تدجين المصريين بين الاحتلال وحكم العسكر (2/3)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تدجين المصريين بين الاحتلال وحكم العسكر (2/3)


مفهوم كلمة تدجين

وفق القاموس جاء معنى تدجين بمعنى ترويض أو السيطرة، وتَدْجِين المعارضة ونحوها: سيطرة السلطة عليها في نطاق دور مرسوم لها.

ويرى هاني عبد الهادي أن تدجين الشعوب معنى يشير مصطلح التدجين بالأساس إلى اتخاذ قطيع من الحيوانات وتربيته وإمداده بالغذاء ومن ثم استعماله، وهو بهذا المعنى يتشابه مع مصطلحات: الاستئناس – الاقتناء – التسمين .. إلخ بحيث يكون الحيوان الداجن، تحت إمرة وتحكم من يسوقه ويقوده.

وتدجين الشعوب قريب من الترويض الذي يقوم به الإنسان لترويض الحيوانات حيث تسعى السلطة أو الحاكم أى ترويض الشعوب حتى لا تنتفض أمامها أو تطالب بكل حقوقها

موقف القوى السياسية من سياسات المحتل الانجليزى

حتى تتمكن سلطة الحكم في مصر من السيطرة على الشعب، كان لابد من إعادة صياغة الشخصية المصرية لتكون أكثر إنقياداً واستسلاماً للوضع القائم. وهذا ما يسمى بالتدجين، بدأ في ممارسته على الشعب المصرى، محمد على حين تولى حكم مصر في 1805، واستمر على ذات السياسة أولاده من بعده، واستطاعت الاسرة العلوية بالفعل في تغيير الكثير من خصائص المصريين، فكانوا أكثر قابلية للاستعمار

مما سهل عمل الاحتلال الانجليزى، والذى جاء ليمارس نفس الدور على المصريين.. فاستمر الاحتلال الانجليزى لأكثر من سبعة عقود! فلم يكن الخطر الذى يمثله الاحتلال الانجليزى فقط في السيطرة على الجيش أو الاقتصاد أو السياسة، إنما في تدجين المواطن المصرى.. وفى المقابل اختلفت ردود فعل القوى السياسية الموجودة في ذلك الوقت (1924-1952) إزاء تلك السياسات..

لم تتمكن القوى الليبرالية من مقاومة تلك السياسات، برغم أنها حاولت. لكن الذى تمكن بالفعل من إفشال سياسات التدجين تلك، بل وعمل في الاتجاه المعاكس لها، كان الاتجاه الاسلامى، والذى تمثل في الأساس بجماعة الإخوان المسلمين، والتي تأسست في عام 1928.

المصريون قبل التدجين.. كيف كانوا؟

حادثتان تبينان ما كان عليه المصريون قبل سياسات الاحتلال الانجليزى التي استهدفت بالأساس (تدجين المواطن) أي خلق المواطن المستأنس..

الأولى: عام (1798-1801) حين أجبر المصريون الجيش الفرنسى على الفرار من مصر بعد ثلاث سنوات فقط من احتلالهم لها. لكن محمد على والى مصر (1805-1848) تكفل بإعادة تأهيل المصريين! فكسر (بأس الاهالى)!

الثانية: في ثورة 1919 والتي قام فيها المصريون بإشعال الأرض نارا تحت أقدام المحتل الانجليزى، حيث قام الفلاح المصري المسالم بقطع خطوط السكك الحديدية التي يستخدمها الجيش الانجليزى، مما أرعب جيش الاحتلال، فاضطروا لاعادة سعد زغلول ورفاقه من المنفى، وكانت هذه فرصة لا تعوض لـحزب (الوفد) لاستثمارها فى استرداد الشخصية المصرية، لكن هذا لأسباب عدة لم يحدث..

هاتان حادثتان تبرزان حقيقة الشخصية المصرية قبل تدجينها من قِبل المحتل الأجنبى والحاكم المحلى على السواء! شخصية تتأبى متمردةً على أى محتل أجنبى، والتى كان من الممكن استثمارها لمواجهة سلطة المستبد المحلى كذلك. الا أن سياسات المحتل الانجليزى تمكنت من تطويع المواطن المصرى، لدرجة أن اللورد كرومر وهو متعهد الاحتلال الانجليزى فى مصر، يصف الشعب المصرى بأنه صار مقتنعا أن (بريطانيا هي من ستنقذ مصر)! وأن المصريين لا يستطيعوا أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.. (1)

ونتيجة لسياسات (التدجين) تلك، تم نزع صفة (المواطنة) عن المصريين، وتعويق تحولهم الى (مجتمع) واحد، فأصبح المصريون فى بلدهم (رعايا) لا (مواطنون)، بما يعنى في الأخير إستحالة اجتماع المصريين على قضية أو تبنيهم رأياً جمعياً في إدارة بلادهم أو فى اختيار من يحكمهم.

وقد نفى اللورد كرومر في كتابه "مصر الحديثة" وجود شعب مصري من الأساس! وتحدث في المقابل عن وجود (سكان لمصر) وهم عبارة عن مصريين ينتمون الى أخلاط من المسلمين بتنوعاتهم (فلاحون وعرب ونوبيون ومغاربة وأتراك وشراكسة وغيرهم) ومن المسيحيين بتنوعاتهم (أقباط وسريان وأرمن) بالاضافة الى الأقليات اليهودية، ثم أسهب متحدثا عن الاختلافات الثقافية بين التقليديين والمتغربين وبين الريف والمدن، مما يَحُول دون ظهور أي وعي جمعى لهؤلاء (الخليط الهجين) (2)

وتمثلت سياسات تطويع المواطن المصرى التى مارسها الاحتلال الانجليزى، فى

  1. تحقير واستبعاد الإسلام كهوية
  2. السيطرة على التعليم
  3. السيطرة على الاعلام

بما يؤدى في النهاية الى نشوء نخبة تتماهى مع المحتل في تطويع المواطن المصرى والتطبيع مع سياسات الاحتلال وأهدافه. لم تكن ردود أفعال القوى السياسية إزاء تلك السياسات واحدة، فمنهم من عارضها، ومنهم من تماهى معها.

وهكذا نشأ خلال الفترة (1924-1954) إتجاهان داخل الحركة الوطنية المصرية:

الاتجاه العلمانى الليبرالى

ترعرع الاتجاه الليبرالى في مصر عقب ثورة 1919، وقاد عمليا الجماعة الوطنية المصرية، وتمثل هذا الاتجاه بالأساس في حزب الامة ثم في حزب الوفد، وقد دفع هذا التيار بوجود هوية مصرية واحدة تجمع كل المصريين بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية..

ركز هذا التيار على قضية الجلاء ثم الدستور لاحقاً، واستغرق هذا التوجه جُلّ اهتمامه، إلا أنه تماهى مع سياسات الاحتلال فيما يتعلق باستبعاد الاسلام كهوية المصريين، وبرز من هذا الاتجاه أحمد لطفى السيد وقاسم أمين وعلى عبد الرازق وطه حسين. وفيما يتعلق بقضية تهويد فلسطين، لم يُسَجّل اى موقف من رموز هذا التيار ضد هذه السياسة الانجليزية، بل ان احمد لطفى السيد حضر احتفال افتتاح الجامعة العبرية فى تل أبيب عام 1925! (3)

بعد ثورة 1919، برز حزب الوفد كوريث لحزب الامة، حيث اعتبر نفسه وكيلا عن الامة، لا مجرد فصيل أو تيار من ضمن كتلة أكبر وأوسع. ولعل هذا ما يفسر رفض سعد زغلول باستمرار بعد صدور دستور 1923 إعتبار الوفد حزبا سياسيا كغيره من الأحزاب، مثل الأحرار الدستوريين والحزب الوطني..

حاول حزب الوفد مقاومة سياسة الانجليز فى التعليم، الا أنه لم يفلح، حيث أن السيادة على الارض كان للاحتلال الانجليزى.. ففي عام 1938 ألغت وزارة المعارف ، تدريس اللغة الأجنبية من منهج السنة الأولى الابتدائية، وفي عام 1945 ألغيت اللغة الأجنبية من السنة الثانية، فأتاح ذلك للتلاميذ في المدارس الأولية أن يلتحقوا بالتعليم الابتدائي حتى سن العاشرة.

إلا أن هذه المحاولات والإصلاحات، لم تستطع القضاء على الأهداف والسياسة التعليمية التي فرضها الاحتلال الإنجليزي على مصر والتي استمرت حتى عام 1952، وتمثلت في: التمييز الطبقي، وربط التعليم بالوظيفة، والازدواجية التعليمية، والتغريب الثقافي، وإهمال الهوية في التعليم. (4)

الا أنه بعد وفاة سعد زغلول اندلع الشقاق بين رفاق الامس، فتولى محمد محمود الوزارة فى عام 1928 لعام واحد، فحل مجلسى الشيوخ والنواب، وأجل الحياة النيابية لمدة ثلاثة سنوات! واستصدر خلال ذلك قانون يمنع الطلبة من الاشتغال بالسياسة او المظاهرات! وكان وزير المعارف آنذاك احمد لطفى السيد المسمى بابى الليبراليين! وكان غالب هؤلاء من أبناء الاعيان وكبار ملاك الاراضى، ولم يستطع هؤلاء قيادة عمل وطنى يسترد المصرى إحساسه بوطنه وواجبه فى طرد المحتل! (5)

حدثت مراجعات فكرية في صفوف التيار الليبرالي في الثلاثينيات، طالت عدداً من أبرز رموزه، كان من مظاهرها توجيه نقد لاذع لحضارة الغرب ولحركة التغريب، وفي طليعة "المراجعين" هؤلاء كان د. هيكل، الذي عبّر عن قناعته بأن الغرب غير مخلص لقضية "الحرية"، وأن قضيته هي "الاستعمار"، وأن سياسات التعليم التي اتبعتها بريطانيا في مصر، لم تهدف إلى شيء سوى تخريج (مواطنين مطواعين).

وشارك توفيق الحكيم في التعبير عن خيبة أمل مثيلة، بفشل التغريب في مصر، ففي روايته "يوميات نائب في الأرياف" الصادرة عام 1937م، تعبير عن ضرورة إعادة النظر في جدوى التغريب، ومدى صلاحيته لتحضير الجماهير الريفية (6)

لكن فى عام 1928، نشأت جماعة الإخوان المسلمين، والتى انتهجت لنفسها مساراً آخر فى مواجهة سياسات تدجين المصريين، لتقود بهم حملة نضالية واسعة..

التيار الاسلامى.. الإخوان المسلمون

مثَّل هذا الاتجاه نقلة بعيدة المدى عميقة الأثر، في تحرير الشعب المصرى من تبعيته للمحتل الاجنبى بالعموم واستسلامه لسياساته. كانت البدايات الأولى لذلك التيار مع نشوء (الحزب الوطنى) لزعيمه مصطفى كامل، والذى دعى الى الوحدة الإسلامية، والتأكيد على إنتماء مصر للدولة العثمانية، ونشر العديد من مقالاته فى جريدة المؤيد لصاحبها الشيخ عبد الله النديم، ندد فيها بسياسات الاحتلال الانجليزى فى مصر، لكن هذا التيار لم يستطع أن يقف طويلا أمام الاحتلال الانجليزى وأذنابه.

لم تتنكر جماعة الإخوان المسلمين لعروبتها أو لقضية الاستقلال الوطنى وجلاء المحتل الاجنبى، لكنها دعت في ذات الوقت الى تأسيس ذلك الاستقلال على أساس احترام تعاليم الإسلام وإحياء دوره الحضارى والقيمى.

فعلى عكس التيار الليبرالى الذى كانت قضيته الرئيسية جلاء المحتل ثم إقرار الدستور، ومن ثم لم يُعنى ذلك التيار آنذاك كثيرا بالإصلاح الاجتماعى ، فبقى هذا الميدان فارغا ينتظر من يملأه، حتى جاءت جماعة الإخوان المسلمين فسلكت مسلكا آخر في تحقيق تلك الأهداف وغيرها، وهو تحرير المواطن المصرى واستعادة دوره أولا، كمقدمة للتحرير الاقتصادى والسياسى الكامل.

فقد جعل حسن البنا الهدف الرئيسي له هدفا تربويا وهو:

تكوين جيل مسلم، يبدأ بتكوين الفرد المسلم، الذي يكون الأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلامية، فالأمة الإسلامية، فأستاذية العالم، وكتب مفكرو وكتاب الإخوان وقادتهم من بعده، بمذكرات ومقالات تربوية لمواجهة كل مظاهر القصور السابقة
حيث غدت تكون فكرا تربويا خاصا بهم. فأنشأ الإخوان المسلمون مدارس كثيرة على النهج التربوي الصحيح، منها: مدرسة غار حراء للبنين، وأمهات المؤمنين للبنات، ومدارس الجمعة للأشبال، ومدارس الجيل الجديد، وبعض المدارس الابتدائية والثانوية، ومدارس محو الأمية، ومشاريع محو الأمية التي نفذوها .. وغير ذلك، وكان يشرف على هذه الأعمال لجنة التربية ولجنة محو الأمية بالمركز العام للإخوان المسلمين، وفروع المعلمين التابع لقسم المهن .. (7)

وكان للاخوان المسلمين دور كبير مكافحة الأمية، ففي عام 1946 شارك الاخوان بطلب من الحكومة في مكافحة الأمية أثناء تولى العشماوى (باشا) وزارة المعارف.. ثم انطلق الإخوان المسلمون بعد ذلك فى أنشطة رياضية وتوعوية للشباب المصرى، نفخت فيهم روحا جديدة، فقام الإخوان المسلمون بتنظيم الشباب فى نشاط الكشافة ثم الجوالة ، وبلغت الاعداد المنتسبة لنشاط لجوالة الإخوان 1941 حوالى 2000 جوال، ثم تضاعفت حتى وصلت فى عام 1947 الى 70000 جوال..

وبينما كان الشباب ينخرطون فى فرق شبه عسكرية لكل من حزب الوفد (سُميت بالقمصان الزرقاء) وجماعة مصر الفتاة (سُميت بالقمصان الخضراء) وصارت بينهما خصومة واحتكاك، كان شباب الإخوان المسلمون ينخرطون فى أنشطة اجتماعية وإغاثية..

ففي عام 1945 تصدى الإخوان المسلمون لانتشار وباء الملاريا فى صعيد مصر، جنبا إلى جنب مع رجال الصحة وهيئات الهلال الأحمر. وبعدها بعامين يشتد انتشار وباء الكوليرا في الوجه البحرى، فوضع الإخوان تحت تصرف المسئولين في الدولة حوالى 70000 جوال لإغاثة المصريين من هذا الوباء.

وقد أشاد وزير الصحة الدكتور نجيب اسكندر بجهود جوالة الإخوان المسلمين فى دفع هذا الوباء عن الشعب المصرى، كما رأت وزارة الشئون الاجتماعية أن تمنح شباب الإخوان مكافأت مالية لدورهم الاغاثى، ولكن الإخوان كانوا يرون أنهم يقومون بواجبهم الوطنى، فشكروا الوزير ولم يقبلوا المكافأة. كانت هذه روحاً جديدة لم يألفها الشعب المصرى من شبابه منذ مدة طويلة..

ثم إنتقل الإخوان المسلمون الى مستوى آخر من العطاء، وهو العمل المقاوم.. فكانت معارك الإخوان المسلمين فى حرب فلسطين عام 1948، والتى أبلى فيها الإخوان المسلمون بلاء حسن، شهد به قادة الجيش المصرى آنذاك. كان كان للإخوان المسلمين دور كذلك فى معارك القناة ضد الانجليز في القناة، فبعدما تولى المستشار حسن الهضيبي قيادة الإخوان أرسل الملك فاروق الأول رسالة يطلب من المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي تشريفه بقصر عابدين وبعدها بعام واحد كانت الجماعة هي الداعم والظهير الشعبي لحركة الجيش ضد الملك فيما سُمي بعد ذلك بثورة يوليو) (8)

ولم تكن كل تلك الادوار فى تلك الفترة (1928-1952) سوى ثمرة لرؤية مختلفة تبناها الإخوان المسلمون فى قضية الحرية والاستقلال، استطاع بها الإخوان المسلمون أن يجذبوا أعداداً وافرة من الشعب المصرى، بشكل لم يحدث لاى قوة سياسية من قبل، حتى ولو كان حزب الوفد ذو الشعبية الكبيرة.

لقد أفسد الاخوان المسلمون سياسات عقود طويلة من القهر، طوال حكم الاسرة العلوية (محمد على وأولاده)، بالاضافة لسنوات الاحتلال الانجليزى. ولا زالت جماعة الإخوان المسلمين رغم ما ألمَّ من محن وشدائد ترى فى الشعب المصرى أكبر ذخيرة لصنع مستقبل مشرف وحياة كريمة، معتمدين فى سبيل ذلك على الاسلام كهوية ومرجعية، بالاضافة لعمل دعوى وتربوى واسع وسابق على العمل السياسى والمقاوم.

المصادر

  1. الفيلق المصرى – جريمة اختطاف نصف مليون مصري
  2. المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية
  3. الرأسمالية اليهودية وتحييد النخبة الثقافية المصرية
  4. تعليم الاستبداد: إخضاعٌ وتدجين
  5. الزعامات السياسية المصرية – رفعت السعيد
  6. كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟
  7. التربية السياسية عند الإخوان المسلمين نقلا عن ويكيبديا اخوان،
  8. الإخوان المسلمين ودورهم في حرب القنال عام 1951م