ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
لم تعد النسخة القابلة للطباعة مدعومة وقد تحتوي على أخطاء في العرض. يرجى تحديث علامات متصفحك المرجعية واستخدام وظيفة الطباعة الافتراضية في متصفحك بدلا منها.
ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة - دقهلية

بقلم: د. جابر قميحة

الإهداء

إلى بنت الإسلام والمنزلة، الشهيدة (الدكتورة/ سحر الفراش).. وإلى ابنتها الشهيدة (منة الله).

وإلى الصابريْنِ المحتسبَيْنِ: رب الأسرة (الأستاذ/ منصور أبو الغيط)، وابنه (محمد).

أهدي هذه الكلمات...

مقدمة المؤلف

ليست هذه الكلمات تاريخا، ولا مذكرات، ولا ذكريات، ولكنها قطوف من كل ذلك بقدر ما تسعف به الذاكرة تلقائيًا، وقد يعوزها التسلسل التاريخي، ولكن لا يعوزها الصدق والبعد عن الإسراف، والشطط والمغالاة...

الإنسان مجموعة من " الأعمال والمواقف، ورجل الدعوة - في إيجاز شديد - "هو ذلك الرجل الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله".

وأعني برجل الدعوة وريث النبي في حمل رسالته، والاضطلاع بها، ونشرها على كل المستويات بما تحمل من مبادئ وقيم تنفع الإنسان في دنياه وأخراه. وميراث النبوة ليس مالاً، ولكنه علم وقيم.

فالماضي الحي هو الركيزة والمنطلق، يعيشه المسلم، وخصوصًا الداعية " في حاضره بقيمه: العقدية، والخلقية، والإنسانية، وينطلق منه لصنع مستقبل حي مشرق وضيء.

وفي كل أولئك، على المسلم أن يفيد وينتفع بكل جديد من معطيات الآخرين، حتى لو كانوا من غير المسلمين، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها.

ومعروف أن النبي أخذ فكرة "حفر الخنادق" للتحصن من الفرس عن طريق سلمان الفارسي، وعنهم أخذ عمر بن الخطاب t نظام الدواوين.

ويهب العلمانيون يتهمون الدعاة الرساليين بالتخلف والانغلاق، ويدعون أن الحياة المثلى في الانسلاخ من قيم الماضي، والانفتاح لمعطيات الغرب. إن مثل هذا العلماني الإنكاري – وقد لقبته بأمير العميان – قلت فيه:

يـا أمير العميان حسبك زورًا

قـد تـماديت في هوى التزوير

فـلـتـقل ما تشاء فالحق أبقى

لست في العير أنت أو في النفير

فـلـقد عشتَ منْكِرًا كلَّ حقٍّ

وجـهـولاً مـتوجًا... بالغرور

غـيـر أنـي أقول قولة صدق

لا تـبـالـي بـسلطة أو أمير

تـعـست أمة تراخت فصارت

مـركـبًـا هيِّنا لغِرٍّ... ضرير

يـدعي أنه البشير "بطب" قادر

نـاجـح، جـديـد، مـثـيـر

فـإذا طـبـهـ خداع وزور

يـجعل السهل ألفَ ألفِ عسير

يـنكر الأصل والجذور ويُبْقِي

فـي حِـماهُ الملعون كل عقور

وإذا أنـكـر الجذورَ نباتٌ مات

فـي لـفْـحَـةِ اللَّظى والهجير

ومن معايشتي لدعوة الإخوان في المنزلة دقهلية - مسقط رأسي - ما يزيد على ستين عامًا، تعلمت الكثير والكثير... تجارب، وعلومًا ومعارف، وتأثرت بتوجيهات أساتذتنا الأجلاء في هذا الحقل العامر النظيف.

وقلت في نفسي: إن عليَّ واجبًا يتلخص في تقديم تجاربي ورؤاي – في منظقة المنزلة – للجيل الجديد من شباب الإخوان. وأنا المؤمن إيمانًا وثيقًا بأن الداعية هو ذلك الذي يعيش بماضيه في حاضره لمستقبله.

وهأنذا أقدم صفحات هذه الحياه من جهود الإخوان وجهادهم في منطقة المنزلة دقهلية، مع ملاحظة أن أغلب ما كتبت اعتمدت فيه على الذاكرة، أو ما يسميه بعضهم "الاجترار الذهني"، آملاً في أن يكون ما كتبته فيه النفع لمن يقرأ وخصوصًا الشباب.

والله ولي التوفيق...

الولادة والنشأة

الأدبي والعلمي

من أربعة وسبعين عامًا ولدت في مدينة المنزلة بأقصى شمال دلتا النيل. وفي مجال التعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن .. ثم تعلم بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى "المرحلة الإلزامية أو الأولية". ثم المرحلة الابتدائية (أربع سنوات), ثم المرحلة الثانوية (خمس سنوات) منها أربع للثقافة العامة، أما السنة الخامسة فهي للتخصص الأدبي أو العلمي.

التحقت بالمرحلة الابتدائية في قرابة العاشرة من عمري، في مدينة المنزلة. وفي مجال التعليم كان هناك الكتَّاب لتحفيظ القرآن.. ثم تعلمت بعض معالم القراءة والكتابة فيما يسمى "المرحلة الإلزامية أو الأولية". ثم المرحلة الابتدائية ( أربع سنوات)، ثم المرحلة الثانوية (خمس سنوات)، منها أربع للثقافة العامة. أما السنة الخامسة فهي للتخصص. وكان بالمدرسة عدد طيب من الأساتذة من الإخوان المسلمين.. منهم عباس عاشور: أستاذ اللغة العربية، وإبراهيم العزبي، أستاذ اللغة الإنجليزية، والمهدي قورة، أستاذ التربية الفنية (الرسم والأشغال)، وكانت بوادر القضية الفلسطينية تلوح في الآفاق المصرية، وذلك في منتصف الأربعينيات، ويتولى الإخوان المسلمون الدعاية للقضية، وعملية الشحن المعنوي. وقد قاد الإخوان مظاهرة في القاهرة بلغت مليونين من المصريين سنة 1947م وخطب فيها الإمام الشهيد قائلا: "إن كان ينقصنا السلاح، فسننتزعه من أعدائنا، ونلقي بهم في قاع البحار".

وقد استطاع الأستاذ إبراهيم العزبي - أستاذ اللغة الإنجليزية - أن يشدنى إلى الإخوان لأكون شبلاً من أشبالهم، مؤمنًا إيمانًا صادقًا بفكرهم، وذلك لما وجدت فيه من أبوة حانية وحسن معاملة، وتشجيع في المجال العلمي، وسنعرف أن شخصيات ومواقف أخرى اشتركت في العوامل التي شدتني للدعوة، سنعرفها فيما بعد.

كانت فلسطين بطوابعها الدينية، وأصالتها التاريخية تهيمن على مشاعرنا من الصغر، وثمة عدد من المواقف مرت بي، والتقيتها في سني الباكرة، منها أن أول ما نظمت من الشعر كان في فلسطين.. والقصيدة طويلة أتذكر منها أبياتًا مطلعها:

فلسطين أمي وحق اليقين
وحق الشهيد غدًا تسمعين

وقد نشر القصيدة بعد ذلك الأستاذ (علي الغاياتي) - رحمه الله - في صحيفة منبر الشرق. وتأخذني الحماسة وأنا تلميذ في أواخر المرحلة الابتدائية، وأتحدث إلى أستاذنا (عبد الرحمن جبر) - رئيس منطقة الإخوان في المنزلة بمحافظة الدقهلية, وكان الإخوان قد بدءوا في التطوع للجهاد في فلسطين.

قلت له: أريد أن أتطوع لأداء ضريبة الجهاد، وإنقاذ فلسطين، فقال : لكنك صغير السن.. فأنت لا تتعدى الثالثة عشرة من عمرك، قلت: لكني أعلم أن من الأطفال من قاتل في "بدر" مثل: (ابني عفراء).

كان الأستاذ عبد الرحمن يعرف أنني وحيد والدي، فابتسم وقال: إن شاء الله قد نحتاجك مستقبلاً, فنطلب منك التطوع والتقدم للجهاد.

قلت : أرجوك.. فاليوم خير من غد.. اسمحوا لي بالتطوع، ولو جعلتم مهمتي أن أقدم للمجاهدين "الشاي والقهوة".

فقال وهو يبتسم: مستحيل، فعندهم أمر بعدم التدخين وشرب الشاي والقهوة. وبت في ليلتها وأنا في بكاء متواصل، وأذكر أن مدرستنا – وكنا في آخر المرحلة الابتدائية - قامت برحلة إلى معالم القاهرة، ومن ضمن هذه المعالم "المتحف الزراعي" تقدم منا أحد "السعاة" المسؤولين عن قسم من أقسام المتحف، وقدم إلينا نفسه دون أن نطلب منه ذلك: أخوكم عبد السميع قنديل، من إخوان إمبابة وقد تطوعت للجهاد في فلسطين، وإن شاء الله سيكون اسمي في أول قائمة من قوائم الشهداء.. وحقق الله ما تمنى، وقرأت اسمه في أول قائمة من قوائم شهداء الإخوان في فلسطين. إنه حديث ذو شجون، أوردته عفو الخاطر، من قبيل التذكرة حتى يبقى الارتباط النفسي بيننا وبين فلسطين والمسجد الأقصى، أرضًا وتراثًا حيًا لا يموت.

وإنصافًا للحقيقة التاريخية، أعرض على القارئ ما علمته بعد ذلك، وخلاصته أنه اختلف مع شقيقه عبد المنعم اختلافًا شديدًا: كل منهما مصر على التطوع للجهاد في سبيل فلسطين، وأبوهما شيخ كبير. وأمام إصرارهما أجاز الأب تطوعهما.. وجاهدا في الله حق جهاده. واستشهد عبد السميع، وعاد عبد المنعم.. بعد تآمر حكامنا، والقبض على الإخوان المجاهدين، وعاش عبد المنعم بعدها سنوات صاحبًا ومديرًا لمحل "ساعاتي بورسعيد" بميدان الدقي بالجيزة.

وهذه الواقعة - على بساطتها - إنما تدل دلالة صادقة على عمق التمسك بدعوة الإخوان، وصدق الاعتقاد دون توانٍ، أو خلل. ولنبدأ الطريق من أوله بالتعرف - على سبيل الإجمال - على بعض الخطوط التاريخية والواقعية في مدينة المنزلة (مسقط رأسي).

المنزلة أحد مراكز محافظة الدقهلية الإدارية، وتقع في الشمال الشرقي من مصر، وقد سميت من قبل مدينة تنيس وهي كلمة هيروغليفية تعني صناعة الحرير، حيث اشتهرت هذه المدينة قديمًا بصناعة الحرير الطبيعي، أما سبب تسميتها بالمنزلة فتذكر بعض المصادر التاريخية أن ذلك يرجع إلى كتاب عمرو بن العاص الذي رد فيه على رسالة القعقاع بن عمرو التميمي، والذي أخبره فيه أنه نزل في هذه المنطقة بعد أن فتح أحد حصون الرومان، فقال له عمرو: بارك الله في منزلتك يا قعقاع، فسميت بالمنزلة.

والمنزلة عبارة عن بيئة تجمع بين سمات الريف والحضر، وبها بحيرة معروفة ومشهورة هي بحيرة المنزلة. وتتميز بحيرة المنزلة بانتشار مجموعة من الجزر، أهمها: جزيرة ابن سلام، وتضم ضريح الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، حيث يفد إليها أعداد كبيرة من الزائرين، كما تتميز البحيرة بغناها بالثروة السمكية والطيور المهاجرة إليها من مختلف الأنواع، ويتم الآن دراسة استغلالها سياحيًّا. وتحمل مدينة المنزلة كل السمات البشرية والثقافية والعمرانية للمراكز الإدارية التابعة لمحافظات الوجه البحري (دلتا مصر).

المنزلة ومقاومة الاستعمار

وللمنزلة تاريخٌ مجيد في مقاومة كل صنوف الاستعمار

وكان لهذه البلدة شأن وخطر لما امتد في أنحائها من أسباب الثورة، ولظهور جماعة من زعماء الأهالي يحرضون الناس على مقاومة الفرنسيين، وقد برز من بينهم في تقارير القواد الفرنسيين اسم "حسن طوبار" شيخ بلدة المنزلة كزعيم للمحرضين وخصم عنيد لا يستهان به، ومدبر لحركات المقاومة في هذه الجهات. وكان "حسن طوبار" زعيمًا لإقليم المنزلة الذي سبب متاعب كثيرة للفرنسيين.. كتب ريبو يصف سكان هذه الجهات بقوله: "إن مديرية المنصورة التي كانت مسرحًا للاضطرابات، تتصل ببحيرة المنزلة، وهى بحيرة كبيرة تقع بين دمياط وبيلوز القديمة، والجهات المجاورة لهذه البحيرة وكذلك الجزر التي يسكنها قوم أشداء ذوو نخوة، ولهم جلد وصبر، وهم أشد بأسًا وقوة من سائر المصريين".

بدأت الحملة تتحرك على البحر الصغير من المنصورة يوم 16 من سبتمبر 1798م بقيادة الجنرال (داماس ووستنج) اللذين أنقذهما الجنرال دوجا، وقد زودهما بالتعليمات التي يجب اتباعها، وفى هذه التعليمات صورة حيه لحالة البلاد النفسية ومكانة الشيخ "حسن طوبار".

تحرك الجنرال على رأس الجنود الفرنسيين، وساروا بالبحر الصغير على ظهر السفن، فأرسوا ليلاً على مقربة من (منية محلة دمنة)، وشعر أهالي المنية باقتراب الحملة فأخلوا بلدتهم، وكذلك كان الوضع في القباب الكبرى، وقد كلف الجنرال داماس مشايخ بعض القرى المجاورة أن يبلغوا أهالي القريتين أن يعودوا، فإن القوة لن تنالهم بشر إذا دفعوا الضرائب المفروضة عليهم. وهناك افترق القائدان، فرجع الجنرال "وسنتج" إلى المنصورة، ومضى داماس إلى المنزلة لإخضاعها ومعه من الجنود أكثر من ثلاث مئة جندي بأسلحتهم وذخيرتهم، غير أن الجنرال "دوجا" وجد أن هذا العدد من الجند ليس في مقدوره القضاء على مقاومة المنزلة؛ مما دفعه إلى أن يطلب المدد من داماس، وبعد محاولات عدة فاشلة فشل الفرنسيون في اقتحام البلدة العنيدة لتظل المنزلة فيما بعد في ذاكرة قادة الحملة الفرنسية، وقد ذُكرت المنزلة في كثير من مذكراتهم مقترنة باسم حسن طوبار هذا المجاهد العظيم.

أثناء العدوان الإسرائيلي على مصر (سنة 1956م):

بعد العدوان الإسرائيلي على مصر، ومع امتلاكه سلاح جو رفيع المستوى، أصبحت مدن مصر في مهب قذائف العدو، ولاسيما المدن المتاخمة على شاطىء قناة السويس، ومنها محافظات السويس والإسماعيلية وبورسعيد.

لذلك؛ عمل معظم أهل هذه المحافظات وساكنوها على الهروب منها، واللجوء إلى إحدى المدن القريبة نسبيًّا من هذه المحافظات، وأن تكون بعيدة وبمنأى عن قذائف العدو.

وكانت مدينة المنزلة هي أنسب هذه المدن لذلك؛ لما عرف عن أهلها من الكرم وسعة الصدر، وقد استقبل أهل المنزلة اللاجئين، أو كما كان يطلق عليهم حين ذاك (المهاجرون)، وقد عمل أغلب هؤلاء المهاجرين في الأعمال والحرف التى تشتهر بها المنزلة، مثل: الزراعة، وصناعة الأدوات الخشبية والأثاث، والصيد، وذلك سهَّل عليهم انخراطهم في مجتمع المنزلة قبل أن تنتهى الحرب ويعود كل منهم إلى الديار.

المنزلة ودعوة الإخوان

كانت مدينة المنزلة من أسرع المدن استجابة للإمام الشهيد، عند بداية نشوء الدعوة، كما كان لشعبة المنزلة نشاط كبير جدًّا في مقاومة حركة التنصير. وقد كتب الإمام الشهيد عن ذلك في مذكراته مما يطول شرحه لو أردنا تتبعه.

كيف كانت بدايتي مع الإخوان

من الذكريات ما يطويه الزمن، ويسدل عليه ستائر النسيان إلى غير رجعة.

ومن الذكريات ما يطوف بالإنسان في فترات متباعدة من حياته، ولكن في صورة شبحية غائمة، لا تثير في النفس من المشاعر إلا هوامشها الطافية، ومساحاتها السطحية.

ومن الذكريات ما يتغلغل في نفس الإنسان حتى تشربه روحه، وتغدو هذه الذكريات كأنها عضو حي من أعضائه، بل أشدها وأقواها نبضًا وحياة.

أقول هذا بعد مضي ما يزيد على ستين عامًا على واقع عظيم لذيذ.. عشته لساعات، وأنا تلميذ بالمرحلة الابتدائية، وذلك في مدينة "المنزلة" - بلدي ومسقط رأسي – وهى تبعد عن القاهرة بقرابة مئة وخمسين ميلاً.

أنا رأيتهم.. عايشتهم..

كان ذلك في شارع (البحر المردوم) - أوسع شوارع "المنزلة" وأطولها - فبعد صلاة الظهر - في يوم شديد الحرارة - رأيت مسيرة من خمس مئة رجل على الأقل، ما بين شاب في العشرين، وشيخ جاوز الخمسين.. أزياؤهم واحدة: لونها "كاكي"؛ والزي الواحد يتكون من "بنطلون" قصير "شورت"، وجورب طويل، وقميص، وطربوش، ومنديل أخضر كبير يلف على العنق، ويرخى قرابة نصفه على منطقة التقاء العنق بالظهر على شكل مثلث، ويتدلى طرفاه على الصدر محبوسين بحابس من الجلد.

عرفت بعد ذلك أن هذا الزي يسمى "زي الجوالة"، وأن هؤلاء جميعًا - من شباب وكهول وشيوخ - اسمهم "جوالة الإخوان المسلمين"، وأنهم جميعًا من أهل "المنزلة" والقرى التي تحيط بها، وقد جمعت هذه المسيرة الموحدة الزي فلاحين وعمالاً وأطباء ومدرسين ووعاظًا وتجارًا.

ياه!! أنا لم أشهد مثل هذه المسيرة من قبل، لا في الواقع، ولا في الخيال والأحلام.. صدقوني..

رأيتهم يسيرون على دقات طبول منتظمة، تتخللها أصوات قوية نفاذة من "النفير" أو "البروجي"، وكان النافخون في هذه "الآلة النحاسية" لا يقلون عن أربعين جوالاً موزعين على ثلاث مجموعات: في المقدمة والوسط والمؤخرة، ومن عجب أن النافخين كانوا ينفخون كل مرة قرابة خمس دقائق دون نشاز، ودون أن يسبق نافخ زميله، أو يتأخر عنه للحظة واحدة على تباعد أماكنهم.

ثم يصدر الأمر من قائد المسيرة الأستاذ (محمد قاسم صقر) - رحمه الله - بالتوقف ليهتف كل من في المسيرة وراء حامل المصحف الكبير: "الله أكبر ولله الحمد"، "الله غايتنا، والقرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".

وفي نهاية الشارع الطويل، تطول وقفة المسيرة بأمر القائد لعشر دقائق، ليكون بعد الهتاف السابق نشيد ما زلت أذكر مطلعه وكلماته:

هو الحق يحشد أجنادَهُ
ويعتَدُّ للموقفِ الفاصلِ

فصفُّوا الكتائبَ آسادَهُ

ودكوا به دولةَ الباطلِ

سبحان الله! ما شاء الله! من علم هؤلاء - الذين أراهم لأول مرة - كل هذه الآداب، الطاعة، والنظام، والإنشاد، والانضباط، وكلهم على قدم المساواة، استجابة، وتنفيذًا مع اختلاف ثقافاتهم، وأنماطهم الفكرية، ومراكزهم الاجتماعية، بل إن كثيرين منهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة؟

وأراني أربط ربطًا قويًا بين هذه الخاطرة، وحقيقة تاريخية قرأتها بعد ذلك بسنوات، وخلاصتها أن "رستم" - قائد جيوش الفرس - كان إذا سمع تكبير المسلمين للصلاة في خط المواجهة الفارسي بكى، واستبد به الحزن، وصرخ: "أكل عمر بن الخطاب كبدي"، أي: قتلني عمر، فيسأله من بحضرته: كيف أكل كبدك وأنت حي بيننا؟ فيجيب: "لأنه يعلم هؤلاء الأعراب الآداب".

وأعود لخاطرتي، وأقول: بمثل هذه "الآداب" استطاع أصحاب هذه "المسيرة الإسلامية" أن يأكلوا أكباد اليهود في فلسطين أواخر الأربعينيات، ويأكلوا أكباد الإنجليز في خط قناة السويس أوائل الخمسينيات.

وأعود إلى "المسيرة الإخوانية" في مدينتي "المنزلة" وأراني - أنا ابن العاشرة - أكاد أطير من الفرح.. إنهم يسيرون، وخطواتي الضيقة لا تتمكن من مسايرة خطواتهم الواسعة إلا بشيء من الجري بين الفينة والفينة، وكأنني أخشى أن يتخطوا مجال رؤيتي، فيقفز قلبي من بين جنبي، ويواصل المسيرة المنتظمة معهم، ويحثني أن أغَذِّ السير، حتى أدركهم، ويسكن صدري من جديد.. ومع فرحي الغامر، كان شيء من الحزن يخامرني؛ مخافة أن ينتهي العرض الحلو الجليل.

ياه!! ليته يستمر ساعات.. بل أيامًا متواصلة.. إن تيار الشعور المتدفق في نفسي لم تستطع ولن تستطيع اللغة أن تعبر عنه بكماله، إنها حقيقة أؤكدها بصدق وأمانة، وأستحضرها، وأنا أقرأ فيما بعد قول أبي تمام في حديثه عن فتح عمورية على يد المعتصم:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به

نظم من الشعر أو نثر من الخُطَبِ

فمن المواقف والمشاعر ما يكون له من الأبعاد والدلالات والإشعاعات والظلال ما تعجز اللغة - أية لغة - عن الإحاطة بكل أقطاره.

ولكن ما شأن هذا "العرض" أو هذه المسيرة؟ ولماذا خرجت ظهر هذا اليوم بالذات؟

وأسأل "عم مسعد" الخضراتي صديق والدي، فيأتيني جوابه:

- "دول رجالة الشيخ حسن البنا؛ لأنه سيحضر الليلة، ويخطب في الصوان (السرادق) الكبير.. راجل فصيح قوي.. سمعته مرة في بورسعيد و.. و..".

- حسن البنا! حسن البنا! إنه اسم لم أسمع به من قبل.

ورأيت المرشد الجليل

وبعد صلاة العشاء كنت أنا ووالدي نأخذ مكانينا في السرادق الكبير، أما "جوالة" الظهيرة، فقد انتشروا داخل السرادق، وخارجه لإقرار النظام. وبعد نصف ساعة ارتج المكان بالهتاف: "الله أكبر ولله الحمد". الله أكبر ولله الحمد. لقد حضر المرشد. رأيته وعلى فمه ابتسامة عريضة، وهو يشق طريقه إلى المنصة بين صفين من الجوالة على هيئة "كردون" وهم متشابكو الأيدي، واستطاعوا بصعوبة بالغة أن يمنعوا - بظهورهم - تدفق الجمهور المتدافع من الجانبين لمصافحة المرشد العظيم.

وعلى مدى ثلاث ساعات، كان الناس يستمعون إليه كأن على رءوسهم الطير، لقد سمعته يقدم لونًا جديدًا من الكلام.. كلامًا يختلف تمامًا عما نسمعه في خطب الجمعة، واحتفالات المولد النبوي، ومن المشهور عن بلدي (المنزلة) أنها بلد الصيد والبِحارة (نقل الركاب والبضائع بالسفن الشراعية في بحيرة المنزلة) انطلق حسن البنا في حديثه فشبه الأمة بسفينة: جسمها الشعْب وشراعها الإيمان ودفتها الحكومة، وقد تعوزني الدقة في هذا التجزيء التشبيهي.. ولكن الذي أذكره - وقد مضى أكثر من ستين عامًا على ما سمعت - أن السفينة كانت مشبهًا به، وأنه - رحمه الله - دخل نفوس الناس من الدقائق الأولى، وهو يشرح مقولته مكثرًا من الاستشهاد بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، ووقائع من السيرة النبوية وحياة السلف الصالح.

كنت - على صغر سني - أفهم، بل أعيش، كل كلمة يقولها الرجل العظيم، ولكن الأهم من ذلك، هو إحساسي القوي - وأنا مأخوذ بما يقول - بأنه يوجه نظراته وكلماته إليَّ دون غيري. وأخفيت هذا الخاطر عن والدي إلى أن سمعته يقول لأحد جيراننا في اليوم التالي: "لقد شدني الشيخ - الله يكرمه - كنت أشعر أنه يخصني بنظراته وبهذا الكلام الجميل ...". وسمعت الكلام نفسه يقوله الرجل لأبي: بل كان ينظر إلي أنا.. لا لأحد آخر.

فآمنت بأن الرجل قد بلغ مقامًا من "البلاغة الإيمانية" لا يرقى إلى مثله إلا أقل الأقلين على مدار التاريخ الإنساني كله.

والبلاغة اللغوية تتمثل في "الأسلوب الراقي، فيقال: "رجل بليغ" أي: حقق مقتضيات البلاغة، وقد عرفها بعضهم بأنها "صياغة المعاني الجليلة بعبارات صحيحة، فصيحة الألفاظ، تمتاز بقوة التأثير في النفس، مراعية حال المخاطبين والمناسبة التي قيلت فيها". وقد تستعمل "الفصاحة" كمرادف لها. وإن عرفها بعضهم "بأن تكون كل لفظة في الكلام مبينة المعنى، مفهومة، عذبة، سلسة، متماشية مع القواعد الصرفية.

وهناك آليات لتحقيق هذه البلاغة، منها الصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية.. إلخ. وهذه الآليات حسية، ومعاييرها محددة معروفة.

أما البلاغة الإيمانية، فصفة نفسية روحية تعني القدرة الفائقة للمتكلم على التأثير.

ومن الصعب جدًّا تعريفها تعريفًا محددًا. وإن أمكن التعرف إليها وعليها بصورة مقاربة للواقع: فهي صفة نفسية روحية تعني القدرة الفائقة للمتكلم على التأثير فى المستمعين. وتوجيه هذا التأثير الوجهة التي يحرص عليها المتكلم، كأن بينه وبين السامعين "وَصْلات" لاسلكية غير مرئية. وهذه البلاغة تحقق أهدافها تلقائيًا في صورة بريئة من الافتعال والتعسف.


وقالـت مشاعــــــري

إنها الذكرى التي لا تنسى، وكانت - وما زالت - مغروسة في القلب، دافقة في الدم.. ذكرى أول مرة، وآخر مرة.. رأيت فيها الإمام العظيم حسن البنا. وكان من بداياتي الشعرية، أو المتشاعرة، ما عكسته هذه الذكرى من كلمات سجلتها بعد استشهاده بعامين، وأنا طالب في المرحلة الثانوية، بعد أن استمعت في مدينة المنصورة إلى أحد تلاميذه يخطب، وفي نبراته وطريقته بعض من سمات الإمام الشهيد.. وأنقل - دون تعديل - هذه الكلمات التي سجلتها في أوراقي سنة 1951م:

رأيتُــهُ..

أمامَهُ من القلوبِ ألفُ ألفٍ تَسمعُ

رأيتهُ كأنما يُلَحِّن الضياءَ والشفقْ

ويرسلُ النشيدَ من نياطِ قلبه الكبيرْ

ترتيلةً من الذهبْ

قل يا إمامُ قل

وحينما سمعته يقولْ

"الله غاية الغايات يا صحاب"

رأيتُ فجر النور في الأفقْ

والفَ ألفِ محرابٍ يُـسَـبِّـحُ

وكلُّ عين في الضياء تَـسْـبَـحُ

والأرضُ - يا لَلأرضِ - أصبحت سماءْ

والليلُ فجرًا مائجًا بأقدسِ الأسماءْ

وبحرُ سر الله.. لا يُـحَدْ

الحيُّ، والقيومُ، والجبارُ

والسميعُ، والعليمُ، والغفورُ، والأحدْ

قل يا إمامَنا حسنْ
فكل ما تقوله حسنْ

"زعيمنا محمدٌ.. له الولاءْ

وغيرُه في عصرنا ادعاءْ

وحبُّـه فريضة مؤكدةْ

صلى عليه الله والملائكةْ".

وعندها.. رأيتُـه.. محمدًا

ورايةُ "العُـقابِ" تَـمْـخُرُ

وتحتها جنودُه - إذ يزحفونَ

نحو بدرْ

وكلهم يفديه بالعيون والقلوب والولدْ

وكلهم أسدْ

يقينه بالله لا يحده أمدْ

رأيتُهم في زحفِـهم وكـرِّهم

والكافرين في انكسارِهم وفَـرِّهم

وعندها رأيتُها "العُقابَ"

في ازدهائها العظيمِ تبتسمْ

"قد جاء نصرُ الله فاسجدوا

وهللوا.. وكبروه.. واحمدوا".

قل يا إمامَنا حسن

فكل ما تقوله حسنْ

وإنك البـنَّاءُ في السراء والمحنْ

"الموت في سبيل اللهِ

أسمى الأمنياتِ والمننْ

قد خاب قوم طلقوا الجهادَ والجِلادَ

واستجابوا للوَهَـنْ".

ونلتَ يا إمامَنا العظيمَ ما اشتهيتْ

إلى السماءِ سيدي قد ارتقيتْ

إلى جوارِ اللهِ سيدي.. علوتْ

سائـح يطلـب الحقيقـــة

إنها كلمات قد يعوزها - في ميزان النظرة الحاضرة والتقييم الآنــي:

غير قليل من الفن، ولكن يكفيني أنني أطلقتها بعفوية ومصداقية، ووفاء وحب وتقدير لرجل قال عنه - أحد ألد أعدائه: إنه لو عاش لتغيــر وجــه المنطقــة، وربما وجــه التاريــخ. فهو لم يكن رجلاً ممن تصنعه الأحداث، ولكنه رجلً ممن يصنعون الأحداث، ويربون تلاميذهم على الإيمان، والصبر، والثبات، والقدرة على المواجهة، والإيثار.

وعاش الإمام - كما صور نفسه بأمانة دون إسراف حين سأله صحفي: من أنت؟

"أنا سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة، والحرية، والاستقرار، والحياة الطبيعية في ظل الإسلام الحنيف. أنا متجرد أدرك سر وجوده فنادى ) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ( (الأنعام: 162- 163).

وانتصــرت (الله أكبـر ولله الحمــد)

لذلك كان أعداؤه صادقين.. صادقين مع أنفسهم ومع شياطينهم، حين رأوا أن الميدان يجب أن يخلو من هذا الرجل؛ حتى تستمر مسيرة الضلال والصهيونية والصليبية والإباحية.

وسقط الرجل - آسف - بل علا شهيدًا في سبيل الله، ولكن مسيرة الحق - التي رأيت مثلها في طفولتي - صارت مسيرات تظللها راية "إياك نعبد وإياك نستعين" مسيرة ومسيرات انطلقت من "هنا" إلى "هناك" لتحقق لا فتحًا واحدًا، ولكن فتوحات لا تحصى.. ووضع جنود حسن البنا أقدامهم بثبات وإيمان في كل قارات المعمورة ينشرون "الرسالة العظمى" التي انفتحت لها ملايين القلوب، وانتقلت "الله أكبر ولله الحمد" تهز أقطار أوروبا وأمريكا، وصدق الله وعده، فهو القائل: )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ( (النور: 55).

عوامــل الجــذب والتحبيــب

ومما حببني في دعوة الإخوان وشعبتها في المنزلة غير رؤيتي للإمام الشهيد، وامتلاء نفسي بكلمات الأستاذ (إبراهيم العزبي) - أستاذ اللغة الإنجليزية بالمدرسة الابتدائية - وهو من قرية "ميت سلسيل" مركز المنزلة. كان نحيل الجسم، متوقد الذكاء، وكان يدرس لنا اللغة الإنجلزيية ونحن في الصف الثالث الابتدائي، (إذ كانت الإنجليزية تدرس لنا ابتداءً من الصف الأول) كان يدرس لنا الإنجليزية بطريقة تربوية محببة، وكنت موضع تقديره، فلم يكن يخاطبني ويناديني إلا بـ "الأخ جابر"، وفي الفسح كنت أقصده في مكتبه، فيزودني بكلمات طيبات من مبادئ الدعوة، وخلق الإخوان. كان نحيفًا، ولكنك إذا تحدثت إليه شعرت بأنك تتحدث إلى واحد من أقوى الأقوياء، وأبطل الأبطال.

ومن أساتذتنا في المرحلة الابتدائية الأساتذة: رأفت الخريبي، وشمس الدين المحلاوي، والمهدي عبد الرازق قورة، وطه الغوابي.

وفي المدرسة كنت واحدًا في فريق تنس الطاولة "البنج بونج"، وأذكر ممن كان معي في الفريق التلاميذ: إبراهيم محمد شلباية، ونسيم السعيد الشبيني، الشهير بالأسمر، ورأفت زكي البحيري (من "أبو المطامير" وأبوه كان طبيب مستشفى المنزلة الأميري). ويشرف على الفريق مدرس من الإخوان هو الأستاذ المهدي قورة.

كنت أحب اللعبة حبًا شديدًا، ومما شدني إلى شعبة الإخوان وجــود منضــدة "تنس طاولة"، فكنت أزاول اللعبة في الشعبة بعد انتهاء الدراسة، وغالبًا ما كانت مبارياتي مع العامل الأخ محمد حسن عساسة.

ومما شدني كذلك إلى شعبة الإخوان، مكتبة كانت تلبي هوايتي في القراءة. وكنت – من صغري – بحمد لله "مريضًا" بحب القراءة. وقد شجع فيَّ هذه الصفة الأستاذ (عبد الرحمن جبر) صاحب المدرسة الخديوية الابتدائية ومديرها، ورئيس منطقة الإخوان بالمنزلة، وكان يمدني – هو وابنه محمد - بكتب مكتبة مدرسته على سبيل الإعارة.

وكان للأخ عبد الحميد الزهرة، دور كبير في حبي للدعوة وشعبة المنزلة، كان شخصية متكاملة خلقًا، وسلوكًا، والتزامًا، وكنت أصحبه في زيارته لشعب القرى التابعة للمنزلة.

يعلّم إخوانها واجبات الأخ الجوال، و"مارشات" الموسيقى التي تنظم مسيرات الجوالة، وقد علمني الأخ عبد الحميد "مارش البحارة" الذي ما زلت أذكره حتى الآن.

ونعتبر - نحن طلاب المرحلة الابتدائية، والمرحلة الثانوية - الجيل الثاني في قسم الطلبة - أما الجيل الأول فيتمثل في طلاب الأزهر والجامعات، وهم بالطبع يكبروننا سنًا، ومنهم الإخوة: أحمد عبد العظيم السودة، وخليل أحمد حال، وشلبي أبو رزق، وتوفيق العبد، وإبراهيم حسن الشبلي، وعبد العزيز أحمد حال، وعبد الحليم الخريبي، وسيد أحمد البواب (الشهير بخليفة).

أما مجلس الإدارة وكبار الإخوان في الشعبة، فإنني أذكر منهم: الأساتذة عبد الرحمن جبر، صاحب المدرسة الخديوية الابتدائية الحرة، وكان رئيس منطقة الإخوان (التي تضم شعبة المنزلة وشعب القرى التابعة لها) كالبصراط، والجمالية، والعزيزة، وميت خضير، والجديدة، والفروسات، ومنهم الشيخ كامل الخريبي "والد أسامة شاعر الإخوان بالمنزلة"، ومحمد قاسم صقر، وتوفيق عبد الرازق قورة (الشهير بحامد)، وحامد سيد أحمد منيسي، وفهمي الخياط، والدكتور يوسف باشة، والطبيب بيطري عبده حمزة فراج، وأحمد سليمان زين الدين، وأغلبهم خطباء ودعاة متميزون، ومنهم تعلمت الخطابة ارتجالاً قبل التحاقي بالمرحلة الثانوية.

ومن أنشطتنا - نحن الطلاب في هذه المرحلة وأوائل المرحلة الثانوية - إجراء مباريات في كرة القدم مع فرق الإخوان، بالقرى والبلاد الأخرى، منها منية النصر، والدراكسة (مركز دكرنس دقهلية). ومن نجومنا في هذه المباريات الحسيني حسن النجار (حارس المرمى)، وأحمد صالح العلمي، وطاهر عباس عنين، ومحمد علي حسان

وفي هذه الرحلات الرياضية - زيادة على الفوائد المباشرة - فوائد دعوية و معنوية، منها توثيق عرى المحبة والأخوة بيننا وبين إخوان البلاد الأخرى.

ومن طرائف هذه الفترة، أننا شكلنا مجموعة أطلق عليها فرقة "فرسان الحمير"، وهي من ثمانية طلاب، كانت تقوم أسبوعيًا بزيارة شعبة من شعب الإخوان في القرى المجاورة؛ للتعارف وتبادل المعرفة والرأي في مبادئ الدعوة، وجهود الإخوان، والجديد من الأحداث، وتوثيق رابطة الأخوة بينا.

واستخدام الحمير للوصول إلى هذه الشعب كان هو الحل الوحيد؛ لأن الطرق الموصلة إليها أغلبها لا يتسع للسيارات. كما أن "الحمير" متوافرة "لفرسانها"؛ لأن آباء الفرسان كانوا تجارًا فلكل منهم، لا أقول: حمار واحد، ولكن عدد منها لزوم التجارة وانتقالات التعامل مع القرى المجاورة.

ومن الطرائف، أنني كنت أوثر - من حمير الوالد والأسرة - حمارًا طويل القامة، عريض الظهر، وكان رئيس منطقة الإخوان الأستاذ "عبد الرحمن جبر" يسميه الأتوبيس، والسبب أنه وثلاثة من أعضاء مجلس الإدارة احتاجوا حميرًا، لزيارة بعض الشعب في القرى المجاورة، لتفقد أحوالها، فأعرناهم من حمرنا. وخصصت أستاذنا بحمارنا (العالي)، ولكنه لم يستطع ركوبه إلا بمساعدة من اثنين من الإخوان، فضحك، وقال: "الله.. أنتم مركبني الدور الثاني ليه؟ جرى إيه يا جابر، أنا كنت عايز حمار تقوم تجيب لي أتوبيس!".

وكان يلذ لنا السير على الأقدام طويلاً. ولكننا لا ننسى - ونحن طلاب في المرحلة الثانوية - رحلتنا سيرًا على الأقدام من المنزلة إلى المنصورة (قرابة ثمانين ميلاً). ولم نسترح إلا قرابة نصف ساعة في شعبة الإخوان (بميت عاصم مركز دكرنس)، ثم واصلنا السير إلى شعبة الإخوان بالمنصورة (وكانت تقع في حي ميت حدر)، وكان لقاء طيب في جلسة روحية إيمانية مع الداعية الإسلامي الأستاذ محمد العدوي - رحمه الله - ولنا عودة بتفصيلات في صفحات قادمات، إن شاء الله.

وأختم هذه الحلقة بحديث قصير عن الاستاذ (عباس عاشور) المدرس بالمدرسة الابتدائية، لقد كان عاشقًا للتمثيل تأليفًا، وإخراجًا، وشكل فريقًا للتمثيل بالمدرسة كنت واحدًا من أعضائه، وكذلك نسيم أحمد حال (الدكتور نسيم حاليًا) والسيد زكي الموجي (رحمه الله)، وحظيت المسرحية واسمها: ( الصياد المحسود) بشهرة كبيرة جدًّا على مستوى المنزلة والقرى المجاورة لها

وفي العطلة الصيفية، أقامت شعبة العصافرة (مركز المنزلة) حفلاً تمثيليًّا كبيرًا، كانت ضمن فقراته الأساسية مسرحية "الصياد المحسود". وقد أديناها أداءً فائقًا حاز إعجاب الحاضرين، حتى إن الأخ الفلاح الرفاعي حرات أطلق طلقة من بندقية الخرطوش المرخصة، وأخذ يهتف من فرط إعجابه وحماسته: الله أكبر ولله الحمد.. الله غايتنا.. والرسول زعيمنا.. والقرآن دستورنا.. إلخ.

لقد كانت سنوات المرحلة الابتدائية الأربع هي فترة الجذب، والتحبيب، والتأسيس، والإعداد، فحلت دعوة الإخوان، وشعبة الإخوان في السويداء من قلبي، وبلغ من حبي للإخوان أنني طبعت بطاقات شخصية "كروت" كتب فيها: جابر المتولي قميحة طالب ومن الإخوان المسلمين، وأفدت كثيرًا من المعارف العامة، والمعارف الإسلامية، وتزودت بطاقة نفسية طيبة جدًّا، وجرأة في الخطابة ومواجهة الجماهير.

ومن ثم، جـاء انطلاقي بعد ذلك في مجالات الدعوة وغيرها امتدادًا طبيعيًا لهذه المرحلة، جاء بحمد الله على نحو أوفى، داعية، وكاتبًا، وشاعرًا.

من جهود إخوان المنزلة في الأمر بالمعروف والتصدي للمنكر

يقول أبو حامد الغزالي: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد".

وقد أخذ إخوان المنزلة أنفسهم بأداء هذه المهمة بقدر ما يستطيعون، ومن مظاهر ذلك:

التصدي لحركة التنصير

التي أرادت أن تتخذ من المنزلة وكرًا، مستغلة فقر الطبقة الدنيا معينًا ونصيرًا، وقد كسر إخوان المنزلة شوكة هذه الحركة، بل قصموها وقضوا عليها.

وقد كتب الإمام الشهيد عن هذه الجهود في مذكرات الدعوة والداعية.

وأنقل فيما يأتي ما سجله الإمام الشهيد عن هذا الموضوع في "مذكرات الدعوة والداعية"، (ص 196 – 204) وقد بدأت الأحداث سنة 1350ه.

كتب الإمام الشهيد:

لقد أبلى الإخوان المسلمون أحسن البلاء في حركة التبشير التي نجم قرنها في هذا العهد، وفيما يلي ما كتبته جماعة الإخوان بهذا الخصوص:

لا ندري أمن حسن الحظ، أم من سوئه أن كان بجوار مراكز جمعيات الإخوان المسلمين في القطر المصري مراكز للتبشير؟! ففي المحمودية، وفي المنزلة دقهلية، وفي الإسماعيلية، وفي بورسعيد، وفي أبي صوير، وفي القاهرة - مراكز نشيطة للتبشير، ودوائر نشيطة لجمعية الإخوان المسلمين كذلك، وكان طبيعيًا أن يحدث الاحتكاك بين الهيئتين، باعتبار أن إحداهما تدافع عن الإسلام، والثانية تعتدي عليه، إلا أن حضرات القائمين بالشؤون الإدارية في جمعيات الإخوان المسلمين اعتصموا بالحلم، واستمسكوا بالحكمة، وناضلوا بالتي هي أحسن، والتزموا دائمًا موقف المدافع لا المهاجم، واعتمدوا في خطتهم على دعامتين صامدتين، أولاهما: إفهام الشعب ما يستهدف له من الخطر بالاتصال بالإرساليات التبشيرية، وثانيتهما: الوسائل العملية من جنس وسائل المبشرين، وقد نجحت هذه الخطة، والحمد لله، نجاحًا باهرًا، وتمكنت الجمعية من القيام بواجبها، لا نقول: كل الواجب، ولكنه المستطاع وجهد المقل، ونسأل الله المعونة على استيفاء هذا النقص. وإننا بمناسبة الحركة التبشيرية القائمة، ننقل إلى حضرات القراء بعض الحوادث التي صادفتها الجمعية، والخطط التي سلكتها، نرمي بذلك إلى غرضين: أولهما بيان خطة قد تكون ناجحة، فتعمل بها الهيئات التي تريد خدمة الإسلام، وثانيهما تبشير الأمة بمدى ما وصلت إليه الجمعية من نجاح وتوفيق في حركتها السلمية ضد التبشير.

بين المنزلة دقهلية وبورسعيد

تقرير المنزلة عن حادث إنقاذ الجمعية فتاة حاولت مدرسة "السلام" بها تنصيرها، المرفوع إلى مكتب الإرشاد العام، بتاريخ: 18 من شوال 1351ه، أي منذ أربعة شهور:

حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا المرشد العام،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى من معك من الإخوان المسلمين وبعد،

حررت لسيادتكم الخطاب رقم (1) واعدًا بموافاتكم بما يستجد، وهاكم تقريرًا عما حدث خلال هذه المدة، في الرابع والعشرين من رمضان، ورد على فضيلة الأستاذ نائب الدائرة كتاب من (الحسيني أفندى محمد الويشي) أحد الإخوان المنتسبين في هذا التاريخ، والذي انضم إلى الجمعية مساء اليوم التالي، يشرح فيه شروع مدرسة "السلام البروتستانتية" بالمنزلة في تنصير إحدى بنات العائلات الفقيرة، ولولا فضل الله علينا، وعلى تلك العائلة المنكوبة في مرض عائلها، وقلة حيلة زوجه لأي من أنواع الكسب لنفذ غرض جمعية التبشير، بل بؤرة الفساد في الابنة القاصر بأسلوب نهاية في الخسة والدناءة، وهو عطفهم الزائد، وبرهم المستمر للعائلة البائسة متظاهرين في ذلك بنصرة الإنسانية، والإنسانية براء من أعمالهم التي يستفيد منها الشيطان.

بناءً على هذا الخطاب، دعي الإخوان إلى جلسة مستعجلة، فحضر من تمكنَّا من دعوته، واختير نفر قليل، وتشكلت في الحال لجنة يرأسها فضيلة النائب، وتوجهت إلى منزل العائلة، وحاولوا إقناعها فلم يفلحوا لشدة ما أصابهم من تغاضي المسلمين عن حالهم؟ لكن بعد مجهودات غير قليلة بعون الله وتوفيقه، تم الاتفاق مع والدي الفتاة على سحبها من المدرسة، وفعلاً توجه السيد أفندي نديم في يوم 25 رمضان مع والدها، وأفهما رئيسة المدرسة ما هو مطلوب، ورضخت للأمر الواقع الذي لم تعد له العدة. وأنقذت الفتاة، وقمنا بجمع المال لها.

وقد اعتزمنا بعون الله بقرار الجمعية التي تجتمع من يوم ورود الخطاب إلى الآن يوميًا للبحث في محاربة المدرسة، حتى تنزح من البلد غير مأسوف عليها، وضمن ما تقرر فتح مشغل باسم الجمعية لتلك الابنة، حيث إنها حازت شهادة الدراسة الابتدائية، واشتغلت معلمة في أول يناير بالمدرسة التبشيرية نفسها، وإغراء لأبويها أشاعت رئيسة المبشرات أنها قررت جنيهين للفتاة مرتبًا شهريًا يدفع لأهلها، بينما هي داخل المدرسة لا تكلف أبويها شيئًا من نفقات معيشتها، كل ذلك إغراء دنيء وتعمية على أهل الفتاة المسكينة التي لا تعرف ما ينتظرها من خطر تنحدر فيه من سيئ إلى أسوأ بتنشئتها تلك النشأة التي قطعت حبل اتصالها بأهلها بوجودها في تلك المدرسة المشؤومة، حتى أصبحت لا تسمع إلا بأذنهم، ولا ترى إلا بعينهم.

نهجت إدارة المدرسة هذا النهج مع الفتاة وأهلها توطئة لإتمام الجريمة النكراء، فعلم الإخوان بالدور السابق ذكره، وقاموا بما أسلفنا، واستخلصنا الفتاة وأهلها من التهلكة، بإذن الله الرحمن الرحيم، وفتحنا المشغل بعونه تعالى في يوم السبت التاسع من شوال بعد الإعلان عنه تحت اسم "مشغل جمعية الإخوان المسلمين"، فحضر من التلميذات في ذلك اليوم سبعون واحدة، وأخذ العدد في الارتفاع حتى بلغ ما يزيد على المئة تلميذة، بينهن من دخلت مجانًا، ومنهن من تدفع ثلاثة قروش شهريًا، وقليل منهن يدفعن عن الشهر الواحد أربعة قروش أو خمسة. كل ذلك تدعيم للمشغل الذي نحوطه جميعًا بقلوبنا.

وأملنا وطيد في النجاح بقوة الله، وجهاد أستاذنا الجليل الشيخ "مصطفي محمد الحديدي الطير" - نائب الإخوان. وما قمنا بفتح المشغل بهذه السرعة، وفي أول قيام الشعبة المباركة بفضل الله ورضاكم إلا حبًا في إنقاذها وأهلها من الهاوية.

ونزف إليكم الآن بكل الاغتباط أن المعلمات - وبينهن وفيقة - يصلين الخمس في أوقاتها، ويوالي فضيلة نائبنا تلقينهن أصول الدين القويم الحنيف في نهاية كل يوم بعد انتهاء الحصص.

عمر السيد غانم كاتم السر بالمنزلة

الإخوان والتبشير

وقد علمت دائرة المنزلة من الآنسة (أفكار منصور) المنقذة، بوجود فتاة أخرى على وشك التنصير، مهربة من بورسعيد إلى مدرسة السلام بالمنزلة. فأرسلت إلى حضرة نائب الإخوان المسلمين ببورسعيد، وإلى مكتب الإرشاد بالخطاب الآتي بتاريخ 3 من شوال سنة 1351ه:

حضرة الأخ الفاضل نائب جمعية الإخوان ببورسعيد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى من معكم، وكل عام وحضرتكم وجميع الإخوان وآلهم وأحبابهم في يمن وسعادة وبعد،

قامت جمعيات التبشير في القطر المصري في السنين الأخيرة بحركات عنيفة ضد الإسلام، وما دل ذلك على أكثر من اليأس الذى استولى عليها من طول ما أمضت من وقت عظيم، وما بذلت من عناء جسيم، وما حزمت من حمر النعم دون جدوى، حيال ذلك الدين القويم المتين المحفوظ من صاحبه، جلت قدرته، غير أن استقامة المسلمين في بث تعاليم الإسلام وآدابه أطمعت أخيرًا هذه الجمعيات فينا؛ نظرًا لما وصلت إليه حالتنا الأخلاقية، وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.

قامت مدرسة السلام البروتستانتية التبشيرية بالمنزلة بتنصير فتاة. وبفضل الله علينا أنقذناها، وشرعنا في عمل مدرسة ومشغل للبنات تعلمهن الديانة، وما تحتاج إليه الفتاة في منزل زوجها المسلم، وكيف تخرج رجالاً مسلمين وبنات مسلمات، وما ذلك إلا لمناهضة المدرسة، ولكون الفتاة التي أريد تنصيرها من عائلة فقيرة، وليس لها عائل، وبدلاً من أن تكون عالة على الجمعية، فيكون الكسب مضاعفًا للجمعية.

وقد علمنا بوجود فتاة أخرى اسمها (أفكار)، ابنة زوجة "الريس حسين"، بمنشية البلح، بحي العرب، قسم خمسة بهذه المدرسة بالمنزلة، ولم ينقلوها إلى المدرسة إلا لكي يخفوا تنصيرها عن أهلها، وهم في غفلة، والفتاة طائشة، وعليه، نرجوكم القيام بحركة لإخراج هذه الفتاة، وانتشالها من بؤرة الفساد هذه، والله يتولى جزاءكم، وهو نعم المولى ونعم النصير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عمر السيد غانم كاتم السر بالمنزلة

ولم تكتف دائرة المنزلة المباركة بذلك، بل بحثت عن التلميذات البورسعيديات المهربات إلى المنزلة، حتى اهتدت إلى خمس منهن، فكتبت إلى مكتب الإرشاد العام بذلك، ليصلها بدائرة بورسعيد حتى تقوم بواجبها في عملية الإنقاذ. وهذا هو نص الخطاب:

حضرة صاحب الفضيلة، أستاذنا ومرشدنا الكبير:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومن معكم من الإخوان المسلمين وبعد،

فقد سبق ذكر أننا كتبنا للأخ نائب جمعية الإخوان ببورسعيد عن القيام بما يؤدي إلى إنقاذ الفتاة (أفكار منصور) الموجودة بمدرسة جمعية التبشير البروتستانتي (السلام) بالمنزلة، وقد تحرينا عن التلميذات البورسعيديات: أفكار منصور، سنها 13 سنة، أمها متزوجة من الأسطى "حسين علي" بمنشية البلح بقسم ثاني، بحي العرب، وناظلة أحمد الخولي، سنها 14 سنة (كان والدها صيادًا، وهو الآن مريض)، وسيدة عبده الريان، سنها 13سنة (يتيمة بدون عائلة)، وعطيات محمد زقزوق، سنها 7 سنوات، لا تعرف أمها إلا بعلامة وجهها. ذلك بيان بأسماء التلميذات البورسعيديات الموجودات بمدرسة المنزلة، وإنا حيال ذلك نلتمس من فضيلتكم التنبيه على الإخوان ببورسعيد وجميع الجهات التي بها فروع للجمعية المباركة، والتي يوجد بها مدارس كهذه؛ كي يتخذ كل ما في الوسع؛ لإنقاذ الفتيات المسلمات، حيث إن ذلك يجعلنا جميعًا نضع أيدينا على موضع الداء، فينفع الدواء، بإذن الله، وبهذه الوسيلة - إن شاء الله - سيكون القضاء المبرم على هذه المدارس (بؤر الفساد).

وتفضلوا ختامًا بقبول فائق الاحترام، وأشواق جميع من عندنا من الإخوان المسلمين. خصوصًا نائبنا فضيلة الأستاذ "مصطفى محمد الحديدي الطير"، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عمر السيد غانم كاتم السر بالمنزلة

وقد قام المكتب بهذه المهمة، فكتب إلى بورسعيد، وإلى فروع الجمعية، وأوفد فضيلة المرشد العام إلى بورسعد مرات بهذا الخصوص، وقد اهتمت دائرة بورسعيد بهذا الأمر اهتمامًا عظيمًا، واهتم معها كذلك الأهلون الكرام، حتى كان عن هذه الهمة كشف الستار عن الحوادث المريعة التي ذكرتها الجرائد، وتذكرها كل يوم، ويسرنا أن نعلن أن الحكومة قد تسلمت (نظلة الخولي، وعطيات زقزوق) المشار إليهما في خطاب المنزلة، والحقيقة أنهما وغيرهما كانا في مخبأ بالمنزلة، ونرجو أن يتحرى سعادة المحافظ الهمام عن بقية الفتيات حتى ينقذهن.

سكرتير مكتب الإرشاد العام


إنشاء لجان فرعية لجمعيات الإخوان المسلمين لتحذير الشعب من الوقوع في خداع المبشرين

علمنا أن من بين مقررات مجلس الشورى العام للإخوان تكوين لجان فرعية في كل دوائر الجمعية للعمل على تحذير الشعب من الوقوع في حبائل المبشرين بالطرق السلمية المشروعة، وإنا لنرجو التوفيق التام لهذه اللجان في مهمتها المقدسة.


صورة العريضة التي رفعها مجلس الشورى العام إلى جلالة الملك فؤاد:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،

إلى سدة صاحب الجلالة الملكية حامي حمى الدين، ونصير الإسلام والمسلمين، مليك مصر المفدى، يتقدم أعضاء مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين المجتمعون بمدينة الإسماعيلية بتاريخ: 22 من صفر سنة 1352ه، والممثلون لخمسة عشر فرعًا من فروع جمعية الإخوان المسلمين برفع أصدق آيات الولاء والإخلاص للعرش المفدى، ولجلالة المليك وسمو ولي عهده المحبوب، ويلجئون إلى جلالتكم، راجين حماية شعبكم المخلص الأمين من عدوان المبشرين الصارخ على عقائده وأبنائه وفلذات كبده بتكفيرهم، وتشريدهم، وإخفائهم، وتزويجهم من غير أبناء دينهم، الأمر الذي حظره الإسلام، وحرَّمه، وتوعد فاعليه أشد الوعيد، وقد جعلكم الله - تبارك وتعالى - حماة دينه، والقائمين بحراسة شريعته، والذائدين عن حياض سنة نبيه، والحريصين على آدابه وشعائره، والحامين من المعتدين عليه، والناشرين تعاليمه، والمعتنين بكتاب الله - تبارك وتعالى - أجزل العناية، وإن مصر زعيمة الشرق، ورعية الملك المسلم العادل لا تقبل أن تكون يومًا من الأيام مباءة تبشير، أو موطن تكفير، تستمد ذلك من غيرة مليكها وقوة إيمانها.

ولهذا لجأنا إلى سدتكم العلية، راجين أن يصدر أمر جلالتكم الكريم إلى حكومتكم الموفقة بالضرب على أيدى هذه الفئة، وإنقاذ الأمة من شرها، والوصول إلى هذه الغاية بكل وسيلة ممكنة، ونعتقد أن من الوسائل الناجحة:

1) فرض الرقابة الشديدة على هذه المدارس والمعاهد، والدور التبشيرية، والطلبة والطالبات فيها؛ إذا ثبت اشتغالها بالتبشير.

2) سحب الرخص من أي مستشفى أو مدرسة يثبت أنها تشتغل بالتبشير.

3) إبعاد كل من يثبت للحكومة أنه يعمل على إفساد العقائد، وإخفاء البنين والبنات.

4) الامتناع عن معونة هذه الجمعيات بتاتًا بالأرض أو المال.

5) الاتصال بحضرات الوزراء المفوضين في مصر والخارج؛ حتى يساعدوا الحكومة في تنفيذ خطة الحزم، حفظًا للأمن، ومراعاة لحسن العلائق.

وإننا إن أدلينا بهذه الآراء، فنحن نعتقد أن حزم جلالة الملك المفدى وصائب رأيه السديد، وغيرته الدينية المعروفة.. كل أولئك كفيل برأب الصدع، وإسعاد الأمة، وإنقاذ الشعب من أيدي المعتدين، وإليكم يا صحابة الجلالة، أصدق آيات الولاء والإجلال من المخلصين لعرشكم المفدى.

حسن البنا (مرشد الإخوان المسلمينومحمد أسعد الحكيم (سكرتير مكتب الإرشادوعبد الرحمن الساعاتي (نائب القاهرةوأحمد السكري (نائب المحمودية)، وحامد عسكرية (نائب شبراخيت) ومصطفي الطير (نائب المنزلة)، وعفيفي الشافعي (نائب الأربعين بالسويس) وعبد الفتاح فايد (نائب شبلنجة القليوبيةومحمد فرغلي عبد الله سليم (نائب أبو صوير)، وطه كراوية (سكرتير الأربعين)، وسليمان عويضة (عضو الأربعين)، وحافظ عبد الحميد (مراقب الإسماعيلية).

وقد رفعت مثل هذه الصورة إلى حضرات أصحاب المعالي: رئيس الوزراء بالنيابة، ووزير الداخلية، ووزير المعارف، ووزير الأوقاف، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الشيوخ.

فشعبة المنزلة كانت صاحبة السبق في فضح حركات التبشير، والتصدي لها، وملاحقتها، والتحذير منها.


سلاح القُلة السحرية

وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة وستين عامًا على واقعة القلة، فإن أهل المنزلة ما زالوا يتناقلونها لطرافتها. وخلاصة ما حدث: أن مجموعة من الموظفين الفاسدين اتخذوا من قاعة واسعة - في الدور الأرضي - بين مساكن المواطنين وكرًا يجاهرون فيه بالسكر والعربدة طيلة الليل. ونبههم الإخوان إلى خطورة ما يفعلون؛ ولأنهم كانوا من أصحاب النفوذ استهانوا بتوجيهات الإخوان.. وأخذوا يعدون العدة لليلة السُكر الكبرى ليلة شم النسيم، فلجأ الإخوان إلى سلاح القُلة، فما هو هذا السلاح؟ إنها قلة كبيرة من الفخار ملأها منفذو العملية بقاذورات سائلة وجامدة، وسدوا فوهتها بقطعة من الخيش، وحملها الأخ "طه أبو موسى" - رحمه الله - وهو بطل من أبطال رفع الأثقال، ويصحبه الأخ "عبد الحميد الزهرة" الذي يصغره سنًا.

يقول الأخ عبد الحميد: تسللنا إلى الموقع قبل منتصف الليل، ولم تكن الشوارع مضاءة في تلك الأيام، وكان اعتماد الناس في الإضاءة على "الجاز" والكلوبات، فالبلد لم يكن قد عرف الكهرباء بعد.

يقول عبد الحميد: كانت القاعة غاصة بالفسقة الذين أصابتهم الخمر بهستيريا الصراخ والهذيان. وقف طه وأنا خلفه، وصوب على "الكلوب" الرئيس، وبأقصى قوته وجه القُلة إليه، فحطمته وتحطمت، وتناثرت عبوتها على السكارى، وملابسهم، فدفعهم الذعر والمفاجأة إلى الاندفاع إلى الخارج لا يلوون على شيء.

يقول الأخ عبد الحميد: وكان لابد أن نجري، ولكني رأيت طه مبرزًا عضلاته، معدًا قبضته، فنبهته إلى ضرورة مغادرة الشارع بأقصى سرعة، فلما ابتعدنا في أمان سألت طه عن سر وقفته هذه، فقال: والله لقد شعرت بأن الله قد منحني قوة عشرين رجلاً، ولو تصدى لي واحد من هؤلاء الفسقة لما غادرته إلا قتيلاً.

ومن أطرف ما حدث بعد ذلك أن كل واحد من "الضحايا" قصد دكان "تنظيف ومكوى"، فرفض صاحب المحل - عم أحمد أبو عسل زين الدين - وابناه خالد والسعيد - وكانا يقومان بإدارة المحل - رفضوا التعامل مع هذه الملابس الغارقة في النجاسة والخبث. ولم يعرف هؤلاء أن الأخوين من خيرة شباب الإخوان، وكانا من المشتركين في التخطيط لهجوم "القُلة".

واعتقد الإخوان أن طه أبو موسى، وعبد الحميد الزهرة نجحا في مهمتهما دون أن يعرفهما أحد، ولكن المفاجأة كانت في القبض على طه أبو موسى، والتحقيق معه بناء على بلاغ من جماعة الفساق بتهمة انتهاك حرمة المساكن ليلاً، والتخريب، والاعتداء على الآمنين.

وكانت قضية برَّأ فيها القاضي الأخ طه لعدم توافر الأدلة. ومن طرائف الصدف أن طفلة صغيرة هي التي دلت مجمع الفساق على "طه أبو موسى" لا بشخصه، ولكن بوصفه بأنه "راجل له ست صوابع في كل يد". وهذا صحيح؛ لأن طه هو الوحيد في المنزلة كلها المولود بست أصابع في كل كف، والإصبع الزائدة ملتصقة بالخنصر، وهي أصغر منه.


محاربة الشذوذ الجنسي

علمنا أن شخصًا وسيمًا في قرابة الخامسة والعشرين من عمره، مصابًا بالشذوذ الجنسي، كان يحضر في الليل إلى المنزلة من قريته التي تبعد عنا قرابة عشرين كيلو مترًا، ويغري الشباب المراهق، وخصوصًا الطلاب ليلوطوا به.

وشاع أمره في المنزلة، فوضعنا خطة لإنهاء فجوره. راقبناه، وهو يغادر "الأتوبيس" في محطة المنزلة، حيث كان في استقباله الطالب الفاسق (ع. ع).. ثم انضم إليهما - تظاهرًا - الأخ عبد العليم العبيدي، متظاهرًا بأنه مثل (ع. ع) يريد أن يحقق متعته الحرام، وسار الثلاثة، ونحن نتبعهم من بعيد إلى أن دخلوا فصلاً تحت الإنشاء في المدرسة الثانوية (ولم يكن لها سور آنذاك). فلما بدأ العمل التحضيري لعملية اللواط، وهمّ (ع. ع) بالتعامل معها وجَّه عبد العليم لكماته للثنائي. هرب (ع. ع)، ومع أول صرخة واستغاثة أسرعنا لمعاونة الأخ عبدالعليم، وضربنا "مريض الشذوذ" ضربًا لو وزع على كتيبة عسكرية لكفاها، وكانت المجموعة كلها من طلاب الإخوان بالمرحلة الثانوية، وهم بالتحديد: الرفاعي شبارة، طاهر عنين، أحمد العلمي، زيادة على كاتب هذه السطور.

وزحف (مريض الشذوذ)، وهو مثخن بالجراح، متورم الوجه، متهتك الملابس إلى الطريق الزراعي، فالتقطته "سيارة نقل" إلى قريته.

وشاع خبر هذه العملية في المنزلة كلها.. وترتب عليها نتيجتان:

الأولى: عدم حضور هذا الشاب إلى المنزلة مرة أخرى.

والثانية: إقلاع الشواذ في البلد عن نشاطهم خوفًا من فتوات الإخوان المسلمين، كما يقولون.


مولد القعقاع بن عمرو التميمي

وهو الصحابي المجاهد الجليل، ويقال: إنه مدفون بمدينة المنزلة، وله مسجد ضخم باسمه فيها. من عشرات السنين رأيت أول احتفال بمولده، وكان احتفالاً ضخمًا، ضم عشرات من السرادقات، واتسع لعدد كبير من المنشدين، وقصده آلاف من بلاد الدقهلية وقرى المنزلة، وكان صورة مصغرة من مولد "السيد البدوي"

وفي أحد السرادقات، وقف منشد اسمه "أبو فَرْقلّة" يتغنى بمدح رسول الله e بكلمات خرافية، وأثناء الإنشاد كان يتقصع، ويرقص رقصات داعرة، ولم يستجب لبعض الإخوان الذين نبهوه إلى أن حركاته ورقصاته لا تتفق مع كرامة النبي e ووقاره، ولا مع ذكرى الصحابي الجليل، فما كان من الدكتور بيطري "عبده حمزة فراج" - عضو مجلس إدارة الشعبة – إلا أن اختار قرابة عشرة من قسم الطلبة، وكنا أيامها في المرحلة الثانوية، وقادنا إلى منصة "أبو فَرْقلّة"، مخترقًا بنا آلاف المشاهدين، والسامعين، وصاح بصوت رهيب "انزل يا ابن..." انزل وإلا..." لقد أسأت إلى الإسلام، والنبي e فولى الرجل هاربًا، وعاد في اليوم التالي لينشد في مدح النبي e بكلمات عاقلة متزنة، دون رقص وتقصع.

كان في شعبة المنزلة منهجان في التصدي للمنكر:

الأول: منهج الأستاذ محمد قاسم صقر: قائد الجوالة، وهو الرجل الثاني بعد رئيس المنطقة الأستاذ عبد الرحمن جبر، وهو يرى أن المنكر - وخصوصًا إذا لم يكن ضاريًا - يجب أن يعالج في هدوء وحكمة واتزان. وقد حقق نجاحًا في كثير من الأحيان.

والثاني: منهج القوة والحسم: وهو منهج الأخ طبيب بيطري عبده حمزة فراج مسؤول الطب البيطري في مركز المنزلة.

وكان ذا بسطة في الجسم، وقوة خارقة، فهو يرى أن الشر يجب أن يضرب ابتداءً بقوة وحسم، وخصوصًا إذا كان أصحابه ممن أخذتهم العزة بالإثم، فإقناعهم صعب جدًّا، أو مستحيل.

فبالقوة استطاع أن يؤدب "أبو فَرْقلّة" في مولد القعقاع بن عمرو التميمي، وأشهر من ذلك يتلخص في الواقعة الآتية:

الجمالية قرية كبيرة تابعة لمركز المنزلة على بعد خمسة أميال، وسوقها الأسبوعية كانت يوم الثلاثاء، وأشهر جزار فيها اسمه "م .ج" وكان يلقب كذلك ب "فتوة الجمالية"، وقد رأيته مرة واحدة، وكأني أنظر إليه الساعة: "آدمي ضخم الرأس" يلتقي رأسه بجسده بعنق قصير غليظ، وهو عريض المنكبين، متوسط القامة "مدكوك" الجسد كأنه خلق من "كاوتشوك" شديد.

ذهب الأخ طبيب بيطري عبده حمزة إلى الجمالية يوم سوقها "للتفتيش" وفحص اللحم المعروض في دكاكين الجزارين، وكان نهاية مطافه "دكان محمد الجزار"، واكتشف الدكتور عبده أن اللحم المعروض غير صالح للاستعمال البشري، فأمر رجاله بمصادرة اللحم، واتخاذ الإجراءات القانونية ضد محمد الجزار، الذي هب يصرخ في استهانة: سيب اللحمة مكانها، وإلا حخلي أهلك يخدوا عزاك. ورفع الساطور مهددًا. وتحول أخونا الطبيب إلى أسد كاسر، وأخذ يضرب الجزار ضربًا متلاحقًا، وكلما سقط الجزار على الأرض أنهضه الدكتور عبده إلى أن صار "دمه حميمه، ووجهه شوارع"، ( كما قال أحد المشاهدين). ولم يكتف بهذا، بل حمله على يديه ورفعه إلى أعلى كالذي يحمل "طاولة عيش" وسار به في الشارع الرئيس بالجمالية، والناس لا يصدقون عيونهم. وبذلك قضى على أسطورة الجزار، وبعدها استقام ولم يعد إلى الغش.

وقد يسألني القارئ: أي المنهجين أصح؟ وأنا أقول: إن الموازنة المطلقة خاطئة. فلكل واقعة ظروفها وملابساتها، والمهم اختيار أنسب التصرفات تجاهها. وقد يكون بين المنهجين تكامل، فيسلك الداعية المنهجين في موقف واحد تجاه ظاهرة واحدة.


النشاط الاجتماعي

هذا عن التصدي للمنكر أما النشاط الاجتماعي لإخوان المنزلة فإن التاريخ يحفظه بكل فخر. وأستعرض في السطور الآتية صورًا من هذا النشاط:

في سنة 1947م أصيبت مصر بكارثة تتمثل في مرض "الكوليرا"، وسرت عدوى هذه الآفة إلى كل بلد في مصر، وفتكت بالآلاف.

ويقال: إن الكوليرا انطلقت من قرية "القرين" بمديرية الشرقية عن طريق "البلح"، وإن الإنجليز الذين كانوا يسيطرون على هذه المناطق ولهم معسكرات فيها، قاموا بتلقيح البلح بجرثومة الكوليرا حتى تشغل مصر عن قضية فلسطين، وعن مقاومة الاستعمار الإنجليزي في مصر.

وكان لنا - نحن الإخوان وخصوصًا قسم الطلاب - جهود تمثلت فيما يأتي:


1) توعية أهل المنزلة بخطورة هذه الآفة، والحرص على النظافة، واستخدام المطهرات.. وقد رأيت بعض البقالين - من شدة الحذر - يضعون في مقدمة محلاتهم أواني فيها مواد مطهرة، ويطلبون من الزبائن، وضع العملة الفضية - ثمن ما يشترون - في هذه الأواني - لتطهر من العدوى المحتملة، وَقل الاختلاط، والمصافحة بالأيدي من شدة الحذر.

2) توزعنا مجموعات على مداخل المنزلة كل يوم أحد، وهو يوم سوق المنزلة، إذ يقصدها الفلاحون من القرى المجاورة لبيع بضاعتهم في سوق البلد، فكنا نعدم ما يحملون من بلح؛ لأنه كان مظنة حمل العدوى، ونقلها.

3) اتخذ المسؤولون شعبة الإخوان مركزًا لتطعيم الناس بالمصل الواقي من الكوليرا، وقد استغرقت هذه العملية أكثر من أسبوع.


الأنشطة الرياضية

1) قيامنا بعقد مباريات في كرة القدم مع الشعب الأخرى، مثل شعبة المطرية، وشعبة الدراكسة، وشعبة منية النصر.

2) كان في شعبة المنزلة أقوى فريق في الدقهلية لرفع الأثقال كان على رأسه الأخ طه أبو موسى (بطل عملية القُلة).


الرحلات والمعسكرات

كانت من أهم الأنشطة الرياضية، والتربوبية والدعوية، وقد أشرت من قبل إلى رحلة استغرقت يومًا واحدًا إلى المنصورة سيرًا على الأقدام. أما أهم الرحلات فكانت إلى "الدهرة"، وهي شبه جزيرة بين بحيرة المنزلة، والبحر الأبيض المتوسط، بعرض قرابة ميل.

وبها قرية بيوتها كلها تقع على البحيرة، وسكانها جميعًا من الصيادين، وكنا نقيم معسكرًا تربويًّا كل عام لمدة عشرة أيام، ولا نحمل من المنزلة إلا الخبز، والأرز، والجبن. أما السمك فكان هو الضيف الدائم في كل وجبة، ونحصل عليه بإحدى الطريقتين الآتيتين أو هما معًا:

الطريقة الأولى: الصيد الذاتي "بالعس" إذ ينزل جماعة منا إلى البحيرة بعد صلاة الفجر إلى عمق لا يتجاوز مترًا، وعلى ظهر كل واحد مقطف صغير، ثم نقوم "بعس السمك" الذي يرقد في جحوره أي مد الأيدي إلى قاع الجحر، والإمساك بالسمك الذي كان غالبًا من البلطي ووضعه في المقطف، وبالممارسة تعلمنا أن الجحر إذا كان دافئًا يكون في عمقه سمك، وإلا فهو جحر خال. كما كنا نتفادى الإمساك بالكابوريا؛ لأن سلاحها هو العض الذي قد يدمي أصابعنا.

ونغادر البحيرة، ونجمع حصيلة صيدنا، ونكلف بيتًا من بيوت القرية بالقيام بعملية الشَّيِّ.

الطريقة الثانية: الحصول على السمك بالشراء: إذ كان يحلو لنا أحيانًا أن نتجه بعد صلاة الفجر إلى شاطئ البحر الأبيض لنرى الصيادين مجموعات، كل مجموعة أو (مآية) كما يطلقون عليها من عشرين صيادًا يقومون بمد الغزل على هيئة نصف دائرة مفتوحة ناحية الشاطئ، وكل صياد يمسك بجزء من الغزل يضمه إلى ما أمسك به بقية إخوانه، ويضيق نصف الحلقة شيئًا فشيئًاأصا

إلى أن يتجمع الغزل كله بعضه إلى بعضه الآخر جامعًا ما حجزه من السمك.. (مع ملاحظة أن الصيادين يمسكون الغزل من أعلاه، أما أسافله فتنتهي بقطع من الرصاص تجعل الغزل – بثقلها – مدلى إلى ماء البحر دائمًا).

وتتجدد العملية عدة مرات إلى أن تجمع كل "مآية" حصيلة مرضية يشتريها تجار بورسعيد الواقفون بسيارات الجيب. ونقوم نحن بشراء بعض ما يصيدون. وبناءً على ما شاهدت أطرح الملاحظات الآتية:

1) كان أغلب الصيد من سمك البوري، وكان الصيادون لا يجمعون إلا السمك "العِفِر" أي الكبير، أما السمك "الدِّوِر" أي الصغير، فيعيدونه للبحر مرة أخرى.

2) كان أعدى أعداء الغزْل والشبك "أبو جلامبو" أي الكابوريا، إذ إنه يمزق خيوط الغزل بأسنانه الحادة. كما أنه مغرم بنهش سمك البوري من موضع التقاء الرأس بالبطن.

3) بعد أن يبيع الصيادون حصيلة صيدهم للتجار المنتظرين يعودون إلى قريتهم الواقعة مباشرة على بحيرة المنزلة، وينشرون غزلهم، ويصلحون ما انقطع من خيوطه استعدادًا ليوم جديد.

ونعود نحن إلى معسكرنا بما اشتريناه ليشوى في أحد بيوت القرية.


نستكمل حديثنا عن رحلتنا إلى (الدهرة) ومعسكرنا فيها :

وأذكر ممن كان معنا في رحلة الدهرة: (عبد الحميد الزهرة، أحمد صالح العلمي، الحسنين فشير، محمد علي حسان، محمد هاشم حسان، علي علي حال، الشيخ سيد الضويني).

ومن الفوائد التي عادت علينا من هذه الرحلة:

1) فوائد بدنية وصحية، وتجديد النشاط والحيوية، وبهذه الطاقات المتجددة يستطيع الداعية أن يؤدي رسالته في عزيمة قوية، وتقدم مطرد.

2) التطبيق العملي المتواصل لبرامج الأسر، والكتائب، ومراجعة ما سبقت دراسته.

3) التدريب على الصبر، وقوة التحمل، والاعتماد على النفس.

4) اكتساب مزيد من المعرفة لأخلاق الصيادين، وطبيعة عملهم، ونجاحنا في عملية الصيد اليدوي للسمك بطريقة "العس"، أي إمساك السمك مباشرة باليد من جحوره التي اتخذها مرقدًا له في قاع البحيرة، وهو لا يبعد عن أيدينا في العمق أكثر من متر.


رحلة منعت مذبحة

شعبة "دقهْلة" من الشعب المرموقة في مركز دمياط، وبين المنزلة وبينها قرابة أربعين ميلاً، وبناء على اتفاق سابق مع مسؤولي الشعبة، قمنا بقضاء يوم مع إخوانها، وجعلنا الدراجات وسيلة الرحلة هذه المرة. وتوجهنا بقرابة خمسين دراجة إلى شعبة "دقهْلة". رحب بنا إخوانها، وخصوصًا الأستاذ "محمود جحيش" - رئيس الشعبة.

وبعيد صلاة المغرب مباشرة، وقف الأستاذ "محمود جحيش"، وقال:

إن إخوانكم في شعبة "السِّرْو" - وهي تبعد عن دقهْلة ببضعة كيلو مترات يحتفلون الليلة بالمولد النبوي الشريف، وقد علمنا أن آل المليجي - أقارب إبراهيم عبد الهادي - وأتباعهم من بلطجية الزرقا - القرية المجاورة، وهي قلعة السعديين، وعبد الهادي - رئيس الوزراء بعد مقتل النقراشي - قد دبروا خطة لإفساد الحفل، والاعتداء على إخوان السرو.

ثم قال: والإعلان عن حضوركم الحفل قد يعني في مفهومهم أنكم جئتم مددًا لإخوان السرو، فيلقي في قلوب أعدائهم الرعب.

وكلمة السِّر - يا إخوان - هي "الله" .. ووصلنا إلى السِّرو.. وقبل دخولنا السرادق، أعلن مذيع الحفل في الميكروفون بصوت جهوري: والآن: وصل إخوان المنزلة، ودخلنا السرادق يتقدمنا الأخ فريد حسن الجميعي، بقامته المديدة، ووجهه المتجهم.


طرائف

وثمة عدة طرائف جديرة بالتسجيل، ألخصها فيما يأتي:

1) قال الأستاذ "محمود جحيش" قبيل توجهنا إلى حفل الإخوة في السرو: أيها الإخوان، إن كلمة السر هي "الله"، فقال الأخ أحمد العلمي بظرفه وظله الخفيف: يا أستاذنا الفاضل، افرض أن واحدًا من الإخوان - لا يعلم كلمة السر - "نزل فيّ ضرب"، وأنا أصرخ "الله .. الل ااه" ألا يمكن أن يعتقد أنني أستلذ ضربه لي، فيواصل ضربي، ويقول في نفسه: "إدي له" استجابة لرغبته؟

2) كنا قرابة خمسين من إخوان المنزلة ما بين عامل وطالب. تركنا الدراجات خارج السرادق في حراسة عامل الصيانة، وتعمدنا أن ندخل السرادق موزعين على صفين منتظمين يتقدمهما الأخ فريد الجميعي الذي أعطاه الله بسطة في الجسم، طولاً وعرضًا وقوة، وقد وضع على رأسه "عصابة" كالقراصنة، وكان يرتدي قميصًا وبنطلونًا، وفوقهما جلباب بلدي، وكان فريد متجهم الوجه يقلب عينيه يمينًا ويسارًا كأنه يبحث عن ضحية بين البلطجية.

كل ذلك ومذيع المنصة يكرر بصوته القوي: "والآن وصل إخوان المنزلة.. مرحبًا يا إخوان المنزلة.. إخوان السرو يرحبون بإخوان المنزلة". وتعلو الهتافات: "الله أكبر ولله الحمد".

والمنزلة كانت آنذاك أشهر بلد في الدقهلية مشاغبة، وخصوصًا في مواجهة الحكومة.

3) بعد انتهاء الحفل بسلام أطلقنا على فريد لقب "القرصان الإسلامي"؛ لأن هيئة وجهه والعصابة على رأسه تذكرنا بقراصنة السفن.

4) سألت الأخ فريد بعد انتهاء الحفل بسلام عن سر ارتدائه الجلباب فوق القميص، والبنطلون، فأجاب قائلاً: لقد وضعت تحت الحزام قطعة من الخشب طولها قرابة عشرين سم، وعرضها قرابة 10 سم، وبالصدفة جاءت جلستي على المقعد المجاور لمقعد أحد البلطجية أعداء الإخوان، وتحسس جانبي الأيسر فاصطدمت يده بالشيء الجامد، فسألني في اضطراب: الله!! مسدس ده، ولا مدفع "ستن"؟ (والمدفع ستن كان أخف وأصغر مدفع رشاش في ذلك الوقت).

فقلت له: "معايا الاتنين".

فانسحب الرجل.. وهمس في آذان مجموعة معه، فتسللوا بعيدًا عن السرادق، واحدًا واحدًا.. وختم فريد أو (القرصان الإسلامي) كلامه بقوله: عندها تذكرت قول رسول الله e: "نصرت بالرعب مسيرة شهر".