حب الاوطان في فكر جماعة الإخوان المسلمين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حب الاوطان في فكر جماعة الإخوان المسلمين


بسم الله الرحمن الرحيم

المبحث الأول:وجهة نظر الليبرالية العربية

مصطلح الوطن من المصطلحات التي تثير الكثير من النقاشات والجدل فى الفكر السياسي المعاصر، وخاصة في المنطقة العربية. وهو مصطلح لم يرد له ذكر سواء فى القرآن الكريم أو السنة النبوية أو فى كتب الفقهاء اللاحقة، كما لا نجد له شرحا فى مراجع اللغة العربية.

وليس من الغريب غياب معنى الوطن من الأدبيات العربية والإسلامية، نظرا لعدم تداولها لدى العرب ثم المسلمين من بعدهم. فالعرب ما قبل الإسلام فيما يعرف "بالعصر الجاهلى" عاشوا فى بيئة قبلية بدوية لا تعرف معنى الوطن

حيث يرتبط الإنسان العربى بقبيلته التى تمثل له الملاذ الآمن من الثأر وتوفير الحماية والمعيشة، ولذلك عرف العرب في الجاهلية معنى "الحمى" وهو النطاق أو الحيز الجغرافي المتحرك للقبيلة، التى ترتحل من مكان لأخر وراء الماء والكلأ.

يقول أحد معارضي التيار الإسلامي واحد المنتمين للتيارات الليبرالية في المنطقة الدكتور أحمد البغدادي الأستاذ بجامعة الكويت:

" لا يرد مصطلح الوطن فى القرآن الكريم أو السنة النبوية أو الحديث الشريف، بل إن الحديث النبوي المشهور (حب الوطن من الإيمان) يعد من الأحاديث المكذوبة الموضعة، وأنة لا يصح صدوره عن النبى (صلى الله عليه وسلم). وقد يستشهد البعض بحديث النبى (صلى الله عليه وسلم): "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد…"
وهو من الأحاديث الصحيحة، لكن الحديث لم يرد فى مجال الاعتراف بأهمية الوطن والانتماء إليه، بقدر أن مناسبة الحديث جاءت فى سياق دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) بنقل حمى المدينة إلى الجحفة التى يسكنها اليهود، وذلك حين أصابت أبو بكر وبلالاً الحمى فى المدينة بعد قدوم النبى إليها، فجاءت عائشة إلى النبى وأخبرته عن حال أبيها و بلال، فدعا ربه أن ينقل الحمي إلى مكان إقامة اليهود، فكان المولود يولد بالجحفة (بضم الجيم)، فما أن يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى (كما ورد بموقع تخريج الأحاديث للشيخ الألباني).
ومن الواضح أن مصطلح الوطن لم يعرفه العرب إلا فى فرنسا، وذلك حين استخدمه المفكر المصرى مصطفى كامل (1874 – 1904) فى معرض تأكيده على الهوية الوطنية المصرية، لكنه كان يقصد القطر المصرى تحديدا، وفقا للكيان السياسي الجغرافى القائم. مما يعنى معه، أن مصطفى كامل كان يتحدث عن مفهوم الوطن ضمن منظومة الفكر الغربى الأوروبى.
وفى ذلك الوقت كانت جميع المجتمعات العربية باستثناء مصر، خاضعة لسلطة الدولة العثمانية. وكذلك الأمر مع الإمام محمد عبده، الذي كان لا ينظر سوا إلى مصر من ناحية قومية، وليس من الناحية الدينية. بدليل مناقشته فكرة الجامعة الإسلامية التى طرحاه أستاذه جمال الدين الأفغاني، كرابطة للبلدان الإسلامية.
فى ظل هذا الالتباس لمفهوم الوطن كان من الطبيعي أن لا يجد هذا المصطلح صدى فى الأدبيات الإسلامية بشكل عام، سواء فى كتب الفقهاء أو مؤلفات مؤسسي الجماعات الدينية " ...

القوم والأمة بين الجاهلية والإسلام

الانتماء الفردى للإنسان العربى، فى عصر ما قبل الإسلام، يتمحور حول "القوم"، حيث يتباهى كل فرد بالانتماء لقوم ما. وبرغم أن الإنسان فى ذلك العصر، يُعرف بالعربى أو "عريبو" فى الثقافات القديمة، إلا أن عرب الجاهلية لم ينتموا إلى امة عربية واحدة، بسبب الصراع القبلى، مما حال دون خضوع العرب لسلطة مركزية واحدة قبل أن يوحدهم الدين الإسلامي. لذلك كان الانتماء القبلى هو الأصل.

يقول د. إحسان النص:

"وكان الشاعر الجاهلى يرى أن من حق قبيلته علية أن يقف عليها موهبته الشعرية .. وأن يسعى بوصفة مواطنا قبليا، بكل ما لديه من طاقة وجهد فى ما يعود بالخير والنفع على عشيرته .. وهكذا نجد الشاعر الجاهلى لا يكاد يبلغه أن رجلا ما تعرض لقبيلته بسوء، أو انتقص من مكانتها حتى ينبرى لهجائه وثلب قبيلته، ولا يكاد يسمع شاعر يفخر على قومه حتى يبادر إلى الرد علية مفاخراً بعشيرته..
خلافاً لهذه الروح الجاهلية القائمة لدى العرب، جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) من المسلمين أمة من دون الناس، بل انه (صلى الله عليه وسلم) ميز بين القبائل من خلال تصنيفها كأمم، ففى وثيقة المدينة التى كتبها النبى حين قدومه إليها، ووجدت النزاعات المتأصلة بين قبيلتي الأوس والخزرج من جهة، والتنازع بينهما وبين اليهود
من جهة أخرى، قام النبى بتحديد موقع المسلمين فى هذا الخليط القبلى غير المتجانس بتمييز المسلمين والمؤمنين عن غيرهم، وذلك فى البند الثانى من الوثيقة أو الصحيفة، والذى نص على "أن المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس" وفى البند الخامس والعشرين من الصحيفة نص على أن "يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"
وقد كان الاستطراد القرآنى يميل إلى "القوم" حين الإشارة إلى المجموعة البشرية التى يسعى الأنبياء إلى هدايتها أو تهديدها بالعذاب، بدليل كثرة الآيات القرآنية الواردة فى هذا الموضع، إلا أن القرآن الكريم كان أكثر تحديدا فيما يتصل بـ "الأمة" خاصة فى وصف الأمة الإسلامية، كما فى قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أما وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة:134)
وقوله "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير.." (أل عمران: 104) وقوله "كنتم خير أمة أخرجت للناس.." (أل عمران: 110) هذا الانتقال الدينى من فكرة القوم المحدودة إلى فكرة الأمة، يمثل توسعا وشمولا فى الرؤيا القرآنية للمجموعة الإنسانية الخاصة بالمسلمين، ساهم بصورة أو بأخرى بالتحرر من القيد الجغرافى – إن جاز التعبير – للقبيلة ممثلة بـ"الحمي". وبالتالى انتقل المسلمون من ضيق القبيلة إلى رحاب الأمة ذات الطابع الدينى.
وحيث أنة من المستحيل حصر عدد المسلمين فى كيان جغرافى محدد، بسبب التوسع فى الدعوة الدينية لكي يدخل الناس فى دين الله أفواجا، وهو ما حدث فعلا بعد فتح مكة فى السنة الثامنة للهجرة، ثم الامتداد الإسلامي خارج نطاق شبه جزيرة العرب إلى بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها من البلاد المختلفة، بما تضمه من أخلاط عرقية لا يجمعها سوي الدين الواحد. لذلك كان من الطبيعى جداً عدم التقيد بنطاق جغرافى واحد محدد لأنه يحول دون امتداد الدين، وهو ما يتنافى والدعوة إلى نشر الدين الإسلامي.
وبذلك أصبح الإنسان المسلم ينتمى إلى أمة محددة هى الأمة الإسلامية الغير مرتبطة بكيان جغرافى محدد، وهذا هو شأن الإمبراطوريات العظمى، كالإمبراطورية الرومانية والفارسية على سبيل المثال لا الحصر.وفى ظل الإمبراطورية الإسلامية لا يوجد سوي أحكام واحدة للجميع، ينتقل إليها المسلم بغض النظر عن المكان الذى يقطن فيه، ما دام يتحرك فى الكيان الجغرافى الواسع للإمبراطورية التى ينتمى إليها.
ومن الطبيعى أن يُضعف هذا التوجه مفهوم المواطنة المحددة والمرتبطة بكيان جغرافى محدد. وعلى الرغم من زوال الإمبراطوريات المختلفة، ومن بينها الإمبراطورية الإسلامية وتفتتها إلى كيانات جغرافية محددة بعد زوال الإمبراطورية العثمانية، مثل مصر وبلاد الشام والعراق، إلا أن مفهوم "الأمة الإسلامية" ظل كامنا فى الوجدان الإسلامي دون أن يكون له أى تواجد فعلى.
بل إنه اختفى فعليا بعد ظهور الدولة القومية أو الوطنية ذات الكيان الجغرافى المحدد. وظل كذلك، وما يزال، إلى أن جاء حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، فأعاد بعث فكرة الأمة الإسلامية من جديد.
لكن نظراً لاعتماد الأنظمة السياسية العربية لنظرية الدولة الوطنية، وتقسم الكيان العربى الواسع إلى كيانات عربية محددة، أصبحت فكرة الدولة الوطنية أقوى من أن تُزال أو يحل محلها فكرة بديلة، حتى ولو كانت فكرة الأمة الإسلامية.

المبحث الثاني:حب الأوطان في فكر الجماعة

مدخل

حب الوطن فطرة إنسانية مركوزة في النفوس، ولم تزل الشعوب على اختلاف عقائدها وميولها وأجناسها متفقة على هذه الفضيلة، متجاوبة المشاعر مع هذه الفطرة، وما قنع الناس بشيء من أقدارهم قناعتهم بأوطانهم، مهما أصاب هذه الأوطان، وما عمرت البلدان إلا بحب الأوطان.

وقد دَعا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذه الفضيلة، وحبب فيها، وضرب المثل الأعلى في ذلك، وصور مشاعره تجاه بلده مكة حين اضطره الظالمون من أهلها للهجرة منها، فقال: "ما أطيبك من بلد، وأحبّك إليّ! ولولا أن قومك أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرك".

وظل الشعور بالحنين إلى مكة ملازما للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يقدم عليه من مكة قادم إلا سأله عنها، واهتز قلبه شوقا إليها، حتى فتحها الله عليه، فدخلها قائدًا فاتحا مُظفَّرا، فخاطبها بنفس الشوق، قائلا: "والله إنك لخيرُ أرض الله، وأحبّ أرض الله إليّ الله، ولولا أني أخرِجت منكِ ما خرجت".

وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرق لحال المهاجرين العاشقين للوطن، ويقدّر عواطفهم في الحنين إلى مكة، ويدعو الله أن يحبِّب الله إليهم وطنهم الجديد المدينة كما حبّب إليهم مكة.وكان حب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمسلمين لوطنهم المدينة عجيبا، لدرجة أَنَّه "كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدرَان المَدِينَةِ أسرع رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا"

وكان يدعو المسلمين للصبر على وبائها وشدة حرارتها ويقول: "لا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيامَةِ أوْ شَهِيدًا"، إلى آخر ما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الصدد. وهو درس في حب الوطن عظيم.

ومما جُبِلت عليه الفِطَر السليمة محبة الأوطان؛ لما لها من فضل على الإنسان في تربيته وتنشئته، وتغذيته وتثقيفه وحمايته، ولما لها من آثار عليه في تشكيل سلوكياته وطبائعه، وإذا كان الوطن هو مهد الإنسان، ومَرتع صباه، ومناط آماله، ومَبزغ فكره، ومسرح نشاطه، ومرعى هواه، ومأمنه من الفزع - فلا بد أن يشعر الإنسان الصادق بحب لهذا الوطن، وبحنين جارف نحوه حين تُبعده عنه ضربات القدر، أو تَحرمه منه أسباب الرزق؛ اعترافًا بجميله، وردًّا لصنيعه ومعروفه.

ولهذا كله جاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأقوال المأثورة - لتحضَّ على حب الوطن، ولتقرِّر أن هذا الحب الفطري لا يمكن أن يتعارض مع محبة الله ورسوله، ولتقول: إن الانتماء للأوطان لا ينافي الانتماء للأمة الإسلامية.

الإمام البنا ودعوى الوطنية

تعددت الدعوات والمذاهب الفكرية في عهد الإمام حسن البنا ، فمن دعوة إلى الوطنية .. إلى القومية .. إلى العلمانية إلى غيرها من الدعوات المتباينة التي شغلت وما زالت ساحة الحياة العامة في المنطقة.

وقد أوضح الإمام البنا في رسالته (دعوتنا) المبدأ المعياري العام للمسلم في التعامل مع القيم والدعوات والمذاهب الفكرية في المجالات الحياتية المختلفة

حيث يقول:

(موقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب وبلبلت الأفكار أن نزنها بميزان دعوتنا فما وافقها فمرحبا به وما خالفها فنحن براءمنه ونحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لاتغادر جزءا صالحا من أية دعوة إلا ألمت به وأشارت إليه).

ومن بين هذه الدعوات التي افتتن الناس بها دعوة (الوطنية) ومن خلالها يشكك الكثيرون في موقف المؤمنين بمرجعية الإسلام للأمة وللكون أجمع من الوطن والوطنية.. وفي السطور القادمة نحاول إلقاء الضوء على هذا المفهوم كما يراه الإمام البنا وكما طبقه الإخوان على أنفسهم فصاروا مثلا يحتذى في الوطنية بمعناها الأوسع والأشمل.

يؤكد البنا أن دعوة الوطنية قد ظهرت بين الشعوب العربية كرد فعل للظلم الذي تعرضت له من قبل القوى الغربية من احتلال وسيطرة على مقاليد الأمور ، وتمثلت هذه الوطنية في خطب الزعماء ومقالات الكتاب حيث انبرت الأقلام والألسن في ثورة حماسية تلهب مشاعر المواطنين .

ويرى الإمام البنا أن الوطنية بمعناها الشامل تتسع في فهم جماعة الإخوان المسلمين ليشمل المعاني الصحيحة التي ينادي بها دعاة الوطنية – حيث يقول رحمه الله:

وطنية الحنين

حيث يوجه البنا حديثه لدعاة الوطنية بأنهم إن كانوا يقصدون بالوطنية مشاعر الحب للأوطان فهذا أمر محمود ولا غبار عليه بل إن الإسلام أمر به ويدلل على ذلك بأن بلالا رضي الله عنه هتف وهو بالمدينة بأسمى آيات الحب والحنين لوطنه مكة ولم ينكر الرسول صلى الله عليه و سلم ذلك

فكان ينشد:

ألاليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذ خروج ليل

وهل أردن يوما مياه مجنة

وهل يبدون لي شامة وطفيل

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع وصف مكة من أصيل فجرى دمعه حنيناإليهاوقال (ياأصيل دع القلوب تقر)

وطنية الحرية و العزة

ومعناها بذل الجهد في تحرير الوطن من المغتصبين والسعي إلى استقلاله وتنمية حب الوطن والعزة والحرية في نفوس أبنائه وهذا المعنى أيضا لا يتعارض مع مبادئ الإسلام التي تؤكد على عزة المسلمين وكرامتهم انطلاقا من قوله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)

وطنية المجتمع

أي تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد و هذه أيضا من مبادئ الإسلام فقد أمر الرسول المسلمين في حديثه بذلك فقال (وكونوا عباد الله إخوانا)

وطنية الفتح

أي فتح البلاد وسيادة الأرض وهذا في الإسلام من أعظم الفتح و أكثره بركة (وَقَاتِلُوهُم ْحَتَّى لاتَكُونَ فِتْنَة ٌوَيَكُون َالدِّين ُللهِ) وكل هذه المعاني السابقة تؤكد أن الإسلام يتفق تماما مع الوطنية بما يمكن معه القول أن الوطنية لمتخرجعنأنهاجزءمنتعاليمالإسلام.

الوطنية الزائفة

ثمة نوع آخر من الوطنية وهو ما أشار إليه بالوطنية الحزبية وهذا النوع مذموم لأنه يعتمد على تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتبادل التهم والمكائد وفق الأهواء والمصالح الشخصية .

بين البنا ودعاة الوطنية

يرتكز الخلاف الأساسي بين البنا ودعاة الوطنية في أمرين أساسيين :

حدود الوطنية : حيث أن الوطنية لدى البنا لا تعترف بالحدود الجغرافية بل تستند إلى العقيدة باعتبار أن كل بقعة من بقاع الإسلام بمثابة وطن للمسلمين عليهم تقديسه وحبه والجهاد في سبيله
وباعتبار أن كل المسلمين أخوة في هذا الدين ومن ثمرات هذه الأخوة اتساع مفهوم الوطنية ليشمل مبادئ سامية ، بينما يرى دعاة الوطنية أن حدود الوطنية تقف عند الحدود الجغرافية فلا مانع من أن تقوى دولة ولو على حساب دولة مسلمة أخرى.
غاية الوطنية: حيث أن غاية دعاة الوطنية هي تحرير بلادهم من المستعمر ثم تقوية الدولة ماديا، بينما غاية الوطنية عند البنا هداية البشر بنور الله وهو يجعلها أمانة في عنق المسلم يضحي من أجلها دون أن ينتظر عرضا من مال أو جاه أو سلطان وبالتالي يكون المسلم أعمق الناس وطنية لأن الذي فرض عليه ذلك هو رب العالمين.

مراتب الوطنية في فكر البنا

يكثر البنا في رسائله من كلمة الوطن وهو يعني به وطن الإسلام بمفهومه الشامل والعام حيث يرى أن هذا الوطن في عرف الإسلام يتدرج على مراحل:

  1. القطرالخاص أولاً.
  2. ثم يمتد إلى الأقطارالإسلاميةالأخرى فكلها للمسلم وطن ودار.
  3. ثم يرقى إلى الدولة الإسلامية الأولى التي شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة فرفعوا عليها راية الله، ولاتزال آثارهم فيها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد، فكل هذه الأقاليم يُسأل المسلم بين يدي الله تبارك وتعالى لماذا لم يعمل على استعادتها.
  4. ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعا (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاتَكُونَ فِتْنَةٌوَيَكُونَ الدِّينُ كله للهِ) وبهذا يوفق الإسلام بين شعور الوطنية الخاصة والعامة بما فيه خير الإنسانية جمعاء.

دوافع العمل للوطنية عند البنا

كان وما زال الإخوان أشد الناس حرصا على خير وطنهم وتفانيا في خدمته حتى أن شاعرا من شعرائهم قال:

ولست أدرى سوى الإسلام لي وطنا
الشام فيها وادي النيل سيان

وكلما ذكر اسم الله فى بلد

عددت أرجاءهم نلب أوطاني

وقد دعا البنا الإخوان الالتزام بهذه الوطنية ففي حديثه عن مصر يقول في رسالته (دعوتنا في طور جديد):

(إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره،وسنظل كذلكما حيينا معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولي في سلسلة النهضة المنشودة وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام).

وقد بذل الإخوان جهودا ضخمة في الدعوة لهذه المفاهيم وتصحيح التصورات الخاطئة حولها وإفهام الناس أن حب الأوطان من الإيمان، حتى أضحي الجهاد الوطني في فترة من الفترات فرض عين على كل الأفراد والهيئات.

الإمام البنا أستاذ الوطنيين

اتسمت الوطنية في شخصية الإمام البنا بملامح خاصة تمثلت في حب الأوطان حيث بدأت بوادر الوطنية لديه إبان ثورة 1919 حين كان تلميذا بالاعدادية لم يتعد ثلاث عشرة سنة حيث كان يرى المظاهرات التي كانت تجوب البلاد وكان كغيره من الطلاب يشترك في هذه المظاهرات وبشعور فياض

حتى أنه بعد أن سمع الأحاديث عن لجنة ملنر واجماع الأمة على مقاطعتها نظم قصيدة طويلة لا يذكر منها إلا بيتين اثنين:

يا ملنر ارجع ثم سل
وفدا بباريس أقام

وارجع لقومك قل لهم

لا تخدعوهم يالئام

وهو في مذكراته تجده يعبر في مواضع كثيرة عن بلده الحبيب مصر بكلمة الوطن وتتكرر هذه الكلمة بشكل يوحي بشعوره الوطني المتأجج.

كما كان يعتقد أن الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه، واستفزه كما استفز غيره ما كان عليه مكتب ادارة شركة قناة السويس من فخامة مع استخدامه المصريين ومعاملتهم كالاتباع المضطهدين وتحدث عن هذه المشاعر في مذكراته والتي كان لها " أثر كبير في تكييف الدعوة و الداعية" على حد قوله.

كما تجده مثلا حين يتحدث عن العَلَم يؤكد أنه في ذاته قطعة قماش لا قيمة لها ماديا، ولكنه يرمز إلى كل معاني المجد والسمو التي يقترن بها الوطن، وأن المسلم يجب عليه أن يحمي هذا العلم ويعظمه ويحترمه باعتباره رمزا لوطنيته.

وفي رسالته (نحو النور) يضع بعض الخطوات الإصلاحية التي تنمي الحس الوطني وتعمل لصالح الوطن ومن بينها:

  • أنه دعا إلى حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج و محاضرات وأغاني في الاذاعة أو التليفزيون كوسائل للتربية الوطنية الخلقية الفاضلة.
  • ورأى أن وضع سياسة ثابتة للتعليم تؤدي إلى نهوض الوطن وترفع مستواه وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة بتربية الروح الوطني .
  • كما طالب بالعناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني والتربية الوطنية وتاريخ حضارة الإسلام. وتتجلى أيضا وطنية البنا في دعوته إلى تشجيع الصناعة الوطنية حيث يقول (ولا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي)

وبدا ذلك واضحا حين قام بتأسيس معهد حراء الإسلامي فوق مسجد الإخوان حيث اشترط للتلاميذ زيا خاصا هو جلباب ومعطف من نسيج وطني وطربوش أبيض من صناعة وطنية وصندل من صناعة وطنية وذلك ليعود التلاميذ على التمسك بالصناعات الوطنية منذ بداية نشأتهم.

ونجده أيضا قد استصدر مجلة النذير في مايو 1938 ، وقد ظهر منها واضحا اتجاه الإخوان الوطني وابتداء اشتراكهم في الكفاح السياسي في الداخل والخارج.

كان هذا غيض من فيض وطنية البنا التي كان من أجمل ثمارها نشأة جماعة الإخوان المسلمون والتي حملت راية الجهاد والكفاح الوطني عبر قرن كامل والتي استشهد البنا في سبيلها وسالت دماؤه على أرض هذا الوطن الحبيب الذي ملأ هواه قلبه فعلمنا معنى حب الأوطان.

فريضة حب الوطن عند الإخوان المسلمين

ومن كوة هذا الفهم الإسلامي الصحيح سارت دعوة الإخوان المسلمين، فحب الوطن عندهم عطاء وبذل وتضحية وفداء، وهي في فكرهم.

  • فريضة لازمة، تعني أن يتفانى الإنسان في خدمة بلده، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للوطن الذي يعيش فيه، تقربا إلى الله، ولهذا أقاموا المساجد والمدارس، وأنشأوا المستشفيات، وسيروا القوافل الطبية، واهتموا بمحو الأمية، وتعهدوا الفقراء بالعلاج وبالدعم المادي والعيني، وتبنوا قضايا العمال والفئات المهمشة والمحرومة، وقضايا العدالة الاجتماعية.
  • وإيمان صادق، يدفع إلى العمل بكل جهد في تحرير الوطن وتخليصه من غصب الغاصبين، وتحصينه من مطامع المعتدين، وتوفير استقلاله، وتحقيق ارتقائه ونهضته، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه "وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ"، ولهذا دفعوا بشبابهم مع الفدائيين الوطنيين لقتال الاحتلال حتى أرغموه على الجلاء من مصر.
  • وعمل مخلص لتقوية الرابطة بين أبناء الوطن، وتعاون صادق في تحقيق مصالحه؛ استجابة لتوجيه القرآن العظيم "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا"، وتطبيقا لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانا"، ولذلك أسهموا في كل مجالات العمل الأهلي والتطوعي، وأنشأوا آلاف الجمعيات الأهلية لتنمية الأوطان، وشهدت النقابات ونوادي هيئات التدريس والاتحادات الطلابية والنقابية قفزة هائلة وخدمة متميزة باشتراكهم في إدارتها.
  • وحِرْص أكيد على وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، كفل الإسلام -وهو دين الوحدة والمساواة- تقوية الروابط بينهم، ما داموا متعاونين على الخير "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".

وقد ساهم عمل الجماعة طوال تاريخها في بلورة جامعة وطنية تنطلق من الإسلام ذاته، تحقق الوحدة والتعاون، وتجعل لغير المسلمين كل حقوق المواطن وواجباته.وأما شبهة أن (لا أهمية للأرض في نظر الإسلام)!!

فيرد عليها الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية):

"هذا التصور غير صحيح بالنسبة للإسلام، الذي يمزج الروح بالمادة، ويعتبر الإنسان مخلوقا مزدوج الطبيعة: فهو قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، كما حدثنا القرآن عن خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ۞ فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين". (ص: 71/72)
وقد أهبط الله آدم إلى الأرض وسخرها له ولذريته، وجعلها له مهادا وفراشا وبساطا، وقال: "ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين". (سورة الأعراف، آية 24) وإذا كان هذا شأن الأرض بصفة عامة، فإن الأرض التي يعيش فيها الإنسان ويكون فيها مولده ونشأته وتعليمه وعلاقاته وصداقاته يكون لها شأن خاص".

ثم يقول:

"وهذه الأرض أو هذه البلدة، لها حقوق على أهلها: أن يتعاونوا فيما بينهم على الخير، وأن يتكافلوا في السراء والضراء، وأن يتناصروا إذا دهمهم عدوّ، يريد أن يحتل أرضهم، ويفرض سلطانه عليهم بغير إرادتهم". ومن هنا كان الإخوان المسلمون أعمق الناس وطنية، وأشد الناس حرصا على خير أوطانهم وتفانيا في خدمة قومهم.

وقد أعلن الإخوان في كل المناسبات أن لهم هدفين أساسيين :

  1. أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، سياسي أو اقتصادي أو روحي، وذلك حق طبيعي، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
  2. وأن تقوم في هذا الوطن الحر دولة ديمقراطية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه، وتؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها، تلتزم بحراسة حدود الوطن، وصيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة، وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، وتحقيق العدالة الاجتماعية، حتى يشعر كل أبنائها بأنه قد أصبح لهم في هذا الوطن ما يعنيهم أمره، ويهمهم شأنه.

ويقول المرشد العام السابع للجماعة الأسير المعتقل طغيانا وتكبرا وعدوانا في سجون الظالمين المضيعين لحقوق الأوطان الدكتور محمد بديع فك الله اسره واسر اخوانه اجمعين تحت عنوان "الهجرة وحب الأوطان"

لم تكن هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رحلةً خلويةً، ولا سياحةً ترفيهيةً، يعود الإنسان بعدها إلى بيته منشرحَ الصدر، متجدِّدَ النشاط لاستئناف العمل واستمرار الحياة، ولم تكن كذلك سعيًا إلى الرزق وسعة العيش، يغير بها الإنسان من حاله ويوسع على نفسه وعياله، كما لم تكن بعدًا عن وطنٍ وانتقالاً إلى وطنٍ أفضل منه..

بل هاجروا من وطنٍ أحبُّوه بكل مشاعرهم، وأرضٍ طاهرةٍ قدَّسوها بكل ما تحمل من تراث الأجداد وميراث الأنبياء، وبما تحويه من أقدس بيتٍ يُعبَد فيه الله "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)" (آل عمران)..

حرمٍ آمنٍ تُجبى إليه ثمراتُ كل شيء، وتأتيه الوفود من كل فجٍّ عميقٍ.. تهوي إليه الأفئدة، ويأمن الناس فيه على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويَحرُم فيه القتال، بل قتل الطير أو قطع النبات "أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (القصص: من الآية 57) "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ..." (العنكبوت: من الآية 67) "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)" (قريش)..

وطن أحبُّوا أن يرفعوا شأنه ويقدِّسوا حرماته ويُطهِّروه من رجس الأوثان وعبادة الأصنام، ويُخرجوه من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان.. وطنٍ أحبُّوا أن يرفعوا شأن الإنسان فيه عقلاً وفكرًا، وخلقًا وسلوكًا "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8)" (الانفطار)..

وطنٍ أرادوا أن يُصلحوا نُظُمه الاجتماعية والاقتصادية، فيُساووا فيه بين الناس دون تمييزٍ بجنسٍ أو لونٍ أو عقيدةٍ، ويُعطوا الضعفاء من النساء واليتامى والأرقاء حقوقهم التي هضمها الأقوياء والمتجبِّرون، ويُنصفوا الفقراء من ظلم الأغنياء، ويُطهِّروا المعاملات من الربا والاحتكار، ويُطهِّروا الأخلاق من الخنا والفجور والعربدة ورجس الخمور..

وطنٍ أرادوا أن يضمُّوا فيه القوى المتنافرة والعصبيات المتناحرة إلى وحدةٍ تجمع الشمل وتوحِّد الصف وتوفِّر القوى ويرضاها الرب الغفور "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)" (الأنبياء).. "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا" (آل عمران: من الآية 103).. "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)" (الحجرات)..

وطن أرادوا أن يرفعوا شأنه ويرتقوا بنُظُمه وشرائعه وأعرافه وقوانينه، ويُنظِّموا العلاقات بين قاطنيه بالعدل والمساواة والقسطاس المستقيم "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ" (النساء: من الآية 58).. "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)" (النحل)..

وطن كانوا يدعون أهله بالحكمة والموعظة الحسنة، دعوةً ربانيةً، سلميةً رحمانيةً "وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)" (يونس).. لم يرفعوا سلاحًا، ولم يكرهوا أحدًا "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: من الآية 256). "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف: من الآية 29)..

لم يطلبوا من أحدٍ أجرًا ولا شكورًا "قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى" (الشورى: من الآية 23)، بل هم الذين تحمَّلوا الإيذاء والإهانة، والجَور والظلم، والاضطهاد والحرمان الذي وصل إلى حد الحصار والتجويع في شِعب أبي طالب.. عُذَّبوا وطوردوا وقُتل منهم من قُتِل، حتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أطهر خلق الله وأرحمهم وألينهم؛ دبَّروا لقتله غيلةً ومكرًا "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال 30).

ويا لها من كلماتٍ تلك التي ودَّع بها الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وطنه الحبيب وبلدته المباركة التي نما وترعرع بها، وتلك البقاع التي رأت مبعث النور ومنازل الوحي في غار حراء وجبال مكة وشِعابها!.. التفت إليها صلى الله عليه وسلم ليقول: "والله، إنك لأحَبُّ أرض الله إلى الله، وأَحَبُّ أرض الله إليَّ. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".

ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استُقبل أروع استقبالٍ من أهل المدينة التي استضاءت بنوره وتضوَّعت من هداه، إلا أن الحنين إلى مكة لم يفارقه هو ولا أصحابه الكرام، حتى كان بلال ينشد في مرضه:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً
بوادٍ، وحولي إذخرٌ وجليلُ

وهل أَرِدَنَّ يومًا مياهَ مجنةٍ

وهل يبدوَن لي شامةٌ وطفيلُ

حنينٌ إلى وطنه الأصيل، حتى إلى الآبار العذبة والجبال الشامخة.. حتى إلى الجماد الذي يسبح بحمد خالقه.. حنينٌ وحبٌّ دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرفع يده إلى الله تعالى بالدعاء: "اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد.. اللهم وصحِّحها لنا وبارك لنا في مُدّها وصاعها".

ما أحوجَنا إلى هذا الحب لبلادنا التي أنعم الله علينا بها!.. نقدِّس مكانتها، ونحفظ حرماتها، ونُصلح من شأنها.. نرفع عمرانها، ونُعلي بنيانها.. نزرع الأرض البوار، ونستثمر البحار والأنهار.. نُصلح كل ما اعوجَّ من شئونها، ونقيم الحق والعدل، ونضع الميزان ونُعلي من كرامة الإنسان، وهذا يتطلب منا جهدًا وجهادًا، وصبرًا واحتسابًا، وقبل ذلك حب عميق لما أنعم الله علينا من بلادٍ كريمة "بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ" (سبأ: من الآية 15).

فإلى العمل والجهاد، والألفة والاتحاد لرفعة البلاد وإسعاد العباد.. المجاهد من جاهد نفسه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.

موجز مفهوم المواطنة في فكر الجماعة

يُقصد بالمواطنة:

العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية دون أدنى تمييز قائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري.
ولا يستطيع باحث أو دارس مُنصف لفكرة "الوطن والوطني " أن ينسى أو يتناسى جهود الإمام حسن البنا في هذا المضمار، فقد اتضح مفهوم الوطن والوطنية لديه من خلال النظرة الموسوعية التي ركز عليها في تناوله لهذا المفهوم، واعتباره أن الوطن والوطنية جزء لا يتجزأ من فهم المسلم لإسلامه وتجرده وحبه له.
والمتتبع لجهود الإمام البنا يلمس أنه يحب وطنه، ويحرص على وحدته القومية بهذا الاعتبار، ولا يجد غضاضةً على أي إنسانٍ أن يخلص لبلده، وأن يفنى في سبيل قومه، وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عز وفخار، كما يحترم قوميته الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرى بأسًا أن يعمل كل إنسانٍ لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه.

يقول الإمام الشهيد رحمه الله:

أما مصر، فإنها قطعة من أرض الإسلام، وزعيمة أممه (رسالة إلى الشباب).. وفي المقدمة من دول الإسلام وشعوبه (الإخوان المسلمون تحت راية القرآن)..
(ونحن نرجو أن تقوم في مصر دولة مسلمة، تحتضن الإسلام، وتجمع كلمة العرب، وتعمل لخيرهم، وتحمي المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان، وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته.. فالمصرية لها في دعوتنا مكانتها ومنزلتها وحقها في الكفاح والنضال.. ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله..) (رسالة دعوتنا في طور جديد).

والإمام البنا يرفض الوطنية إذا أُريد بها تقسيم الأمة طوائف متناحرة ، تُفسَّر وفق مصالح شخصية تستغل من قِبل العدو لمنع اتصالِ بعضهم ببعض وتعاونهم، ويرى أن هذه وطنية لا خيرَ فيها وزائفة؛

يقول:

"وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضيعة أملتها الأهواء وشكَّلتها الغايات والأغراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً يُفرِّقهم في الحق، ويجمعهم على الباطل
ويُحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله فلا يقصدون إلا داره ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خيرَ فيها لدعاتها ولا للناس، فها أنت ذا قد رأيت أننا من دعاةِ الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوة الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام".رسالة دعوتنا، ص21

ومع حرص الإمام البنا دوما على سعي الإخوان لكي يكونوا أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم، وتفانيًا في خدمتها، واحترامًا لكل مَن يعمل لها مخلصًا، إلا أنه يقرر أن هناك فروقًا بين الوطنية كما يفهمونها، وبين دعاة الوطنية المجردة.

فوطن المسلم يمتد لكي يشمل في حسهم ومشاعرهم ويحظى برعياتهم وجل همهم، كل أرض فيها مسلمون، فأساسَ وطنية المسلم ينبع من عقيدته الإسلامية، فالإسلام قد جعل منبع الشعور الوطني، العقيدة لا بالعصبية الجنسية أو الحدود الجغرافية فقط، وجعل هدف المسلم، العمل للخير من أجل.

يقول الإمام البنا:

"أما وجه الخلاف بيننا وبينهم (دعاة الوطنية الجغرافية فقط) فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطني عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.
ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطرٍ إسلامي وإنما نطلب القوة لنا جميعًا، ودعاة الوطنية المجردون لا يرون في ذلك بأسًا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض". رسالة دعوتنا، ص21 - 22

ويقول الإمام البنا كذلك:

"يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا؛ ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ" (الأنفال: 39)، وبذلك يكون الإسلام قد وفَّق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة، بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعًا: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" ... (الحجرات: 13). رسالة نحو النور – ضمن مجموع الرسائل- ص71

الموقف من الوحدة الوطنية (الأقليات)

تقدَّم أن الوطنية عند الإخوان تنطلق من العقيدة الإسلامية، وذات مضمون إسلامي؛ مما قد يؤدي إلى تساؤل عن الموقف لغير المسلمين في الوطن الجغرافي (المصري مثلا)ر فهل لهم حقوق المواطن وواجباته كاملاً، أم أن القول بالمضمون الإسلامي للوطنية يؤدي إلى انحصار بعض تلك الحقوق عن غير المسلمين؟.

ويتضح من خلال استقراء الأفكار الإمام البنا في هذه النقطة أنها كانت تأخذ حيزًا غير قليل من بياناته وتوعيته، مما يشير إلى أنها كانت تُمثِّل اهتمامًا له، والمنهج السائد في تناوله جميعًا هو بيان موقف الإسلام- عقديًا وتاريخيًا- من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.

ففي أكثر من رسالة وخطاب يتناول الإمام البنا الموقف من الأقباط، فيرد على مَن يقول إن فهم الوطنية بهذا المعنى السابق يُمزِّق وحدة الأمة؛ لأنها تأتلف من عناصر دينية مختلفة، بأن الإسلام دين الوحدة ودين المساواة، وأنه كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ" (الممتحنة 8)، فمن أين يأتي التفريق إذن؟. رسالة دعوتنا - ص22

وفي رسالة "نحو النور": يذكر الإمام البنا أن الإسلام يحمي الأقليات عن طريق:

أنه قدس الوحدة الإنسانية العامة، وقدس الوحدة الدينية العامة بأن فرض على المؤمنين به الإيمان بكل الرسالات السابقة، ثم قدس الوحدة الوطنية الخاصة من غير تعدٍ ولا كبْر، ويري أن هذا (مزاج الإسلام المعتدل) لا يكون سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل يكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط

ويذكر أن الإسلام حدد بدقة من يحق للمسلمين مقاطعتهم وعدم الاتصال بهم، وهم الذين يقاتلونهم في الدين ويخرجونهم من ديارهم ويظاهرون علي إخراجهم، يقول:

"فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة:8)، فهذا النص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم".

ويؤكد الإمام البنا على الفكرة نفسها في رسالته للشباب، فيقول:

"فيخطئ مَن يظن أن الإخوان دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة"، ويستدل بأن "الإسلام عني أدق عناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان، وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم، وبإنصاف الذميين وحسن معاملتهم (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)
فلا ندعو إلى فرقةٍ عنصريةٍ ولا إلى عصبية طائفية، ثم يؤكد الإمام البنا المعنى السابق للوطنية فيقرر: "ولكننا إلى جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا، ونهدر من أجلها مصالح المسلمين وإنما نشتريها بالحق والعدالة والإنصاف وكفى". رسالة إلى الشباب - ص99

ويمكن إجمال نظرة الإمام البنا والإخوان للأقباط في عاملين أساسيين هما:

الجانب العقائدي:

وفيه التزام الإخوان بما جاء في القرآن الكريم والسنة من أن أهل الكتاب أرسل الله لهم سيدنا عيسى - عليه السلام - نبيًا ورسولا وأنزل معه الإنجيل، وهم أقرب للمسلمين من اليهود فقد قال الله فيهم: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليهود والَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْبَانًا وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" (المائدة : 82)، وهذا هو المفهوم العام والذي تربى عليه الإخوان وهو موجود في مختلف أدبياتهم.

الجانب المعاملاتي:

وفيه اعتبر الإخوان أن الأقباط لهم كافة حقوق المواطنة؛ حيث إنهم جزءٌ من نسيج الوطن، فهم شركاء في هذا الوطن؛ ولذلك جاءت علاقة الإخوان بالأقباط عمومًا علاقة طيبة كباقي فئات المجتمع، ولم يُعكِّرها إلا تدخل بعض المغرضين الذين يكرهون الخير للبلاد، أو متعصبين ضد كل ما هو إسلامي، يحكمهم في ذلك الهوى والحقد الشخصي، أو فئة فهمت الإسلام فهمًا خطئًا.
وقد سارت الجماعة طوال تاريخها ملتزمة بهذا لافهم بل واكدددته مرات عديده كان آخرها في بيانها الجامع ...

قضية الموقف العام من الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين

وهنا نبادر فنقول، إن موقفنا من هذه القضايا ومن غيرها ليس مجرد موقف انتقالي واختياري قائم علي الاستحسان، وإنما هو موقف منتسب الي الإسلام ملتزم بمبادئه صادر عن مصادره... وعلي رأسها كتاب الله تعالي والسنة الصحيحة الثابته عن نبيه صلي الله عليه وسلم

والإخوان المسلمون يرون الناس جميعا حملة خير، مؤهلين لحمل الأمانة والاستقامة علي طريق الحق، وهم لا يشغلون أنفسهم بتكفير أحد إنما يقبلون من الناس ظواهرهم وعلانيتهم ولا يقولون بتكفير مسلم مهما أوغل في المعصية، فالقلوب بين يدي الرحمن، وهو الذي يؤتي النفوس تقواها، ويحاسبها علي مسعاها.

ونحن الإخوان نقول دائما أننا دعاة ولسنا قضاة، ولذا لا نفكر ساعة من زمان في إكراه أحد علي غير معتقده أو مايدين به، ونحن نتلوا قوله تعالي : لا إكراه في الدين.

وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي موقف واضح وقديم ومعروف... لهم مالنا وعليهم ماعلينا، وهم شركاء في الوطن، وأخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن، المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي

والبر يهم والتعاون معهم علي الخير فرائض إسلامية لا يملك المسلم أن يستخف بها أو يتهاون في أخذ نفسه بأحكامها، ومن قال غير ذلك أو فعل غير ذلك فنحن برءاء منه ومما يقول ويفعل... إن ساسة العالم وأصحاب الرأي فيه يرفعون هذه الأيام شعار "التعددية" وضرورة التسليم بإختلاف رؤي الناس ومذاهبهم في الفكرو العمل.

والإسلام، منذ بدأ الوحي الي رسول الله صلي الله عليه وسلم يعتبر إختلاف الناس حقيقة كونية وإنسانية، ويقيم نظامه السياسي والاجتماعي والثقافي علي أساس هذا الاختلاف والتنوع " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"

والتعددية في منطق الإسلام تقتضي الاعتراف بالآخر، كما تقتضي الاستعداد النفسي والعقلي للأخذ عن هذا الآخر فيما يجري علي يديه من حق وخير ومصلحة .. ذلك أن " الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها"

لذلك يظلم الإسلام والمسلمين أشد الظلم من يصورهم جماعة مغلقة منحازة وراء ستار يعزلها عن العالم، ويحول بينها وبين تبادل الأخذ والعطاء مع شعوبه... والإخوان المسلمون يؤكدون - من جديد - التزامهم بهذا النظر الإسلامي السديد الرشيد... ويذكرون أتباعهم والآخذين عنهم، بأن علي كل واحد منهم أن يكون - فيما يقول ويعقل - عنوانا صادقا علي هذا المنهج... يألف ويؤلف...

ويفتح قلبه وعقله للناس جميعا ... لا يستكبر علي أحد... ولا يمن علي أحد... ولا يضيق بأحد... وأن تكون يده مبسوطه الي الجميع بالخير والحب والصفاء، وأن يبدأ الدنيا كلها بالسلام... قولا وعملا ... فبهذا كان رسولنا صلي الله عليه وسلم إمام رحمة ومهداه الي العالمين... وبهذا وحده يصدق الانتساب اليه صلي الله عليه وسلم والي الحق الذي جاء به..ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك،وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون.

الإخوان المسلمون
القاهرة في : 30 من ذي القعدة 1415 - 30 من أبريل 1995
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
والله اكبر ولله الحمد