنا سبيل الصدق فى القول والعمل , وأن يهدينا إلى الحق وإلى صراط مستقيم .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين

كان لهذا الخطاب الذى أرسله الأستاذ الهضيبي إلى رحال الانقلاب من داخل السجن الحربى دوى هائل , تناقلته وكالات الأنباء المحلية والعالمية بالشرح والتحليل , واضطر جمال عبد الناصر إلى الإفراج عن الإخوان فى 25 مارس 1954 وحين تقرر الإفراج توجه الصاغ صلاح سالم لمقابلة المرشد فى السجن الحربى لإبلاغه بقرار الإفراج , فرد عليه الأستاذ الهضيبي قائلا : إنكم وجهتم إلى الجماعة تهما باطلة وإنا نرفض هذا الإفراج مالم يصدر بيان رسمى ينفى كل ما جاء فى قرار الحل , فرد صلاح سالم بالموافقة وأنه سيصدر قرار فى ظرف 24 ساعة .. رد الأستاذ الهضيبي ونحن باقون هنا حتى يصدر القرار, فأقسم الصاغ بشرفه العسكرى أن القرار سيصدر اليوم , وخرج الإخوان , ولم يصدر القرار , إلا أن جمال عبد الناصر توجه إلى منزل المرشد معتذرا على مرأى ومسمع من الحاضرين ونشر ذلك كله فى الصحف وأذاعته وكالات الأنباء .

درس : يذكرنا هذا الموقف بموقف نبى الله يوسف الصديق عليه السلام حين بعث الملك إليه بمن يأتيه به , فرفض نبى الله مغادرة السجن حتى تظهر براءته أمام الملأ .. وفى هذا المعنى يحدثنا القرآن الكريم " وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم " يوسف : 50 .

فاستجاب الملك لرغبة الصديق واستدعى على الفور هؤلاء النسوة وسألهن "قال ما خطبكم إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وأنه لمن الصادقين" يوسف : 51 .

3- وفى أعقاب الإفراج عن الإخوان فى مارس 1954 , واعتذار عبد الناصر للمرشد كما أسلفنا , عادت العلاقات إلى التوتر بصورة أشد وراح عبد الناصر يتحرش بالجماعة فى شخص مرشدها من خلال خطبه وتصريحاته , ويوعز لحملة المباخر من الصحفيين ممن باعوا أقلامهم للشيطان بتشديد الحملة .. جائته كلمات المرشد كالحمم :

" أريد أن أبصرك بأن هذه الأمة قد ضاعت بخنق حريتها , وكتم أنفاسها وإنها فى حاجة إلى بصيص من نور يجعلها تؤمن بأنكم تسلكون بها سبل الخير , وأن غيركم يسلكون بها سبل الشر والهدم والتدمير إلى آخر ما تنسبون إليهم .. إن الأمة فى حاجة الآن إلى القوت الضرورى .. القوت الذى يزيل عن نفسها الهم والغم والكرب .. إنها فى حاجة إلى حرية القول , فمهما قلتم أنكم أغدقتم عليها من خير , فإنها لن تصدق إلا إذا سمحتم لها بأن تقول أين الخير وسمحتم لها بأن تراه , ومهما قلتم إنكم تحكومنها حكما ديمقراطيا , فإنها لن تصدق لأنها محرومة من نعمة الكلام والتعبير عن الرأى ..

إن الأمة قد ضاقت بحرمانها من حريتها فأعيدوا إليها حقها فى الحياة . وخير لكم وللأمة ألا تخدعوا أنفسكم عن الحقائق , فإن الأمة قد بلغت من حسن الرأى ومن النضج مبلغا يسمح لها بأن لا يتصرف أحد فى شئونها دون الرجوع إليها والأخذ برأيها .. "

4- عقب تمثيلية المنشية واتجاه النية إلى محاكمة الإخوان وعلى رأسهم المرشد , عمدت إدارة السجن إلى إرهاق المعتقلين بفرض طوابيرعنيفة طوال اليوم عدا فترة قصيرة وقت الظهيرة , وخص الأستاذ الهضيبي فوق ذلك بمطاردة النوم من عينيه , فكان كلما هدأ من الليل أيقظته لسعات السياط على ظهور الإخوان وأقلقته صرخاتهم وقد تعمد القوم أن يكون ميدان التعذيب خلف نافذة الزنزانة التى يرقد فيها الأستاذ حتى يذهب والإخوان إلى المحكمة مرهقين مكدودين فلا يصمدون أمام صولة الباطل .

يقول الأستاذ الهضيبي لم أكن أنام خلال اليوم فضلا عن الطوابير المرهقة سوى ساعة أو بعض الساعة حين يذهب الجلادون ليستريحوا , وأحسست بقوة عجيبة أثناء المحاكمة .. وإليك ما نشرته الجرائد .

  • أثناء محاكمة المرشد , وقف ليواجه الإتهامات , فأشار إليه رئيس المحكمة قائد الجناح جمال سالم أن يجلس , فأبى الرجل إلا أن يظل واقفا قرابة 6 ساعات قاصدا بذلك – وكما قال – رفع الروح المعنوية للإخوان .. كرر رئيس المحكمة عرضه , فأصر المرشد على أنه يستريح واقفا رغم سن الستين .

فلم يجد رئيس المحكمة بدا من أعلان فترة استراحة ربما ليستريح هو وهيئة المحكمة , ولما استؤنفت الجلسة وجه جمال سالم إلى المرشد كلامه قائلا : لعلك استرحت .. كان الرد البديهى أن يقول المرشد : الحمد لله , كتر خيرك .. لكن الرجل القائد فاجأ الجميع بما لم يكن فى الحسبان .. قال وكاهله ينوء بمتاعب 60 عاما ختمت بأيام عصيبة تربو على مصاعب الستين :

" هيه .. الظاهر لما الواحد بيقعد بيحل عليه التعب "

  • انتدبت المحكمة الأستاذ حمادة المحامى للمرافعة عن المتهم الأول وكان الأمر يستدعى اعتبار الأستاذ الهضيبي كشاهد فى القضية وكان بين هذا المحامى والأستاذ الهضيبة شبه خصومة حين عرض على المرشد – أثناء نظر قضية كان الناحل وكيلا فيها عن أحد المتهمين أمام دائرة الأستاذ الهضيبي وفى فترة المداولة – أن يتوسط له لدى وزير العدل صديق الناحل لترقيته , فثار الأستاذ الهضيبي عليه وأخرجه من قاعة المداولة .

وكان رجال الإنقلاب يعرفون هذه الواقعة فعمدوا إلى أن يكون حمادة الناحل محاميا فى القضية ليشفى غليله من المرشد .. ولكن أنى للثعلب أن يزأر فى مواجهة الأسد ؟

أسرف حمادة الناحل فى توجيه الأسئلة للمرشد , علاوة على مناقشة المحكمة وأسئلة سلطة الإتهام , وكانت إجابات الأستاذ الهضيبي التى لا يملها لا أدرى .. لا أذكر , مما أثار حفيظة الناحل الذى صاح بأعلى صوته : دا كلام ؟ هو معقول إن رئيس أكبر هيئة إسلامية فى العالم يعتصم بالسلبية المطلقة ويقول : لا أدرى .. لا أذكر .. فيرد الأستاذ الهضيبي بهدوئه المعهود : يا ابنى أصل أنا اصبت بشلل نصفى فى الأربعينيات أضعف ذاكرتى .

5- أوفد رجال الانقلاب الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد القومى فى ذلك العهد , وكان صديقا للأستاذ الهضيبي ليساومه فى شأن الإفراج عنه وعن الإخوان إذا أصدر المرشد بيانا يعتذر فيه عن الأحداث لتهدأ الخواطر .. وكان رد الأستاذ الهضيبي بليغا ومسكتا حين أفضى إلى الأستاذ فؤاد جلال أنه لا مانع لديه من كتابة البيان ولكنه يرغب فى تمكينه من اللقاء بالإخوة : عبد القادر عودة , والشيخ محمد فرغلي , ويوسف طلعت , وإبراهيم الطيب وغيرهم ممن نفذ فيهم حكم الإعدام شنقا قبل ذلك بشهور .. فعاد فؤاد جلال يخبرهم بجواب الأستاذ الذى حمل السخرية من هذا العرض الفج .. وأى سخرية أعظم من طلب الأستاذ مقالبة إخوة يعلم أنهم أفضوا إلى ربهم شهداء على يد هؤلاء الطواغيت .. وهذا معناه : إذا خرج هؤلاء من قبورهم أكتب البيان المطلوب .. يا للرجل العملاق ..

والأستاذ الهضيبي وحده سجل حافل بالمواقف الصلبة , ويحتاج إلى من يجلى تاريخه ممن عايشوه عن قرب , وسبروا غوره كرجل قاد الدعوة فى ظل ظروف حرجة تواطأت عليها قوى الشر فى الداخل والخارج , وزاد من حرج تلك المرحلة خروج فئات من داخل الصف عليه ومناوأته , عذاها جمال عبد الناصر بالعداء للرجل حتى يمكن القول : إنه عانى من رجال داخل الصف أضعاف ما عانى من خارج الصف .

وليت الأستاذ الهضيبي ترك لنا مذكراته لعلها تلقى الضوء على كثير من المواقف ولكن أنى لهذا الرجل الذى يكره الظهور وينفر من حب الذات أن يفعل وهو الذى – إمعانا منه فى تقليل شأن نفسه – أوصى بأن يدفن فى مقابر الصدقة فى صمت دون ضجة أو إعلان , ولو شاء لكان له قبر سامق شامخ , وجرت أنهار الصحف فى رثائه ونعيه .

ونترك للداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – ليعبر عن رأيه فى الرجل الذى اختلف معه فى الرأى وكانت محنة .

يقول الشيخ محمد الغزالي فى كتابه " قذائف الحق " :

" من أيام مات الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين , وبلغنى وصيته , لقد أوصى أن يدفن خفية , لا إعلان , ولا مواكب وطلب أن يوارى جثمانه فى مقابر الصدقة .

وعقدت لسانى الدهشة وأنا اسمع العبارة الأخيرة .. فى مقابر الصدقة .

إننى أعرف حسن الهضيبي وقد أصلحت ما بينى وبينه قبل أن يموت بنحو عامين ..

فى نفس هذا الرجل ترفع وأنفة لا يتكلفها , وهو إذا اعتقد شيئا استمات فيه دون لف أو مكر ..

قلت : لماذا مقابر الصدقة ؟ ..

ولم يغب عنى الجواب .. لقد كان مستشارا راسخ المكانة رفيع الهامة .. لو اشتغل بمهاجمة الشريعة الإسلامية لنال جائزة الدولة التشجيعية التى نالها غيره .

ولو خدم الغزو الثقافى لعاش فى شيخوخته موفور الراحة مكفول الرزق .. ولكنه خدم الإسلام .. فتجرع الصاب والعلقم .. طعن مع الدين الجريح .. وأهين مع الدين المهان .. فأراد أن تصحبه هذه المكانة فى منقلبه إلى الله ..فليدفن فى مقابر الصدقة مع النكرات التى لا يباليها المجتمع .. فليدفن مع أناس أسلموا أرواحهم فى غرفات السجن الحربى وهو رازحون تحت وطأة عذاب تنوء به الجبال "

من توجيهاته إبان المحنة :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .

أيها الإخوان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد , فأسأل الله تبارك وتعالى أن تكونوا على خير ما يحب الله لعباده المؤمنين المجاهدين من الصبر والإحتساب , وأن ينزل السكينة فى قلوبكم لتزدادوا إيمانا مع إيمانكم , ولله جنود السوات والأرض وكان الله عليما حكيما

إن دعوة الإخوان المسلمين – وهى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لم تزد عليها ولم تنقص – كانت ولا تزال صراعا بين الحق والباطل , بين الإيمان والإلحاد , بين المعروف والمنكر , بين العقل والهوى , بين الخلق القويم والتحلل الذميم , بين الإنسانية الفاضلة والأنانية الخاسرة , من أجل ذلك كانت بحاجة إلى جهاد قوم مؤمنين يخلصون لله دينهم ويهبونه أرواحهم طيبة بذلك نفوسهم , لا تزيدهم المحن إلا ثباتا على حمقهم وإزدراء لباطل خصومهم , وكانوا فى عزائمهم اشد وأقوى , وإلى ربهم أقرب وأدنى , وبانتصارهم يؤمنون , وعلى ربهم يتوكلون " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين " يوسف : 110 .

وإنى مذكركم – فالذكرى تنفع المؤمنين – ببعض ما توحى به الظروف التى خلقها أعداء الدعوة حتى تكونوا على بينة من طريقكم الحق , , ولا تجروا مع خصوم دعوتكم فيما جروا فيه من الإثم والبغى بغير الحق افتراء على الله , أذكركم بالصدق فى القول والعمل وترك الجدل واللجاجة مع المخالفين . اصدقواالله واصدقوا الناس " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " التوبة : 119 .

إن خصوم الدعوة توهموا أنهم بأكاذيبهم يغلبون حقكم فاتهموا السرائرواختلقوا الوقائع وأخفوا الحقائق " يا لأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتون الحق وأنتم تعلمون " آل عمران : 71 , قيل : أيكون بخيلا ؟ .. قال : نعم , قيل : أيكون كذابا ؟ .. قال : لا " إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون " النحل : 105 .

فلا تهنوا ولا تحزنوا . فلن يبلغ الكذب من دعوتكم شيئا , إنكم على الحق بإذن الله , ولن يخلف الله وعده , " إنا لنصصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " غافر : 51 , وقد ذكرناهم بالحق فكرهوه وضاقت به صدورهم وظنوا أن الكذب ينجيهم , واله تعالى يقول " وقد خاب من افترى " طه : 61 .

وليس الكذب على الأشخاص وحدهم ,فقد حرص خصوم دعوتكم على أن سنسبوا أخطاء المسلمين فى بعض العصور إلى الدين نفسه , وظنوا أن ذلك يصرفكم عن دعوتكم إلى الإسلام دينا ودولة ...

فانتبهوا لما توحى به هذه الإتجاهات , وتفهموا ما وراء هذا مما يضمره المبطلون " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " ابراهيم : 27 .

أيها الإخوان ...

اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون

أخوكم حسن الهضيبي

المرشد العام للإخوان المسلمين

6- فى عام 1957 قررت لجنة من أطباء القيادة تجاه الجنود أخذه الحنين إلى إخوانه وأبنائه المسجونين , ولم تطاوعه نفسه أن يكون فى نظر الطغاة ذلك الواهن الذى ينتهز هذه الفرصة لينعم بحياة الترف متميزا على رفقاء الجهاد فلا يستأثروا بالأجر من دونه , فلم يكد يحس بالعافية حتى كتب إلى السلطات بأنه قد عوفى بحمد الله مما عرض له وأنه باستطاعته العودة لقضاء باقى المدة المحكوم عليه بها ..

يا للرجل القمة .. قمة فى الصبر .. قمة فى القيادة , وقد أحاطت بالدعوة الأعاصير .. قمة فى التجرد والتضحية والثبات .. قمة فى العزم والإباء وعلو الهمة .

إنه نموذج فريد لرجال الدعوة الأماجد , وثمرة طيبة من ثمار المدرسة التى أرست قواعدها يد الله , ورفع رايتها رسول الله صلى الله عليه وسلم , لتواجه الظلم فى كل عصر ومصر .

فليرحمه الله رحمة واسعة , وليجزل له الأجر والمثوبة .

عهد وبيعة :

وللأستاذ محمد رشاد عبد العزيز من إخوان الأسكندرية – رحمه الله – قصيدة من روائع شعره ألقاها بين يدى المرشد الهضيبي فى حفل مبايعة إدارى الأسكندرية نوردها :

وضعت يمينى فى يمينك مرشدى
على نصر هذا الدين دين محمد
وقدمت قلبى والمشاعر والمنى
وسرى وإعلانى وما ملكت يدى
ولست أبالى فى سبيل عقيدتى
عداوة باغ أو إساءة معتدى
فما أعذب الآلام بين محامد
وما أروع الإغماض تحت المهند
إذا افتتح الناس الحياة بمولد
فإن اختتامى بالشهادة مولدى
وإن آثر الناس القعود ضنانة
فإنى بأعبائى أروح واغتدى
وإن جنحوا للهو فنا بزعمهم
جعلت فنون الجد سعيى ومقصدى
وإن تبع القوم السراة جهالة
فإنى بآثار النبوة مقتدى
أقوم بأيام الرسول مذكرا
لعل فتى فى الحشد يصغى فيهتدى
لعل فتى ينضم عاملا
وكان قبيل اليوم غير مجند
عجبت لأقوام يحبون مولدا
ويبدون للذكرى عظيم التودد
ويهتف شاديهم بمدح منغم
بشتى ضروب اللحن عذب مجود
يظل يبث الحب للفجر قائما
فإن هو أعيته الصبابة يقعد
وتسأل ماذا قد جنوه فلا ترى
سوى عرض فان وعمر مبدد

الفصل الثانى

مع المصحف السجين

كان المصحف الشريف على رأس الممنوعات التى يحظر على المعتقل حيازتها فليس له أن يحوز مصحفا أو ورقة أو قلما أو إبرة أو موسى حلاقة .. الخ .

من أجل ضبط وريقة أو إبرة
وبغير شىء طالما استاقونى
وتجمعوا حوالى ضوارى همها
نهشى رمالى حيلة تنجينى

وتصادف أن أفلت أحد الإخوان بمصحف كان يحمله معه , فلم تمتد إليه يد المصادرة , ولم يكد يلمح الإخوان المصحف مع أخيهم , حتى طمعوا أن يحظى كل منهم بقليل من الوقت , يستظهر خلاله من القرآن ما كان أن ينمحى من ذاكرته .

وثار نقاش وجدال , فتدخل أحدهم واقترح تجزئة المصحف إلى ملازم وتوزيعها على نزلاء العنبر لتكون الفائدة أعم , وقد كان ..

وأقبل الإخوان فى شغف يتسابقون فى الحفظ , وحفظوا من القرآن فى وقت الشدة وساعات العسرة ما عجز الكثيرون عن حفظه حين سمحت الفرصة وحزنا المصاحف .. والظاهر أن الأمر كما يقول المثل ( كل ممنوع مرغوب ) .

وذات ليلة بينما الجميع ساهرون , وأدوات التعذيب تفعل فعلها فى أجساد الإخوان الذين اكتظت بهم ساحة المعتقل , بين معلق على الأسوار كالذبيحة والسياط تنهشه من كل ناحية , وبين واقف ووجهه مسدد إلى الحائط وقد نزعت ملابسه إلا ما يستر عورته , وآخر قد أمر أن يقعد ويقوم فى حركات سريعة , وهو لا يحرم من رفسة بالرجل , أو صفعة بالكف , أو لسعة بالسوط , وأعين المعتقلين فى العنابر وآذانهم ترى وتسمع , وذلك من قبيل الحرب النفسية , والكل ينتظر دوره بين لحظة وأخرى , ليحل به جانب مما يستحيل أن تنكره عيناه أو تكذبه أذناه .. وقد كانوا يضيئون الأنوار الكاشفة أثناء ذلك ليحرمونا من النوم .. والويل كل الويل لمن سمع يتكلم ولو همسا .

إن نمت توقظنى السياط سريعة
فالنوم ليس يباح للمسجون
وإذا تحدثنا لنذهب بالكرى
حظروا الحديث على كالأفيون

وانخرط الجميع فى دعاء لا ينى , وضراعة ملحة إلى الله , أن يخفف عنهم وعن إخوانهم ما يجدون من آلام نفسية وجسدية , ويشفقون على أنفسهم أن يصيروا إلى هذا المصير النكد , وبدا لى أن أتناول ملزمة من المصحف كانت بجانبى , لأنشغل بقراءتها عما يدور حولنا , ولم أكد أشرع فى القراءة حتى انطلق صوت من خلال الباب الحديدى ( باب شبكة ) يقول : أنت يا أخينا ياللى معاك النوتة .. والتفت الجميع نحو الباب فى دهشة , فإذا بأحد ضباط المباحث يقول : أيوه أنت .. فذهبت إليه وفى يدة الملزمة , ولم يكد يكتشف أنها جزء من القرآن حتى غلا الدم فى عروقه , وقال بصوت محنق ومظاهر الغيظ بادية على وجهه كله : يا ولاد ال...راجعين تانى للمصحف ؟ .. هانعمل فيكم إيه أكثر من كده ؟ .. داحنا قطعنا ديولكم وراجعين تانى ؟ .. ثم سأل : اسمك غيه ؟ .. والتفت إلى مرافقيه من الجلادين قائلا : دا ينزل عندى الصبح .. أما راح أشرحك يا ابن ال...

وكانت ليلة من الليلى التى لا تنسى , أحاط الإخوان بى يواسوننى ويهدئون من روعى , وبت وقلوب الجميع معى فى ضراعة وتذلل إلى الله أن يصرف عنى الأذى والسوء , إنه على ما يشاء قدير . وذكرنا أحدنا بالحديث القدسى " من شغله القرآن وذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " .. وأقبلت على الذكر وقراءة القرآن طمعا فى عفو الله ورحمته .

وجاء الصباح ومر يوم وأيام بعده .. ثم بدا ان الله عزوجل قد استجاب الدعاء وصرف عنى الأذى فلم يستدعنى أحد ...

كنا ندرك منذ وقع الخلاف بين الجماعة وزمرة الإنقلاب , أن القائمين بالأمر يعملون على إزاحة الإخوان من طريقهم حتى يخلو لهم الجو فى حكم مصر بالحديد والنار .. وما دام الإخوان يعتصون بالقرآن , ويزدادون به قوة فلابد أن يحولوا بينهم وبينه بمصادرته وإيداعه حجرة التخزين وحظر تداوله وقراءته .

وإذا شغلنا بالقراءة وقتنا
أخذوا جميع الكتب للتخزين
وإذا تلونا فى المصاحف حرموا
حمل المصاحف وهى خير قرين

وقفة

كان بعض الإخوان يأخذون على قيادة الجماعة – وعلى الأخص الإمام حسن الهضيبي رحمه الله – تصلبها فى مواجهة جماعة الإنقلاب ويقولون : لو أن المرشد لان بعض الشىء لما صرنا إلى ما نحن فيه , فجاءت هذه الواقعة , وأمثالها كثير , صريحة .. صارخة .. تنطق بأن الأمر ليس كما ظنوا .. وإنما الهدف هو سحق الحركة الإسلامية ورجالها والعاملين لها , بما سماه بعض الإخوان ( معركة المصحف ) .

" وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين " الأعراف : 126 .

" وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوابالله العزيز الحميد " البروج : 8 . " ألا إن رحى الإسلام دائرة , فدوروا مع الكتاب حيث دار .. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان , فلا تفارقوا الكتاب .. ألآ إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم .. إن أطعتموهم أضلوكم .. وإن عصيتموهم قاتلوكم .. قالوا : وماذا نفعل يومئذ يا رسول الله ؟ .. قال صلى الله عليه وسلم " كونوا كأصحاب عيسى بن مريم , نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب ما صرفهم ذلك عن دينهم .. والذى نفسى بيده لموت فى طاعة خير من حياة فى معصية " .

يا عصبة الباستيل دونكمو فلن
آسى عل الاغلاق والتأمين
سدوا على الباب كى أخلو إلى
كتبى فلى الكتب خير خدين
وخذوا الكتاب فإن أنسى مصحفى
أتلوه بالترتيل والتلحين
وخذوا المصاحف إن بين جوانحى
قلبا بنور يقينه يهدينى
الله أسعدنى بظل عقيدتى
أفيستطيع الخلق أن يشقونى ؟


وفيما يلى طائفة من الدروس الغالية من كتاب الله تجلت إبان المحنة , تدل على خلود هذا الكتاب العزيز , وصلاحيته كمنهج حياة حتى آخر الزمان .

" أرأيت الذى ينهى , عبدا إذا صلى " العلق : 9 , 10 .

نما على علم حمزة البسيوني عن طريق أعوانه أن المعتقلين يستيقظون لصلاة التهجد فى الهزيع الأخير من الليل , وأنهم يدعون على ظالميهم .

وكنا نسمى صلاة التهجد سهاد السحر .. ولكى يتحقق من الواقعة عمد إلى خطة مفادها أن يمر ومعه مجموعة من الأعوان فى جوف الليل , وقد غارت النجوم , وهدأت العيون , ونام الناس ملء جفونهم .. اللهم إلا مريض يتألم , ومظلوم يتظلم .. يشكو ظالمه إلى خالقه . يمر حمزة وزبانيته بالزنازين , وكل منهم ينتعل حذاء من الكاوتش حتى لا يسمع وقع أقدامهم , ثم ينظرون من خلال ثقب صغير فى باب الزنزانة , يرصدون ما تقع عليه أعينهم , حتى إذا تأكدوا من حقيقة الواقع , انطلقت صفارة عالية مقرونة بصوت أمين : ( كل المعتقل انتباه .. عساكر افتح الزنازين .. كل المعتقلين برة الزنازين ) .. فيخرج الجميع ووجوههم تطل على الساحة الكبيرة , ثم ينادى على أفراد الزنازين الذين ضبطوامتلبسين بجريمة قيام الليل , ليهبطوا درجات السلم بخطى سريعة , تلفحهم سياط الجلادين .. وفى الفناء الفسيح تنتظرهم فرق الجلادين بالسياط والعصى الغليظة , تشبعهم ضربا وتنكيلا لارتكابهم هذه الجريمة البشعة تحت جنح الظلام , وفى غفلة من القيادة الساهرة على سلامة مصر وأمنها , فلا يعبث به العابثون , والجميع فى ذهول ورعب مما يحدث , ولا يدرون له سببا .. لقد لاقى المتهجدون العابدون من صنوف العذاب ما يشيب له الوليد , وشهدت ساحة السجن معركة غير متكافئة بين زبانية مسلحين وأسرى عزل إلا من سلاح الإيمان وبرد اليقين .

وفى الصباح , حيث يلتقى الجميع فى دورة المياه , عرفنا السبب وراء هذا العدوان الغاشم على الركع السجود .. ورحنا نضرب كفا بكف .. كيف يقع ذلك فى مصر المسلمة ؟ ... بلد الألف مئذنة .. وموطن الجامع الأزهر الشريف .. ومقر إذاعة القرآن الكريم , التى أمر الرئيس أن تخصص لذلك , تغطية للدور المشبوه فى تصفية الحركة الإسلامية .. وهذا أسلوب يلجأ إليه الطغاة المستبدون , ليخدعوا العوام الجهال من الناس بأنهم على الجادة , وأنهم أرسخ إيمانا من هؤلاء الذين يتسترون وراء الدين لتحقيق مآرب ذاتية .. ومن قبل وخلال محنة الإخوان عام 1948 واغتيال الإمام الشهيد , بينما الطغاة يفتكون بالدعاة , ويرتكبون من الجرائم ما يرتكبون , يصدر إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء والحاكم العسكرى فى ذلك الوقت قانونا بإلغاء البغاء الرسمى الذى كان وصمة عار فى جبين مصر المسلمة , وينبرى عالم أزهرى يثنى على هذه الخطوة الجريئة ويباركها فى قصيدة عصماء جاء فيها :

عار البغاء محاه إبراهيم
عار يعز على الرجال عظيم

هذا هو أسلوب الطغاة فى كل حين .. يبطشون بالمؤمنين ويستبيحون دماءهم وأعراضهم , ثم يغطون أعماله القبيحة بتشييد الحصون وإنشاء المصانع وغيرها من المظاهر الكاذبة , فينخدع بها البسطاء والدهماء ..

والقرآن الكريم يكشف هذا الأسلوب فى بيان معجز أخاذ , وهو يعرض أمر قبيلة عاد قوم هود " فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة " فصلت : 15 . والتى أخبر القرآن عنها فى موطن آخر بأنها " التى لم يخلق مثلها فى البلاد " الفجر : 8 .

" كذبت عاد المرسلين , إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون , إنى لكم رسول أمين , فاتقوا الله وأطيعون , وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين , أتبنون بكل ريع آية تعبثون , وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون , وغذا بطشتم بطشتم جبارين " الشعراء : 123 – 130 .

وكان فرعون الأول يقول لقومه – محاولة منه لتشويه صورة رسول الله موسى عليه السلام " إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الأرض الفساد " غافر : 26 .

ذكرنا أحد الإخوان بآيات ذكرت فى سورة العلق وهى أول سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم فى غار حراء :

" أرأيت الذى ينهى , عبدا إذا صلى , أرأيت إن كان على الهدى , أو أمر بالتقوى , أرأيت إن كذب وتولى , ألم يعلم بأن الله يرى , كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية , ناصية كاذبة خاطئة , فليدع ناديه , سندع الزبانية , كلا لا تطعه واسجد واقترب " العلق : 9- 19 .

يذكر ابن كثير فى سبب نزول هذه الآيات أكثر من رواية , نختار منها ما روى عن ابن عباس قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال : يا محمد . ألم أنهك عن هذا ؟ .. وتوعده ..فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم القول وانتهره . فقال : يا محمد , بأى شىء تهددنى ؟ .. أما والله إنى لأكثر أهل الوادى ناديا .. فأنزل الله تعالى : " فليدع ناديه , سندع الزبانية " .. وقال ابن عباس رضى الله عنهما : لو دعا ناديه , لأخذته ملائكة العذاب من ساعته ( اخرجه أحمد والترمذى وقال حسن صحيح )

رواية أخرى : روى ابن جرير عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ .. قالوا : نعم . فقال : واللات والعزى لئن رأيته يصلى لأطأن على رقبته , ولأعفرن وجهه فى التراب .. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ليطأ على رقبته .. قال : فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقى بيديه .. قال : فقيل له : مالك ؟.. فقال : إن بينى وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة .. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا .. قال : وأنزل الله " كلا إن الإنسان لطغى , أن رآه استغنى " إلى آخر السورة ( رواه أحمد والنسائى وابن جرير واللفظ له ) .

وسرعان ما تداول الإخوان هذه الآيات وراحوا يتدارسونها فى لذة وشغف وكأنها تنزلت لساعتها تسلية وعزاء لهم , وأحسوا بعناية الله ترعاهم وتسددهم وتهيب بهم أن اثبتوا على إيمانكم , فإن مصير الظالمين إلى بوار واندثار , ودفعت الجميع إلى المداومة على قيام الليل .

هذه الآيات التى حفظناها عن ظهر قلب ,. وتلوناها عشرات المرات , وكنا نمر بها فتبدو فى الأذهان صورة أبو جهل ( عمرو بن هشام ) وهو يهدد النبى صلى الله عليه وسلم وينهاه عن الصلاة, فينزل الله الآيات ما يسلى رسوله ويشد أزره .. كنا نتخيلها وكأنها حدث تاريخى مضى ولن يتكرر وما كان يدور بخلدنا أن صورة أبى جهل تتكرر فى كل عصر وحين , فى أشخاص الطغاة المستبدين الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجا .

لقد ذقنا حلاوة القرآن من خلال هذه الآيات وغيرها على امتداد كتاب الله العزيز , وأدركنا من المعانى والمواقف والدروس والعظات ما تقصر كتب التفسير عن أن تمدنا به .. أليس يقول النبى صلى الله عليه وسلم عن القرآن فى الحديث الصحيح " لا يبلى جديده ولا يخلق على كثرة الرد " ؟ ..

لقد أضحى القرآن الذى تلوناه بين جدران السجون وترنمنا به خلال المحنة وعايشناه فى أحلك الأوقات وأحرج الساعات .. أصبح هذا القرآن الكريم غضا طريا على ألسنتنا , وبردا وسلاما على قلوبنا .. وزادنا الله به ثباتا ويقينا .. وسوف يجد القارىء الكريم فى ثنايا هذا الكتاب من المواقف والمعنى القرآنية ما يملأ قلبه ويهز مشاعره .. هذا القرآن الذى هجره المنتسبون إلى الإسلام , وهجروا العمل به كمنهج حياة , فصرنا إلى ما صرنا عليه من ذل وهوان , ووقعنا ضحايا رخيصة تحت سنابك خيل أعدائنا , وطمع فينا الطامعون , تحكم فينا الطغاة المستبدون .. ولن يرفع اله عنا هذا الهوان حتى نتوب إلى الله ونعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة السلف الصالح لهذه الأمة , نحكمه فى كل شئون حياتنا , منهجا وهاديا يهدينا للتى هى أقوم . نعود إلى أبى جهل مصر ( حمزة البسيوني) لنتملى آيات الله فيه وفى أمثاله من الفراعين الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات , ونرجو الله لمن بقى منهم على قيد الحياة أن يتوب الله عليهم ليتوبوا .. إنه هو التواب الرحيم .

" إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فله عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " البروج : 10 .

أما من عداهم ممن لقى الله , فلا نقول فيهم إلا ما علمنا رسول صلى الله عليه وسلم " أفضوا إلى ما قدموا "

ثمك أطلت أحداث الخامس من يونيه 1967 فكانت كأنها شواظ من نار يشوى وجوه الطغاة والمتجبرين , وسياط عذاب تلفح ظهور القوم الظالمين ومن صفقوا لهم أو رضوا بظلمهم وقرت به أعينهم , أو سكتوا وكان فى وسعهم أن يتكلموا .. فكانت هزيمة مريرة تجرعت الأمة كلها مرارتها لسكوتها عن الظلم , ورضاها بالهوان .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل " إن الأمة التى تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم .. بطن الأرض خير لهم من ظهرها – وفى رواية قد تودع منها "

وفى الحديث القدسى : " يا عبادى .. إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته محرما بينكم . . فلا تظالموا "رواه مسلم .

وفى حديث آخر يقول الله سبحانه " من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب " رواه البخارى .

وسنة الله التى لا تتخلف , أن يقتص من الظالم للمظلوم .. فالناس عيال الله , وهو ربهم وخالقهم , ومن آذاهم فقد آذى الله , ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا , والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " الأحزاب : 57- 58 .

والقرآن الكريم فوق ذلك حافل بمصائر الغابرين الذين استكبروا فى أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .. وإليك هذه الآيات المحكمات تصور مصائر قوم عاد وثمود وفرعون ذى الأوتاد :

" ألم تر كيف فعل ربك بعاد , إرم ذات العماد , التى لم يخلق مثلها فى البلاد , وثمود الذين جابوا الصخر بالواد , وفرعون ذى الأوتاد , الذين طغوا فى البلاد , فأكثروا فيها الفساد , فصب عليهم ربك سوط عذاب , إن ربك لبالمرصاد " الفجر : 6-14 .

وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القائل : " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " رواه البخارى .

واعتقل حمزة البسيوني فى أعقاب الهزيمة الساحقة فى يونيو 1967 التى لم يعرف التاريخ القديم ولا الحديث لها مثيلا , ونظرا لخدماته العظيمة فى إذلال المؤمنين أطلق سراحه , وقد غاب عنهم أن الله غالب على أمره , وأنه سبحانه يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .. نعم غاب عنهم أن يد الله تعمل , وتعمل بطريقتها الخاصة , وأنها تنصب للظالم الشراك وتنسج له الشباك , ليذهب الباغى صريع ظلمه وبغيه , وما دروا أنهم بهذا الذى ظنوه تكريما له , يدفعونه إلى مصيره المحتوم الذى خبأته له يد الله الغالبة , والمصير الذى سجلته سورة العلق فى أجلى وأحلى بيان فى الآيات التى مرت بنا :

" ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء " الحج – 18

" كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية , ناصية كاذبة خاطئة , فليدع ناديه , سندع الزبانية " العلق : 15 – 18 .

ونمضى مع آيات الكتاب الكريم التى تشفى صدور قوم مؤمنين وتذهب غيظ قلوبهم .. فنرى الله الكبير المتعالى , يسفع حمزة البسيوني بناصيته الكاذبة الخاطئة .. وكانت نهاية مكافئة لهذا النمروذ الذى أقسم لمن رفع صوته شاكيا إلى الله : لو نزل هنا لحبسته فى الزنزانة ...

يا لطيف .. لقد قتله الله شر قتلة .. كانت – ولا تزال وستظل – حديث مصر من أقصاها إلى اقصاها .. وسمعنا من عامة الناس من يقول : دا كله ذنب الإخوان المسلمين ..

فبينما قائدنا المظفر حمزة البسيوني يقود سيارته متوجها من القاهرة إلى الأسكندرية , فى صبيحة أن يشن علينا غاراته خاصة فى الأعياد .. بينما هو كذلك إذ فجأة ما لم يكن فى حسبانه , حيث اصطدمت سيارته بعربة نقل كانت تحمل أطنانا من الحديد المسلح ,فاستقر عدد منها فى وجهه وجبهته ( ناصيته ) ونقل إلى المستشفى وهناك لفظ أنفاسه غير مأسوف عليه .

أجل .. سفعه الله بالناصية , وأذاقه وزمرة المستبدين عذاب الخزى فى الحياة الدنيا , ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون .. ما لم يتوبوا .

وإذا رحنا نستقصى جرائم حمزة البسيوني إبان محنة 1954 ومحنة 1965 لطال بنا المقام ولكننا نسوق واقعة من الوقائع التى تنبىء عن غطرسة هذا الغر الغشوم , وتلذذه بإيذاء المؤمنين .

فى الثامن عشر من شهر رمضان 1955 أعنى صبيحة ذكرى غزوة بدر وكان الجو حارا , والشمس وهاجة , ملتهبة , تكاد أشعتها تشوى الوجوه .. تصادف أن مر أحد الحراس فعثر مع أحد المعتقلين على ورقة سجل فيها حديثا يحث على الصبر على الشدائد , فنقل الواقعة إلى حمزة البسيوني , وكان يوما داميا , انفطرت فيه القلوب , ودمعت من هوله العيون .. أسرع حمزة ليشبع غريزته فى التشفى والأذى , واستدعى نزلاء الزنزانة إلى ساحة السجن وهم صائمون , ونال كل منهم نصيبه عديدا من الجلدات , على مسمع ومشهد من جميع المعتقلين الذين أخرجوا ليشهدوا المأساة .. ويذكر أن أحد الضباط – وكان مسيحيا – لا أذكر اسمه الآن , حينما شاهد العذاب على ظهور الإخوان لم يطق البقاء وغادر المكان وهو يصيح : " حرام يا حمزة بك .. دول ناس صايمين ...."

ويصورو الدكتور يوسف القرضاوي شخصية هذا الظلوم الغشوم فى قصيدته النونية :

من ظن قانونا هناك فإنما
قانوننا هو حمزة البسيوني
جلاد مصر الفذ .. رمز عذابها
أسموه زورا قائدا لسجون
وجه عبوس قمطرير حاقد
مستكبر القسمات والعرنين
فى خده شج ترى من خلفه
نفسا معقدة وقلب لعين
متعطش للسوء فى الدم والغ
فى الشر منقوع به معجون
الشر يتبعه كظل كلما
وافى إلينا الحين بعد الحين
كالذئب تشفيه الدماء إذا جرت
ولرب ذئب فيه بعض حنين
سأظل أذكر يوم زار السجن فى
رمضان زورة جاحد مفتون
فى صبح غزوة بدر أحيا ذكرها
بإقام حفل للعذاب مهين
جلد الرجال وهم صيام خشع
لم يرع حرمة شهرنا الميمون
لم يثنه ظمأ الشفاه عن الأذى
وخشوع أبصار وجوع بطون
صرف الألوف من السياط هدية
بدل الزبيب المشتهى والتين
يا حمزة السفاح .. يا أعوانه
من كل أخرق بالأذى معجون
ماذا نقمتم من شباب مؤمن
صلب القناة لدى الخطوب رصين ؟
ألأن يومهم الصيام ويومكم
فى الجلد والشهوات والتدخين ؟
ألأن ليلهم القيام وليلكم
فى منكر بادى العوار مشين ؟
ألأن ذكرهم الكتاب , وذكركم
فحش الخنا وسباب أهل الدين ؟
أم أن حمزة حن للدم طبعه
والطبع غلاب على المأفون ؟
أم ساقه روح الفداء لغزونا ؟
فاغر اليهود هناك .. لا تغزونى
اذهب لغزة يا همام وأنسنا
بجهادك الدامى " صلاح الدين "
أفعندنا كبش النطاح , ونعجة
فى الحرب جماء بغير قرون ؟

"لنبيتنه وأهله ... "

درجت إدارة السجن الحربية على إرجاء تسجيل أسماء المعتقلين الجدد فى دفتر الأحوال إلى ما بعد انتهاء التحقيق معهم , مخافة أن يقتل بعضهم من جراء التعذيب فيكون الدفتر شاهدا على الجريمة .. وكان ضباط المباحث بدورهم يستخفون من أعين المعذبين فيعصبون عينى الضحية أثناء التحقيق بطاقية سوداء .. وكلا الفريقين يلاحقه الشعور بالذنب فلا يهدأ به بال , ولا تنام له عين .

وفى تصوير هذا المعنى , يقول الأديب مصطفى المنفلوطي – رحمه الله :

" إنما يشقى فى هذا العالم أحد ثلاثة :

حاسد يتألم لمنظر النعم التى يسبغها الله على عباده , ونعم الله لا تنفد ولا تفنى .

وطماع لا يستريح له بال ولا يهدأ له خاطر .

ومقترف جريمة من جرائم العرض والشرف , لا يفارقه خيالها حيثما حل وأينما سار .

وإن الظالم ليألم كما يألم المظلوم وأكثر , وإن بدا له الغلب , فهذا يألم مما يقع به من ضراء , ولكنه يرجو نصرة الله له , وذلك يألم وينتظر مصيره المحتوم .

وتدبر معى قول الله تعالى " ولا تهنوا فى ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " النساء : 104 .

قرأت لأمير الشعراء حكاية عن سليمان والهدهد يقول فيها :

وقف الهدهد فى با
ب سليمان بذلة
قال : يا مولاى كن لى
عيشتى صارت مملة
مت من حبة بر
أحدثت فى الصدر غلة
لا مياه النيل تروي
ها ولا أمواه دجلة
وإذا دامت قليلا
قتلتنى شر قتلة
فاشار السيد العا
لى إلى من كان عنده
قد أتى الهدهد ذنبا
وأتى فى الشر فعلة
تلك نار الظلم فى الصد
ر وذى الشكوى تعلة
ما أرى الحبة إلا
سرقت من بيت نملة

إن للظالم صدرا يشتكى من غير علة ولقد بلغت الجرأة بهؤلاء الظلمة , أنهم كانوا إذا مات معتقل تحت وطأة التعذيب يقدمون اسمه للمحاكمة و ويصدر الحكم غيابيا بالسجن عشر سنين أو أكثر أو أقل , وربما بلإعدام وينشر ذلك فى الصحف , ويدون أمام اسمه بين قوسين ( هارب ) صحيح .. اللى اختشوا ماتوا .."

وأذكر أن الشيخ عواد من بلدة المنير مركز بلبيس شرقية , والد الشاعر الشهيد محمد عواد , وكان يقيم معنا بالزنزانة , استدعى بعد قتل ابنه ليخبره القائمون على التحقيق أن ابنه هرب من السجن , وأنه قد تقرر الافراج ليرشدهم إلى مكان وجود ابنه وله جائزة سخية .

يا للهول .. بمثل هذه العاطفة المريضة , والقلوب التى وكأنها قدت من صخر , كانت تحكم مصر من خلال حكم العسكر :

سحقا لجزارين .. كم ذبحوا فتى
مستهترين كأنه ابن لبون
فإذا قضى ذهبوا بجثته إلى
تل المقطم , وهو غير بطين
لفوه فى ثوب الدجى وتسللوا
سارين بين مفازو وحزون
واروه ثم محوا معالم رمسه
فغدا كسر فى الثرى مكنون
أخفوه عن عين الأنام وما دروا
أن الإله يحوطوهم بعيون
والليل يشهد والكواكب والثرى
وكفى بهم شهداء الدين

وما كان يدور بالخاطر أن يسجل القرآن الكريم , وهو كتاب الله الخالد , على الطغاة إفكهم , ويفضح خبيثة نفوسهم , وهو يقص علينا ما كان من ثمود قوم نبى الله صالح عليه السلام , حين ائتمروا به وبالمؤمنين معه على قتلهم ثم التذرع بالإيمان الغليظة أنهم ما فعلوا , وأنهم صادقون فى إنكارهم . " ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون , قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون , قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون , وكان فى المدينة تسعة رهط يفسدون فى الأرض ولا يصلحون , قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون , ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون , فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين , فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذلك لآية لقوم يعلمون , وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " النمل : 45 – 53 .

أين هؤلاء الآن ؟ .. أين من بنى وشيد , وزخرف ومجد ؟ .. أين الذى كان إذا أشار بإصبعه امتلأت السجون بالأحرار ؟ .. لقد بادوا جميعا , وبقيت قلعة الإيمان شامخة برجالها وشبابها , تغيظ الطغاة وتقض مضاجعهم , ومن قتل منهم ذهب إلى ربه شهيدا ينعم فى جوار رب كريم .. ولم يدر بخلد أحد من الإخوان المعذبين أن يثأر لنفسه وكان ذلك ميسورا لو أراد ولكن الجميع فوضوا أمرهم إلى الله الذى لا يظلم مثقال ذرة وحسبهم دفاعه عن الذين آمنوا .

مات عبد الناصر بالسكتة القلبية أو موت الفجاءة , وهى الموتة التى استعاذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وفى قول إنه مات مسموما ..

اغتيل أنور السادات على أيدى حرسه الأدنين , وسط حراسات مشددة .

مات حمزة البسيوني على النحو الذى سلف ذكره فى موضع آخر من هذا الكتاب وكانت موتته آية من آيات الله ..

مات عبد الحكيم عامر مسموما , وقيل مقتولا بالرصاص ..

مات جمال سالم بسرطان الدماغ .. أدخل بسببه مستشفى الأمراض العقلية , وظل كذلك سنين .. كان يتمنى الموت فلا يجده ..

مات صلاح سالم ببولينا فى الدم .. فشلت كبرى مصحات روسيا وأمريكا فى إنقاذه أو حتى التخفيف عنه ..

مات علي شفيق الذى وجد مقتولا بمحل إقامته فى لندن ..

مات الدجوى رئيس المحكمة التى قضت على الشهيد سيد قطب وإخوانه بالإعدام .. مات مخنوقا بالحمام ..

مات الضابط صلاح حتاتة إحدى دوائر محكمة الشعب وحيدا فى شقته ولم يكشف أمره إلا رائحة الجثة التى أزكمت الأنوف ..

اللهم لا شماتة .. ولكنها العبرة .. يستخلصها المؤمنون الذين عاصروا الأحداث واكتووا بنارها .. يقدمونها لجيل الصحوة الإسلامية .. دروسا غالية .. استقوها من نور الكتاب المبين .. ومن الواقع المر الذى عايشوه ..لا من بطون الكتب , ونسج الخيال .. عسى أن يعيها الجيل المسلم الصاعد , الذى التبست عليه الطريق , وتفرقت به السبل , فاعتقد لقلة خبرته أن تغيير العرف العام فى المجتمع لا يتأتى إلا باستخدام القوة فى وجه من قهره .. ناسيا أن سنة الله فى التغيير لا تتأتـى إلا بتغيير ما فى النفوس ...

" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الرعد : 11 .

"أذكرنى عند ربك "

حين يقع المرء فى الشدة أو تلم به ضائقة يعجز عن ردها , يجد نفسه مندفعا بشعور ذاتى إلى قوة عليا , يلوذ بها ويحتمى بحماها , وهى سنة مطردة فى عالم الإنسان , وإن شئت قلت فى عالم الحيوان , يستوى الإنسان المؤمن والانسان الكافر .. والقرآن الكريم يصور يصور هذا المعنى أبلغ تصوير وأجمله فى قوله تعالى " هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بعم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين , فلما أنجاهم إذا هو يبغون فى الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " يونس : 22 – 23 .

وهذا فرعون الطاغية المتأله , حين أطبق البحر عليه مع جنوده لم يملك إلا أن يفرغ إلى القوة العليا , رغم جحوده وعناده , ولكنه انساق بجبلته إلى الإحتماء بها " جتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " فكان الجواب " آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين , فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون " يونس : 90 – 92 .

سأل الشيخ تلميذه : ماذا تفعل إذا نبح كلب القطيع ؟ .. قال التلميذ : أقذفه بالحجر .. قال الشيخ : يزيد نباحه .. عاد التلميذ يقول : أضربه بالعصا .. أجاب الشيخ : يشتد هياجه ونباحه .. قال التلميذ : إذا ماذا أفعل ؟ .. قال الشيخ : استعن بصاحب الكلب , فهو أقدر على دفعه عنك , فيخرج من جنب القطيع غلام صغير هو ابن صاحب الكلب يحول بينك وبينه .

فالله عز وجل – وله المثل الأعلى – رب العباد وخالقهم ونواصيهم بيده , فإن حادك أحد أو آذاك , فاستعن بالله , فيرد عنك كيد من يكيدك .

فى معتقل ابى زعبل الرابض وسط الصحراء , وفى غضون شهر أغسطس 1965 , والحر يكاد يشوى الوجوه , وقد ارتفع منسوب الرطوبة إلى حد يكتم الأنفاس , تداعت علينا ذئاب السلطة , مسلحة بكل وسائل القهر التى شاعت وألف الناس سماعها , فلا حاجة لتردادها رفقا بمشاعر القارىء الكريم .

استمر التحقيق معى عشرة أيام متتابعة , لقيت فيها من عنت الجلادين وأذاهم الكثير ولا أزيد .. وانتهى الأمر ببراءة ساحتى مما نسب إلى زورا وبهتانا .. انصرفت بعد ذلك لتضميد جراحى والإخلاد بعض الوقت إلى شىء يسير من الراحة .. وهل يخلد الإنسان إلى الراحة فى هذه الغابة التى استنسر بغاثها ؟ ...

ولكنها راحة نسبية تتمثل فى أننى على الأقل غير مطلوب .

وفجأة نودى باسمى ثانية .. وناهيك عن شعور الإنسان حين يستدعى للتحقيق .. إنه يحس أنه ذاهب إلى الجحيم , وأنه واقع لا محالة فى براثن ذئاب لا ترحم , حيث تجرد الجلادون من إنسانيتهم , ولبسوا جلود النمور , وتسلحوا بمخالب الوحوش الكاسرة , فلا قانون يردعهم , ولا دين يزعهم , ولا خوف من الله أن يسألهم .. ومع ذلك , فهم لا يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية .. فمن يستدعى للتحقيق , يأمرونه بخلع ملابسه كلها , عدا ما يستر عورته ( اللباس ) ثم يأمرونه بعصب عينيه بمنديله أو يعصبونها بطاقية سوداء أعدت لذلك .

غريب أمر هؤلاء الجلادين .. يملكون بأيديهم كل أدوات القهر , ثم هم يفرقون من أسير أعزل من كل قوة .. يختبئون من أعين المعذبين مخافة أن ينقلب الحال ويسألون .. ولقد بلغ الأمر بكبير لهم معروف وهو اللواء فؤاد علام أنه كان يتسمى باسم ( جرجس بك ) ومنسوب فى شهادة الميلاد إلى المسلمين , إمعانا فى التخفى .. عجبا لأمر هؤلاء الفراعنة .. يخشون الناس , والله أحق أن يخشوه , ولكن أنى لهؤلاء أن يخشوا الله وهم عصا الطاغية وسياطه , يلهب بهم ظهور الأحرار المعذبين , لقد ربطوا مصيرهم بمصير سيدهم فلا يتساهلون .

ثار جدل كبير حول مسئولية هؤلاء المأمورين , فذهبت طائفة إلى أنهم لا عليهم , فهم عبيد المأمور .. وحسم القرآن هذه القضية منذ أربعة عشر قرنا فى قوله تعلالى حكاية عن فرعون " إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين " القصص : 8 " وفى قوله " وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه من الكاذبين , واستكبر هو وجنوده فى الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون , فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين , وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون , وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنى ويوم القيامة هم من المقبوحين " القصص : 38-42 .

أعود بالقارىء الكريم إلى استدعائى فجأة للتحقيق , كان على أن أتجرد من ملابسى , إلا ما يستر العورة , وأعصب عينى بمنديلى .. وكانت خطتهم لتحطيم الضحية نفسيا وجسديا بعد تجريده من ملابسه كما ذكرت وضعه وسط الأتون المستعر , ليشاهد بعينى رأسه ويسمع بأذنيه ما يلقاه من سبقوه , إلى جانب ذلك يأمرونه بالقعود والقيام فى حركات متتالية , وقد تمتد هذه التمرينات الجبرية ساعة , وربما ساعات يتصبب منه العرق , وأنات المعذبين تطرق سمعه عن قرب , وتقع عيناه على ما يكره حين ترفع العصابة عن وجهه .. حتى إذا جاء دوره فى التحقيق كان جاهزا ( يعنى مستوى ) جسديا ونفسيا , فيلقى إليهم بما يريدون لا بما هو حقيقة .. ولكن رجالا كثيرين استعصموا وأبوا أن يذعنوا لرغبات الجلادين , ولقد رصدت وأنا معصوب العينين مواقف بطولية لإخوان كرام لاقوا من صنوف العذاب ما يشيب له الوليد , ولكنهم ثبتوا كالجبال .. أخص بالذكر الأخ المجاهد الأستاذ جمال فوزي – نضر الله وجهه – وقد نزل به العذاب ما نزل فلا ينثنى ولا يلين .. يقول له الضابط على مسمع من الجميع : قل أنا مره .. فيرد الأخ الكريم والسياط تحتوشه من كل جانب : أنا راجل من ظهر راجل قبل أمك ما تولدك .. وقد فقئت عين الأخ العزيز وكسر حوضه , وظل طول فترة اعتقاله وبعد خروجه عاملا لدعوته صابرا محتسبا حتى لقى الله راضيا مرضيا بإذن الله.

رحت أمارس التمرين الجبرى بالقعود والقيام لأكثر من ساعة , وسط هذا الجو الرهيب الرعيب , فلم أجد من ألوذ بحماه إلا الله رب المستضعفين ومذل الجبابرة والمستكبرين , وانخرطت فى ذكر لا ينقطع لحظة .. أقعد فأقول ( سبحان ربى الأعلى ) أحتسيها سجدة لله وأقوم فأقول ( حسبى الله ونعم الوكيل ) تفويض الأمر إليه .

وبينما أنا وسط هذه الروحانية الغامرة , سمعت صوتا عرفت صاحبه .. كان صاحب هذا الصوت زميلا لى فى كلية الحقوق , ثم تركها والتحق بكلية الشرطة , ويسكن فى القاهرة قريبا منى .. فخفق قلبى فرحا وقلت : عال , جالك الأمان .. وفى طرفة عين , ألقى الله فى أمنيتى قول يوسف الصديق لصاحبه " اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين " يوسف : 42 . . فوجدت جسدى يرتعد فرقا من الله , أن يسلطه على فيوقع بى من الأذى أضعاف أضعاف ما أخافه على يد غيره , فرحت أعتذر إلى ربى فى لهفة حتى لكأنى مجنون .. يا رب .. يا رب سامحنى .. أنا آسف .. وانطلق لسانى باستغفار من أعماق أعماقى لا ينقطع , وأعتذارحار رجوت أن يقبله .

ثم نودى باسمى وسحبت إلى حيث غرفة التحقيق وأنا معصوب العينين , وقد تصبب جسدى عرقا تتضاعف معه الآلام حين يهوى عليه بالسوط , فسألنى المحقق عن اسمى ووظيفتى .. ولكن رحمة الله الرءوف الودود تنزلت على , وكأنه ملكا ينتشلنى من بين براثن هؤلاء الذئاب , فانطلق أحد المخبرين ليقول : يا أفندم الرجل ده سبق حققوا معها .. فسألنى الضابط : هل سبق التحقيق معك ؟ .. قلت : نعم .. فسأل ومن كان المحقق ؟ أجبته : لا أدرى كنت معصوب العينين .. فراح يقلب فى ورق أمامه , ثم قال : طيب .. اصرف .. وأنا لا أكاد أصدق سمعى , ولم يمسسنى يومها بحمد الله سوء , سوى هذه التمرينات الجبرية التى ربما أفادتنى كثيرا صحيا . كل ذلك والإخوان فى العنبر ينتظرون عودتى ليروا ما كان معى , ودخلت عليهم سليما معافى منبسط الأسارير وأنا أردد " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء .. " آل عمران : 173 – 174 .

حين ينتفش الباطل , ويتسلط الطغاة الأقزام على المؤمنين الأحرار ,لا يجد المؤمنون من يلوذون بحماه إلا الله القوى القادر الذى بيده ملكوت كل شىء , وهو يجير ولا يجار عليه , عز من احتمى بحماه , وخاب وخسر من ضل عن باب مولاه .

قال احد الصالحين : كم مع الله يكن معك , ومن يكن مع معه , كانت معه القوة التى لا تقهر والقاهر الذى لا يغلب .

ومن حكم ابن عطاء السكندرى قوله : إذا كان الله معك .. فمن عليك ؟.. وإذا كان عليك .. فمن معك ؟..

معية الله عز وجل وقاية من كيد الكائدين , وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فى الغار يقول : يا رسول الله , والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا .. فيرد عليه النبى الحبيب قائلا : يا أبا بكر , ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ .. لا تحزن إن الله معنا .

" إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليع وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم " التوبة : 40 .

وهذا كليم الله موسى عليه السلام , حين خرج مع بنى اسرائيل فرارا من طغيان فرعون , ورأى أصحابه الجموع الكثيفة يقودها الطاغية .. خافوا وارتعدوا فالعدو خلفهم والبحر أمامهم فطمأنهم نبى الله أن الله سيجعل لهم فرجا ومخرجا .

" فلما تراءى الجمعان قال اصحاب موسى إنا لمدركون , قال كلا إن معى ربى سيهدين , فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كاطود العظيم , وأزلفنا ثم الآخرين , وأنجينا موسى ومن معه أجمعين , ثم أغرقنا بعد الباقين , إن فى ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين , وإن ربك لهو العزيز الرحيم " الشعراء : 61 – 68

"واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا "

بلغ السيد الزبى , وجاوز الظالمون المدى , ونهجوا نهج فرعون وهامان وجنودهما واستنوا بسنة عاد قوم هود , الذين استكبروافى الأرض بغير الحق وقالوا : من أشد منا قوة ؟.. فلم يعد يردعهم خلق ولا ضمير .

لا دين يردع .. لا ضمير مسيطر
لا خوف شعب .. لا حمى قانون

ألم يقل حمزة البسيوني لمن استجار بالله : لو نزل هنا ربك لحبسته فى الزنزانة ؟ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ...

وقديما قال فرعون " يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى " القصص : 38 .. وزاد الطين بلة حين قال " أنا ربكم الأعلى " النازعات : 24 .

بل لقد كان فرعون على عتوه وصلفه منصفا – قولا – حين عرض أن تقابل الحجة بالحجة " قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى , فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى , قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " طه : 57 – 58 أما هؤلاء فكانت حجتهم السوط والعصا , والكى بالنار والاغراق فى الماء , وموارة الضحايا فى جوف الصحراء , والتعليق على أعواد المشانق وقتل المخالفين , فضلا عن حشد سجون مصر بدءا بالسجن الحربى وسجن مصر وأبى زعبل والقلعة واردى وقنا والفيوم وأسيوط وانتهاء بالنفى فى سجون الواحات حتى أصبحت مصر كلها سجنا للأحرار .

وما مذبحة ليمان طرة عنا ببعيدة , وهى المذبحة التى قتل فيها رميا بالرصاص واحد وعشرون من خيرة الشباب المسلم , وجرح ثلاثة وعشرون بغيا وعدوانا .

ضاقت الدنيا على سعتها , وألقى البغى بكلكله على صدور المؤمنين , ولم يعد فى قوس الصبر منزع , وأوصدت الأبواب كلها إلا بابا واحدا فهو مفتوح بالليل والنهار , لا يملك الطغاة أبدا أن يغلقوه , ولو ملكوا كل جيوش الدنيا .. فما لنا لا نلج هذا الباب , ونلح على صاحبه بالرجاء ؟ .. وهو سبحانه وتعالى أهل الرجاء , ولا يرد عن بابه سائلا .. أليس هو القائل " وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون " البقرة : 186 .

لا تسألن بنى آدم حاجة
وسل الذى أبوابه لا تحجب
الله يغضب عن تركت سؤاله
وبنى آدم حين يسأل يغضب

وتواصى الإخوان .. هيا يا رفاق اسمعوا نصيحة نبيكم صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب الملحين فى الدعاء " رواه الطبرانى مرفوعا .

هيا اطرقوا باب ربكم فى جوف الليل وبالأسحار , حتى تنزاح الغمة , وتنجاب الظلمة , وتجرد الناس من الحول والطول , وتسابقوا على الصلاة فى جوف الليل يحفزهم إلى ذلك قول الله عز وجل " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون , فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " السجدة : 16-17 .

قمن من الليل مع القائمين الركع السجود , ثم هجعنا هجعة .. أسلمنا نفوسنا لبارئها ومصرف أمرها , متحصنين بهذا الحصن الحصين من دعاء سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم " اللهم إنى أسلمت نفسى إليك , ووجهت وجهى إليك , وفوضت أمرى إليك وألجأت ظهرى إليك رغبة ورهبة إليك , لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك , آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيك الذى أرسلت " رواه البخارى .

واستيقظت مع الفجر على هذا الحلم الجميل , الذى سرى فى نفسى سريان الكهرباء , فأشرقت بنور الوحى يزف البشرى للمؤمنين , ويمسح جراح الكهرباء , ويوجههم إلى التى هى أقوم وأمثل .

رأيتنى فى المنام أتلو هاتين الآيتين الأخيرتين من سورة الطور كما لو كنت يقظان " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ويبح بحمد ربك حين تقوم , ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم " الطور : 48-49 .

انظر إلى قوله تعالى " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " أمر بالصبر على ما قدر الله وحكم ثم التوكيد بلفظ " إن " على حفظ الله للمؤمنين وكلاءته .. فهل هذا التأكيد من لرب ووعده بالحفظ مطمع لطامع ؟ .. ثم التوجيه الذى لا يشوبه دخن أو يداخله دغل بمداومة التسبيح .. عند قيامك وفى جوف الليل .. وعند إدبار النجوم تكرار التسبيح .. " وسبح بحمد ربك حين تقوم , ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم " وقبيل هاتين الآيتين تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وإخبار له بأن لهم أجلا يصعقون فيه لا ريب فضلا عما ينتظره من عذاب .

" فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون , يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون , وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون " الطور : 45-47 .

إننا نقرأ الآيات ونمر عليها مرارا .. بل نحفظها عن ظهر قلب من زمن الطفولة , ولطالما تلوناها ورددناها عشرات المرات , ولكنها هذه المرة لها طعم خاص ومذاق متفرد .. إنها بشرى من الله للمؤمنين بعد انقطاع الوحى , ففى الحديث " رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة "

ولمن تثقف البشريات عند هذا الحد بل تتابعت وتلاحقت , واحتفى الإخوان بها , وأنشأوا فيما بينهم وكالة للأنباء التى تأتيهم فى منامهم أسموها ( وكالة أبشروا للأنباء ) .

رأيت فيما يرى النائم أننى أتلو هذه الآيات من سورة ( غافر ) والمسماة بسورة المؤمن إشارة إلى مؤمن آل فرعون .

" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد , يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار, ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بنى إسرائيل , هدى وذكرى لأولى الألباب , فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار " غافر : 51-55 " قل اللهم فاطر السوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فى ما كانوا فيه يختلفون " الزمر : 46 .

والآيات بينات لا تحتاج إلى شرح أو تفسير .

والعجيب أن الآية الأخيرة من سورة الزمر , ولكنى تلوتها فى المنام كما لو كانت امتدادا لآيات سورة غافر , ولم أفطن إلى ذلك إلا فى اليقظة , فهى رؤيا موجهة من الله اللطيف الخبير .

ذهبت إلى الدار الآخرة

بعد خروجى من المعتقل فى فبراير 1956 عاهدت الله ألا أتخلف عن صلاة الجماعة فى المسجد مهما كانت الظروف إلى لعذر قاهر, لا سيما صلاة الفجر .. وبقيت على هذه الحال بضع سنين , وأعاننى على ذلك أن كان بجوارنا رجل صالح هو الحاج هو الحاج سليمان محمد قد ابتنى مسجدا متواضعا فى الدور الأرضى من عمارته , ودعانى للإمامة فيه .. وكان يمر كل ليلة فى الهزيع الأخير من الليل , وقبل الفجر بساعة أو بعض الساعة يترنم بصوته الندى , يوقظ الوسنان ويطرد الشيطان وهو يقول " لا إله إلا الله .. الملك الحق المبين .. محمد رسول الله .. الصادق الوعد الأمين .. الصلاة يا مؤمنون الصلاة .. الصلاة خير من النوم "

ويمر آخر يقول :

يا نائما ومستغرقا فى المنام
قم واذكر الحى الذى لا ينام
مولاك يدعوك إلى ذكره
وأنت مشغول بطيب المنام

الصلاة .. يا مؤمنون الصلاة .. الصلاة خير من النوم .

فأهب من نومى , ثم أتوضأ , وأقرأ ما تيسر لى من القرآن , أو أصلى ما شاء الله أن أصلى حسبما يسمح الوقت , ثم أتوجه إلى المسجد , حيث نؤدى الصلاة , ونجلس فى مصلانا نذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع مقدار رمح أو رمحين ثم نصلى سبحة الضحى , وينصرف كل منا إلى حال سبيله واستجدت ظروف شغلتنى عن صلاة الفجر بسبب السهر , فكان الرجل يمر ليوقظنى فأستجيب مرة وأغفو مرات , حتى يئس من أمرى , وراح ولم يعد , وإذا صادف واستيقظت من تلقاء نفسى , فإنى أذهب إلى مسجد آخر , تفاديا للوم الأصحاب وتقريعهم , ولكنى فى الحقيقة لم أكن راضيا عن نفسى , وكان الاثم لا يفتأ يحيك فى صدرى .. فالعهد بينى وبين الله , ومن الحرام أن أنكث العهد وأنا أتلو قول الله تعالى فى أكثر من موضع من القرآن بل أحفظه عن ظهر قلب " وأفوفوا بعهد إن العهد كان مسئولا " الاسراء : 34 . " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا .. " النحل : 91 , 92 . " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيوئيتيه أجرا عظيما " الفتح : 10 .

وبينما أنا فى هذه المشغلة النفسية لا يهدأ لى بال , ووخز الضمير يؤلمنى , رأيت فيما يرى النائم أنه حضرنى أجلى وقام الغاسل بتجهيزى وسط بكاء الأهل ونحيبهم , فلما فرغ حملت على النعش , وخرج أهل القرية عن بكرة أبيهم يشيعوننى , حتى انتهوا بى إلى المقابر فأودعونى وأهالوا على التراب , وبعد أن نفضوا أيديهم من تراب القبر , اصطف الأهل يتقبلون عزاء المشيعين .. يقول هؤلاء : عظم الله أجركم , فيرد الأهل : شكر الله سعيكم .. وأنا أعى ذلك كله كم لو كنت فى اليقظة لا يند عنى قول أو حركة .. الأحداث واضحة كفلق الصبح , لا مرية فيها ولا غموض , وتذكرت وأنا ملقى فى القبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنه أى الميت – ليسمع خفق نعالهم وهم ينصرفون " متفق عليه .

وخفتت الأصوات رويدا رويدا وانقطعت الخطوات , ورأيتنى فى القبر وحيدا فريدا , لا أنيس ولا جليس , وأطبق الصمت على المكان .. وكنت وأنا صغير مغرما بتشييع من يموت عندنا , فأسمع الملقن يقول : فإن أتياك وأجلساك وسألاك وقالا لك : من ربك ؟ .. ومن نبيك ؟ .. وما دينك ؟ .. فدارت هذه الكلمات فى ذهنى وترقبت مثول الملكين .. وما هو إلا أن بدا من ناحية فى القبررجل فارع الطول , يلبس بزة عسكرية وبيده عصا قصيرة , متأبطا سجلا ( دوسيه ) فلما انتهى إلى وكنت راقدا فزعت جالسا فسألنى سؤالا واحدا : إنت مواظب على صلاة الفجر والا لأ ؟ .. وحرت فى فالملك يكذبنى والعصا تؤدبنى .. ولو قلت : لا فهو يخالف الحقيقة لأنى لم أنقطع تماما عن صلاة الفجر .. ولكن الله ألهمنى الجواب المناسب .. فقلت : الحقيقة مش على طول .. فقال بلهجة صارمة كلها تهديد .. طيب .. وتوقعت أن يحل بى العذاب لا محالة , ولكنى لم ألبث أن انتبهت من نومى وأنا فى غاية الفزع , فالتفت حولى , فلما ايقنت أن ما كان إنما هو حلم , ذهب عنى الروع وتنفست الصعداء , وانطلق لسانى يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله .. ونهضت مسرعا فتوضأت ,وكان الفجر قد اقترب , فتوجهت إلى المسجد بعد غيبة دامت شهورا , ثم أقيمت الصلاة وصليت بالقوم إماما كسابق عهدى , وما إن فرغت من الصلاة حتى أقبلوا على يلومننى على هذه الغيبة الطويلة , فما كان جوابى عليهم إلا أن قلت : أتدرون من أين أتيتكم اليوم ؟ .. إننى قادم من الدار الآخرة .. وأخبرتهم الخبر .

ثم رحت أقول فة نفسى : هذه الرؤيا التى رايتها كانت بلقاء مثل فلق الصبح .. ماذا لو أن ذلك حدث حقيقة , وهو يحدث فى أية لحظة .. ماذا يكون جوابك عن صلاة الفجر , وعن ..... , وعن ....., وعن .....الخ .

وكأن هذه " تجربة " ولطف من الله لأستدرك قبل الأوان , والحمد لله عدت إلى سابق عهدى مجتهدا فى الوفاء بالوعد ما لم يلحق بى عذر من مرض أو نوم ونسأل الله الثبات وحسن الخاتمة .

" وإذا مسكم الضر ضل من تدعون إلا إياه " الاسراء : 67 .

عشنا وراء القضبان حياة روحية غامرة .. ارتفعت بأرواحنا إلى أشبه ما تكون بحال الملائكة , الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون .. نفترش أقدامنا فى جوف الليل , والناس نيام , والخليون هجع .. داعين الله .. مستغفرين .. توابين .. أواهين .. منينين .. امتثالا لقوله سبحانه " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا " السجدة : 16 . نصلى الصلوات الخمس فى أول أوقاتها .. لا يتخلف عنها إلا معذور .. نغترف من معين القرآن ما يروى الغلة , ويطفىء شهوة الجسد , ويصل أرواحنا بالملأ الأعلى , فننعم بالقرب , ونحظى بالأنس , ويهون الصعب ويحلو الصبر وتنقلب المحنة منحة , ويصير المنع عطاء ..

وما أروع ما يصور به الإمام ابن تيمية حاله وهو فى سجن قلعة دمشق " إن جنتى فى صدرى , وهما معى لا يفارقانى .. فماذا يفعل الأعداء بى ؟ .. إنما السجين من حبس عن ذكر ربه , والأسير من أسره هواه " .

ويقول فى موطن آخر " إن قتلى شهادة , وتشريدى سياحة , وسجنى خلوة " كان هذا الرصيد الروحى عدتنا فى المحنة وزادنا فى الشدة ...

فى قلب المحنة وعند اشتداد البلوى يحس الإنسان بضعف قوته وقلة حيلته , فيهرع إلى قوة عليا يلوذ بها لتحميه من غوائل ما ينزل .. والإنسان فى سفينة الحياة بين النعمة والشقوة , والإبتلاء والعافية , والخير والشر , والطاعة والمعصية , والرخاء والشدة .. يميل إلى الدعة ويركن إلى الراحة , وينأى عن المشاق .. فإذا مسه الشر هلع وجزع , وإذا مسه الخير تمرد ومنع .

قال تعالى " إن الإنسان خلق هلوعا , إذا مسه الشر جزوعا , وإذا مسه الخير منوعا " المعرج : 19-20 وقال جل شأنه " ولئن اذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور , ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور , إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير " " هود : 9-11 .

سفى قلب المحنة تضطرب الموازين , وتختل المقاييس ويجد المرء نفسه غارقا وسط اللجة , تتقاذفه الأمواج من كل جانب , لا يقر له قرار , وهو كريشة فى مهب الريح لا يستقر على حال , ويلوذ بربان السفينة , عله يأخذ بيده , وينأى به عن مواطن الهلكة وسوء المصير , وما أكثر ما عصفت بنا الأمواج , وهاجت الرياح وزمجرت , وكشرت المحنة عن أنيابها , فكان الله هو الملاذ وكان كتابه هو طوق النجاة .

قبل المحنة , كنا ننعنم بالحرية .. لا يسيطر علينا مسيطر إلا أدب النفس , وسلطان الشرع .. والريح رخاء , وشراع سفينتنا يرفرف فى رفق وهوادة , ولا يعوق انطلاقها عائق .. فإذا الحال قد تبدلت , وأخذت الأحداث تكشر عن أنيابها , والطغاة لا يرعون فى مؤمن إلا ولا ذمة وإذا الحرية قد سلبت , والإرادة قد فقدت , وهبت ريح السموم عاصفة , وتقاذفت سفينتنا الأمواج ذات اليمين وذات الشمال , وأحيط بنا من كل جانب , وعز المهرب وتطلعنا إلى النصير .

أجل كان الله وحده هو الملاذ والملجأ , وكان كتابه الكريم هو طوق النجاة الذى يبلغ بنا بر الأمان , وساحل الطمأنينة .

فى محنة 1954 اعتصمنا بالله وبكتابه , فنجانا الله من القوم الظالمين , وأرانا فيهم آيات قدرته , وخرجنا إلى الحياة ننعم بالحرية .. عجيب أمر هذا الإنسان , سرعان ما ينسى , وكثير من الناس من يثبت عند الشدة , ويسترخى عند الرخاء , ظنا منه أنه وقد أدى ما عليه , فلن تطوله أيدى الطغاة فأرخى لنفسه العنان , ونسى ما كان يدعو إليه من قبل .. وتشاء حكمة الله الحكيم أن يذكرهم ويعيدهم إلى الجادة , فتحل محنة 1965 ليجد الجميع أنفسهم وسط اللجة من جديد , حتى أولئك الذين كانوا قد ركنوا إلى الظالم وداهنوه ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من بطشه , قد صب عليهم من العذاب ما يفوق بكثير ما وقع بالمستمسكين , ويظن العبد لجهله أنه يستطيع أن يخرج سلطان القوة الإلهية القاهرة .

نلجأ إلى الله فى الشدة , نرجوه فيقبل الدعاء .. وندعوه فيجيب الدعاء , ويكشف الغمة .. ويمحو الظلمة .. ونذوق طعم الحرية , بعد قيد .. وننطلق بعد أسر .. ثم ينكص الإنسان الجهور على عقبيه ويستهين بأمر ربه , ومالك أمره .. فهل انتهى به المطاف , وخرج من تحت سلطان الله , وملك أمر نفسه ؟ .. هل أخذ على الله عهدا ألا يصيبه بما يكره ؟.. وهل ضمن ألا يعود ثانية إلى الأسر , فيقع عليه من النكال والهوان ما لا قبل له به ؟ .. إن كان هذا ظنه , فبئس هذا الظن .. وما أبلغ تصوير القرآن الكريم لحال الإنسان وهو يتقلب بين المتضادات ويعيش بين المتناقضات " ربكم الذى يزجى لكم الفلك فى البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما , وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا , أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا , أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " الاسراء : 66- 69 . درس ينبغى أن يعيه كل سائر على درب الدعوة : أن تسلم نفسك لله عز وجل , واعلم أنك فى قبضته فى كل لحظة , وفى كل نفس و ولن تعجزه هربا , أيا كانت حيلتك ,وما يختاره الله لك , هو الخير كل الخير , وإذا ما كشرت المحنة عن أنيابها , وبدت فى الأفق نذر شر , ففر إلى الله , فهو الملجأ , وهو الملاذ , فر إلى الله وقت الرخاء و فيسعفك بلطفه وقت البلاء .

عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : كنت خلف النبى صلى الله عليه وسلم يوما , فقال لى : " يا غلام إنى أعلمك كلمات .. احفظ الله يحفظك .. احفظ الله تجده تجاهك .. تعرف إلى الله فى الرخاء , يعرفك فى الشدة , واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك , وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك , واعلم أن النصر مع الصبر , وأن الفرج مع الكرب , وأن مع العسر يسرا " رواه الترمذى وأحمد .

" وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها " العنكبوت : 60

حينما اعتقلت عام 1954 , كنت لا أزال طالبا بالحقوق , ولم يكن يشغل بالى حينذاك إلا والدتى التى تجاوزت الستين , وليس لها عهد بمثل هذه الأحداث .

وأذكر وأنا صغير أن حكم على أحد أبناء خالتى بالحبس 6 أشهر فى مشاجرة , فكانت والدتى ومن حولها خالاتى لا يرقأ لهن دمع , ولا يهنأن بنوم .. فكيف وابنها الأثير لديها قد أودع السجن دون جريرة , وأحكام محكمة الشعب تترى بالإعدام والأشغال الشاقة والسجن دون ضابط .. وقد انقطعت أخبارى ولا سبيل إلى زيارتى أو الاتصال بى من قريب أو بعيد , فقد كان الإنتماء إلى الإخوان , ولا يزال تهمة دونها بكثير تهم القتل والسرقة والنصب والتزوير وحيازة أطنان المخدرات , والويل كل الويل لمن يثبت أنه بدافع من إنسانيته ومروءته قدم اليسير من المال لزوجة غاب عنها زوجها وأطفال أبرياء لا ذنب لهم , فجزاؤه السجن خمس أو عشر سنوات وربما أكثر , وكذلك من يثبت أنه يحفظ سورة آل عمران أو الأنفال لكونهما تحثان على الجهاد , فكيف وأنا أحفظ القرآن كله .. معنى ذلك الإعدام ..

إلى جانب ذلك كان يشغلنى أمر الدراسة , فقد طال الحبس وحظرعلينا تأدية الإمتحانات خلافا لما عليه حال المعتقلين السياسيين فى كل بلاد الدنيا , ولم تكن الأحوال تنبىء بانفراج , ولسوف أخرج – إن خرجت – لأجدنى قد تخلفت عن الركب , سوف أجد زملائى وقد تخرجوا وصاروا محامين , أو انخرطوا فى سلك النيابة وربما اعتلوا منصة القضاء , وسبقنى من كنت سابقه .. ورايتنى فى حيرة بين أفكار شتى تجذبنى ذات اليمين وذات الشمال..

فما المخرج ؟.. وكيف الحيلة ؟ ..

واهتديت لتوى إلى أن المخرج هو كتاب الله تعالى كما يشير إليه الحديث النبوى الذى يرويه الإمام على كرم الله وجهه وفيه " ستكون فتن كقطع الليل المظلم " قلت : وما المخرج منها يا رسول الله ؟ .. قال : " كتاب الله " . ومن ثم رحت أسترشده وأستهديه فى كل آية اتلوها , فوجدت بين ثناياه ضالتى فى كل ما مر بنا من أحداث , وما اكتنفنا من ابتلاءات , فكان نعم الهادى والدليل .

فأما الخوف على المستقبل وسبق زملائى فيرده قوله سبحانه " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " الفرقان : 20 , وقوله عز وجل " " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " الأنعام : 53 .

الأمر إذن أمر امتحان وابتلاء " لبلونى أأشكر أم اكفرومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم " النمل : 40 .. فأستعيذ بالله من الكفر بعد الإيمان , وأتشبث بعاقبة الشكر والصبر , ويؤيد ذلك الحديث النبوى " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن , إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " .. ويتوج ذلك كله قول الله سبحانه " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " محمد : 31 , وقوله : " ولنبونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الثمرات والأنفس والثمرات وبشر الصابرين , الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون , أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " البقرة : 155 – 157 . . وما قصه القرآن عن محنة يوسف الصديق والعاقبة الحسنى التى ختم الله بها , وفى القصص القرآنى كله العزاء والسلوى وحسن الأحدوثة والنصر والتمكين للمؤمنين الصابرين والعاقبة السوءى للطغاة والمستبدين .. وفى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الدروس والعبر ما يشفى صدور قوم مؤمنين .

فلم يعد أمر المستقبل فى قليل أو كثير , فوعد الله حق .. إنه لا يخلف الميعاد وأمر آخر كا يشغلنى .. لقد اقتنعت بقضاء الله فيما أنا فيه , ولست أملك إلا التسليم , وما غير الصبر من محيص .. ولكن ماذا يكون الحال عندما تتحرر إرادتى , ويكون لى حرية الاختيار بين المضى فى طريق الحق أو النكوص عنه – لا قدر الله - ؟ .. هنا بيت القصيد ومربط الفرس .. هنا يأتى الجواب الشافى من كتاب الله " قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذى استهوته الشيايطين فى الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن الهدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين " الأنعام : 71 .

أجل إنهم رفاق الدرب .. إنهم الحصن الذى ينتشلنى من بين براثن الشياطين والدرع الواقية من مزالق الطريق حين تكون حرية الإختيار .

يعضد هذا المعنى الأمر الإلهى الجازم والحاسم للنبى الكريم " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه " .. ثم النهى فى نفس الاية عن التولى عن هؤلاء الأصحاب " ولا تعد عيناك تريد زينة الحياة الدنيا " .. ثم النهى عن طاعة أهل الضلال والهوى الذين غفلت قلوبهم عن ذكر الله وكان مآلهم الخسار والضياع " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " الكهف : 28 .

وخرجت إلى الحياة محصنا بهذه الدروس القيمة غير آبه بتبكيت الأهل أو تقريع الجاهلين .. ولقد حقق الله لى فى مستقبل أيامى ما لم أحلم بعشر معشاره , وأفاء على من خيره وبره ما سوف تعرفه بعد قليل .

وتمضى عشر سنوات , وفى عام 1965 تطل المحنة برأسها , ولكنها هذه المرة اشد وأنكى من سابقتها حيث تزوجت ورزقنى الله أربعة أولاد وكان الامتحان .

جاءنى زوار الفجر بعد منتصف ليلة 28 أغسطس 1965 ومر بخاطرى شريط سريع .. ماذا لو حكم على وفصلت من عملى الذى هو مورد رزقى الأساسى ؟ .. واهتديت فى الحال إلى تحرير توكيل لصهرى لصرف مرتب أغسطس , ثم توكيل لشقيقى لبيع نصيبى فى ميراث والدى من الأرض الزراعية إذا لزم الأمر , ثم تركت الصغار نائمين , وودعت الزوجة داعيا ومصبرا , وانطلقت بنا السيارة إلى معتقل القلعة قبيل الفجر وألقيت فى الزنزانة حتى جاء السجان يدعونى لدورة المياه ثم صليت الفجر و قضيت سحابة الهموم الثقال , وتعالت صرخات المعذبين وأنا مهموم لا أدرى ما يفعل بى , ومر يوم آخر كان أكثر طولا من سابقه .. وفى المساء نودى على ودفعت إلى سيارة مغلقة مع آخرين , انطلقت بنا فى الظلام إلى معتقل أبى زعبل , وكان حينئذ اشد هولا من سجن القلعة , لقيت فيه من عنت المحققين وبطشهم ما لقيت , ورغم هذه المشغلة كان صوت الزوجة والأولاد يخرق سمعى يطالبنى بالطعام , وعشت فترة شديدة الوطء على نفسى , وانتابنى القلق واستبدت بى الوساوس , وكلما دفعتها ازدادت شدة وتعلقا و وبقيت على ذلك اياما حتى تلا أحدهم هذه الآية " وكاين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " العنكبوت : 60 . وكأنى رغم حفظى للقرآن الكريم لم أسمعها إلا الآن , فأفقت من همومى , وجعلت أديرها فى ذهنى وأتملاها وأذكر بها من حولى ممن هم فى مثل حالتى وما اكثرهم , فهدأت نفسى واستقرت بعد طول معاناة .

وفى هذه الأثناء لفت نظرى أمر غريب : اثنان من الجنود يحملان الخبز وآخران يحملان قدر العدس أو الفول أو المقرر من الصابون وغير ذلك فى حراسة رتبة أعلى , قد يظن القارىء أنه أومباشى أو جاويش , ولكن العجب أن يكون ملازم أول أو أومباشى .. فقلت فى نفسى : لماذا هذه الرتب العالية لمراقبة توزيع الطعام والصابون وما إليهما ؟ .. فجاءنى الجواب من قبل نفسى ربما كان المراقب رتبة أدنى لسولت له نسه الاحتفاظ لنفسه بشىء من المقرر لنا , بينما الضابط يستحى من ذلك .

فأدركت أن رعاية الله هيأت رقباء لا يتطرق إلى نفوسهم الطمع فى شىء من رزقنا .. ويزيد الأمر تأكيدا أن الضابط يؤكد علينا أنه سيمر ثانية فإن وجد عجزا أكمله .. فأقول فى نفسى : يا سبحان الله . الله يتكفل برزقنا ونحن وراء القضبان بين مخالب الأسد و والقوم يسومننا الخسف والعذاب , فإذا كان هذا حالنا فرعاية الله لأهلنا أرحب وأوسع .. ورحت أذكر بهذه المعانى من حولى , فكان لها أعظم الأثر فى نفوس الكثيرين .

ومكثنا خلف الأسوار لا نزار ولا نزور , ولا حس ولا خبر , وعلى أثر النكسة سمح لليهود بزيارة أقاربهم الذين اعتقلوا فى هذه الظروف , فاحتج الأهالى على هذه التفرقة المؤسفة , وتذمر المعتقلون , فلم يسع المسؤولين إلاأن سمحوا بزيارة الأهل .

وفى 27-1-1968 بعد النكسة بثمانية أشهر – نودى على للقاءالأسرة فى غرفة الزيارات , وكانت لحظات انطلقت فيها المشاعر الحبيسة , ولقد رأيت ابنى حسام يندفع فى سيره فيكبو ثم ينهض ثم يكبو تلهفا على اللقاء , وكان لقاء مثيرا بعد فراق دام ثلاثين شهرا .. وانتهى وقت الزيارة فإذا بحسام يتشبث بى ويبكى قائلا : لازم تروح معانا يا بابا ويكررها حتى أهاج مشاعر الحاضرين , ولم أدر ما أقول حتى تدخلت أمه قائلة : لازم نبيض الشقة الأول يا حسام فهدأ الطفل وسكن روعه .. ولم يكد يصل البيت حتى راح فى الاسراع فى بياض الشقة لاستقبال بابا الذى قضى بعد ذلك أربع سنوات فى 16 أكتوبر 1971 .

وكان أول كلامى مع الزوجة السؤال عن أحوالهم عند وقف المرتب , فأدهشنى جوابها بأن المرتب لم ينقطع أبدا .. إذ صرف صهرى مرتب أغسطس بموجب التوكيل .. وعلى الأثر قدم زملائى طلبا لرئيس محكمة النقض باسم زوجتى لصرف المرتب فصدق على الطلب رغم القرار الصادر بوقف المرتبات .

وصارت الزوجة تذهب فى أول كل شهر فيلقاها الزملاء فى المحكمة بالترحيب والاجلال وتصرف المرتب دون عناء .. زيادة على ذلك فإن أهل الخير راحوا يبعثون إليها يعرضون العون المالى فترد شاكرة لهم ذاكرة أن المرتب يصرف كالمعتاد ,, وتوافد الأهل والأقارب يحملون ما يزخر به الريف من خيرات .

ويذكر أن أحد أبنائى أصيب بمرض استدعى علاجه أكثر من سنة , فما أن علم الطبيب المعالج بألأمر حتى رد قيمة الكشف وصمم على ان يكون علاجه مهما طال على حسابه وظل يتابعه حتى شفى تماما بفضل الله .. وذلك هو الدكتور مصطفى كامل أستاذ الأمراض العصبية بطب عين شمس .. جزاه الله خيرا .

كان المؤمل أن يفرج عنا بعد النكسة , ولكن مراكز القوى ظلت متشبثة بمراكزها .. مستميتة عليها .. حتى أذن الله بإزاحة ذلك الكابوس الثقيل الذى جثم على صدر مصر قرابة 19 عاما , فرحل عبد الناصر غير مأسوف عليه , وجاء السادات , وأمل الناس فيه خيرا , فبدأ عهده بإطلاق شعارات : دولة العلم والإيمان .. إطلاق الحريات وسيادة القانون . ورغم ذلك ظل الإخوان رهن السجن حتى عام 1974 حيث اضطر إلى تصفية المعتقلات رغبة فى مواجهة الشيوعيين بالإخوان .. فكانت إرادة الله .

خرجت بعد هذه الغيبة الطويلة ولم توجه إلى تهمة , فلاحظت زيادة الأعباء العائلية إذ التحق الأولاد الأربعة بالمدارس والمرتب لا يفى .. فماذا أفعل ؟

فكرت فى عمل إضافى فاتجهت إلى إعطاء دروس فى اللغة العربية وكذلك الفرنسية التى أتقنتها نسبيا فى المعتقل , ثم التحقت بمكتب أحد المحامين ليلا علنى أحظى بما يزيد الدخل , وكان جهدا مضنيا , فكتبت إلى أخ عزيز سبقنى إلى الكويت فبعث إلى بدعوة زيارة وتقدمت طالبا إجازة بدون مرتب فلقيت معاونة من الجميع وعلى رأسهم المستشار أحمد حسن هيكل رئيس محكمة النقض آنذاك – جزاه الله خيرا – وأوصى مدير مكتبه أن يقدم لى أقصى ما يمكن من تسهيلات , وقد كان .. وزودنى فوق ذلك بتوصية مكتوبة لبعض زملائه المستشارين المعارين للكويت .

وغادرت إلى الكويت فى اليوم التالى لوفاة والدتى , فتلقانى الإخوة هناك بترحيب بالغ , واذكر بالفضل والعرفان الأخ الكريم الأستاذ محمد كمال المحامى – رحمه الله – والأخ المستشار سالم البهنساوى رفيقى الرداسة والدعوة وغيرهما , فقد قام الجميع لى من برهم وعونهم ما يعجز القلم عن الوفاء به .. فجزاهم الله خيرا . طرقت دواوين الحكومة والمؤسسات , وكانت سوق الحقوقيين حينذاك بائرة , إذ لم تكن الإدارات القانونية بالوزارت قد أنشئت بعد , وكان العثور على وظيفة صعب المنال .. وبقيت عشرة أشهر بلا عمل رغم المحاولات الجادة لمساعدتى , ورغم ذلك كنت سعيدا , فأنا الآن أذوق طعم الحرية ولا يلاحقنى زوار الفجر ولا ينغص عيشى مخبر يتردد على مهددا ومحذرا .

كنت قد حصلت أيام المدرسة على شهادة تفوق فى حفظ القرآن الكريم بترتيب الأول على الجمهورية فى مسابقة وزارة الأوقاف ,فأشار بعضهم بالتقدم بها لوزارة التربية لأعين مدرسا للتربية الإسلامية , وساعدنى فى ذلك شخصية كويتية مرموقة , واجتزت الإمتحان بتفوق , وكدت أطير من الفرح , وكانت صدمة شديدة حين تقدمت بأوراق التعيين أن رفض الموظف قبولها لأن الشهادة ليست تربوية وليسانس الحقوق كذلك .

كانت نكسة خيبت كل آمالى ورجعت بى القهقرى إلى درجة الصفر .. واستأنفت محاولاتى فى وزارة العدل بتوصية من المستشار صلاح أبو ذكرى الذى بذل جهدا مشكورا وعلمت أن الوظيفة المرشح لها راتبها 150 دينارا وكاد التعيين أن يتم لولا أننى فوجئت أن الوزير اختص بها أحد المقربين .

بعد رفض تعيينى فى التربية تقدمت طالبا تعيينى بوظيفة إدارية بها واشر وكيل الوزارة وكان صديقا للأخ محمد كمال بالموافقة , وطال انتظارى وبسؤالى الموظف المسئول أجاب بأنه لا يوجد فى الميزانية درجة شاغرة .. ولا درجة راتب مقطوع ؟ قال : ولا راتب مقطوع .. وكان كل الجامعيين المعينين على راتب مقطوع لا يزيد راتبهم على 100 دينار .

وحدثت الكرامة

عدت إلى البيت كسيف البال مهموما وارتميت على السرير يائسا وبينما أنا بين النوم واليقظة سمعت من ينادينى .. مبروك .. مبروك .. فقلت : خيرا إن شاء الله .. فقال : قبلت فى ديوان المحاسبة .. فهويت لتوى ساجدا لله شاكرا .. ثم قال : توجه بالأوراق غدا إلى ديوان المحاسبة .. وهناك سمعت عجبا : تلقانى الموظف بترحاب بالغ قائلا : والله باين عليك راجل طيب .. قال : الديوان كان طالب ثلاثة حقوقيين ولكن ترتيبك بين الممتحنين جاء الرابع .. ثم ماذا ؟ .. قال : الأولى على الدفعة كانت أخت مصرية , فرأى الديوان إلحاقها بوظيفة إدارية , فكنت مكانها .. والعجيب أن قبولى فى الديوان كان ميئوسا منه تماما , فقد كان المتقدمون لشغل ثلاث وظائف 110 من القانونيين وكنت قد نسيت الموضوع بالمرة .

أتدرى أيها القارىء الكريم كم كان الراتب ؟ ..

لا تعجب فلله فى خلقه شئون .. ادخر لى فوق ما كنت أتصور ..

عينت على الدرجة الخامسة براتب قدره 235 دينارا .. وبعد قرابة شهرين توفى رئيس الديوان فجأة , وأعقبه رئيس جديد رأى أن يتقرب إلى الموظفين فسأل عن الدرجات الخالية , ولما علم أن موظفين فنيين على الدرجة الخامسة استنكر ذلك قائلا : لا ينبغى أن يكون مراجعا على الوزارت والمؤسسات على الدرجة الخامسة .. وجرت حركة ترقيات ظفرت بموجبها بالدرجة الرابعة وارتفع راتبى إلى 195 دينارا .. ضعف ما كنت آمله من وزارة العدل , وثلاثة أضعاف راتب التربية , وأدركت بذلك موظفين سبقونى إلى الديوان بعشر سنين .

وألحق أولادى الإرشاد الإسلامى التى أعفتهم فى أول سنة من نصف المصروفات إكراما لى , ومن النصف الباقى بسبب تفوقهم فى مسابقة القرآن الكريم التى تجريها المدرسة سنويا , وكان أولادى جميعهم بحمد الله الأوائل فى مسابقة القرآن حتى آخر عهدهم بالدراسة الثانوية هناك .. وبقيت فى الكويت إلى الغزو .. وقد حصلت على الدرجة الأولى أعلى درجة فى السلم الوظيفى , وأفاء الله على من خيره وبره ما لو بقيت ساجدا ما بقى من عمرى , وما وفيت ربى حقه .. فبعد أن بلغت السن القانونية فى 31- 3- 1988 مد الديوان خدمتى ثلاثلا سنوات قطعها غزو الكويت فى 2-8-1990 .

وقد تخرج أولادى الستة ما بين طبيب وصيدلى ومهندس .. ولله الحمد والمنة .

بقيت طريفة أسوقها .. جلست مع قريب لى كان كثيرا ما يبكتنى لولوجى هذا السبيل وقد عرف ما ساقه الله إلى وإلى كثير ممن يعرفهم من خير وفير فانطلق بهذا الموال :

رضوان وجد ناس فى الجنة وراودهم ...

دخلتم منين ؟ دانا الأبواب راددهم ...

قالوا : احنا ربنا راضى عنا , وفاتح لنا أبواب غير اللى أنت راددهم ...

وصدق الله العظيم " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا " الاسراء : 100 .

وأعود لأذكر بهاتيك الآيات التى اعتصمت بها فى بحر المحنة :

" وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " الفرقان : 20

" وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " الأنعام : 53 .

" ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منك والصابرين ونبلوا أخباركم " محمد : 31 .

ثم , فهل تحقق وعد الله معنا ؟ ... أترك الجواب للقارىء العزيز .. أما أنا فأقول بملء الفم .. نعم , أنجز الله وعده " وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون" الروم : 6 .

هو أنا الرازق ؟ .. دانا عبد الرازق .

" من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له , وإن نبى الله داود – عليه السلام – كان يأكل من عمل يده "

فى قرية من قرى محافظة دمياط كان الأخ إبراهيم .. يشتغل بحرفة الصيد , كل ما يملكه من حطام هذه الدنيا شبكة , يحملها على عاتقه مع شروق الشمس , وينطلق إلى البحر وراءه عنزة له مع صغارها , يتركها ترعى وينصرف هو إلى هوايته , ثم يعود آخر النهار مزودا بالرزق الحلال , وتروح العنزة وصغارها بطانا وقد غدت فى الصباح خماصا .

رزق يوم بيوم .. لا يشغل باله برزق الغد .. ولسان حاله يقول :

ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التى أنت فيها

ذهبت القوة لاعتقاله – وكان ذلك فى شهر سبتمبر 1965 – وكدأبهم دائما ذكروا له أنه مطلوب خمس دقائق لسوؤاله فى المركز , ولكن الأخ حذر زوجته من الإنخداع بمعسول كلامهم قائلا لها : لا تصدقى هذا الكلام .. إذا تأخرت بيعى المعزة وأولادها واتسوقى للأولاد أى حاجة وربنا يعينك .. ويخرج معهم ليعود بعد خمس سنوات وعدة أشهر .. يعنى دقيقة المباحث بسنة وأكثر ..

وفى المعتقل كان الإخوان الذين يعرفون ظروف الأخ ابراهيم كثيرا ما يروحون عنه : شد حيلك يا عم غبراهيم .. الله يكون فى عونك .. فكان الأخ إبراهيم يتبرم بما يقولون ويجيبهم : أنتم بتعزونى يا جماعة ؟ .. هو أنا الرزاق .. بهذاالمنطق البسيط والعميق كان يرد على إخوانه .

ودارت الأيام دورتها , وحلت بمصر هزيمة 5 يونية الساحقة , وسمح للأهالى بعدها بالزيارات .. وجاءت زوجة الأخ إبراهيم وأولاده لزيارته .. يحملون له من أطايب الطعام ما لم يكن يحلم به فى سنوات مضت , والأولاد وقد بدا عليهم العز الذى لم يروه فى وجوه أبيهم .. وراحت زوجته تطمئنه أنها نفذت وصيته وانطلقت إلى السوق تاجرة فى الجبن والزبد , وما أن علم أهل الخير بأمرها حتى تزاحموا عليها بالمناكب .. كل يريد أن يكون له قصب السبق فى مساعدتها بطريق الشراء منها , ووجدت نفسها عاجزة عن تلبية رغبات الجميع فرتبت لكل واحد دوره حسب أسبقية الحجز .

وأفاض الله الرزاق عليها وعلى أولادها وعلى غبراهيم من خيره وبره إضعاف ما كان يأتيهم على يد (عبد الرزاق ) وصارت بين الإخوان مثلا " هو أنا الرزاق ؟ .. دانا عبد الرزاق " .

"فخرج على قومه فى زينته .. "

أفرج عنى فى فبراير 1956 بعد عشرين شهرا قضيتها فى ظلام السجن الحربى اللعين .. زيد عليها أسبوع فى معتقل القلعة تلقينا خلالها محاضرات عن الثورة وإنجازاتها المذهلة ومشاريعها العملاقة .. وخرجت إلى المجتمع أتلطف أشبه ما أكون بفتى أصحاب الكهف الذى انطلق ليأتيهم بالطعام , وهو خائف يترقب , فإذا كل شىء قد تغير , وغذا بالناس ليسوا هم الناس , وإذا بعبد الناصر وقدج تخلص من أخطر منافسيه قد استتب له الأمر , وتربع على عرش مصر , ولسان حاله يقول ما قاله جده الأعلى فرعون " يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى " القصص : 38 .

ووجدتنى وحيدا .. لا أنيس ولا جليس .. وقد تفرق الجمع المبارك .. وخلت الساحة من الشباب الطاهر من رفاق الدرب .. وأضحوا بين شهيد ومعتقل وسجين .. ومنهم من آثر العافية , و ركن إلى آلامه , وانكفأ على نفسه , يلعق جراحه , ويلملم ما تشتت من أمره .. تلقاه فيعرض عنك , وكأن لم تكن بينك وبينه مودة , وكأن لم يجمعكما المبدأ أعواما طويلة ولسان حاله يقول :

أنست بوحدتى ولزمت بيتى
فطاب الأنس لى وصفا السرور
وأدبنى الزمان فلا أبالى
بأنى لا أزار ولا أزور
ولست بسائل إن عشت يوما
أسار الجند أم ركب الأمير

فأترحم على أيام خلت , وليال أدبرت , عشناها فى رحاب الحب فى الله والأخوة فيه , وكان أحدنا لا يطيق مفارقة هؤلاء الصحب , ويحس مع فراقهم باختناق , فكأننا جسد واحد , إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .

كنت تخرج إلى الشارع فترى على كل ناصية جمعا من هؤلاء الشباب , فتأنس بهم وسأنسون بك , وتذهب لصلاة الجمعة فى مسجد القوادرية أو مسجد قبة الفداوية , حيث يلتقى الشباب بعد الصلاة فى الحديقة المجاورة , يتجاذبون أطراف الحديث , ثم تفارقهم وقدج تزودت بزاد طيب تحس معه بأنك جزء من كيان حى .. والآن وقد انفض الجمع , وتمزق الشمل , وعيون الرقباء ترصدك وتحصى عليك أنفاسك .. فماذا أنت فاعل ؟ ..

لقد كانت محنة من لون آخر .. خرجت من سجن محدود إلى سجن ليست له حدود .. فقد تحولت مصر كلها سجنا يهدد كل حر يعيش على أرضها .. صورة الشاعر الموهوب والداعية الثبت د . القرضاوى فى نونيته :

قل للذى جعل الكنانة كلها
سجنا وبات الشعب شر سجين
يا أيها المغرور فى سلطانه
أمن النضار خلقت أم من طين ؟
يا من أسأت لكل من قد أحسنوا
لك دائنين فكنت شر مدين
يا ذئب غدر نصبوه راعيا
والذئب ساعة بأمين
يا من زرعت الشر لن تجنى سو
شر وحقد فى الصدور دفين
سيزول حكمك يا ظلوم كما انقضت
دول أولات عساكر وحصون
ستهب عاصفة تدك بناءه
دكا .. وركن الظلم غير ركين

خرجت ذات ليلة أسرى عن نفسى بعض ما أجد من مرارة الوحدة , فلقيت ما هو أشد هولا : الزينات تملأ الشوارع , والأنوار تخطف الأبصار , والأعلام ترفرف هنا وهناك , والهتافات بحياة القائد الملهم تشق عنان السماء, وقد عاد توا بعد أن رفع العلم المصرى على قرية شالوفة إيذانا بجلاء آخر جندى بريطانى عن أرض مصر .. رأيتنى فى واد , والناس كلهم فى واد .. لقد حل بى من اليأس ما حل , وتواردت الأفكار السوداء على خاطرى ورحت أسائل نفسى : هل كنا يا ترى على حق فى مواجهة زمرة الإنقلاب ؟ .. أم أننا ضللنا الطريق ؟ .. هؤلاء الأطهار الذين نكل بهم وقد عاشرت الكثيرين منهم فوجدتهم أقرب شبه بالملائكة .. هؤلاء الرجال الذين علقوا على أعواد المشانق وغيرهم ممن دسوا فى التراب وكانوا منارات على الطريق .. هل راحت دماؤهم هدرا ؟ .. وما هذه البيعة التى بايعنا الله فيها على أن نعمل لنصرة شريعته وإعزاز دينه .. ما مصيرها ؟ .. وعشرات الأسئلة تواردت إلى ذهنى , ولا أجد من يجيبنى عنها , والقيادة كلها وراء القضبان .. وأظلمت الدنيا فى عينى .. وكانت فتنة فى الدين لولا نفحة من نور الوحى الذى وكأنه هبط على بالجواب الحاسم الجازم , يلقيه فى روعى ملك كريم من قصة قارون , فرحت أديرها فى ذهنى وأكررها وأتذوق حلاوتها .

" إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مافتحه لتنوء بالعصبة أولوا القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين , وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين , قال إنما أوتيته على علم عندى أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون , فخرج على قومه فى زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم , وقال الذين أتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون , فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين , وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون , تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " القصص : 76-83 .

فانجابت عن نفسى غاشية ثقيلة من الهم كادت تقتلنى , ولا زلت أعيش فى أنوار هذه الآيات الكريمة .

"قتل أصحاب الأخدود "

فى أعقاب حادث المنشية المزعوم , وفى نفس الليلة انطلقت أجهزة الأمن والمخابرات الحربية والفرق الخاصة فى كل أنحاء مصر , تعتقل كل من يظن أنه على أدنى صلة بالجماعة فى حملة محمومة لم تشهد لها البلاد مثيلا فى أحلك أيام الاحتلال البريطانى .

وفى ساعات قليلة غصت السجون بآلاف الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالحادث من قريب أو بعيد , وخصص السجن الحربى اللعين لاستقبال قادة الجماعة ومن يلونهم من رجال الصف الأول , فضلا عن أعداد غفيرة حشرت بصورة عشوائية حيث صب العذاب على الجميع بلا هوادة ولا رحمة , وأضحت ساحة السجن غابة لا سلطان فيها إلا للظفر والناب عبر عنها الشاعر الموهوب الدكتور يوسف القرضاوي فة نونيته المشهورة :

يتلقفون القادمين كأنهم
عثروا على كنز لديك ثمين
بالرجل , بالكرباج , باليد , بالعصا
وبكل أسلوب أخس مهين
لا يقدرون مفكرا ولو أنه
فى عقل سقراط وأفلاطون
لا يعبأون بصالح ولو أنه
فى زهد عيسى أو تقى هارون
لا يرحمون الشيخ وهو محطم
والظهر منه تراه كالعرجون
لا يشفقون على المريض وطالما
زادوا عليه بقسوة وجنود

وهناك وزع المعتقلون إلى سرايا , ينخرط الجميع فى طابور ذنب ( تكدير ) من الصباح إلى المساء عدا فترة قصيرة للغذاء .. وخص الأستاذ الهضيبي رحمه الله بالنصيب الأوفر من الأذى , فأجبر على ارتداء أفرول أزرق من المخصص لعتاة المجرمين , وصادروا مع ذلك نظارته الطبية دون مراعاة لسنه أو وضعه الاجتماعى كمستشار له مكانته واعتباره .

وما أصدق ما وصف به الشيخ الغزالى ذلك الطاغية حين قال : " لقد قضى على رجولة الرجال بالحديد والنار " .. ولكن رجالا وشبابا استعلوا على المحنة وصمدوا لأهوالها وشدائدها عبر عنها الدكتور يوسف القرضاوي فى خطابه للطاغية :

بليت سياطك والعزائم لم تزل
منا كحد الصارم المسنون
إنا لعمرى إن صمتنا برهة
فالنار فى البركان ذات كمون
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى
أبدا وفى التاريخ بر يمين
ضع فى يدى القيد ألهب أضلعى
بالسوط ضع عنقى على السكين
لن تستطيع حصار فكرى ساعة
أو نزع إيمانى ونور يقينى
النور فى قلبى , وقلبى فى يدى
ربى , وربى حافظى ومعينى
سأظل معتصما بحبل عقيدتى
وأموت مبتسما ليحيا دينى

نعود إلى مأساة الطابور : تصطف السرايا ويتبع كل سرية فرقة من الجند وبأيديهم السياط والعصى الغليظة , يلهبون بها ظهور الأحرار ووجوههم فيخر كبار السن والمرضى تحت الأقدام ولا من يرحم .. ثم يؤتى بفريق من كبار الضباط ليشهدوا المأساة , ولا يكاد الجنود يرونهم حتى يتباروا فى الأذى ليظفروا بالترقية ( شريط ) وعلاوة إجرام قيا إنها 60 قرشا فى الشهر .

وبلغ الإرهاق بالمؤمنين غايته وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر , وإذا بأحد الإخوان مذكرا بسورة " البروج " فإذا بآياتها المعبرة تسرى بين الصفوف فتنساب أنوارها بين الضلوع تثبت المؤمنين وتشد أزرهم وتشوقهم إلى الجنة فى نشيد عذب مريح :

" قتل أصحاب اللأخدود , النار ذات الوقود , إذ هم عليها قعود , وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود , وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد , الذى له ملك السموات والأرض والله على كل شىء شهيد " ..

وتسرتسل الايات " إن بطش ربك لشديد , إنه هو يبدىء ويعيد , وهو الغفور الودود , ذو العرش المجيد , فعال لما يريد , هل أتاك حديث الجنود , فرعون وثمود , بل الذين كفروا فى تكذيب والله من ورائهم محيط .. " إلى آخر السورة .

وكأن جبريل الأمين نزل بها لتوه يعزى المؤمنين ويشد أزرهم ..

وهبت رياح الجنة ونسمات الفردوس الأعلى تهفهف على جراح المؤمنين وتحيلها بردا وسلاما وأمنا واطمئنانا , وأدركوا بيقين معية الله لهم , وحدبه عليهم , وأن عينه ساهرة لا تغفل عما يعمل الظالمون .. فهانت على المؤمنين الصعاب , وأهل الباطل لا يدرون أن الله مع المؤمنين , وأنه لا يحب الظالمين , ولا يهدى الخائنين .

يوم مشهود

يتجلى فيه جلال الوحى الإلهى .

فى إحدى ليالى الصيف نفد الماء من إحدى الزنازين , فقرع نزلاؤها باب الزنزانة يطلبون من الماء ما يروى ظمأهم , وما هى إلا أن سيقوا فى الليل إلى فناء السجن ونكل بهم شر تنكيل , وبتنا شر ليلة ونحن لا نعلم حقيقة ما وقع إلا فى الصباح , واستطاع بعض الاخوة الذين برعوا فى ترويض الجلادين أن يقنعوا الباشجاويش أمين الذى كان يعد نفسه وكأنه أحد صانعى انقلاب 23 يوليو – استطاعوا أن يقنعوه بفكرة حشد الإخوان فى فناء السجن الكبير بعد العصر يستمعون إلى شىء من القرآن تطيب به نفوسهم وقد كان .

احتشد الإخوان وتبارى القراء فى تلاوة مختارات من كتاب الله تناسب المقام , قتلا أحدهم قوله تعالى : " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " إلى قوله سبحانه " فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين " آل عمران : 137-148 .

وتبعه آخر فتلا من قوله تعالى : " وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا " إلى قوله عز وجل " تحيتهم فيعا سلام " إبراهيم 12-23 .

ثم قام الأستاذ محمد فريد عبد الخالق – مد الله فى عمره – وهو من الرعيل الأول وصهر الأخ صلاح شادي رحمه الله وذكرنا بسنة الله فى الابتلاء إلى أن قال : إنكم تتربون الآن فى هذا المكان كما تربى موسى عليه السلام فى حجر فرعون لأمر عظيم يهيئكم الله له .

وهنا حان وقت أذان المغرب , فارتفع صوت المؤذن يشق الفضاء " الله أكبر .. الله أكبر " وكأننا وسط هذا الجو الغامر بجلال الوحى نسمع الأذان لأول مرة .. وأم الجمع الشيخ يوسف القرضاوي فقرأ من قوله تعالى :

]]" لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ؟؟ " إلى آخر السورة آل عمران : 186 : 200 .]]

واستحالت الغابة التى طالما شهدت ألوان العذاب وصنوف البلاء إلى محراب كبير , وإن شئت قلت إلى جنة فيحاء تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة وتتنزل السكينة وتجلى الله على أوليائه ونصراء دعوته بنظرة الرضا والقبول يباهى بهم ملائكته المكرمين .

حركت هذه الآيات كوامن الشجن , ورأيت الإخوان وأعينهم تفيض من الدمع من جلال ما سمعوا .. نزلت الآيات على قلوبهم غضة ندية , وكأن جبريل الأمين يخصهم بها يحمل إليهم من ربهم أجمل العزاء الذى يتجلى فى كل آية بل فى كل كلمة وبالأخص قوله تعالى :

" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران : 139 . " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " آل عمران : 143 ( الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا )

" وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا " إبراهيم : 12 .

" فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين , ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامى وخاف وعيد , واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " إبراهيم : 13-14 .

" لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " آل عمران : 186 .

" فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى .. " آل عمران : 195 .

" فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب " آل عمران 195 .

" لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد , متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران : 196- 197 .

لقد سمعنا القرآن غضا طريا كأول ما نزل به الوحى , فكانت أصوات القراء تدور فى النفس كأنها بعض السر الذى يدور فى نظام العالم , وكانت القلوب وهى تتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه .. واهتز المكان كأنما تجلى المتكلم سبحانه وتعالى فى كلامه وبدت النجوم كأنها واقفة تستأذن ربها أن تضىء من هذا النور .. وكنا نسمع القرآن وكأنما محيت الدنيا التى فى الخارج من هذا السجن الذى استحال محرابا فسيحا وبطل باطلها فلم يبق على وجه الأرض إلا هذه النخبة الطاهرة التى وكأنها هى التى عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تزال طائفة من أمتى قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون "

وكأنما محيت أرض السجن اللعين لتحل محلها قطعة من الفردوس الأعلى وصارت المحنة منحة .. والبلاء منة .. وعاد الإخوان إلى مساكنهم والبشر يطفح على وجوههم بما سمعوا فرحين مستبشرين بما آتاهم من فضله " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو الفضل العظيم " آل عمران : 174 .

وليس على القارىء الكريم إلا أن يتناول المصحف ليعيش مع هذه الآيات , ليستشعر رحمة الله بالمؤمنين عند الشدة , فالقرآن خير زاد لمن وعى وتدبر , ولتكن تلاوته وتدبره شغلك الشاغل فى عسرك ويسرك , وسرائك وضرائك لتحظى بالرضا والقبول.

" يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين, قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " يونس : 57-58 .

وأنتم يا شباب الدعوة خذوا زادكم من هذه النور ما استطعتم .

من فقه الكتاب للأستاذ البهي الخولي

حدثنى المرشد الشهيد الستاذ حسن البنا رحمه الله , ان جماعة زاروه وهو منهمك بأمر هام جدا فى غرفة أخرى مع بعض أهله .. فأمر أن تعد لهم القهوة , ومكث حتى شربوها دون أن يخرج إليهم , ثم خرج إليهم وجلس يقدم عذره بأنه لا يستطيع أن يجلس معهم كثيرا لاضطراره إلى استئناف النظر فى أمر هام مع آخرين , فغضبوا – وكانوا من الأصدقاء لا من الإخوان – واعتبروا ذلك إهانة , فقال لهم : نحتكم إلى كتاب الله : لقد أمر الإسلام بالاستئناس , وأنتم لم تستأنسوا , فقد تاخرت عنكم وأخرجت لكم القهوة بدون حضورى , وذلك موجب للإنصراف لدى بصائر المستأنسين ..هذه واحدة أما الأخرى .. فإن الله تعالى يقول : " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم " النور : 28 وأنا لم أقل ارجعوا , بل قدمت القهوة , وجئت أعتذر .. فإذا كنتم تغضبون لما فعلت فكيف يكون غضبكم لو أنى أمرتكم بما هو أزكى لكم فقلت : ارجعوا كما أمر الله عز وجل ؟ ...

قال رضى الله عنه – وكانوا من أهل الفقه – فسروا بذلك كثيرا وانصرفوا شاكرين ...

الفصل الثالث

أنفاس معدودة فى أماكن محدودة

كانت أمنية بعض الضباط أن يتحولوا إلى ضباط مباحث , لما يضمنه ذلك لهم من امتيازات وقرب من الجهات العليا .. وفى سبيل ذلك , كانوا يلجأون إلى كل الطرق التى ترضى رؤسائهم وتبلغهم مرادهم , ولا يكون ذلك إلا من خلال المعتقلين , حيث يبذلون جهدهم لاستمالة بعض هؤلاء من الذين يبدو أنهم ساخطون , فيستغلون فيهم نقطة الضعف هذه لجرهم إلى كتابة تأييد للرئيس والنظام , والتبرؤ من الجماعة .. كنا نسمى هذه العملية ( الزحلوقة ) بمبمعنى أنهم يغرون الأخ بكتابة برقية تأييد للرئيس , ويعدونه بالإفراج , فينخدع بوعدهم ويكتب البرقية , ثم تحدث إفراجات لا تطوله , فيذهب إليهم معاتبا فيقال له : إنك غير جاد فيما تكتب , لأنك لا تزال كما نشاهد على وفاق مع فلان وفلان المتشددين , فيعود وقد عزم على مقاطعة إخوانه هؤلاء , فلا يجالسهم , ولا يؤاكلهم , ولا يصحبهم فى ساعات الفسح كما كان يفعل .. زد على ذلك , أنه عندما يعلم الإخوان أنه كتب يؤيد ويفاصل الجماعة ويعتزل إخوانه , فإن الإخوان بدورهم – ولهم عذرهم – يحترسون منه , فيجد نفسه معزولا , فلا الإخوان مطمئنون إليه ولا إدارة المعتقل راضية عنه .. وهكذا يظلون يلاحقونه حتى يكلفوه بكتابة تقرير عن إخوانه المقيمين معه فى العنبر , بعد أن تكون نفسه قد وهنت , وروحه المعنوية قد هبطت فى الحضيض , لتعلقه بالإفراج من غير ما طائل , وإذا بدا له أن يعود إلى حضن إخوانه صعب عليه الأمر , ولا يسترد مكانته إن استطاع إلا بعد لأى ومشقة .

كان من بين هؤلاء الضباط يوزباشى اسمه ( أحمد سالم ) وكان داهية .. ناعم الملمس .. لسانه يقطر حلاوة .. وتحت أنيابه السم الزعاف .. كان يجيد دوره تماما .. ويظل حتى يستدرج ضحيته .

استدعانى يوما إلى مكتبه بمعتقل طرة , ورحب بى , ودعا لى بفنجان من القهوة , ثم راح يذكرنى بأننا بلديات , فهو من صهرجت الكبرى مركز مين غمر ,وأنا فى المقابل من مركز زفتى , ولا يفصل بلدينا إلا نهر النيل ( فرع دمياط ) وأنه يعرف من بلدنا فلانا وفلانا .. ثم شرع يمارس استدراجه لى فسألنى : هل أنت مبسوط فى المعتقل ؟ .. فكان ردى : هذا طبعا مستحيل , وأنت خبير بالمثل القائل : يغور السجن ولو كان جنينة .. والقرآن الكريم فى وصفه للجنة يقول " جنات عدن مفتحة لهم الأبواب " ص : 50 فلو أغلقت أبوابها لفقدت صفتها ولصارت إلى السجن أقرب .

عاد الداهية المفتون يضرب على الوتر .. أولادك يا أخى محتاجين لك .. قلت له : هل اشتكى لك الأولاد من شىء ؟.. ثم أردفت : هذا أمر لا يهمنى .. وتفكيرى منصرف إلى ما هو أهم : هل أعود إلى بيتى وأولادى ؟ أم أخرج من هنا إلى القبر ؟ .. ثم أكدت ذلك بأن ضربت له مثلا مضمونه أن له فى هذا المكان ( سبت عيش وجرة ماء وقربة نفس ) , لكا يخلصوا أخرج إلى حيث يشاء الله .. وبذلك وعن قصد , أوصدت الباب فى وجهه تماما , وانتهى اللقاء ولم يظفر صاحبنا منى بما كان يبغى ويتمنى .

وهذه الفكرة صحبتنى منذ دلفت إلى المعتقل , فأفادتنى فى كل المواقف .. كان الأهل والأقارب يزوروننى ويطلب أحدهم أن أسطربرقية من بضع كلمات تنقذنى من ظلام السجن , فأتذرع بهذه الفكرة : سأخرج حين ينفذ ما قدر لى من طعام وشراب ونفس , فيئسوا تماما من الإستمرارفى نصائحهم

وشاء الله عز وجل أن يكون هذا الضابط هو المشرف على عملية الإفراج يوم 16 أكتوبر 1971 الذى تقرر فيه الإفراج عنى , وبعد الفراغ من الإجراءات وصرت خارج المعتقل , قفزت إلى ذهنى فكرة تذكيره بالمثل .. فعدت إليه أرجوه أن يأذن لى بالدخول متعللا بأن لى شنطة تركتها فى الداخل – ولم أكن فى الحقيقة فى حاجة إليها لقدمها – فاعتذر لى بشدة قائلا : لا يا أستاذ أحمد هذا طبعا ممنوع , وكان ردى على الفور : طبعا ممنوع لأن ما قدر لى من طعام وشراب ونفس قد نفد , وبعبارة أخرى " ما عدش لى عيش هناك "

فسبحان اللع العظيم " وكل شىء عنده بمقدار " الرعد : 8 .

المنشر وتطبيق الشريعة

فى معتقل طرة , أقام الإخوان منشرا للغسيل , فكان الهواء يحمل الملابس فتختلط ببعضها البعض , فاقترح أحدهم وضع قفص كبير من الجريد فى ركن بين العنابر , أذاعوا على المعتقلين أن من يجد بين ملابسه ملابس ليست له فليس عليه إلا أن يدعها فى القفص .. فكانت فكرة طيبة استراح لها الجميع , فكان الأخ إذا تحسس شيئا من ملابسه فلم يجده يذهب إلى حيث يوجد القفص فيجدها.

وحدث أن مر الأستاذ الهضيبي – رحمه الله – فسأل عن أمر هذا القفص , فشرح له الإخوان الفكرة فاستحسنها كثيرا , وقال معلقا : هذا مثل حى نسوقه إلى هؤلاء الذين يعترضون على تطبيق الشريعة الإسلامية ويرمون أحكامها بالقسوة والغلظة , ونقول : إنه حين يسود الفهم الصحيح للإسلام بمعناه الشامل الذى يتناول شئوت الحياة كلها , ويزداد الناس معرفة بالحلال والحرام , وتهيأ لهم سبل العيش الكريمة , يسود الأمن وتنمحى الجريمة وما وجدت بين الناس عاريا ولا جائعا ولا مغبونا .

وللعلامة الدكتور السنهورى – رحمه الله – كلمة يقدم بها الشريعة فى مقدمة كتاب " العقد فى القانون المدنى" جاء فيها :

شريعة الله , ومصدر إلهامه , نبتت فى صحرائه , وترعرعت فى سهوله ووديانه , فهى قبس من نور الوحى الإلهى , ومشكاة من نور الإسلام يضىء هذا بنور ذاك , ويسرى فى ذلك روح هذا حتى يكونا الشريعة الإسلامية .

هذه الشريعة الغراء , لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها , لكان لنا فى هذا التراث الجليل الخالد ما ينفخ روح الاستقلال فى فقهنا وفى قضائنا وفى تشريعنا , ولأشرفنا نطالع العالم بهذا النور الوهاج الذى سطع لألاؤه يوما فأضاء الخافقين .

الرئيس المؤمن

تولى السادات الحكم بعد رحيل عبد الناصر باعتباره نائبا له , واستهل ولايته بمظاهر خادعة وشعارات براقة يوطد بها سلطانه ويثبت بها شعبيته , فأعلن عن قيام دولة العلم والإيمان وقوامها سيادة القانون وصيانة الحريات , وأطلق عليه حملة المباخر والمنتفعون لقب الرئيس المؤمن ,وانطلق فى خطبه يصدرها بآيات القرآن الكريم , ويعرض بمسلك سلفه , حتى ظن الكثيرون أن عهدا جديدا قد بدأ , وأن الرجل كان بريئا مما اشتهر به سلفه من تسلط واستكبار أودى بالوطن بل بالأمة كلها إلى هزيمة بلقاء مشهورة, ومرغ وجه الأمة فى الوحل والطين , وانخدع بهذه المظاهر مثقفون كبار , وانطلى عليهم هذاالزور ولم ينج من دخانه نفر من المعتقلين الذين استهواهم هذا اللون من التمثيل الرخيص , وانطلقوا وهم خلف الأسوار يدعون إلى تأييد الرئيس المؤمن الذى كان فى نظرهم من الإخوان المقربين من الامام حسن البنا , ولم يكن يقعد به عن مناصرة الدعوة إلا تسلط عبد الناصر وجبروته , وهو الآن وبعد رحيل الطاغية قد استرد هويته , وملك زمام نفسه , وأضحى توجهه الإسلامى حقيقة لا شك فيها , فلا تضيعوا هذه الفرصة والتفوا حول الرجل ليقودكم إلى عز الإسلام ومجده , وقبل أن يستقطبه دعاة السوء .

ولكن رجالا ممن أنار الله بصائرهم وصقلتهم التجارب تصدوا لإحباط هذه الفكرة ووأدها فى مهدها , وذكروا إخوانهم بأمور غابت عنهم فى زحمة الأحداث .. ألي سأنور السادات هو صاحب القلم الذى طالما شهره فى الطعن على الإخوان وسطر به سلسلة مقالات تقطر حقدا وضغنا على المرشد حسن الهضيبي حين كان – أى السادات – رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية عام 1954 عنوانها " الله معنا وليس مع الهضيبي "

ألم يكن أنور السادات عضو اليمين فى محكمة الشعب التى كان يرأسها الجناح جمال سالم والتى حكمت بإعدام المرشد وستة من قيادة الجماعة فى مقدمتهم الشهداء عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت وإخوانهم ؟ ..

ورجحت فى النهاية حجة الفريق الراشد ووئدت الفتنة فى مهدها , وعاد إلى المخدوعين وعيهم ..

وجاءت أحداث سبتمبر 1981 لتكشف خبيئة السادات , وينال الإخوان على يديه من الأذى والعنت ما طارت به الأخبار , وخص الأستاذ عمر التلمساني بالنصيب الأوفر من هذا الإضطهاد .

كنا فى ذلك الوقت على مشارف شهر رمضان المبارك , فتواصى الإخوان فيما بينهم على إحياء هذا الشهر الكريم بتلاوة القرآن ومدارسته والتقرب إلى الله بكل ألوان الطاعات , فذلك هو السبيل الأمثل الذى يرضى به الله عنا ويفرج كرباتنا .

رد اعتبار

المربى الفاضل الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد – رحمه الله – من شيوخ الدعوة السابقين إليها منذ سنيها الأولى , وممن ساهموا فى تربية الجيل الإخوانى الأول وما تبعه من أجيال .. وقد عاصر الصراع بين " الأصيل " متمثلا فى الأديب الفذ مصطفى صادق الرافعى " والمحدث الوافد " وأقطابه طه حسين وعلى عبد الرازق وسلامة موسى وأضرابهم ممن فتنوا بحضارة الغرب وقدسوها وأداروا ظهورهم للإسلام وحضارته بل عاشوا يكيدون له ويشككون فى أصالته وكانوا ألعى صوتا وأعز جانبا وبسط لهم الاستعمار يده وآزرهم حتى ترجمت كتاباتهم إلى العديد من اللغات .

تفتحت عيناه على رموز هذا الصراع حين نزح من قريته من أعمال شبراخيت إلى كلية الآداب طالبا , وهناك وجد ضالته , حيث التقى بالأستاذ البنا وبايعه على العمل لهذه الدعوة , وظل ثابتا على العهد منافحا على مبدئه بقلمه ولسانه لا ينى ولا ينثنى , وقد اعتقل مع الرعيل الأول فى عام 1948 , ثم فى عام 1954 ثم فى عام 1965 , وبعد الإفراج عنه فى عام 1971 رحل إلى السعودية وعمل أستاذا بجامعة أم القرى حتى لقى ربه فى عام 1992 ودفن – رحمه الله – بمكة المكرمة .

وخلال محنة 1965 برزت فكرة التوعية , إذ عمدت إدارة المعتقلات إلى جلب محاضرين رسميين لمحاولة ترشيد الإخوان وتصحيح مفاهيمهم كما زعموا , وامتدت ههذ الفكرة إلى متحدثين من رموزالإخوان المعتقلين يحملونهم حملا على الطعن فى الإخوان والجماعة , فكان منهم من يضطر إلى مجاراة القوم ويذكر أمور تعرض بالجماعة , وفريق كان يطعن عن قناعة بعد أن ضاق ذرعا بالاعتقال , ولم يعد يهمه إلا أن يعود إلى أهله وذويه .

وجاء دور الأستاذ محمد عبد الحميد , وأشفق الإخوان على الرجل أن ينزلق إلى ما انزلق إليه غيره , فينعكس أثر ذلك على الكثيرين الذين يعتبرونه من الرواد الأوائل .

وكانت الصيغة المملاة على المتحدثين أن يبدأو حديثهم بهذه العبارات .

السيد قائد المعتقل ... السيد مندوب المباحث العامة .. زملائى المعتقلين ..

ولكن الرجل وقف أمام الميكروفون بجنان ثابت , واستهل حديثه بالآية الكريمة بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على نبيه الكريم :

" ربنا آتنا من لدنك رحمة وهىء لنا من أمرنا رشدا " الكهف : 10 .

قال له قائد المعتقل : حدثنا عن علاقتك بالإخوان المسلمين .. فقال : أنا انضممت للإخوان سنة 1933 .. وهنا ثارت ضجة من الضباط والمعتقلين مشفوعة بالاستغراب .. ياه , يا عجوز .. ثم أردف يقول : وسبب انضمامى أننى نشأت فى بيت علم وفضل , إذ كان والدى هو الشيخ عبد الحميد أحمد من العلماء , فلما التحقت بالجامعة كان تيار التغريب الذى تبناه الدكتور طه حسين كاسحا والفكرة الإسلامية غائبة تماما .. التقيت بزميلين توسمت فيهما الصلاح , فكنا إذا حان وقت صلاة الظهر , نأوى إلى ركن منعزل بعيدا عن الأعين , مخافة أن نتعرض للهزء والسخرية .. وفكر ثلاثتنا فى تكوين جمعية تدعو الطلاب إلى التمسك بالإسلام , وسمعنا بعالم أزهى اسمه الشيخ طنطاوى جوهرى ممن يهتمون بالفكر الإسلامى وله مؤلفات فيه , فذهبنا إليه وصارحناه برغبتنا , فاعتذر الرجل لقصر باعه فى هذا الأمر وأرشدنا إلى مدرس شاب له خبرة فى هذا المجال .. ذلك هو حسن أفندى البنا .. وزكاه بقوله إنه فى نظرى يحمل قلب على وعقل معاوية , فذهبنا إليه وعرضنا الأمر ووجدناه كما قال الشيخ جوهرى يحمل قلب على وعقل معاوية .. وكان لقاء انتهى بمبايعتنا للرجل على العمل لخدمة الإسلام . وقلت له يومها : أنا معك ما دمت على الحق , فإن زغت عن الحق فأنا مع الحق .

كان لهذه الكلمات المضيئة أثرها الطيب فى نفوس الإخوان الذين اعتادوا أن يسمعوا إلى الطاعنين فى حسن البنا ودعوته , فسرت همهمة .. وكانت مفاجأة للقائمين بأمر التوعية .. فسارع الضابط يقول له : نريد الكلام عن انحرافات الإخوان , بينما تلاميذ الرجل يضعون أيديهم على قلوبهم .. فالرجل رمز من الرموز الشامخة , وتخاذله – لا قدر الله – سيكون له أثره السيىء على نفوس الشباب الذين يعلقون عليه الآمال .

وكاتن الرجل – بتوفيق الله – عند حسن الظن .. انطلق فى حديثه يقول : والله أنا اتخذت فى حياتى مبدأ لا أحيد عنه أبدا وهى أننى إذا مررت بمزبلة ووقع نظرى على زرار لامع لا ألتفت إلى شىء آخر غيره وأقول : ما أجمل هذا الزرار وأبدعه .. وكتب السيرة تحدثنا أن المشركين كانوا يسبون النبى صلى الله عليه وسلم ويقولون " مذمم " بدلا من "محمد"فيقول صلى الله عليه وسلم " ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى شتم قريش ولعنهم ؟ يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد " رواه البخارى .

ويستطرد الشيخ يقول : كان المسيح عليه السلام يسير يوما مع بعض حوارييه فصادفوا عنزا ميتى قد انبعثت رائحتها النتنة فتأففوا .. فقال لهم روح الله وكلمته : انظروا ألا ما أجمل بياض أسنانها .. وهكذا استطاع الرجل بتوفيق الله أن يفلت من الوقوع فى حبائل القوم.

عاد الضابط يقول له : حدثنا عن نشاطك فى الإخوان .

فقال الشيخ : أنا بطبيعتى أنفر من الإداريات .. وقد عهد إلى يوما بالإشراف على قسم الطلاب فاعتذرت لعجزى عن ممارسة مثل هذه الأمور .. كل ما أجيده هو أننى أكتب مقالة أو أؤلف كتابا , وما عدا ذلك فلا ..

وبلباقة حول مجرى الحديث بقوله : أستطيع أن أحدثكم عن ذكرياتى فى العراق حيث كنت معارا لتدريس اللغة العربية ...

لاحظت أن العراقيين يسبقون الامام فى الركوع والسجود والخفض والرفع , وهى أمور تبطل الصلاة , فلما راجعتهم فى ذلك ذكروا أنهم لا يفرقون بين الإمام والمأموم , فالجميع كأنهم يجلسون إلى مائدة واحدة وكل منهم يمد يده متى شاء بلا تكلفة .. هذه واحدة .. أما الثانية , فقد كنت حريصا على أن أتكلم باللغة العربية الفصحى وأحمل طلابى عليها , وكان ناظر المدرسة الإنجليزى يغتاظ لذلك فيقول لى بالإنجليزية ما يعنى تكلم بالإنجليزية فأقول له بدورى يعنى تكلم بالعربية .. فيقول يعنى أنما أتكلم عربى بسيط .. فأقول له يعنى أنا أتكلم إنجليزى بسيط .

وانتهت الليلة وبتنا خير ليلة , فقد رد الرجل المبارك لنا وللدعوة وللجماعة ومؤسسها الأول اعتبارنا .. وراح الإخوان يتيهون عجبا بهذا الموقف ويحمدون اله الذى وفق أستاذهم فلم يقل إلا حقا , ولم ينطق إلا صدقا , ولم يستطع من راودوه عن الإساءة إلى الجماعة ومؤسسها أن ينالوا بغيتهم , وخابت ظنونهم وطاشت سهامهم , وحق عليهم قول ربنا : " وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " الأنبياء : 70 .

وقوله سبحانه " فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين " الصافات : 98 .

ألا رحم الله شيخنا الأستاذ محمد عبد الحميد وأسكنه منازل الأبرار والصالحين .

عود إلى الأستاذ محمد عبد الحميد

شاء الله أن أكون قريبا من الرجل فى محنة 1965 فأفدت من صحبته كثيرا , وتعلمت منه بالقدوة والمعاشرة أكثر مما تعلمت بالدرس والمطالعة .. كان بحرا من العلم لا شاطىء له , فهو يحدث عن الدعوة التى اعتنقها فى فجر شبابه , ويحدثنا عن ألأدب فى شعر إقبال , وقد كان حفيا به يحفظ أكثره ويزجيه لنا غضا طريا فننفعل به كما انفعل هو به , ثم هو يعيش بنا مع حكم ابن عطاء السكندرى , وكثيرا ما كان يترنم بهذه الحكم التى تبث قلوب المستضعفين إذا ادلهمت الخطوب وكشرت المحنة عن أنيابها ويئس الجميع من الظفر بالحرية .. من هذه الحكم التى حفظناها منه :

  • لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح فى الدعاء موجبا ليأسك فإن الله قد ضمن لك الإجابة فيما يختاره هو لك لا فيما تختاره أنت لنفسك , فى الوقت الذى يريد , لا فى الوقت الذى تريد .. فعال لما يريد .
  • إذا كان الله معك فمن عليك ؟.. وإذا كان عليك فمن معك ؟ ..
  • ربما فتح لك باب طاعة وما فتح لك باب القبول , وربما قدر عليك المعصية فكانت سببا فى الوصول .. رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا .

وغير ذلك كثير ...

مع ذكرياته مع الإمام الشهيد

يذكر لنا مواقف من خلال صحبته له :

(1) حوار حول اللحية

كان ذات مرة راكبا الترام عائدا إلى بيته , فحرص أحد الشباب الذين يهزأون بالسنيين والملتحين من الدعاة والوعاظ , أن يكون جلوسه إلى جانب الإمام الشهيد .

وبدأ الشاب فى استئذانه بسؤاله محرجا , ورجا الأستاذ أن يجيبه عن سؤاله معتذرا عن هذا السؤال .

فأجاب الإمام الشهيد مرحبا كل الترحيب بما يسأل الشاب ووعده ألا يكون لسؤاله من أثر فى نفسه غير الرضا والارتياح .

فبدأ الشاب سؤاله بقوله : لماذا أطلقت لحيتك يا أستاذ ؟

فأجاب الأستاذ : اسمح لى أن أقول لك بأن سؤالك ليس فى موضعه , وما كان لن أن تسأل هذا السؤال , وإنما من حقه هذا السؤال هو أنا فأسألك أنت : لماذا حلقت لحيتك يا أخى ؟

وهكذا تحول الأستاذ من موقع المدافع إلى موقف المهاجم .

فعجب الشاب من براعة الأستاذ فى إجابته التى لم يكن يتوقعها من المشايخ والوعاظ , وأجاب الشاب : إنى أحلق لحيتى لأنى أعتبرها قذاره يجب التخلص منها .

فقال الأستاذ : ولماذا لا تحلق بقية شعرك ؟ شعر الرأس والحاجبين والشارب ما دام الشعر فى نظرك قذارة ؟

فأجاب الشاب : لا يا أستاذ ليس كل الشعر فى مستوى واحد فـأنا أحلق كل شعر عانتى وإبطى بحكم الشرع الشريف باعتباره قذارة .

فقال الأستاذ الإمام : الحمد لله إذا فقد اعتبرت لحيتى من نوع شعرالرأس والشارب , وأما لحيتك أنت فقد اعتبرتها من نوع عانتك .

وهكذا كان الجواب البارع صفعة أخرى لهذا الشاب الساخر , ما كان ينتظرها , وشعر بالخزى والخجل وقال : حقا إنك أظرف سنى رأيته فى حياتى .. لقد أردت أن اسخر منك فسخرت أنت منى .

فأجابه الأستاذ قائلا : إن الإسلام قضيته أكبر من اللحى التى تتكلم عنها, وأنتم معشر الشباب لا تفهمون من الإسلام إلا اللحى والصلاة والصيام , ولكن الإسلام رسالة عامة , تتناول الدين والدنيا ونظام الحياة , ومنهاجها الكامل فى كل شئون الحياة .. وتحدث له الأستاذ عن عظمة الإسلام وآفاقه العليا بصورة موجزة .. فأعجب الشاب من هذا التصوير الجديد وسأل الأستاذ : من أين تعلمت هذا الكلام الرائع ؟ .. فقال : من الإخوان المسلمين .. فسأله : أين مقرهم ؟ .. فأجابه عم مقرهم المتواضع فى حى الناصرية قرب ميدان السيدة زينب , ولم يعرف الأستاذ نفسه أنه المرشد العام ليجتذب الشاب لدعوته .

(2) مرشد طيب

حدث أن أحد الإخوان كان فى طبعه حدة وعصبية فكان يثور دائما لأوهى الأسباب, ويسبب بثورته ضيقا فى نفوس الإخوان ويحاول بعضهم أن يقضى على ثورته الجامحة ويهدىء من روعه ما استطاع إلى ذلك سبيلا , وكان الإمام كثيرا ما يتدخل فى ثورة هذا الأخ العصبى فتهدأ نفسه إلى حين ثم يعود بعدها إلى ثورة جديدة .

ولما طفح الكيل وضاق الإخوان واستاذهم ذرعا بهذا الأخ الذى لا يتورع عن إيذاء الإخوان وتجريحهم , انتفض الأستاذ غاضبا , وطلب إليه أن يخرج من دار المركز العام إلى بيته فما كان من الأخ الثائر إلا أن قال للأستاذ : لن أخرج من هذه الدار إنها ليست داركم ولكنها دار الإخوان المسلمين .. فما كان من الأستاذ إلا أن سيطر على غضبه ولم يندفع فى ثورته على هذا الأخ , فأجابه فى ههدوء وسكينة : صدقت فى قولك يا أخى إنها ليست دارى وإنما دار الإخوان ,لكن لا تنس أننى أبو هؤلاء الإخوان جميعا , وإننا جميعا مستاءون من تصرفاتك معنا وثورتك المستمرة علينا وأوعز الأستاذ للإخوان بمقاطعته فقاطعوه ولم يكلموه ولم يردوا عليه , وترك الأستاذ الإمام مكانه فى الغرفة وخرج معه كلهم فى صورة احتجاج ومقاطعة لهذا الأخ , وظل الأخ فى الغرفة وحيدا حزينا يفكر فى موقفه الذى ساقته إليه ثوراته وجمحاته وشطحاته , وظل هكذا وحيدا يفكر فيما جنت يداه على نفسه , وعلى إخوانه وعلى مرشده , واغرورقت عيناه بالدموع , دموع الندم والتوبة ...

وبعد فترة قصيرة من الوقت دخل عليه الأستاذ فوجده على هذه الحال فما رآه الأخ حتى سارع إلى تقبيل يده , والإعتذار إليه وإلى الإخوان الذين أساء إليهم مرارا , فما كان من الأستاذ إلا أن ضمه إليه ضمة الحب والرحمة والاشفاق , وقبله قبلة الأخ الرحيم والمربى الحكيم ,وأقبل عليه الإخوان يصافحون , ويعانقون بعد أن اعتذر إليهم فما كان منه إلا أن استقام أمره , ولم يعد إلى ماكان من جمحات وشطحات , وهكذا استطاع الأستاذ الإمام أن يعالج مشكلة هذا الأخ الجامح , فلم يعالجه بالشدة والغلظة والزجر والثورة , وإنما عالجه باللين والرفق ناهجا فى ذلك نهج النبى الكريم والمربى العظيم صلى الله عليه وسلم الذى يقول " إن الله يحب الرفق فى الأمر كله " رواه البخارى .

(3) الحصان ليس من الإخوان

ومن طرائف الذكريات قصة رحلة الأستاذ الإمام إلى مدينة " بنها " فى زيارة لشعبتها الأولى فى مناسبة ذكرى الإسراء والمعراج , وتحدث الأستاذ فى هذه الذكرى حديثا شرح الصدور وشفى النفوس وأمتع الحاضرين من العامة والخاصة والشباب والشيوخ بما فى الإسراء والمعراج من معجزات ومشاهد ومواقف وتوجيهات , وبعد انتهاء هذه المحاضرة الغراء انصرف المستمعون إلا قليلا منهم ممن أدركوا أن وراء هذه الكلمات دعوة وداعية وليست مجرد كلمات ومواعظ , فاستأجر بعض الإخوان للأستاذ عربة " حنطور " ليركب فيها إلى محطة بنها ليعود إلى القاهرة فى آخر قطار وذلك بعد أن جلس هؤلاء الإخوان القلائل من المستمعين للمحاضرة حول المرشد يسألونه فى كل ما يهمهم من أمر هذه الدعوة التى يحملها إليهم ويبحث عن رجال ينهضون بها فى إيمان الأوس والخزرج , وصدق المهاجرين والأنصار , ويفدونها بأرواحهم وأموالهم , وجلس هؤلاء الإخوان مع الإمام ساعات طوالا ثم انصرف الأستاذ ومعه بعض هؤلاء يودعونه حتى محطة بنها وقد اكتظت العربة بمن فيها من الراكبين حوله فى العربة , وقد رجا الأستاذ إخوانه أن ينصرفوا مشكورين إلى بيوتهم , وعليهم أن يرحموا هذه العربة المكتظة فطمأنه أحد الراكبين بقوله : لا تقلقل يا أستاذ من هذا الازدحام على العربة فإن صاحب العربة وسائقها من الإخوان .

فأجاب الأستاذ المرشد هذا الأخ بقوله : ليكن صاحب العربة من الإخوان ولكن الحصان الذى يجر العربة ليس من الإخوان , فكانت دعابة لطيفة من الإمام رحمه الله أثارت الضحك والسرور والإعجاب فى نفوسهم , وهكذا كان الأستاذ الإمام فى كل مجال رائدا يشارك الإخوان فى جدهم ومزاحهم , وكان فى مزاحه على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا .

العقيدة

ثم يحدثنا عن العقيدة ورجل العقيدة فيقول :

العقيدة الحقة رباط معنوى يربط الرجل بمثل أعلى ..

رباط معقود لا تحله أزمة مادية ولا اضطهاد بشرى..

لأنها عقيدة روح بحقيقة من الحقائق العليا , وعقد مكتوب بدم القلب وأشعة بين الرجل وفكرته.

والعقيدة عقيدتان : عقيدة تخلقها الظروف المادية والمطامع البشرية تشتعل بين يوم وليلة اشتعال النار فى هشيم الحطب والأعشاب , تملأ الدنيا دخانا وشرارا حتى إذا دهمتها عواصف الإرهاب ومستها رياح الشدائد استحالت فى يوم وليلة إلى هشيم خامد ورماد طائر . فلا تحرق إلا نفسها ولا تضىء إلا بدخانها , ومثلها كالثلج يذوب فى الشمس ولا يثبت على طوارىء الجو فهذه هىالعقيدة المادية .. عقيدة طلاب الدنيا وأصحاب المطامع والشهوات إنها تعمل عمل المادة وتفنى فناء المادة .

وعقيدة تخلقها الحقائق الكونية وتقيمها الغابات العلوية والمصالح الإجتماعية وتنبثق من ينابيع النفس تتقد فى تربية جيلها روحا وفكرا اتقاد القبس السماوى وتضطرم اضطرام الجذووة القدسية وتشع إشعاع البلور الجميل وتتوهج توهج الشمس تمدها السماء بحرارتها وتزودها القدرة العليا بنورها فتغذوها , وتأتى رياح الفتن والشدائد فلا تفنيها وتجلوها العواصف العاتية ولا تذروها , ومثلها كمثل الذهب الأصيل لا يصدأ أبدا ولا تزيده النيران إلا جلاء وبهاء , وتلك عقيدة المثل الأعلى وجنود الحقيقة الكبرى ورجال العقائد الخالدة .

ومن التجاوز أن نعتبر الأفكار المادية التى يهتف بها رجال السياسة والإقتصاد عقائد مهاما تشابهت فى مظاهرها وسماتها .

فالعقيدة تنبع من الروح وتشع من القلب وتتصل بأسباب السماء ولذلك يكتب لها الخلود كما كتب للعقائد التى جاء بها الرسل والأنبياء من أولى العزم ولم يكتب الخلود للنظريات والآراء الاجتماعية التى جاء بها الفلاسفة والعلماء ورجال السياسة .

ورجل العقيدة روح عبقرى قبل أن يكون عقلا ألمعيا , ورجل عام ولا يعيش لنفسه بل يعيش للحق ويموت فى سبيل الحق وحده .

ولا بد لرجل العقيدة من نظريتين فى عقيدته . إنه إزائها خادم أمين وهو بها ملك رفيع .

رجل العقيدة جندى عامل لا فيلسوف مجادل .

وكتيبة حية لا كتاب خامد ومكافح فى معركة لا مفاوض على مائدة .

لا يراوغ كالثعلب ولا يلين كالثعبان ولا يختال كالطاووس .

ولا يتلون كالحرباء ولا يلعب كالقردة ولا يساوم كالملائكة .

يعيش فى الدنيا ولا تعيش فيه ويأكل منها ولا تأكل منه .

إن العقيدة لمقاييس تسمو على مقاييس الزمن والمادة .

السعادة فى نظر العقيدة ليس فى أن يطلبها أهلها ولكن فى أن يبذلونها للناس , ولحمة العقيدة ليست اللحم والدم ولكن هى النفس والروح , ووطن العقيدة لا تحده الجبال والبحار والسهول والوديان ويتجاوز الأيام والعصور ويرتفع عن عالم الأرض إلى عالم السماء .

والعقيدة طبيعة لا علم , وشعور لا فلسفة , وخلق قبل أن تكون رأيا , ولا عجب فإن القلب هو القبس السماوى الذى يشع الدوافع العليا , دوافع الحق , والحق بين مظاهر النفس الإنسانية .

وما العقل إلا مظهر التفكير المحدود وهو لا يكفى وحده لإدراك الحقائق العليا , وإن اقتنع بها فى حدوده اقتناعا عميقا .

والعقيدة أقوى رباط بين الرجل وغايته وبينه وبين من آمنوا معه . لا رابطة أقوى من العقيدة ولا عقيدة أقوى من الإسلام .

الإسلام عقيدة العقائد :

جمع الإسلام خلاصة الأديان كلها جميعا ويمكننا تلخيص طبيعة الإسلام وغايته فى كلمتين : توحيد ووحدة وإيمان وإصلاح .

وما أعظم كلمة الرسول عليه الصلاة والسلام فى هذا المعنى حين سأله أعرابى : قل لى فى الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك , فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : قل آمنت بالله ثم استقم " .

جاء الإسلام الحنيف نظاما كاملا ينظم ملكات الفرد وحياة الأسرة وطبقات الأمة ومقومات الدولة وعوامل الوحدة وسياسة العالم .

ثم هو يرد ذلك كله إلى قواعد نفسية حكيمة تمتزج فيها المثالية السامية بالواقعية التى تتصل بدنيا البشر اتصالا وثيقا حتى إنه ليحول كثيرا من هذه القواعد النظرية إلى أعمال يومية تتكرر كل يوم فى غير حرج أو إرهاق بل فى يسر " وما جعل عليكم فى الدين من حرج " الحج : 78 .

والإسلام يقيم دولة مثالية متينة البنيان رفيعة الجنبات .

والدولة الإسلامية أشبه ما تكون يالقلعة الشامخة تقوم على أساس قويم وجدران أربعة وأسقف وسور .

فأما الأساس القويم فهو معرفة الله وتوحيده , وأما الجدران الأربعة فهى العبادة وأهمها الصلاة معراج المسلم إلى الله , وهى بحق عماد الإسلام الأول , بها يصل الإنسان إلى ربه ويقف بين يديه ويناجيه وهى رحلة روحية تبدأ بالتكبير وتنتهى بالتسليم .

والعبادة هى سر الخلق وغاية وجوده " وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون " الذارايات : 56 .

والعلم وقد مجده الإسلام وحض عليه بل حرض عليه تحريضا , وعلى أساسه يتفاضل الناس ويتمايزون , ويكفى أنه بالعلم تنال الدنيا والآخرة كما أثر عن الشافعى : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم , ومن أرادهما معا فعليه بالعلم .

والأخوة هى الرابطة القوية التى تربط بين مجموعة المؤمنين وتعصمهم من الإنحلال وتؤلف بين قلوبهم وتجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا " إنما المؤمنون إخوة " .

والتشريع وهى القواعد التى تلتزمها الأمة وتيسر على منهاجها , وهو الذى يحفظ للأمة كيانها , ويحدد لها وجهتها ويقيمها على الطريقة .

أما السقف الذى يمسك هذه الجدران الأربعة ويقويها فهو الحكم وهو القوة المنفذة واليد الموجهة وفى الأثر " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " وفى الحديث " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة " . ومما يئثر عن الحسن البصرى : لو كانت لى دعوة مستجابة لكانت للسلطان فإن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا .

وأما السور الذى يحمى هذه القلعة المنيعة فهو الجهاد , الحارس الأمين لقلعة الإسلام .

" كتب عليكم القتال وهو كره لكم " البقرة : 216 .

" وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج " لحج : 78 .

وقد حارب المستعمرون الإسلام ركنا ركنا ودعامة دعامة , حاربوا العبادة بدور اللهو والشهوات , وحاربوا العلم بإفساد مناهج التعليم والإهتمام بالقشور دون اللباب . وحاربوا الأخوة بالأحزاب السياسية , وحاربوا التشريع الإسلامى بالقوانين الوضعية .

وهكذا حورب الإسلام حتى لم يبق فيه إلا أشباح فى المساجد, وظل فى العواطف وكلمات على الأفواه والحناجر وتضاءل الإسلام فى نظر المسلمين السذج فأقصوه عن السياسة والقوة والتشريع , بل وجد من المسلمين العلماء من يؤلف فى الدعوة إلى نقض الجوانب الإجتماعية فى الإسلام , وهكذا حروب الإسلام فى الداخل والخارج .

وكما انتصر الإسلام على أبى جهل وأبى بن خلف فى مستهل الدعوة فسينتصر على جبابرة أعدائه ومطاياهم من المنافقين فى الداخل , وسيعود الإسلام غريبا كما بدأ , فطوبى للغرباء كما بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم والغرباء هم رجال العقائد فى كل عصر وجيل وهم الحقيقة التى تحاصر أهل الضلال والأوهام , والضوء الذى يبدد جيوش الظلام . " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الأنعام : 90 .

خصائص رجل العقيدة :

الإيمان هو العقيدة الثابتة التى تسيطر على الوجدان والفكرة الراسخة التى تخضع الأعمال والآمال وتوجه سلوك الإنسان إلى محرابه الأكبر .

والإيمان بالله هو النبع الفياض لكل الفضائل الفردية والاجتماعية .

وفى الإسلام إيمان بالغاية وإيمان بالقيادة يتجلى ذلك فى شعار الإسلام الأكبر وكلمة التوحيد العظمى لا إله إلا الله محمد رسول الله .

والتوحيد فى الإسلام هو مصدر الحرية الفردية الاجتماعية فالرجل الذى يؤمن بالله وحده الذى لا يملك ناصية الخلق والأمر يسلم نفسه لله خالقه , ويتحرر من نزعات الشيطان وتلك هى الحرية النفسية للفرد .

والأمة التى تؤمن بهذه الحقيقة لا تخضع لجبار عنيد , ولا تذل للنار والحديد , لأن لها من قوة الإيمان نارا تصهر الحديد وماء يطفىء النيران .

وتلك هى الحرية الإجتماعية للأمة .

فرجل العقيدة يتمثل الله سبحانه وتعالى فى حركاته وسكناته وأعماله وأقواله , وهو مؤمن بربه ونصره , مؤمن بنفسه , صادق فى إحساسه وضميره , صادق فى قوله , صادق فى جهاده , يشق طريقه فى الحياة غير هياب ولا وجل , لا تزيده الأحداث والمحن إلا قوة وثقة فى الله .. قوى الروح والجسم .. لا تزعزعه النكبات ولا تزلزله النوائب .

لا يخاف الموت , بل يرى الموت فى سبيل عقيدته عين البقاء , شعاره : إن سجنى خلوة , ونفيى سياحة , قتلى شهادة .

ولم يكن الأستاذ محمد عبد الحميد وحده كلفا بالدعوة شغوفا بها مضحيا فى سبيلها بل كانت زوجته الفاضلة – رحمها الله – تبعث إليه فى سجنه بشعرها الرقراق تشد به أزره وتقوى من عزمه وتحيى رفاق دربه :

يا صحبة النور المضىء تحية
من كل قلب مؤمن نورانى
طوبى لكم مرحى بكم
قدمتمو أرواحكم قربانى
النار فى قلبى لأجل فراقكم
والجلد والتعذيب هم ثان
والنور يخبو والحقيقة تختفى
والبغى يحكم والبرىء يعانى
الزوج والابن الوفى ونخبة
من خير الأخوات والإخوان
وأخى الشقيق وإخوة الروح الألى
أقديهمو بالقلب والوجدان
وهبوا الإله نفوسهم وحياتهم
والجسم والأعضاء شىء فان
حملوا الرسالة طائعين لأنهم
لا يؤمنون بعابد الأوثان
م ذنب آلاف البيوت تشردت
وانقض فيها السقف مع جدران
وتحطمت نفس الشيوخ وأزهقت
وتشرد الأطفال كالولدان
والأمهات الثاكلات وقد جرى
بالخد أخدود كذا العينان
من قسوة الأيام الذى
ساقته أيدى الظلم للإنسان
حتى الحوامل ما سلمن من الأذى
ويد الطغاة وصرخة السجان
أحقيقة كان السلاح مخبأ
أو فرية سيقت إلى الإخوان
فتحارب الإسلام فى وكرالعدا
وتخونه بالزرو والبهتان
خروشوف جذلان وجونسون شامت
ديجول يرقص رقصة النشوان
يا خيبة الإسلام فيمن ينتمى
ظلما له ولهدمه متفان
أحسبتهم المولى بعيدا عنكمو
لا والذى قد جاء فى القرآن
الحق يعلو والحقيقة تنجلى
لو طال ليل الظلم والبهتان
ستدور دائرة العقاب عليكمو
والناس تلعنكم بكل لسان
والله يخذلكم ويصعق جمعكم
يوم الوقوف إليه تختصمان
يا ويحكم مما جنيتم فاعلموا
أنا حماة الدين والقرآن
والله غايتنا ودولة مجدنا
بالحق والإسلام والإيمان
فانصر إلهى كل عبد مخلص
نصرا يحطم قوة الصلبان
نجيت إبراهيم من لفح اللظى
وحفظته من شدة النيران
أخرجت يونس من ظلام مطبق
نج الشباب المتفان
أكرمت يعقوب بعودة يوسف
فاشف القوب بعودة الإخوان
وارحم إلهى كل قلب خافق
واهد لخير بر أمان
برح الهم بقلبى واستحالت عبراتى
وسئمت الناس حولى وحياتى
وادلهم الخطب حتى أننى
أصبح النور بعينى ظلمات
قد وضعنا فى حصار ضيق
وكأنا قد فعلنا المنكرات
كيف هذا ولماذا ويحكم
ألكوننا أخوات مسلمات
كلمة الحق شعار بيننا
بينما الزرو شعارللطغاة
وكتاب الله نور باهر
ورسول الله خير القدوات
قد زعمتم أن فيكم ثورة
فظلمتم وبطشتم بالتقاة
وارتكبتم ما حسبتم أنه
يشفى أحقادا بكم مستحكمات
لا تناموا يا ذئابا سلطت
ووحوشا وكلابا مسعرات
فلكم يوم طويل مفزع
وعريض مثل عرض السموات
إن ربى يهزم الظلم فلا
تستهينوا باللظى والجمرات
لا تزغ ربى قوبا أرهقت
واغفر اللهم ذنوبا عارضات
فلنا بالصبر أجر وافر
فى جنان الخلد أجر المحسنات
يا خير من كانت التقوى عقديتهم
وخير من قدموا للدين من صور
يا أيها الاخوة الأبرار معذرة
عن التخاذل والتقصير والخور
لقد سكتنا عن الظلم المحيط بكم
ويعلم الله ما بالقلب من كدر
فالنفس ملتاعة من أجلكم أبدا
والروح من أعماقها من شر منكدر
والهم جدد أفكارا مشتتة
وليس باليد ما يشفى لظى الصدر
لما الفؤاد اكتوى بالبين واشتعلت
نار الأسى ابدا والظلم ولضرر
تركت نفسى تحلق فوق معقلكم
لتستزيد من الإيمان والصبر
هلا حياة لقلب لا فكاك له
مكبل بقيود الضر والضرر
كم نفثة ذهبت فى الريح ثائرة
إلى متى يا إلهى أننا بشر
يا من تجلت على الأزمات قدرته
ومن أضاء بالشمس والقمر
قد ضاقت النفس بالظلم المحيط بنا
فاجعل لنا مخرجا يا صاحب الأمر
إن الأحبة قد تفرق شملهم
ولكن سهرت من السهادة ليالى
فالسجن يشهد أن فيه نخبة
من خيرة الأعمام والأخوال
دخلوه ظلما جائرا ولأنهم
لا يعبدون سوى الإله العالى
وحال الحول والأبرار أين
فلا أدرى وقد نقبت جهدى
وابحث عنهمو وأدور حولى
وأهتف ويلتى من مستبد
ويا ويح الطغاة وقد تعدوا
على الأحرار سجنا بعد جلد
فكم نالوا ن الإسلام نيلا
وكم ذهبت ضحايا غير عد
شباب طاهر وشيوخ تقوى
وفلذات كريحان وورد
وقد بذلوا النفيس لأجل دين
سماوى به عزى ومجدى
وباعوا النفس والدنيا جميعا
لرب قادر يهدى ويهدى
فصبرا أيها الأحباب صبرا
فذاك قضاؤنا ما عنه معد
فإن الله كاتبه علينا
وإن الأجر عند الله مجدى

الفصل الرابع : (طرائف )

فى دورة المياه

كان قضاء الحاجة أشبه بمعركة تدور رحاها بين إدارة السجن , وهى تملك سلطة الأمر والنهى بلا منازع , وبين معتقلين مقهورين , لا يملكون إلا الإنصياع لهوى أصحاب السلطان ..

يساق أكثر من ألفى معتقل فى الصباح الباكر جماعات إلى دورات المياه لقضاء حاجتهم الضرورية خلال ساعتين .. وبعملية حسابية , تبين أن لكل فرد بضع دقائق , عبر الأخ عمر ( من بلاد النوبة ) ويعمل ساعيا بالإذاعة :

يا للى فى دورة .. يا للى فى دش قدامك بس دقيقة ونص

وينتهى الوقت , فيندفع العساكر إلى إجلاء النزلاء بالسياط والعصى , فيتدافع الجميع فى حركة معاكسة , يخبط بعضهم بعضا , وكثيرا ما يسقط كبار السن والمرضى تحت الأقدام , وربما اختلطت القصارى فلا يمكن تمييز قصرية الشرب من قصرية البول .. ونشرب والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .

أما من ساء حظهم , فلم يتمكنوا من قضاء حاجتهم , فيضطرون إلى قضائها داخل الزنازين فى القصرية .. وللضرورة أحكام ..

وكان الماء الذى ينساب من الحنفيات قليلا جدا ( سرسوب ) وربما كان ذلك مقصودا إمعانا فى تكديرنا أو لحرماننا من الوضوء ثم من الصلاة فى ظنهم .. وأمضينا شهورا لا يعرف الماء طريقه إلى أجسامنا , فكنا نبلل الفوطة بقطرات من الماء ثم ندلك ما يطال من أجسامنا , وليس فى الإمكان أبدع مما كان .. وقد أدت ندرة الماء إلى ظهور حشرة القمل بشكل مخيف حقا , وما كان أحدنا يجد حرجا حينما يمد أحد إخوانه يده إلى أى مكان من جسمه ليلتقط ما شاء له أن يلتقط من هذه الحشرة الملعونة , وكان الإخوان رغم ما هم فيه من بلاء يطلقون نكاتهم اللاذعة ... كان معنا فى الزنزانة الأخ حسن الصغير مدير إدارة الآثار , وكان حاضر البديهة , خفيف الروح , حلو النكتة , يفاجئنا بخلع الجلباب أو الفانلة ثم يهتف فينا : يا لله يا أخ أنت وهو ساعة لقملك .. فيقول العبد لله : حاضر يا مفعوص , ونضحك ملء أشداقنا , رغم ضراوة المنحة , حتى تبدو نواجذنا , وربما لزنا ( جمع لوزة ) .. أيام حلوة .. الله لا يعودها ..

سنوات وسنوات مضت وكأنها أيام , وصارت أحداثها ذكريات ممتعة , نتندر بها ونتفكه , وباء الجلادون بغضب الله وسخطه , فوق ما ينتظرهم من حساب ومساءلة عند الله .. قال تعالى " أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يردإلى ربه فيعذبه عذابا نكرا " الكهف : 87 .. إلا أن يتوبوا .


يخرج النور من وسط الظلام

الماء شحيح .. والاستحمام أمنية عزيزة المنال .. وأسراب القمل تتبارى على أجسامنا .. ولكن يأبى الله عز وجل إلا أن يلطف بنا ..

كان أحد زوايا السجن بئر مهجورة من أيام الإنجليز , قد غاض ماؤها ولم يعد فيها ما يبلل الريق , وبينما أحد العساكر يعبث بها , إذ تفجر الماء وفاض على جوانبها , استدعى أحد الإخوة المهندسين على عجل , فأدرك سرها وتم ضبطها بعملية فنية , فكانت تلك البئر أثرا من آثار رحمة الله بنا , وموردا ثرا للإخوان يشربون ويستحمون ويغسلون ثيابهم وأوانيهم , فهى سحاحة بالليل والنهار .. وتطوعت فرق الإخوان بنقل الماء من الاكتشاف لمبلسين قانطين .. فانظر إلى آثار رحمة الله .. كيف يفرج الكربات ويغير الأحوال ..

ولقد نظم الأستاذ محمد رشاد عبد العزيز – رحمه الله – من إخوان

الأسكندرية قصيدة من شعره الطريف :

يا حامل الماء إن الشعب منتظر
فاملأ قصاريه يغسل ويغتسل
فدورة الماء فى الحربى معركة
يرجى النجاة بها للفارس البطل
ألفان فى ضيقها يقضون حاجتهم
فى لمحة العين بالكرباج والزقل
ترى الخلائق محصورين فى دبر
فإن أتوها فمحصورون من قبل
مصائب الناس فى الأرواح نعهدها
أما مصائبنا فالكسر فى القلل
ألا لك الله يا من بت معتقلا
بذلك السجن فادعو الله نرتحل

وأذكر أن أخا من إخوان الأسكندرية اسمه عبد الفتاح عبده , كان يتبارى مع الأخ المهندس محمد المنباوي الحائز على بطولة العالم فى حمل الأثقال فى نقل الماء المستعمل ( البول وما نغسل به الأوانى بعد الوجبات ) حيث لا يسمح لنا بالنزول إلا مرتين فى اليوم .. مرة قبل الفجر .. ومرة قبل المغرب .. وكان الإخوان ( جزاهما الله خيرا ) نشيطين بشكل طيب , والأخ عبد الفتاح بملامحه المريحة تتألق كأنه البدر , يقوم بهذه المهمة دون تبرم أو سخط وكذلك أخوة المنباوى .. فنظم الأستاذ رشاد عبد العزيز فى عبد الفتاح شعرا أذكر منه :

عبد الفتاح أتى لكم
فأعدوا الماء المستعمل
تجده صباحا منهمكا
وكذاك الظهر إذا أقبل
إن قلت أعنى لم يبخل
أو قلت تأن لم يعجل

دورة المياه فى السجن كانت مشكلة المشاكل , ومن ثم تشكلت من الإخوان جماعات لإدارتها وتنظيفها بعد أن يفزع الألوف من قضاء حاجتهم , وكانت هذه الإدارة تتكون من مجموعات من الإخوان يشرف عليهم الأخ منصور موسى منصور – رحمه الله – وكان " جواهرجى " بالموسكى , ومن خيرة من عرفت من الإخوان , فضلا وخلقا وتفانيا فى خدمة إخوانه .. وكان يساعده فى هذه المهمة الأخ محمود .. أيضا من إخوان الأسكنردية اشتهر بحسنى كاوتش .. وإخوان الأسكندرية بارك الله فيهم لهم طعم خاص .. حلوين .. حلوين بصحيح ..

مرض الشيخ منصور , وعجز عن أداء وظيفته , فأناب عنه رفيقه فى الزنزانة , الأخ أنور الزين الشاعر المطبوع , فأقام فى الدورة قرابة أسبوع مديرا بالنيابة , وخلال هذه المدة جادت قريحته بقصيدة من عيون الشعر "الحلمنتيشى " جاء فيها :

أمنصور مالى أراك مريضا
وكنت الصحيح الطويل العريضا
ومالك نمت بلا عادة
وحالك يبدو ملخبط وعيضا
كأنك قد كنت فى طلبة
وواجهت فيها الشاويش البغيضا
فأهدى قفاك بكم صفعة
وحطم فيك العصايا الغليظا
أتشكو الصداع وإن الصدا
ع أمامك كان ضعيفا مهيضا
تجلد وقاوم وإن مت يوما
حزنت عليك وصغت القريضا
وأرثى جهادك فى دورة
لحسنى كاوتش بأجعص قصيدة
وأقرا على تربتك " هل أتـى "
ووزع أورانجو ولمونجو وصودا
وأدى لوجدى نصيبك من
حلاوة وجبنة شستر وبيضة
وأما الكيزان فيد الوكيل
تنظفها بعد كل فريضة
على يد ( أنور ) مسح البلاط
تدهور فنا وصار حضيضا

القبقاب المركب

القبقاب فى المعتقل له قيمة دونها الحذاء الشمواه أو الأجلسيه ..

فهو مركب إلى دورة المياه وعدتك فى الوضوء , فإذا عدمته فاتك الشىء الكثير .. وكان القدامى من الإخوان المتمرسين على الإعتقالات يدركون هذه القيمة فيحرصون على اصطحاب قبقاب أو أكثر ساعة اعتقالهم .. أما من لم يدرك هذه الحقيقة أو أدركها ولكنه لم يتمكن من إحضار قبقاب معه , فإنه يضطر إلى استخدام إما شبشب إن كان عنده أو حذاءه .. حتى إذا فنيت القباقيب لكثرة الإستعمال وتبعتها الأحذية والشباشب , وقع الناس فى حرج شديد , إذ يضطر إلى الذهاب إلى دورة المياه حافيا .. لكن الإخوان الحقيقة لا تقف فى طريقهم عقبة , وفى المثل : الحاجة أم الإختراع .. فماذا يفعلون وزيارات الأهل ممنوعة تماما , والطرود كذلك , ولا سبيل إلى شراء هذا الصنف ولو بأغلى ثمن . لدرجة أن أحد الإخوان زاره شقيقه الضابط فطلب منه أن يبعث له بقبقاب فأرسله إليه , وكان الأخ مزهوا بهذه الهدية , والإخوان يغبطونه على هذه الميزة , حتى أنشد الأخ سعد غزال مذيع صوت العرب قصيدة أذكر منها :

وشر البلايا عندنا كسر قلة
وخير الهدايا عندنا قبقاب

كيف استطاع الإخوان التغلب على هذه الأزمة ؟ .. كانت فرق من الإخوان تخرج إلى المطبخ كطلبة , وهناك يجدون الصناديق الخشبية التى يؤتى فيها بلعب الصلصلة أو السمن , فيعمدون إلى ما يحيط بهذه الصناديق من قطع سميكة ينزعونها ويفصلونها قباقيب ويلجأون إلى قطع شريط من البطانية يستخدمونه كسير للقبقاب , ولكن هذه القطع لا تلبى طلبات المحتاجين , فيعمد الإخوان إلى وصل الخشب الرقيق طبقتين أو ثلاث أو أربع طبقات ويثبتونها بالمسامير ثم عمل سير من البطانيات , وكانوا يتندرون .. هنيئا لك يا عم القبقاب أو دورين ..فيقول آخر : أمال لو شفت أبو ثلاث أدوار أو أربعة ؟ .. وهى تسالى صارت ذكريات ..

الضابط محمد عباس

كان الملازم أول محمد عباس من ضباط السجن الحربى يمر على الزنازين كل صباح يتفقد الأحوال , يتبعه فرقة من الحرس , وكان مولعا بالمظاهر والشكليات , يروقه أن يرى الحنفيات لامعة بصرف النظر عن وجود الماء أو عدمه , وليس هذا بدعا بين الضباط , فغالبية من عرفنا يعنون بالمظهر دون الجوهر .. يزور المعسكر ضابط من ذوى الرتب العليا لواء مثلا , فتفرش أرض المعسكر بالرمل ويؤتى بقصارى الزرع تصف على جانبى الطريق الذى يمر منه الزائر الكبير , ويبدو كل شىء فى المعسكر غاية فى التمام والكمال , وإذا انتهت الزيارة عاد كل شىء إلى ما كان عليه .. ما علينا عرف الإخوان ذلك فراحوا يتفننون فى إشباع ميوله لعل ذلك يشغله ونتقى شره .

لاحظ أثناء مروره اهتمام نزلاء الزنزانة 65 بنظافة زنزانتهم وتنسيق محتوياتها والزنزانة للمعتقل هى موطنه الذى يحوى كل ما يتعلق بدنياه وآخرته , فهى أساسا السجن الذى يؤويه وخلوته حين يخلو إلى ربه ضارعا متعبدا , وهى فى الصيف نار تلظى بما يعكس بابها من حرارة تحليها إلى أتون مستعر يشوى الجلود والوجوه , ومسجده الذى يصلى فيه , وناديه الذى يمارس فيه رياضة البدن , و( الكنيف ) الذى يقضى فيه حاجته إذا اقتضت الضرورة وعز الذهاب إلى الدورة ..

أعرفت ما قاسيت فى زنزانة
كانت هى القبر الذى يؤوينى ؟
لا بل ظلمت القبر فهو لذى التقى
روض , وتلك جحيم أهل الدين
هى فى الشتاء وبرده ثلاجة
هى فى هجير الصيف مثل أتون
نلقى ثمانية بها أو سبعة
متداخلين كعلبة السريدن
هى منتدانا وهى غرفة نومنا
وهى البوفيه وحجرة الصالون
هى مسجد لصلاتنا ودعائنا
هى ساحة للعب والتمرين
وهى الكنيف وللضرورة حكمها
ما الذنب إلا ذنب من سجنونى
هى كا مالى فى الحياة فلم يعد
فى الكون ما أرجوه أو يرجونى
الأرض كل الأرض عندى أرضها
أما السماء فسقفها يعلونى
فيها انقطعت عن الوجود فلم أعد
أعنيه فى شىء ولا يعنينى
لا أعرف الأحلام عن دنيا الورى
إلا من الأحلام لو تأتينى

سر الضابط محمد عباس كثيرا بما رأى , وأعلن عن مكافأة سخية لهؤلاء الإخوان , فما هى هذه المكافة يا ترى؟ .. أن يسمح لهم بقضاء ساعة فى الدورة يغسلون ملابسهم ويستحمون فى أمان واطمئنان .. هى بالتأكيد مكافأة تستحق أن ينالها إنسان يعيش فى دنيا الزنزانة على النحو الذى وصفت لك , فلا تناله سياط الجلادين , ولا يضيق بزحمة المتزاحمين .

فدورة الماء فى الحربى معركة
يرجى النجاة بها للفارس البطل
ألفان فى ضيقها يقضون حاجتهم
فى لمحة العين بالكرباج والزقل

تبارى الإخوان فى هذا السبيل واستفادوا من خبرة إخوانهم وزادواعليها وشرعوا يزينون زنازينهم بلوحات وتحف يصنعونها من الصابون الميرى الذى كان وفيرا حقيقة – رغم ندرة الماء- فهذه زهرية , وهذا مسجد , وهذه سفينة .. وهذه كنيسة تهدى للضباط المسيحيين .. وهذا الأخ محمد .. المدرس بكلية الفنون الجميلة يثبت بطانية على أحد جدران الزنزانة ويرسم عليها بقطعة من الجير منظرا طبيعيا آية فى الروعة والجمال , فيخطف نظر الضابط فيحمل الأمر إلى حمزة وسائر الضباط فيكلفون الأخ محمد برسم مناظر طبيعية على لوحات يحضرونها له , وتتطور الأمور فيأمر حمزة بإخلاء أحد مخازن السجن وتخصيصه ليكون ما أطلق عليه ( مرسم ) .. وانطلق الإخوان يتبارون , كل يوظف موهبته حتى أتوا بالأعاجيب , وانتزعوا إعجاب الضباط الذين رأوها فرصة لاقتناء اللوحات والتحف وإهداء أقاربهم وأصدقائهم .. حتى الإخوان من غير ذوى المواهب أدلوا بدلوهم يحاولون أن يتعلموا .. فكانت فرصة للهرب من جو الزنزانة .. وبرع الكثيرون فى صنع المسابح من نوى الزيتون .. كانت آية فى الدقة والبراعة .. وكف الله بذلك عنا أيدى الجلادين ولله فى خلقه شئون .

فانظر إلى آثار رحمة الله يسوقها لعباده المؤمنين بأسباب هو صانعها وموحيها " لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا " الاسراء : 100

لو لم يكن كذلك لهيأ الله أسبابا أخرى تبرر آثار قدرته وقيوميته " وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هى إلا ذكر للبشر " المدثر : 31 .

جنود البق ..

ترددت كثيرا فى كتابة هذه الفقرة , حفاظا على مشاعر القارىء الكريم أن يؤذيها ذكر هذه الحشرة اللعينة , التى دارت بيننا وبينها معركة لا تقل ضراوة عن معركتنا مع الزبانية , وكلا الفريقين من صاحبه .. وفى المجتمع المصرى تسمع من يقول : فلان ده دمه أتقل من دم البق , وكذلك هؤلاء الزبانية .. ولكنى أستميح القارىء عذرا , فأذكر طرفا من هذه المعركة لننظر معا إلى آثار رحمة الله ولطفه بالمؤمنين فى ساعات العسرة .

كانت أسراب البق تنتشر على جدران الزنازين بشكل مخيف , وكان أكثرها أذى الصغير منها .. وكنا نعيش بين لسع السياط , ولسع هذه الحشرة اللعينة لا نذوق للنوم طعما .. وكان لابد من خطة نتغلب بها على الأعداء المهاجمين من كلا المعسكرين .. أما معسكر الآدميين – إن صح أن نطلق عليهم صفة الآدمية – فكنا نستعين عليهم بالإلتجاء إلى الله القوى القاهر , من خلال الصلاة والذكر والدعاء فى الليل , وكنا نسميه " سهام السحر ".

أما معسكر البق , فقد اهتدينا فى مقاومته إلى حيلة ظريفة فقد كان الصابون يوزع علينا بكميات وفيرة – مع ندرة الماء – فكنا نعمد إلى بشر قدر من الصابون ونشكل منه عجينة نلتقط بها ما تناله أيدينا .. أما ما يحتشد فى الجزء العلوى من الزنزانة , مما لا تناله أيدينا , فكنا نقيم حاجزا من الصابون بارتفاع قامة الرجل عرضه 5 سم على الجدران الأربعة , ويتدافع البق من أعلى الجدران لينال نصيبه منا , فيقف عاجزا أمام هذا الحاجز فنصيده بالطريقة التى عرفت .. وربما فطنت بعض فرق البق إلى ما ينتظرها من سوء المصير فلم تشأ أن تقامر باجتياز خط الدفاع , فتقع أسيرة فى أيدينا فآثرت السلامة ولزمت مكانها ..

وهنا تتجلى رحمة ربنا , وهى فوق كيد الكائدين , فتندفع أسراب العصافير من خلال الشباك القريب من السقف وتؤدى دورها نيابة عنا ..وهكذا تخلصنا من هذا العدو النكد , بهذه الخطة المحكمة وبمعونة جند الله من العصافير , ولم تكن أسراب العصافير تخص زنزانة دون أخرى , بل كان الجميع يتحدثون عن هذه الواقعة التى تشبه الكرامة .. ويتلو أحدنا هذه الآية الكريمة " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا " الإسراء 100 .. ويتلو الآخر قول الله تعالى " وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هى إلا ذكرى للبشر " المدثر : 31 .

طريفة

مع أن البق دمه ثقيل , لكنك تستطيع أن تضحك ملء شدقيك وأنت تسمع هذه النكتة التى ألفها أحدهم :

زعموا أن سربا أن البق فى الأجزاء العليا من الجدران , شرع فى القيام بجولة يلتقط فيها رزقه من دم المعتقلين , فبينما هو متجه إلى أسفل لقيه سرب آخر يسرع إلى أعلى .. سأل السرب النازل صاحبه المتجه إلى أعلى : إيه الخبر ؟ .. فأجابه السرب الهارب إلى أعلى : ارجع أنت وهو أحسن المباحث بيفتشوا تحت فى البوكس ..

اليهود يأكلون الدنادى

الأخ عمر محمد عمر من جهينة مركز طهطا , عامل بجمرك الأسكندرية .

إنه صعيدى رقيق الحاشية .. يتلو القرآن فلا تمل سماعه لإتقانه , ولصوته الندى .. كان يقرأ ورده اليومى , فلما وصل إلى قوله تعالى "وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها " البقرة 61 .. سكت قليلا ثم قال : شوف اليهود ولاد ال.. قعدوا يلحوا على ربنا فى طلب الفول والعدس والبصل , وأخيرا حطوا ده كله فى أربيزنا , وبقوا ياكلوا الرومى والدنادى .. ( جمع دندى بالصعيدى والأصل جندى ومعناه ديك ) .

وكان صوت الباشجاويش قبيحا منكرا , يبعث فى النفس الاشمئزاز والإستهجان , وكان الإخوان حين يسمعون صوته يتمثلون بهذا البيت :

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
و صوت إنسان (امين ) فكدت أطير

ويصف الدكتور يوسف القرضاوي فى نونيته المطولة صوت أمين فيقول :

ما كاد يعرونى الكرى حتى أرى داعى الردى وكفاك صوت أمين لمح أحد الإخوان يتسلل إلى الدورة ليأخذ بعضا من الماء , فرفع عقيرته بصوت سمعه المعتقل كله يسب الأخ :

يا واد يا للى هناك .. يا ابن ال .. يا ابن ال ..

فعلق الأخ عمر على ذلك بقوله :

جوج فيها الحلو .. يعنى قوق .. أى أحدث صوتا كصوت أم قويق المشهور.. ثم أضاف : آل يعنى خربطوا الجطن ( القطن ) بتاع أبوه ..

عزيز قتيل المحشى

الأخ عزيز محمد مدرس من الشرقية , وكان لسانه حادا فى نقد النظام وممارساته .. وفى سنة 1966 صدر قرار وزير التموين برفع سعر كيلو الأرز من أربعة قروش إلى 12 قرشا , وفى أعقاب ذلك ذهب الأخ عزيز إلى سوق بلدته , وعاد يحمل كرنبة كبيرة الحجم , فلقيه أحد معرفه وسأله : راح تحشى الكرنبة دى كلها بإيه يا عزيز ؟ .. وكيلو الرز ثمنه 12 قرشا ؟ .. فأجاب عزيز فى سخرية : أحشيه عدالة اجتماعية من عند عبد الناصر .

وصيرت الواقعة إلى مباحث الشرقية فسارعت إلى اعتقاله , وألحق بنا فى معتقل طرة بعد أسبوع قضاه فى تخشيبة المركز .. وذات يوم حضر إلى المعتقل اللواء حسن طلعت رئيس المباحث العامة إذ ذاك ليتفقد الأحوال وفى أثناء لقائه بنا رفع عزيز يده يطلب الكلمة فأذن له .. فقام عزيز يعرف بنفسه يقول : يا أفندم أنا عزيز بتاع المحشى , فضج الجميع بالضحك .. وأردف عزيز – وكان سعر الأرز قد عاد إلى ما كان عليه قبل الزيادة- أنا طالب الإفراج عنى لذلك .

فلم يرد عليه اللواء حسن طلعت بشىء .

وكان الإخوان كثيرا ما يمزحون معه .. يا قتيل المحشى يا عزيز ..

هو عملها وغرزنا فيها ؟ ..

كان لأحد إخوان البحيرة معمل للألبان والأجبان , فاعتقل الأخ صاحب المعمل , واعتقل معه أحد العمال البسطاء , ولم تكن له أية علاقة بالإخوان .. فكان الرجل قلقا مهموما لا يدرى مبررا لاعتقاله , وكنا كثيرا ما نهدىء من روعه , ونصبره على بلوته , ونبشره بأن الفرج قريب , وخاصة أنه لم توجه إليه أية تهمة , ولكن خاب ظننا وبعدت المدة وتطاولت الشهور والأعوام , والرجل قد بلغ اليأس منتهاه .

وذات يوم راح يسألنى : مين يا عم أحمد اللى عمل الإخوان المسلمين ؟ ..

فأجبته بأنه الشيخ حسن البنا .

فعاد يسأل : وهو فين دلوقت ؟ ..

فأجبته : إنه انتقل إلى رحمة الله .

فأجاب بعفوية ومرارة : يعنى هو عملها ومشى وغرزنا فيها ؟ ..

وإيه يعنى ..

الأخ الأستاذ أحمد عامر – رحمه الله – محام بالفيوم .. وكان حريصا دائما على قيام الليل , ومن ثم اعتاد أن ينام مبكرا عقب صلاة العشاء , وفى الليلة التى بلغنا فيها نبأ وفاة عبد الناصر . كان لهذه المفاجأة رد فعل فى نفوس الإخوان الذين ما برحوا ساهرين و قد خاصم النوم جفونهم يتحدثون عن آثار رحمة الله أن أزاح هذا الكابوس عن صدر مصر .. ثم تفقدوا الأستاذ أحمد عامر فلم يجدوه , فذهبوا إلى حيث ينام ليوقظوه , وليبلغوه النبأ , فاستيقظ من نومه على مجموعة من الإخوان يقفون على رأسه يقولون له : قم يا أخ أحمد .. جمال عبد الناصر مات .

وبكل هدوء رد عليهم : وإيه يعنى ..

واستأنف نومه , وكأن شيئا لم يكن ..

وهكذا هان جمال عبد الناصر على النفوس الأبية , بعد أن جثم على صدر مصر 18 سنة , سام الأحرار المؤمنين سوء العذاب , وهو الآن بين يدى ربه وهو أحكم الحاكمين .

نأكلها احتراما لكبر سنها

الأخ الدكتور صيدلى علي حتحوت .. فى أول زيارة سألته والدته عما يقدم لنا من طعام , وهل يقدمون لنا لحوما ؟ .. فأجابها بالإيجاب .. فسألته عن كمية اللحوم التى تصرف , فبسط الأخ ذراعيه ورفعهما إلى أعلى ثم حركهما على شكل دائرة واسعة , وكأنه يصور لها الكمية الهائلة التى نحظى بها وهى مندهشة .. ولكنه سرعان ما قبض ذراعيه ونصب أصابع يده اليمنى الثلاثة : السبابة والوسطى والإبهام , يصور لها أن ما يقدم قدر حجم الليمونة .. ثم عادت تسأله عن نوعية اللحوم .. فذكر لها أنها من كبار البقر , وإنما نأكلها احتراما لكبر سنها ..

الباشجاويش بائع الكتاكيت

بعد الفراغ من المحاكمات وترحيل المحكوم عليهم إلى الليمانات والسجون , بقينا نحن المتحفظ علينا فى السجن الحربى , كما كان يحلو للمسئولين أن يسمونا , وأحسسنا بشىء يسير من الراحة .. وراح الإخوان يفكرون فى حيلة يخففون عن أنفسهم ضراوة المحنة , فاقترح بعضهم على الباشجاويش أمين إقامة حفلات سمر يشترك فيها الحرس مع الإخوان , فوافق واجتمعنا فى الحوش الكبير نشاهد ما يقدم لنا .. ومن الفقرات التى كانت تقدم أن يتبارى الإخوان والعساكر فى إلقاء النكات , وكان الأخ ماجد حسن فارس الحلبة , فجعل يرسل من النكات ما أضحكنا كثيرا ولكنه فاجأ الجميع حين علم الباشجاويش أن لديه نكتة خطيرة يريد أن يلقيها واشترط أن يؤمنه إذا لم ترقه هذه النكتة , فكان له ما أراد وانطلق ماجد يحكى :

كان فى واحد فى الملكية بيشتغل بتاع فراخ " كتاكيت " وينادى فى القرية : الملاح الملاح الملاح .. انا بياع الملاح , واللى تاخذ منى يركبها جنى ولا ينوبها كبدة ولا قنصة ولا جناح .. ملاح يا ملاح .. ودخل صاحبنا الجيش ورقى من عسكرى إلى عريف إلى باشجاويش , فعهد إليه بتعليم العساكر المستجدين , فشرع فى تعليمهم حتى جاء دور تعليم السلاح , فجعل يلقى إليهم دروسا فيه إلى أن قال العبارة المشهورة : كتفا .. سلاح السلاح السلاح .. أنا بياع السلاح .. وضج الجميع بالضحك , وعلق أمين وهو فى غاية الدهشة : دول إخوان مسلمين ؟ .. دول عفاريت ..

وهو اعتراف ضمنى بأن الإخوان ناس طيبون , ولكنهم طلعوا عفاريت مسلمين ..

ولكن أشرب الشاى البلاشا

الشيخ مصباح عبده – رحمه الله – من الدعاة المرموقين وزميل الشيخ يوسف القرضاوي فى الدراسة ورفيقه على درب الدعوة .. شخصية فذة .. حاضر البديهة .. خفيف الروح .. حلو النكتة .. كان لا يعبأ بالأحداث من حولنا رغم قسوة المحنة .. يمارس نشاطه اليومى بشكل شبه طبيعى , فبعد صلاة الفجر يشرع فى ممارسة نشاطه الرياضى داخل العنبر ( سويدى ) ويستحث الإخوان على ذلك , يهيب بهم ألا يركنوا إلى الحزن , ويرسل النكتة من آن لآخر يضحك بها إخوانه ويسرى عنهم ويقول : دى محنة دكر لازم نتغلب عليها .

كانت إدارة المعتقل توزع الشاى الميرى , وحتى يخرج من المطبخ ليصل إلى أيدى الإخوان يكون قد برد تماما فنشربه كشىء مسكر .

ورغب الإخوان فى شرب شاى ساخن , فاتفقوا مع الجاويش المسئول أن يرتب لكل عنبر جردل شاى ساخن مقابل بونات تخصم قيمتها من أرصدتنا فى الأمانات , ويأبى الشيخ مصباح إلا أن يشرب الشاى الميرى معرضا عن الشاى الخاص , يقول :

ولست بشارب شايا بقرش
ولكن أشرب الشاى البلاشا

يحدث أنه بعد أن تخرج فى الأزهر , ظل قرابة سنتين لا يجد عملا إلى أن توسط الشيخ سيد سابق والشيخ محمد الغزالي لدى الشيخ الباقورى حين كان وزيرا للأوقاف , وذات يوم توجه إلى الوزارة والتقى بالشيخين فحملا إليه بشرى تعيينه واعظا بالوزارة , ثم طلبا منه أن يصحبهما لشكر الوزير .. وفى مكتب الشيخ الباقورى اعتلى الشيخ مصباح كرسيا – وكان قصير القامة – وراح يقدم الشكر إلى الوزير قائلا :

سنتين وأنا أحايل فيك
يا سبب تعذيبى وشقايا

فضج الجميع بالضحك , فلقد كان معروفا لديهم بروحه المرحة ودعاباته التى لا تمل .. رحم الله الشيخ مصباح عبده وأنزله منازل الأبرار .

اليهود أخذوا البطانيتين

قبل هزيمة 1967 طلب قائد المعتقل من أحد الأخوة المدرسين رسم خريطة مكبرة لشبه جزيرة سيناء , موضحا معالمها وأهم مواقعها الإستراتيجية .

وخريطة مكبرة على هذا النحو المطلوب تحتاج إلى لوحة كبيرة .

ولما كانت مثل هذه اللوحة غير متوافرة , فقد اهتدى الأخ الى فكرة تتلخص فى وصل بطانيتين ورسم الخريطة المطلوبة , فحازت رضا المسئول وإعجابه , وأمر بتثبيتها على أحد جدران المعتقل , وفجأة وقعت الهزيمة , وبينما أحد الإخوان البسطاء يقوم بكنس الحوش إذ مر بالخريطة ونظر إليها فلم يستوعب ما دون عليها , فسأل أحد إخوانه عما تحتويه هذه الخريطة , فذكر له أنها خريطة شبه جزيرة سيناء , وأن اليهود استولوا على هذه المواقع وراح يشير إليها موقعا موقعا , فلما فرغ من الشرح , علق الأخ بسذاجة تلقائية : يبقى كده اليهود خدوا البطانيتين كلهم .

غطس تانى علشان خاطرك : كان الشيخ عبد المقصود حجر – رحمه الله – ناظر مدرسة ببلدته من محافظة الشرقية .. وأثناء التحقيق معه أمره الجلاد صفوت الروبى أن ينزل فى بئر مجارى وتحت لهيب السياط صدع الرجل بالأمر , ولكن الجلاد طلب منه أن يغطس فى المجارى بحيث يختفى جسده كله , فوضع الرجل خنصريه فى فتحتى أنفه وإبهاميه فى أذنيه وغمض عينيه وغطس بجسده كله , ثم رفع راسه وعاد مرة أخرى قائلا للجلاد دون اكتراث :

مرة ثانية علشان خاطرك يا سعادة البيه ..

ألا رحم الله الأخ العزيز الشيخ عبد المقصود وأبدله من الروح والريحان والخلود فى جنة الرضوان ما يمسح عنه هذا الأذى .

وفى صحيح مسلم من حديث أبى رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار , فيصبغ فى جهنم صبغة , ثم يقال له : يا ابن آدم , هل رأيت خيرا قط ؟.. هل مر بك نعيم قط ؟ .. فيقو لا والله يا رب .. ويؤتى بأشد الناس بؤسا فى الدنيا من أهل الجنة , فيصبغ فى الجنة صبغة , فيقال له : يا ابن آدم , هل رأيت بؤسا قط ؟ .. هل مر بك شدة قط ؟ . فيقول لا والله يا رب , ما مر بى بؤس قط , ولا رأيت شدة قط " ( رواه أحمد ومسلم وغيرهما ) .

فهنيئا لمن أوذى فى سبيل الله , ثم جاهد وصبر ..

وتبا لمن آذى المؤمنين , وكان عبرة لمن اعتبر .

تهنئة وتحذير

الأخ الكريم الأستاذ عبد الحليم خفاجي رفيق الدرب وزميل الراسة .. لم أكن اكتشفت فيه – رغم طول صحبتنا – شاعريته الموهوبة , حتى فوجئنا به يلتحق بنا خلال محنة 1954 على أثر ضبط قصيدة من إنشائه يفضح فيها ممارسات النظام .. وكان جزاؤه عشر سنوات قضاها كاملة بين السجن الحربى ومنفى الواحات مرورا بسجن طرة , ثم أعيد اعتقاله فى محنة 1965 حيث قضى قرابى 6 سنوات " بقشيش " أنجز خلالها مؤلفه القيم " عندما غابت الشمس " ثم من بعده كتابع " حوار مع الشيوعيين فى أقبية السجون " .

وشارك فى العديد من المواقف التى تشرف كل الأحرار ..

كان الشباب من وراء الأسوار يتطلعون إلى بنت الحلال يكملون بها دينهم , وكانت الكثيرات من الفتيلات الملتزمات من خارج الأسوار يتطلعن إلى الإقتران بهؤلاء الكرام الرابضين خلف الأسوار .

وفى إحدى المناسبات أتيحت الفرصة للاحتفال بإحدى هذه الزيجات .. كان العروسان .. الصيدلى علي حتحوت .. والطبيبة راوية محمد صادق .. شقيقة الطبيب المعتقل مجد الدين محمد صادق .. وقد فاجأنا الأستاذ عبد الحليم بهذه اللوحة القيمة من شعره الرائق يحيى بها العروسين بعنوان " تهنئة وتحذير " :

لله درك يا علي حتحوت
قد نلتها من عالم الملكوت
أصبحت نسرا فى السماء مرفرفا
من بعد ما قد كنت كالكتكوت
إن الذى خلق السعادة والهنا
أعطاك منها القلب يا عكروت
هذا جزاء الصابرين إذا هموا
صبروا أتاهم رزقهم كالحوت
قد كنت أرقب فى الزيارة قصة
ولدت وكانت قبلها زيجوت
من يوم أن قلدت شوقى نخلة
أصبحت " رواية " ونحن ثبوت
أتوزع الشربات فى كل عنبر
ونسيت فى دار الشفاء تفوت ؟
تالله إن لم تسرعن لأنتضى
قلمى عليك كأنه نبوت
حت ولو مجدى تشفع بالتى
ستحاسبنك غدا على السحتوت
ما لم تبادر بالشراب وفوقه
فى الحال كم بكو من البسكوت
وحذار من شغل الصيادلة الذى
يجعلك تسقينا شراب التوت
وسألت ربى أن يبارك فيكما
لتقدما ما للحق أجمل صوت

الفصل الخامس

خرج من اليمان أستاذا بكلية الطب

فى سنة 1954 أعتقل الأخ علي شهوان , وكان إذ ذاك طالبا بالسنة الرابعة بكلية الطب , وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما أمضاها كاملة , ثم رحل بعدها إلى المعتقل تنفيذا لعبارة كانت جهة التنفيذ تذيل بها الحكم ( يرحل بعدها إلى المعتقل ) .. ظل الأخ صابرا محتسبا سبعة عشر عاما بعد ان باءت بالفشل محاولات أعوان الطاغية استكتابه برقية من بضع كلمات يؤيد فيها رأس النظام , ويتبرأ من دعوته ويفاصل الجماعة التى تربى فى كنفها , فكان بفضل الله ثابتا لا يتزعزع , صلبا لا يلين .. وخرج بعد هذه الأعوام السبعة عشر ليستأنف دراسته فى كلية الطب بالسنة الرابعة بعد أن تجاوز الأربعين من عمره .

ولك يا أخى القارىء أن تتصور طالبا ينقطع عن الدراسة هذه الأعوام الطويلة ليعود إلى الكلية , فيجد زملاءه قد تخرجوا وصعدوا السلم الوظيفى حتى صار بعضهم مدرسين بالكلية وصار هو تلميذا لهم , ومنهم من ترقى فصار مديرا عاما أو وكيل وزارة , ولكنه لم يقم لذلك كله وزنا , ولم ييأس من الوصول إلى غايته , بل شق طريقه فى ثقة ويقين أن الله لا يضيع أجر المحسنين , وحينما ظهرت نتيجة امتحان البكالوريوس كان الطالب علي شهوان من أوائل دفعته وعين على الأثر معيدا بالكلية عن جدراة , وظل يتدرج فى سلك التدريس وهو الآن الأستاذ الدكتور علي شهوان أستاذ أمراض النساء والولادة بكلية الطب جامعة عين شمس , وأفاء الله عليه من فضله ما لم يكن يحلم به ورزقه الله زوجة صالحة أنجبت له خمسة من الأولاد .. لو أن الدكتور علي شهوان لم يسجن كل هذه المدة وتخرج من كلية الطب , اغلب الظن أنه لم يكن يحصل على مرتبة الامتياز , وربما عين طبيبا عاديا فى الصحة المدرسية أو بمستشفى الحميات مثلا .. ولكن الله ادخرله هذه المكانة ورفع قدره رغم السنين التى قضاها خلف الأسوار .

ألابارك الله هذه الهمم العالية , وأعلى قدرها فى الأولى والآخرة .. آمين

مثال آخر :

خرج من الليمان أستاذا بكلية العلوم

بطله الدكتور رشاد بيومي استاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة وأحد رموز النشاط النقابى بنقابة العلميين وله تاريخ طويل فى العمل الدعوى دفع به إلى غيابة السجن عام 1954 , وكان لا يزال طالبا بكلية العلوم , حيث حكم عليه بالسجن عشر سنوات قضاها كاملة , ولم يكد يتنفس نسيم الحرية حتى أعيد اعتقاله فى هوجة 1965 بعد اشهر قليلة من الإفراج عنه .

وإن كان د. رشاد ممن أمضوا عشر سنوات كاملة دون أن يرضخ لضغوط النظام لكتابة تأييد للرئيس ونظامه , فقد صب عليه ومثله وإخوانه الذين نهجو واعتصموا بإيمانهم بالله وثبتواعلى العهد .. لقد صب عليهم العذاب ألوانا وكأنه ( تار بايت ) وظل رهن الإعتقال قرابة السبع سنين , وخرج فى أكتوبر 1971 بعد أن سلخ من عمره 17 عاما فى السجن .. خرج ليجد نفسه كصاحبه د. علي شهوان قد قارب الأربعين ليجلس فى المدرج بين شباب فى العشرينات , وليتلقى العلم على أيدى زملائه أيام الطلب إلى أن أتم دراسته ونال درجة البكالوريوس فى الجيولوجيا بامتياز وعين على الأثر معيدا بالكلية , ومن ثم حصل على درجتى الماجستير والدكتوراه فى سنوات قليلة , وأوفد من قبل الجامعة فى بعثات علمية إلى بعض الدول الأوربية ( كندا – ألمانيا ) فى إطار نشاطه العلمى المتميز , وما زال الدكتور رشاد البيومى يواصل نشاطه العملى والدعوى رغم التحديات التى تواجه العمل الإسلامى فى المرحلة الراهنة .. ولم يحرم الرجل من الإعتقال مع إخوانه من خيرة رجال مصر أمثال الدكتور محمد حبيب , ودكتور عبد الحميد الغزالي , ودكتور عصام العريان , وغيرهم , وأحيل معهم إلى المحكمة العسكرية التى براءته ممانسب إليه زورا بعد أن تبين لها أنه يشرف على عشرات الرسائل فى الماجستير والدكتوراه .

وقد كافأه الله فوق ذلك بزوجة صالحة أنجب منها ابنه الوحيد محمدا , وصدق ربنا الكريم " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم " البقرة : 143 ,وهكذا على قدر أهل العزم تأتى العزائم .

إسماعيل النشار

الأخ إسماعيل النشار الشهير بإسماعيل مصباح , حكم عليه عام 1954 بالسجن عشر سنوات وكان طالبا إذ ذاك بكلية الآداب , أمضى المدة كاملة , ثم أعيد اعتقاله عام 1965 .. لم أكن سعدت بلقائه فى فترة الإعتقال الأولى , حتى كانت الفترة الثانية , والتقينا فإذا هو نموذج فذ من الشباب المبارك كان كثيرا ما يحدث عن الدعوة مزهوا بالإنتساب إليها , معتزا بأن صار من جنودها العاملين , وكان يقول : يا أخ أحمد .. هب أننى تخرجت فى كلية الآداب وأمنية أى خريج أن يكون مدرسا , ثم مدرسا أول ثم ناظرا , ثم مفتشا . وهب أننى قفزت إلى كرسى الوزارة وصرت وزيرا للتربية بل حتى رئيسا للدولة , وليست لى فى الحياة غاية أو فكرة أعيش لها إلا هذا المنصب الذى لا يلبث أن يزول عنى وينتهى .. ولكننى بحمد الله أحمل بين جنبى فكرة وأحيا لدعوة ما أحب أن لى بها أعلى مناصب الدولة .

مرت بنا ظروف كان من يظهر تمسكه بفكرته ويستعصى على فكرة تأييد النظام يرحل إما إلى سجن القلعة أو إلى أقاصى الصعيد , حيث سجن أسيوط , وهناك يتعرض لضغوط نفسية رهيبة وربما لآلام جسدية ويتجرع مرارة التغريب .

نما إلى علم اسماعيل أنه مرشح لهذا المنفى , فحزم حقيبته ووضعها بجانبه وأعلن أنه تحت الطلب قائلا : إن ما يفصل بينى وبين أهلى هو جدران هذا السجن , فيستوى عندى أن يكونوا قائمين خلفه على بعد أمتار منى أويكونوا فى بلاد واق الواق ..

افترقنا بعد الإفراج عنا فى أواخر سنة 1971 ثم التقينا مصادفة عام 1994 – أى بعد اكثر من عشرين سنة – فكان لقاء حارا وسأل كل منا صاحبه عن أحواله وكان يعرف عنى الكثير , فأنا متزوج ولى أولاد أما هو فقد كان عزبا .

سألته : هل تخرجت فى الكلية ؟

قال : نعم تخرجت وتزوجت وأنجبت .

سألته : كم لك من الأولاد ؟

فقال : حزر يا أخ أحمد . قلت :اثنان ؟ قال : أكثر . قلت : ثلاثة ؟ قال : أكثر .

فما زلت أراجعه ويراجعنى حتى أطلعنى على الحقيقة . قلد أنجبت زوجته 16 و لدا بين ذكور وإناث , وجعل يعدد : فاطمة , أسماء , خديجة , محمد , حسن .. الخ . قلت ما شاء الله , لا قوة إلا بالله , وما عملك الآن يا أبو السباع ؟ أجاب : أشتغل الآن بالزراعة , حيث أمتلك قطعة أرض ورثتها عن أبى زرعتها موالح , وبنيت فى وسطها منزلا رحبا و وأعيش أنا والأسرة نزرع الخضر والبقول و نربى الطيور , وربنا رازقنا من خيره العميم .. ولم ينس الأخ اسماعيل فى زحمة الحياة وكثرة العيال ومتطلباتهم دعوته , فهودءوب كالنحلة لا ينى , يدعى فيجيب , ولا يبخل ويفيض على جيل الدعوة الناشىء من علمه وخبرته ما يرجى أن يكون فى ميزانه يوم تزل الأقدام .

بارك الله للأخ إسماعيل فى هذه الذرية و وجعل منهم خير خلف لخير سلف أمانة وصدقا وصلاحا وحقا .. آمين .

الأستاذ جمال فوزي

وعلى ذكر الأخ المجاهد الأستاذ جمال فوزي – طيب الله ثراه – لا يفوتنى وقد سجلت له موقفه البطولى فى معمعان المحنة وسعير الفتنة , إذ رد على ما أراد منه أن يقول : أنا مرة , أنا راجل من ظهر راجل قبل أمك ما تولدك . لا يفوتنى ان اسجل له نفثات من شعره الرائق يصور المحنة وما تنطوى عليه من فظاعة وظلم إلى جانب ما تحمل من دروس وعبر , وذلك بعد التعريف بهذا النموذج الفذ الذى قضى زهرة شبابه فى سجون الظغاة من أجل إقامة الملة على منهج الإسلام , دخل السجن أيام فاروق متهما فى قضية سيارة الجيب , ثم خرج ليعود ثانية عام 1954 فى عهد عبد الناصر , ثم خرج ليقبض عليه ثالثة عام 1965 بعد إعلان موسكو الشهير , وفى السجن فقأوا عينه اليسرى وكسروا يده وعموده الفقرى , وهمشوا أسنانه ومزقوا جسده , وصار كسيحا يرفع ويحمل ويقذف ويركل .. ورغم ذلك كان يبتسم ابتسامة المؤمن ويصبر الصبر الجميل متمثلا قول الله عز وجل " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " العنكبوت : 2 وظل – رحمه الله – ثابتا على دعوته متمسكا بفكرته , فخورا بإسلامه , لم تزده المحنة إلا ثباتا , ولم يزده التعذيب إلا إصرارا حتى لقى ربه راضيا مرضيا بإذن الله .

وهاكم باقات من شعره المعبر :

ابتهال مؤمن وسط حلقات التعذيب :

إلهى قد غدوت هنا سجينا
لأنى أنشد الإسلام دينا
وحولى إخوة بالحق نادوا
أراهم بالقويد مكبلينا
طغاة الحكم بالتعذيب قاموا
على رهط من الأبرار فينا
فطورا مزقوا الأجسام منا
وطورا بالسياط معذبينا
وطورا يقتلون الحر جهرا
لينطق ما يروق الظالمينا
فمهلا يا طغاة الحكم مهلا
فطعم السوط أحلى ما لقينا
وما عابوا عليه سوى جراح
تصيب الجسم دون الروح فينا
سنبذل روحنا فى كل وقت
لرفع الحق خفاقا مبينا
فإن عشنا فقد عشنا لحق
ندرك به عروش المجرمين
وإن متنا ففى جنات عدن
لنلقى إخوة فى السابقينا
وقد لاقى الشهادة يا رفاقى
رجال لا يهابون المنونا

شهيد آخر على طريق الدعوة

وهذه قصة لأخ شهيد قضى عشر سنوات سجينا لا ينثنى ثم أعيد اعتقاله فضرب حتى نال الشهادة , وقد حيل بين والدته وزيارة قبره بزعم الأمن

ذهبت يراود قلبها
أمل يحقق حلمها
ومضت تفكر كيف
تلقى غائبا عن عشها
حملته فى أحشائها
ربته فى أحضانها
ودعت إله الكون أن
يرعاه من أعماقها
وتفتحت ىفاقه
وتحققت آمالها
فإذا الوليد مجاهدا
يرعى العهود جميعها
باع الحياة رخيصة
لله يرجو أجرها
حتى طوته سجونهم
دهرا وفى ظلماتها
كم ساوموه لكى يحيد
عن العهود بأسرها
ولكى يخون كتائبا
باعوا النفوس لربها
ولكى يشوه ما أضاء
الكون من صفحاتها
ولكى يكون صنيعه
الشيطان بين صفوفها
وأبى الكريم مباهج
الدنيا وطلق أمرها
ورأى السجون معاقل ال
أحرار رغم قيودها
وأصر أن يعلى نداء ال
حق فى جنباتها
فقضى السنين العشر
عملاقا كشم جبالها
ذهبت لكى تلقاه
يوم خروجه بحنانها
وتضمه فى لهفة
وسط الجموع لصدرها
ويضمها العملاق فى
حب يقبل رأسها
ويقول يا أماه عاد
إلى الجهاد رجالها
أنا لن ألين ولن أخون
ولن أغادر ركبها
أنا لن أهون من بغوا
يوما على أبرارها
سأظل نارا يحرق
الأشرار حر لهيبها
سأظل حربا تسحق
الفجار فى أرجائها
قالت رعاك الله يا
ولدى الحبيب فكن لها
إن تنصروا الرحمن
ينصركم على فجارها
ومضت به نحو الديار
وكبرت بربوعها
يخذت كتاب الله
نبراسها ينير طريقها
لم تمض أيام على
هذا الهدوء بدارها
حتى أتى جند الطغاة
وكرروا مأساتها
كان المجاهد يقرأ
القرآن يسمعه لها
ويرتل القرآن ترتي
لا يجدد عهدها
ويفسر التنزيل تفس
يرا يعمق فهمها
وإذا بشرذمة الطغ
اة الآثمين ببابها
فى ليلة ساد السكون
بها وأظلم ليلها
وانقض أعوان الطغاة
يكبلون حبيبها
صرخت وقالت ويحكم
ماذا جنى أطهارها
همت بلثم جبينه
فيردها أشرارها
رفع المجاهد راسه
فى عزة أكرم بها
ويقول فى عزم الرجال
تشجعى فأنا لها
الذنب ذنب شعوبها
خانت طريق كفاحها
واستسلمت للبغى حتى
قادها جلادها
فعدا عليها الغاشمون
وحطموا أمجادها
سترين يوما شرعة
الرحمن تحكم أرضها
ويزول من كل الوجود
شرارها وطغاتها
وهنا يسير اللئام
ويسخرون بدمعها
وطوته جدران السجون
لكى يرى أهوالها
كم مزقته سياطهم
وتلقفته كلابها
حتى انتقته شهادة
علياء فى جنباتها
وهناك يلقى ربه
ويطل من عليائها
والأم كانت فى حنين
تستجيب لشوقها
حتى نعته لها الوفود
بكته فى سجداتها
رباه قد ضاق الطغاة
بمثله وبمثلها
ذهبت لتشهد قبره
ترويه من عبراتها
فإذا الجنود تحوطه
فى غلظة بسلاحها
والأم قد ردت وقد
شهر السلاح بوجهها
قالت أما أولى بكم
أن تملأوا ميدانها
سيناء ولت يوم أن
سجن الطغاة حماتها
ذهب العدو بأرضكم
واحتل كل قناتها
وتمركزت قواته
عبر الحدود بأرضها
وفررتمو فى ذلة
تأبى الكلاب مثيلها
أين المدافع والبوارج
والجيوش بزحفها
أين الصواريخ الضخم
وأين أين أزيزها
بل أين أين الطائرات
تدك حصن حدودها
أين الملايين التى
قد انفقت لشرائها
الطائرات تحطمت
قبل المعرك كلها
وسلاحكم أخذته إسر
ائيل فوق عتادها
والعاهرات بحيشهم
قد فزن فى حلباتها
أذللن أعناق الطغاة
الماجنين بساحها
ويقلن فى كبر قهرنا
العرب فى أوطانها
والواهبون حياتهم
لله ملء سجونها
وكأنهم قد أجرموا
أو لوثوا تاريخها
والهاربون من المعارك
يملكون زمامها
وكأنهم قد حرروا
الأرض السليب لأهلها
بئس الجيوش جيوشكم
يا وصمة بجبينها
غرقى إلى أذقانكم
بالعار فى أوحالها
هلكى لفرط ذنوبكم
يا شر كل عصاتها
عودوا إلى شرع الإله
وطلقوا إلحادها
ودعوا جنود الحق
للصحراء يقتحمونها
لتعود أرض المسلمين
إلى عزيز كيانها
عادت تناجى ربها
فى ليلها ونهارها
تستمطر الرحمات للش
هداء فى محرابها
دنيا المجاهد كلها
محن لصهر رجالها
الشوك بين سهولها
والزهر فوق هضابها

قطتى

فى سجن طرة استأنست القطط المتوحشة التى كانت تخطف لقيمات رديئة من بين أيدى المسجونين , فلما سمح بالزيارة وتوفر الطعام أصبحت وديعة مستأنسة لا تعتدى على الطعام , وأقلعت عن خيانات كانت فى يدها فتلاشت .

أما الجلادون فقد سرقوا الطعام وباعوا الماء للأبرار وظلوا كما هم بلا إنسانية ولا ضمير .

وهذه قصة قطتى :

من كل عاطفتى ومن وجدانى
من فيض كل مشاعرى وجنانى
من عمق أعماقى أخط تحيتى
شعرا إليك تصوغه ألحانى
ما قلته يوما أداهن حاكما
أو قلته فخرا ليرفع شانى
ما قلته لحنا لكسب معايش
شعرى يصغ لطاعة الرحمن
وبطاعة الرحمن أنشد راحتى
فى جنة الفردوس والرضوان
من بين قضبانى ومن زنزانتى
بين الظلام وقسوة السجان
أسمعك قصة قطة كانت لها
فى النفس آثار ونيل معانى
جاءت لتخطف الطعام بخلسة
وتروغ وسط رحابة الجدران
ساءلت نفسى هل نجيز عقابها
بالسوط والتعذيب والحرمان
كلا فما اقترفته كان أساسه
جوعا يثير حفيظة الجوعان
ثارت على الحرمان وهى محقة
والأمر يخرج من يد الغضبان
لجأت إلى التنقيب عن زاد لها
وبرغمها جنحت إلى العصيان
ناديتها فتمنعت من خشيتى
داعبتها فتوجست عدوانى
فقذفت فائض وجبتى فى قربها
كيما أخفف ما ترى وتعانى
وتمر أيام فتألف صحبتى
قاسمتها زادى بغير توانى
علمتها ذوق الحلال فطلقت
ذوق الحرام ومنهج الشيطان
وتبيت تحرس وجبتى بأمانة
عجبا لصنع الواحد المنان
هى شرعة الرحمن كم رسمت لنا
رشدا يحقق عزة الانسان
كم لقنتنا الحب عذبا صافيا
تمحو به الأحقاد فى تحنان
لو أنفقوا ما فى الوجود جميعه
ما ألفوا قلبا بأى مكان
لكنه الرحمن ألف بينهم
فإذا بهم فى قمة الأزمان
لو كان خير الرسل فظا ما رأى
التاريخ شعبا حاطم الأوثان
لا يطفىء النيران مثلها
والحقد لا يمحوه حقد ثانى
من يزرع الأشواك يجنى جرحه
بدم يسيل ودمعة الهتان
هذا طريقى فى الحياة أرومه
خلوا من الأحقاد والأضغان
كل الذى أرجوه دين محمد
تسمو به صوب العلا أوطانى
فالدين توأمه الحكومة دائما
إن صحت النيات فى السلطان
الدين أصل والحكومة حارس
وهما بهذا الوصف مللتقيان
إن غاب أصلى فى الحياة فإننى
عدم بجوف القبر فى أكفانى
أو ضل سلطانى فيا ويحى إذن
مما أكابد أو يضيع كيانى
دمعى عصى إن أرادوا سكبه
لكن درس قطيطتى ابكانى
عجبا لأمرك قطتى فى توبة
والجمع ملتف إليك ورانى
خالفت كل محرم من بعدها
فارقت كل طبائع الحيوان
والناس بين جهالة وضلالة
لا يؤمنون بمنهج القرآن
ضا ابن آدم نهجه متأرجحا
ما بين مقترف الذنوب وزانى
ويبيت فى ظلماته مترنحا
فحياته ليست بذات معانى
قولى لهم يا قطتى درس الهدى
وخذى بأيديهم إلى العرفان
أو لقنيهم ما ينير قلوبهم
بالحب والإيثار والإحسان
لا ظلم لا استبداد لا استرقاق
فى شرع الإله القاهر الديان
سأظل حرا ما حييت منددا
بالبطش والجبروت والطغيان
روحى على كفى فداء عقيدة
فى ظلها الوافى تخذت مكانى
ويظل صوتى ما حييت مجلجلا

ذ::::::::وق المهانة ليس فى إمكانى

يا دهر.. عفوا

يا دهر عفوا ويا تاريخ معذرة
كم سجلوا فيكما زروا وبهتانا
كم ألبسوا الظلم ثوب الحق واقترفوا
من الجرائم أشكالا وألوانا
ما مات من باع للرحمن فى ثقة
فى ساحة الحق أرواحا وأبدانا
إنى لأسجد للرحمن لست أرى
سواه للحق والأطهار معوانا
أين السياط وأين اليوم عصبتكم
يا شر من أنجبت للشر دنيانا
لا عقل لا دين لا اخلاق تعصمهم
كم أتقنوا من صنوف القتل ألوانا
يا دعوة الحق سيرى رغم أنفهم
وجلجلى فى الورى فخرا وإيمانا
لن نستكين لمغرور يحاربنا
مهما تطاول إلحادا ونكرانا
هو المعز المذل الحق سيدنا
هو القدير الذى للحق أبقانا
فلا المجازر قد أحنت لنا عنقا
هو المهيمن أخزاكم ويرعانا
الله أكبر يا أخى فرحا
فالحق يمحق أصناما وأوثانا

محنة آل مدكور تجار الفاكهة

فى غضون شهر ديسمبر سنة 1965 عدت إلى السجن الحربى بعد غيابى عنه قرابة شهر فى أبى زعبل , وكانت جراحاتى لا تزال تثعب دما وصديدا , وتلقانى العسكرى سمير , وهو مسيحى و وكان يعرفنى و فرجوته أن يجعلنى فى زنزانة فى الدور الأرضى قريبا من الدورة , فكان نصيبى زنزانة 104 أما البئر قريبا من الدورة .

وقد راعنى ما رأيت .. ويا هول ما رأيت .. رأيت شابا فى نحو الثلاثين من عمره , وقد ارتمى فى جانب على مرتبة إسفنج وجسمه كله جراحات حتى صار عظاما فى جلد أو جلدا فى عظام, وعاجزا تماما عن الحركة , ويتولى زملاؤه معاونته لقضاء حاجته فى القصرية ...

بعد أن اطمأن كل منا إلى صاحبه , راح إخواننا يقصون قصته , وملخصها :

أن الأخ محمد مدكور من بلدة حلابة من أعمال مركز قليوب , يقوم والده بزراعة الخضر والفواكه , ويتولى هو وإخوته تسويقها و جاء أخوه سيد إلى القاهرة يوم الجمعة لقضاء بعض حاجاته , فساقته قدماه إلى شارع الأزهر , ولكا جاء وقت الصلاة توجه إلى مسجد الحسين , وبينما هو فى طريقه اشتبه فيه أحد رجال الأمن , وبتفتيشه عثر معه على مسدس فقبض عليه , وسرعان ما وجهت إليه تهمة اعتزام اغتيال الرئيس , إذ وافق ذلك اليوم وجود الملك فيصل فى مصر , وقد توجه مع جمال عبد الناصر للصلاة فى الجامع الأزهر , ووجهت للسيد مدكور وهو فلاح ليس له أى توجه سياسى أو انتماء لأية جهة , ومسدسه بحكم عمله كمزارع مرخص , وأودع فى مبنى المخابرات , حيث لقى من الأهوال ما أعجزه عن المشى , ولم يكتفوا بالسيد حائز المسدس بل اعتقل صاحبنا محمد وناله ما ناله , وكذلك أبوه وعمه وأولاده ولم يفلت نساء آل مدكورمن شبكة الإعتقال , مثل ما حدث فى كرداسة وسنفا وكمشيش .. ولكنه منطق الظغاة , يحسبون كل صيحة عليهم .

وظل الرجل والعم وأولادهما رهن المعتقل شهورا وإن أفرج عن النساء بعد إخراجهن من بيوتهن وترويعهن .

وفى هذه الأثناء تلقى محمد مدكور طرد ملابس يحتوى على جلباب صوف وقفطان شاهى وحزام شاهى غير ملابس أخرى , وكان محمد قد شفى وصار قادرا على الحركة والقيام , وارتدى محمد القفطان وطوقه بالحزام ومن فوقه الجلباب الصوف بنى محروق , وكان محمد وسيما , وجهه مشرب بحمرة , فبدا فى الزى الجديد وجيها من الوجهاء من ذوى اليسار , ولما كنت لسابقة اعتقالى أعلم أن العساكر يقصدون ذوى المراكز الإجتماعية المرموقة أو من يعرفون أنه من أهل السعة فيصبون عليهم صنوف العذاب لهذا السبب انطلاقا من عقدة الحقد الاجتماعى فقد نصحت الأخ محمد أن يخلع هذه الملابس حتى لا يتعرض لسهام ذوى العقد الإجتماعية من العساكر .

وبينما نحن نتجادل دخل علينا العسكرى المأفون زغلول , ونظر إلى محمد وهو على هذه الهيئة وشهق شهقة دلت على نفسية معقدة وقلب مفعم بالحقد على كل ذى نعمة وبدا فى عينيه حقد كان مدفونا , وتوجه إلى محمد يتحسس القفطان والحزام والجلباب وهو يتملظ ويقول وهو يعض شفتيه : إيه ده يا وله ؟ رد الأخ محمد : اتفضل يا افندم . فقال زغلول : الحاجات دى تساوى كام ؟ .. رد مدكور : والله يا فندم مانا عارف , الجماعة بعتوهم . اتفض يا فندم . فتوجه إلى يسألنى كم تساوى ؟ فقلت وأنا أحاول بخسها القفطان ده 3 متر فى 2 يساوى 6 ولزام 2 جنيه تقريبا وقماش الجلابية 5 جنيه وتفصيل 5 جنيه يعنى كلهم بالكتير 18 جنيه .

وانصرف صاحبنا ثم عاد بعد قليل يفتح علينا الزنزانة وبلا مقدمات راح يهوى بالسوط على الأخ مدكور فى قسوة بالغة . وظل يتابع الأخ محمد يتعقبه فى الدورة ويكيل له اللكمات , ولا يفتأ يزورنا ليمارس هوايته . ودخل علينا مرة فقصد الأخ مدكور ولى ذراعه بعنف حتى أوقعه على الأرض , ومدكور يصرخ ذراعى .. ذراعى , وراح الملعون يركله بحذائه الميرى دون وعى فى بطنه وظهره وكل جسده . وبلغ الإضطهاد أقصاه حين دخل علينا قبيل المغرب وهوى بالسوط على رأس مدكور فسال الدم من وجهه وأذنه , ورحنا نمسح الدم بقطعة فانلة وانخرط الأخوة فى بكاء يدمى القلوب وسألونى : ماذا نفعل ؟ قلت له : يا شباب وقعنا فى يد من لا يرحم , وليس لنا إلا أن نلجأ إلى الله , وشرعنا ندعو بقلوب مكلومة ونفوس محطمة , ثم انبرى أحدهم ولعله الأخ د. ممدوح الديرى رحمه الله وقال : نلجأ إلى الله صحي , لكن لا بأس أن نشكو للشاويش نجم . وكان هذا الشاويش زميلا فى الأزهر لخيرى مدكور ابن عم محمد وكان يعطف عليهم بسبب هذه الصلة . فقال مدكور : يا عم أحمد أنا بنضرب على الفاضى والمليان , أنا لازم اشتكى للشاويش نجم , وراح يدق باب الزنزانة مناديا على الشاويش نجم , الذى جاء يسأل عما نريد , فعرضنا عليه الحكاية رورأى الخرقة ملطخة بالدم , فتركنا وذهب وأحضر معه زغلول وسأله : ليه عملت كده ؟ رد بقوله : أصله كان بيطل من خرم الزنزانة , فهز رأسه ثم انصرف , وجلسنا ننتظر ما تتمخض عنه هذه الشكوى , وبعد ساعة من الزمن تقريبا , جمع العساكر فى حوش السجن وجعل يتحدث إليهم وقد سمعناه ينصح بعدم التعرض للمعتقل إلا إذا أتى ما يخل بالنظام , ونمنا ليلتنا والهم يعصر قلوبنا والحزن يغشانا لما يلقاه الأخ محمد من بلاء فوق ما صب عليه غداة اعتقاله .

وفى الصباح خرجنا إلى الدورة ثم عدنا وقد ظننا أننا بلغنا مرادنا وأن هذا العلج قد كف عنا لإذاه , فإذا به يأتى إلينا ومعه عسكرى مكلف بالزنازين المجاورة , وكلاهما معجون فى الشر , مغرم به .. وبادرنا زغلول : يعنى إيه نجم ؟ ويعنى إيه أتخن ضابط هنا دول كلهم على ...والله يا ولاد ال.. لوريكو .

فعدنا إلى الإلتجاء إلى الله , ثم بدا أنه كان فقط ينفس عما فى نفسه وكف الله عنا أذاه , ولكن راح يضايقنا من طريق آخر , الزنزانة 104 أطلع بره . نطلع . ثم يأمرنا دون سائر الزنازين المجاورة بحمل القمامة لإلقائها فى المقلب خارج السجن , ونحن كذلك راضون وآخر حلاوة , ومرة أخرى الزنزانة 104 اطلع برة . نطلع .. كل واحد ياخد صفيحة وعليكم ترشوا الحوش كله , حاضر يا فندم .. ونحن نحمد الله أن صرنا زبالين نحمل الزبالة وخدامين نرش الحوش , ومقاول الأنفار بتاعنا العسكرى زغلول .

واقتنع الأخ مدكور أن يعود إلى ملابسه العادية أوفرهول كان الحصول عليه منحة يحظى بها المحظوظون .

قافلة الشهداء

(الوجبة الأولى )

فى الأيام الأولى من الإنقلاب , شنق العاملان خميس والبقرى من عمال كفر الدوار , فكان ذلك أول البغى .. وتبع ذلك جموع الشهداء من الإخوان المسلمين الذين ساندوا الانقلاب فى أول الأمر رجاء تحقيق الاصلاح المنشود . فلما انحرف رجال الانقلاب عن الجادة , وقف الإخوان وقفة رجال المبادىء الذين لا يساومون على مبادئهم أو يخدعون بغيرها , فكان الصدام الذى غدر فيه النظام الحاكم حتى استباح الدماء , وعض الأيدى التى ساندته , بجرأة ووقاحة , فكان فى أول قائمة الشهداء صفوة من قادة الدعوة ورجالها الذين سطروا بدمائهم الزكية صفحات خالدة يتملاها الجيل بعد الجيل , واستقبلوا الموت فى شجاعة نادرة , وانطلقت ألسنتهم بكلمات مضيئة.

فماذا قال هؤلاء الشهداء ؟

ذكرت جريدة فرنسا المساء فى أعقاب تنفيذ حكم الإعدام شنقا فى شهداء الإخوان الستة عام 1955 , ما قاله الشهداء قبل التنفيذ .. بينما صمتت صحافتنا سكان القبور .

قالت الجريدة : إن عبد القادر عودة انطلق إلى ساحة التنفيذ بقور وهو يزعق بأعلى صوته ( لا يهمنى أن أموت بين أهلى .. أو يلقى بى فى البحر .. أو أغيب فى التراب , ما دمت على الحق .. )

وكانت هذه الكلمات التى ذكرتها الجريدة ترجمة لتلك الأبيات التى رتلها الأستاذ عبد القادر بقوة وثبات .. وهى تلك الأبيات التى ارتجلها من قبل سيدنا خبيب بن عدى رضى الله عنه حين صلبه المشركون , وراحوا يرمونه بالسهام والرماح وهو ينشد :

ولست بمبد للعدو تخشعا
ولا جزعا , إنى إلى الله مرجعى
ولست أبلى حين أقتل مسلما
على أى جنب كان فى الله مصرعى
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع

ثم قال الشهيد : ( إن دمى سينفجر لعنة على هذا النظام .. اللهم اجعل كل قطرة من دمى كيدا فى نحورهم ) .

ماذا قال الشهيد يوسف طلعت ؟

تقول جريدة فرنسا المساء : ( لقد بدا على وجه يوسف طلعت ( نقاء ) من نوع غريب , إى والله . نقاء من نوع غريب , إنها إشراقة الشهادة التى بدت على وجهه . ولما سئل عما يرغب . قال : اللهم اغفر لى ولمن عذبونى . كلمات لا تصدر إلا من شهيد يطلب المغفرة لمن أساءوا إليه . ثم أومأ برأسه إلى رئيس هيئة التنفيذ , فلما دنا منه , طلب أن يشد وثاقه جيدا , ودهش الرجل وسأله فى ذلك , فقال الشهيد: أخشى أن تنكشف سوءتى .

يا إلهى . رجل على قيد خطوات من المشنقة , وقد نزل به من العذاب والنكال ما نزل , يطلب لنفسه ولمن عذبوه المغفرة , ثم هو لا يشغله إلا أن يلقى الله مستورا . كلام لا يصدر إلا من شهيد .

تذكرنى هذه الواقعة الأخيرة بما روى من أن أحد الولاة فى عهد الدولة الطولونية , كان يكره كبير العلماء لجرأته فى قوله الحق , فأراد أن ينتقم منه , فجوع أسدا بضعة ايام واستدعى الرجل وأمر ا، يوضع له مقعد فى حديقة القصر يجلس عليه , ثم أمر أن يطلق عليه الأسد الجائع , ووقف فى شرفة القصر ينظر ما يفعل الأسد .

انطلق الأسد مسرعا نحو الشيخ وهو جالس وقد وضع رجلا على رجل فلم يتحرك من مكانه , وظل عاقدا رجليه , فراح الأسد يلحس ساقة وهو ثابت لا يتحرك , فربت الرجل على ظهر الأسد وتمتم بكلمات , فانصرف الأسد دون ان يصيبه بأذى و ثم وضع كفه على خده وجعل يفكر .

عندئذ أمر الوالى أن ينصرف الأسد ويؤتى إليه بالعالم الرجل , فلما مثل بين يديه سأله : هجم الأسد عليك فلم تتحرك .

فرد الرجل لأننى أعلم أنه لن يصيبنى إلا ما كتب الله لى .

سأله الوالى : وفيم كنت تفكر ؟

قال : كنت أفكر ألعاب الأسد نجس أم طاهر ؟

الشهيد الشيخ محمد فرغلي  : لم يزد على أن قال : سألقى الله وهو عنى راض , ثم همس فى أذن الواعظ بكلمات لم نسمعها ..

الشهيد إبراهيم الطيب : قال إننى أموت مسلما , , أحمد الله أن اختارنى شهيدا , وغدا يتساوى الظالم والمظلوم فى الوقوف بين يدى احكم الحاكمين .

محمود عبد اللطيف : ( الذى نسب إليه إطلاق الرصاص على عبد الناصر ) إن الله قوى وقادر على تخليص مصر من هذه الطغمة الباغية

هنداوي دوير : قال أين وعد الرئيس لى ؟... ثم تقول الجريدة : وجر الرجل .

هذه هى الوجبة الأولى من الشهداء الذين علقوا على أعواد المشانق 1954عدا من دفنوا فى جبل المقطم , والذين قضوا تحت وطأة التعذيب ويلحق بهم على درب الشهداء ثلاثة وعشرون من خيرة شباب الإخوان المسلمين قتلوا رميا بالرصاص فى داخل العنابر أثناء قضائهم المدة المحكوم عليهم بها فى ليمان طرة عام 1957 .

" ... أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله .. ؟ . "

أما الوجبة الثانية , فتتمثل فى الشهيد سيد قطب .. مؤلف الظلال وصاحب القلم السيال والسحر الحلال , وإخوانه الشهداء عبد الفتاح إسماعيل ومحمد يوسف هواش , ورفعت بكرابن اخت الشهيد سيد قطب , والشاعر الشهيد محمد عواد , وكمال السنانيري وغيرهم , ممن غيبوا فى التراب بعد أن أذاقهم الجبابرة سوء العذاب .

إن هذه الدماء الزكية التى أريقت لم تضع هدرا , بل هى الرى الذى تروى به شجرة الدعوة حتى تؤتى ثمارها , وقد آتت ثمارها بحمد الله . فها هى ذى جموع الشباب تتدافع لتنضوى تحت لواء الجماعة , رغم يقينها بما قد تتعرض به من فتن وشدائد . والكلام عن الشهيد سيد قطب , لا تتسع له هذه الوريقات وحسبى أن أسوق واقعة عاصرتها تنم عن صدق هذا الشهيد .

حين حكم عليه بالإعدام من محكمة الدجوى عام 1965 لم ينفذ فيه الحكم توا وعلمنا أن شفاعات قدمت لعبد الناصر من الملك فيصل وعبد السلام عارف رحمهما اله وغيرهما لتخفيف الحكم , وظن المتابعون للأحداث أن هذه الشفاعات ستلقى قبولا من الطاغية , واستمر الحال على ذلك قرابة السنة و وكدنا نقطع بنجاح الوساطات .. وفجأة ونحن نصلى الفجر افتتح الإمام القراءة من سورة غافر , وهى تعرض للحوار الذى دار بين مؤمن آل فرعون وقومه .. وفرغنا من الصلاة , والأذهان خالية تماما من هذا الأمر , وفى أول نشرة للأخبار فوجئنا بهذا الخبر : نفذ حكم الإعدام ( فجر اليوم ) فى كل من : سيد قطب غبراهيم , ومحمد يوسف هواش , وعبد الفتاح إسماعيل .

وهذا على غير ما جرى عليه العمل حيث تنفذ الأحكام فى الصباح بعد أن يسمح لأسرة المحكوم بزيارته وتلبية رغباته إن كانت له رغبات .

ولكن الشهداء الثلاثة أخذوا ليلا ونفذ الحكم قبيل الفجر كما جاء فى النشرة . بينما كان الإمام يتلو قول الله تعالى " أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " راجع الايات من 23 -45 من سورة غافر .

وسئل الإمام عما إذا كان قد قصد قراءة الآيات لعلم جاءه عن تنفيذ الحكم فجزم بأنه كسائر إخوانه خالى الذهن تماما , وأنه ما قصد هذا الإختيار وإنما أجراه الله على لسانه قدرا .

هذه الواقعة إن دلت على شىء , فإنما تدل على صدق هذا الشهيد ورفاقه أجراها الله فى حينها على لسان القرىء و وتلك عاجل بشرى المؤمن , وفى الحديث " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله , ذلك الشهيد منزلته فى الجنة بين حمزة وجعفر " .

اللهم تقبلهم فى الصالحين . وأعل قدرهم فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر . آمين .

وندع للشهيد صاحب الظلال يمتعنا بهذا اللحن الجميل من شعره الرقراق حين شاهد إبان سجنه فى الخمسينات أخا يوسف فى الأغلال وقد نزف الدم من جسده كتب يقول بعنوان ( اخى )

أخى أنت حر مراء السدود
أخى أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما
فماذا يضيرك كيد العبيد
أخى ستبيد جيوش الظلام
ويشرق فى الكون فجر جديد
فأطلق لروحك إشراقها
ترى الفجر يرمقنا من بعيد
أخى قد أصابك سهم ذليل
وغدرا رماك ذراع كليل
ستبتر يوما فصبر جميل
ولم يدم بعد عرين الأسود
أخى قد سرت من يديك الدماء
أبت ان تشل بقيد الإماء
سترفع قربانها .. للسماء
مخضبة بوسام الخلود
أخى هل تراك سئمت الكفاح
وألقيت عن كاهليك السلاح
فمن الضحايا يواسى الجراح
ويرفع رايتها من جديد
أخى هل سمعت أنين التراب
تدك حصاه جيوش الخراب
تمزق أحشاءه بالحراب
وتصفعه وهو صلب عنيد ؟
أخى إن ذرفت على الدموع
وبللت قبرى بها فى خشوع
فأوقد لهم من رفاقى الشموع
وسيروا بها نحو مجد تليد
أخى إن نمت نلق أحبابنا
فروضات ربى أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا
فطوبى لنا فى ديار الخلود
أخى إننى ما سئمت الكفاح
ولا أنا ألقيت عنى السلاح
وإن طوقتنى جيوش الظلام
فإنى على ثقة بالصباح
وإنى على ثقة من طريقى
إلى الله رب السنا والشروق
فإن عافنى الشوق أو عقنى
فإنى أمين لعهدى الوثيق
أخى أخذوك على إثرنا
وفوج على إثر فوج جديد
فإن أنا مت فإنى شهيد
وأنت ستمضى بنضر جديد
قد اختارنا الله فى دعوته
وإنا سنمضى على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم
ومنا الحفيظ على ذمته
أخى فامض لا تلتفت للوراء
طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلتفت ههنا أو هناك
ولا تتطلع لغير السماء
فلسنا بطير مهيض الجناح
ولن نستذل ولن نستباح
وإنى لأسمع صوت الدماء
قويا ينادى الكفاح الكفاح
سأثأر لكن لرب ودين
وأمضى على سنتى فى يقين
فإما إلى النصر فوق الأنام
وإما إلى الله فى الخالدين

ولا أحرم القارىء الكريم من هذه اللوحة للشهيد وعنوانها : " هبل هبل "

هبل هبل رمز السخافة والدجل

من بعد ما اندثرت على أيدى الأباة

عادت إلينا اليوم فى ثوب الطغاة

تتنشق البخور تحرقه أساطير النفاق

من قيدت بالأسر فى قيد الخنا والإرتزاق

وثن يقود جموعهم يا للخجل

هبل هبل

رمز السخافة والجهالة والدجل

لا تسألن يا صاحبى تلك الجموع

لمن التعبد والمثوبة والخضوع

دعها فما هى غير خرفان القطيع

معبودها صنم يراه العم سام

وتكفل الدولار كى يضفى عليه الاحترام

وسعى القطيع غباوة يا للبطل

هبل هبل

رمز الخيانة والجهالة والسخافة والدجل

هتافة التهريج ما ملوا الثناء

زعموا له ما ليس عند الأنبياء

ملك تجلب بالضياء وجاء من كبد السماء

هو فاتح هو عبقرى ملهم

هو مرسل هو عبقرى ملهم

هو مرسل هو عالم وملعلم

ومن الجهالة ما قتل

هبل هبل

رمز الخيانة والعمالة والدجل

صيغت له الأمجاد زائفة فصدقها الغبى

واستنكر الكذب الصراح ورده الحر الأبى

لكنما الأحرار فى هذا الزمان هم القليل

فليدخلوا السجن الرهيب ويصبروا الصبر الجميل

وليشهدوا أقسى رواية فلكل طاغية نهاية

ولكل مخلوق أجل هبل هبل

هبل هبل

أمثال الطغاة ومثل دعوة الله :

كنا صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

وهذا المعنى صوره د. يوسف القرضاوي فى نونيته , وإليك بعضا منها :

أظننت دعوتنا تموت بضربة
خابت ظنونك فهى شر ظنون
بليت سياطك والعزائم لم تزل
منا كحد الصارم المسنون
إنا اعمرى إن سكتنا برهة
فالنار فى البركان ذات كمون
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى
أبدا وفى التاريخ بر يمين
ضع فى يدى القيد ألهب اضلعى
بالسوط ضع عنقى على السكين
لن تستطيع حصار فكرى ساعة
أو نزع إيمانى ونور يقينى
النور فى قلبى وقلبى فى يدى
ربى وربى حافظى ومعينى
سأظل معتصما بحبل عقيدتى
وأموت مبتسما ليحيل دينى

هذا هو الشهيد سيد قطب مؤلف المعالم والظلل وصاحب القلم السيال والسحر الحلال , والذى شنقوه بليل بعد أن أرهقوه تعذيبا وتأنيبا , وبعد أن يئسوا من استكتابه ما زعموه اسرحاما يقدم إلى قاتله ليعفى رقبته من حبل المشنقة , فأبى الشهيد البطل فى عزة المؤمن واستعلائه قائلا فيما سمعت : إن كان هذا الحكم حكم فأنا راض به كل الرضا وإن كان حكم الطاغية فإنى لا أتشفع عند ظالم أبدا , وإن إصبع السبابة التى تشهد لله بالواحدانية فى الصلاة تأبى أن تخط حرفا تقر به بغى هذا الظالم . ومضى إلى ربه راضيا مرضيا ليسعد باستقبال ملائكة الله لروحه فى السماء ولسان حاله يقول " يا ليت قومى يعلمون , بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين " يس : 26 , 27 .

اللهم أعل قدره , ومتعه بلنظر إلى وجهك الكريم , كفاء ما بذل لإعلاء كلمتك .

مذبحة ليمان طرة

مذبحة ليمان طرة – أول يونية 1957 – وما لابسها من غدر وخسة تدفعنا ونحن نسير على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستدعى من أحداث السيرة النبوية حادثين هما توأم لحادثة هذا العصر النكد . إنهما حادثتا الرجيع وبئر معونة استشهد فيهما قرابة الثمانين من جلة الصحابة غيلة وغدرا , لنستلهم منهما الدروس والعبر ونطمئن إلى سلامة الطريق وأن هذه الدعوة التى يحملها الجيل الحاضر ومن يأتى بعدهم هى الدعوة الأولى التى حملها النبى الكريم وأصحابه معه , وما عاناه المؤمنون ويعانونه فى هذه الأيام من أذى واضطهاد هو ما عاناه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار بزعامة النبى صلى الله عليه وسلم , وأن ما تم من دحر الباطل وذهاب سلطانه هناك ورفع راية الإسلام عالية خفاقة هو ما ينتظره المعذبون اليوم , وهو محقق إن شاء الله ما استقاموا على الطريق وأخلصوا القصد لله عز وجل .

" ويومئذ يفرح المؤمنون , بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم , وعد الله ر يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعملون " الروم : 4-6 .

وهذا وعد الله و ولم يخلف الله وعده .

" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنايعبدوننى لاى يشركون بى شيئا " النور : 55 .

ثالث المرشدين .. عمر التلمساني

حدثنى الأستاذ عمر التلمساني – رحمه الله – أنه بعد الحكم عليه من محكمة الشعب عام 1954 ( 15 ) سنة رحل إلى السجن لقضاء المدة المحكوم بها , وأودع الزنزانة منفردا وألقى إليه ببرش من الليف وبطانية مستعملة وقصرية كاوتشوك للشرب ومثلها للبول , وقروانة ألومنيوم يأكل فيها .

ثم خلا إلى نفسه يستعيد ذكرياته مع الإمام الشهيد الذى بين له بجلاء عقبات الطريق , وما يكتنفها من مشاق , وما يلقاه المؤمن من فتنة وابتلاء وأنه أصدقه النصيحة .

ويستطرد الأستاذ عمر فيقول : وقد قررت أن أقضى المدة بكامل الرضا والارتياح , انفذ ما يلقى إلى من تعليمات بمنتهى الأمانة والدقة , دون تبرم أو سخط , وألا أدع لأحد على قلبى – غير الله – سلطانا .

وجاءت محنة 1965 وكان لا يزال رهن الحبس , فانتهزها الطغاة فرصة للضغط عليه كى يظفروا منه فى دوامة الأحداث على تأييد للرئيس ونظامه , بعد أن أعيتهم الحيل فيما مضى دون جدوى , فاستدعى الرجل ليبدى رايه فى الإخوان وسيف البغى مسلول يشتاق إلى جز الرقاب , فكان رده الذى لا يتلجلج فى خضم الأحداث وتعاظم قوى الشر والظغيان : والله ناس صحبتهم فى السراء والضراء , واطمأن قلبى إلى صدقهم , ولا يليق بمثلى أن أطعن عليهم فى محنتهم , فأنجاه الله بصدقه من كيد الكائدين , فلم يظفروا منه بما أرادوا .

كما روى لى – رحمه الله – أنه وهو طالب فى كلية الحقوق , كانت له سيارة خاصة , فإذا حدث وتعطلت وعرض عليه زميل من أبناء الباشوات أن يصحبه فى سيارته اعتذر له شاكرا فى إباء وشمم مؤثرا ركوب الترام , كما كان له طقم خاص للمائدة ينفرد وحده باستعماله , فلو حدث واستعمل أحد من أهل اليت طبقا أو ملعقة أو فنجانا طرحه جانبا وأبى أن يستعمله .

رجل فى مثل هذا المستوى من الرفاهية والأبهة بحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما دون جريرة , ماذا سيفعل وفرشه برش من الليف , وغطاؤه بطانية مستعملة , وقروانة ألومنيوم يقدم له فيها السوس المفول , والعدس المحلى بالحصا والفاصوليا الجافة , والبصارة الدكر , وكلها لا تقوى معدته على هضمها ؟

ولكنه قضى مدة السجن كاملة وفوقها سنتان وأكثر و ضاربا المثل الحى للمسلم الصابر المحتسب الذى يهزأ بالأحداث , ولا تغيره الشدائد ولا يميل مع الريح تميل . لقد وعى عن أستاذه الإمام الدروس الغالية من مثل قوله :

إن تكوين الأمم وتربية الشعوب , ومناصرة المبادىء , وتحقيق الآمال تحتاج من الأمة التى تحامل هذا أو الفئة التى تدعو إليه – على الأقل – إلى قوة نفسية هائلة تتمثل فى عدة أمور :

إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف , ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر , وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل , ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له , يعصم من الخطأ فيه والإنحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره .

تحمل ذلك كله وشعاره الذى يترنم به :

وكن رجلا كالضرس يرسو مكانه
ليطحن لا يعنيه حلو ولا مر
فإن جنح الأبطال فى كل وقعة
فما عرفت حرب بها غلب الصبر

كان المحكوم عليهم فى قضايا جنائية من غير الإخوان يقومون بالخدعة العامة , فيتسابقون إلى خدمة الأستاذ عمر بكل سبيل لما كان يغمرهم به من بر وعطف , باعتبارهم ضحايا لما يسود المجتمع من فساد وظلم نتيجة الإعراض عن تطبيق شرع الله الذى لو أخذ به لاستراح الحاكم والمحكوم وما وجدت هذا الجيش من مرتكبى الجرائم حتى غدت السجون تخرج اكثر مما تخرج المدارس والجامعات . فى ليلة شديدة البرد أراد هؤلاء المسجونون أن يتحفوا الرجل بكوب من الشاى يستدفىء به .. فما الحيلة وليس عندهم نار ينضحونه عليها , وإن وجدت فما السبيل إلى إيصاله إليه والزنزانة مغلقة , ومفتاحها لدى ضابط النوبة .

كان المسجونون يستخدمون نصيبهم من الحلاوة الطحينية كموقد يشعلونه بعود من الثقاب ويضعونه بين حجرين فينضج الشاى .. ثم اهتدوا إلى وضع الشاى فى علبة سلامون بيضاوى ثم إزاحتها من أسفل باب الزنزانة حيث يبقى فراغ 3 سم ويهمسون للأستاذ عمر : خد دفى صدرك يا أستاذ , ويشرب الأستاذ عمر شايا ألذ نكهة مما كان يشربه فى الفناجين المذهبة .

كما حدث أنه كان بالسجن ضابط ( نكدى ) يكره الإخوان ويتفنن فى مضايقتهم .. فمر يوما بزنزانة الأستاذ عمر فرآه قد ارتدى البدلة الزرقاء – بدلة السجن – مكوية , وقد بدا فيها الأستاذ عمر فى قمة الأناقة . وكأن هذا الغر قد غاظه أن يبدو الأستاذ عمر فى مظهر حسن , فسأله : إيه ده ؟ فرد الأستاذ عمر : بدلة السجن يا فندم , فعقب الضابط بقوله : انت راح تشترى السجن ؟ فرد الاستاذ عمر على الفور : لا والله ما اشتريته ولا يدخل ذمتى بمليم . ثم راح الضابط يفتش الزنزانة ويقلب ما فيها رأسا على عقب , فعثر على قصافة أظافر , فوجه اللوم إلى الأستاذ عمر لما أنها من الممنوعات . وأحس الأستاذ عمر أنها راقت فى عينيه , فهتف به أن يأخذها فأخذها وهو فرح . يقول الأستاذ عمر : إذا كانت مثل هذه اللعبة ترضى نفسيته فسوف أعهد إلى الأهل بجلب مثل هذه اللعبة ألهيه بها عنى .

وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب , واستقر فى أعماق الفؤاد ودانت به الأرواح , لابد أن يكون له مظاهر وآثار تدل عليه وما أكثر ما ترك الأستاذ عمر من آثار خلت ذكره وانتزعت كلما الثناء من فم الخصوم قبل الأصدقاء .

مواقف

(1) رقة : حدث أن كنت عائدا من دورة المياه بعد أن قضيت حاجتى فلمحت الأستاذ عمر متجها إلى الدورة وهو يسرع الخطى , فألقيت عليه التحية فلم أتلق منه ردا , وفسرت الأمر بأنه لم يسعنى بالتأكيد . ولما عدت إلى العنبر بعد أكثر من ساعة أخبرنى رفاقى أن الأستاذ عمر جاء يسأل عنى أكثر من مرة, وأ،ه يبدوا كان قلقا , وأكد عليهم إبلاغى فى أول فرصة , وما علمت برغبته حتى سارعت إلى لقائه , ولشد ما كانت دهشتى حين رآنى وكان جالسا فنهض واقفا يضمنى إلى صدره ويعتذر فى حياء جم دونه حياء العذارى , مؤكدا لى أنه لم يتمكن من رد التحية بسبب هجمة البول التى كانت كثيرا ما تهاجمه , ورحت بدورى أهون عليه الأمر ذاكرا أننى والله ما ظننت به إلا خيرا و أتصور أن مثله تفوته هذه البدهية ,أو قطعا لم يسمعنى , ولكن الرجل ظل ولفترة طويلة كلما لقينى يبادرنى معتذرا .

(2) يحترم نفسه  : حين قدم إلى معتقل طرة بعد قضاء العقوبة (15) سنة كان طبيعيا أن يحتفى الإخوان بمقدمه , كل يبغى أن يظفر بالجلوس إليه , وتوفيقا بين الرغبات عهد إلى الأخ رجب الخميسى – رحمه الله ( توفى فى السجن بعد قضاء 16 سنة ) – تنظيم هذه اللقاءات فكانت تتم بلدور , فاليوم مع نزلاء العنبر 3 وغدا فى العنبر 4 وهكذا .. ولكنه رحمه الله تفاديا لما قد يعتذر منه توجه إلى قائد المعتقل يستأذنه فى أن يتحرك تلبية لدعوات إخوانه , فإن أذن فبها ونعمت وإلا فإنه يلتزم التعليمات ولا يغادر عنبره , فما كان من قائد المعتقل إلا أن رحب به ذاكرا أن له حرية الإنتقال فى أى وقت دونما عائق .

وهكذا كان سلوك الرجل الذى يحترم نفسه ويتفادى ما قد يعتذر منه , ولك أن تتصور العكس لو أنه انطلق لزيارة إخوانه غير مكترث بأمر قائد المعتقل وأحس هذا بتحركاته فأرسل معاتبا ومؤنبا .

(3) أشكوك إلى الله : وإن أنس لا أنس موقفه الرائع الذى شنف أسماع الزمان , وتناقلته وكالة الأنباء المحلية والعالمية , وصار حديث الركبان فى كل أنحاء الدنيا . يوم أن دبر الرئيس الراحل أنور السادات خطة يستدرج بها الأستاذ عمر لحضور مؤتمر خطط له , قاصدا إحراج الرجل على الملأ , غير عابىء بمحنة الرجل بفقد شريكة حياته فجأة , وهى التى شاركته آلام المحنة على مدى ثمانية عشر عاما صابرة محتسبة , فتعمد الرئيس الراحل دعوته إلى هذا المؤتمر وهو لا يزال يعيش حرارة البلوى وعظم المصيبة . ولبى الأستاذ المرشد الدعوة بعد إلحاح من حاشية السادات , وذهب إلى المؤتمر ليصب عليه الرئيس المؤمن جام غضبه وقد اعتلى المنصة وأحاطت به مظاهر الأبهة والعظمة , وهو بين حراسه وحاشيته بينما غريمة قد قارب الثمانين وأحنت ظهره السنون التى قضاها تحت أقبية السجون , وليس له من سند فى مواجهة الطاغية سوى إيمانه بالله الذى لا يتزعزع .

وفى تلك الليلة حاول السادات الاساءة إلى الرجل وإلى الإخوان فاتهمه بتحريض الشباب على النظام والتآمر على أمن الدولة ,أنه فى وسعه أن يغلق مجلة الدعوة التى تعطف وأذن بإصدارها إلى آخر ما قيل فى تلك الليلة مما سمعه الناس مذاعا على الهواء , وأبى المرشد الراشد أن يدع الفرصة تمر دون أن يلقن صاحبنا درسا يخلد على الزمان , فانبرى يفند هذه التهم الباطلة ويقول : أنا لا أحرض الشباب على النظام واسأل مديرى الجامعات كيف يستعينون بى لتهدئة خواطر الشباب والحد من ثورتهم ( مش عمر التلمساني اللى يتآمر .. أنا بعد 18 سنة فى السجن جاء الخبر ان فلان – يقصد عبد الناصر – مات , فلم أشمت ولم أفرح بل أول ما بدر منى الله يرحمه ) ثم صاح الستاذ بأعلى صوته فى وجه السادات : لوأن أحدا غيرك قد اتهمنى وانت رئيس الجمهورية لشكوته إليك , أما وأنت تتهمنى فإلى من أشكوك ؟ أشكوك إلى الله , قالها مرارا فاسقط فى يد السادات وارتعدت فرائصه وكاد ( البايب ) أن يسقط من يده ثم قال يا عمر إنى أخاف الله , اسحب شكواك يا عمر , وصاح من حوله من حملة المباخر اسحب شكواك اسحب شكواك . فجاء الرد قاطعا حاسما : لقد رفعتها إلى إله عادل يريحنى ويريحك .

عاد السادات يقول : نفتح صفحة جديدة .

فرد المرشد : صحح أنت أخطاءك يا محمد يا أنور يا سادات أنت الليلة أحرجتنى وآذيتنى أذية سأذهب بعدها لألزم الفراش .. وأرجو أن يعجل الله بى إليه .

وانفض الحفل على هذا النحو . وانقلب السحر على الساحر . فالظلم مرتعه وخيم وهكذا من سل سيف البغى قتل به .

ولقد بعث السادات إلى الرجل فى بيته ثلاثة من وزرائه فى تلك الليلة يسترضونه . فكان الرد : لقد رفعت شكواى إلى الله .

واستجاب الله دعوة المظلوم وراح السادات صريع غدره وغطرسته على أيد سخرها الله لذلك بعيدا عن تدبير أحد الإخوان , وسار فى جنازته اليهود والأمريكان .

عبد الرحمن البنان : فى أغسطس 1954 اعتقلت ومجموعة من الإخوان بسجن القلعة , وكان ذلك قبل حادث المنشية ببضعة أشهر , والذى على أثره رحلنا إلى سجن مصر وقضينا أياما نقلنا بعدها إلى السجن الحربى , وفى الطريق إليه أخذتنا حماسة الشباب , وانطلقنا بأعلى صوتنا ننشد نشيد السجون :

الله أكبر الله أكبر

الله أكبر فى سبيل الله أدخلنا السجون

والمخرجون من الديار بلا ذنوب يحبسون

الله أكبر وليكن بعد الحوادث ما يكون

لا نستعين بغير ناصرنا وما نلقى يهون

والله أكبر فى سبيل الله أدخلنا السجون

الله أكبر نفحة للمسلمين الأتقياء

الله أكبر فتحت للمهتدى باب السماء

يارب قد ظلموا العباد ومثلوا بالأبرياء

لا نستعين بغير ناصرنا وما نلقى يهون

والله أكبر فى سبيل الله أدخلنا السجون

واستمر هتافنا حتى وصلت بنا السيارة أمام باب السجن , وقد طرقت أصواتنا أسماع الزبانية وزعيمهم .

هذا السجن الذى سيظل وصمة عار فى جبين مصر لا تمحى , وقد زعموا أنهم هدموه تنفيذا لوصية محكمة أمن الدولة العليا فى حكمها فى قضية الجهاد . صحيح أنهم هدموه , لكنهم أقاموا بدله العديد من السجون أهمها سجن العقرب والبقية تأتى إلا أن يشاء الله أمرا , ولا يزال الشباب المسلم يسام الخسف والهوان بين جدران هذه السجون .

ونزلنا من السيارة ولم نكد نجتاز الباب الخارجى حتى لمحنا فرقة من الشياطين مزودين بالهراوات والسياط , يتقدمهم قائدهم المظفر حمزة البسيوني , وكأنه عمرو بأجنادين , وقد ارتدى بلوفر من الجلد وبدا شعره الأشيب أشعث منفوشا ليبدو للناظر فى صورة بطل , بينما داخله ينطوى على روح حيوان أعجم , كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد .

وأعطى الإشارة للزبانية الذين أنطلقوا كالكلاب المسعورة , وبين المعتقلين رجال طاعنون فى السن , فلم يشفع لهم سنهم , ولم يرحموا ضعفهم . وكانت حفلى استقبال يعجز القلم واللسان عن وصفها .

وكان معنا فى تلك الساعة الأخ المجاهد الأستاذ عبد الرحمن البنان الذى شهدت بطولاته أرض فلسطين وهو فتى فى سن السادسة عشرة . لم يرهبه هذا الحشد من الزبانية وزعيمهم . فصاح فى حمزة البسيوني وجماعته . يا كلاب , وهنا ترك الزبانية جميع المعتقلين , وتحولوا إلى عبد الرحمن يوسعونه ضربا ولم ندر ماذا كان من أمره , إلا أن الأخ د. وائل شاهين حدثنى أن الأخ عبد الرحمن ضرب المثل للأخ الصادق المحتسب خلال التحقيقات التى أجريت معه وسط أهوال السجن الحربى , حيث لم يفلت أحد ممن شاء سوء الطالع أن يقدم للمحاكمة من التوقيع على محضر الإدانة الذى دبجه أعوان الطاغوت , إلا عبد الرحمن الذى أصر على عدم التوقيع رغم ما حل به من عذاب تنوء به العصبة من الرجال , وهو مصر على موقفه لا يتزحزح .

وحين مثل أمام محكمة الشعب – وكان الإخوان يطلقون عليها محكمة الشغب ( بالغين المفتوحة ) – وكان شقيقه قد استقدم له محاميا للدفاع عنه , وكان من دأب المحامين إذ ذاك أن يستدروا عطف المحكمة فيستهلوا مرافعاتهم بالثناء على المتهم الضحية , ثم ينحون بالملائمة على الجماعة وقيادتها التى غررت بهؤلاء الشباب الذين لا ذنب لهم ولا جريرة . وسلك محامى عبد الرحمن هذا المسلك , فراح يكيل الثناء لهذا الشاب المسلم المشهود له بدماثة الخلق لولا أنه غرر به , يريد بهذا الأسلوب أن ينتزع البراءة لموكله .

ولم يكد عبد الرحمن يسمع كلام المحامى حتى صاح فى وجهه طالبا منه أن يكف عن مرافعته , وأنه يرفض أن يكون محاميا عنه , ثم أدار ظهره للمحكمة , ورفع ثيابه ليريهم ما فعل الزبانية , ولكن هؤلاء الضباط الذين نصبوا قضاة , وهم يجهلون ألف باء القانون , لم يكونوا إلا دمى يحركها الطاغية كما تحرك الدمى فى مسرح العرائس .

ونال عبد الرحمن عشر سنوات قضاها كاملة فى السجن أفرج عنه بعد انتهائها ثم أعيد اعتقاله فى هوجة 1965 وقضى قرابة أربع سنوات .

كما نقل إلى د. وائل شاهين واقعة أخرى تدل على جلادة عبد الرحمن وصلابته :

ففى مرحلة من مراحل التحقيق معه بإشراف حمزة البسيوني اجتمع عليه مجموعة من الجلادين يوسعونه ضربا بالعصى والسياط وعبد الرحمن جاثم على الأرض وكأنه صخرة . طلب إليه حمزة أن ينهض واقفا فأبى عبد الرحمن أن يجيبه إلى طلبه , وظل جاثما على الأرض يتلقى الضربات الموجعة .. عند ذلك رق القلب الذى وكأنه قد من صخر , وأمرالجنود بالكف عنه , وراح يتبسط معه وكأنه يريد أن يعتذر , ثم أمر أن يطهى له طعام خاص , وبالفعل قدمت له دجاجة محمرة , فى وقت كان السوس المفول والعدس الممزوج بالحصا والفاصوليا الجافة والبصارة الدكر ( فول صحيح ) كادت تمزق أمعاءنا . فأبت نفسه الكريمة ذلك , وترك الطاغية ليفهم 0 إن كان لديه مسحة من عقل – كيف يتأتى له أن يأكل من يد ملطخة بدمه .

هذا الشاب المبارك ,وأمثاله من خيرة الشباب المسلم كثيرون , ذاقوا العذاب ألوانا على يد أناس زعموا أنهم قاموا يحررون الوطن من المحتل الغاصب . فاللهم رفقا بهذا الوطن الجريح.

رجال شرفاء

فى غمرة الأحداث وتسلط الطغاة , يأبى الله عز وجل إلا أن يقيم الحجة على الإمعات من أتباع الظالمين , الذين يلهبون ظهور الأحرار وينكلون بهم إرضاء لسادتهم , بل راينا من هؤلاء من يبالغون فى تنفيذ الأوامر ويتفننون فى ابتكار أساليب جهنمية قد لا تخطر ببال سادتهم المستبدين , فكانوا ملكيين أكثر من الملك .. ورأينا إلى جانب هؤلاء رجال شرفاء و يستنكفون أن يكونوا عصا غليظة فى أيدى السادة تنكل بالمظلومين .

ضابط شاب يعرفه الجميع , اسمه ( عثمان الجندى ) وزميل له يدعى ( رشاد ) من قوة معتقل أبى زعبل , كنا ننتظر نوبتهما بفارغ الصبر , حيث تفتح لنا الأبواب على مصراعيها وتقيد شياطين العساكر وتشل أيديهم فلا تمتد إلى أحد من الإخوان بسوء , و( صول ) من نفس قوة المعتقل يدعى ( برعى ) يعهد إليه بتعذيب مجموعة من الإخوان فى غسق الليل , فيرتفع صوته يسب الأخ ( يا بن الجاموسة .. يا ابن البقرة ) وينهال سوطه بالمئات لكن على الحائط , ويوعز إلى الأخ أن يصرخ بأعلى صوته ليوهم الضباط بتنفيذ الأوامر , وكثيرا ما كان يتسلل إلى العنابر خفية يطلب منا طعاما وأغطية للإخوان المكلف بتعذيبهم .

وكان من مآثر الضابط عثمان الجندى وزميله رشاد أم صادفت نوبتهما يوم العيد , وكان عيدا من أحلى الأعياد . نعمنا فيه بقدر وافر من الرفاهية والمتعة لعلنا فيما أحسب لم نحظ بمثلها بين الأهل وفى زمن العافية .

فى ذلك اليوم انطلق الإخوان ينفسون عن همومهم وتبارى الشعراء والزجالون وهواة التمثيل , وقدموا لإخوانهم ما طابت به نفوسهم وانشرحت له صدورهم .

ومن القصائد التى القيت فى ذلك اليوم قصيدة من شعر المحنة للأخ الكريم الأستاذ عبد العزيز جمعة من إخوان شبين الكوم جاء فيها :

صباح العيد يا قوم
صباح الأجر والمغنم
طريق الحق محفوف
بأشواك كما نعلم
وكل الناس ذو حس
وذو قلب به يرحم
فإن أحزن فلى عذرى
وإن اصبر فذا أكرم
نبى الله يعقوب
بكى أسفا على ولد
وكان اله يرعاه
وكان الخير فى البعد
فأنقذ من مجاعات
وأطلعنا على كيد
وصار وزير أمتنا
ولم يك ذاك فى خلد
وإبراهيم يسكنه
بواد غير ذى زرع
فيرعاه له الله
تعالى خير مسترع
فحين يريد يذبحه
يجب أباه : أن أطع
ويرزق منه أمتنا
فأين قلوبنا لتعى ؟
ونوح فى رعايته
مثال الناصح الحانى
وما أغنى عن امرأة
ونجل بين أحضان
فما سعدا بغيمان
وقد غرقا بطوفان
وإن حملت سفينته
خلائق غير إنسان
وموسى لم يطق صبرا
على خضر وما أمرا
فصور خرقه إمرا
وصور قتله نكرا
وقال له : ألم تأخذ
على بنياننا أجرا ؟
فأطلعه عل حكم
وكنت أود لو صبرا
لئن خرقت لنا سفن
لكى ننجو ألا نصبر ؟
وإن أبعدت عن ولدى
فلم أرهق , ولم يكفر
فأبدلنى به الله
زكاة كيف لا أشكر ؟
وإن مالت لنا جدر
سيبنيها لنا ألأكبر
قضاء الله لى خير
فهل من أعين تبصر ؟
فلا تعجل لكى يقضى
فإن الله لا يعجل
فيونس حين لم يصبر
وأبق يريد أن يرحل
رأينا الحوت يلقمه
ولم يظفر بما أمل
ولما تاب أكرمه
ومتع قومه لأجل
فإن كنا ببطن الحو
ت فى الظلمات لا ننسى
ولم نشغل عن التسبي
ح لا شغلا ولا يأسا
فيا بشرى بمنجاة
تزيد حياتنا أنسا
وإلا فهى تهلكة
ويا تعسا لنا تعسا
أنا رهن بما قدمت
حتى أصدق التوبة
وغيرى عاش فى تيه
فجاء ليجتلى دربه
ورب منافق كتم
أبان بلاؤه قلبه
وكم من كافر يبلى
لكيما يرتجى ربه
وهذى سنة الرحمن
فى كل الأناسى
وما شدت لكفار
ولا حتى لمهدى
ولم يؤخذ لنا عهد
بأمر غير مأتى
لذا أرضى وأسترضى
بمقدور ومقضى

رجال أولياء

رهين المحبسين

الأخ المهندس إمام غيث – رحمه الله – من ضحايا هجمة 1965 حكم عليه بالسجن 15 سنة , قضى جانبا كبيرا منها , ثم أفرج عنه فى عهد السادات عام 1974 ولكنه دهمه داء عضال لازمه قرابة 15 سنة أعيا مشاهير الأطباء , فسافر إلى انجلترا للعلاج دون جدوى , ثم عاد يستأنف علاجه بمستشفى عين شمس التخصصى وساءت حالته , وأدخل غرفة الانعاش وعاش أياما فى غيبوبة تامة .. يحدث الدكتور مأمون عاشور الأستاذ بالمستشفى عن الممرضة التى كانت تقوم على تمريضه , تقسم له أنها رأت من هذا المريض عجبا كلما باشرت الغيار علىالجرح استدعى ذلك كشف نصفه الأسفل , فكان وهو فى غيبوبة كاملة يمد يده اليسرى يستر عورته , مما أدهش الممرضة التى كانت تنحنى لتقبل يده رجاء البركة و تنخرط فى بكاء شديد .

فى سبيل الله ما لقيت , وفى ذمة الله يا رهين المحبسين محبس الطغاة ومحبس المرض .

والله المرجو الإجابة أن يجعل ذلك فى ميزانك لتفوز بالجنة التى وعدها الله عباده الصابرين المتقين .

العالم المجاهد :

الشيخ أحمد شريت – رحمه الله – من أكابر علماء الأزهر , وكان مفتشا للوعظ بالأزهر وعضوا بمكتب الإرشاد , ومن أسرة عريقة مجاهدة , فأخواه الأستاذ حامد شريت والأستاذ محمود شريت كانا على نفس الدرب .

حكم عليه فى سنة 1954 بالسجن 15 سنة قضاها كاملة ثم رحل عام 1969 إلى معتقل طرة , وكأن هذه المدة لم تشبع نهم الطغاة فى التشفى والحقد على رجال الدعوة ورموزها .

مرض الرجل مرضه الذى مات فيه , فرحل إلى مستشفى قصر العينى , وكان يقوم على تمريضه أخ كريم هو الأخ المرحوم رجب الخميسى الذى كان بدوره مريضا , فلما أحس الشيخ بدنو أجله – رأى فيما يرى النائم أن الشيخ أحمد نار الذى توفى فى السجن وكان محكوما عليه بعشر سنين , يزوره ويدعوه إلى اللحاق بإخوانه الذين سبقوه فاستدعى الأخ رجب وأخبره بهذه الرؤيا وأملى عليه وصيته التى جعلها كلها نصائح للإخوان للاستمساك بدعوتهم وعدم التفريط فى بيعتهم .

وقد أتيحت لى فرصة مصاحبة الرجل منذ وفد إلينا من سجن أسيوط بعد قضاء 15 سنة , فكان وجوده بيننا بلسما كنت لا تراه إلا مبتسما رائق الوجه طلق المحيا وكثيرا ما كان يردد هذا القول يصبر به إخوانه :وكم لله من لطف خفى يدق خفاه عن فهم الذكى وكم من نساء به صباحا وتعقبه المسرة فى العشى

إذا ضاقت بك الأحوال يوما فثق بالواحد الأحد العلى

ألا رحم الله شيخنا الجليل أحمد شريت وأسكنه فسيح جناته .

أعمل بمبادىء حسن البنا

كان الشهيد عبد القادر عودة من ألصق الناس بعبد الناصر , لا يطيق أحدهما البعد عن صاحبه ساعة , كما أخبرنى من أثق فى روايته , ومن قبله كان الشهيد محمد فرغلي قائدا لكتائب الإخوان فى فلسطين وكان هناك تنسيق بينه وبين الجيش , وخاصة الإخوان منهم , وكان عبد الناصر إذ ذاك محسوبا على الإخوان , ومع ذلك لم يكن يجرؤ أن يدخل على الشهيد فرغلى مقر قيادته إلا أن يأذن له . فلما تنكر للإخوان وبغى عليهم , كان الشهيد فرغلى على رأس أول وجبة قدمت على طبق من فضة للانجليز الذين رصدوا – أيام معرك القنال – خمسة آلاف جنيه مكافأة لمن يأتى بالشيخ فرغلى حيا أو ميتا , فقدم جمال عبد الناصر رأس الشهيد لهم مجانا .

لقد أقدم على حل الجماعة موجها لقيادتها أشنع التهم , وزج بقادتها ورجالها فى المعتقلات , أدرك الشهيد عبد القادر أنه كان مخدوعا بعد أن بدا له بيقين ما تنطوى عليه نفس صاحبه من غدر وما يحمله فى قلبه من ضغن . وكان قد تعمد ألا يعتقله أى عبد القادر وآخرين معه لمساومته , ولإيهام جموع الإخوان أن قيادتهم منقسمة على نفسها , ولكن الشهيد سلك طريق رجل الدعوة الذى يحمل فى عنقه بيعة , وقاد الصف بحكمة واقتدار , وواجه عبد الناصر بما ينبغى أن يواجه به من نكث العهد , وغدر برفاق الدرب , فأصدر ( بيان للناس ) دحض فيه كل ما تضمنه قرار الحل من تهم باطلة , وختمه بتجديد البيعة للمرشد وحث الإخوان على تجديدها , ثم حاول مفاوضة عبد الناصر الذى راح يزعم له أنه أخلص للدعوة من الأستاذ الهضيبي وحاشيته , وأنه أولى من المرشد بقيادة الجماعة وشفع ذلك الادعاء بأن ذهب لزيارة قبر الإمام الشهيد فى 12 فرباير1954 وقد سمعته بأذنى يقول :

يعلم الله أننى أعمل – إن كنت أعمل – لتنفيذ المبادىء التى استشهد من أجلها حسن البنا , ثم غمز الأستاذ الهضيبي , وهو رهين الحبس بما يفهم منه أنه نقض العهد ,وهكذا رمتنى بدائها وانسلت .

وتكلم الأستاذ عبد القادر , فقال : إننا حين نلتقى اليوم لتخليد ذكرى الإمام حسن البنا إنما نحتفل بذكرى رجل رسم طريق الثورة , ورسم خطة الإصلاح للراغبين فيه , فلا عجب أن كان حسن البنا زعيم الثائرين على وجه الأرض فى القرن العشرين .

إن حسن البنا علمنا أن الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا , فلسنا نبغى جاها ولا منصبا , ولا نبغى الحكم , وإنما نبغى مرضاة الله تبارك وتعالى .

ثم تكلم بعده الأستاذ عبد الرحمن البنا – شقيق الإمام الشهيد – وطلب فى آخر كلمته الإفراج عن المعتقلين وإصلاح ذات البين .

وكان عبد الناصر قد عقد العزم بعد حل الإخوان على التخلص من الرئيس محمد نجيب ليخلو له الجو . وفى 26 فبراير 1954 أذيع بيان فى مجلس قيادة الثورة بتنحية نجيب . وكان للرجل شعبية كاسحة فى الجيش وبين جموع الشعب التى أحبته لبساطته وسماحته , فثارت وحدات الجيش , وخرجت الجماهير تطالب بعودة نجيب , فاضطر مجلس قيادة الثورة إلى إذاعة بيان بعودة نجيب فى اليوم التالى , وكانت فرحة غامرة , وانتهز الأستاذ عبد القادر الفرصة فنظم مظاهرة ضخمة توجهت إلى قصر عابدين لتهنئة نجيب والمطالبة بالإفراج عن الإخوان وإلغاء قرار الحل .

وكان يوم 28 فبراير يوما مشهودا حقا , وكان من تخطيط الإخوان لمثل هذه المظاهرة أن تلقى التعليمات إلى القاعدة ليتوجه الإخوان فرادى إلى المكان المرسوم حتى لا يحبط الأمن خطتهم , وفى ساعة الصفر يهتف أحدهم ( الله أكبر ولله الحمد ) فتندفع الجموع إلى مصدر الصوت كالموج الهادر , ثم لا يلبثون أن يغص بهم المكان فلا يحس بهم رجال الأمن كانت هذه هى الخطة وفى أقل من لمح البصر اكتظت ساحة قصر عابدين بالآلاف وتعذر على رجال الأمن التصدى لها . وقف الشهيد عبد القادر فى سيارة جيب يوجه كلامه إلى الرئيس نجيب قائلا : يا نجيب . إن هذه الجموع الحاشدة , وإن هذا الشعب الذى أعادك إلى مكانك , جاء اليوم ليدلى برغبته . جاء اليوم ليفرض إرادته . جاء اليوم ليقدم المطالب الآتية :

1- أن يعود الجيش إلى ثكناته ويتفرغ لمهمته فى الدفاع عن الوطن .

2- أن تؤلف وزارة مدنية يرتضيها الشعب .

3- أن يفرج عن كافة المعتقلين .

4- أن تكم البلاد حكما إسلاميا أساسه القرآن الكريم والسنة المطهرة . وبينما الشهيد كذلك , إذ جاء من يخبره بأن طالبين من الإخوان قد قتلا عند تعرض الأمن لهما .

عند ذلك رفع الأستاذ عبد القادر عقيرته وارتفع صوته , وكأنه منذر جيش قائلا : يا نجيب . كنا نود أن يمر هذا اليوم بسلام دون إراقة دماء , ولكن نفرا من ضباط الأمن أبوا إلا أن تراق الدماء , وإلا أن يستشهد نفر من أبنائنا الطلاب .

ثم أردف يقول : إننى أطالب بتحقيق سريع يأخذ المسىء بإساءته .

وهنا بلغ هياج الجماهير مداه , وارتفعت الحناجر تشق عنان السماء تهتف بسقوط جمال الأمريكى , وبسقوط حكم الفرد المطلق , واشترك فى هذه المظاهرة الأخ غبراهيم كروم – رحمه الله – الذى كان يمتطى فرسا ويطلق أعيرة نارية فى الهواء , وكذلك طلاب سودانيون من الإخوان , وكان لهم سمة مميزة وهم يهتفون : الهديبى يا نجيب ( يقصدون الهضيبي ) المعتقلين يا نجيب .

كانت جماعة الانقلاب قد اختفوا ذلك اليوم , فلم يظهر على الساحة إلا خالد محيى الدين الذى كان على رأس المطالبين بعودة نجيب .

وحاول نجيب صرف المتظاهرين من خلال الميكروفون , ولكن صوته ضاع وسط الحشود الهائجة , فلم يجد نجيب بدا من الاستعانة بالأستاذ عبد القادر , فأرسل من الضباط من يحملونه إلى حيث يقف نجيب فى الشرفة المطلة على الميدان , وتناجى الرجلان هنية , أمسك على أثرها الأستاذ عبد القادر بالميكروفون ووجه كلاما قائلا : أيها الإخوان لقد أديتم واجبكم فأرجو أن تنصرفوا فى هدوء وشكر الله لكم .

وفى مثل لمح البصر , أضحى الميدان الذى كان منذ لحظات يعج بالآلاف قاعا صفصفا لا ترى فيه أثرا لأحد .

ومما يذكر أن عبد الناصر ذهب فى ذلك اليوم لزيارة الجرحى من الطلاب فى القصر العينى , فثاروا فى وجهه وهموا بطرده , فعاد أدراجه خائبا لا يلوى على شىء .

كان من نتائج هذا التدبير المحكم أن تتابعت بيانات جامعات القاهرة والأسكندرية تطالب بما طالب به الأستاذ عبد القادر عودة , من عودة الجيش إلى ثكناته , وإلى إطلاق الحريات وتبعهم الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة – رحمه الله – ببيان مماثل , وحفلت الصحف اليومية بمقالات من ذوى الرأى والفكر تدور حول هذه المعانى وسرت بين جموع الشعب موجة سخط عارمة , ونظم طلاب الجامعات والمدارس مظاهرات تندد بالظلم وتطالب بالإصلاح .

وفى عشيى ذلك اليوم ,أعتقل الأستاذان عبد القادر عودة وعمر التلمساني , وتعرضا لتعذيب شديد , فقد كان عبد الناصر لا يزال يتحرك ولكنه فى النهاية حنى رأسه للعاصفة وقرر الإفراج عن المعتقلين , وأعلن تشكيل لجنة لوضع دستور للبلاد على رأسها على ماهر والدكتور السنهورى, ولك يكن ذلك إلا خداعا ليلتقط أنفاسه , ويستأنف عدوانه على الأمة من جديد , والدليل على خداعه أنه أرسل جماعة من الغوغاء إلأى مجلس الدولة للاعتداء بالضرب على رئيس المجلس الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهورى الذى بدأ يصرح بضرورة إطلاق الحريات والأخذ فى وضع الدستور بصورة جديدة , بعد ان أحس أن فى الأمر مناورة فكان جزاؤه ما عرفه القاصى والدانى من إهانة وإيذاء , وراح الغوغاء من هيئة التحرير يهتفون ( يسقط المحامين الجهلة ) وعلى رأسهم طبعا القانونى الفقيه الدكتور السنهورى , انحنى عبد الناصر للعاصفة كما ذكرت وقرر تشكيل لجنة لوضع دستور للبلاد والإفراج عن المعتقلين , وتوجه عقب الإفراج إلى منزل الأستاذ الهضيبي معتذرا .

ثم بدأ بمساندة من الأمريكان فى وضع خطة لسحق الحركة الإسلامية متمثلة فى جماعة الإخوان المسلمين , فكانت تمثيلية المنشية المشهورة للتنكيل بالإخوان .

شر البلية ما يضحك

ومن عجائب ما شاهدناه , تلك المهزلة المبكية المضحكة التى تنم عن عقلية فجة وأفكار ساقطة , حين يعمد القائمون على أمر السجن , وعلى رأسهم حمزة البسيوني , إلى حشد الإخوان فى ساحة السجن على هيئة سرايا ,وأمام كل سرية يقف أحد القادة الكبار ( المرشد وإخوانه ) ليقوم بدور المايسترو ويجبر الجميع على سماع أو كلثوم وهى تغنى الأغنية المشهورة :

أجمل أعيادنا المصرية
بنجاتك يوم المنشية

ويردد الأطهار من طليعة ههذ الأمة - وفيهم رجال القضاء- مستشارون ومحامون ووكلاء نيابة) والأطباء والمهندسون والمربون من أساتذة الجامعات , وخيرة علماء الأزهر الشريف وغيرهم من كل الطبقات , يرددون هذا الهذر السخيف الذى ابتليت الأمة بصانعيه لحملهم قسرا على الولاء للطاغية المفتون .

ورغم بشاعة المهزلة , فقد كان الشباب يعبرون عن شعورهم بالإستخفاف والازدراء ويرددون فى سخرية :

أنيل أعيادنا المصرية
بنجاتك يوم المنشية

ويتداولون فيما بينهم : أتوا باطلا وسلوا سيوفا وقالوا : صدقنا .. فقلنا : لا , بملء الفم .. ويذكر أحدهم بقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام " قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين " القصص 17 .

هذه هى العقلية الهزلية التى تحكم البلاد فأكثرت فيها الفساد وأوردتها المهالك , وقادتها إلى هزيمة 5 يونية المشؤومة والتى لا تزال الأمة تتجرع غصصها وتكتوى بنارها .

لقد زعموا أنهم نجحوا فى إجلاء الإنجليز عن مصر , وبئس ما صنعوا فقد جلبوا لها العار والشنار بهزيمتهم النكراء أمام إسرائيل ذلك السرطان الخبيث الذى تغلغل فى أحشاء الأمة فأفسد البلاد والعباد , ولا يدرى إلا الله متى وكيف تتخلص الأمة من شره وبلائه .

وصدق من قال : إن الحاكم الذى يستبد بشعبه فى الداخل يسلمه لأعدائه من الخارج .. وهذا ما كان .

وهذا عبد الرحمن الكواكبي أحد زعماء الإصلاح فى العصر الحديث – رحمه الله – يمتعنا بما أودعه فى كتابه " طبائع الإستبداد " فيقول : المستبد يتحكم فى شئوون الناس لا بإرادتهم , ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم , ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدى فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعى لمطالبته .

المستبد عدو الحق , عدو الحرية , وقاتلها والحق أو البشر والحرية أمهم والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا , والعملاء هم إخوتهم الراشدون , إن أيقظوهم هبوا , وإن دعوهم لبوا .

والمستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزا , فلو رأى هذا الحاجز لما أقدم على الظلم .

الفصل السادس

قالوا عن الإمام البنا

نورد هنا قليلا من كثير ممن كتبوا عن هذا المصلح العظيم ليقف الجيل الجديد على ملامح تلك الشخصية الفذة الى فاجأت مصر والعالم العربى والإسلامى كله بدعوتها وتربيتها الفريدة وجهادها الذى لا ينى وعزمها الذى لا ينثنى .. من هؤلاء:

(1) ولدى الشهيد .. فى ذمة الله

( للأستاذ الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا – والده )

" عن أنس بن مالك رضى الله عنه فى قصة موت إبراهيم بن النبى صلى الله عليه وسلم قال : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بالصبى فضمه إليه , قال أنس : فلقد رأيته بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكيد بنفسه . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تدمع العين ويحزن القلب , ولا نقول إلا ما يرضى ربنا عز وجل , والله إنا بك يا إبراهيم لمحزونون ) .

تتمثل يا ولدى الحبيب فى صورتين : صورة وأنت رضيع لم تتجاوز الستة شهور , وقد استغرقت مع والدتك فى نوم عميق , وأعود بعد منتصف الليل من مكتبى إلى المنزل , فأرى ما يروع القلب ويهز جوانب الفؤاد : أفعى مروعة قد\ التفت على نفسها وجثمت بجوارك , ورأسها ممدود إلى جانب رأسك وليس بينها وبينك مسافة يمكن أن تقاس وينخلع قلبى هلعا فأضرع إلى ربى وأستغيثه فيثبت قلبى , ويذهب عنى الفزع , وينطق لسانى بعبارات واردة فى الرقية من مس الحية وأذاها وما أفرغ من تلاوتها حتى تنكمش الحية على نفسها , وتعود إلى جحرها ,. وينجيك الله يا ولدى وأنت صريع وقد حملت فى الليلل مسفوكا دمك , ذاهبة نفسك , ممزقة أشلاؤك , هابت أذاك حيات الغاب , ونهشت جسدك الطاهر حيات البشر , فما هى إلا قدرة من الله وحده تثبت فى هذا الموقف , وتعين على هذا الهول , وتساعد فى هذا المصاب , فأكشف عن وجهك الحبيب فأرى فيه إشراقة النور وهناءة الشهادة , فتدمع العين ويحزن القلب , وأقوم يا ولدى على غسلك وكفنك , واصلى وحدى من البشر عليك وأمشى خلفك أحمل نصفى ونصفى محمول , وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد .

أما أنت يا ولدى فقد نلت الشهادة التى كنت تسأل الله تعالى فى سجودك أن ينيلك إياها فهنيئا له بها .. فقد روى البخارى عن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شىء إلا الشهيد , فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة " .

الهم أكرم نزله وأعل مرتبته , واجعل الجنة مثواه ومستقره , اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله وبلغه أمله من القرب من رسولك صلى الله عليه وسلم " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " النساء : 69 .

وأما أنتم يا من عرفتم ولدى واتبعتم طريقه , إن خير ما تحيون به ذكراه أن تنسحبوا على منواله وتترسموا خطاه , فتتمسكوا بآداب الإسلام وتعتصموا بحبل الاخوة وتخلصوا العمل والنية لله .

وأوصيكم أن تكونوا صورة صادقة لسيرة ولدى رحمه الله , لا تبتغون من الناس جزاء , ولا تخشون غير الله ربا , ولا تضمرون لأحد شرا أو أذى : " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين , ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " فصلت : 33-35 .

(2) المرشد الملهم

بقلم الأستاذ : حسن الهضيبي :

" عرفت أول ما عرفته من غرس يده . كنت أدخل المدن والقرى فأجد إعلانات عن الإخوان المسلمين . دعوة الحق والقوة والحرية . فخلت أنها إحدى الجمعيات التى تعنى بتحفيظ القرآن والإحسان إلى الفقراء ودفن الموتى والحث على العبادات من صوم وصلاة .. وأن ذهه قصاراها من معرفة الحق والقوة والحرية .. فلم أحفل بها .

فكثير هم الذين يقرأون القرآن دون أن يفقهوه ودون أن يعملوا به وأكثر منهم الذين يصلون ويصومون ويحجون دون أن يكون لذلك أثر فى نفوسهم , والإحسان إلى الفقراء كثيرا ما يوضع فى غير موضعه .. ولم أحاول كما هى العادة أن أعرف شيئا عن الإخوان المسلمين .

ثم ألتقيت يوما بفتية من الريف أقبلوا على – على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنا ومركزا – يحدثوننى . فوجدت عجبا , فتية من الريف : لا يكاد يتجاوز فى معارفه القراءة والكتابة يحسنون جلوسهم مه من هم أكبر منهم فى أدب لا تكلف فيه .. ولا يحسون بأن أحدا أعلى من أحد ويتكلمون فى المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيه شاب متعلم مثقف , ويتكلمون فى المسائل الدينية كلام الفاهم المتحرر من رق التقليد . ويبسطون الكلام فى ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدنيوية ويعرفون من تاريخ الرسول – وتاريخه هو تاريخ الرسالة – ما لا يعرفه طلاب الجامعات .. فعجبت لشأنهم وسألتهم أين تعلمتم كل ذلك ؟ فأخبرونى أنه من الإخوان المسلمين .. وأ، دعوتهم تشمل كل شىء .. وتعنى بالتربية الأخلاق والسياسة والفقر والغنى والاقتصاد وإصلاح الأسرة وغير ذلك من الشئون صغيرها وجليلها .

من ذلك الوقت تتبعت حركة الإخوان المسلمين وصرت أقرأ مطبوعاتهم واتصل بهم دون أن أعرف الداعى إلى ذلك :

ولكنى عرفته من غرس يده .. قبل أن أعرف شخصيته .

كان يوم خرجت أنا وبعض زملائى لمشية العصر على حافة النيل فوجدنا جمعا من الجوالة سألناهم عن شأنهم فعلمنا أن حسن البنا سيلقى خطبة فى حفل الليلة فوافينا الحفل , ودخلنا السرادق الكبير , فلم نجد موضعا لإصبع لا لقدم , وبرغم ذلك فقد شققنا طريقنا .. وعرفنا بعض المحامين الأقباط الذين حضروا الاجتماع فقدموا لبعضنا مقاعدهم ولكنى أصررت على أن أجلس على الأرض لأستمع إلى حسن البنا .

لقد تعلقت أبصارنا به ولم نجد لأنفسنا فكاكا من ذلك . وخلت والله أن هالة من نور أو مغناطيسا بوجهه الكريم فتزيد الإنجذاب إليه . خطب ساعة وأربعين دقيقة وكان شعورنا فيها شعور الخوف من أن يفرغ من كلامه وتنقضى هذه المتعة التى أمتنعا بها ذلك الوقت .. مائة دقيقة انقضت عليه وهو يجمع قلوب المسلمين فى قبضة يده فيهزها كما يشاء وكما يريد , وانتهت خطبته ورد إلى المستمعين قلوبهم .. إلا أنا فقد ظل قلبى فى يده .

كان كلامه يخرج من القلب إلى القلب شأن المتكلم إذا أخلص النية لله .. وما أذكر أنى سمعت خطيبا قبله إلا تمنيت على الله أن ينتهى خطابه فى أقرب وقت .. كان الجدول الرقراق الهادىء ينساب فيه الماء .. لا علو ولا انخفاض , يخاطب الشعور فيلهبه والقلب فيملؤه إيمانا .. والعقل فيسكب فيه من المعلومات ألوانا .

انقضى وقت طويل دون أن ألتقى به .. ولما أذن الله بذلك التقينا فإذا تواضع جم وأدب لا تكلف فيه , وعلم غزيز , وذكاء فريد , وعقل واسع ملم بالشئون جليلها وحقيرها وآمال عراض .. كل ذلك يحفه روح دينى عاقل لا تعصب فيه ولا استهتار .. وكذلك جعلناكم أمة وسطا , إنه كان ملهما وأقسم أنى التقيت به وعاشرته فما سمعت منه كلمة فيها مغمز فى عرض أحد أو دين أحد , حتى من أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح فى ذمته ودينه وكان فى ذلك ملتزما حد ما أمره الله .

هذا هو حسن البنا الذى قتلوه .. لقد قتلوا أخطر داعية ظهر على الأرض منذ قرون .

لقد لامنى عند القبور على البكا
رفيقى لتذراف الدموع السوافك
وقال : أتبكى كل قبر لقيته
لقبر ثوى بين اللوا فالدكادك
فقلت له : إن الأسى يبعث الأسى
دعونتى فهذا كله قبر مالك

والآن فإن الغرس الذى عرفت فيه حسن البنا قد نما وترعرع وصارت دعوته إلى كتاب الله مستقره فى القلوب , وصار تلاميذه يعلمون الناس ما علم ويلهمونهم ما ألأهم وزاد عددهم على البأساء والضراء حتى أصبحوا اقوى جلدا مما كانوا , واعرف بشئون الحياة وأصبر على المظالم وأعلم بأن أعداء دعوتهم أكثر من أنصارهم فأعدوا أنفسهم لكفاح طويل فى سبيلها .

ولقد صارت الإخوان المسلمون اسما لا يعبر عن منظمة فى مصر , وإنما يعتبر عنوانا لنهضة الإسلام وبعثه وحيويته فى جميع البلاد الإسلامية من المحيط إلى المحيط .. فاسم الإخوان فى أندونسيا والباكستان وكل البلاد العربية وصارت دعوتهم رعبا لمستعمرين وأنصار المستعمرين والمنافقين والظالمين لأن الباطل يفزع من الحق أينما كان وحيثما وجد "

وما كان يدور بخلد الأستاذ الهضيبي أنه سيخلف الإمام فى مهمته الصعبة , ولكنها يد الله تعمل وهو جل شأ،ه يختار لدعوته " الله أعلم حيث يجعل رسالته .. " الأنعام : 124 .

( 3) إمام .. وداعية .. شهيد

للأستاذ السيد عمر بهاء الدين الأميري

(أ‌) إمام ...

سمعت عنه كثيرا .. ورأيت له .. فى مرايا قلوب محبيه .. صورا لامعة رائعة .. فتراءى لعقلى .. عملاق هدى .. ورأى .. وحكمة .

وتخيلته أمام عينى عملاقا فى جسمه أيضا .. جبارا فى قسماته وسماته وأما محبوه ..

فقد حاولوا تصويره لى .. كأنه ملك كريم :

أنت لو أبصرت , فى
غورهم, بسمته
أو لمست عقله
وهو يهدى حكمته
رأو سمعت جرسه
وهو يدعو دعوته
أو رأيت خلسة
فى صلاة وقفته
مشفقا مستبشرا
لم يغالب عبرته
أو تأملت , على
أهل خطب , عطفته
من كريم عاثر
جد يمحو عثرته
ومصاب بأذى
راح يأسو كربته
لعشقت روحه
صاغ منها رحمته
ثم لو شمت , إذا
جد جد , عزمته
وإذا الداعى دعا
لجهاد , همته
وعلى الباغى على
أى حق , غضبته
قلت هذا قسور
هاج يزجى ضربته
وهو فى الواقع شهم
ثار يحمى أمته
صيحة الأجداد فى الأحف
اد حاكت صيحته
وأنين المجد فى الأصف
اد أورى ثورته
إنه صورة شعب
هب يغذو وثبته
إنه جيل من الإس
لام يبنى نهضته
أنت لو أبصرته
لقدرت قدرته
بشر من ملك
قد تلقى فطرته

سعيت إليه .. أطوى البحار والقفار .. مشوقا إلى تعرف حقيقته .

ولما رايته بين صحبه .. أول ما رايته .. ما ظننت أنه هو

ثم قدمت إليه , فتلقانى فى بشاشة .. لا تكلف فيها

ورحب بى .. منساقا مع فطرة رحبة .

لم أجد له فى مشاهدتى .. صورته فى مخيلتى

كان أقرب إلى القصر .. منه إلى الطول

وأدنى إلى الوداعة .. منه إلى الجبروت

فى صراحته إباء .. وفى جرأته إغضاء

لا يكاد يطالع الناظر إليه .. من الحزم الذى سمعه عنه

إلا تقطيبة بين الحاجبين .. تصغر منها عين .. وتكبر عين .. كلما تحدث فى امر هام .

وهو بعد ذلك .. تتلقاه المشاهدة الأولى .. فى مستوى الرجل العادى هنداما وقسمات .. ومظاهر حياة .

زرته فى بيته .. فوجدته زاهدا بسيطا .

وآكلته فى ما مائدته .. فوجدته فقيرا كريما .

وصحبته فى أسفار .. فلم أر أكثر منه أنس وإيناسا .. فى مواطن الراحة .. ولا أكثر منه فناء فى العمل .. وقت العمل .

ولزمت حياته أياما .. فوجدتها دأبا مستمرا .. وجهدا مرهقا .

كلما اشتدت عليه .. زادت بشاشة روحه .

فبدا أشد انهماكا فى السعى .. وأكثر إمعانا فى التسليم .. وأقوى تألقا بالإستبشار .

ما رأيته مرة .. إلا زدت إكبارا له .. وتعلقا به .

وإشفاقا عليه .. وأملا فيه ..

بيد أننى .. كلما توثقت صلتنا , تبدى لنفسى .. على غير ما صوره لى محبوه :

لقد خالوه .. اشبه بالملائكة , وأما أنا .. فقد وجدته إنسانا .. بكل ما فى الإنسان .. من معانى الخلافة فى الأرض .

إنه إمام .. ملء الأرواح .. والبصائر .

(ب‌) داعية ..

شاهدته يتكلم بين أفراد .. فلم أجد صوته . يتطاول على الأصوات ولاح للا أميل إلى الإصغاء .. منه إلى إبداء الآراء .

فإذا دخل الحديث طور المراء .. صمت فى إعراض ..

أو أقبل فى ابتسام .. هو بين الإشفاق والشفقة ..

حتى إذا انتهى الأمر .. إلى زبدته .. كانت كلمته عى الفاصلة .

وأصغيت إليه .. وهو يخاطب ملأه ..

فخيل إلى .. أنه يحاول أن يسكت لسانه .. وينطق قلبه ..

بل وكل جوارحه .

وإذ ذاك . كان يمعن النظر ,, فى من أمامه .. و:أنه يحدق فى أفق بعي , فينبعث من عيونه .. شبه نور وهاج , يتصل شعاعا .. بقلب فقلب ..

وإذا بالملأ .. تحت تأثيره المطلق .. قد أسلموا إليه .

عقولهم .. يهديها .. وقلوبهم .. يخفق فيها ..

وسواعدهم وكواهلهم .. يحملها ما يرى من أعباء .. أعباء رسالته ورسالتهم .

وسمعته يخاطب الجماهير .. فوجدته الطب الخبير يبدأ , ويبدأ معهم .. – فى أكثر الأحيان - .. واحدا منهم محدثا .. أكثر منه خطيبا .

يكثر من سوق التشابيه والأمثال .. يبسط بها فكرته .. فتتلقفها الأذهان بيسر ..

وقد يعالج فى ثنايا بيانه .. شؤونا من صميم حياة المستمعين .

حتى ليظن أحدهم .. انه كوشف بخويصة مشكلته .. وأخذ يصف بصيحات الحق ..

تتخلل حديثه الدفاق .. المرصع بآى الله .

فيستأثر بإعجابهم .. وتعظم هيبته , ومحبته وقوته , فيضعون أنفسهم منه .. دون اختيار .. موضع الرعية من الراعى .

وهكذا .. يبلغ منهم لدعوته ما يريد

وينتهى غير مملول .. محبوبا .. مرهوبا .

كيف يسرى النغم السا
ئغ , فى الآذان نشوه
هكذا من قلبه المؤ
من يزجى الهدى .. دعوه
زاخر الأعماق بالإيم
ان فى دعوته
منكر الذات حكيم الس
ير فى وجهته
طب أرواح , فلا تخ
فى عليه خافية
باسط الصدر , بعيد ال
غور , شهم داعية

ما كان يغادر دقيقة من وقته .. إى ويجندها لله ,

فإذا مشى فى الشارع .. ذكره فى نجواه ,

وإذا كان فى حافلة أو سيارة عامة .. آنس من معه .. ووعظهم وإذا خلا إلى قلمه ..

اقبل عليه بكليته .. وأملى عليه كالبرق الخاطف ..

مخزونات .. عقله .. وقلبه .. وحكمته .

وإذا جلس إلى زائر أو صديق .. أصغى إليه بجوارحه .. واستدرجه برفق ..

ليستخلص من كلامه .. ما يستجره به إلى نصرة فكرته ..

ووثق بذلك .. دوا أن يشعر .

أما إذا فرغ إلى عمله الأصيل .. فى تكوين جيل ..

فكل جارحة من جوارحه .. تعمل فى نطاقها .. بفناء بالغ فى الله ..

فإذا أضناه السهر .. رغم المنبهات ,

وأعياه العمل والدأب .. رغم المسكنات ,

انصرف بعيد صلاة الفجر .. لينام ساعات ,

لا ليستريح .. بل ليتقوى على استئناف جهاده .. فى سبيل الله .

(ج) ... شهيد::::

ملأ المنابر هدى .. والميادين كفاحا

وآذان الظالمين .. جلجلة .. يهدر فيها صوت الحق

وعمر بيوت الله إيمانا .. وقلوب الناس نورا

وأصبح الأب المحبوب .. والجاه المخطوب

حتى إذا أكرمه الله بحبه .. ابتلاه

ابتلاه ..فى أعز ما يبتلى به مثله :

دعوته التى أنشأها .. وفنى فيها

وأبناؤه .. الذين عشقهم ورباهم .. وآثر هداهم على كل حظوظ نفسه .

كانت الدنيا تزغرد له .. وهو عنها عزوف

وإذا بها فى طرفة عين .. تقلب له ظهر المجن .. وتسدد إلى حبة قلبه .. أنفذ سهم .

رياحين الأرض والسماء .. من شباب دعوته ..

فى وغى الظلم .. ينكل بهم أخس تنكيل

ودور الهدى .. والخير .. والجهاد .. تهدم على رؤوس الهدى ..

والخير .. والجهاد .

والذين كانوا يحومون حوله .. يتسلمون منه البركات

وقد تزيوا بزى رجال الدين .. وأقحموا أنفسهم على الإسلام .. يتاجرون به .

أخذ يظهر منهم .. وجههم الثانى .. بل وجههم الأول الصحيح فيحاربون الرجل وجماعته .. فى بيوت الله التى عمروها .

ويلغون فى دمائهم .. شرها وجشعا ..

ويأكلون لحومهم نيئة .. بنهم وضراوة .

كبلوا من حوله أبناءه
ورموه بين أشداق الأفاعى
جردوه خلسة فى خسة
وتنادوا , وهو فرد , للنزاع
وذئاب البغى حامت , ونضى
كل نذل حوله سيف القراع
والجماهير التى من ذاته
بذل الرفد لها دون انقطاع
حوقلت فى خور وانطلقت
لا تبالى بجهاد وصراع
والألى كانوايقولون له
ملقا : قد جئت بالأمر المطاع
خذلوه وبدت أوجههم
فى الملا سوداء من غير قناع
وشرى الباغون منهم ألسنا
بذلوها ما دعى للمال داع
فى بيوت الله سبوا فندا
خير داع للهدى فيها وراع

كلما اشتد عليه الكرب .. اشتد صبره

وكلما ضيق عليه الخناق .. انفتحت له مع الله آفاق

حتى إذا بلغ من القرب منزلة .. لا تنبغى لها حياة الأرض

انطلق فى معارج الأجل ..

وقد دبر الله له .. من كيد الكائدين .. شرفا رفيعا

ومن إجرام المجرمين .. مجدا ووخلودا

.. وأشرق الله عليه بالشهادة ..

والجناة لا يعلمون .. من أمر الله شيئا .

لقد تركوا دمه الطاهر ينزف .. يريدون أن يجهزوا عليه ..

وما دروا .. أن كل قطرة من دمه

كانت تضع عن كاهله عبئا ..

وترتفع به شوطا .. فى رحلته إلى النور الصراح

وهكذا .. أخذ يتصاعد .. روحا ساميا .. ساميا إلى الله .

لقد حرم .. تشييع البشر لجسمه .. فى الأرض

ولكنه نعم .. باستقبال الملائكة لروحه .,. فى السماء .

(3) من أعظم الشخصيات الإسلامية المعاصرة

للشيخ –حسنين مخلوف – مفتى مصر الأسبق

الشيخ حسن البنا أنزله الله منازل الأبرار .. من أعظم الشخصيات الإسلامية فى هذا العصر , بل هو الزعيم الإسلامى الذى جاهد فى الله حق الجهاد , واتخذ لدعوة الحق منهاجا صالحا وسبيلا واضحا استمده من القرآن والسنة النبوية ومن روح التشريع الإسلامى , وقام بتنفيذه بحكمة وسداد , وصبر وعزم , حتى انتشرت الدعوة الإسلامية فى آفاق مصر وغيرها من بلاد الإسلام واستظل برايتها خلق كثير .

عرفته رحمه الله منذ سنين , وتوثقت الصداقة بيننا فى اجتماعات هيئة وادى النيل العليا لإنقاذ فلسطين الجريحة , وتحدثنا كثيرا فى حاضر المسلمين ومستقبل الإسلام , فكان قوى الأمل فى مجد الإسلام وعزهة المسلمين إذا اعتصموا بحبل القرآن المتين , واتبعوا هدى النبوة الحكيم وعالجوا مشاكلهم الإجتماعية والسياسية وغيرها بما شرعه الله فى دينه القويم .

ففى الإسلام من المبادىء السامية والتعاليم الحيكمة ما فيه شفاء من كل مرض وعلاج لكل داء وحل لكل مشكلة , وفيه من الأحكام ما لو نفذ الحدود والعقوبات ما لو أقيم لسعد الناس فى كل زمان ومكان بالاستقراروالاطمئنان وعاد المسلمون إلى سيرتهم الأولى يوم كانوا أعزاء أقوياء .

تلك لمحة فى حديثه وهى عقيدة كل مسلم وأمل كل غيور على الإسلام .. غير أن العلماء حبسوا هذا العلم الزاخر فى الصدور ولم يرددوه إلا فى حلقات الدروس وفى زوايا الدور .

أما الشيخ البنا رحمه الله فقد أخذ على نفسه عهدا أن يرشد العامة إلى الحق , وينشر بين الناس هذه الدعوة وينظم طرائقها ويعبد سبلها ويربى الناشئة تربية إسلامية تنزع من نفوسهم خواطر السوء وأخطار الهواجس , وتعرفهم بربهم وتدنيهم من دينهم الذى ارتضاه الله لهم فكان له ما أراد , وتحمل فى ذلم المشاق والمتاعب ما لا قبل لاحتماله إلا الرجل الصبور والمؤمن الغيور الذى يبتغى رضاء ربه بما يعمل ويشعر بدافع نفسى قوى إلى إنقاذ أمته من شر وبيل وذل مقيم .

من الطبيعى وهذه دعوته أن يمس السياسة عن قرب وأن يأخذ فى علاج مختلف الشؤون القرآنية , وهنا يقول الأستاذ بحق ما نقوله نحن ويقوله كل من درس الإسلام وأحاط خبرا بالقرآن أن الإسلام دين ودنيا وسياسة ودولة . والمسلم الحق هو الذى يعمل للدين والدنيا معا .. فقد جاء القرآن بالعقائد الحقة , وبالأحكام الراشدة فى العبادات والمعاملات ونظم الدولة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية , وجاء بالأوامر والنواهى , وما يصونها من العقوبات والزواجر وألزم المسلمين كافة بالعمل بها وإقامة الدولة على أساسها , فإذا دعا الشيخ حسن البنا إلى ذلك فقد دعا إلى ما دعا إليه الله ورسوله ودعا إليه الصحابة والتابعون وسائر الأئمة والفقهاء زعماء الإسلام فى كل زمان .. يعيب عليه بعض الناس أنه توغل فى السياسة , وقد نوهت بالرد على ذلك فى عدة أحاديث أذعتها فى مناسبات شتى , فالسياسة الراشدة من صميم الدين , والصدارة فيها من حق العلماء , بل من واجبهم الذى لا يدفعهم عنه أحد , وما أصيب العلماء بالوهن والضعف وما استعلى عليهم الأدنون وتطاول عليهم الأرذلون إلا من يوم أن استكانوا لأولئك الذين يحاولون احتكار السياسة ويستأثرون بالسلطان فى الشعوب والأمم الإسلامية قضاء لمآربهم واغتصابا للحقوق .

وإذا صح فصل الدين عن السياسة وبعبارة أخرى الحجر على رجال الدين فى الاشتغال بسياسة الدولة – بالنسبة لسائر الأديان – فلا يصح بالنسبة للدين الإسلامى الحنيف الذى امتاز على غيره بالتشريع الكفيل بسعادة الدين والدنيا معا .

وقد كان الأئمة فى مختلف عهود الإسلام أعلام دين وسياسة , فما بال الناس اليوم ينكرون على علماء الإسلام أن يعنوا بشؤون الشعوب الإسلامية ويغضبوا لكرامتها ويجاهدوا لإعزازها ورفع نير الإستعباد عن أعناقها , وتبصير الناس بما يموه به الإستعماريون من حيل ويدبرون من فتن ويدسون من سموم .

ومن الذى خولهم حق احتكار السياسة والحكم ؟

إن من حق العلماء وأعنى بهم القائمين بالدعوة إلى الله لا خصوص حملة الشهادات العلمية الرسمية أن يمثلوا فى كل شئون الدولة وخاصة فى السلطة التشريعية حتى لا يشرع فى الدولة الإسلامية ما ينافى أحكام الإسلام , وأن يكون للتشريع الإسلامى الذى لهم به اختصاص واضح الأثرالأول فى التشريع والتنفيذ .

إن الدعوة فى جوهرها دعوة واضحة المعالم والقلوب الموفقة قد انعطفت إليها والشعب قد أمن بها , ومن إنكار الحقائق أن يزعم زاعم انصراف السواد الأعظم من الأمة عنها .

وكلما أمعنت السياسة فى توهينها ازدادت قوة وذيوعا وأيقن الناس بما فيها من خير وصلاح ومن الاخلاص لولاة الأمور الصدق فى القول والأمانة فى الأداء .. فليعلموا أن الدعوة عقيدة استقرت فى النفوس وأن مقاومة الساسة لها ولدعاتها لا يزيدها إلا ثباتا ورسوخا .. وإن من الراسخ فى العقائد أن اليهود ومن ورائهم الدولة الغاصبة والدول الإستعمارية هم الذين يكيدون لها ويبذلون كل ما فى استطاعتهم لاستئصالها .. ولكن هيهات ما يريدون . وبعد , فإنا نسأل الله تبارك وتعالى للمسلمين خيرا عميما ورشدا مبينا وتوفيقا سديدا لكل من يدعو إلى خير ورشاد .. ورحمة واسعة للأستاذ العظيم .

(4) حسن البنا وعبقرية البناء

للشهيد سيد قطب

فى بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر محتوم , وحكمة مدبرة فى كتاب مسطور .. حسن " البنا " إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه .. ولكن من يقول : إنها مصادفة , والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هى البناء , وإحسان البناء , بل عبقرية البناء ؟ ..

لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيرا من الدعاة .. ولكن الداعية غير البناء .. وما كل دعية يملك أن يكون بناء , وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة فى البناء .

هذ البناء الضخم .. الإخوان المسلمون .. إنه مظهر العبقرية الضخمة فى بناء الجماعات .. إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس , استجاش الداعية مشاعرهم ووجداناتهم , فالتفوا حول عقيدة .. إن عبقرية البناء تبدو فى كل خطوة من خطوات التنظيم .. من الأسرة إلى الشعبة إلى المنطقة , إلى المركز الإدارى , إلى الهيئة التأسيسية إلى مكتب الإرشاد

هذه من ناحية الشكل الخارجى – وهو أق لمظاهر هذه العبقرية – لكن البناء الداخلى لهذه الجماعة أدق وأحكم , وأكثر دلالة على عبقرية التنظيم البناء الروحى .. هذا النظام الذى يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة .. هذه الدراسات المشتركة , والصلوات المشتركة , والتوجيهات المشتركة , الرحلات المشتركة , المعسكرات المشتركة .. وفى النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة , التى تجعل نظام الجمعة عقيدة تعمل فى داخل النفس , قبل أن يكون تعلميات وأوامر ونظما .

والعبقرية فى استخدام طاقة الأفراد , طاقة المجموعات و نشاط لا يدع فى أنفسهم ولا يدعهم يتفلتون هنا أو هناك , يبحثون عما يملأون به الفراغ . إن مجرد اسثارة الوجدان الدينى لا يكفى .. وإذا قصر الداعية همه على هذه الاستثارة فإنه ستهى بالشباب خاصة إلى نوع من الهوس الدينى , لذى لا يبنى شيئا .. وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا تكفى . وإذا قصر الداعية همه على هذه الدراسة , فإنه سينتهى إلى تجفيف الينابيع الروحية التى تكسب هذه الدراسة ,فإنه سينتهى إلى تجفيف الينابيع الروحية التى تكسب هذه الدراسة ندواتها وحرارتها وخصوبتها . وإن مجرد استثارة الوجدان والدراسة معا لا يستغرقان الطاقة فستبقى هنالك طاقة عضلية وطاقة عقلية وطاقة فطرية أخرى فى الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال ..

وقد استطاع حسن البنا أن يفكر فى هذا كله .. أو أن يلهم هذا كله .. فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد – وهو يعمل فى نطاق الجماعة – إلى هذه المجالات كلها , بحكم نظام الجماعة ذاته , وأن يستنفد الطاقات الفطرية كلها , فى اثناء العمل للجماعة , وفى مجال بناء الجماعة .. استطاع ذلك فى نظام الكتائب , ونظام المعسكرات , ونظام الشركات الإخوانية , ونظام الدعاة , ونظام الفدائيين , والذينم شهدت معارك فلسطين ومعارك القنال نماذج من آثاره , تشهد بالعبقرية لذلك النظام .

وعبقرية البناء فى تجميع الأنماط من النفوس , ومن العقليات ومن الأعمار ومن البيئات .. تجميعها كلها فى بناء واحد . كما تتجمع النغمات المتختلفة فى اللحن العبقرى.. وطبعها كلها بطابع واحد يعرفون به جميعا , ودفعها كلها فى اتجاه واحد .. على تباين المشاعر والإدراكات والأعمار والأوساط , وفى ربع قرن من الزمان . ترى أكانت مصادفة عابرة أن يكون هذا القبه ؟ أم إنها الإرادة العليا التى تنسق فى كتابها المسطور بين أضغر المصادفات وأكبر المقدورات فى توافق واتساق .

ويمضى حسن البنا إلى جوار ربه , يمضى وقد استكمل البناء أسسه , يمضى فيكون استشهاده على النحو الذى أريد له , عملية جديدة من عمليات البناء .. عملية تعميق الأساس , وتقوية للجدران , وما كانت ألف خطبة وخطبة , ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة فى نفوس الإخوان كما ألهبتها قطرات الدم الزكى المهراق .

إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع , حتى إذا متنا فى سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة .

وحينما سلط الطغاة الأقزام الحديد والنار على الإخوان , كان الوقت قد فات , كان البناء الذى أسسه حسن البنا قد استطال على الهدم , وتعمق عن الإجتثاث . كان قد استحال فكرة لا يهدمها الحديد والنار , فالحديد والنار لم يهدما فكرة فى يوم من الأيام . واستعملت عبقرية البناء على الطغاة الأقزام , فذهب الطغيان , وبقى الإخوان .

ومرة بعد مرة , نزت فى نفوس بعض الرجال – من الإخوان – نزوات .. فى كل مرة , استمسك أعداء الإخوان بفرع من تلك الشجرة , يحسبونه عميقا فى كيانه , فإذا جذبوه إليهم جذبوا الشجرة , أو اقتلعوا الشجرة .. حتى إذا آن أوان الشد خرج ذلك الفرع فى أيديهم جافا يابسا كالحطبة الناشفة , لا ماء فيه ولاورق ولا ثمار .. إنها عبقرية البناء , تمتد بعد ذهاب البناء ..

واليوم يواجه بناء الإخوان خليطا مما واجهه فى الماضى .. ولكنه اليوم أعمق أساسا , وأكثر استطالة وأشد قواما .. اليوم هو عقيدة فى النفس , وماض فى التاريخ , وأمل فى المستقبل , ومذهب فى الحياة .. ووراء ذلك كله إرادة الله التى تغلب , ودم الشهيد الذى لا ينسى .

فمن كان يريد بهذا البناء سوءا , فليذكر أن طغيان فاروق – ومن خلفه انجلترا وأمريكا – لم يهدم منه حجرا , ولم يترك فيه ثغرة . إن المستقبل لهذه العقيدة التى يقوم عليها بناء الإخوان , وللنظام الإجتماعى الذى أن تتضام هذه المزق , ينبثق من هذه العقيدة .. وفى كل أرض إسلامية اليوم نداء بالعودة إلى الراية الواحدة , التىمزقها الإستعمار ذات يوم , ليسهل عليه ازدراد الوطن الإسلامى قطعة قطعة , وقد آن الأوان أن تتضام هذه المزق , وتنتفض جسما حيا كاملا , يمزق الإستعمار .

إن طبائع الأشياء تقتضى انتصار هذه الفكرة , فلقد انتهت موجة التفكك والتمزق .. ولم تمت الفكرة الإسلامية فى تلك الفترة المظلمة , فهيهات إذن أن تموت اليوم فى موجة اليقظة والإنتقاض والإحياء ..

ولقد اختلطت الفكرة الإسلامية ببناء الإخوان المسلمين , فلم يعد ممكنا أن يفصل بينهما التاريخ , ومن ثم لم يعد ممكنا أن يفصل بينهما أحد فى اليوم أو الغد .. ولقد كان الإستعمار فى الماضى يستخدم أجهزة للتخدير يلبسها ثوب الدين : استخدم رجال الطرق , واستخدم رجال الأزهر , كما استخدم طغيان السراى .. أما اليوم فلم يعد ذلك ممكنا .. إن الفكرة الإسلامية اليوم , يمثلها بناء الإخوان تمثيلا قويا فلا سبيل إلى التمويه بأى جهاز .. والأزهر ذاته – قد خضع للطغيان طويلا , وخضع للإستعمار – ها هو ذا آخذ فى الانتفاض والتحرر , وهؤلاء طلابه وأساتذته , ينضمون جماعات وأفرادا إلى صفوف الإخوان , المحضن الأول للفكرة الإسلامية كما ينبغى أن تكون .

" كتب الله لأغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز " المجادلة : 21 .

(5) غصن باسق فى شجرة الخلود ..

للشيخ محمد الغزالي

فى وحشة الليل , وسورة الغدر , ويقظة الجريمة , كان الباطل بما طبع عليه من غرور , وما جبل عليه من قسوة , وما مرد عليه من لؤم , كان مستخفيا ينساب فى أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه , ويبث عيونه , ويسوق أذنابه من الكبار والصغار , ويعد عدته لكى يغتال حسن البنا .. مرشد الإخوان المسلمين .

وليس قتل الصديقين والصالحين فى هذه الدنيا بالأمر الصعب إن القدر آذن بأن يعدو الرعاع قديما على أنبياء الله , فذبحوا وهو يحملون أعباء الدعوة , أفكثير على من تلقفوا هذه الأعباء أن تسقط على الأرض , أن يردوا هذا المورد ؟ .. بلى ومن طلب عظيما خاطر بعظيمته .. ومن هوان الدنيا على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع .. مع المترفين . وأن ترك حملة الوحى يهونون .. مع الوحى لا بأس .

سمع رسول الله رجلا يقول : اللهم آتنى أفضل ما أتيته عبادك الصالحين فقال له : " إذن يعقر جوادك ويراق دمك " حتى الجواد يقتل مع صاحبه .. أصابه من الشهادة مسها القانى , ولوكان مربوطا بعربة بضاعة لعاش دهرا .

وكذلك أبى ربك أن يسترجع المختارين من عباده – بعدما أدوا رسالتهم فى الحياة – ابى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة . وجراحاتها الغادرة .

فمزق علج من المجوس أحشاء عمر . وعدا مأفون غر على حياة على . وقتل يزيد الماجن الحسين سبط الرسول . وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا .. ولا تزال سلسلة الشهداء تطول حلقة حلقة ما بقى فى الدنيا صراع بين الضياء والظلام .

عفاء على دار رحلت لغيرها
فليس بها للصالحين معرج
كدأب على فى المواطن قبله
أبى حسن والغصن من حيث يخرج

لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أتفه شىء فى ناظريه .. ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل ؟

خرقت جسدا أضنته العبادة الخاشعة وبراه طول القيام والسجود .. خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة فى سبيل الله , وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة .. رحلات طالما أصغى الملايين إليه فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله ويحشدهم ألوفا ألوفا فى ساحة الإسلام .

لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه .. وبدت وراثة النبوة ظاهرة فى شمائله .. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت فى سفحها أمواج المادية الطاغية , وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذى أفعم قلبه حبا للإسلام واستمساكا به .

وعرفت " أوربا" البغى أى خطر على بقائها فى الشرق إذا بقى هذا الرجل الجليل فأوحت إلى زبانيتها .. فإذا بالإخوان فى المعتقلات وإذا بإمامهم شهيد مضرج فى دمه الزكى .

ماذا خرقت الرصاصات من جسد هذا الرجل ؟ خرقت العفاف الأبى المستكبر على الشهوات المستعلى على نزوات الشباب الجامحة ؟

لقد عاش على هذه الأرض أربعين عاما لم يبت فى فراشه الوثير منها إلا ليالى معدودة . ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة .. والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية وتوطيد أركان الإسلام فى عصر غفل فيه المسلمون واستيقظ فيه الإستعمار , ومن ورائه التعصب الصليبى , والعدوان الصهيونى , والسيل الأحمر فكان حسن البنا العملاق الذى ناوش أولئك جميعا حتى أقض مضاجعهم . وهدد فى هذه اليسار أمانيهم .

لقد عرفت التجرد للمبدأ فى حياة هذا الرجل .

وعرفت التمسك به إلى الرمق فى مماته .

عرفت خسة الغدر يوم قدم رفات الشهيد هدية للمترفين الناعمين .

كما قدم – من قبل –دم على مهرا لامرأة .

عجبا لهذه الدنيا وتبا لكبريائها , وارحمتاه لحايا الإيمان فى كل عصر ومصر , كذلك يقتل الراشد المرشد ؟

ودعا أيها الحفيان ذلك الشخص .. إن الوداع أيسر زاد واغسلاه بالدمع إن كان طهرا , وادفناه بين الحشى والفؤاد وخذا الأكفان من ورق المصحف كبرا عن أنفس الأبراد أسف غير نافع واجتهاد لايؤدى إلى غناء اجتهاد ..

(6) إهداء ...

د. يوسف القرضاوي ( من ديوان : المسلمون قادمون )

لك يا إمامى يا أعز معلم
يا حامل المصباح فى الزمن العم
يا مرشد الدنيا لنهج محمد
يا نفحة من جيل دار الأرقم
أهديك نفسى فى قصائد صغتها
تهدى وترجم فهى أخت الأنجم
حسبوك مت وأنت حى خالد
ما مات غير المستبد المجرم
حسبوك غبت وأنت فينا شاهد
نجلو بنهجك كل درب معتم
شيدت للإسلام صرحا لم تكن
لبناته غير الشباب المسلم
وكتبت للدنيا وثيقة صحوة
وأبيت إلا أن توقع بالدم
نم فى جوار زعيمك الهادى فما
شيدت يا بناء لم تهدم
سيظل حبك فى القلوب مسطرا
وسناك فى الألباب واسمك فى الفم

(7) الإسلام يصوغ النور فى لحم ودم

د. سعيد رمضان

13 فبراير 1949 :

فاجعة .. 13 فبراير صليت الفجر وجلست أكتب على الآلة الكاتبة بعض اشياء للمؤتمر الإسلامى , ثم عدت فوجدت فى انتظارى خبر الفاجعة الكبرى أكاد لا أصدقها .. يدى لا تستطيع أن تحرك القلم .. مقتل حسن البنا .. لا أكاد أصدق .. كذب .. لا بل حق هو خبر أذيع : أصيب الرجل العظيم بالرصاص مساء أمس ثم نقل إلى المستشفى مضرجا بدمه الطاهر , ثم فاضت روحه أثناء الليل إلى عليين .. وتركتنا على الأرض نعانى شرها ومرها .. قتلته يد آثمة , أساءت إلى الإسلام الإساءة الكبرى . هيه يا فضيلة المرشد : سلام عليك حيث أنت .. فى قدسك وعليائك , وجزاك الله خير ما جزى إماما عن تلامذته وأتباعه .

كان حسن البنا إماما بكل ما تسع الامامة من معنى .. كان مثلا أعلى فى كل شىء : فى علمه .. فى إيمانه .. فى إخلاصه .. فى نشاطه .. فى حدة ذكائه .. فى دقة ملاحظته .. فى قلبه الكبير وروحه الطاهرة .

كان حسن البنا حجة الله فى نفسى على أن الإسلام يصنع الرجال ويحقق المثل العليا , ويصوغ النور المصفى من لحم ودم .. كان عقلا هائلا .. وروحا موصولا بالسر الأعلى لا يفتر عن ذكر الله .. كان قمة شامخة , فيها العلو , وفيها قوة الجبل .. كان عظيما موفقا لا يخطىء الوجهة .. كان رائعا ملأ قلوبنا بحب الله , واشعل صدورنا بحب الإسلام , وصهرنا فى بوتقة طاهرة لا تشوبها شائبة . قتل حسن البنا بعد عشرين عاما قضاها فى جهاد مرير متصل الأيام والليالى . لن أنس جولاته فى الأقاليم لا ينام إلا ساعتين أو ثلاثا كل يوم , ولن أنسى سهره الليل عاكفا فى المركز العام , أو فى منزله , أو فى الشهاب على أعمال الدعوة .. ولن أنسى دموعه التى طالما هتنت فى غفلة من الناس على الإسلام والمسلمين . هذا الصوت العميق الرخيم , وهذ الإيمان الحى الغامر , وهذه الروح المشرقة التى عرفت بها الله , وطوتنى أشعتها ونشرتنى سبع سنين كانت حلما عزيزا .

هذا الرجل العجيب الذى بعث الأمة من أعماقها , وهزها هزة عنيفة أسالت الحياة فى وجدتنها , ولم يتركها إلا وقد خلف فيها جيلا كريما حيا , يعرف ربه , ويؤدى واجبه .

الجمعة 18 مارس سنة 1949

لم تمت :

كنت أنظر الآن من شرفة غرفتى بفندق " سرتاج " بكراتشى , فرأيت شابا ينحنى انحناءة ذكرتنى بأخ عزيز من إخوان مصر.

هيه يا إخوة مصر .. يا شبابها الطاهر .. يا نور النبوة وميراث المجد الغابر , وعزاء القلب الجريح .. ما كان يدور بالبال أن يوما سيأتى يحال فيه بيننا بهذا السياج الآثم من زبد الرياح الهوج , بعد أن تنسمنا أنسام الحق والحرية بين يدى الرجل العظيم .

كان حسن البنا نسمة حلوة جادت بها رحمة الله على الإنسانية الظامئة .. ثم مرت عابرة بعد أن ذكرتنا بأيام الأنس الأولى : أيام الأنبياء والمرسلين وأحباب الله فى أرضه , وحببت إلينا الجنة والخير, والمثل العليا والسمو , وكل ما بينه وبين الله نسب من القبول والرضا , لأن حسن البنا كان نسبة خالصة ليس فيها لغير الله نصيب .. كان روحا نعب منه ولا يغيض , وبحرا صافيا تذوب فيه كل أوساخنا ويظل هو طهورا مرسلا لا يضيق ولا يتعكر .

هيه يا فضيلة المرشد .. أحق ما يقولون من أنك مت .. ومت قتيلا فى شارع من شوارع القاهرة , ودفنت بعد أن صلى عليك نفر قليل فى مسجد قيسون , وكان المشيعون بضعة من أهلك وأقاربك ؟ لم تمت يا فضيلة المرشد .. لا والذى خلقك ,, لا والذى أنعم عليك .. ومتعنا بصحبتك .. لقد فتحت قلوبنا على النور , ووضعت أيدينا على أول الصراط وجمعتنا من شتات .

سنمضى إلى حيث كنت تدعو وتربى وتحترق بالليل والنهار .. لا زالت دروس الثلاثاء , وكتائب المركز العام , وأحاديثك الخاصة وخطب السرادقات , وهمسك فى لحظات الصفاء , لا أزال ذلك كله طى قلوبنا , وأمانة الله فى أعناقنا .

لقد تركتنا يا فضيلة الأستاذ بعد أن حملتنا العبء القاسى , وجعلته شهدا مذابا فى طوايانا وأعصابنا .. فاهنأ – يا حبيب الروح – فى جنة الخلد , واسعد كفاء ما كافحت الكفاح المر الطويل .

الجمعة 10 يونيه سنة 1949 :

نجوى :

( فى حجرتى بمستشفى فاطمة جناح أرمباغ كراتشى باكستان حوالى الساعة العاشرة صباحا ) .

سيدى فضيلة الأستاذ المرشد ...

السلام عليك ورحمة الله وبركاته .. وأسعد الله صباحك أيها الرجل العظيم .. وهل فى الجنة صباح ومساء ؟. .. هكذا أراد الله لج الجنة , وأن تتركنا هنا حيارى بين ظلمة ونور .. كنا معك يا فضيلة الأستاذ طيورا أطلقتها بإذن ربك من أقفاصها , فراحت تخفق بأجنحتها فى هواء طلق , ولكنها كانت لا تلبثأن تعود إليك , وتخفق خفقة الولاء لله بين يديك .. أما بعد أن تركتها وطرت إلى أقدس جوار وأصدق منزل , فقد تناوشتها الرياح , وهى الآن تبحث عن وكر هادىء تجتمع لديه .. ليس يعلم إلا الله – يا سيدى – ما تخبئه الأيام لنا إلا أننا نسائل الله أن يثبتنا على العهد .

أين روحك – يا سيدى – تزيل الران عن قلوبنا ؟ .. أين عيناك نقيس منهما نورا من أنوار السماء ؟ .. اين سرك الرائع الذى كان يجعلنا دائما فى ثقة من أننا على الصراط , وفى اطمئنان إلى أن حسن البنا ليس فيه لغير الله شىء ؟ .. كنت – يا سيدى – الرجل الذى أومن به , وأطمئن إليه , وأجد الراحة الكاملة فى صدق الفناء فيه .

لا زلنا نذكر كلماتك : " أيها الإخوان .. إنى لا أخشى عليكم الدنيا مجتمعة .. فأنتم بإذن الله أقوى منها .. ولكنى أخشى عليكم أمرين اثنين : أخشى أن تنسوا الله فيكلكم إلى أنفسكم , وأو أن تنسوا أخوتكم فيصير بأسكم بينكم شديدا "

يا فضيلة الأستاذ : لن ننسى الله , ولن ننسى أخوتنا , وما فعل أعداء الله أكثر من أن ذكرونا بهما ..

سيدى الأستاذ .. تذكر يوم جاء استشهاد الأخوة الكرام فى أول معركة فلسطين .. وتذكر أنك قلت ساعتها " اشتقنا إلى الجنة , لا إلى خيراتها وفواكهها , ولمن إلى أبى بكر وعمر وعثمان وعلى , والصحب الكرام , وهؤلاء الشهداء الأعزاء " .. وقد استجاب الله لك .. هل رأيتهم ؟ .. وكيف وجدتهم ؟ .. هنيئا لك ما أنعم الله به عليك , عزة فى الدنيا وكرامة فى الآخرة .

" فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة " آل عمران: 148 .

آه يا أستاذ , لم تعد مكلفا فأسألك .. ولسنا لنعلو إليك فنسمعك .. أصبح علينا أن نواجه الحياة بإيمان وعزم .. وبذرك الذى بذرته سيؤتى أكله ومع اليوم غد " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " الأحزاب : 23 والسلام عليك يا حبيب الروح ورحمة الله وبركاته .

الثلاثاء 19 يوليو سنة 1949

آخر لقاء :

( الساعة الآن التاسعة مساء وقد انتهت من الإفطار منذ دقائق , وأنا أغسل يدى فى ركن يطل على شارع محاذ لحديقة أرمباغ ) .

لمحت عربة تشبه عربة الأستاذ المرشد التى تعود أن يركبها .. خفق قلبى وغار بين جنبى , وأحسست بلفح الذكرى يهز نفسى هزا .. لا زلت أذكر آخر لحظات رأيت فيها فضيلة المرشد الشهيد – أعزه الله – كأنها منذ ساعات فقط , أو كأنها لا تزال باقية , وكل ما أذيع من الأنباء كذب لا ينال منها , ولا يؤثر فيها .

ها هو فضيلة المرشد الحبيب جالس بجلبابه الأبيض , وعباءته البيضاء إلى مكتب فى الحجرة القريبة من مسجد المركز العام للإخوان .. وجه مشرق حلو , وسمات ربانية عالية , وصوت رخيم عذب فيه رحاب النبى الحبيب وجرس السماء الحلو .. و ..

انتهى الأستاذ لتوه من محاضرة ألقاها بالمركز العام , ودع فيها الإخوان لعزمه السفر إلى الحجاز صبيحة الغد .

دعانة إليه , وطلب إلى أن أستعد للسفر إلى شرق الأردن , وزودنى بخاصة أمره فى ثقة غالية , سأظل أعتز بها العمر كله .. ثم قبلت يده وقبل رأسى ..وما كنت أعلم أن آخر لقاء لنا فى الدنيا .. إلى أن يجمعنا الله مرة أخرى .

اللهم تقبل حسن البنا أحسن قبول .. فقد كان – وأنت تعلم به – عبدا صادقا , ومجاهدا أمينا , وإماما جمع الكثيرين من فرقة وطهرهم من دنس , وهداهم بإذنك من ضلال .. اللهم ارفع درجاته عندك , واجعله مع النبيين والصديقين وأسعده بالنظر إلى وجهك الكريم , واجزه عنا خير ما أنت أهل له , وأكرمه كله .. اللهم أسعده .. اللهم أسعده .. اللهم أسعده .

اللهم وألحقنا به فى الصالحين , وثبتنا على العهد الذى عاهدناه , وعوضنا عنه خيرا , وألق فى قلوبنا نورا ينير لنا الطريق .. اللهم آمين , وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

(8) الجوهرة

للأستاذ الشاعر محمد فهمي

أذرف الدمع لاه .. بل كفكفنه
لا تقل مات .. إنه فى الجنة
إنما روحه استفاضت سناء
فى حنايا القلوب ملء الأكنه
إنه الآن قد تهامس نحوى
فى حنان .. فى رقة .. فى غنه
إننى الآن ها أراه مطلا
بالصبوح المنير وسط الدجنه
فى ابتسام كأنه لغة السحر
حلالا من الخلود .. وأنه
فارئا آية السلام جهيرا
فانصتوا .. فإنها لمرنه
السلام السلام رهط صحابى
.. وعليك السلام يا ابن البنه
يوم منعاك أى طعنة غدر
دهت الشرق فارتمى يتقلب
ذعرت مصر والشآم تلوى
ومشى الهول راعدا فى المغرب
دمعت قبلة الحجاز وباتت
قبلة القدس بالسواد تحجب
الأمانى فى سماها استحالت
شفقا شع بالدماء تخضب
مأتم الدين اطلعته سماء
تشرك الأرض بالمدامع تسكب
رقصت عصبة اليهود وكانت
نهب خوف يروعها وترقب
ثلم الركن بعد عز قيام
إن ظهر العروبة اليوم أحدب
يا شهيد البلاد لست قتيلا
لا ولم تسلك الفناء سبيلا
فى السواد العميق من كل قلب
لك عرش نحوطه تبجيلا
وعلى الجمع فى الصلاة تجلى
منك حدا لنا ترتيلا
أنت بالدم الطهور صبيبا
قدست غاية وعشت طويلا
سيجىء الزمان دهرا فدهرا
ويحور الأنام جيلا فجيلا
ويذوق الطغاة مهل عذاب
حكمة الله لن ترى تبديلا
وهداك .. من ذرى الخلد يحبو
موكب السالكين .. ظلا ظليلا
كنت للحق عدة وقواما
كنت للدين هاديا وإماما
كنت للناس خادما ورفيقا
مذ تواصيت ما خفرت ذماما
تقشع الظلم عن قلوب الحيارى
بين كفيك بارق يترامى
قصد الكل فى رحابك رفدا
صدق الظن .. قد رأوك غماما
يعمل الناس للثراء وتأبى
عفة النفس .. أن تذوق حراما
تبسط الكف بالألوف وباتت
صبية البيت يشتهون الطعاما ..
إن جيلا من الشباب صحبته
كان نهب الضلال أنت هديته
كان يضحى على صغار فعال
ثم يمسى على الخنا فرشدته
وإلى الدين والهدى سددته
وإلى المجد باذخا وجهته
كان كنزا مضيعا فحفظته
كان ياسا مخيما فقشعته
أى عمر من السنين لخمس
ثم عشرين داعيا قضيته
كنت تدعو إلى الكتاب مبينا
كل آى بحكمة فصلته
بالسحر البيان إذ رقرقته
يا لشهد الحديث إذ أرسلته
يا لحشد من المنى تتوالى
كان أعلى من السها .. أدنيته
أيها الخالد الأبى سلام
خلدت منك شعلة رضرام
نيرات من الرفاق ستبقى
أبد الدهر للضلال سهام
قبست منك خارقات صفات
هى كالخلد فى السماء يرام
غرق الناس فى جحافل فوضى
وستجتاح بعدها الأفهام
ويسوق الأنام شر دعاة
قرب الهول .. خطوة فصدام
وينيخ الوجود تحت دماء
وفعال تعافها الأنعام
بينما الشرق يستطيل علوا
وستعنو لبأسه الأيام
حكمة الله أن فيه كتابا
لنبى أتى به العلام
لا يضيع الإله من عرفوه
قالها الحق .. بل هم الحكام
وستبقى الإخوان مثل منار
ساطع الضوء .. إنهم أعلام

(9) كان لله .. بقلبه وقالبه

وهذه كلمة عالم الشام وفقيهها الفذ الشيخ محمد الحامد – رحمه الله – كتب يقول :

" إن المسلمين لم يروا مثل حسن البنا مئات السنين , فى مجموع الصفات التى تحلى بها وخفقت أعلامها على رأسه الشريف , لا أنكر إرشاد المرشدين وعلم العالمين العارفين وبلاغة الخطباء والكاتبين وقيادة القائدين وتدبير المدبرين وحنكة السائسين , لا أنكر هذا كله عليهم من سابقين ولاحقين , ولكن هذا التجمع لهذه المتفرقات من الكمال قل ما ظفر به أحد كالإمام الشهيد – رحمه الله – عرفه الناس وآمنوا بصدقه ,وكنت واحدا من هؤلاء العارفين به , والذى أقول فيه قولا جامعا : هو أنه كان لله بكليته , بروحه وجسده , بقلبه وقالبه , بتصرفاته وتقلبه , كان لله فكان الله له , واجتباه وجعله من سادات الشهداء والأبرار .

حدثنى عالم مصر كانت له صلة به قال لى : إن الإلحاد امتد إلى مصر , وانتشر فيها وغزا كثيرا من أوسطاها , ولم يستطع الأزهر الشريف ولا الجمعيات الدينية رد سيله الجارف , حتى جاء حسن البنا فدرأ خطره وأنجى من شره .. قال هذا العالم هذا القول وكنت أرى بعينى توفيق الله لأصحابه , وقد كانوا من قبل فى ظلمات فأخرجهم منها إلى النور .

(10) الإمام الشهيد

بقلم معالى الأستاذ وليم مكرم عبيد ( باشا )

فى الذكرى الثانية للإمام الشهيد , طلبت مجلة الدعوة فى عددها الصادر فى جمادى الأولى 1371 – 1951 م من معالى الأستاذ وليم مكرم عبيد باشا كلمة بهذه المناسبة .. فكان مما كتب قوله : فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون قد فقدتم أخاكم الأكبر الخالد الذكر , فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذى أسلم نفسه لله حنيفا قد أسلم روحه للوطن عفيفا , حسبكم أن تذكروه حيا فى مجده كما ذكرتموه ميتا فى لحده .

وما من شك أن فضيلة الشيخ البنا هو حى لدينا جميعا فى ذكراه و بل كيف لا يحيا ويخلد فى حياته رجل استوحى فى الدين هدى ربه وفى الآخرة وحى قلبه .

اذكروه أنتم أيها الاخوة , ثم اذكروه , ففى ذكره حياة له ولكم

ومن ذا الذى يقول بهذا ؟ .. هو مكرم عبيد صديقه المسيحى الذى عرف فى أخيه المسلم الكريم الصدق والصداقة معا , ولئن ذكرت فكيف لا أذكركم تزاورنا وكم تآزرنا إبان حياته , ولئن شهدت فكيف لا أشهد بفضله بعد مماته , وما هى وأيم الحق إلا شهادة صدق أشهد عليها ربى إذ ينطق بها لسانى من وحى قلبى , بل هى شهادة رجل يجمع بينه وبين الفقيد العزيز الإيمان بوحدة ربه وبوحدة شعبه , والتوحيد فى جميع الأديان المنزلة لا يكفى فيه أن توحد الله بل يجب أن تتوحد فى الله .

لقد زرته رحمه الله إثر موته فى منزله , فكانت زيارة لن أنسى ما حييت اثرها الفاجع والدامع ولقد هالنى أن أجد قوة من البوليس تحاصر الشارع الذى به منزل الفقيد , ولولا أن ضابط البوليس عرفنى فسمح لى بالمرور لما تيسر لى أن أؤدى واجب العزاء , ولئن نسيت فلن أنسى كيف كان والده الشيخ متأثرا بهذه الزيارة حتى أنه قضى عاما والدمع يفيض من عينيه , كيف منعوا الناس من تشييع جنازة الفقيد , ولم يسمح لغير والده بالسير وراء نعشه , كما لم يسمح للمعزين بالعزاء فى منزله , وراح الوالد الكريم يشكرنى ويدعو لى دعواته المباركة التى ما زلت أتبرك بها , ولو أنى قلت له : إن واجب العزاء هو فرض واجب الأداء فإذا ما قصرت فيه أنا وأى مصرى كان ذلك تنكرا لأبسط أولويات الوفاء .

هذه شهادة قطب بارز من كبار الأقباط , عايش الإمام الشهيد وتزاوراوتأزرا .. كتبها بعد أن لقى الإمام ربه وغيب مريدوه فى غيابات السجون , كتبها لا رغبة فى مغنم يأتيه من قبل مريديه المكبلين , ولا رهبة من سياط الطغاة الفاجرين " وما هى – وأيم الحق – إلا شهادة صدق أشهد عليها ربى , إذ ينطق بها لسانى من وحى قلبى " كما قال هذا الزعيم الكبير .

وهى شهادة تدحض ما يفتريه المفترون من العلمانيين ومن يلف لفهم من أن الإخوان يثيرون ريح الفتنة الطائفية جاهلين أن الإسلام قد حسم الأمر وفض القضية وانتهت منذ أربعة عشر قرنا , وطويت فى طى النسيان , والذين يثيرون هذه القضية لا يجدون لها موضوعا , وإنما يثيرونها ابتغاء الفتنة وإشاعة القلق .

فالإسلام قد كفل للمواطنين غير المسلمين حرية العقيدة وحماها " لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى " البقرة : 256 " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس : 99 " قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " هود : 28 .

وما حاجة الله أن يكره أحدا على اعتناق الإسلام إذا كان الله ينظر إلى قلوب الناس لا إلى صورهم ولا إلى ما يقولون دون ما يعتقدون .

وأباح الإسلام كذلك حرية العبادة , فلغير المسلمين أن يقيموا معابدهم كيفما شاءوا , وأن يعبدوا الله فيها من غير حرج عليهم فى ذلك " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " الحج : 40 .

وكثيرا ما حصل أن بنت الدولة الإسلامية الكنائس المسيحسة يؤدون فيها شعائر دينهم , ولا يزال المسيحيون واليهود يتمتعون بهذه الحرية إلى اليوم .. لا يستطيع مسلم أن يحرمهم منها , لأنه إن فعل ذلك يكون عاصيا لله سبحانه وتعالى غير مطيع لأمره .

والمسلمون حين يبيحون حرية العقيدة وحرية العبادة لا يتفضلون على أحد بذلك وإنما يفعلونه لله تعالى وقربى له دون أن يملكوا منعا .

وفى أحوالهم الشخصية فإنهم يطبقون قواعد دينهم تحكم فى ذلك محاكمهم .. فالزواج والطلاق والنفقة والعدة والرضاعة والنسب والميراث والوصية والهبة كل ذلك وغيره مما يدخل فى هذا الباب , قد أمرنا فيه بتركهم وما يدينون لا يتعرض لهم أحد فى ذلك , فإذا أتوا إلينا طائعين مختارين حكمنا بينهم بما أنزل الله .

ويحرضنى هنا ما سبق وأدلى به الأستاذ الهضيبي لمراسل جريدة أجنبية فى أغسطس 1952 وقد سأله عن معاملة غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم ممن ليسوا على دين الإسلام , وقال :

" نحن مأمورون بأن نشهد بالله وملائكته وكتبه والنبيين .. وتعظيم كتابنا لعيسى وموسى أكبر مما يعظمهما اليهود والنصارى , ولئن كانوا ظلموا التاريخ بتشويه حقائقه فليس علينا إلا أن نعدل فيهم ونتبع هدى القرآن "

قال تعالى " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " النساء : 58 .

ولم يقل الله تعال : وإذا حكمتم بين المسلمين , فإن العدل فى الإسلام عدل إنسانى لا يعرف التفرقة بين مسلم وغير مسلم .

وقال تعالى " ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى : المائدة : 8 فنهانا الله بذلك عن أن نفرق فى عدلنا فنعدل فيمن نحب ولا نعدل فيمن نكره , بل يجب علينا العدل بين الناس فى كل الأحوال .

وقال تعالى " .... وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ...." الأنعام : 152 وأحكام الإسلام تأمرنا أن نعامل الناس كافة بالعدل , ولو قال لنا الإسلام شيئا آخر لفعلنا ولو قال قاتلوهم لقاتلناهم يقصد أننا نلتزم بأمر ربنا لا نحيد عنه .

وليس هذا مجال تفصيل الكلام عن معاملة المسلمين فى ظل الدولة الإسلامية , فقد كتب فيه كثير من الكتابين من مسلمين وأجانب , وأحيل القارىء الكريم إلى كتاب د. القرضاوى ( غير المسلمين فى المجتمع الإسلامى ) .. وأسجل هنا ما كتبه جوستاف لوبون فى كتابه حضارة العرب فهو يقول " لقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كانت عندهم من العبقرية ما ندر وجوده فى دعاة الديانات أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا, فعاملوا أهل سورية ومصر وإسبانية وكل قطرا استولوا عليه برفق عظيم تاركين لهم نظمهم ومعتقداتهم غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة إذا قيست بما كانوا يدفعونه فيما مضى , على أن تكون تلك الجزية فى مقابل حفظ الأمن بينهم , فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا دينا سمحا مثل دينهم "

فليكف قوم رموا الإسلام بسموم حرابهم بغية تشويه تعاليمه وصرف الناس عنه ,. وإثارة الفتنة بين عنصرى الأمة .

" وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " المائدة : 73 .

(11) ونختم ما قيل عن الإمام البنا بما قاله هو نفسه بهذا العنوان : هذا أنا .. فمن أنت ..

سأل صحفى الإمام الشهيد عن نفسه , وطلب منه أن يوضح بنفسه عن شخصيته للناس .. فقال رضى الله عنه :

" أنا سائح يطلب الحقيقة , وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس , ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والإستقرار والحياة الطبيعية فى ظل الإسلام الحنيف .

أنا متجرد أدرك سر وجوده , فنادى : إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين . لا شريك له , وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . هذا ..أنا ..

فمن ..أنت .. ؟ ...

مواقف دعوية للإمام البنا

الأستاذ محمد السيد وادي من شيوخ الدعوة السابقين – أطال الله حياته ومتعه بالعافية ...

خرج الأستاذ البنا فى الأربعينيات فى جولة دعوية إلى مدينة المنصورة وما حولها من المراكز والقرى , فمر بكفر بداوى وقدمه الإخوان هناك إلى الأستاذ البنا للتعارف , وبعد حديث ودى بينهما دعاه الأستاذ الإمام لزيارته فى القاهرة فى أول فرصة مواتية , وفوجىء الأستاذ ذات يوم بزيارة الأستاذ وادى له فى المركز العام , وأثناء الحديث معه , فهم منه أنه قادم لزيارة شقيقه المريض بمستشفى قصر العينى غدا , وانتهى اللقاء مع تمنيات الأستاذ للمريض بالشفاء .

يقول الأستاذ وادى : وفى صباح اليوم التالى بينما أنا متوجه لزيارة شقيقى إذ فوجئت بما لم يكن فى الحسبان .. وجدت الأستاذ البنا قد سبقنى ومعه مجموعة من الإخوان لزيارة أخى , فأدركت أن الرجل صاحب فكرة ورسالة , وآليت على نفسى ألا أغادرة القاهرة إلا وفى عنقى بيعة وعهد على الإنخراط فى سلك الدعوة والعمل تحت لوائها .

كان الأستاذ البنا – رحمه الله – صاحب دعوة وفكرة وكان لا يفتأ يهتم بشئون الإخوان أيا كانت مواقعهم ومراكزهم , يعقد لهم عقود الزواج , ويبارك الأولاد ويشاركهم فى سرائهم وضرائهم .

  • يحدثنى أحد الإخوان أن الأستاذ البنا زار قرية من قرى المنوفية على حد ما أذكر , وكان لأحد الإخوان جاموسة أصابها المرض فلم يغادر القرية إلا بعد أن اطمأن على الجاموسة وأنها تعدت مرحلة الخطر , ولما التقى بهذا الأخ بعد مدة سأله عن حال الجاموسة .
  • تلقى برقية من أحد الإخوان يخبره فيها بأنه رزق بمولودة بعد عقم دام سنين وأنه يرغب إلى الأستاذ فى اختيار اسم لها وقرأ الأستاذ البرقية على أعضاء مكتب الإرشاد فقال بعض الحاضرين " احنا فاضيين للكلام ده " .

ثم تناول ورقة وقلما وحرر برقية نصها : الأخ فلان .. " بارك الله لك فى مريم وأنبتها نباتا حسنا " .

وأمر بإبلاغها على الفور .

  • قدم إليه أكثر من مائة " كرنيه " بأسماء شباب الجوالة فى إحدى المحافظات لتوقيعها , فراح يمعن النظر فى صورة كل جوال ويحفظ اسمه , ولما توجه بعد أكثر من سنة لزيارة بعض قرى هذه المحافظة , كان يلتقى بالإخوان ويناديهم بأسمائهم , ولم يكن قد التقى بهم من قبل , فكان ذلك مثار دهشة الجميع .
  • كان الإمام الشهيد – رحمه الله – حريصا على كسب النفوس وتأليف القلوب , ولا غرو أن التف حوله هذ الجيش الضخم من جميع الطبقات فى سنين قليلة , حتى ذكر مصطفى أمين فى حديث له أن أنصار الشيخ البنا بلغوا من الكثرة والترابط حدا لدرجة أنه أذا عطس فى الأسكندرية سمع صوتا آتيا من أسوان يقول له : يرحمك الله .
  • ولعمرى لوكان الإمام حسن البنا حيا فى أيامنا هذه وعطس فى القاهرة أو الأسكندرية أو فى قاع الريف المصرى .. فى قرية .. او كفر .. أو عزبة .. أو دسكرة .. لتداعت الأصوات من كل فجاج الأرض .. من روسيا .. وأمريكا .. وأنجلترا .. وفرنسا .. والنمسا .. وألمانيا .. وكندا .. وبلوخستان .. وطاجستان .. وما حولها .. فضلا عن بلاد المغرب العربى والمشرق العربى .. يقولون له " يرحمك الله " .. وذلك بعد أن اجتازت دعوته الحدود , وتخطت السدود , وأصبحت علما على الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة العالمية التى تحمل ذات المنهاج , وإن تسمت بأسماء مغايرة للجماعة الأم .

وهكذا يجب على رجال الدعوة أن يلتحموا بالناس على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم , وأن يهتموا بقضاء حوائجهم ومساعدتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا مستهدين بالحديث الشريف:

حق المسلم على المسلم خمس :

- إذا لقيته فسلم عليه .

- وإذا عطس فشمته .

- وإذا مرض فعده .

- وغذا استنصحك فانصح له .

- وإذا مات فشيعه .

وأن يرعوا يتيما , ويرحموا مصابا , ويقيلوا عثرة , ويفرجوا كربة .. فهذه كلها أمور من صميم الدعوة إلى الله , وبها يكسب الدعاة القلوب .

قال بعضهم : عجبت لمن عجز عن شراء الناس بالمال , كيف لا يشتريهم بالاحسان ؟ ..

الفصل السابع

مختارات من شعر الدعوة

يا مسلمون

للدكتور حسان حتحوت

حمل الهوى قلبى إليك وطارا
يطوى البلاد ويذرع الأقطارا
كاس الحياة إذا نظرت حلاوة
فإذا شربت بها وجدت مرارا
أأكون صاحبها وهذا سمها
تسقى الندامى منه والسمارا ؟
إنى لتاركها لأكرم ساحة
تحوى النبى وآله الأطهارا
بلد الألى هاجرت من وطنى إلى
أوطانهم فوجدتهم أنصارا
ذوبت نفسى فى الغرام قصيدة
وجعلت شعرى للوداد شعارا
ودعوت فيها دعوة أبدية
يا رب حى نبيك المختارا
أسعود إن المسلمين باسرهم
قد ركزوا الآمال والأنظارا
شدها على بلد الرسول محلة
تجلوا ظلاما أو تقيل عثارا
تنفى بها وبمثلها اسقامنا
وترد ليل البائسين نهارا
هى من شئون الملك فارفع صرحها
واحسم بها الأدواء والأوضارا
الشعب فيه هو الأساس وكلما
قوى الأساس به فلن ينهارا
ارقأ مدامعه وواس جراحه
وأعده للمكرمات كبارا
زمن القوى وعالم لا يستحى
أن يستبيح دم الضعيف جهارا
إن لم تكن تلك الجسوم قوية
لم تلف جنديا ولا طيارا
فأعد ما يحيى الجسوم كليلة
وأعد ما يهدى النفوس حيارى
واسأل رجال الطب عن أدوائهم
ودوائهم يجلولك الأسرارا
إنا نحس قلوبهم وصدورهم
ونفوسهم والسمع والأبصارا
نجرى المباضع بالشفاء وتارة
نجرى الكلام وننظم الأشعارا
يا مسلمون وما لعينى لاترى
للمسلمين الورد والإصدارا
دار الزمان عليهموا فتغيروا
ليت الزمان عليهمو ما دارا
سكنوا إلى الدنيا سكينة غافل
يا ويل الغرورة دارا
حسبوا بأن الدين عزلة راهب
واستمرءوا الأوراد والأذكار
عجبا أراهم يؤمنون ببعضه
وأرى القلوب ببعضه كفارا
والدين كان ولا يزال فرائضا
ونوافلا لله واستغفارا
والدين مصباح حملنا نوره
لنثبت ما بين الدجى أنوارا
والدين ميدان وصمصام وفر
سان تبيد الشر والأشرارا
والدين عز المسلمين فما ارتضى
فى أرضهم ذلا ولا استعمارا
والدين حكم باسم ربك قائم
بالعدل لا جور ولا استهتارا
ذاك الهدى يا من يسائل ما الهدى ؟
فبأى لألاء الهدى تتمارى
وانظر عداة المسلمين فإنهم
داء أناخ على الحمى وأغارا
متنافرين فإن تراءى مسلم
حسموا الخلاف ووحدوا الأوطارا
خوف من الإسلام يملأ قلبهم
رعبا ويزكى فى الجوانح نارا
مهلا عداة الله إن غرتكمو
دنيا شهدنا حالها أطوارا
حاصرتم الدنيا فهل فى طوقكم
أن تحكموا حول اليقين حصارا
يا رب ثبتنا بيوم موشك
نهب الدماء لديه والأعمارا
يا رب هد الظالمين ولا تذر
منهم على أوطاننا ديارا
ولرب جرح فى فلسطين جرى
بدم فأجرى المدمع المدارا
ما زال ينتظر الدواء كتائبا
تهوى الحمام وأنفسا أحرارا
سنرده ونردهم عن أرضه
ونفك عنه ربقة وإسارا
ما بال جبار الحديد كأنه
نسلا الإله الواحد الجبارا
قد قرروا ما قرروه وإننا
دون الكرامة لا نقر قرارا
أملا بنى الإسلام هذى يثرب
تحيى اليقين وتحفز الأحرارا
بلد الرسول , وأى درس ناصع
عمر القلوب وأطرب الأفكارا
هذا رسول الله يمم شطره
يطوى إليه مهامها وقفارا
يغشى المخاطر ما له إلا السرى
ليلا وإلا الاختفاء نهارا
حتى أتى غارا فألهم أنه
وصديقه يستوطنان الغارا
والكفرعصبته تنقب عنهما
تتلمس الأخبراا والآثارا
بلغت مكانهما فلم تشهدهما
فقد البصيرة يذهب الأبصارا
أضحى بيض للحمام وقاية
وغدت خيوط العنكبوت ستارا
يا رب ليس لنا سواك وإننا
لم نلف غيرك راحما غفارا
بارك فيما يصير به المدى
من أمرنا واغ لنا ما صارا
يا رب إن الناس ضل ضلالهم
فتجبروا واستكبروا استكبارا
ثار العباب بنا فنج سفيننا
واهد الرياح وسخر التيارا
يا رب نهضتنا على دين الهدى
بنيت فعزت رفرفا وحجدارا
خيل نعد رباطها ومهنج
ما زال فى كف الهدى بتارا
وعقيدة وعزيمة وحكومة
تخذ الكتاب هداية ومنارا
إنا دعونا فى جوار محمد
عز الرسول شفاعة وجوارا

السجود لله

للدكتور عبد الوهاب عزام

سجدة تخفض الجباه , ولكن
عز فيها مسبح وتعالى
ظنها الجاهلون غلا على العبد
ولكن تحطم الأغلالا
خر فيها لساجد كل شىء
يرهب الكون قوله والفعالا
تثبت الوجه والجوارح فى الأر
ض ولكن تقلقل الأجبالا
تهدم الشرك والوساوس فى النف
س ولكن تشيد الأجيالا
فى سكون وللقلوب مسير
سخر الأرض رهبة وجلالا
هى لله وحدته فقرت
ومحت كل غاشم يتعالى
من وعاها وعى السيادة فى
الأرض جلالا ورحمة وجمالا

المسلمون

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

من هؤلاء التائهون
الخابطون على التخوم ؟
أعشى خطا أبصارهم
وهج الزوابع والغيوم ..
والليل ينفض فوقهم
من يأسه قلق النجوم
ويسوقهم زمرا إلأى
حف مولولة الرجوم
السوط يرقل حولها
والموت انسره تحوم
والقيد يخصف من صدرهم
المذلة والهموم
ويسومهم من عسفه
ولظاه أبشع ما يسوم
فإذا غفوا .. فعلى مواط
ىء كل جلاد غشوم
وإذا صحوا .. فعلى خطا
للذل خاشعة الرسوم
من هؤلاء الضائعون ؟ ..
أفهؤلاء المسلمون ؟
أبدا .. تكذبنى وتر
جمنى الحقائق والظنون
أبدا ..وكيف ؟ وفى يمي
نهم كتاب لا يهون
أبدا .. وكيف ؟ ودون
سطوته وتنتحر الظنون
ويبيد طغيان العتا
ة , ويهلك المتجبرون
ويخر بين يديه من
وهج الضياء الغاشمون
الفاسدون , المفسدون
الظالمون , المظلمون
الشاربون الدع ممن
فى المجازر يصرخون
السائقون الخلق كالقط
عان ساجدة العيون
مبهورة , منهورة
بالسوط تجهل ما يكون
بلهاء , روعها الصدى
واجتاح قينتها الجنون
وأحالها عدما يكبر
للردى .. لو تسمعون
من هؤلاء الخائعون ؟ ..
أفهؤلاء المسلمون ؟
ابدا .. تكذبنى , وتر
جمنى الحقائق والظنون
أنا منهم .. لكننى
نغم بسمعهم شريد
ربضت به الأصفاد .. بل
طحنته غمغمة العبيد
وجؤار شرق مبدىء
بأنين أمته معيد
أبكى عليهم .. أم على
غل يكبلنى شديد
إنا هجرنا الله .. هج
رتنا لشيطان مريد
عات تروضنا حضا
رته لكل هوى مبيد
ولك لمن يحيى لنا الإس
لام كفن جديد ..
نسجته أخيلة العصور
السود مذ زمن بعيد
لتحيل دين " محمد "
وهما على نعش مجيد
وإذا الجنازة لوعة
حرى مشيعها سعيد
من هؤلاء الهالكون ؟ ..
أفهؤلاء المسلمون ؟
أبدا .. تكذبنى , وتر
جمنى الحقائق والظنون
من كان للإسلام
فليضرب بمعوله الفساد
فيصيح باللص العتى :
كفاك من شبع وزاد
ويصيح بالفساق :
إياكم وأعراض العباد
ويصيح بالطاغين :
أسرفتم , لكل مدى نفاد
ويصيح بالباغين :
ويحكم , لقد ذهب الرفاد
ويصيح بالغاوين :
ويلكم , إذا حان الحصاد
وطواكم حد المناجل
بين أذرعه الشداد
ونظرتم .. فإذا الظلام
عليكم حنق السواد
ريح مصرصرة الزئير
كأختها فى يوم " عاد "
تسقيكم من ويلها
وخرابها حمم الرشاد ..
من هؤلاء الصاغرون ؟ ..
أفهؤلاء المسلمون ؟
التائبون العابدون ,
الراكعون ,الساجدون

أذان دائم

للدكتور عبد الوهاب عزام

يدى على الدهر هذا الأذان
فما ينقضى ساعة واحدة
إذا بلدة خفضت صوتها
تنادى التى بعدها جاهدة
فما سكت الصوت مر العصور
لم تلف أنغامه هامة
من السموات أنغامه
وتلقى الجبال لها راعدة
فكيف غفت عنه هذى القلوب
وظلت لترجيعه جاحدة
ولم تقشعر بأصدائه
ولم تمسك النغمة الشاردة
كما أعلن الصوت مذياعه
ودوى بنغماته صاعدة
أهذى القلوب بإحساسها
أقل من الآلة الجامدة ؟

بين الشهاب والمسلون

كان الإمام الشهيد يؤمن إيمانا راسخا بأثر الكلمة المقروءة وكذلك المسموعة , وكان كما يحدث عن نفسه يكتب مثلما ما يخطب , ويخطب مثلما يكتب . عنى عناية عظيمة بنشر الدعوة عن طريق الصحافة فأنشأ لذلك مجلة " النذير " فى فجر الدعوة , ثم جريدة " الإخوان اليومية " وقبل استشهاده بأشهر قلائل أنشأ مجلة شهرية أسماها " الشهاب " تنهج نهجا أكاديميا , وكان كتابها الشيخ محمد ابو زهرة , والشهيد عبد القادر عودة , والأستاذ العقاد – رحمهم الله – وغيرهم , وقد صدر منها أربعة أعداد استشهد بعدها الإمام الجليل .

ومن أروع ما كتب تحية لتلك أبيات من الشعر للأستاذ حسين شمس الدين من لبنان عنوانها " تحية إلى الشهاب "

هذا شهاب مقاصد القرآن
يهدى الورى لحقيقة الإيمان
قبس من الذكر الحكيم مشعشع
بالحق والأحكام والبرهان
سطعت أشعته بشهر محرم
فى عامنا هذا على الأكوان
من مصر قد ظهرت فأشرق نورها
فى الشام والأقصى وفى لبنان
فى الرافدين وفى الجزيرة هللت
وشمال أفريقيا إلى تطوان
وجزائر الهند العظيمة أكبرت
للمرشد البنا وباكستان
الله أكبر دعوة لا تنطفى
ما دام مشعلها يد الرحمن
للعالمين تنزلت وحيا على
قطب لوجود ومعدن الإحسان
يا أيها الإخوان دعوتكم سرت
فى الناس مثل الماء فى الأغصان
" وشهابكم " هزم الظلام وناره
لابد تحرق مظلم الوجدان

ثم انقشعت محنة الإخوان فى أخريات 1949 على إثر إقالة وزارة إبراهيم عبد الهادي , وعاد الإخوان إلى الساحة من جديد ليستأنفوا نشاطهم .

فأصدر الأستاذ سعيد رمضان – رحمه الله – مجلة اسماها " المسلمون " على غرار مجلة الشهاب , ليتم ما بدأه الأستاذ الإمام ..

وفى العدد الأول أرسل الأستاذ محمود أبو النجا تحية للمجلة هذا نصها :

طلعت على ليل الوجود ضياء
وتضوعت فى قفره فيحاء
وتدفقت من صخرة أنهارها
تروى نفوسا للجهاد ظماء
وتجردت أقلامها , وكأنها
بيض يسيل مدادهن دماء
فلها التحية من سواد قلوبنا
ونصوغ من نور العيون ثناء
" المسلمون " صحيفة " قمرية "
غراء , تحيى السمحة الغراء
قامت على صرح الشريعة تبتنى
أمجادها وتعيدها شماء
والمجد لا يعطى شرابا سائغا
إن رمت مجدا , فاسأل الشهداء
يا قادة الشرق المهيض استيقظوا
فالغرب أعلنها لكم شعواء
حربا تمس الدين فى تقديسه
وتبيد أطفالا لكم ونساء
وتزعمتها انجلترا وهى التى
عقدت لحرب المسلمين لواء
الأمس مكنت اليهود فأنشأوا
وسط المهازل , دولة عرجاء
وغدت فلسطين الشهيدة موطنا
لهمو , وأصبح أهلها غرباء
واليوم فى مصر العزيزة جردت
جيشا يناجز أمة عزلاء
للشرق داء يرجى برؤه
إلا إذا أخذ الكتاب دواء
والله - جل الله- أخبر أن فى
آياته للمؤمنين شفاء
سر يا سعيد بنور ربك ماضيا
إنى عهدتك كالشهاب مضاء
فلقد نشأت على مبادىء دعوة
بنت الرجال العاكلين بناء
صمدوا لأهوال شداد , فانثنت
صفقاته بيعا لها وشراء
رباهم البنا الشهيد فأصبحوا
مثلا وأضحى كلهم بناء

كلمة وفاء

ولا أستطيع أن أودع القلم إلا بعد أن اسجل كلمة وفاء لأخى وأستاذى الذى أدين له – بعد الله – بهدايتى ولزوم الصراط المستقيم .

كان الدكتور سعيد رمضان من ألمع شباب الإخوان منذ كان طالبا بالحقوق . وكان خطيبا لا يشق له غبار , يجيد إلى جانب العربية اللغتين الانجليزية والفرنسية كتابة وخطابة , تربى فى حجر الامام فورث منه الكثير , وكان الإخوان يدعونه المرشد الصغير . أبى الإشتغال بالمحاماة كمهنة ولوكان قد فعل لكان له حديث ذائع الصيت ومجد شامخ ولكنه أقام من نفسه محاميا عن قضية الإسلام وحدها , وشارك فى الدفاع عن شباب الإخوان فى قضية سيارة الجيب الشهيرة وغيرها , وأبللا فى ذلك بلاء حسنا و وكان سببا فى انضمام الكثير من الصفوة المثقفة إلى صف الدعوة ومن بينهم المستشار أحمد كامل ثابت بك رئيس محكمة الجنايات التى حكمت فى قضية سيارة الجيب المشهورة و وفى مرافعته ابكى جمهور الحاضرين ومنهم هيئة المحكمة , وراح المستشار محمود عبد اللطيف عضو الهيئة يوارى دموعه بنظارته الشمسية مما اضطر رئيس المحكمة إلى رفع الجلسة للإستراحة .

وفى عام 1954 حين ساءت علاقة الإخوان بالحكومة بينما كان هو وأخواه الأستاذان عبد الحكيم عابدين وسعد الدين الوليلي – رحمهما الله – فى مهمة دعوية فى سورية صدر قراربإسقاط الجنسية المصرية عنهم وظلوا مطاردين إلى ما بعد وفاة عبد الناصر .. ولكن سعيد رحل من سورية إلى الأردن , ثم إلى لبنان و ثم إلى السعودية ,وكلها ضاقت به , ففر إلى جنيف بسويسرا ليأمن على نفسه من ملاحقات النظام بالنسبة لكثير ممن فروا من ظلمه , ورغم هذه الملاحقات فقد كان دءوبا فى العمل للدعوة , واستمر فى إصدار مجلة المسلمون التى أنشأها سنة 1951 من سوريا مستعيرا اسم د. مصطفى السباعي مراقب الإخوان هناك .

وفى جنيف أنشأ المركز الإسلامى فكان أول مركز يقام فى أوروبا , وباشر من خلاله الدعوة إلى الله , واهتدى على يديه خلق كثير .

وخلال ذلك حصل على درجة الدكتوراة فى الشريعة الإسلامية من جامعة بولونيا بألمانيا الغربية باللغة الإنجليزية وترجمهما ابنه الأكبر د. أيمن إلى اللغة الفرنسية ويعتزم ترجمتها قريبا إلى اللغة العربية ليعم بها النفع وتابع إصدار المجلة ذاتها , ولكن مكرت به وبها أيد أثيمة فتوقفت عن الصدور .. وظل رغم ذلك يعمل لدعوته دون كلل أو ملل رغم صدور حكم بالإعدام عليه حتى اشتدت به العلة وأقعده المرض وطال إلى أن اختاره الله لجواره فى جنيف غريبا طريدا وذلك فى شهر أغسطس 1995 , ولم تطأ قدمه أرض مصر منذ أن غادرها عام 1954 ولكنه عاد لا سيرا على قدميه بل محمولا فى نعش متواضع ليدفن إلى جوار إمامه ووالد زوجته الشهيد حسن البنا بناء على وصيته , وخلف من ورائه ذكرا حسنا وقلوبا طالما استمعت إليه واستمتعت بعطائه .

ولم ينس جيل المثقفين فى غمرة الأحداث المتدافعة , وفى غفلة من دنيا الناس سعيد رمضان , رغم السنين الطويلة التى قضاها غريبا شريدا , لأنه دافع عن الإسلام بقلمه ولسانه وبأكثر من لغة , لم ينسوا ما أغدق عليهم من عطاء وافر و وعلم غزيز , فرثاه أحبابه مريدوه فى كل أقطار الدنيا وفاء بحقه واعترافا بفضله .

ونختار من هذه المرثيات هذه اللوحة المبدعة التى سطرها بقلمه الرشيق الكاتب الإسلامى الأستاذ أحمد بهجت فى عموده الثابت بجريدة الأهرام فى 6 أغسطس 1995 غثر علمه بالفاجعة بعنوان " رجل مضى .

نوردها هنا ليعرف الجيل الحاضر بعض آثار الجيل السالف فيحفزه ذلك إلى مواصلة السير فى طريق الدعوة والتضحية فى سبيلها بالنفس والمال وهجرة الأوطان شأن الجيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من أمثال الراحل الكريم , وهم الحمد لله كثر تزخر بهم كل أقطار الدنيا مما يبشر بأن المستقبل لهذا الدين , وأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتى امر الله وهم ظاهرون .

كتب الأستاذ أحمد بهجت بعنوان " رجل مضى " يقول :

كان يؤمن أن الدعوةو الإسلامية تشق طريقها فى عصر تقدم فيه العلم المادى , وتغيرت فيه أساليب الكلام والكتابة , وتطورت طرائق محاربة الإسلام إلى وسائل أشد فتكا , وسائل تتخذ ثوب العلم , وتستغل فى شبابنا المثقف جهله بالإسلام , ومركب النقص فيه إزاء ما شاهده من ضخامة الحضارة المادية لتثير فى رءوسه الشك وتقطعه عمليا عن الإسلام , ولا أحد ينكر أنها نجحت فى ذلك إلى حد بعيد .

ونحن مسئولون أن نواجه هذه الحرب بأسلحتها , وأن نرد على دعوى العلم بالعلم , وأن نستغل أسلوب العصر فى مخاطبة أهله , وأن نقدم للمشكلات المستحدثة حلولها التى تحقق بها الشريعة مصالح الناس , وهذه مسئولية هائلة سيحاسب اله عنها كل القادرين على الاضطلاع بها , سواء كانوا ممن علموا شئون الدين وأغفلوا شئون الدنيا , أو كانوا ممن علموا شئون الدنيا ولم يبالوا بما يطالب به الدين . كلا الفريقين مسئول لأن عقله أمانة الله لديه , ولأن الدين والدنيا فى الإسلام وحدة يحكمها أمر الله " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا "ههذ كلمات داعية إلى الله هو الأستاذ سعيد رمضان , وهو داعية انتقل إلى رحاب الله بعد صراع مع المرض فى جنيف منذ يومين .

سمعت الخبر وتذكرت أيان الشباب , حين كنا طلبة بالثانوى أو طلبة بالجامعة .

كان سعيد رمضان رحمه الله تعالى نموذجا للداعية القادر على الوصول إلى قلوب مستمعيه بوداعته وهدوء صوته ويسر عبارته وجلاء أفكاره , عندما كان يخطب الجمعة فى مسجد الروضة , وهو مسجد بسيط فرشت أرضه بالحصير وصنعت قوائمه من جذوع النخل .

وكانت الصلاة خلفه متعة تشف فيها الروح وتسمو , ويرق فيها القلب ويصفو , وتدمع فيها العين وتغسا النفس بالبكاء .. وكنا نخرج من الصلاة وكأننا نولد من جديد .

وفى مجلة المسلمون التى أنشأها وكانت تصدر كل شهر , كان سعيد رمضان يستكتب فيها أفضل العلماء والمفكرين وأصحاب القلوب المستنيرة , وكان الإسلام الذلاى يدعونا إليه مشروعا حضاريا راقيا يسعى إلى تغيير الحياة بالفكر الواعى والعلم النافع.

ولقد مضى الرجل يجاهد فى سبيل الله , ويهدى الناس إلى منابع الفطرة والإيمان والتقدم , ويصد السهاد عن الإسلام حتى وافاه الأجل المحتوم وهو فى الغربة .

رحم الله سعيد رمضان وجزاه عن جهاده خير الجزاء "