د. محمد محسوب يكتب: قناة السويس وهوس الاستبداد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
د. محمد محسوب يكتب: قناة السويس وهوس الاستبداد


(8/6/2015)

منذ حفر قناة السويس 1859 - 1869 عاشت مصر حالة تلخص العلاقة الحميمة بين الاستبداد والهوس بالمشروعات الكبرى وما يؤدي إليه ذلك من إفلاس وسقوط في التبعية بل والاحتلال أحيانا..

فإنشاء شركة مساهمة مصرية باتفاق مبدئي بين سعيد باشا وصديقه الودود فرديناند ديليسبس ، لم يخضع لأي نوع من الرقابة الشعبية أو استشارة أهل البلاد لكنه لم يمنع الاحتفال ببدء المشروع والترويج له باعتباره نقلة كبرى لمصر ذات الثلاثة ملايين نسمة.. ثم بالاحتفاء بإنجازه في حفل أسطوري..

ولم يكن لراجل الشارع البسيط أن يدرك وقتها أن مصر كانت مستفيدة أكثر من عدم وجود القناة، بسبب تنامي دخلها من عبور عربات البريد والبضائع والركاب من الإسكندرية الى السويس والعكس؛ وأن المشروع في مجمله لا يحقق إلا مصلحة الدول المهيمنة على التجارة العالمية، ولم يكن يضمن دخولا مالية تقابل التضحيات التي قدمتها مصر في هذا المشروع.

فلم تتوقف التضحيات التي تحملتها مصر عند التزامها بتقديم حوالي مليون عامل سخرة ، قضى منهم بسبب الجوع والعطش والأوبئة أكثر من 120000 (مائة وعشرون الف)، بالإضافة لتخلي مصر عن حقوقها فى الاراضى الواقعة على ضفتى القناة الرئيسية وعلى ضفتى الترعة الى شُقت من النيل الى مدينة الاسماعيلية الجديدة لتوفير المياه العذبة للعمال.

إنما زاد الطين بلة إلقاء أعباء مالية هائلة على عاتق الخزينة المصرية بموافقتها على شراء 000 64 سهم (قيمة السهم الواحد 500 فرنك) من الاسهم التى أصدرت فى بادئ الامر ، والتى بلغ عددها 000 400 سهم .

وكأنما لم يكن ذلك كافيا ، فعندما فتح الاكتتاب العام لاول مرة عام 1858 ولم يتم بيع سوى ما يزيد قليلا عن نصف الاسهم مما يستحيل معه تأسيس الشركة، وفقا للقانون الفرنسى ، اقنع ديليسبس سعيدا بشراء كل الاسهم الباقية تقريبا".

حاول سعيد باشا سد العجز الناتج عن التورط فى هذا المشروع بتلك السذاجة، بان اصدر "سندات خزانة"، لاول مرة فى تاريخ مصر وبناء على نصيحة صديقه ديليسبس، ثم "سندات رواتب" لمواجهة الدفعة الاولى من ثمن الاسهم المصرية فى قناة السويس .

إلا ان كل ذلك لم يجدِ نفعا ، فلجأ سعيد الى الاقتراض الاول من احد البنوك الاوربية ، وهو بنك شارل لافييت ايه سى بباريس Charles Lafiette et Cie ، ومن بنك الكنتوار ديسكونت Comptoire d'Escomte ، ثم توالت بعدئذ عمليات الاقتراض بشروط مرهقة.

وحاول إسماعيل باشا بعد ذلك أن يُعيق إنشاء المشروع بسبب تكشف مضاره، فحرّم السخرة وقضى باسترداد ملكية أراضي ترعة الإسماعلية؛ غير إنه أخطأ بقبول فض النزاع الناشئ عن ذلك مع الشركة باللجوء إلى نابليون الثالث إمبراطور فرنسا والذي حكم لصالح الشركة في مواجهة مصر بإلزام الأخيرة بدفع ثلاثة ملايين وثلاثمائة وستين مليون جنيه تعويضا؛ وهو ما أدى لاحقا لفقدان مصر لأسهمها بالشركة.

أدى ذلك بالتدريج الى ان 70% من ايرادات مصر كانت تذهب لسداد القروض وفوائدها .

وحاول اسماعيل وقف هذا النزيف باصدار قانون المقابلة الصادر سنة 1872 والذى تعهد فيه لكل من يدفع ضريبة الارض لست سنوات مقدما باعفائه للابد من نصف التزاماته الضريبية .

وقام سنة 1875 ببيع اسهم مصر فى شركة قناة السويس الى انجلترا بثمن بخس .

غير ان كل ذلك لم يعد كافيا ، حتى ان الحكومة المصرية اعلنت سنة 1876 توقفها عن سداد ديونها لمدة ثلاثة اشهر ، وهو ما اعتبر اشهارا لافلاس مصر .

وبغض النظر عن المشروعات التى انفقت فيها هذه القروض، فان وصول الحال الى ما وصلت اليه ادى الى تطور التدخل الاوربى فى مصر، بحيث صار للدائنين حق الاشراف المالى على ميزانية مصر.

وقد وضعوا بالفعل عددا من الخُطط لتنظيم الايرادات والنفقات، ادت جميعها الى توسيع مضطرد للسيطرة الاوربية (الانجليزية الفرنسية خصوصا) على مالية مصر.

ومن اهم هذه الخطط ، هو خطة عام 1867، التى ادت الى قيام صندوق الدين Caisse de la Dette ، والذى ضم مديرين ماليين من كل من بريطانيا وفرنسا وايطاليا والنمسا وروسيا.

وكان الصندوق يتلقى الايرادات بشكل مباشر لسداد الديون. اما مشروع جوشن – جوبير ، الذى طرح فى نهاية العام نفسه، فتضمن بندين جديدين: تعيين مراقبين عامين، احدهما فرنسى ويتولى الاشراف على المصروفات، والثانى بريطانى ويتولى مراقبة الايرادات.

ثم انشاء لجنة الدين العام Commission de la dette publique لمتابعة الجمع الفعلى للايرادات المخصصة لسداد الدين الممتاز وخاصة الديون التى استخدمت فى بناء خطوط حديدية والبريد وتجديد ميناء الإسكندرية.

وتبدأ المرحلة التالية للتدخل الأوروبى ، فى آوائل سنة 1878 بضغط دبلوماسى بريطانى فرنسى على الخديوى للسماح بقيام لجنة بفحص مالية البلاد فحصا "كاملا شاملا".

وادى ذلك الى دخول عضوين من اعضاء اللجنة كوزيرين فى وزارة الخديوى مع تمتعهما بصلاحيات تنفيذية، الاول كوزير للمالية والثانى كوزير للاشغال العمومية.

وحاول اسماعيل وقف المزيد من السيطرة الاوربية على المقدرات المصرية ، باقالة الوزيرين الاوربيين فى ابريل 1879، الا ان ذلك ادى الى اجبار اسماعيل نفسه على التنازل عن العرش لصالح ابنه توفيق فى نفس العام .

وقد اكتمل نسق السيطرة الاجنبية على الاقتصاد المصرى مع تشكيل لجنة التصفية الثانية فى يوليو 1880 وصدور قانون التصفية فى ذات العام والذى اعتبر تسوية مالية نهائية بين مصر ودائنيها.

وقد صدر قانون التصفية فى 17 يوليو وقضى بان الجزء الاعظم من الميزانية المصرية، التى تحددت ظلما بمبلغ 475 023 5 جنيه استرلينى ، يجب ان يخصص لاستهلاك الديون الموحدة التى تتجاوز المائة مليون استرلينى.

والمتتبع لهذه المرحلة التاريخية يُدرك أن مصر حاولت التخلص من التدخلات الأجنبية ومآزقها الاقتصادية الناتجة عن التورط بمشروع قناة السويس وما ترتب عليه من ديون بتبني نظام أكثر دستورية، فأنشأ الخديو إسماعيل مجلس شورى النواب وتبنى بعض مطالب الحركة الوطنية بما فيها عرض الميزانية على الشعب، ثم تنامت الحركة الوطنية بظل حكم توفيق حتى وضعت دستور 1882، والذي أسقطه التدخل العسكري الإنجليزي في نفس السنة ليوقف أي تطور ديموقراطي يمكن أن يُخرج مصر من دائرة التبعية والفقر والمديونية.

والعبرة أن الاستبداد يعتاش على خداع الشعوب بمشروعات كُبرى بعيدا عن دراستها أو مشاركة الشعب في تقيمها، ومن ثمّ تجد الشعوب القابلة للاستبداد نفسها تنتقل إلى حالة من الضعف ومزيد من الفقر يبرر اندماجها أكثر في منظومة التبعية التي يحتاج الخلاص منها لكلفة أكبر وتضحيات أعظم..

من كتابي (نشأة الدولة المصرية الحديثة- من النهضة إلى التبعية)

المصدر