حوار مع علماني عريق

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حوار مع علماني عريق

بقلم د. جابر قميحة

جمعتنا جلسة من العاملين في التعليم الجامعي، وكان الموضوع: "الشحن الديني والنفسي وأثره في تربية المجتمع"، وجاء دوري في الكلام فكان مما قلت "إن الالتزام بالدين وقواعده وقيمه يضمن لنا كسوبًا هائلةً في الدنيا والآخرة؛ لأن الدين ليس مجرد أداء عبادات، ولكنه كذلك سلوك عملي يجعل من الفرد أداة صالحة في ذاته، ومن ثَمَّ ينعكس هذا الصلاح بمفهومه الواسع على أسرته ومجتمعه".

وجاء دور (م. ع) الكاتب العلماني المشهور، فانطلق يفرز بضاعته، محاولاً هدم ما قلته، ووافقني عليه أغلب الحاضرين.

استهل صاحبنا إفرازاته بما سمَّاه "الواقع الذي يجب أن نعيشه، وهو واقع ينسف كل دعاوى الرجعيين في مسألة: الصلاح سر البقاء والتقدم والارتقاء"، وانطلق صاحبنا يسوق الأمثلة على دعواه وكان مما قال:

1- هناك مَن حققوا انتصارات عسكرية باهرة على الرغم من أنهم ملاحدة لا يعرفون الله: فالشيوعيون في فيتنام الشمالية استطاعوا أن يكسروا أكبر وأقوى دولة في العالم وهي أمريكا.

2- وأمريكا في وقتنا الحاضر تعتبر سيدة دول العالم، وصاحبة اليد العليا دائمًا في القروض والمعونات الاقتصادية والعسكرية، مع أنها دولة ساقطة خلقيًّا، ذات تمزقات لا تعرف القيم في مجال الجنس والخمر والمخدرات.

3- وهناك شعوب وثنية، أو لا دينية حققت في مجال الثقافة والتقدم الصناعي والعلمي إنجازات مذهلة مثل اليابان والصين والهند.

4- وشهد القرن الماضي وسنوات القرن الحاضر هزائم منكرة للعرب والمسلمين أصحاب أكرم الرسالات وأنبلها؛ وذلك على أيدي عصابات الصهاينة الذين لا دينَ لهم ولا خلق.

5- والربط بين الخلق وسلامة التدين من ناحية، وبين انتصار المسلمين وجعْـل الثاني نتيجة وحصيلة للأول، ينقضه ما نعرفه من حال الدولة الإسلامية في العصر العباسي مثلاً، ففي عهد هارون الرشيد- وهو العصر الذهبي للدولة الإسلامية- تحققت إنجازات وانتصارات عسكرية هائلة، على الرغم مما يروى من ليالي هارون الرشيد، وانتشار الخمر، وعربدة الشعراء، وفساد كثير من كبار رجال الدولة.

6- والعصر الذي نعيشه الآن لا يستسيغ الدعوى إلى إسلامية الخلق، أو الهيمنة الدينية على السلوك والتربية والإعلام والسياسة، بعد أن أصبح الطابع العلماني يسود العالم كله.

7- والأمة المصرية- بصفة خاصة- فيها ملايين من غير المسلمين، ومثل هذه الدعوة تسيء إلى مشاعرهم، وتدعو إلى الحرج والتطاحن والبغضاء، وقد تدفع إلى نشر الفتن، والهجرة من مصر.

وهذه الشبهات في مجموعها تعتمد على "الظاهر البراق" أكثر من اعتمادها على التحليل العميق للواقع والظواهر، والأسباب والعلل والنتائج، وكثير من هذه النتائج ما زال يحبو على أولى العتبات، ومن ثَمَّ كان الحكم بأنها "باهرة حاسمة نهائية" فيه من الإسراف والغلو الشيء الكثير، ويكون الخروج بهذا الحكم من دائرته الخاصة ليأخذ صورة التعميم والشمولية خطأً قاتلاً.

وانتصار الشيوعيين في فيتنام على القوات الأمريكية لم يكن انتصار وثنية على إيمان، ولكنه كان انتصار مظلوم مسحوق على ظالم غاصب ناهب.

وحتى لو فرضنا جدلاً أن هؤلاء انتصروا "بحماسة الإلحاد"، فلماذا لا نحاول نحن أن نخوض معاركنا بحماسة الحق والإيمان؟ أليس الحق أقوى، والإيمان الحي أبقى؟

وأمريكا حقيقةً هي دولة الجنس والخمر والأفيون والحشيش والحبوب المخدرة، وفي تقرير رسمي نشر في أمريكا سنة 1979م ثبت أن عدد الذين يتعاطون المخدرات يزيد على 6% من عدد سكان الولايات المتحدة، ومع ذلك فأمريكا هي أمريكا، أقوى دول العالم اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وعسكريًّا؛ مما يؤكد أن السلوك الخلقي يرتبط أساسًا بالحرية الشخصية، وأن ذلك لا يؤثر بأية حال في كيان الدولة، ولا يهز مركزها في الداخل أو الخارج.. هذا ما يقوله صاحبنا- الكاتب العلماني الكبير- ومَن يسيرون على دربه.

ولكن أشدهم حماسةً لا يستطيع أن يدَّعي أن المخدرات والخمر والجنس هي سبب التفوق السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي في أمريكا.

على أن هناك أصواتًا قويةً تدرك خطورة هذه السموم على الشعب الأمريكي وتنادي هذه الأصوات بمنعها، أو على الأقل بأن تفرض عليها قيودًا شديدةً عاتيةً. ولا ننسى أن الحكومة الأمريكية قامت في العشرينيات من القرن الماضي بمحاولة قوية لتحريم الخمر تحريمًا قاطعًا، وتجريمها تجريمًا أبديًّا، ولكنها أخفقت في المحاولة لأسباب لا يتسع المقام لذكرها.

وعلينا ألا ننسى في هذا المقام أن المجتمع الأمريكي فيه من "عوامل التعويض" العلمية والثقافية والاقتصادية ما يخفف من تأثير عوامل الهدم اللا أخلاقية، فأثر الأفيون في دولة فقيرة متخلفة كالصين كان أشد وأعتى من أثره حاليًّا في الشعب الأمريكي، والزنا والخمر في شعب إفريقي فقير يؤتيان آثارهما القاصمة أسرع وأقوى وأضرى مما يؤتيانها في دولة أوروبية، عندها من الرصيد المالي والاقتصادي والتقني ما يعوض إلى حدٍّ كبير عن انهيار جانبٍ من الكيان المعنوي للأمة.

وهل يستطيع أحد أن ينكر أن دولةً كالولايات المتحدة ستكون أكثر قوةً واستقرارًا في كل المجالات لو خلت حياتها من كل هذه المآثم التي أشرت إليها آنفًا؟.

ولا ننسى أن الشعوب الأوروبية والأمريكية هي أحرص شعوب العالم على النظام والعمل في حماسة وإخلاص، مع الالتزام بدقة المواعيد والولاء الحي للدولة والقانون والشعور بالمسئولية.

وفي مقام الانتصارات الصهيونية على العرب أصحاب الرسالة الخاتمة (كما تهكم الكاتب العلماني المشهور) نقول: إنه ومن سايره نسوا، أو تناسوا أن "الخيرية" أو "الأفضلية" ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فهذه الخيرية لا يستحقها من لهم في الإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الدعوى وجعل الدين مجرد وصف لهم، بل لا يستحقها من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت الحرام، والتزم الحلال، واجتنب الحرام مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلا بعد القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالاعتصام بحبل الله، مع اتقاء التفرق، والخلاف في الدين.

والإيمان بالله لا يمثل الجانب العَقَدِي في توحيده وعدم الشرك به فحسب بل إنه يمثل القاعدة الأساسية، والمنطلق الحقيقي لاستكمال المسلم "قائمة القيم العليا". (انظر الآيات البقرة 285 والنساء 162 والأنفال 2 -3.. والمؤمنون 1-5).

فمعيار "الخيرية" إذن يتجسد في هذه الثلاثية الكريمة: الآمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وهي تجعل من المؤمن "كيانًا ديناميكيًّا ناشطًا"، يمارس دوره البنَّاء، لا بالنسبة لمجتمعه فحسب ولكن بالنسبة للمجتمع الإنساني كله.

فماذا بقي للمسلمين اليوم من هذه الثلاثية؟ لم يبق منها إلا الشكل والمنظر، تغيرت الحال، واختلت المعايير، وأصبح "المسلم الحق" في ديار المسلمين واحدًا من الغرباء الذين قال عنهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "قوم صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم".

وقد خرج الطبراني من حديث لأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم "وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر قُمِعا وقهرا واضطهدا، فهما مقهوران ذليلان، لا يجدان على ذلك أعوانًا، ولا أنصارًا".

يقول ابن رجب الحنبلي (706/ 795 هـ): "فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة، الفقيه في الدين، بأنه يكون في آخر الزمان- عند فساده- مقهورًا ذليلاً لا يجد أعوانًا ولا أنصارًا".

فالمسلم على مستوى العالم الإسلامي كله يعيش اليوم عصر الغربة والضياع واختلال المعايير، فإذا ما قلنا إن الخيرية التي تمتعت بها أمة الأمس قد فقدتها أمة اليوم لم نكن مسرفين ولا مشتطين في الحكم.

أما ما يتردد عن فساد هارون الرشيد وليالي هارون الرشيد، فهو من قبيل اللهو والعبث وافتراءات المستشرقين والمنصرين؛ حرصًا منهم على تشويه التاريخ الإسلامي، وخصوصًا الفترات الوضيئة فيه.

وأحب أن أنوه في السطور الأخيرة أن ما ذكرته لا يعد ردًّا أو نقضًا على ما ادعاه "العلماني الفحل"، ولكنه مجرد سطور سريعة آمل أن تبين عن المقصود، في هذه العجالة، التي تحتاج إلى التفصيل الكثير، والشواهد المتعددة التي تنقض هذه الافتراءات المنكودة، وقد يكون لنا عودة لاستيفاء القول تفصيليًّا فيما عرضناه على سبيل الإيجاز والإلماع.

المصدر : نافذة مصر