الدولة و الحركات الإسلامية المعارضة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الدولة و الحركات الإسلامية المعارضة بين المهادنة والمواجهة
في عهدي السادات ومبارك


غلاف الكتاب

د. هالة مصطفى

تمهيد

كثيرة هي الأبحاث التي تتصدى لظاهرة العنف السياسي الذي يحاول التستر بعمامة الإسلام والتخفي وراء عباءة الدين، ولكنها قليلة تلك الدراسات الجادة التي تربط بين الخلفية النظرية الشاملة والواقع الميداني القائم.

ولعل هذا " الكتاب" يقع ضمن تلك المجموعة القليلة التي نشير إليها، فهو مستمد من أطروحة متميزة نالت صاحبتها الدكتورة هالة مصطفى درجة الدكتوراه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عام 1994،

وكنت ممتحنا من الخارج ضمن لجنة مناقشة الرسالة والحكم عليها لأسباب تتصل بأهمية الموضوع وشجاعة التصدي له، فضلا عن الجهد الواضح والتحليل العميق والنتائج الموضوعية التي ارتبطت بذلك العمل الأكاديمي السياسي المرموق.

وسوف يكتشف القارئ لهذا الكتاب الذي نقدم له أن الباحثة لم تتوقف عند حدود المراجع العملية و الدوريات السياسية ولكنها تجاوزت ذلك إلى معايشة ميدانية تعرفت فيها على دوافع ظهور التطرف وميلاد الإرهاب،

كما أدركت المزاج النفسي والبيئة الاجتماعية اللتين خرجت منهما تلك الظاهرة التي فرضت نفسها على مسرح الحياة السياسية إقليميا ودوليا وجعلت المواجهة بين نظام الحكم وجماعات العنف وعناصر الإرهاب هي العامل الحاكم في تحديد صيغة المستقبل، ورسم التطور السياسي في الدول الإسلامية، فضلا عن فهم الغير لنا ونظرة الآخر نحونا،

فلقد عكفت الباحثة لسنوات ترصد الأحداث وتقارن الوقائع وتبحث في الجذور وتنقب في الأصول لتفرق بين ما هو سلفي صحيح يحمله التراث وبين ما هو طارئ يحاول استخدام ذلك التراث والبعث بتاريخ ثقافي وميراث حضاري يربو عمرهما على الأربعة عشر قرنا..

فكان لها ما أرادت حيث جاء كتابها هذا استكمالا لكتابها الأول" الإسلام السياسي من حركات الإصلاح إلى جماعات العنف" والذي كان عرضا موضوعيا لميلاد الظاهرة فإذا هي في كتابها الجديد تحدد الإطار النظري لتطورها وتحلل جوانبها بل وتحاول استشراف صورة مستقبلها.

إنني أترك القارئ مع صفحات هذا الكتاب ليتعرف بذاته على أهمية هذه الدراسة التي أشرف عليها الأستاذ على الدين هلال عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لخدمة الواقع وإثراء الفكر وإضافة الجديد إلى المكتبة العربية والمعاصرة.

تهنئة للباحثة .. وتحية للقارئ.. وتطلعا إلى مستقبل تشيع فيه روح الديمقراطية وتخفى منه مظاهر العنف السياسي أو الإرهاب الفكري.. د. مصطفى الفقى

فبراير 1995

مقدمة الدراسة

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الاستراتيجيات المختلفة التي تبناها النظام السياسي تجاه الحركات الإسلامية المعارضة خلال مرحلتي السبعينات والثمانينات، واللتين تمثلان عهدين متتاليين في حياة النظام هما عهدا الرئيس السادات(1970-1981) ،

والرئيس مبارك(1981-1995) ، فقد شهد العهدان تصاعدا للدور السياسي للمعارضة الإسلامية والتي مثلها جناحان هما الإخوان المسلمين، الذين شكلوا تاريخيا أهم حركة سياسية إسلامية في التاريخ المصري المعاصر، والجماعات التي ظهرت خارج نطاق جماعةالإخوان واتخذت اتجاها عنيفا في معارضتها للنظام.

في هذا الإطار تقوم الدراسة بتحليل السياسات المختلفة للنظام المصري تجاه هذا النمط من المعارضة، وأسباب اللجوء إلى كل سياسة منها، والأساليب التي طبقت بها، والآثار التي ترتبت عليها.

ويتم هذا التحليل على ضوء اعتبارين رئيسيين:

الأول , هو السياق السياسي والاجتماعي الذي تحددت في إطاره هذه السياسات ، والتحديات الداخلية التي واجهها النظام في مراحل تطوره في الفترة محل البحث.

والثاني ، يتعلق بالأشكال المختلفة التي اتخذتها هذه المعارضة، وطبيعة التحدي الذي فرضته على النظام، وأثره في اختيار كل من هذه السياسات في المراحل الزمنية المتعاقبة.

ولما كانت المشكلة الرئيسية للبحث تتعلق بتحليل سياسات النظام، فقد عملت الدراسة على تحليل طبيعة النظام المصري منذ قيام ثورة يوليو 1952، إذ رغم التحولات السياسية التي عرفها النظام في العهدين التاليين( محل الدراسة ) إلا أن الخصائص التي اكتسبها منذ ذلك التاريخ ظلت محددا ومنطلقا هاما لتحليل طبيعة النظام السياسي وتتبع مراحل تطوره في هذين العهدين.

ومن الناحية النظرية تحاول الدراسة أن تلقى الضوء على طبيعة النظام السياسي المصري، والمرحلة التي يمر بها، وكذلك خصائص المعارضة الإسلامية من خلال النماذج والمفاهيم السائدة فى أدبيات النظم السياسية المقارنة.

فالدراسة تعالج بالأساس إستراتيجية النظام، وسياساته المختلفة إزاء تلك المعارضة بفصائلها المختلفة، سواء من حيث توصيف تلك السياسات ، أو تفسيرها ، أو نقدها وتحليلها وتقييمها.

ومن ثم فإن الدراسة- بالتالي- تربط بين طبيعة النظام السياسي المصري، وبين خصائص سياساته أو ردود أفعاله إزاء المعارضة الإسلامية.

وتركز الدراسة أيضا على طبيعة المرحلة الراهنة التي يمر بها النظام السياسي المصري، والتي تندرج ضمن ما اصطلحت أدبيات النظم السياسية المقارنة على تحديده بمشكلات الانتقال من النظم السلطوية إلى الديمقراطية.

وتشير الدراسة إلى خصوصية هذا التحول في الواقع المصري والحدود القائمة ليس فقط على الطابع السلطوي للنظام السياسي، وإنما أيضا على أبعاد التحول الديمقراطي التعددى.

ذلك أن هذا التحول بخصائصه المميزة ينعكس سواء على ظهور أو طبيعة المعارضة السياسية، وعلى طبيعة اختيار الاستراتيجيات أو السياسات الحكومية.

وفى المقابل فإن الدراسة لا تتجاهل وضع المعارضة الإسلامية في مصر، في سياق تطور ظاهرة المعارضة في التاريخ الإسلامى بشكل عام، وتطورها السياسي في مصر بشكل خاص.

واستنادا إلى المعطيات السابقة، تسعى الدراسة إلى توضيح عناصر التغيير والاستمرار في الاستراتيجيات والسياسات المتبعة إزاء المعارضة الإسلامية في مصر في العهود الثلاثة المتعاقبة منذ قيام نظام ثورة يوليو 1952، أي عهد كل من الرؤساء : عبد الناصر ، والسادات ، ومبارك.

غير أنه ى يمكن الفصل عند دراسة موضوع سياسي معاصر من هذا النوع بين أهميته النظرية أو العلمية، وبين أهميته السياسية العملية، فليس هناك شك في أهمية الظاهرة موضوع التحليل، أي ظاهرة " المعارضة الإسلامية" مصريا وعربيا وعالميا،

وأن الدراسة تسهم- مع غيرها من الدراسات المتعددة التي تتناول الموضوع- في التعرف على الخصائص والأبعاد السياسية للظاهرة. وبالتالي على وضعها في سياق تطور النظام السياسي.

كما أن الدراسة تسهم في إلقاء الضوء على التداخل العلمي والسياسي بين شقي المعارضة الإسلامية المعتدل والعنيف بصرف النظر عن التمايز النظري، ولذا فإنها من هذه الزاوية، تجمع بينهما، أو تفصل بينهما بناء على ما توحي به الحركة السياسية الفعلية للقوى موضوع التحليل.

وأخيرا ، فإن الدراسة تقدم أساسا علميا لترشيد السياسات ، وتطوير عملية صنع القرار في مواجهة ظاهرة المعارضة السياسية العنيفة، وإذا كانت أساليب المواجهة تتطور بالتجربة والخطأ، فإنها يمكن أن تتطور أيضا نتيجة مزيد من البحث والتحليل لخصائص الظاهرة، وأبعادها المتشبعة. وتلك هى الوظيفة المتصورة لأي بحث علمي جاد.

وفى هذا السياق تشمل الدراسة أربعة أبواب مقسمة على النحو التالي:

يقدم الباب الأول الإطار النظري والتاريخي للموضوع، وينقسم إلى فصلين يعالج الأول مفهوم المعارضة في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية المعاصرة من خلال منظرين هما: منظور التنمية السياسية الذي يعرض لمفهوم المعارضة في التحليل السياسي وفقا لأنماط النظم السياسية المعاصرة.

ومنظور التغيير الاجتماعي الذي يعالج ظاهرة المعارضة السياسية في التحليل الاجتماعي كتعبير عن حركة اجتماعية تستهدف التغيير الادارى للمجتمع.

أما الفصل الثاني فيعالج مفهوم المعارضة في الفكر والتاريخ السياسي الإسلامى، ويقدم للأشكال والنماذج المختلفة التي عرفها هذا التاريخ باعتبارها النماذج التي تمثل مصدرا لإلهام حركات المعارضة السياسية الإسلامية المعاصرة.

ويعرض الباب الثاني لتطور موقف النظام السياسي المصري من المعارضة الإسلامية في عهد الرئيس عبد الناصر ، والفترة الأولى من عهد الرئيس السادات ، حيث ظلت الخصائص التي اتسم بها نظام ثورة يوليو محددا رئيسيا لتحليل الكثير من سياساته ومواقفه تجاه المعارضة السياسية بشكل عام، والإسلامية منها بشكل خاص، إذا اكتسبت الحالة الأخيرة بعدا خاصا نظرا للخلفية التاريخية التي حكمت العلاقة بين النخبة الحاكمة لثورة يوليو وحركة الإخوان المسلمين.

في هذا الإطار ينقسم الباب إلى ثلاثة فصول يتناول الأول، عرضا لخصائص النظام السياسي لثورة يوليو وموقفه من المعارضة الإسلامية، ثم يعرض الثاني للفترة الأولى من عهد الرئيس السادات، والتي شهدت الكثير من عوامل الصراع السياسي تثبيتا لدعائم الحكم للعهد الجديد،

وأخيرا يعالج الفصل الثالث، التحولات التي شهدتها حقبة السبعينات بعد حرب أكتوبر 1973 وانعكاساتها على موقف النظام من المعارضة السياسية في إطار التعددية الحزبية المقيدة التي عرفتها هذه الحقبة والتي أثرت بدورها على موقع المعارضة الإسلامية وموقف النظام منها.

ويتناول الباب الثالث استراتيجيات النظام تجاه المعارضة الإسلامية في عهد الرئيس السادات.

فقد شهدت حقبة السبعينيات بما حملته من تحولات سياسية واجتماعية هامة، صعودا لدور المعارضة السياسية وأبرزها المعارضة الإسلامية التي مثلتها قوتان سياسيتان هما: حركة الإخوان المسلمين، الذين شكلوا تقليديا قوى المعارضة الإسلامية الرئيسية. والأخرى، جماعات العنف السياسية الإسلامية التي ظهرت في نفس الحقبة.

ورغم اختلاف منهج وأسلوب كل منهما في التعبير عن معارضتها، إلا أنهما مارسا ضغطا مستمرا على النظام منذ منتصف السبعينات، بحيث مثلا قوى التحدي الرئيسية أمامه في أواخر نفس العقد، وهو الأمر الذي انتهى باغتيال الرئيس السادات في 1981 على يد إحدى فصائل الجماعات الأخيرة.

في هذا الإطار ينقسم الباب إلى ثلاثة فصول يعالج الفصل الأول، موقف قوى المعارضة الإسلامية بشقيها السياسي( الإخوان المسلمين) والعنيف ( الجماعات الإسلامية) في إطار السياق السياسي والاجتماعي الذي تبلورت فيه ، كما يعرض لمظاهر معارضتها للنظام. ويتناول الثاني، بالتحليل المواقف والسياسات المختلفة للنظام تجاه هذه القوى المعارضة من خلال مستويين:

المستوى الأول، هو السياسات والتفاعلات المباشرة بين النظام وكل من قوتي المعارضة الإسلامية . والمستوى الآخر يتعرض لأساليب وسياسات المواجهة غير المباشرة مع نفس القوى المعارضة والتي امتدت إلى عدة مجالات هي: المؤسسة الدينية الرسمية ( الأزهر) ، والمساجد الأهلية، والطرق الصوفية، والإعلام، والتعليم.

وينتهي الفصل الثالث بتحليل انعكاسات هذه السياسات على موقف الكنيسة والتي اتخذت موقفا معارضا في مواجهة النظام خلال نفس الحقبة.

ويعالج الباب الرابع والأخير استراتيجيات النظام في مواجهة المعارضة الإسلامية في عهد الرئيس مبارك. وينقسم إلى أربعة فصول يتناول الفصل الأول التوجهات السياسية للنظام في هذا العهد وأثرها على إستراتيجيته إزاء المعارضة الإسلامية.

ويعرض الفصل الثاني، لتطور موقف النظام وسياساته تجاه قوى المعارضة السياسية الإسلامية التي مثلها الإخوان المسلمين من خلال وجودهم في الأحزاب السياسية و مجلس الشعب في الثمانينات.

ويتعرض الفصل الثالث لأساليب ومجالات المواجهة غير المباشرة بين النظام والقوى الإسلامية في مؤسسات المجتمع المدني والتي تمثلت في النقابات المهنية والجمعيات الأهلية، والاتحادات الطلابية، ويتعرض الفصل من هذه الزاوية إلى التطورات والتفاعلات المختلفة بين الجانبين والمواجهات غير المباشرة بينهما، طوال عقد الثمانينات، وحتى مطلع التسعينات.

وأخيرا يعالج الفصل الرابع، تطور جماعات العنف التي تشكل الجناح المتشدد من المعارضة الإسلامية- في نفس الفترة، وسياسة النظام في مواجهتها.

وتنتهي الدراسة بخاتمة تتضمن نتائجها وتثير قضية التحول الديمقراطي للنظام السياسي .

الباب الأول

الإطار النظري والتاريخي للدراسة يقدم هذا الباب الإطار النظري والتاريخي للموضوع محل البحث. وينقسم إلى فصلين: يعالج الفصل الأول مفهوم المعارضة فئ أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية المعاصرة، وذلك من خلال منظورين متكاملين:

الأول، هو منظور التنمية السياسية الذي يعرض لمفهوم المعارضة في التحليل السياسي وفقا لأنماط النظم السياسية المعاصرة. والثاني ، هو منظور التغيير الاجتماعي ، والذي يعالج ظاهرة المعارضة السياسية في التحليل الاجتماعي كتعبير عن" حركة اجتماعية" تستهدف التغيير الارادى للمجتمع.

أما الفصل الثاني، فيعالج مفهوم المعارضة في الفكر والتاريخ السياسي الإسلامى، ويقدم للأشكال والنماذج المختلفة التي عرفها هذا التاريخ باعتبارها النماذج التي تمثل مصدرا لإلهام حركات المعارضة السياسية الإسلامية المعاصرة.

الفصل الأول المعارضة في التحليل السياسي والاجتماعي المعاصر

يعرض هذا الفصل لمفهوم المعارضة من زاويتي التحليل السياسي والاجتماعي المعاصر، ويتناول الجانب الأول المعارضة في إطار النظم السياسية المقارنة والتي تندرج دراستها ضمن أدبيات التنمية السياسية ، والتي تعتبر بدورها جزءا من النظرية الأشمل عن " التحديث" والتي تقاسمتها كافة فروع العلوم الاجتماعية،

وفى هذا السياق قدمت دراسات النظم السياسية المقارنة ضمن أدبيات التنمية السياسية تصنيفات وتعريفات للنظم المعاصرة تتحدد في إطارها خصائص هذه النظم وأنماط تعاملها مع المعارضة السياسية. وفى نفس هذا الإطار التحليلي كان التوجه- وفقا لهذه التصنيفات- نحو الديمقراطية الليبرالية ذات الطابع التعددى هو الهدف النهائي لعملية التنمية السياسية.

وفى المقابل يهتم الجانب الآخر من التحليل بعرض مفهوم المعارضة من الزاوية الاجتماعية والتي تندرج ضمن أدبيات التغيير الاجتماعي حيث يقدم مفهوم الحركة الاجتماعية إطارا نظريا لتفسير الأبعاد الاجتماعية لظهور حركات معارضة ذات طابع احتجاجي ومن هنا فإن جانبي التحليل السياسي والاجتماعي يقدمان مدخلين متكاملين لدراسة مفهوم المعارضة- أشكالها وأنماطها- من ناحية، كما يقدمان إطارا تحليليا لأنماط وأساليب التعامل معها وفقا لطبيعة النظام السياسي، والعوامل الاجتماعية المؤثرة على سياساته في هذا المجال من ناحية أخرى.

المعارضة في التحليل السياسي

اهتمت أدبيات النظم السياسية المقارنة بتقديم تصنيفات للنظم السياسية المعاصرة والتي وفقا لها تتحدد طبيعة هذه النظم ودرجة تطورها، وتبعا لهذه التصنيفات يتم تعريف وتصنيف دور المعارضة السياسية.

وتعد أعمال "روبرت دال " من أبرز الإسهامات الحديثة في مجال دراسة المعارضة السياسية.

ولذا يعتمد هذا الجزء بشكل أساسي على إسهاماته في هذا المجال.

لقد وضع دال عدة شروط لتحقيق التنمية السياسية تتلخص في تحقيق الحد الأدنى من الاتفاق، والوصول إلى قدر كاف من التعددية الاجتماعية ، وتواتر النخبة وأخيرا تحقيق درجة عالية من المساواة في توزيع الثروة والتعليم،

وكما يشير دال فإن تحقيق هذه الشروط لا يمكن أن يحدث فعليا إلا في ظل حالة من الرخاء الاقتصادي، وبالتالي يمكن القول أن " التعددية" عند دال ليست أكثر من الشكل السياسي الذي يحكم المجتمع الصناعي الحديث.

في هذا الإطار تثير قضية التنمية" فكرة" الكفاءة أو القدرة فكل مجتمع محكوم في ممارسته للعبة السياسة بالإمكانيات التي يوفرها له مستوى التنمية الذي يقف عنده، إذ أنه في حالة انخفاض وضعف التعددية الاجتماعية، ووجود قدر عال من عدم المساواة والتمييز في توزيع الثروة والتعليم تضعف المنافسة السياسية،

فالتأخر الاجتماعي- الاقتصادي يعوق إقامة الديمقراطية. والتنمية السياسية في نظر دال لا تساعد فقط على ظهور القدرات أو الكفاءات الجديدة، وإنما تساهم في الوقت نفسه في تخفيض المعوقات التي يمكن أن تقضى على العملية الديمقراطية.

انطلاقا من ذلك يحدد دال مجموعة من الافتراضات قبل تصنيفه للنظم السياسية هي:

• أنه ليست هناك حكومة تتمتع بالتأييد المطلق من الشعب ، ذلك لأن الأفراد يختلفون فى أفضلياتهم السياسية.

• أن موقف الأفراد من الحكومة تحدده أفضلياتهم السياسية أو بمعنى آخر مصالحهم السياسية إذ يكون مستوى التعبير عن هذه الأفضليات منخفضا فيمكن توقع ظهور تجمعات متعددة. أو بمعنى آخر أن احتمال ظهور تجمعين متماسكين موحدين يصبح نادرا.

• على الحكومة إذا أرادت تحقيق الاستقرار أن تخلق أدوات ووسائل تحدد من خلالها الأفضليات السياسية التي يمكن أن تستجيب لها. وفى هذه الحالة يمكن توقع نوعين من الاستجابة: الأول، أن الحكومة قد تستجيب لأفضليات أقلية قليلة ولكنها متماسكة، وفى هذه الحالة تتجاهل أفضليات ومصالح باقي المجتمع.

أما الآخر، أن تستجيب الحكومة لكل الأفضليات والمصالح السياسية بشكل متساو، وهذا يعنى أنها تتعامل مع هذه الأفضليات والمصالح على أنها متساوية من حيث الوزن السياسي، وفى هذه الحالة تحقق العدالة الديمقراطية المطلقة ، ورغم اعتراف دال بعدم وجود هذين النمطين في الواقع أي أنهما يعبران في النهاية عن اختيارات النظام السياسي.

• أن كل النظم السياسية تضع قيودا على حرية التعبير، وعلى حرية التنظيم والتمثيل، أي على أشكال التعبير عن المصالح السياسية، في هذا الإطار لابد وأن تكون هناك معارضة لكل نظام سياسي وإن اختلف شكلها وحجمها.

• أن حجم المعارضة في النظم السياسية يختلف وفق القيود الموضوعة على فرض التعبير والتنظيم والتمثيل المتاحة، وأنه كلما انخفضت القيود التي تضعها الحكومة على المعارضة زادت فرص التعبير عن الأفضليات السياسية، وبالتالي تنوعت المصالح السياسية.

أنماط النظم السياسية وفقا لمعيار التعامل مع المعارضة

في ضوء ما سبق، يشير دال إلى أن هناك بعدين أساسيين لتصنيف النظم السياسية تبعا لموقفها من المعارضة السياسية الأول، هو حرية المنافسة العامة أو الليبرالية (وتعنى وجود مؤسسات مفتوحة أو عامة أمام المعارضة) ، والآخر ، هو المشاركة وتقاس بنسبة السكان الذين لهم حق المشاركة بشكل متساو في معارضة سلوك الحكومة.

وفقا لذلك يصنف دال النظم السياسية إلى ثلاثة أنماط:

(أ‌) نظم تتسم بالتقييد الشديد لفرص التعبير وتضع قيودا شديدة على الأفضليات السياسية( أو المصالح السياسية) فالأفراد يكونون ممنوعين من حق المعارضة للقادة السياسيين ولأيديولوجياتهم وللأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو نظم الهيمنة.

(ب‌) نظم تضع قيودا محدودة على حق التنظيم السياسي وعلى الأفضليات السياسية والفرص المتاحة وتتيح للأفراد حق التعبير عن معارضتهم للحكومة ولا يلجأ النظام فيها إلى العنف، وهى النظم التعددية.

(ج‌) نظم مختلطة بين التقييد وعدم التقييد، فيميل بعضها إلى نظم الهيمنة ويميل الآخر إلى التعددية ، أي أنها تقع في الوسط ويسميها دال بالنظم " الأوليجاركية المتنافسة".

النظم المهيمنة

يعرف دال الهيمنة بأنها وضع قيود صارمة على الفرص المتاحة أمام معارضي الحكومة. تلجأ النظم " المهينة" إلى التنظيم الحزبي الواحد. وهى لا تلجأ فقط على قمع الأحزاب السياسية وحقها في التنظيم المستقل، وإنما أيضا إلى قمع الأجنحة والتيارات المختلفة داخل تنظيم الحزب الواحد بحيث لا تكون هناك أية قناة للتعبير عن اختلافات المصالح والأفضليات السياسية.

ورغم ذلك، فإن المعارضة للنظام توجد حتى في أعلى حالات التقييد، ففي كل النظم السياسية- بغض النظر عن مدى القيود التي تفرضها على التمثيل السياسي للأفراد- تظهر صراعات داخل النخبة السياسية للنظام. فتظهر الأجنحة السياسية كنمط من أنماط المعارضة في هذه النظم، وهذا النوع من المعارضة يمكن أن يظهر على مستوى النخبة،

أو الجهاز البيروقراطي ، أو الفئات الدنيا من الحزب المهيمن، أو الصحافة أو بين المثقفين، كما قد يظهر على شكل صراعات شخصية بين قادة النظام أو بعض مؤسساته( مثل المؤسسة العسكرية أو الاقتصادية) ، ولكن هذا النمط من المعارضة لا يجنح إلى تغيير النظام السياسي وإنما فقط على تحقيق قدر أعلى من المصالح السياسية أو الخاصة، وإن كل هذا لا ينفى احتمال تنامي معارضة أخرى في هذه النظم بل وفى إطار هذا النوع من المعارضة- تسعى لقلب النظام وتكون على استعداد لاستخدام العنف.

ويضيف دال أن النظم المهيمنة ترى في كل أنواع المعارضة خطرا على النظام وإضرارا بمصالحه. وبالتالي فهي قد تلجأ – تفاديا لهذا الخطر- إلى السماح بوجود نوع من المعارضة المحكومة بدائرة معينة لا تتخطاها ولا تصل في الوقت نفسه على الحقوق التي تتمتع بها العارضة في النظم التعددية.

النظم المختلطة

تتراوح هذه النظم بين أنماط " الأوليجاركيات المتنافسة" كما يسميها دال، حيث تكون " المنافسة العامة" بما فيها حق التنظيم الحزبي مكفولة ولكنها مقصورة على نخبة ضيقة ( حالة بريطانيا في القرن 18) على نظم تسمح بقدر من المنافسة في ظل سيطرة الحزب الواحد، وتتمثل أنواع المعارضة في النظم المختلطة في المعارضة التي تدين " بالولاء" للنظام، فإذا كان حق المعارضة مكفولا في النظم المختلطة، إلا أن اللعبة السياسية تكون في مجملها مقيدة والمعارضة مقصورة على شريحة واحدة من النظام.

وإذا كان للأفراد حق المشاركة في اللعبة السياسية (ولو ظاهريا) إلا أن قواعد هذه اللعبة تفرض قيودا على حق التنظيم وعلى الانتخابات.

ففي النظم المختلطة يتم قمع الأفضليات والمصالح السياسية مما يقلل من فرص المشاركة السياسية ففي حالة وجود نظم " الأوليجاركيات" المتنافسة تكون الأفضليات أو المصالح السياسية عند الشرائح الواسعة للمجتمع غير منظمة وغير معبرة عن نفسها، وبالتالي غير ممثلة في النظام. ويعتبر وجود هذا النوع من النظم وفقا لدال نادرا في وقتنا الراهن،

إذ أن غالبية النظم المختلطة توفر حقوق المواطنة للأفراد ولكن تضع قيودا على " المنافسة العامة" وبالتحديد على حق أحزاب المعارضة ويكون هناك من الناحية الفعلية حزب واحد فقط هو الذي يتمتع بكل الامتيازات على حساب الأحزاب الأخرى مما يجعل وجود هذه الأحزاب وجودا شكليا إلى حد كبير.

ولذلك فإنه في النظم المختلطة مثلما هو الحال في النظم المقيدة عندما تقمع المصالح السياسية للمعارضة يظهر الخطر على النظام نفسه إذ أن المعارضة هنا تضغط على النظام السياسي للتقليل من حجم القيود المفروضة أي أنها تضغط من أجل المزيد من الليبرالية وإتاحة الفرص أمام" المنافسة العامة".

إن مأزق " النظم المختلطة" يكمن في رغبتها في الحفاظ على بقائها دون التحول على نظام مقيد من ناحية ، أو إلى نظام تعددي من ناحية أخرى، لأن استجابة النظام هنا لطلب المعارضة بالسماح بمزيد من الليبرالية السياسية يحمل معه احتمال التحول إلى نظام تعددي، وبالعكس إذا ما تم قمع مطالب المعارضة فالنتيجة الطبيعية هي التحول إلى نظام مقيد.

وإشكالية المعارضة في النظم المختلطة هو أنها لن تقنع " بالليبرالية" حتى يخطو النظام خطوة فعلية نحو" التعددية" ولكن هذه الخطوة المختلطة، التي تكون الهيمنة فيها لحزب واحد مسيطرة ، تصبح محفوفة بالمخاطر، إذ أن السماح للمعارضة بتشكيل حزب منافس قد يضرب بالحزب الحاكم، خاصة إذا ما أجريت انتخابات نزيهة،

ومن ثم تظل إشكالية هذه النظم قائمة لأن رفع شعار الديمقراطية هنا سيظل يشكل قوة ضغط حقيقية لدفع النظام نحو التعددية السياسية ونحو إقامة مؤسسات تعبر عن هذه التعددية.

ويخلص دال على القول، بأن الحفاظ على شكل " النظام المختلط" يتطلب تضييق حدود " المنافسة العامة" واللجوء على العنف أحيانا لتحقيق ذلك، وتكمن تكلفة هذا الاختيار على النظام في ازدياد نسبة السخط العام ، وعدم الولاء السياسي، وازدياد احتمالات " الانفجار" وهو ما يقود في النهاية على اتجاهه نحو المزيد من القمع،

وهذا يعنى أن تظل هذه النظم متأرجحة بين" الليبرالية" و" القمع" أو بمعنى آخر الحفاظ على القدر المناسب من كليهما، وهو ما يتوقف إلى حد كبير على مهارة القيادة السياسية حتى لا يتحول النظام إلى التقييد الكامل أو إلى التعددية، ولكن لابد لأي نظام مختلط أن يصل إلى مرحلة حرجة يفقد فيها نقطة التوازن التي يعتمد عليها في بقائه واستمراره.

النظم التعددية

يعرف دال النظم التعددية، بأنها النظم التي تضع أقل القيود الممكنة على حرية التعبير والتنظيم والتمثيل للأفضليات أو المصالح السياسية. ولكن رغم ذلك فإن هذه النظم وفقا لدال لا تخلو من عوامل الرضا، والتي يرجعها على عاملين أساسيين:

الأول، عدم التكافؤ والثاني، الاستقطاب والتجزئة، وبالنسبة للعامل الأول ، وهو عدم التكافؤ فيقصد به أنه: في النظم التعددية يشعر الأفراد بعدم تمثيلهم في النظام أو تعبيره عن مصالحهم السياسية، ويرجع ذلك على عدم وجود " معيار" محدد للحكم على مدى تمثيل المصالح في العمليات السياسية،

وبالتالي على مدى تحقيق المساواة أو التكافؤ في التعبير عن الأفضليات السياسية، وأحد الأسباب القوية لعدم التكافؤ هو التباين الهائل في الموارد السياسية لمختلف الأفراد والجماعات، وهو ما يؤدى إلى ظاهرة؟

الازدواجية في النظم التعددية" وهناك سبب آخر لبروز ظاهرة عدم التكافؤ في هذه النظم وهو المشاكل المتعلقة بمسألة " التمثيل" نفسها والتي قد تعوق تحقيق المساواة السياسية أو التكافؤ السياسة. إذ أن حجم ( الشعب) واتساعه قد يخلق مسافة تباعد بين المواطنين وصانعي السياسة على المستوى القومي.

ويضاف على ذلك تعقد وسائل الاتصال التي تعوق عملية تمثيل المصالح السياسية بصورة متكافئة.

ومن هنا فإن هذه النظم السياسية تبنى نظامها التمثيلي بما يضمن تمثيل أكبر حزب سياسي على الساحة، أو بمعنى آخر تمثيل الأغلبية، وبالتالي لا تعطى ضمانات حقيقية لتمثيل الأقليات، ويشير"دال" إلى أنه لا يوجد نظام للتمثيل أو لصناعة القرار يمكن أن يحقق الرضا المطلق للمحكومين أي لكل الأفراد ، وحتى في المجتمعات التي تحقق قدرا كبيرا من المساواة السياسية فإنه تكون هناك دائما أقلية لا يتم التعبير عن أفضلياتهم السياسية في مواجهة الأغلبية.

وهكذا فكلما عكس النظام التعددى تنوعا في الفضليات السياسية تعقدت مهمته فئ التوفيق بين هذه الأفضليات عند صناعة القرار.

وعلى الرغم من ذلك فإن بقاء النظم التعددية واستمرارها يرتهن بقدرتها على الحفاظ على الحد الأدنى من الشعور بالرضا لدى المواطنين، وهذا يتطلب مهارة أساسية تتمثل في قدرة النظام على التقليل من عوامل عدم الرضا إلى أقل قدر ممكن .

أما بالنسبة للعامل الآخر الخاص بالاستقطاب والتجزئة فيقصد به أنه في النظم التعددية قد يؤدى الشعور بعدم الرضا على حالة من الاستقطاب بين أغلبية دائمة وأقلية دائمة تسبب نوعا من الانقسام، وتخلق الصراعات السياسية وتفسر هذه الحالة من خلال لنظر إلى ناتج القرارات التي يتخذها النظام والتي تحدث درجة عالية من التباين في إرضاء الأفضليات أو المصالح السياسية ،ومن ثم فإن هذه القرارات لا تستطيع إرضاء الجميع، وهو ما يؤدى إلى وجود الصراعات السياسية.

ويرى دال أنه يمكن إدارة الصراع بسهولة إذا ما كانت درجة العداء منخفضة، وأن درجة العداء تكون أقل في حالة التباين الاقتصادي- الاجتماعي عنها في حالة الخلافات الدينية، أو الاثنية، أو العرقية، وأنه في حالة الاستقطاب أو التجزئة تكون حالة العداء أكبر مما يشكل خطرا على النظام التعددى لأنه لا يستطيع في هذه الحالة أن يلجأ على استخدام القوة القهرية أو قمع العداءات الحادة.

فالاختيار الوحيد أمام هذا النمط من النظم هو الحل السلمي للصراع، ومن هنا تشكل " التجزئة" مثلها مثل " الاستقطاب خطرا على النظم التعددية ".

"فالتجزئة" تهدد مفهوم( الأمة) وحتى إذا لم تؤد على هذه النتيجة فإنها على الأقل تخلق فجوة في أنماط السياسات التي تعمل في النهاية على تعميق الشعور بعدم الرضا عن النظام التعددى.

وفى المقابل يمكن للنظام التعددى أن يتعامل بشكل أفضل من خطر التجزئة إذا ما وجد طريقا فعالا لإجراء مصالحة بين الجماعات المتصارعة وتخفيف حدة العداء بينها، ولا شك أن إجراء هذه المصالحة يتوقف عل مهارة النظام في البحث عن حلول تحقق الرضا المتبادل بين هذه الجماعات في الصراعات المختلفة، وفى هذه الحالة يكون على النظام خلق الدوافع السياسية وتحقيق التعبئة اللازمة للوصول إلى حل ترضى عنه القاعدة العريضة ،

هذه التعبئة يحققها النظام إذا ما وفر حالة من الرضا المتبادل بين الجماعات المتصارعة بمعنى أن تشعر كل من هذه الجماعات( سواء تم ذلك فعليا، أو بصورة شكلية) أنها تمتلك حق الاعتراض على سياسات الحكومة ويفترض دال هنا أن هذه الجماعات ستبحث بنفسها عن الحلول التوفيقية والمصالحة إذا ما شعرت بأن كل منها يمتلك هذا الحق.

ولكن إشكالية هذا الاختيار ( أي تحقيق الاعتراض المتبادل) تكمن في أن هذا الحل التوفيقي أو " الحل المقبول" عند الجماعات المختلفة قد يتحول على مجرد الحفاظ على الوضع القائم وهو ما يكون له أثر سلبي على النظام على المدى الطويل،

وفى المقابل تظل هناك حلول أخرى لمواجهة واقع التجزئة الذي تعرفه النظم التعددية ترتكز على خلق مؤسسات جديدة يكون لها طابع ديمقراطي واضح لتحقيق المصالحة السياسية والتوفيق بين عوامل التباين والتنوع بين الجماعات المتصارعة.

تصنيف أشكال المعارضة السياسية

يضع دال أربعة معايير لتصنيف المعارضة السياسية هي : درجة تركيز هذه المعارضة، ودرجة تنافسيتها ، وأهدافها السياسية، وإستراتيجيتها.

(1) تركيز المعارضة:

تعرف المعارضة درجات مختلفة من التماسك التنظيمي ، أي قد تتركز في تنظيم واحد أو تتفرق إلى مجموعة من التنظيمات التي تعمل كل منها بصورة مستقلة عن الأخرى ويرى دال أنه ليس هناك نظام ديمقراطي تتركز المعارضة فيه في تنظيم واحد، وبالتالي فهو يفضل استخدام مفهوم " الأحزاب السياسية" لأن الحزب السياسة هو الشكل الفعال للتعبير عن المعارضة السياسية فئ النظم الديمقراطية،

ومن هنا فإن المدى الذي تصل إليه المعارضة في التركيز يعتمد على النظام الحزبي، ففي النظم التي تعرف شكل الحزب الواحد المهيمن، تتفرق المعرضة في أحزاب صغيرة أو تظهر على شكل أجنحة داخل الحزب المسيطر، أما أعلى درجة من تركيز المعارضة السياسية فتوجد في النظم السياسية ذات الحزبين، بخلاف النظم السياسية التعددية التي تتفرق فيها المعارضة بين الأحزاب المختلفة.

(ت‌) تنافسية المعارضة:

وتعتمد درجة تنافسية المعارضة على مدى تركيزها، وفى هذه الحالة لا ترجع درجة المنافسة بين المعارضة إلى التوجهات السياسية لمختلف الفاعلين السياسيين، وإنما ترتبط بحسابات الربح والخسارة الخاصة بالمنافسين السياسيين على مستوى الانتخابات والبرلمان، وتزداد حدة التنافس السياسي في النظم ذات الحزبين على عكس النظم التعددية التي تكون حدة المنافسة السياسية فيها أقل إلا إذا استطاع أحد الأحزاب تشكيل أغلبية كبيرة،

وإن كان ذلك لا يحدث إلا إذا توافقت الرغبة لدى حزبين على الأقل في الدخول في تحالف يفرض تشكيل أغلبية. وهكذا فإن درجة المنافسة السياسية تعتمد في جزء كبير منها على عدد وطبيعة الأحزاب السياسية، ومدى تركيز المعارضة.

(ج)أهداف المعارضة:

يشير دال إلى أن لكل الفاعلين السياسيين أهداف طويلة المدى، وأخرى قصيرة المدى ولكن غالبا ما تتحكم الأهداف قصيرة المدى في اختياراتهم الخاصة بتحديد الإستراتيجية على حساب الأهداف الطويلة المدى ويمكن التمييز بين الأهداف والاستراتيجيات بالنسبة للمعارضة، فالأهداف هي الغايات التي تسعى المعارضة للوصول إليها من خلال تغيير سلوك الحكومة، أما الإستراتيجية فتمثل الوسائل التي تختارها لتحقيق أهدافها.

وفى مجال تحليله للأهداف يشير إلى أن المعارضة قد تسعى إلى التغيير( إلى مقاومة أي تغيير محتمل) من خلال أربعة مستويات: الأشخاص أي أشخاص الحكومة، والسياسات أي سياسات الحكومة، وبنية النظام السياسي، والبنية الاقتصادية الاجتماعية.

الاستراتيجيات

تختلف الاستراتيجيات التي تتبناها المعارضة بهدف تغيير ( أو منع سلوك الحكومة) من شكل إلى آخر وبالتالي فهي تخضع لتصنيفات متعددة، ولكنها تعتمد بشكل أساسي على طبيعة أهداف المعارضة( فالحركة الثورية على سبيل المثال لا يمكن أن تتبع نفس إستراتيجية الضغط) ولكن هذا لا يعنى – بالضرورة – أن تتماثل الاستراتيجيات في حال تماثل الأهداف.

فتحديد الإستراتيجية المناسبة يتوقف في النهاية على طبيعة النظام السياسي وبالتالي فإن نفس الإستراتيجية قد تكون ملائمة لنمط معين من النظم السياسية وغير ملائمة لنمط آخر، ويتم تصنيف الاستراتيجيات المحتملة للمعارضة على النحو التالي:

الإستراتيجية الأولى:

تلجأ فيها المعارضة التي تكون في حالة منافسة حادة على اكتساب أكبر عدد من الأصوات للنجاح في الانتخابات والحصول على أغلبية مقاعد البرلمان، وهذه الإستراتيجية يلائمها وجود نظام سياسي يقوم على حزبين، وتكون المعارضة في هذه الحالة على درجة عالية من التمايز

وتكون عملية الانتخابات حاسمة، ويعتبر النظام البريطاني هو الشكل المثالي لهذه الحالة، حيث تصبح هذه هي الإستراتيجية الأساسية التي يتبناها الحزب المعارض.

الإستراتيجية الثانية:

تسعى فيها إلى اكتساب أصوات إضافية للحصول على أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية، ولكنها تفترض أنها لا تستطيع تحقيق أغلبية برلمانية ،

وبالتالي فإن إستراتيجيتها الأساسية تركز بقوة على الدخول في ائتلاف حكومي حتى تحصل على أقصى ما تستطيع الحصول عليه من خلال المساوماتـ هذه الإستراتيجية تسود أساسا فئ النظام التي تتشكل من حزبين أساسيين ويتسمان بدرجة عالية من الوحدة الداخلية.

وتكون انتخابات الحكومة نسبيا حاسمة، وهذه الإستراتيجية تتبع عادة في فرنسا وإيطاليا.

الإستراتيجية الثالثة:

وتسعى فيها المعارضة إلى تحقيق بعض أهدافها من خلال المساومات السياسية في الميادين غير الرسمية. هذه الإستراتيجية يمكن أن توجد في النظم التي تعرف التعدد الحزبي والتي قد تلائمها الإستراتيجية الثانية، ولكنها تتسم في الوقت نفسه بوجود بناء قوى لمؤسسات " طوربوراتية" ديمقراطية قوية ( مثل النقابات والاتحادات، والجمعيات الطوعية.. الخ) وربما توجد هذه الإستراتيجية بشكل أوسع في النرويج والسويد، وإن وجدت بشكل نسبى في دولة مثل هولندا وبعض الدول الأخرى .

الإستراتيجية الرابعة:

وفقا لهذه الإستراتيجية ، تفترض قوى المعارضة أن كلا من عمليتي الحصول على التأييد الشعبي وكسب الأصوات في الانتخابات أمر هام، ولكن كلا منهما ليس ضروريا أو كافيا دائما، بل تختلف جدواه من حالة إلى أخرى ولذا فإن المعارضة في هذه الحالة تقوم بمواءمة أساليبها من مواردها، ولذلك فهى قد تركز على أنشطة جماعات المصالح،

والمساومات داخل الأحزاب، والمناورات داخل البرلمان والحصول على أحكام قضائية لصالحها. يضاف على ذلك تحقيق مكاسب معينة على مستوى الدولة وعلى المستوى المحلى لمحاولة كسب الانتخابات، وقد تلجأ المعارضة إلى خليط من هذه الأساليب ،

وتبرز هذه الإستراتيجية أكثر في النظم التي تحول فيها القواعد الدستورية والممارسات العملية من أن تكون أي قناة أو مجال للعمل السياسي حاسما بمفرده، وحينما تتعدد الفرص لمنع أو عرقلة أعمال الحكومة.

هذه الاستراتيجيات الأربع العامة تتأثر بخصائص النظام الذي توجد فيه- أو على نحو أكثر دقة- بالعناصر التي سبق ذكرها لتصنيف أنماط المعارضة( أي درجة التركيز، والتنافسية، والتمايز، والمجالات أو الميادين).

الإستراتيجية الخامسة:

هذه الإستراتيجية تتبعها المعارضة الملتزمة بالحفاظ على الكيان السياسي عندما يسود الاعتقاد لدى كل من الحكومة والمعارضة بأن بقاء هذا الكيان مهدد بفعل أزمة داخلية حادة، أو حالة حرب، أو ما شابه ذلك. فعندما يكون هناك تهديد خطير للكيان السياسي، قد تسعى الحكومة إلى إدخال قوى المعارضة في ائتلاف معها لمواجهة الأزمة وتشجيع كل القوى المعارضة الملتزمة بالحفاظ على الكيان السياسي لتبنى استراتيجيات اندماجية أو ائتلافية، وقد تختلف الاستراتيجيات الائتلافية من نظام إلى آخر.

ولكن يمكن القول بشكل عام إن المعارضة تسعى للدخول في الائتلاف الحاكم وفق أفضل شروط لها وفى نفس الوقت فإنها تتيح إمكانية العودة إلى التنافس الحاد مع الحكومة عندما يتم تجاوز الأزمة.

الإستراتيجية السادسة:

هذه الإستراتيجية تتبعها قوى المعارضة الثورية الساعية إلى تحطيم الكيان السياسي أو تحطيم الملامح الأساسية للنظام الدستوري، وجوهر هذه الإستراتيجية هو استخدام الموارد المتاحة لدى المعارضة لعرقلة المسار المعتاد للعمليات السياسية وإضعاف الكيان السياسي لإمكانية الاستيلاء عليه بواسطة المعارضة.

يخلص روبرت دال من عرضه لأنماط المعارضة السياسية إلى عدة نتائج يمكن تركيزها في ثلاث: أولاهما أنه يوجد تنوع كبير فى أنماط المعارضة المختلفة فئ النظم الديمقراطية ، وثانيتهما ، أن أنماط المعارضة تختلف تبعا لدرجة التركيز ودرجة المنافسة، ومدى وضوح مجالات التنافس مع الحكومة ، وتمايز المعارضة، وتمايز أهدافها وإستراتيجيتها .والثالثة، أن اختيار المعارضة للإستراتيجية الملائمة يتوقف – جزئيا- على السمات الأخرى لنمط المعارضة.

العوامل المؤثرة على موقع المعارضة فى النظام السياسي

يتأثر موقع المعارضة في النظام السياسي بخمسة عوامل أساسية هي : الأبنية الدستورية والنظام الانتخابي، والمعطيات الثقافية وخصوصية الأبنية الثقافية الفرعية، ودرجة التذمر ضد الحكومة، وحجم الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية وأنماط الصراع أو الاتفاق في الآراء والسلوك، ومدى التعددية.

فبالنسبة للشرط الأول، والمتعلق بالأبنية الدستورية والنظام الانتخابي، فتظهر أهميته إذا تأملنا النظام الدستوري الأمريكي الذي يسمح لتحالف الأقلية أن يهدد السياسات الرئاسية التي تؤيدها الأغلبية في الكونجرس، فالإطار الدستوري يؤثر على إمكانية تحقيق درجة عالية من التركيز لكل قوى المعارضة من عدمه، والنظام الذي يشجع على التنوع والانتشار ويمنع احتمالات المنافسة الحادة يشجع استخدام استراتيجيات المساومة.

في هذا الإطار يؤكد دال على العوامل الدستورية لابد وأن تعكس نفسها على أنماط المعارضة السياسية .

إذ تلعب دورا هاما في مسألة توطين الموارد السياسية أي مصادر القوة سواء للسلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية، بل وأيضا على مستوى الوحدات الجغرافية أي التوزيع الجغرافي للموارد. وبالتالي فإن اختلاف الشروط الدستورية والنظم الانتخابية يؤدى إلى إبراز أو اختفاء نمط معين من أنماط المعارضة السياسية.

فالفصل الدستوري بين السلطات إلى جانب الفيدرالية على سبيل المثال يؤديان إلى تنوع البدائل أمام المعارضة ومن ثم التقليل من احتمالات طرف منها على كل شيء مقابل لا شيء للطرف المقابل في العملية الانتخابية، وهو ما يشجع على تحقيق نوع من اللامركزية في الرقابة على الأحزاب، ويقلل من التمييز بين المعارضة كما يخفض من احتمالات المنافسة الحادة بين الحكومة والمعرضة.

بعبارة أخرى فإن طبيعة الدستور تحدد في النهاية نوع المعارضة الموجودة ونمط الاستراتيجيات التي تلجأ إليها.

أما العوامل الثقافية السياسية فتؤثر على موقع المعارضة من خلال الدور الذي تلعبه في تحديد مواقف الأفراد وتوجهاتهم إزاء النظام السياسي والتي تتراوح بين الولاء بمعنى أن تكون مواقف الأفراد ومشاعرهم وقيمهم متوائمة مع النظام السياسي، وبين الجمود أو اللامبالاة ،

وذلك عندما تكون المواقف والمشاعر والتقييم محايدة إزاء النظام أو غير إيجابية، كذلك تلعب الثقافة السياسية دورا في تحديد توجهات الأفراد إزاء الأفراد أو الجماعات الأخرى وبالتالي تحديد نمط السلوك السياسي كما تؤثر طبيعة هذه الثقافة أيضا على نمط المعارضة السائد، فالثقافات التي تقبل فكرة التعاون تشجع على التوفيق بين آراء المعارضة وتوجهاته.

أما الشرط الثالث فيتعلق بالأبنية الثقافية الفرعية التي تؤثر بدورها على أنماط المعارضة وعلى شكل استجابة النظم السياسية لها. فعندما يزداد حجم هذه الثقافات تزداد عملية الصراع السياسي، وتتنوع استجابات النظام بين القمع أو العنف، والانفصال، وحق الاعتراض المتبادل للحكومة والمعارضة، والاستقلال الذاتي( في حال وجود ثقافة فرعية إقليمية) ،

والتمثيل النسبي في البرلمان، والاستيعاب.

وأخيرا يشير الشرط الخامس إلى الاختلافات الاجتماعية- الاقتصادية وأثرها على النزاعات السياسية وتعنى أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتي تتضمن الطبقة والمكانة الاجتماعية والمهنة، وكذلك عناصر اجتماعية أخرى مثل الدين والجماعات الاثنية واللغة، تؤثر على درجة الولاء السياسي للأفراد ومواقفهم ، التي تحدد إلى حد كبير أمورهم الاجتماعية والاقتصادية ووظائفهم ،

ووفقا لهذه المقولة تصبح النزاعات السياسية تعبيرا عن الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية ، فإذا ما اتسم السلوك السياسة تجاه الشرائح الاجتماعية المختلفة بالاعتدال فإن ذلك يقود إلى التقليل من أثر الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية التي تفصل بينها.

وتشكل هذه الشروط أو العناصر الخمس محددات عامة يتحدد في إطارها موقع المعارضة السياسية وإستراتيجيتها المتبعة تجاه النظام، وهى ترتبط بدرجة التطور السياسي والاجتماعي والثقافي السائد، أي أنها قد تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حالة إلى أخرى. وكما تؤثر هذه العناصر على سلوك المعارضة السياسية فإنها تلعب دورا مقابلا في تحديد درجة النظام السياسي لمطالب هذه المعارضة ، وبالتالي على استراتيجياته تجاهها.

المعارضة في التحليل الاجتماعي: مفهوم الحركات الاجتماعية

أدى الطابع الاجتماعي- الاحتجاجي لجماعات المعارضة في النظم السياسية المعاصرة إلى اتجاه كثير من الباحثين على دراسة تلك الجماعات في إطار مفهوم الحركات الاجتماعية الذي يمثل أحد المفاهيم الأساسية في أدبيات التغيير الاجتماعي فدراسة الحركات الاجتماعية من حيث الجوهر هي : " دراسة للجماعات المكافحة عن وعى لتغيير مجتمعاتها ، فهي ليست دراسة للجماعات الساكنة نسبيا، أو للنظم الاجتماعية الراسخة ولكنها دراسة للجماعات والنظم الاجتماعية أثناء" عملية البزوغ".

ويمكن القول إن علاقة الحركة الاجتماعية بالتغيير الاجتماعي هي علاقة متبادلة ، فالحركات الاجتماعية بمثل ما هي أداة للتغيير الاجتماعي والثقافي فإنها أيضا نتاج لذلك التغيير، وتنشأ نتيجة لتفاعل عوامل عديدة في الحقل الاجتماعي، وإذا كان الاتفاق العام على القيم والسنن الاجتماعية هو جوهر التماسك الاجتماعي،

فإن ذلك لا يعنى أن كل القيم لابد وأن يشارك فيها كل عضو في المجتمع، إذ يمكن أن تكون هناك جماعات لها قيم خاصة وقوانين وسلوكيات خاصة، وتعيش في مجتمع واحد، ومع هذا يكون النظام الاجتماعي مستقرا، ولكن التغيرات الاجتماعية تحدث تغييرات تدريجية شاملة وعامة في نسق القيم ومن ثم يحدث تغير عام في أفكار الأفراد والجماعات فيتصدع البناء الاجتماعي المستقر نسبيا.

ومن هنا فإن التغيير في البنية أو في النظام الاجتماعي قد يؤدى إلى ظهور أنواع جديدة من السلوك الجماعي أو إلى ظهور جماعات جديدة تطرح أنماطا أو قيما مغايرة بحثا عن دور جديد في حال عدم قدرتها على التكيف مع التغيرات في النظام الاجتماعي القائم، أو بمعنى آخر توجد هذه الجماعات عندما تشعر بأن المجتمع غير قادر على إشباع مطالبها وإرضاء طموحاتها ،

مما يولد لديها حالة من القلق والإحباط تؤدى إلى نوع من التوتر الداخلي في المجتمع، خاصة إذا لم يكن هناك وسائل منظمة لاستيعاب المطالب الجديدة لهذه الجماعات ، وهنا تنشأ الحركات الاجتماعية الاحتجاجية والتي قد تبدأ شكل من أشكال النشاط غير المنظم أو العشوائي تعبيرا عن التمرد أو التبرم الاجتماعي لدى مجموعة من الأفراد.

ويمكن تلخيص المظاهر المصاحبة لنشوء الحركات الاجتماعية في وجود " سلوك جمعي أولى" يعبر عن أساليب جديدة في الفكر والعمل الاجتماعي للبحث عن أنماط للتكيف مع التغيرات الاجتماعية تتجاوز الأنماط التقليدية، ويتميز هذا السلوك " بالنمو التلقائي للمعايير وأشكال التنظيم الذي يعارض أو يعيد تفسير معايير وأشكال تنظيم المجتمع" ويرتبط هذا " السلوك الأول" بحالة من " القلق الاجتماعي " والمقصود بها وجود حالة من التبرم أي ظهور التبرم عند بعض الأفراد يثير حالة مشابهة من التبرم عند الآخرين بسبب اختلال أنماط حياتهم .

هذا التفاعل بين الأفراد قد يولد حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي أو " القلق الاجتماعي" الذي يمكن بدوره أن يكون قلقا دينيا أو اقتصاديا أو لأي أسباب اجتماعية أخرى، كما قد يعبر هذا القلق عن نفسه في سلوك عشوائي غير منظم بل وغير هادف أحيانا، ويقود هذا " القلق الاجتماعي" إلى مظهر من مظاهر نشوء الحركة الاجتماعية وهو" الإثارة الجماعية" ، التي تدفع الأفراد للعمل بشكل جماعي بصورة تلقائية لمواجهة هذا القلق،

وصياغة نموذج معين من السلوك مما يوجد نوعا من " الوعي الذاتي" لدى الجماعة يميزها عن نماذج وأنماط القيم السائدة في المجتمع، وهذه الحالة من " الإثارة الجماعية" تؤدى إلى المظهر الأخير لنمو الحركة الاجتماعية وهو " العدوى الاجتماعية" التي تزيد من سرعة وانتشار السلوك الخاص بالجماعة حيث أنها قد تجذب أفرادا جددا لم يكونوا في البداية جزءا من الجماعة وإنما آثارهم النموذج أو السلوك الجديد.

ويشير عالم الاجتماع الأمريكي" هربرت" إلى أهمية " القلق الاجتماعي" باعتباره المدخل الأول لتحطيم الأنماط والنماذج السلوكية الاجتماعية السائدة والذي يمهد لظهور فعل جماعي جديد قد يأخذ في النهاية شكلا من أشكال الحركات الاجتماعية التي تبدأ عادة في شكل نشاط غير منظم وتنتهي بحركة منظمة،

وتكون الحركة الاجتماعية بذلك وليدة للتغيرات التي يمر بها المجتمع وتتراكم عبر فترة من الزمن فالحركات الاجتماعية كما يشير هي مظهر هام للتغير الاجتماعي، وتبرز نتيجة لعدم القدرة على التكيف مع المجتمع أو بمعنى آخر عدم قدرة جماعة معينة على تقبل التغييرات الجديدة بسبب عدم إشباعها لمطالبها أو لحاجاتها الأساسية.

(ا) مفهوم الحركات الاجتماعية:

يتداخل مفهوم الحركات الاجتماعية أحيانا مع غيره من المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي ترتبط بعملية التغيير الاجتماعي، فقد يتشابه مع الاتجاهات أو الميول الاجتماعية ، حيث أن كلا منهما يتعلق بالظاهرة العامة للتغيير الاجتماعي، إلا أن ذلك لا يعنى تماثل المفهومين ،

فالمفهوم الأخير ينطوي على نوع من التحولات الواسعة في الاتجاهات والقيم السائدة، أي أنه يعبر في النهاية عن عملية اجتماعية وفى المقابل فإن الحركات الاجتماعية تتجاوز هذه العملية لتعبر عن نفسها في شكل تجمعات ترتبط بنوع من السلوك الاجتماعي المتماسك والمستمر وتمتلك في الوقت نفسه أهدافا واضحة ومحددة.

بعبارة أخرى لابد وان تعبر الحركات الاجتماعية عن نوع من الوعي الذاتي لدى جماعة معينة لأن مجرد تشابه المشاعر بين عدد كبير من الناس لا يشكل حركة. ويمكن القول بوجود حركة اجتماعية عندما يصبح الأفراد الفاعلون منتبهين لحقيقة أن لديهم مشاعر وأهدافا شائعة مشتركة بينهم، وعندما يعون أنهم متحدون كل مع الآخر في العمل وفقا لهذه المشاعر ومن أجل تحقيق هذه الأهداف.

وقد أدى هذا التداخل بين مفهوم " الحركات الاجتماعية" والاتجاهات الاجتماعية إلى محاولة بعض الباحثين التفرقة بين الحركات العامة والحركات الخاصة وتقترب الأولى في بعض جوانبها من مفهوم" الاتجاهات الاجتماعية" فيشير "هربرت" إلى أن الحركات الاجتماعية العامة تعبر عن تغيرات تدريجية شاملة وعامة في قيم الأفراد ترتبط بتحولات ثقافية في معتقداتهم، ومن أمثلة هذه الحركات كما يوردها " بلومر" حركة الشباب ، وحركة السلام، وحركة تحرير المرأة .

ويقترب مفهوم الحركات الاجتماعية العامة بهذا المعنى من الاتجاهات الاجتماعية، حيث لا يشترط أن يكون لها بناء أو تنظيم معين كحال الحركات الاجتماعية الخاصة.

فهي حركات غير منظمة تتسم بطابع التشتت وعدم الانضباط، ومن ثم فهي تقترب من الاتجاهات الاجتماعية، وبالتالي يصعب دراستها بنفس الطريقة التي تدرس بها الحركات الخاصة أو الجماعات المحددة.

وقد تمثل الحركة الاجتماعية العامة القاعدة لنمو الحركات الاجتماعية الخاصة، ونفس الشيء يسرى على الاتجاهات الاجتماعية التي تعطى النشأة للحركات الخاصة، ويشير " رودلف" إلى أن الحركة الاجتماعية تعكس عادة الاستجابة للتغيرات التي وجدت في شكل ميول واتجاهات.

هكذا يتضح تميز الحركات الاجتماعية عن الاتجاهات الاجتماعية رغم تشابه أو تداخل المفهومين عند مساحة معينة وبنفس المنطق يمكن التفرقة بين الحركات الاجتماعية والرأي العام فالأخير يعبر عن رأى جماعي بين مجموعة من الأفراد إزاء قضية محددة وينطوي على عملية تقييم لمسألة محددة، ولا شك أن الحركات الاجتماعية تسهم في خلق وتشكيل الرأي العام،ويختلط مفهوم " الرأي العام" بمفهوم "العمل الجماعي" فالعام – لدى محللي الرأي العام- صفة تشير إلى ظواهر جماهيرية وإلى اتجاهات الأفراد إزاء قضايا محددة وقد يكون فيها شكل من التنظيم الاجتماعي وإلى اتجاهات الأفراد إزاء قضايا محددة

وقد يكون فيها شكل من التنظيم الاجتماعي كما هو الحال في السلوك التصويتى الذي لا ينطوي بالضرورة على اتجاه جماعي نحو التغيير، وفى حين تسعى بعض الحركات الاجتماعية على تأييد " الرأي العام" وإقناع الآخرين بقضاياها إلا أن ذلك لا ينطبق على كل الجماعات.

وفى المقابل ، فإن الحركات الاجتماعية ليست هي التجمعات والاتحادات الطوعية ، ذلك أن كثيرا من الحركات الاجتماعية لا تتسم بدرجة التنظيم أو التحديد التي تتسم بها النقابات والأحزاب السياسية والتنظيمات الخيرية ، بعبارة أخرى ليست كل الحركات تنظيمات يمكن أن يلتحق بها الأفراد، أي تنظيمات ذات شروط معروفة للعضوية ولها برامج محددة واجتماعاتها المنظمة.

فالحركة" المكارثية" على سبيل المثال جسدت تيارا من المعتقدات والأنشطة دون وجود تنظيم معين. وأعضاؤها تحددوا بما كانوا يفعلون وبما يعتقدون،وبالتالي فكثير من الحركات الاجتماعية قد تتضمن عددا من التنظيمات ليست بالضرورة متسقة بل قد تدخل في صراع مع بعضها البعض.

وأخيرا ، يجب التأكيد على أن الحركات الاجتماعية ليست هي " السلوك الجماعي الأولى " رغم إدراج بعض علماء الاجتماع" الحركات الاجتماعية" ضمن مجال " السلوك الجماعي الأولى" بافتراض وجود توجه سكيولوجى – اجتماعي مشترك، والذي ينطبق على دراسة ظواهر التجمهر والغوغائية والجماهيرية..الخ، وهى الظواهر التي تجسد سلوكا جماعيا مشتتا وغير منظم.

ورغم ذلك، فهناك الكثير من مظاهر السلوك الجماعي التي تخرج من نطاق عملية التغيير الاجتماعي، إذ قد يحدث نوع من الشغب الجماهيري في أثناء مباريات الكرة، وقد يؤدى حادث عارض مثل اندلاع حريق على إشاعة الذعر في مبنى عام، كما أن جمهور المسرح يمكن اعتباره جماعة مشتتة وغير محددة،

ولكن يظل هذا السلوك وهذا التجمع ذا أهمية ضئيلة فيما يتعلق بتنظيم القواعد والعلاقات التي تدخل في إطار النظام الاجتماعي، ولا تسهم أي من هذه الظواهر في تفسير وفهم الصراعات والتغيرات في المجتمع.

ومع ذلك فلا يمكن إنكار أو التقليل من أهمية نواحي السلوك الجماعي في الحركات الاجتماعية، فكثير من مطالب التغيير ظهرت من خلال أعمال الشغب والاحتجاج، فمثل هذه الأفعال التي تتضمن غالبا هجوما على السلطة تعبر في جزء منها عن نوع من الاغتراب عن القيم السائدة ،

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تحليل التأثيرات المتبادلة بينها وبين القواعد والمعايير القديمة، إنما تمثل إطارا واسعا لدراسة عملية التغيير والاقتراب نحو رموز ومعتقدات جديدة.

ويمكن القول إجمالا إن ما يشكل الطابع المميز للحركات الاجتماعية إنما هو علاقتها بتحليل التغيير والصراع الاجتماعي والأفعال الجماعية التي تتضمن بدرجة أو بأخرى، رفضا صريحا للممارسات والمعتقدات السائدة،

وفى هذا الإطار فإن الحركة الاجتماعية تحاول أن تحدث التغيير بمقاومة السلطات والمعتقدات القائمة، وهكذا فإن كلا من الحركات الاجتماعية والفعل الجماعي يتضمن وجود هيكل أي تنظيم ما للأفراد ، وكذلك معتقدات ومشاعر حول ما ينبغي أن يكون وما سوف يحدث في ضوء عملية التغيير والصراع الاجتماعي.

وتنبغي الإشارة إلى أنه ليست هناك تعريفات ذات حدود صارمة في مجال العلوم الاجتماعية. فأي تحليل منهجي للظواهر الاجتماعية يجب أن يأخذ في اعتباره التداخل بين الميادين المختلفة للعلوم الاجتماعية وينطبق ذلك بالضرورة على تعريف الحركات الاجتماعية فهناك ظواهر قد يصعب وضع تعريف محدد لها ولكنها تساهم في تشكيل ونمو الحركة الاجتماعية،

ومن ذلك الأنشطة التي يطلق عليها أنشطة غوغائية أو المظاهرات وأحداث الشغب، والتي قد تبدو خارجة عن نطاق تعريف الحركة الاجتماعية، لأنها قد ترتبط بمطالب التغيير في النظام الاجتماعي، كما أن تحليلها يكون هاما لتحديد أبعاد أية حركة اجتماعية وتفسير نشأتها، بل إن هذه الظواهر قد تلعب دورا في صياغة مطالب التغيير الاجتماعي رغم أنها قد تأتى في شكل فعل اجتماعي غير منظم أو كعرض من أعراض السخط الكامن والمحتمل.

بعبارة أخرى هناك أفعال احتجاجية قد لا ترتبط مباشرة بتعريف الحركة الاجتماعية ولكنها تنطوي على مطالب التغيير مثل الحركات الخاصة بالحقوق المدنية والتي قد تمثل شكلا من أشكال الاعتراض على نمط قائم وبالتالي فإنها تدخل في نطاق دراسة الحركات الاجتماعية.

ويلخص " جوزفيلد" العناصر الأساسية لتعريف الحركات الاجتماعية في خمسة عناصر.

الأول: هو السمة الجماعية أي غير الفردية، فلحركات الاجتماعية هي في النهاية تعبير عن ظواهر جماعية كما أن المعتقدات والأفعال لابد وأن يتم ترجمتها من خلال أعضاء الجماعة، وينصب الاهتمام على أفعال الجماعة وليس على أفعال الأفراد، والحركات الاجتماعية ها نتاج لتفاعل بين الأفراد الذين يؤثرون على بعضهم البعض.

أما العنصر الثاني فيرتبط بوجود أنشطة ومعتقدات أي أفعال وأفكار تبغي إحداث تغيير ما، فالحركة الاجتماعية تتضمن ما هو أكبر من الإحساس بعدم الرضا أبا كان حجم ذلك الإحساس كما أنها تعبر عن وجود معتقدات أي إدراك لما هو سلبي في المجتمع سواء على المستوى الثقافي أو المؤسسي ورؤية لكيفية تغيير الوضع القائم.

ويشير العنصر الثالث إلى وجود مطالب معينة تحرك العمل الجماعي سواء كان ذلك للمطالبة بإحداث تشريعات اجتماعية جديد أو تغيير النظم القائمة في المجالات المختلفة مثل التعليم وغيره من المجالات على سبيل المثال ، فالحركات الاجتماعية ليست مجرد أدوات تعبير عن احتجاج ولكنها تسعى لتغيير المجتمع، وبالتالي فهي تمارس ضغوطا عليه، ولذلك فإن الحركات الاجتماعية تمثل نقاطا محورية للصراع في المجتمع وعادة ما تولد قضايا للنقاش العام.

ويتلخص العنصر الرابع ، في الدعوة إلى التغيير ، إذ يتضمن الفعل الجماعي ليس فقط عدم الرضا عن الوضع القائم ولكن وجود رغبة في خلق وضع جديد،وتنطوي فكرة المطالبة بالتغيير على عنصر عدم الرضا القائم سواء تمثل هذا الوضع في شكل سياسة عامة أو مجموعة من القواعد الاجتماعية، أو قيم معينة أو سلطات معينة ، وهذا التعبير عن عدم الرضا عن الوضع القائم هو ما يجعل أنشطة المعارضة ترتبط بدراسة الحركات الاجتماعية والأفعال الجماعية كأدوات ووسائل لإحداث التغير.

وأخيرا، يأتي العنصر الخامس والذي يتعلق بالنظام الاجتماعي فمطالب التغيير هنا ترتبط بالتغيير في النظام الاجتماعي بحيث تتعدى المطالب الجزئية والأهداف قصيرة المدى لتمتد إلى النظام الاجتماعي بأكمله، فعملية اجتياح "الباستيل" يمكن أن تدرس بشكل جزئي كمثال على الفعل الجماهيري، أما أبعادها فتمتد إلى مسألة التغيير الاجتماعي أي علاقتها بالثورة الفرنسية حيث ساعدت على إحداث تغيير شامل.

وبالمثل فإن موجات الشغب أو التمردات الطلابية في الجامعات تكتسب مغزاها الحقيقي من كونها جزءا من حركات اشمل تسعى للتغيير، وهذا الفعل بصورة مباشرة أو غير مباشرة .فالفعل الاجتماعي دائما يثير تحديات سواء للسلطة أو للقوى التي تسعى للإبقاء على الوضع القائم.

وهو ما يجعل الفعل الاجتماعي ينمو باضطراد ، فيدخل في إطار دراسة الحركات الاجتماعية التي تمثل جزءا أساسيا من دراسة الصراع والتغيير الاجتماعي.

عناصر الحركة الاجتماعية

يتفق أغلب الدارسين على: إن الحركة الاجتماعية في مرحلتها الأولى تكون تلقائية حيث تعبر عن وجود مطالب أو حاجة معينة عند الأفراد يعبرون عنها دون أن يرتبط ذلك بالضرورة بوجود أهداف واضحة محددة لديهم أو حركة منظمة، ثم تبدأ في مرحلة لاحقة عملية التنظيم والبناء الاجتماعي وتحديد الأدوار، وفى هذه المرحلة تأخذ الحركة الاجتماعية في تشكيل تنظيمات ويكون لها أيديولوجية واضحة وأهداف محددة وبالتالي إستراتيجية لتحقيق الأهداف، أي أنها تنتقل من مرحلة الشعور الجماعي إلى التنظيم.

ويرى بعض علماء الاجتماع أن الحركة الاجتماعية تمر بمراحل أربعة قبل أن تصل على مرحلة التنظيم، تبدأ بالقلق الاجتماعي، مرورا بمرحلة " الإثارة الجمعية" ،و" مرحلة التشكيل " انتهاءا بالمرحلة" التنظيمية" ، مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود فواصل وحدود قاطعة بين كل مرحلة ويقصد بالمرحلة الأولى الخاصة " بالقلق الاجتماعي وجود حالة من عدم التوازن في المجتمع في حالة تبرم مما يؤدى إلى حالة من القلق الاجتماعي، التي تؤدى بدورها إلى المرحلة الثانية وهى" الإثارة الجمعية" بمعنى تحريك الأفراد، واستثارة دوافع وأفكار جديدة تزيد من حالة التبرم الموجودة ،

هذه المرحلة تعمل على إعادة تقييم الأساليب والأفكار التقليدية القائمة والحث في المقابل على إيجاد أساليب جديدة في العمل والتفكير، أي أن عمق الإثارة الجمعية يؤدى على خلق مفاهيم ومعتقدات جديدة عند الأفراد تحركهم نحو أدوار اجتماعية يؤدى على خلق مفاهيم ومعتقدات جديدة عند الأفراد تحركهم نحو أدوار اجتماعية ، وتحتاج هذه المرحلة إلى وجود ميكانزمات أخرى حتى تأخذ الحركة الاجتماعية شكل التنظيم،

ومن ذلك نمو" روح الجماعة" التي تنقل مشاعر الأفراد من حالة التشتت إلى التماسك، وبالتالي تعطى استمرارية للحركة الاجتماعية، إذ أن " الروح الجماعية" تخلق إحساسا عميقا بالانتماء بين الأفراد كما تعطى معنى للتمسك بالقيم الجديدة في مواجهة القيم الاجتماعية القديمة، وهنا ينشأ نوع من الاتحاد غير الرسمي بين هؤلاء الأفراد ومن ثم يصبحون أكثر استعدادا لأداء أدوار اجتماعية جديدة،

وهكذا فإن نمو روح الجماعة يعمل على تنظيم مشاعر الأفراد ويسهم في تشكيل الحركة الاجتماعية بشكل منظم. ويتضح من ذلك أن أية حركة اجتماعية تعتمد على التنظيم من ناحية والأيديولوجية من ناحية أخرى، وهو ما نعرض له فيما يلي:

التنظيم

من مجمل ما سبق يمكن القول أن الحركة الاجتماعية أثناء نموها ومراحل تشكيلها تؤدى إلى خلق تنظيم يعبر عنها.

فكما يشير " هربرت" تنمى الحركة الاجتماعية تنظيميا وبناء يجعل منها جماعة متماسكة لها شكل بنا اجتماعي يشغل فيه الأفراد مراكز مختلفة ويؤدون أدوارا معينة، أي يظهر نوع من توزيع الأدوار، ويعتمد نجاح الحركة إلى حد كبير على قوة بنائها وتنظيمها من ناحية، وعلى ضعف بناء وتنظيم القوة المضادة لها في المجتمع من ناحية أخرى، وبتوزيع الأدوار وتقسيم السلطة داخل الجماعة أو الحركة يكون قد تم تنظيم وبناء الحركة.

فالبناء والتنظيم إذن يتم إذا أعطيت السلطة لأعضاء معينين من الحركة يكون لهم الحق في إعطاء أوامر إلى أعضاء الجماعة، وهؤلاء الأعضاء يعملون كوكلاء عن الجماعة سواء داخلها أو في علاقاتها الخارجية بالمجتمع أو بالجماعات المنظمة الأخرى، ويترتب على هذه السلطات مجموعة من القواعد ترتب أعمال كل أعضاء الجماعة وقراراتها ووسائل تنفيذها.

ويؤكد " مايرزالد" و" روبرت أش" على المدخل التنظيمي لدراسة الحركات الاجتماعية باعتبار أن هذه الحركات لابد وأن تعبر عن نفسها في النهاية في شكل تنظيمات، وأن هذه التنظيمات تخضع لاعتبارات داخلية وخارجية في آن واحد تؤثر على بنائها الداخلي، وعلى مدى نجاحها في تحقيق أهدافها.

ويعتمد هذا الإطار التحليلي للحركات الاجتماعية على نموذج " ماكس فيبر" ويقوم على مقولة أساسية هي:أنه عندما تصل الحركة الاجتماعية إلى بناء قاعدة اقتصادية واجتماعية معينة فإنها تستبدل الاعتماد على القيادة الكاريزمية بهيكل بيروقراطي للتكيف مع واقع المجتمع.

ويتم هنا الحفاظ على البنية التنظيمية للحركة بغض النظر عن تحقيق الأهداف. في هذا الإطار تصبح هناك ثلاثة أنماط للتغيير تشهدها هذه العملية وهى: التحول في الأهداف ، والانتقال إلى مرحلة التنظيم، وأخيرا التحول إلى الأوليجاركية.

وقد يأخذ التحول في الأهداف أشكالا عديدة تتضمن نشر أهداف الحركة وخلال هذه المرحلة تنشأ قيادة واقعية تستبدل الأهداف التي يصعب تحقيقها بأخرى أكثر واقعية. ووفقا لفيبر وميتشل فإن عملية التحول في الأهداف غالبا ما تضفى طابعا محافظا على الحركة وذلك لمحاولة تكييف أهداف التنظيم مع المجتمع أي مراعاة "الاتفاق العام" القائم.

ثم تأتى عملية التحول التنظيمي وهو شكل من أشكال التحول في الأهداف حيث يصبح الهدف الأول لنشاط التنظيم هو الحفاظ على العضوية، والتمويل، والدعم والمتطلبات الأخرى لبناء التنظيم. وهذه العملية يصاحبها أيضا درجة من النزعة المحافظة وذلك للتكيف مع القواعد التي يقوم عليها المجتمع وتجنب الدخول في صراعات تهدد وجود التنظيم واستمراره.

وأخيرا، تأتى "مرحلة الأوليجاركية " والتي يمكن تعريفها وفقا لفيبر بتركيز السلطة في أيدي أقلية من أعضاء التنظيم وترسيخ نوع من الهيراركية في المناصب والقواعد.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا النموذج لتحول الحركة الاجتماعية إلى تنظيم هو في النهاية شكل نظري محض. لأن عمليات التحول تثير قضايا عديدة وقد تتضمن احتمالات ومتطلبات أخرى، أو ظهور انشقاقات أو أجنحة داخل الحركة، قد تؤدى إلى زيادة الطابع الراديكالي وليس المحافظ للحركة.

ويشير زالد في دراسته إلى مدخل آخر لتعريف الجانب التنظيمي للحركة الاجتماعية وهو المدخل" المؤسسي " ووفقا لهذا المدخل فإن القاعدة العريضة من التنظيمات يمكن أن ينظر إليها على أنها تجمع لعدد من الجماعات التي تجمعها روابط مختلفة لتحقيق أهداف ضمنية، وفى هذه الحالة فإن أهداف الجماعات الفرعية قد تتعارض مع الأهداف التي تضعها العناصر السلطوية والبيروقراطية في التنظيم ويظهر الصراع حول عملية توزيع السلطة بداخله، وفى المقابل فإن وجود التنظيم في بيئة متغيرة تفرض عمليا ضرورة التكيف، قد يقود على تغيير الأهداف وإعادة الترتيب الداخلي للتنظيم.

هذا المدخل يتعامل مع أهداف التنظيم على أنها( إشكالية) تتغير وفقا للضغوط الداخلية والخارجية. ويركز أساسا على عملية الصراع مع القوى الخارجية أي البيئة المحيطة وبالتالي فهو يسمح بقياس فعالية التنظيم. في هذا الإطار يضع "زالد" تعريفه للتنظيمات الخاصة بالحركات الاجتماعية ويفرق بينها وبين التنظيمات الرسمية من زاويتين الأول، أن التنظيمات الخاصة بالحركات الاجتماعية تهدف أساسا على التغيير سواء على مستوى المجتمع أو الأفراد ، فهي تبغي إعادة بناء المجتمع وتغيير سلوك الأفراد.

والأخرى، تتلق بالتحول في الأهداف، فالتنظيمات الخاصة بالحركات الاجتماعية تتسم بوجود هيكل للحوافز وهذا على عكس ما أشار إليه فيبر وميتشل في نموذجهما بأن التحول في الأهداف يؤدى على ازدياد الطابع المحافظ على التنظيم، وإلى الأوليجاركية الهيكلية، ومن ثم يتم إغفال التفاعلات الداخلية بين الأهداف والهيكل التنظيمي.

وبالتالي فإن التعريف الخاص بزالد يركز على عاملين: الأول، هو علاقة التنظيم بالبيئة المحيطة به. والثاني، هو درجة التعاون بين مختلف التنظيمات الخاصة بالحركة الاجتماعية. فالأول يفسر عملية التحول في إطار العوامل الخارجية. والآخر، يركز على العمليات الداخلية في التنظيم بما يتضمنه من وجود أجنحة داخلية به،

ويثير المجال الأول الخاص بعلاقة التنظيم بالبيئة المحيطة به عدة عوامل تؤثر على نمو وقوة التنظيم وهى: مدى التغير في مشاعر التأييد للتنظيم من قبل الأفراد أو الأعضاء ،وعوامل التغيير في المجتمع التي تحدد قدرة التنظيم على تحقيق أهدافه، وأخيرا علاقة التنظيم بالتنظيمات الأخرى في المجتمع. فلا شك أن أية حركة اجتماعية منظمة لابد وأن تعتمد قدرتها على تعبئة الأعضاء أو بمعنى آخر على مدى التأييد الذي تتمتع به، وتتوقف درجة التأييد على مشاعر الأفراد تجاه التنظيم. ويضع "زالد" لقياس هذه المشاعر :

الأول مدى توافق أهداف التنظيم مع أهدافهم الخاصة. والآخر، مدى حيدة الجماعات والتنظيمات الأخرى في المجتمع تجاه الحركة الاجتماعية في شكلها التنظيمي أي مدى الشرعية التي تتمتع بها. ولكن مشاعر التأييد للتنظيم لا تؤثر على الحركة الاجتماعية بشكل مطلق، أو بمعدل متساو في كل الحالات، وقيسا تأثير الحركة بمشاعر التأييد يتوقف على عاملين هما: متطلبات العضوية، ومد توجه أهداف التنظيم لتغيير سلوك الأعضاء وليس المجتمع.

العامل الأول يثير مسألة العضوية الواسعة في مواجهة العضوية المحدودة للتنظيم. ففي الحالة الأولى أي العضوية الواسعة تتم عملية صعود وهبوط مشاعر التأييد للتنظيم بشكل أسرع من حالة العضوية المحدودة بسبب تعارض أو تنافس القيم والمواقف بين الأفراد، على عكس التنظيم ذي العضوية المحدودة حيث تكون القابلية للتعبئة أعلى.

أما فيما يتعلق بالعامل الآخر، الخاص بتغيير سلوك الأعضاء فالأمر يتعلق بإستراتيجية التنظيم الخاصة بتحقيق أهدافه الجوهرية أو الأساسية التي تسعى لتحقيقها في مجال ما وفى فترة زمنية معينة، والأهداف الإجرائية والأخيرة تبدو واضحة في التنظيمات الخاصة بالحركات الدينية، حيث تسعى لتغيير سلوك الأفراد والأعضاء أولا قبل تغيير المجتمع، والقيم المسيطرة فيه، والمؤسسات القائمة.

ويخلص "زالد" من ذلك إلى وضع بعض الافتراضات الأساسية الخاصة بالحركات الاجتماعية المنظمة ومنها:

• أن حجم التنظيم والقوة المحتملة لقاعدة مؤيديه ترتبط بدرجة المصالح التي تعبر عنها الحركات الاجتماعية، واتجاهات هذه المصالح في المجتمع (أي متوافقة- محايدة- أو عدائية) مع القيم و المؤسسات السائدة، وهى عوامل تؤثر مباشرة على قوة التنظيم واستمرار يته.

• كلما كانت العضوية في التنظيم محدودة، وكانت أهدافه تسعى إلى تغيير سلوك الأفراد ليس المجتمع كان أقل تعرضا للضغوط الخارجية ولعملية التحول في أهدافه العامة.

• أن التحول في الأهداف، والأساليب الخاصة بالتنظيم يرتبط مباشرة بعملية تغير مشاعر التأييد للحركة الاجتماعية، كما يرتبط بدرجة المنافسة الداخلية في التنظيم وبمدى تقبل قياداته لعملية التحول في الأهداف والأساليب . • أن التنظيم التابع لتنظيمات أخرى في إطار حركة اجتماعية وحدة يكون أقل فعالية من مثيله الذي يتمتع بقاعدة تأييد خاصة به.

• أن التنظيم الذي يكون له أهداف خاصة ومحددة تكون له إمكانية أعلى للنجاح من مثيله الذي يطرح أهدافا عامة واسعة.

• أن التنظيم الذي يهدف إلى تغيير الأفراد ويملك دوافع للتغيير يكون أكثر قدرة على البقاء من ذلك الذي يسعى لتغيير المجتمع بأكمله.

• أن التنظيم ذا العضوية الواسعة يكون أكثر قابلية للاختفاء من التنظيم ذي العضوية المحدودة إذ أن الأخير يملك مرونة أكبر في تبنى أهداف جديدة.

• أن التنظيم التابع لحركة اجتماعية عنيفة يمكن أن يخضع أكثر من غيره لنموذج فيبر- ميتشل لأنه يخلق نوعا من الأوليجاركية ويتسم بدرجة من المحافظة.

• أن التنظيم ذا العضوية الواسعة يكون أكثر قابلية للدخول في تحالفات أو اتحادات.

وتطرح هذه الفروض مجالا آخر لدراسة التنظيمات الخاصة بالحركات الاجتماعية وهو عملية التفاعل بين التنظيمات المختلفة ، فنجاح أو فشل الأساليب الخاصة بأية حركة اجتماعية كأنظمة يعتمد في جزء منه على التفاعلات والتنسيق بين التنظيمات الأخرى التابعة لنفس الحركة الاجتماعية ويركز هذا التحليل على عملية التفاعل والتبادل المصلحة ويضع لها أنماط ثلاثة هي: التعاون، والتحالف ، والاتحاد.

فالتعاون بطبيعته يكون نمطا محدودا في أية حركة اجتماعية منظمة، أما التحالفات والاتحادات فهي أكثر أهمية في دراسة التنظيم، إذ أن هذا النوع من التحالفات قد يقود إلى ظهور هويات تنظيمية جديدة، وتغيير قاعدة العضوية مع تغيير في الأهداف،

ولكن تنبغي الإشارة على أن " التحالف" يعمل على تجميع الموارد والتنسيق بين الخطط ولكنه يحافظ في الوقت نفسه على التمايز بين الهويات التنظيمية، وتلجأ التنظيمات عادة على الحالف إذا ما ارتبط الأمر بالحصول على تسهيلات أكبر أو مساعدات مادية أو تحقيق أهداف محددة. أما " الاتحاد" فهو نمط من التفاعلات بين التنظيمات يؤدى على طمس الهويات التنظيمية المختلفة.

وتعد هذه هي أهم العوامل الخارجية التي تؤثر على التنظيم، أما العوامل الداخلية فتتحدد أساسا في عنصرين وهما ظهور الأجنحة والانقسامات الداخلية والقيادة وفيما يتعلق بالعنصر الأول، أي الانقسامات الداخلية في التنظيم وظهور أجنحة مختلفة بداخله،

فيمكن إرجاعها إلى اختلاف القاعدة الاجتماعية أو الأسس المذهبية للسلطة ، أما بخصوص العنصر الآخر، وهو القيادة فيثير مسألة إحلال القيادة الكاريزمية . إذ كلما كان للتنظيم بنية بيروقراطية قوية كلما قلت حدة هذه المشكلة أى تغيير القيادة، والعكس في حال وجود بنية بيروقراطية ضعيفة للتنظيم.

الأيديولوجية

تعد الأيديولوجية إحدى الركائز الأساسية لتماسك أية حركة اجتماعية وبقائها، ولذا تعمل كل حركة على تنمية عقائدها الخاصة فالأيديولوجية من هذا المنظور تتضمن عناصر ثلاثة: أولها ،وصف الحاضر وتحليله.

وثانيها ، صورة معينة للمثل الأعلى السياسي والاجتماعي المنشود. وثالثها، الأداة أو الوسيلة التي تسمح بالانتقال من المجتمع الحاضر إلى المجتمع الذي تسعى إليه.

وينشد أصحاب الأيديولوجية والمدافعون عنها كلا من العقيدة والحركة أي الالتزام بالأيديولوجية ونتائجها، إنهم يوحدون حياتهم بها، يقبلون ما تحتويه من عقيدة ويعملون بإخلاص على تحقيقها ، والأيديولوجية لها جاذبية شعورية قوية بالنسبة لأولئك اللذين يقبلون بها ، كما تمثل مصدرا للكراهية الشديدة بالنسبة لمن يرفضونها.

وتنبثق قوة " الأيديولوجية " من المشاعر التي تثيرها لدى الطاقات الإنسانية التي تحررها والعمل الذي تحثها عليه، وبذلك فإن الأيديولوجية تستهدف مباشرة التأثير على السلوك السياسي.

فتتحول الأفكار من التجريد الفكري لتصبح أداة اجتماعية نشطة أي أيديولوجية ، وتطبق على مواقف محددة وتصبح أساسا للحركة، وبهذه الصفة تلحق الأيديولوجيات بكيانات سياسية معينة: حركة منظمة،جماعات، أحزاب سياسية.

إنها مذاهب تستهدف كسب الإيمان بها، وتجعل الناس يقبلون أو يرفضون قدرهم السياسي ، ويحشدون جهودهم للدفاع عن النظام القائم أو الثورة عليه.

ويورد" هربرت" تعريفا آخر مشابها للأيديولوجية ، فيشير إلى أن أيديولوجية الحركة الاجتماعية تشتمل على المذاهب والمعتقدات، كما تشتمل على الهدف، والغرض، ورعود الحركة، ثم مجموعة الانتقادات الموجهة للبناء الموجود الذي تهاجمه هذه الحركة وتسعى إلى تغييره، وأخيرا تتضمن الأيديولوجية حججها لتبرير أهداف الحركة ومجموعة من المعتقدات التي ترسم السياسات والعمليات الخاصة بها)

وفى سياق الحركات الاجتماعية الثورية يعبر بعض الباحثين عن العنصر الأيديولوجية أو المعنوي بتعبير القضية، أي القضية التي توضح الهدف النهائي للكفاح، ولكي تؤدى وظيفتها كعنصر أيديولوجي في الحرب الثورية، يجب أن تتصف بصفتين:

أولاهما، أن تشبع أقوى الرغبات، فكلما عظمت جاذبية القضية للشعب، عظم تأثيرها. كما تتضمن أكثر من جانب، بحيث تتوفر أكثر من دعوة لأكثر من جماعة، وتجذب بالتالي أغلبية ساحقة من السكان،

وفى جميع الحالات ، يوجد هناك أمل وفكرة نفسية محكمة البناء، تتضمن مستقبلا أفضل يبرر التضحيات المطلوبة وهى- من هذه الزاوية – تلعب الدور الذي لعبته الصور المقدسة في العصور القديمة، ولكن تلك الفكرة لا تكفى وحدها،بل تحتاج إلى المحافظة على الثقة فيها وتجديدها باستمرار ، الأمر الذي يتم بفعل النجاحات الجزئية التي تتم عن طريقها.

وثانيتهما ، أن يكون من المستحيل أو على الأقل من الصعب على القوى الحاكمة أن تواجه تلك القضية أي تفي بوعودها إزاءها، وذلك يفسر انتصار قضايا مقاومة الاستعمار والاستقلال القومي في أنه إذا كان من السهل على النخبة الحاكمة أن تتبنى القضية وتفي بمطالبها فإن فرصة الحركات الثورية في النجاح تكون ضعيفة ،وأن القضية القوية لدى الثوار يجب أن تتضمن دعوة متناقضة مع رغبات الطبقات الحاكمة.

غير أن التواصل إلى قضية قوية وفعالة يظل ينطوي على تناقض ما: فهي يجب أن تكون محددة وواضحة بحيث تلمس قلوب الشعب، ويجب أيضا أن تكون مجردة بحيث يصعب على القوى الحاكمة الوفاء بها.

وبعبارة أخرى فإن العامل المؤثر على جاذبية الإيديولوجية هو أنها بما تعلنه من أهداف للحركة تستجيب لآمال وتطلعات الفئات المحرومة والمظلومة اجتماعيا، وذلك من خلال ما تدعو إليه من تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبرى تؤدى بالضرورة على إعادة توزيع القوة في كل من النظامين الاقتصادي والسياسي، ويتبع ذلك أيضا تغييرات في مراكز القوى بين فئات المجتمع،

ومن ثم فإن إيديولوجية الحركة الاجتماعية تعمل على تغيير تصورات وأفكار جزء من أعضاء المجتمع، وتشكل منهم جماعة، وتعبر عن موقف هذه الجماعة ونظرتها للظروف الاقتصادية والسياسية من خلال هذا الموقف وفكرتها عن دورها في الحياة الاجتماعية ومركزها في البناء الاجتماعي . وبمقتضى الأيديولوجية تتكون مجموعة من الأنماط الفكرية التي تعمل على الترابط الفكري والوحدة الداخلية بين أعضاء الحركات.

وبذلك تعمل الأيديولوجية على تكوين " جماعة داخلية" ذات نمط فكرى موحد، ومعارض للنمط الفكري" للجماعة الخارجية" ويصبح هذا النموذج من التفكير الأيديولوجي مشبعا عاطفيا، وهو وإن كان يلاءم أفراد الحركات الاجتماعية إلا أنه يميز تفكير الأشخاص على كل المستويات الاجتماعية.

وتقف أيديولوجية الحركة الاجتماعية من الأيديولوجية القائمة في المجتمع موقفين مزدوجين:الأول، كسلاح مادي للجماعة الداخلية في صراعها مع الجماعات الخارجية. والثاني، هو اقتباس بعض الأفكار السائدة في المجتمع والتي تخدم أهدافها. وهكذا فإن كل نظرية اجتماعية تتأثر بسابقتها، فالاشتراكية- ولو أنها جوهريا عقيدة اجتماعية للطبقات العملة- قد احتوت عناصر كثيرة من فلسفة الحرية التي هي جوهر عقيدة خصمها الرأسمالية.

فلما كان فكر جماعة أو أيدلوجيتها هو نتيجة الظروف الاجتماعية المحيطة بها، فإن كل جماعة عند ممارستها الحياة السياسية تتضمن كل العناصر القائمة في الموقف الاجتماعي إذ ليس هناك ما يمنع الخصم من أن يستعمل أسلحة أيدلوجية من ترسانة الأفكار والأيديولوجيات الأخرى والمخالفة، حيث أن الحركات الاجتماعية التي تسعى إلى الاعتراف بها تميل إلى التعبير عن أفكارها في أشكال مقبولة، وتحاول في هذه الصياغة أن تكون في ثوب عقل رشيد.

وتكمن أهمية الدراسة الاجتماعية للأيديولوجية في الكشف عن أساليب قبول الجماهير للأفكار، وتميل الحركات الاجتماعية الكبرى إلى استيعاب اكبر قدر من الأفكار الاجتماعية السائدة، ولهذا فإن أيديولوجياتها تميل لأن تصبح تجميعا معقدا من الأفكار ، ويرى" رودلف" إن الأهداف المعلنة التي تتضمنها إيديولوجية الحركة لا تشكل دائما الأهداف الحقيقية لها، ففي بعض الأحيان تصاغ الأهداف بطريقة سطحية وتبسيطية وفجة لجذب أكبر عدد ممن لا يستطيعون استيعاب صيغة محددو.

إن البرامج الغامضة غير الصريحة يمكن أن تكون أكثر عونا من الخطط المحددة والمفصلة من إعادة التنظيم الاجتماعي، ومن ثم يمكن اعتبار أنه في بعض الأحيان تكون أيديولوجية حركة ما غير واضحة تماما للأعضاء أنفسهم، كما أن الأهداف النهائية قد تقتصر على دائرة صغيرة من القيادات،

ومن ثم فدراسة الحركات الاجتماعية عند رودلف لا تتم عن طريق أيديولوجياتها ككل ولكن عن طريق الأفكار الجوهرية التي تتضمنها تلك الأيديولوجية بالمثل لا تتعلق بصدقها التاريخي والسياسي من المنطق أو درجة الثبات التجريبي ولكن بالبحث عن أساسها في مصالح الجماعة القائمة بالحركة.

ويمكن القول إن الأيديولوجية ، كما تتضمن عناصر عقلانية فهي تتضمن بالمثل عناصر لا عقلانية ، ومن ثم فإن استخدامها كمدخل لدراسة الحركات الاجتماعية ، وإن كان يتطلب دراستها عن طريق التحليل المنطقي، فإنه بالضرورة يتطلب أيضا الإحاطة ببعض الأفكار الأسطورية وغير العقلانية، إذ أن هذا الجانب يمثل عنصرا هاما ومحركا قويا لاتباع الحركة، بحيث لا يمكن لأي دارس أن يتغاضى عن هذه العناصر اللاعقلانية ،

وعادة فإن أهم هذه ألأفكار اللاعقلانية تكون متضمنة في " أسطورة " الحركة التي تبشر بمجتمع الغد، وهذا ما دعا كثيرا من علماء الاجتماع إلى اعتبار أن الأسطورة من أهم عناصر الأيديولوجية إذ ما هي إلا شرط عن كيفية وجود الأشياء وتفسير لأسبابها وكينونتها إلى جانب تطلعها إلى مجتمع مثالي، أي الأمل في مستقبل أفضل.

ونخلص من ذلك إلى أن مفهوم الحركة الاجتماعية يقدم بعدا اجتماعيا تحليليا لدراسة حركات الاحتجاج والرفض التي تعبر عن معارضة عنيفة للنظام القائم ولكنها لا تندرج تحت التصنيفات السياسية التقليدية للمعارضة التي تعبر عن نفسها من خلال القنوات السياسية الموجودة والتي تسعى للحصول على مكاسب أو شروط سياسية أفضل لممارسة حقوقها دون الإخلال أو الانقلاب على النظام السائد،

وعلى العكس فإن الحركة الاجتماعية كتعبير عن أحد أنماط المعارضة تحمل أسبابا كامنة للانقلاب الجذري على كل من النظام والمجتمع، كما أنها تملك أدواتها الخاصة- من أيديولوجية وتنظيم- لتشكيل حركة منظمة تحقق من خلالها أهدافها ومطالبها التي تتجاوز الأهداف أو المطالب المحدودة لتشمل أهدافا واسعة لتغيير كافة أوجه المجتمع.

وكما سبقت الإشارة فغن الحركات الاجتماعية ذات الطابع الاحتجاجي عادة ما تظهر في الفترات الانتقالية التي يتعرض فيها النظام والمجتمع لعملية تغيير واسعة يصاحبها في العادة ضغوط شديدة على بعض الشرائح والفئات الاجتماعية، وبالتالي تكون مهيأة أكثر من غيرها لتشكيل حركة اجتماعية معارضة.

إن أهمية المدخل النظري الذي قدمه هذا المبحث سواء في جانبه السياسي أو الاجتماعي ترجع إلى ما يوفره من إطار تحليلي لدراسة أشكال المعارضة السياسية الإسلامية من ناحية، وأساليب تعامل النظام معها من ناحية أخرى وهى الظاهرة محل البحث، حيث اتخذت هذه المعارضة شكلين رئيسيين في استراتيجياتها تجاه النظام السياسي وتحددت في إطارها إستراتيجية النظام تجاهها:

الأول، سياسي يعتمد على الأساليب والقنوات السياسية القائمة ومن هنا يمكن تصنيفها ضمن أشكال المعارضة السياسية للنظام كما ورد في التحليل السياسي، والآخر، اتخذ طابعا احتجاجيا عنيفا ومثله الجماعات الإسلامية لمعاصرة التي خرجت في معارضتها للنظام عن الأشكال التقليدية للمعارضة السياسية وكانت أقرب من حيث تشكيلاتها الاجتماعية وحركتها السياسية على الحركات الاجتماعية ذات الطابع الاحتجاجي أو العنيف والتي هدفت إلى الانقلاب الجذري على النظام القائم،

كما عبرت هذه الجماعات عن حركة اجتماعية منظمة حيث امتلكت العناصر الأساسية لذلك من أيديولوجية وتنظيم تندرج في إطاره. وتسعى من خلاله لتحقيق مطالبها السياسية والاجتماعية بالأسلوب الانقلابي العنيف وهو ما قدمه التحليل الاجتماعي في هذا الفصل.

الفصل الثاني أشكال الحكم والمعارضة في التاريخ الإسلامى

أشكال الحكم والمعارضة في التاريخ الإسلامى الفكر والممارسة

يتعرض هذا الفصل لا أشكال الحكم والمعارضة على مستوى الفكر أو الممارسة كما عرفها التاريخ الإسلامي وذلك مراعاة للبعد الإسلامي والديني الذي عبرت منه المعارضة السياسية الإسلامية المعاصرة في مواجهتها للنظام والذي اكسبها خصوصية تميزها عن باقي إشكال المعارضة السياسية .

ويعرض الفصل للمبادئ الأساسية للحكم في الإسلام , والتي تقوم على البيعة والشورى كركيزتين أساسيتين , ويقارن بين هذه المفاهيم والمفاهيم التي تقوم عليها نظم الحكم السياسية الحديثة , وفى نفس الإطار , يعرض المبحث لأنماط المعارضة كما تحددت المفاهيم الحكم الإسلامي ,وكما قدمتها الخبرة التاريخية عبر الممارسة السياسية في العهود المختلفة , ويقارن بين إشكال هذه المعارضة ومثيلاتها في نظم الحكم الحديثة .

مبادئ الحكم في الإسلام

لم يعرف الإسلام شكلا واحدا لنظام الحكم والمعارضة يمكم الاستناد عليه لتعيين صورة النظام السياسي الإسلامى , فاختلاف أساليب الحكم التي عرفها التاريخ الإسلامى تبرز تنوع الأنظمة السياسية التي تعاقبت داخل الإمبراطورية الإسلامية ليس فقط في مراحل زمنية مختلفة وإنما أيضا في المناطق الجغرافية المختلفة داخل نفس الإمبراطورية .

لم تكن "الخلافة " هي الشكل الوحيد الذي عرفه التاريخ الإسلامي , إذ عرف بعد عهد الراشدين تنوعا في إشكال الحكم دافع عنها الأمويون , ثم العباسيون , وهناك إشكال أخرى محلية سادت في ظل أو على هامش الخلافة العباسية مثل نظام الإمارات التابعة أو المستقلة والتي تفردت بصورة تدريجية في المناطق الحدودية كنظام الخلافة الأموية في اسبانيا ونظام الأمراء البويهيين الذي فرض نفسه طيلة قرن من الزمن على خلفاء بغداد ثم نظام حكم السلاطين السلوجوقيين أبنداء من عام 1045 ذلك غير المرابطين وأنظمة الحكم غير السنية مثل الفاطميين .

إن هذا التحليل ينطلق من عدم وجود نص قرآني يحدد بشكل قطع شكل الحكم والنظام السياسي. فالآية التي يعتمد عليها في تحديد شكل الحكم والتي تقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم لا تشير إلى طبيعة الحك بقدر ما تربط بين الطاعة السياسية والطاعة الدينية، فالمفترض ألا يكون لدى الخلفاء شرعية سلطة تساوى سلطة الرسول(صلعم) فالخليفة متبع( القرآن والسنة) وليس بمبتدع فإذا خرج عن ذلك فلا طاعة له على الناس .

ويستنتج البعض من ذلك أن السلطة أصبحت عمليا تستمد من المبادئ وتقوم على إرضاء الأمة استنادا إلى مقولة أبى بكر الشهيرة فى خطبته "إن أحسنت أعينوني وإن أخطأ فقوموني". بمعنى أنه قرن الخلافة برضاء الأمة.

ولا يعنى ذلك أن طبيعة السلطة ظلت واحدة في عهود الخلافة المختلفة، فقد برزت على مر التاريخ منذ بداية الحكم الأموي ثلاثة تصورات كبرى عن " الحكم" تحدد طبيعة السلطة وشرعيتها: الأول، يرى أن الخلافة يجب أن تعود لعلى بن أبى طالب لحجتين أساسيتين ويمثله الخوارج الذين رأوا أن الخلافة يجب أن تعود إلى أفضل عناصر الأمة، دونما اعتبار للنسب والعصبية، كما يجب أن تكون مؤقتة أي أن بقاء الخليفة مرتهن بسياسته وليس (بشرعيته العصبية) ويكون معرضا للعزل في حال خروجه عن الشريعة،

أما التصور الثالث، فيتسم بالطابع المحافظ ويمثله أهل السنة الذين تنتفي عندهم فكرة الحاكم الملهم أو المعصوم ولكنهم لا يوافقون في الوقت نفسه عل حق إعلان إسقاط الخليفة أو استبداله بعد تنصيبه، وقد وقف هذا التصور وراء الدفاع عن الخلفاء الأمويين والعباسيين باعتبار أن الحاكم الذي اختارته الأمة ليتولى قيادتها حسب مبادئ الشريعة والذي يدافع عن مصالحها لا يخاف العزل أو الإسقاط، وقد تحايل الحكام الأمويين والعباسيون لجعل الخلافة وراثية بتعيين أبنائهم وأخذ البيعة لهم.

وانطلاقا من هذا التصور تبنى الخلفاء الأمويون منذ عصر عبد الملك بن مروان عقيدة "الإرجاء" التي تفصل بين العمل والإيمان،وبموجبها لا يملك أحد أن يحكم على أعمال الآخرين سواء كان الخليفة أو غيره من عامة المسلمين، وبنفس المنطق لا يكون للخليفة- تمشيا مع هذا التصور السني- أن يدعى لنفسه أية صفة خارقة ولا يعتبر معصوما كما أن قبول الناس بالخليفة يعد مؤشرا لوجوب طاعته حماية للأمة من الفرقة،

وقد دافع العباسيون بعد ذلك عن نفس التصور للحكم الذي دعمه قبلهم الأمويون وبرروه بشكل أساى خلال القرن التاسع على يد الفقهاء " الحنابلة " فقد أكدت هذه المدرسة على وجوب اتباع وطاعة الخليفة تلافيا للفتنة، ومن هنا فإن معارضة الخليفة كان ينظر إليها على أنها فتنة.


وإذا كانت هذا اللمحة السريعة عن التصورات الكبرى التي سادت في مجال الحكم الإسلامى تشير إلى عدم وجود شكل واحد للنظام السياسي في الإسلام يحدد طبيعة الحكم ودور المعارضة ، إلا أن هناك محددات عامة لشكل الحكم الإسلامى وتتركز حول محورين أساسيين هما: البيعة، والشورى.

البيعة

تعنى البيعة ضمنا حرية اختيار الحاكم أو الخليفة من قبل الأمة كما أنها بدورها توجب ولاء وطاعة الشعب له، فطاعة الخليفة مكملة لمبدأ الاختيار وهما ركنا البيعة وقد حرص الرسول(صلعم) نفسه على تطبيق هذا المبدأ حيث بويع أكثر من مرة مثل بيعة النساء في بيعة العقبة الأولى، والثانية( البيعة الكاملة) وكانت بيعة العقبة محدودة ومقصورة على قادة أهل يثرب ،

ثم (بيعة الشجرة) وهى البيعة التي طلبها الرسول (صلعم) ممن كانوا معه في الحبشة يوم توجه إلى مكة. ويصل البعض من ذلك إلى نتيجة مؤداها أن الرسول (صلعم) أراد بإقرار مبدأ البيعة جعل السلطة غير مطلقة، وأنها عمليا تستمد من المبادئ وتقوم على رضاء الأمة، خاصة وأن البيعة والشورى قد ورد فيهما نص قرآني صريح.

ومن الناحية النظرية فإن مبدأ البيعة يقوم على "حرية الإرادة وانتفاء الإكراه" مما يتيح مجالا للمعارضة في حال إخلال الحاكم بشروط البيعة أو أخذه لها بالإكراه، إلا أن الواقع العملي يشير على ممارسات مختلفة فيما يتعلق بالبيعة التي تحولت خلال العهود الإسلامية المختلفة بالذات منذ الحكم الأموي إلى مجرد إجراء شكلي حرصا على استمرار مظهر الخلافة بغض النظر عن مضمونها،

وقد روعي في هذا الإطار أن تكون هناك بيعتان(خاصة) و(عامة) إشارة إلى ثمة هيئة تمارس الاستشارة وتتخذ القرار، بالرغم مما أصاب هذه الممارسات من خلل في التطبيق. وحتى إذا ما تم الاختيار من الخاصة تتم البيعة العامة أي من باقي أفراد الأمة.

وتجدر الإشارة إلى أنه ليست هناك طريقة محددة لاختيار الحاكم إذ أن هذا الأمر يختلف باختلاف الزمان والمكان ويتطور حسب الظروف والأصول، ويتضح ذلك من طريقة اختيار أبى بكر للخلافة يوم السقيفة بعد مفاوضة ومشاورة وجدل بين المهاجرين والأنصار، ثم في طريقة اختيار أبى بكر لعمر بن الخطاب الذي عهد إليه بالخلافة بعد أن استشار كبار الصحابة فيمن يخلفه.

أما عمر بن الخطاب فقد جعلها شورى في ستة من أصحابه واختير من بينهم واحد هو عثمان بن عفان . ويستنتج البعض من ذلك أنه ليست هناك طريقة معينة في اختيار الحاكم وإنما مرد ذلك إلى الأمة، التي لها أن تختار من الوسائل ما يتفق مع ظروفها وأحوالها ولكن بعد أن تتوفر الشورى كشرط أساسي.

الشورى

تعد الشورى هي المحور الثاني الذي يتحدد على أساه شكل الحك. حيث يشير أغلب لباحثين في هذا المجال إلى أنها تعبر عن أسلوب ممارسة الحكم وأحد المبادئ الهامة التي تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فيشير سيد قطب إلى أن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيا للدولة فهو طابع أساسي للجماعة كلها يقوم على أمرها كجماعة ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة،

ومن هذا التعريف نجد أن الشورى تتجاوز المعنى اللغوي للاصطلاح الذي يعنى التشاور وإبداء الرأي بين الجماعة، إلى بلورة صيغة للحكم والتعامل بين الحاكم والجماعة، ويشير البعض إلى التطور الذي حدث في عهد الخلفاء الراشدين قد أوجد بعدا آخر لمبدأ الشورى على أساس أن( الهيئة) التي كانت تمارس الشورى زمن الرسول (صلعم) وبإشرافه أصبحت هي المسئولة عن ذلك بعد وفاته فالخليفة ليس رسولا وإنما هو أحد أعضاء الهيئة التي كان يستشيرها الرسول.

ومن هنا يصل أصحاب هذا الرأي على أن هذا التطور قد أعطى الشورى تحديدا أكثر، حيث تهدف إلى إرساء حكم الجماعة وضمان بقاء المداولة في سياستها للرعية، وتضيف تعريفات أخرى وظيفتين أساسيتين للشورى: الأولى، هي تقرير أن أمر المسلمين يقوم على الشورى حتى لا يستبد أحد بالرأي . والأخرى، هي مشاورة المسلمين فيما يعرض عليهم من قضايا لم ينزل بها وحى، ومن هنا يستخلص البعض أن الشورى هي شورى مدنية وسياسية وليست شورى دينية.

ولكن هل أوجدت الشورى كمبدأ أو محدد أساى من محددات الحكم الإسلامى نظاما واحدا يحولها من مبدأ عام إلى شكل مؤسى؟ أو من النطاق الفردي غير المنظم على التنظيم المحكوم؟

تعد الهيئة التي تشكلت في عهد الرسول(صلعم) والتي ضمت عشرة من الصحابة بمثابة السابقة أو النموذج الذي يقسي عليه العديد من المفكرين موضوع الخلافة وأحكامها حيث ماتت هذه الهيئة أشبه بحكومة الرسول ( صلعم) التي استأثرت بمنصب الخليفة ترشحه من بين أعضائها وتختاره ثم تبايعه بعد ذلك ليصدق على قراراها من حضر"المدينة" من المهاجرين والأنصار .

وأهم الملاحظات التي يجمع عليها كثير من الباحثين حول هذه الهيئة وطريقة اختيارها ووظيفتها أن معيار اختيار هؤلاء العشرة قد تم على أسا "العصبية" والنفوذ، إذ أنهم كانوا من قريش ويمثلون رموزا لأهم عائلاتها، أي بمعنى آخر كانوا يتمتعون بنفوذ كبير بسبب مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية، وهكذا فإن النفوذ والعصبية كانا معيار الاختيار الأول ويستند في ذلك إلى ما ذهب إليه ابن خلدون من أن قريش كان لها الحق في هذا بمقتضى عصبيتها،

بمعنى أن هذا الحق لم يكن حقا مطلقا لقريش وإنما رآه ابن خلدون حقا لها ما بقيت عصبية قريش فإن ذهبت عصبيتها ذهب معها هذا الحق، وانتقل إلى من تكون لع العصبية من بعدها من العرب وغيرهم،وهو ما يعطى وزنا هاما لمبدأ "العصبية" في ذاته كمكون أساسي من مكونات تشكيل الهيئة الخاصة للشورى.

ولكن ما يهم الإشارة إليه في هذا المجال هو أن تجربة الشورى في الدولة الإسلامية قد أجهضت بعد زوال هذه الهيئة الأولى التي نهضت بمهام ترشيح الخليفة وتنظيم عملية الشورى لاختياره وتقرير هذا الاختيار من خلال عقد البيعة له، ولعل الموقف من خلافة عثمان بعد السنة الخامسة منها ثم عزله وقتله، تظهر اضمحلال دور الشورى بعد فشل أهل الشورى في قيادة الأحداث وإنقاذ الأمة من الانقسام،

وعندما اختلف من تبقى من هذه الهيئة التي تمثل أهل الشورى (على والزبير وطلحة) بعد ذلك، بدا واضحا أن الشورى لم تعد فلسفة للحكم ولم تعد مؤثرة كما كانت وأن دور الصحابة في قيادة المجتمع والدولة قد اضمحل أو انتهى،

ورغم ذلك ظلت الشورى كتقليد يحرص عليه في العصور التي تلت عصر الراشدين، غذ أنه بعد استشهاد آخر أعضاء هيئة المهاجرين الأولين انتهت دولة الخلافة ونظامها، وانتقل الأمر إلى معاوية وبني أمية وتحولت الخلافة إلى ملك. فكما يشير د. عمارة " لقد ذهبت الشورى بذهاب دولة الخلافة ونظامها وفلسفتها في الشورى ولم نسمع عن الشورى إلا حديثا تردده الفرق الإسلامية المناهضة لنظام الحكم التي سادت وهو حديث نظري وأكثر من ذلك أنه حديث يتناول الشورى دون أن يقدم تصورا بشكل تنظيمي يجسد الشورى في مؤسسة من المؤسسات،

إلا أن هذا التراجع لتجربة الشورى وفلسفتها لا يعنى أن التفكير في إعادتها في شكل منظم قد غاب تماما عن ساحة الفكر أو التطبيق فهناك تجربة" عمر بن عبد العزيز" عندما تولى أمر المدينة قبل توليه الخلافة وشرع في تكوين مجلس محلى للشورى، لتعلو سلطته على سلطة الوالي حيث اختار عشرة أعضاء لهذه المهمة على غرار ما حدث في هيئة الشورى الأولى، وقد كان من حق هذا المجلس المراقبة ورصد التعدي وظلم العمال كما كان من حقه على الوالي ألا يقطع برأي إلا بعد استشارته.

ومن الناحية الفكرية ثار جدل حول كيفية ممارسة الشورى وتمحور حول شكلين أساسيين: الأول، هو الشكل الفردي والآخر، الجماعي: فالشورى في صورتها الفردية تعنى أن يستمع الحاكم لآراء أهل الشورى كل على انفراد، أما الصورة الجماعية لها فتقتضى وجود شكل منتظم لاجتماع أهل الشورى يدور فيه الحوار وتؤخذ الآراء اجتماعهم مع الحاكم بشكل جماعي.

ويعرض الماوردى لهذه القضية الخلافية ويشير على مذاهب الأمم المختلفة في هذا الصدد، ثم يعرض مذهبه فيقول:" إن مذهب الفرس هو الاجتماع المنظم لأهل الشورى، وهناك أمم أخرى تفضل استشارتهم كأفراد وعلى انفراد" أما مذهبه هو فيقوم على الجمع بين الرأيين والاستفادة من محاسنهما حسب طبيعة القضية المطروحة للاستشارة وأهميتها.

نخلص من ذلك إلى عدة أمور أساسية حول الشورى كفلسفة للحك الإسلامى يمكن بلورتها حول ملاحظتين أساسيتين:

أولاهما، أنها استندت أساسا على العصبية في اختيار الهيئة الأولى التي تشكلت من كبار الصحابة، وكانوا إذا غاب احدهم أو قتل أو توفى تصبح الشورى في أقرب الناس الذين يماثلونه في الخصائص والصفات،

وبالتالي لم ترس قواعد أو نظم يمكن على أساسها استنباط شكل مؤسسي يضمن استمراريتها وبقيت الشورى- حتى في محاولات إحيائها خلال العهود المختلفة- في النطاق الفردي وليس المؤسسي، والذي يرتبط بشخص الحاكم وطبيعة السلطة التي يمارسها.

وثانيتهما، أن ممارسة الشورى أي وضعها موضع التطبيق اختلف من زمن إلى الآخر فشهدت مراحل صعود وهبوط وفق العهد الذي مورست فيه ويمكن من خلال الاستعراض التاريخي السريع القول- أن الرسول (صلعم) عندما هاجر في عام 661م ، أي بعد 13 عاما من الدعوة ، من مكة – على المدينة حيث كون الدولة الإسلامية الأولى، وجمع بين المهاجرين و الأنصار، راعى أن يكون أسلوب إدارته للمدينة قائما على أساس الشورى في الشئون التي لم يرد بها نص قرآني.

واستمر الوضع في عهد الخلفاء الراشدين خاصة الثلاثة الأوائل ولكن بوفاة الخليفة الرابع انتهى حكم الخلفاء الراشدين القائم على الشورى سواء فيما يتعلق باختيار الحاكم أو في اتخاذ القرارات العامة. واختلف الأمر في العهد الأموي (41-132 هـ) (661-750م) فلم يستمر اعتماد الحكم على الشورى بعد انتقال الخلافة على معاوية بن أبى سفيان فتحولت الخلافة القائمة على الشورى إلى الملك الوراثي في جوهرها حتى وإن احتفظت شكليا بالخلافة – باستثناء حكم عمر بن عبد العزيز- كما سبقت الإشارة- إذ عند خلفاء بني أمية إلى أساليب القوة والإلزام لأخذ البيعة قهرا.

واستمر الحال في العهد العباسي (132هـ) (750-1258م) بعد زوال الدولة الأموية، إذ استمرت الخلافة وراثية ولم يبق منها إلا اسمها ، وحتى البيعة الشكلية التي كانت باقية انتهت، واستمر حرمان الأمة المشاركة في شئون الحكم، أي انتهى فعليا أمر الشورى كأسا للحكم، وقد عرف العباسيون بالاستبداد،

ففي عهدهم اضطهد كثير من كبار الأئمة وبعض علماء الفقه الإسلامى مثلما اضطهد الخليفة" المنصور" الإمام" مالك" من أجل فتوى سياسية واضطهد الإمام" أبو حنيفة " وغيره لرفضهم تولى مناصب قضائية.

واستمرت خلافة بني عباس أكثر من خمسة قرون ثم توارثها سلاطين بني عثمان في سنة 1517 إلى أن انتهت هذه الخلافة الاسمية على يد كمال أتاتورك في 2 مارس سنة 1924.

هكذا يتضح أنه لم يوجد مجلس للشورى بالمعنى المعروف فى العصر الحديث أي هيئة تتكون من عدد معين وفقا لشروط معينة وذات اختصاصات محددة ويسرى ذلك على عهد الرسول(صلعم) والخلفاء الراشدين رغم اتباعهم للشورى، إذ كان المجتمع العربي بطابعه القبلي ولذا كان رؤساء القبائل والبطون هم الذين لهم الحق في تمثيل الجماعة التي يتزعمونها والذين يشكلون هيئة الشورى. وسمى هؤلاء فيما بعد عصر الرسول بـ " أهل الحل والعقد" وهى نفس القضية التي يطرحها مبدأ "الشورى" أي عدم وجود شكل مؤسسي منظم لها.

ويشير السيد سابق على وظيفة أهل الحل والعقد بقوله:

إن أكمل سلطة هي ما استندت على إرادة الأمة كما قرر علما القانون، ولهذا فإن الإسلام أعطى الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد من الرؤساء والعلماء والقادة وأهل الرأي حق اختيار الحكام كما أعطاهم حق عزلهم، جريا على القاعدة القائلة بأن من ملك المسئولية ليستقيم الأمر، يملك العزل عند اعوجاجه ويضيف د. على جريشة " بأن عزل الحاكم إذا ما حاد عن إقامة الشرائع هو وسيلة إقامة الشرائع هو وسيلة إقامة النظام السياسي الإسلامى، ولكنها وسيلة خطيرة- على حد قوله- قد تؤدى إلى فتنة،

ومن ثم وجب استعمال الوسيلة على نحو دقيق بحيث لا تتاح للعام والخاص على السواء وإلا عدل من هذه الوسيلة سدا للذريعة من هنا يرى أن يكون أمر المسلمين إلى هيئتين، "أهل الاجتهاد" يستنبطون الأحكام من أدلتها لمواجهة الحاجات الجديدة، و" أهل الحل العقد" يواجهون سائر الأمور العامة التي تهم المسلمين،

وإذا كان أفراد هاتين الهيئتين على مستوى من العلم والمسئولية يؤهلهم أن يتقدموا الناس وإذا كانوا هم الذين يعتقدون البيعة للحاكم- أو الخليفة- في الابتداء فإنه يكون إليهم باعتبارهم ممثلين للأمة، أن ينتقدوا بيعة الحاكم في الانتهاء إذا أخل بالشريعة وخرج على النظام واستنفدت سائر الوسائل في تقويمه، وبذلك لا يرى إعطاء حق عزل الحاكم للعامة لما قد يؤدى إليه ذلك من الفوضى والفتنة.

والوقع أنه ليس هناك تعريف واحد دقيق يعبر عنه مصطلح (أهل الحل والعقد) فالتراث الفقهي يعرف مصطلحات (أهل الشورى)، و( أهل الحل والعقد) ، و(أهل الاجتهاد)،و( أهل الاختيار ) ومن قبل يذكر القرآن الكريم مصطلح (أولى الأمر) ويصعب التفرقة الدقيقة بين هذه المصطلحات كما يصعب بصفة حاسمة تحديد مصدر مصطلح (أهل الحل والعقد) وإن كان هناك شبه اتفاق على أن من كتب في هذا الشأن هو الإمام أبو الحسن الماوردى المتوفى عام 450 هـ في كتابه " الأحكام السلطانية"

واستنتج البعض من أقواله أن(أهل الاختيار) الذين يقومون باختيار الخليفة هم( أهل الحل والعقد) وأهل الشورى. ويحدد الماوردى شروطا ثلاثة يجب توافرها فيهم هي: العدالة والعلم والرأي والحكمة وهذه الشروط كما هو واضح عامة يصعب معها الفصل أو القطع فيما إذا كان أهل الشورى هم من " العلماء " أو من " الساسة" أو من غيرهم كما يشير د. محمد ضياء الريس إلى أن البغدادي في كتابه أصل الدين يسمى (أهل الاختيار ) بأهل الاجتهاد.

ويخلص البعض من ذلك على أنه لا فرق بين هذه المصطلحات فأهل ( الحل والعقد) هم أهل ( الشورى) ولا يعنى عند الأصوليين غيرهم عند علماء السياسة الشرعية، فالهيئة المشار إليها في باب " الأمانة" تختلف عن تلك التي تذكر في كتب ( علم الأصول) وإن كانت كل منهما تسمى بنفس الاسم، وذلك لأنه يشترط في الأفراد الذين تتكون منهم الهيئة الأولى أن يحصلوا من العلم على القدر الذي يؤهلهم لأن يكونوا عارفين بظروف المجتمع وأحواله السياسية ، وقادرين على اختيار الأصلح للخلافة،

أما في الهيئة الثانية فلا يكتفي بأن يكون الفرد مجتهدا كما أو ( أولى الأمر) عند بعض الفقهاء هم" الأمراء والعلماء" وهو على عكس ما انتهى إليه الشيخ محمد عبده، الذي أشار إلى أن ( أولى الأمر) هم أهل ( الحل والعقد) الذين يشملون إلى جانب الأمراء والحكام والعلماء،

رؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه، فهو إذن يوسع من دائرة ( أهل الحل والعقد) ولا يقصرها على العلماء المجتهدين ويضيف إليهم الجند والقضاة وكبار التجار والزراع وأصحاب المصالح العامة ومديري الجمعيات والشركات وزعماء الأحزاب والكتاب والأطباء والمحامين الذين تثق فيهم الأمة فئ الحفاظ على مصالحها وترجع إليهم في مشكلاتها،

ويشير رشيد رضا بأن المقصود ( بأولى الأمر ) هو أهل الحل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة ، وهم أيضا أهل ( الشورى) الذين يختارون ويسمون في الدول الأخرى نواب الأمة. ويشير الشيخ محمود شلتوت إلى نفس لمعنى( بأن أولى الأمر هم الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث مختلف الشؤون السياسية والقضائية والمالية، وغيرها من الجوانب وهم بالنسبة له أيضا " أهل الإجماع" الذين يكون اتفاقهم على أمر حجة يجب النزل عليه).

ومن هنا أصبح مصطلح أهل الحل والعقد أكثر اتساعا في بعض التفسيرات ولا يقتصر على أهل الاجتهاد بالمعنى الفقهي فلم يعد هناك إجماع على شروط اختيار أهل الحل والعقد أو على نمن يتوافر فيهم العلم المؤد إلى الاجتهاد في الأحكام الشرعية، واكتفى البعض بتوافر شرط العدالة والحكمة والخبرة في شؤون الحكم والسياسة.

يبقى فيما يتعلق بمسألة الشورى كأساس يقوم عليه نظام الحكم في الإسلام قضية هامة وعلى ضوئها يتحدد شكل المعارضة ، وتتعلق بمدى إلزامية الشورى للحاكم، وهو قضية بدورها محل جدل وتختلف حولها الآراء مثلما اختلفت حول تحديد القائمين عليها أي أهل ( الحل والعقد).

فهناك من يرى أن الشورى غير ملزمة في الإسلام وأنها فقط للاستنارة، وللحاكم الحرية في الأخذ بما اتفق عليه أهل الشورى أي لا يأخذ بها، في المقابل تجتهد بعض الآراء في جعل الشورى ملزمة للحاكم حتى لا تكون سلطته مطلقة، وبين الرأيين يبرز رأى ثالث يحيل القضية للأمة أي الشعب فهو الذي يحدد في النهاية ما إذا كانت الشورى ملزمة للحاكم أم لا ،

والواضح أن تعدد الآراء في هذا الصدد يرجع إلى عدم قطعية النص القرآني وحسمه فيما يتعلق بالتزام بالشورى وبالتالي فإن مسألة التزام الحاكم برأي الشورى أو عدم التزامه به من المسائل التفصيلية التي قد تختلف باختلاف التجربة السياسية.

ويستنتج البعض من ذلك أنه إذا كان أساس الحكم في الإسلام هو الشورى، إلا أن ذلك لا يعنى بالضرورة أخذ رأى الجماعة واعتباره ملزما للحاكم( أو الخليفة) فالشورى للاستنارة ولا حق للحاكم الاستبداد بالرأي أو عدم الانتفاع بالمشورة ولكن له الحق في الأخذ أو الرفض بعد المناقشة، أي أن المراد من الشورى عدم الانفراد بإدارة الأمور ، واستبيان كافة الآراء ولكن القرار ينفرد به ولى الأمر ( أي الحاكم) ولو خالف رأى الأكثرية.

ويستند هذا الرأي على واقعتين شهيرتين حدثتا في عهد الرسول ( صلعم) ولم تعتبر فيهما الشورى ملزمة للقرار الذي اتخذه بشأن كل منهما :

الأولى ، هي صلح الحديبية والأخرى خاصة بأسرى موقعة بدر، فحول ترتيبات إبرام صلح الحديبية يشير د.حسن هويدى إلى أن " الحادثة واضحة في إظهار حق القائد في استعمال حقه ومخالفة رأى الأكثرية فيما يراه صوابا"، وفى ذلك دليل قطعي على عدم إلزامية الشورى للحاكم ( أو الخليفة ) ويفسر د.محمد سليم العوا هذا الموقف بأن موضوع صلح الحديبية لم يكن في اى مرحلة من مراحله محلا للشورى وإنما كان قرار الرسول( صلعم) فيه مستندا على الوحي وفى نفس السياق يشير البعض إلى أن الرسول (صلعم) لم يأخذ برأي الصحابة في حادثة أسى موقعة بدر وإنما أخذ برأيه الذي كان يشاركه فيه أبو بكر.

كما تذكر حوادث مماثلة عن عهد الخلفاء الراشدين تفيد نفس المعنى، أي أن الخلفاء لم يأخذوا براى الأغلبية في مواقف كثيرة مما يدل على عدم إلزامية الشورى ، وفى ذلك يشير د. حسن هويدى إلى إصرار أبى بكر عشية توليه الخلافة على التمسك بقيادة " أسامة بن زيد" لجيش المسلمين الموجه للروم ( في عام 11 هـ) رغم اعتراض الكثيرين عليه لصغر سنه،

ويؤكد على " أن هذه الواقعة في وضوحها وأهميتها هي دليل على عدم إلزامية الشورى" ويؤيد محمود البابلي نفس الرأي بقوله إن أبا بكر عندما أصر على إمام ما بدأه الرسول (صلعم) أي تعيين أسامة على رأس جيش المسلمين) إنا خالف رأى الأكثرية التي يمثلها كبار الصحابة، ويستنتج من ذلك بأن ( أولى الأمر) أن ينفرد برأيه، ويسرى نفس المثال على قرار أبى بكر بمحاربة المرتدين ومانعي الزكاة حيث يدعى البعض أنه اتخذ فيها القرار منفردا وأصر على القتال رغم مخالفة الأغلبية.

وفى عهد عمر بن الخطاب عندما فتح المسلمون العراق رأى عدم تقسيم الأرض المفتوحة وإبقاءها بيد أصحابها لاستثمارها ودفع ما عليها للمسلمين، كذلك فقد روى عن عثمان بن عفان في أواخر عهده أنه استشار الصحابة فيما قيل حول سياسته فأشاروا عليه باستعمال الشدة مع معارضيه إلا أنه لم يعمل بهذا الرأي ، كذلك فقد سارع على بن أبى طالب إثر توليه الخلافة بعزل ولاة الأمصار دون الاستماع لمشورة الصحابة الذين رأوا بقاءهم حتى يستقر حكمه وتنتهي بعض الآراء من ذلك إلى أن ولى الأمر غير ملزم برأي الأكثرية وله أن ينفرد برأيه إذا تحققت له الحكمة من ذلك.

ولا يعنى ذلك أن مدى إلزامية الشورى للحاكم ليست محل جدل أو أن الاستدلال على هذه الحوادث واحد، ولكن بشكل عام يمكن القول أن فكرة التزام الحاكم بالشورى هي مسألة خلافية وإن كانت أغلب الآراء تميل فيها إلى جعلها غير ملزمة للحاكم، وهناك عدة أسباب أساسية تستند عليها هذه الآراء يمكن إجمالها في :

أن الالتزام بالشورى قد يؤدى على مخالفة الطاعة الواجبة للخليفة التي ورد بها نص صريح ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) إن كانت هذه الطاعة لسلطات الخليفة مقيدة بعدم خروجه على الشريعة .

كذلك يساق ضمن هذه الحجج التي لا تميل تماما إلى فكرة إلزامية الشورى أن الخليفة " مجتهد" أي أن له الحق في استنباط الأحكام الشرعية وبالتالي ، فله حق اتخاذ قرار حتى وإن خالف رأى الأغلبية، وفقا لما يمليه عليه اجتهاده ، يضاف على ذلك أن الخليفة مسئول مسئولية كاملة عن أعماله ، وبالتالي فلا يجوز إلزامه بتنفيذ رأى غيره ثم محاسبته على نتائج هذا العمل.

وأخيرا يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن مبدأ الأغلبية ليس مبدأ أساسيا من مبادئ الحكم الإسلامى لأنه لو كان كذلك لوجب على الرسول أن يضع له نظاما معينا .

وإن كان الشيخ حسنين مخلوف يناقض هذا الرأي بقوله:" إنه لم يرد في السنة ما يدل على أن الرسول (صلعم) شاور أهل الشورى ثم أعرض عما أشاروا إليه"، وهناك من يحاول تفسير عدم وجود نظام واضح للشورى بأن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة، وباختلاف الزمان والمكان،

وأن الرسول لو كان قد حاول وضع قواعد ثابتة للشورى فئ زمانه لكان أصابها الجمود الذي لا يتفق مع منطق التغيير والتطور ومنها يأتي الموقف الثالث الذي يقف بين الموقفين المتقبلين ليشير بأن البت في مسألة الإلزام أو عدمه في الشورى مرجعه إلى الأمة فإن رأت أن تقيده بالأكثرية فعلت وإن وجدت المصلحة في تفويض الحاكم لكفاءته وظروف الناس كان لها ذلك وليس في الشريعة ما يوجب هذا أو ذاك.

الشورى والنظم الديمقراطية الحديثة

نخلص من ذلك إلى أن الحكم استنادا إلى مبدأ الأغلبية الذي تعرفه النظم الديمقراطية الحديثة يوازى " الشورى" في نظام الحكم الإسلامى، ولكن مع اختلافات جوهرية تتمثل في غياب الإجماع حول مدى إلزامية الشورى للحاكم بالإضافة إلى عدم وجود شكل مؤسسي تحدده قواعد الحكم الإسلامى لتمارس الشورى في إطاره، كذلك فإن تعريف ( أهل الحل والعقد) أو أهل الشورى الذي يوازى السلطة التشريعية وفق التعريفات الحديثة، لا يخضع لمعايير ثابتة

وإنما يختلف من مدرسة على أخرى فضلا عن أهل ( الحل والعقد) كانوا من الناحية الفعلية خاضعين للخليفة في كثير من الأمور، وبالتالي لم يعرف التاريخ الإسلامى مبدأ الفصل بين السلطات الذي تعرفه النظم الديمقراطية الحديثة، فلم توجد مؤسسات سياسية مستقلة يمكن أن تقنن حكم الشورى وتعطى لأهل ( الحل والعق) استقلاليتهم.

بالإضافة على أن سلطات ( أهل الشورى) هي في الأساس مقيدة بعدم خروجها عن النصوص القرآنية والشرعية، فهي إذن محصورة في الأمور التي لم يرد بها نص أو أن فيها نصا ظني الدلالة، وفى هذه الأمور يشترط أن تكون تشريعات أهل ( الحل والعقد) متفقة مع مبادئ الشريعة،

وهو على عكس السلطات التي تتمتع بها المجالس النيابية الممثلة للسلطة التشريعية في النظم الديمقراطية الحديثة حيث تكون سلطات هذه المجالس غير مقيدة إلا بالدستور الذي هو نفسه قابل للتغيير والتبديل،

وبالتالي فإن الأمة تعتبر مصدر السلطات في النظم الحديثة بينما الشريعة الإسلامية هي مصدر هذه السلطات في نظام الحكم الإسلامى، واتساقا مع هذا المبدأ فإن الحقوق والحريات العامة التي يكفلها النظام الأخير تظل مرهونة وخاضعة لنفس القاعدة السابقة أي الشريعة الإسلامية، على عكس ما هو معروف في النظم الديمقراطية الحديثة حيث يتسع مجال هذه الحقوق والحريات، ولا يحدها إلا شرط واحد، هو عدم الإضرار بالغير والالتزام بالقانون، الذي لا تحكمه بدوره صفة الثبات لأنه خاضع للتشريعات.

وفى إطار المقارنة بين الشورى والديمقراطية تجدر الإشارة على نقطة هامة وهى موقفها من مسألة التعددية الحزبية، فإذا كانت الأحزاب السياسية ها أساس النظم الديمقراطية الحديثة فإن نظام الحكم الإسلامى القائم على الشورى يقف منها موقفين: الأول، رافض لها حرصا على وحدة الأمة وتجنبا للفرقة، والآخر يقبلها وفق شرط أساسي وهو التزامها بالشريعة الإسلامية، حيث يكون الاختلاف بين الأحزاب في الوسائل وليس في الأهداف،

ومن هنا لا يسمح بتكوين أحزاب تخرج في أهدافها عن إطار الالتزام بالتشريع الالهى. والموقف الأخير لا يقبلها إلا وفق شروط محددة أهمها الاتفاق حول الهدف النهائي الذي تسعى إليه الأحزاب وهو ( السعي لتطبيق الشريعة الإسلامية) مع إمكانية الاختلاف حول وسائل تحقيق هذا الهدف. فيكون ذلك هو منطق القبول بفكرة التعددية الحزبية ، وإن ظلت مكروهة وفى كلتا الحالتين تختلف النظرة إلى التعددية الحزبية جوهريا عن نظرة الديمقراطية الحديثة لها.

ورغم وجود اجتهادات معاصرة حول فكرة الديمقراطية والتعددية قدمها بعض المفكرين الإسلاميين المستقلين ، إلا أنها لم تخرج في جوهرا عن المضمون المشار إليه. فالرؤية التي قدمها هؤلاء الكتاب وبلوروها في وثيقة حملت عنوان " رؤية إسلامية معاصرة" تنطلق من نفس الثوابت حيث يظل "الدين" هو المرجعية الأساسية لأية تعددية سياسية.

كذلك فإن التشريع – وفقا لهذه الرؤية- يظل مرتبطا بأحكام الشريعة الإسلامية وبدور الفقهاء، حيث تؤكد على مبدأ سيادة التشريع المستمد من مصادره الإسلامية على كل سلطة في الجماعة ، وإن كانت تدعو إلى توسيع مجال " الاجتهاد" فتقول ( إن حكم الله هو أمره المتعلق بأفعال عباده، والثابت في النص القرآني أو الحديث النبوي.

إما تطبيق الحكم على الوقائع الحادثة فهو حكم المسلمين أو تشريع المسلمين وهو تشريع تتعدد فيه الآراء والاجتهادات) ومن هذا المنطلق فهي تدعو إلى استنهاض دور الفقهاء، حيث تشير إلى أن ( مهمة التطبيق المعاصر لأصول الإسلام، لا يمكن أن تتحقق بغير استئناف البحث والاجتهاد في أصول الفقه ومتابعة جهود السلف وعلماء الإسلام في هذا الميدان) إذ ترى أنه ( لا نهضة بغير فقه)

ولا شك أن هذه المرجعية التي تقوم على التشريع المستمد من الأحكام الدينية وليس القوانين الوضعية، فضلا عن إعطاء الأولوية لدور الفقهاء وليس السياسيين في العملية السياسية والتشريعية تتناقض من حيث الجوهر مع مفاهيم التعددية والديمقراطية الحديثة.

ويبقى أهم ما يميز هذه الاجتهادات محصورا بدوره في الوسائل التي تتحقق بها هذه الرؤية وليس في المضمون إذ تؤمن بالأسلوب التدريجي غير العنيف للتغيير، فتخلص الوثيقة هذا المنهج بالإشارة إلى أن(نقل المجتمعات المعاصرة إلى الدخول من جديد تحت لواء تشريع الإسلام في تنظيمه الشامل لحياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع طول البعد عن هذا التشريع، أو غلبة انحراف الناس عنه لا يعنى إلغاء الأنظمة والتشريعات المعمول بها قبل إعداد البديل الإسلامى)

ومنطق هذا المنهج يرجع إلى الخطر الكامن في الوسائل الانقلابية وفق هذه الرؤية، حيث ترى أن عيوب هذه الوسائل ( أنها: تتعجل الإصلاح وتفرض على المجتمعات- حلولا غير محسوبة الأثر، كما أنها تفتح الباب لاستمرار الصراع القائم على العنف بين ممثلي التيار الإسلامى وسائر قوى المجتمع ،

فضلا عن أنها تتجاهل حقيقة علمية وتاريخية حين تتصور إمكان تثبيت نظم وأوضاع لا تقتنع بها الجماهير، ولم تتهيأ – بشكل كاف لاستقبالها) ، وفى المقابل تطرح الوثيقة أسلوب الحوار مع هذه القوى المختلفة بقولها إن السبيل لنشر هذا الفكر وإشاعة ذلك السلوك- أي الإسلامى- هو الحوار مع ممثلي التيارات الفكرية والاجتماعية).

وثمة ملاحظتان حول هذا المنهج: الأولى، أنه لا يقوم على أساس فكرى يرسى قواعد التعددية: بقدر ما تحكمه دواعي العملية السياسية والظروف الموضوعية في المجتمع، فالوثيقة في المبررات التي تسوقها لرفض الوسائل " الانقلابية" تركز على هذه العوامل حيث لا يوجد بعد بديل اسلامى معد لإحداث تغيير لمجمل التشريعات الموجودة، وهو ما يجعل الأسلوب الانقلابي " غير محسوب الأثر" فضلا عن أن المجتمع غير مهيأ بشك لكاف لاستقبال البديل الذي تدعو إليه. والأخرى أن منطق هذا المنهج يقوم على فكره " الدعوة لنشر الأفكار والرؤى التي تقوم عليها تمهيدا لتطبيقها على المجتمع كافة، وهو منطق يكرس الواحدية وليس التعددية.

مبدأ الشورى ومفهوم المعارضة في الفكر الإسلامى

إن التعرض على الشورى كأساس للحكم الإسلامى يمتد إلى موقع المعارضة ودورها في إطار الشورى، وفى هذا المجال ينبغي التمييز بين ألأمور التي تكون محلا للشورى وغيرها من الأمور التي ورد فيها نص، وبالتالي لا تخضع للشورى، فالأمور الأخيرة يقوم عليها الحكم بدليل شرعي ومن ثم فهي ليست محلا للشورى، إنما مجالها هو التشريع في حدود القانون الهي، ومن هذه الأمور ما جاء بها نص في القرآن والسنة أي ورد بها حكم قطعي واضح، وبالتالي فليس لفقيه أو قاض أو مجلس تشريعي أن يخالف في مثل هذه الشؤون حكما من أحكام الشريعة أو قاعدة من قواعدها،

أي يطبق فيها النص مباشرة، وهناك أمور يطبق فيها النص بالقياس، وهى تلك التحى لم تأت الشريعة فيها بحكم ولكن لها أحكام في أمثالها ،أو بالاستنباط وهى تلك التي لم تأت فيها الشريعة بحكم صريح ولكن جاءت فيها بقواعد مطردة،فالتشريع في مثل هذه الأمور يكون بمعرفة تقصى تلك القواعد ومراد المشرع فيها، وتسن القوانين في القضايا العملية على تلك القواعد ومراد المشرع فيها، وتسن القوانين في القضايا العملية على تلك القواعد في جانب، وتحقق مراد المشرع في جانب آخر.

وإضافة على ذلك هناك جزء كبير من الشؤون والمعاملات سكتت فيها الشريعة سكوتا تاما، فلا جاءت بحكم صريح ولا وجدت في أمثالها حتى يقاس عليها، والتشريع فيها جائز للإنسان على أن يكون متلائما مع روح الإسلام وقواعده العامة، وأن لا تختلف طبيعته عن طبيعة الإسلام الشاملة، هذا العمل التشريعي لا يتم إلا بتحقيق علمي خاص وهو المعروف بالاجتهاد وفق المصطلح الإسلامى،

وهناك شروط تحدد الصلاحية للاجتهاد أهمها: أن يكون مبنيا على أدلة من القرآن والسنة، إذا كان التشريع فئ دائرة أوسع فعلى المجتهد أن يثبت بالدلائل على أن القرآن والسنة لم يقررا حكما أو قاعدة في القضية محل البحث ولا جاء في أحدهما أسا للقياس فيه، ثم يجب أن يكون الاستدلال بنصوص القرآن والسنة قائما على قاعدة من القواعد المسلم بها من الفقهاء.

يستنتج من ذلك أن أهل ( الاجتهاد) هم علماء الشريعة وهم على درجة من المعرفة تمكنهم من استخراج الأحكام الشرعية فهما وقياسا واستنباطا واجتهادا أي هم جماعة من أهل التخصص الفقهي. وهم غير أهل ( الشورى) الذين لا يجب أن تمتد الأمور التي تكون محلا لمشاورتهم إلى مجال أهل الاجتهاد.

ويميز ابن خلدون بين ( أهل الاجتهاد) من ناحية و( أهل الشورى) و( أهل الحل والعقد) أو ( الاختيار ) من ناحية أخرى ، حيث أشار على بعد أهل ( الاجتهاد) عن ميدان السياسة وعدم إشراكهم ضمن ( أهل الشورى) ..

وفى إطار تفسيره لنظريته فئ العصبية يحدد ابن خلدون دور أهل الاجتهاد في الشورى بإصدارهم الفتاوى واستخراج الأحكام الشرعية، أما شورى أحدهم في السياسة فغير واردة لفقدانه العصبية، ويتضح من ذلك أن دور أهل الاجتهاد في المعارضة يتحدد في قدرتهم على إصدار الفتاوى واستخراج الأحكام الشرعية التي توضح ما إذا كان موضوع المعارضة يستند إلى سند شرعي يجعلها مشروعة أو لا ،

أما دور أهل الشورى بالنسبة للمعارضة فيتحدد بالأمور التي تخرج عن نطاق عمل ( أهل الاجتهاد) من ذوى التخصص الفقهي، وتتلخص مهمتهم في إلقاء الضوء على موضوع المعارضة وعرض مختلف الآراء بصددها دون شرط أن تكون لمشورتهم صفة الإلزام كما سبقت الإشارة.

ولكن تأتى أهمية ( الشورى) من كونها أساسا شرعيا تبنى عليها مشروعية المعارضة في الإسلام، والتي لابد وأن تمارس في إطار ما حدده الدين، ومن هنا احتياج أهل الشورى لمعرفة حكم الشرع بصدد المسألة محل المعارضة وارتباطهم ( بأهل الاجتهاد) لإصباغ مشروعية على هذه المعارضة.

وإذا كان لأهل الشورى- وفق حدود معينة- حق المعارضة في نظام الحكم الإسلامى. فهناك قاعدة أخرى، تعطى مشروعية المعارضة للفرد العادي، وهى قاعدة "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"، فهذا المبدأ وفق ما يتفق عليه العديد من المفكرين الإسلاميين والفقهاء لا يشكل فقط واجبا على كل فرد مسلم وإنما يعرض أهم واجبات الحكومة الإسلامية ،

وهو وفق كثير من التفسيرات الفقهية يعد أمرا وتكليفا، ويتسع ليشمل كافة أوجه التعبير عن المعارضة المستندة إلى الشرع، فـ ( المعروف ) هو كل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، و( المنكر) يشمل كل ما حرمه الشرع وكرهه، وبالتالي فهي معارضة تعبر عن ضمير الجماعة الإسلامية كلها سواء صدرت من فرد واحد أو من مجموعة من الأفراد، ومشروعية المعارضة وفق قاعدة أو مبدأ ( ألمر بالمعروف والنهى عن المنكر) إنما ترجع على القرآن والسنة، واجتهادات بعض الفقهاء.

المقارنة بين مفهوم المعارضة في الفكر الإسلامى ومثيله في النظم الديمقراطية الحديثة

من هذا المنطق يمكن القول أن المعارضة في نطاق الفكر السياسي الإسلامى تعبر عما أرسته الشريعة من مبادئ، تتعلق بالشورى وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبالتالي فمفهوم المعارضة ملتصق أساس بالعقيدة و بالشرعية وهو ما يقود إلى التفرقة بشكل أساسي بين مفهوم المعارضة في الإسلام ومفهومها في الفكر السياسي الغربي . ويمكن الاستناد في هذه التفرقة إلى عنصرين أساسيين: الأول، يتعلق بالأساس الفكري والفلسفي للمعارضة في الحالتين. والآخر، خاص بطبيعة الدور الزى تضطلع به المعارضة. فمن الناحية الأولى نجد أن الأساس الفكري والفلسفي للمعارضة في المفهوم الغربي يقوم على " الحرية " كقيمة أساسية تحكم حياة الفرد والمجتمع،

ومن هنا فإن المعارضة بمعناها السياسي ليست إلا جزءا من التعبير عن هذه الحرية، وفى المقابل فإن المعارضة في الفكر السياسي الإسلامى ترتبط بالعقيدة في أساسها الفلسفي، وبالتالي ففكرة الحرية أو الإرادة الفردية لا ينظر إليها إلا من خلال هذا الإطار، حتى أن مبدأ " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" كتعبير عن حق الفرد في المعارضة إنما يتم في إطارها ما تحدده الشريعة، وهو ما يعطى مشروعية لهذا النوع من المعارضة، وحتى عند هذا المستوى فإن الأساس في استخدام هذا الحق ( أي الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) هو من أخص واجبات الحكومة الإسلامية لأن السلطة العامة في الإسلام مقيدة بالأحكام الشرعية ،

وبالتالي فهذه مسئوليتها المباشرة والأولى وأن كان هذا – في رأى البعض – لا يعفى الفرد من القيام به خاصة وأن الشريعة تعطى له ولاية مباشرة في استعمال هذا الحق.

ويقود ذلك إلى النقطة الأخرى الخاصة بطبيعة الدور الذي تقوم به المعارضة فالتصور الغربي بمصطلح المعارضة الذي يتحدد على أساس انقسام الحياة السياسية بين طرفين أحدهما يقوم بدور الحكومة والآخر بدور المعارضة ، يقابله التصور الإسلامى الذي لا يفرق بشكل قاطع بين الدورين. فالفرد وفق هذا التصور يصير حاكما ومحكوما في وقت واحد ( كل فرد راع وكل راع مسئول عن رعيته) ،

ومن ثم فالمعارضة لا تتحدد من خلال الدور ولكنها أميل للتعبير عن موقف يتخذه الفرد بغض النظر عن كونه حاكما أ محكوما متى ظهرت الدواعي ( الشرعية) لذلك، طبقا لقواعد الشورى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه فيما يتعلق بمفهوم " الدور" فليس هناك مجال- طبقا لهذا التصور- لفكرة تبادل " الأدوار" فكل دور يتحدد من خلال الصفات والشروط الواجب توافرها فيمن يؤديه، فالدور الذي يقوم به( أهل الحل والعقد) يختلف عن دور( أهل الاجتهاد) وهكذا، ولا يمكن تصور تبادل الأدوار إلا إذا كانت هناك إمكانية لتبادل الصفات والشروط المطلوبة لتأدية الدور.

وبالتالي فإذا قارنا بين هذا التصور عن طبيعة الدور الذي تؤديه المعارضة في الإسلام وبين التصور الغربي كما عبر روبرت دال على سبيل المثال سنجد تباينا واضحا. إذ أن تعريف "دال" للمعارضة يتجه مباشرة إلى الدور الذي تقوم به بغض النظر عمن يقوم بأدائه كما أنه لا يفترض الثبات في القيام به بل أن تعريفه يتسع لإمكانية تبادل الأدوار بين الأطراف المختلفة في الحياة السياسية ، بعكس المفهوم الإسلامى الذي تقوم به المعارضة في ذاته،

وإنما الدور دائما ملتصق بأطراف معينة، بمعنى أنه إذا كان المعنى الاصطلاحي الغربي للمعارضة يعترف بتبادل الأدوار بين أطراف يشتركون في لعبة واحدة هي " السلطة" فإنه في المقابل ، توضح متابعة الفكر والتاريخ الإسلامى أ،المعارضة لم تقم على مثل هذا الاعتراف بتبادل الأدوار، فالسلطة ظلت حكرا على طرف واحد ومنطق المعاملة لا ينبع من " تبادل الأدوار" ولكن من منطق " الاحتواء" سواء بالسحق أو الاستيعاب.

وهناك سبب يمنع قبول فكرة تبادل الأدوار كما في المفهوم الغربي وهو ما استقر في الفكر السياسي الإسلامى من عدم السعي لطلب السلطة باعتبارها مطلبا مكروها في ذاتها.

وبالتالي فإن أية معارضة يجب أن تكون موجهة أساسا إلى السعي من أجل تطبيق تصورها الأمثل للشريعة، وليس السعي من أجل السلطة . بعبارة أخرى : إن مفهوم المعارضة في الإسلام يرتبط بدرجة كبيرة بإضفاء الصبغة الدينية على الصراع السياسي ، ومن هنا أصبحت قضية المعارضة في كثير من الأحيان تتعلق بقضية " الإيمان" و" الكفر" أي بالعقيدة وليس السياسة،

ولما كانت الأولى تتسم بالثبات والثانية بالتغير فإن المفهوم الغربي للمعارضة، الذي يتعامل بعيدا عن منطق العقيدة ، يعترف بتبادل الأدوار الذي يتفق مع عنصر التغير . وفى المقابل لا يعترف الفكر الإسلامى بالمعارضة اى في إطار الشريعة، وبالتالي الثبات، ومن هنا لم تخضع لمنطق " تبادل الأدوار" بينها وبين الحكومة وفقا لنظام الانتخابات العامة والتصويت كما هو الحال في المفهوم الغربي للمعارضة.

أنماط المعارضة في التاريخ الإسلامى

ظلت المعارضة في الإسلام تتأرجح وفق شكل الحكم السائد في كل عصر من العصور التاريخية المختلفة، ولعل أهم صور المعارضة تلك التي يمكن استنباطها من خلال تتبع تطور الخلافة الإسلامية منذ وفاة الرسول (صلعم).

فلا شك أن سلطة الرسول(صلعم) كانت تستمد شرعيتها من مفهوم الحاكمية في الإسلام، أي أنه كان مبلغا لأحكام الله وشرائعه إلى البشر. ومن هنا فقد كانت سلطته ذات طبيعة خاصة حيث جاءت القرارات المتعلقة بإدارة شؤون الأمة بتدعيم إلهي بالوحي . ولأن القرآن لم يحدد بصورة قاطعة شكل الحكم في الإسلام فقد بدأت الخلافات بين المسلمين والصراعات السياسية تظهر بعد وفاة الرسول ( صلعم) وهو ما أدى إلى إثارة قضية الخلافة،

والصراع حولها خاصة بين الجيل الأول من الصحابة، الذين شكلوا أول جماعة " للحل والعقد" فموقف سعد بن عبادة( وهو من الأنصار) ، الذي طمح إلى الإمارة قبل أن تأخذها قريش لأبى بكر كان يعد مقدمة " لخلاف السقيفة" – حول أو لخلافة للرسول ( صلعم) – بين قريش والأنصار.

ويشير محمد عمارة على ( أن الخلاف وقع حين شعرت "قريش" بأن "الأنصار" بعد الهجرة ودخولهم الإسلام يحاولون أن يحتلوا بين العرب" مكانتهم" قبل الإسلام، وأن مدينتهم "يثرب" انتزعت أهمية العاصمة مكة) وفى المقابل ظهر تياران بين الأنصار : الأول ، يرى طرد المهاجرين من المدينة إن أبوا الانصياع "لسعد بن عبادة" والأخر، يرى اقتسام الإمارة معهم. وقد علق "سعد بن عبادة" على التوجه الأخير باعتباره تراجعا من الأنصار قائلا" هذا أول الوهن".

وفى المقابل دخل اجتماع السقيفة من هيئة المهاجرين الأولين هم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، حيث أشار أبو بكر على أن الضرورة السياسية تجعل من وضع الإمارة في قريش عامل توحيد للعرب أكثر مما لو وضعت في غير قريش، وبالتالي رفض أبو بكر اقتراح الأنصار بتعاقب الخلفاء بين المهاجرين والأنصار وقدم اقتراحا قال فيه" .. نحن الأمراء وأنتم الوزراء"، وأيد عمر بن الخطاب هذا الموقف استنادا إلى العصبية.

وانتهى الأمر بمبايعة أبى بكر الصديق أول خليفة للرسول (صلعم) . وإن كانت هذه المبايعة لقيت معارضة من داخل قريش نفسها، وارتكزت على أن على بن أبى طالب ممثل بني هاشم هو الأحق بالخلافة لعلاقته النسبية بالرسول (صلعم) زوج ابنته وقرابته له، واستندت هذه لمعارضة إلى أن صفة " بيت الرسول" هي أخص من القرشية بل وأخص من الهاشمية أيضا ،

وكانت هذه بداية لتبلور رؤية في الحكم تريد الاستمرار على نحو ما كان على عهد الرسول من الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية في بين واحد، وأنه إذا كان رحيل الرسول ( صلعم) قد أنهى السلطتين في ذات واحدة، فيجب أن يستبدل جمعها في ذات البيت بدلا من ذات الفرد، ويعبر على بن أبى طالب عن ذلك بقوله" .. أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة؟".

ومن هنا يناقش محمد عمارة مسألة الإجماع على أول خلافة بعد الرسول (صلعم) – أي خلافة "أبى بكر" – ويرى أنها لم تحدث، فموقف "سعد بن عبادة" ظل ثغرة تمنع انعقاد الإجماع على خلافة أبى بكر مدة الخلافة، وكذلك موقف على بن أبى طالب الذي أيده أبو سفيان بن حرب وكان على رأس بني أمية، (وقد عينه الرسول (صلعم) مباشرا لجمع الصدقات في بعض الأنحاء) وامتنع عن بيعة أبى بكر وأرادها لعلى، ولم يبايع حتى طلب عمر بن الخطاب من أبى بكر أن يمنحه ما يجمعه من صدقات لقاء بيعته.

ويأتي النموذج الثاني لتعيين الخليفة والذي أرساه أبو بكر الصديق( أول الخلفاء) حين قام بتعيين من يخلفه ، وفيه يصبح القائد هو مصدر الشرعية، حيث أن اختياره لمن يخلفه يعطى له الشرعية التحى تجعله مقبولا من المحكومين ، ومن هنا لم يحدث صراع على السلطة بالمعنى الدقيق، وإن كان هذا لم يمنع الجدل حول الخلافة والتنافس عليها.

وتأتى خلافة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين ليظهر نموذج جديد في تعيين الخليفة بخلاف النموذجين الأولين، وهو النموذج الذي اتبعه عمرن فقد حدد الخلافة في عدد معين يتم من بينه اختيار الخليفة قبل أن يطرح هذا الاختيار للحصول على التأييد العام، وبتولي عثمان الخلافة عادت العصبية لتحتل المكان الأول في اختيار الخليفة

حيث استأثرت قريش بالسلطة سواء كانت متمثلة في قريش وقتئذ في قبيلة بني أمية وقد حدثت تغييرات في عهد عثمان بن عفان لصالح قريش والأمويين بالذات، وبعد ست سنوات من حكمه برزت مظاهر لسخط عام على استئثار قريش بالسلطة، وقد اقترح معاوية بن أبى سفيان على الخليفة أن يؤمن له السلطة بالقوة ، ويسمح له باحتلال المدينة بجيش الشام، وأن يأمر بنفي شيوخ المهاجرين وكبار أصحاب الرسول (صلعم) وبقية أهل الشورى عن المدينة قمعا للمعارضة.

وأدى استمرار الخليفة في رفض إجراء إصلاحات إلى تزايد السخط واستمرار المعارضة لحكمه والتي وصلت إلى حد المطالبة باعتزاله الخلافة، وقد كانت الهيئة التي سميه بهيئة المهاجرين الأولين أول الداعين للخروج على الخليفة، وانتهى الأمر بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان وتولى على بن أبى طالب الخلافة الذي مثل آخر الخلفاء الراشدين،

وسجل عهده منذ اللحظة الأولى لتوليه الخلافة قمة الصراع على السلطة ، حيث بدأ مع شركاء هيئة المهاجرين الأولين أي شركاء( أهل الشورى) وانتهى بموقعة الجمل بالبصرة ليبدأ الصراع الأشد مع معاوية بن أبى سفيان الذي نافسه على الخلافة وهو الصراع الذي أدى إلى ظهور فرقة الخوارج، التي مثلت الثورة المستمرة والخروج الدائم على السلطة والسلطان، كما كان بداية ظهور الفرق المنظمة في التاريخ الإسلامى.

فقد وصل الصراع بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان إلى حد الاقتتال ، وعندما بدا أن مسار القتال لصالح "على" طالب " معاوية" بالتحكيم ورغم أن الأول عارض تلك الدعوة، إي أنه عاد وقبلها تحت إلحاح كثير من أهل اليمن ، وقبل إيقاف القتال بينهما ، وهنا انقسم جيش على إلى قسمين :

الأول ، يرفض التحكيم، ويدين على بن أبى طالب ويطالبه بالاعتراف بالذنب والتراجع عنه، ورغم ميل الأخير على هذا الرأي إلا أنه أبى أن يعترف بأن قبوله للتحكيم كان خطيئة تستوجب التوبة والآخر ، قبل التحكيم مع "على" وتراجع عن القتال وكان هذا الفريق يشكل الغالبية.

وبعد أن ظهرت نتيجة التحكيم التي أسفرت عن عزله وتثبيت معاوية، لم يكن أمامه سوى الفريق الذي يرفض التحكيم ليواصل معه القتال، إلا أن هذا الفريق بدوره أصر على ضرورة إعلانه التوبة، ولما رفض فارقه وأعلن الخروج عليه وعلى أهل الشام معا. هكذا نشأت فرقة " الخوارج" التي رفعت شعار "لا حكم إلا الله" واختاروا أميرا جديدا للمؤمنين هو عبد الله بن وهب، الذي بايعوه بعد شهر من نتيجة التحكيم، ولم يكن الخليفة الجديد من قريش أو من هيئة المهاجرين الأولين، وكان هذا أول تمرد على ضرورة انتساب الخليفة إلى عصبية معينة.

ويتضح مما سبق أن خلافة على بن أبى طالب أكدت على مبدأ العصبية في اختيار الخليفة، والتي ارتكزت هنا ليس فقط على انتمائه لقريش وإنما أيضا لبنى هاشم وأكثر من ذلك علاقة القرابة والنسب التي تربطه بالرسول ، وبدا ذلك واضحا في رسالة "على" إلى معاوية التي أشار فيها إلى أحقيته بالخلافة من دون معاوية ( الذي لم يكن من هيئة المهاجرين الأولين) ومفاخرا بنسبه وانتمائه لبنى هاشم بعبارة أخرى لعبت القبيلة دورا هاما في الصراع على السلطة وفى تحديد مصدر شرعية الخليفة.

ويصف محمد عمارة هذا الصراع بقوله(.. إن الصراع على السلطة والإمارة تحركه عوامل كثيرة بعضها قبلي وبعضها اقتصادي وبعضها قومي ولكن القوم غلفوا عوامل صراعهم هذا وأسبابه بغلاف من الدين والعقيدة كي يشحذوا الهمم فتحارب كما يحارب الناس في المعارك المقدسة لنصرة الغايات المقدسة..).

وبانتهاء عهد الخلفاء الراشدين انتهى هذا النموذج للخلافة واتخذت شكل الملك بعد أن ولى معاوية الحكم بالقوة وجعل الخلافة وراثية لبنى أمية، وقد بدأ عهده بقوله : (.. أما بعد فإني والله وما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك ولكنى خالفكم بسيفي هذا مخالسة،وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا عنى ببعضه..)

وقد حاول معاوية في البداية أن يعطى حكمه صبغة دينية، عن طريق حصوله على البيعة بعد تنازل الحسين بن على عن الخلافة ، إلا أن هذا في الواقع تم تحت تسلط سيف معاوية ورغبة الجموع في حقن الدماء. وبذلك فإن السلطة لم تكن حصاد البيعة بل كانت البيعة محصلة للسلطة.

وكان التحول في أسلوب انتقال السلطة والوصول إليها نذيرا للتحول من نموذج الخلافة القائم على الشورى إلى نموذج الملك، رغم الإبقاء على تقليب الحاكم بلقب الخليفة أو أمير المؤمنين ولكن المعيار كان بتغير نظام الحكم السائد والذي أصبح شبيها بالملكية حتى أنه ينظر على معاوية على أنه مؤسس أول ملك في الإسلام.

وما يهم في هذا الصدد هو موقع المعارضة في ظل هذا النموذج، والتي تعرضت لكثير من أساليب بسبب تغير طبيعة الحكم. فقد صاحب نموذج الملك ظهور لقب خليفة الله وهو اللقب الذي رفضه أبو بكر من قبل في ظل نموذج الخلافة، فكان علامة على تغيير طبيعة الحكم وتحوله من الخلافة إلى الملك، وكان لهذا المصطلح دلالته إذ أنه يعبر عن أن الخليفة يحكم "بالحق الالهى" ،

كما اعتمد الخليفة معاوية بن أبى سفيان لتأكيد ملكه على بعض التيارات والمذاهب الفقهية لتبرير حكه وأفعاله ، ومن فلسفة " الجبرية" حيث أظهر أن ما يقوم به من أعمال هو بقضاء الله وقدره، وهو ما يسرى على أفعال حكام بني أمية كلهم التي كانت تتم- وفق تبرير الدولة- بقضاء الله وقدره ويتوجب على المسلمين الخضوع لها دوما، ما دام ليس في مقدور الإنسان أن يعارض سلطة الله ولا أن يمنع نفسه عن قضاء الله وقدره فعلى المسلمين إذن بحكم هذه " الجبرية الإلهية" أن يستسلموا للحك الأموي لأنهم بذلك يستسلمون لقضاء الله وقدره.

وبالمثل تم استخدام تيار" الإرجاء" لتحقيق نفس الغرض ويتمحور فكر" المرجئة" حول فصل الإيمان عن العمل، إذ أن فلسفتهم تقوم على أن الإيمان تصديق بالقلب ولا تضر معه معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقد اتخذ المرجئة بذلك موقفا متناقضا لموقف الخوارج الذين حكموا بالكفر على مرتكبي الكبائر، أي أن كلا الطرفين قد أمسك في هذه القضية بالطرف الأقصى من الخلاف في مسألة الحكم على الإيمان.

ورغم أن تيار الإرجاء قد لعب دورا في تبرير مظالم بني أمية وغيرهم من الأمراء إلا أن " الإرجاء" لم يكن تيارا واحدا فإلى جانب" المرجئة" الذين برروا مظالم بني أمية ووظفوا فكرة الفصل بين الإيمان والعمل في خدمة الحكام كان هناك تيار آخر اتخذ من " الإرجاء" وأصوله الفكرية أسلحة للدفاع عن العامة وبالذات عن الذين انخرطوا في سلك الاتجاه الجديد من أبناء البلاد المفتوحة.

وكما نشأ فكر الخوارج نشأة سياسية في إطار الصراع على السلطة، نشأ " المرجئة " نشأة سياسية وارتبطت عقيدتهم بقضايا السياسة سواء ما اتصل منها بالخلافة مباشرة، أو ما تعلق بموقف الدولة من الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام.

ظهر " الإرجاء" في عهد بني أمية أول من قال به هو الحسن بن محمد بن على بن أبى طالب (99هـ أو 100 هـ) . واتخذت بعض تياراته موقف المعارضة للأمويين، كما جمعت بعضها بين " الإرجاء" و" الجبر".

وفى المقابل كان هناك تيار يعرف بتيار " الإرجاء المحض" لتمييزه عن الإرجاء الذي كان أصحابه في صفوف المعارضة، وتشير بعض الكتابات إلى أن أول من قال بالإرجاء "المحض" هو معاوية وعمرو بن العاص ( ويعنى أنه لا يضر مع الإيمان معصية) فالإرجاء هنا معناه الفصل بين الإيمان والعمل وتأخير العمل عن الإيمان كما هو عند " الجهم بن صفوان" ولكن الجهم كان قد وضع هذا المبدأ وهذه العقيدة وذلك الموقف في صف المستضعفين الذين يعانون من ظلم الحكام. أما معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص ومن وقف موقفهما من الإرجاء فإنهم كانوا يبررون للسلطة ويدفعون بهذهالعقيدة إدانة " الخوارج" لهم بالكفر لارتكابهم الكبائر، وإدانة " المعتزلة" لهم بالفسق.

ومن هنا تبرز العلاقة القوية بين " الإرجاء" والسياسة ، أو بين المذاهب الفقهية بشكل عام ووظيفتها السياسية فـ " الإرجاء " كان دائما موقفا سياسيا بقدر ما هو موقف فكرى، كما كان وسيلة استخدمتها المعارضة حينا والحكم حينا آخر لإضفاء شرعية دينية على سلوكهما السياسي.

وفى ظل الدولة الأموية برزت فرقة أخرى معارضة لسياسات الدولة القمعية واضطهادها لمختلف قوى المعارضة وممارستها لسياسة التمييز تجاه العناصر غير العربية، والأمر الذي أثار استياء واسعا بين جموع الشعب واشتركت في الثورة على الأمويين جميع القوى والشرائح الاجتماعية المعارضة لحكمهم وفى مقدمتها الخوارج والشيعة والموالى.

جاءت حركة" الخوارج" تعبيرا عن النقمة المتزايدة في المجتمع العربي الإسلامى نتيجة لما كان يكمن في داخله من تناقضات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويصف البعض الخوارج بأنهم كانوا بمثابة حزب ثوري جماهيري يعبر عن الفئات المستاءة، ووفقا لهم فإن جموع الناس هي التي تمنح الخليفة سلطته العليا،

أما إذا عجز الخليفة عن القيام بمهام الخلافة أو إذا كانت سياسته العامة لا تعود بالخير على الجماعة، فلها أن تعزله ، بل تقتله، وليس لزاما أن يكون الخليفة "قرشيا" بل كانت الخوارج ترى أنه يمكن أن يكون عربيا من آية قبيلة عربية وحتى أن يكون عبدا حبشيا بشرط أن يكون مسلما تقيا ورعا.

وقد ربط الخوارج بين " العمل والإيمان" غير أنهم غالوا كثيرا واعتبروا أن كل مسلم لا يأخذ بقولهم" كافر" لابد الجهاد ضده، كما أكثروا من ممارسة العنف الدموي ضد خصومهم وهاجم " الخوارج" الأمويين باعتبارهم حائرين مغتصبين لأنهم حولوا نظام الخلافة كما كان أيام الراشدين إلى نظام الحكم الفردي الوراثي أو الملكي، كما هاجموا " معاوية بن أبى سفيان" عندما هم بدخول الكوفة لينال بيعتها، كذلك هاجموا ولاته فى الكوفة والبصرة باستمرار.

وقد شغلت ثورات العراق الدولة فاشتد اضطهادها لهم، خاصة ,وأن أهلها مثلوا دائما قوة تمرد سياسي على السلطة، واتخذوا جانب المعارضة، وقاوم الخوارج الحكم الأموي وأيدوا الثورات المناهضة له في مختلف الأمصار ومن ذلك ثورة " عبد الله بن الزبير" في الحجاز،

كما نما تيار الخوارج في مصر، وبعد تفجر العديد من الصراعات القبلية في قلب الدولة الأموية بدأت حرب أخرى بين الخوارج و عبد الله بن الزبير الذي انتزع لنفسه البيعة من الحجاز والعراق واليمن ومصر وكان لهذا الصراع أثره في إنهاك الطرفين مما سهل على الخليفة عبد الملك بن مروان القضاء على ثورة ابن الزبير أولا ثم استعادة العراق والمشرق إلى حكمه ثانيا.

وانتهز الخوارج فرصة اضطراب الأوضاع في العراق إثر وفاة أميره في أوائل سبعينات القرن الهجري الأول فتقدموا حتى وصلوا نهر دجلة وصك قائدهم " فطرى" العملة باسمه عام 75هـ- 694م وعندما حكم الحجاج بن يوسف العراق والمشرق لمدة عشرين عاما ( 75 – 95هـ9 مارس القمع ضد معارضيه

وكان شديد القسوة على الخوارج " الأزارقة" وشن حملة واسعة للقضاء عليهم مما أدى إلى فرقتهم، ومن بقى منهم في المدن، فقد أعلن الطاعة وانصرف كثير منهم إلى الوعظ الديني، ومن القرن السابع الميلادي كان " الأزارقة" قد اختفوا من المسرح السياسي وخلفتهم طائفة" الاباضية" التي كانت أكثر اعتدالا منهم،

وقد حاول الخليفة عمر بن عبد العزيز ضمن إطار سياسته الواقعية في دعم الدولة ، بتوسيع نطاق التأييد الشعبي لها والتقرب من ممثلي الخوارج وأمر بإيقاف الحملات العسكرية ضدهم وبعث إليهم بطلب مناظرتهم اعتقادا أنه يستطيع إرضائهم، وقد نجح عمر بن عبد العزيز على الأقل في تخفيف حدة عنفهم.

هكذا نشأ الخوارج نشأة سياسية وظلوا مجمعين على بعض المبادئ الأساسية مثل أن "الإمامة" للأصلح بصرف النظر عن النسب والجنس واللون، وأن الاختيار والبيعة هما السبيل لتنصيب الإمام وضد فكر الشيعة في النص عليه من السماء، وأن الإمامة في الفروع، وينكرون قول أهل السنة أنها من أصول الدين فمصدرها عندهم ليس الكتاب ولا السنة وإنما الرأي ،

وأكدوا أنهم في تقييم التاريخ السياسي الإسلامى مع إمامة أبى بكر وعمر ومع إمامة عثمان قبل السنوات الست الأخيرة من إمامته ومع إمامة " على " قبل التحكيم، كما رأوا أن مرتكبي " الكبائر" أو الذنوب الكبيرة كافرون، وكانوا يعنون بهم أساسا بني أمية وولاتهم ونظامهم العسكري والسياسي، وكانوا مع الثورة المستمرة والخروج الدائم وتجريد السيف ضد " أئمة الجور"ن كما قالوا بالعدل والتوحيد والوعد والوعي والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

وبشكل عام يمكن القول أن فلسفتهم في الإمامة هي في الأصل في القواعد التي حكمت موقفهم منها فهم يختارون من تتوافر فيه شروطها دون التقييد بالنسب أو الجنس أو اللون وهو يعزلون الإمام إذا نقض الشروط، ولما كانت أغلب ثوراتهم قد قامت ضد بني أمية التي تتركز فيها عصبية القرشية ولذلك لم يختاروا أميرا واحدا من القرشيين ،

أما فيما يتعلق بحركتهم السياسية فكانوا دائما من "الثوار" ومن أكثر الفرق لجوءا على العنف. ويقتضى إعلانهم الثورة اتفاق أربعين شخصا على ضرورة خروجهم على الحاكم، وقد بلغ عدد ثوراتهم حوالي 29 حركة مسلحة بدأت بالخروج على " على بن أبى طالب" بعد التحكيم، وكانت آخر ثوراتهم في مكة والمدينة بقيادة" حمزة الشاري" عام 130هـ.

أما الشيعة فقد كانوا من أقوى فرق المعارضة وأكثرها نفوذا وشعبية خاصة بعد المذابح التي تعرضوا لها إلى جانب عوامل الملاحقة والاضطهاد وهو ما جعلهم يلجأون إلى العمل السري المنظم وإلى " التقية" والكتمان. وقد بدأت دعوتهم " علوية " في أسلوبها وتنظيمها وأهدافها وقياداتها ثم أخذ بنو العباس ينخرطون فيها. وقد أعلنت ثورة بني العباس ( وهم من الهاشميين) عام 129هـ وقضت على الأمويين عام 132هـ، أي 750م لتقيم الدولة العباسية .

وقد اعتمد العباسيون كأسلافهم على " الجبرية" كسلاح ديني لتوطيد مواقفهم السياسية وتعزيز حكمهم المطلق.

وعبر عن ذلك أبو العباس أول خلفاء بني العباس في خطبة بيعته للخلافة بقوله:" الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه القوام به والزادين عنه والناصرين له" وهى نفس نظرية الحكم الالهى كما عبر عنها ثاني خلفاء العباسيين أبو جعفر المنصور قائلا:" أيها الناس أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده" ولم يتغير جوهر الحكم رغم تولى المأمون الخلافة واتخذاه " الاعتزال" مذهبا رسميا للدولة.

وقد أعاد الخليفة المتوكل ( الذي تولى الحكم عام 232هـ / 877م) الاعتبار لمذهب أهل السنة ونكل في المقابل بالمعتزلة، الذين واجهوا محنة كبرى على يد التيار السلفي والحنبلية والتيار الأشعري والرافضين لسلطان العقل الذي قال به تيار الاعتزال، وقد توالت ثورات الشيعة في عهد بني عباس وقتل معظم قادتهم في المعارك التي دارت بينهم وبين العباسيين في سائر إنحاء دولة الخلافة.

ويجدر القول أن السلطة سواء في الدولة الأموية أو العباسية استخدمت التيارات المذهبية وف ما يتراءى لها ويخدم في النهاية الحكم القائم سواء كان مع المرجئة أو الجبرية أو المعتزلة. في هذا السياق برزت في التاريخ السياسي الإسلامى ثلاثة تصورات كبرى للحكم منذ بداية الحكم الأموي الأول، يرى أن الخلافة يجب أن تعود" لعلى بن أبى طالب" بسبب حجتين أساسيتين مترابطتين هما- قرابته من النبي، ثم قدمه في الإسلام بحيث تظل الخلافة امتيازا في عائلة الرسول( صلعم) وهو موقف الشيعة،

والثاني ، هو تصور الخوارج الذين رأوا أن الخلافة تؤول على أفضل عناصر الأمة دونما أي اعتبار للولادة، وهى خلافة مؤقتة لأن الخليفة يبقى معرضا للإسقاط إذا خرج على الشريعة . والثالث هو موقف من دافعوا عن الخلفاء الأمويين والعباسيين، وهو موقف يقول إن الحاكم الذي اختارته الأمة يتولى قيادتها بحسب مبادئ الشريعة، ويدافع عن مصالحها دون أن يخالف العزل أو الإسقاط . وقد تحايل الحكام لأخذ البيعة لهم لجعلها وراثية بتعيين أبنائهم أو أخذ البيعة لهم.

والواقع أن تعدد التيارات والفرق المذهبية التي عرفها نظام" الخلافة" على مر التاريخ الإسلامى، والتي صبغت كلا من الحكم والمعارضة.

قد أدت في النهاية إلى انتفاء وجود نظام سياسي مستقر له قواعد ثابتة تمارس من خلالها السلطة. وتضمن في الوقت نفسه حق المعارضة السياسية دون اللجوء إلى " التكفير" أو المساس بالعقيدة أو ممارسة العنف خروجا على الحاكم. ولعب كثير من الفقهاء والمشرعين دورا في تبرير الحكم المطلق، ولعل " الخلفاء" أنفسهم دفعوهم إلى ذلك، وامتد الأمر إلى الحكام والولاة وإلى كافة أجهزة الدولة، خاصة بعد ازدياد التوسع في الفتوحات الإسلامية وهو ما كرس أسس الحكم الفردي.

فقد اتخذ نظام الإمارة- وفقا للما وردى- أشكالا ثلاثة هي : إمارة استكفاء ، وهى التي يفوض فيها الخليفة من يختاره للولاية تفويضا عاما في كل شؤونها وهى سبعة: النظر في تدبير الجيوش، النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكم، جباية الخراج، حماية الدين والزود عن النساء، إقامة حدود الله وحقوق الذميين، الأمانة في الجمع، تسيير الحجاج، وإمارة الاستيلاء،

وتعنى أن يستولى الأمير بالقوة على البلاد ويترك له الخليفة إمارتها ويفوض إليه تدبيرها وسياستها فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير والخليفة بإذنه منفذا لأحكام الدين، وإمارة خاصة، بمعنى أن يقتصر الخليفة عمل الوالي على تدبير الجيش وسياسة الرعية والزود عن النساء دون التعرض للقضاء والأحكام وجباية الخراج والصدقات.

ويمكن إثارة قضيتين أساسيتين واجهتهما " الخلافة" بعد اتخاذها شكل الملك الأولى، هي مشكلة انتقال الحكم والأخرى، هي سلطة الخليفة،والتي انتهت بضعف نظام الخلافة نفسه قبل زوال خلافة وهى الخلافة العثمانية ، فرغم أن الأمويين اعتمدوا على مبدأ " العصبية" في تنصيب الخليفة حيث أنهم مثلوا أهم عناصر قبيلة قريش إلا أنهم لم يستطيعوا وضع مبدأ ينظم انتقال الحكم ويحدد لكل خليفة وريثه من بعده فقامت منازعات مفتوحة عند موت ك لخليفة لم يتخذ في حياته التدابير الضرورية لكي يخلفه ابنه،

وعند العباسيين كانت شرعيتهم الخاصة معتمدة على النصوص القرآنية التي تعطى الأفضلية في الميراث للعلم، وإذا كان الأمر قد استقر لهم مثلما استقر للأمويين أي داخل العائلة إي أنهم كانوا مضطرين أيضا لأخذ الاعتراف الرسمي من قبل الأمة لكل وارث، وتسبب استمرار هذا الوضع- أي عدم وضع قواعد محددة للوراثة- في تفجير مشاكل ولاية الخليفة ولم يكن سن الرشد محددا مما خلق مشاكل حقيقية بسبب توريث الحكم لمن هو دون هذه السن.

ومن هنا يمكن القول أنه بموجب التحول في شكل الخلافة ساد الحكم العائلي الوراثي إلا أن غياب القاعدة الوراثية أتاح الفرصة لتفكك وتجزئة الخلافة وضعفها، وارتبط بهذه المشكلة قضية أخرى خاصة بتحديد سلطات الخليفة، فقد أظهر العصر العباسي بالتحديد هذه القضية بقوة،

حيث احتفظ الخليفة لنفسه بحرية واسعة في العمل وفى تطبيق النصوص والاجتهادات، وامتلك سلطات واسعة في شؤون القضاء رغم تفويضه لبعض سلطاته إلى القضاة الذين كانوا يتقيدون بأحكام الشرع ولكنه احتفظ لنفسه بحق نقض الأحكام الجائرة، كذلك فقد كان الخليفة مسئولا عن حفظ النظام،

وبالتالى كانت له سلطة العقاب كما كان يمارس سلطته على الأسواق عن طريق " المحتسب" وهو المكلف بمراقبة الأسواق وجمع الضرائب العامة وفرض " الأخلاقيات" الإسلامية، وبذلك كان الخليفة يهيمن على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ولم يكن هناك فصل بين هذه السلطات.

وإلى جانب ذلك احتفظ الخليفة لنفسه بحق فرض المذهب العقيدى الذي يراه على الدولة كما حاول أن يفعل الخليفة المأمون بفرض العقيدة الاعتزالية في بداية القرن التاسع على كل الذين يتولون مهمة قضائية، وفى بداية القرن العاشر برزت العقيدة التقليدية " الحنبلية" ومع القرن الحادي عشر اعتمدت هذه العقيدة بصفة رسمية من قبل الخليفة الذي حاول أن يحارب نفوذ الأمراء" البويهيين" ذوى الميول الشيعية ، ومن هذا المنطلق حاول الخليفة أن يقمع كل انحراف عقائدي ويقود حملات عسكرية ضد القضاة الذين كانوا أنصارا للعقيدة الرسمية ، واستمر الأمر في الدولة العباسية كما كان في الدولة الأموية.

ولكن ضعف الدولة العباسية أدى في النهاية إلى تجزئة السلطة خاصة بعد اتساع الخلافة، وارتكزت السلطة أساسا على قوة السلاح أكثر مما ارتكز على الرضا العام وكان على الفقهاء عبء تعديل نظرياتهم وفق ما تقتضيه المصلحة السياسية فبعد الفقيه أبو حامد الغزالي الذي كان يرى أن صاحب القوة أي السلطان يمكن أن يعين الخليفة، قام ابن تيمية – في الحقبة التي تلت الغزو المغولي- بطرح جديد للمفاهيم القديمة للإمامة أي أسس السلطة العباسية حتى لا تؤول لأي شخص يستولى عليها،

ولكن بعد زعزعة الشرعية السنية في أعقاب الغزو المغولي لم تجد مدافعا متحمسا غير السلاطين المماليك وبعدها شاعت فكرة أن السلطان القائم ما دام يحترم الشريعة الإسلامية ويفرض التنفيذ بها يستحق لقب خليفة وساعد ذلك العثمانيين فيما بعد رغم إعلان تمسكهم بالخلافة.

فقد بدأت تظهر عوامل الأزمة داخل أرجاء الإمبراطورية التي شيدتها الخلافة العثمانية مع مطلع القرن السابع عشر وتمثل ذلك في ضعف القيادة المركزية وقيام ثورات الولاة والأمراء المحليين، وتوقف الفتوحات وتراجع الجيش العثماني الذي قلت موارده وأصبح هو نفسه مصدرا للقلق وتحريك الثورة داخل الإمبراطورية،

وكان الطبيعي في ظل هذه الأحوال أن يستشرى الفساد وسوء الإدارة، والذي زاد منه اشتداد الأزمة الاقتصادية وعجز نظام السلطنة العثمانية عن تأمين الولاء اللازم للحفاظ على سلطتها في الولايات، في هذا الإطار بدأ يظهر تيار يدعو إلى إصلاح مؤسسات الدولة وكشف أسباب الانحطاط التي حلت بالإمبراطورية، وبدأت الدعوة إلى الإصلاح تتوجه بشكل أساسي على القطاع العسكري والادارى والمالي في الدولة.

وشهد القرن الثامن عشر صيحات مماثلة للإصلاح، لم تكن فقط بتأثير عوامل التفكك والانحلال الداخلي الذي أصاب الخلافة العثمانية، وإنما أيضا بتأثير التحدي الذي بدأت تجسده أوربا، والذي بدأ أثره واضحا في أواخر القرن، أي في فترة حكم السلطان سليم الثالث( 1789-1808) الذي شهد عددا من السياسات الإصلاحية،

وقد وقف رجال الدين ممثلين عن المؤسسة الدينية ضد هذه الإصلاحات واعتبروها نوعا من " البدعة والكفر" وهكذا برز اتجاهان متوازيان من خلال حركة الإصلاح التي بدأت في عهد السلطان سليم الثالث، الأول ، هو الاتجاه الاصلاحى والذي تأثر بالتجربة الغربية فئ بناء الدولة والمؤسسات، والآخر تمثل في الاتجاه المحافظ الذي عبر عنه رجال الدين الذين شكلوا قوة ترسخ في البنية للدولة العثمانية وكان لهم هيمنتهم المعنوية وقدرتهم على إصدار الفتاوى أي امتلاكهم لقوة الإجارة و التحريم في المجتمع،

وقد قاوم هذا الاتجاه المحافظ حركة الإصلاح التي قام بها السلطان سليم الثالث، وكانت هذه " الثنائية" هي أحد أبرز جوانب أزمة السياسة الإصلاحية العثمانية طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ولم يكن هذا الجانب هو العائق الوحيد أمام حركة الإصلاح داخل الخلافة العثمانية، وغندما لعب العامل السياسي دورا هاما حيث شكل الاتجاه العدائي للقوى الاستعمارية الغربية ومشاريعها لاقتسام الإمبراطورية العثمانية، جانبا آخر من جوانب هذه الأزمة بسبب ما ترسب في الوعي الإسلامى من الخلط بين الاتجاه الاصلاحى والسياسة الغربية،

ورغم ذلك فقد حملت الإصلاحات التي شهدها القرن الثامن عشر والتاسع عشر طابعا تحديثيا على النمط الغربي، فقد شهدت الخلافة العثمانية فئ عهد السلطان محمود الثاني حركة إصلاح أخرى عرفت باسم سياسة التنظيمات وتم تشكيل جيش جديد، كما برز الاهتمام بالعلوم فتم إنشاء مدرسة للطب الحديث،

واستمرت محاولات الإصلاح في عهد خلفه السلطان عبد الحميد وإن لاقت هذه المحاولات في الحالتين معارضة من جانب الفقهاء الذين شكلوا المعارضة التقليدية لمحاولات الإصلاح واعتبروا أنفسهم المدافعين عن الإسلام. وهو ما جعلهم يضعونه معهم في موقف دفاعي.

ويمكن القول إجمالا إن حركة الإصلاح التي شهدتها الخلافة العثمانية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين جاءت كرد فعل للمجتمع الإسلامى على الاحتكاك بالحضارة الغربية الحديثة، وكان لهذه الحركة اتجاهان: الأول، سياسي وتمثل في جهاز الدولة واستتبعه بناء جهاز إداري واستصدار العديد من القوانين المنظمة لقطاعات واسعة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية .

والآخر ، فكرى عبرت عنه الحركة الفكرية والأدبية لكتاب عثمانيين مجددين وكذلك الحركة السياسية الليبرالية الدستورية التي نشأت كحركة معارضة لسياسة السلطان عبد الحميد الثاني ومثلتها تنظيمات تركيا الفتاة قم جمعية الاتحاد والترقي وحزب الحرية والائتلاف، والجمعيات الإصلاحية المختلفة.

واستمر هذا الاتجاه الاصلاحى ينمو بشكل متواز مع الاتجاه التقليدي الذي شكله رجال الدين حتى انتهى الأمر بإلغاء نظام الخلافة على يد كمال الدين أتاتورك في تركيا عام 1924.

إن أهمية التعرض لشكل الحكم وأنماط المعارضة في التاريخ الإسلامى كما جاء في هذا المبحث ترجع على ما تشكله من أساس وإطار تاريخي لفهم وتفسير الحركة السياسية الإسلامية المعاصرة والتي تشكل في جانب هام منها حركة إحياء لهذا التاريخ سواء على مستوى التصور المثالي لشكل الحكم والذي ترجمته من خلال مطالبتها بإرجاع نظام الخلافة منذ ظهور أول حركة سياسية إسلامية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، أو على مستوى المعارضة للحكم القائم،

وحيث شكل نفس التاريخ مصدر إلهام للعديد من الجماعات الإسلامية المعاصرة التي اقتربت في حركتها السياسية وأسلوبها العنيف للمعارضة من منهج الخوارج.

الباب الثاني

تطور موقف النظام في مصر من المعارضة الإسلامية

تطور موقف النظام في مصر من المعارضة الإسلامية ( عهد الرئيس عبد الناصر والفترة الأولى من عهد الرئيس السادات)

يعرض هذا الباب لتطور موقف النظام من المعارضة الإسلامية منذ قيام ثور يوليو 1952، حيث شكل هذا التاريخ نقطة فاصلة في حياة النظام السياسي المصري بعد القضاء على النظام القديم ونخبته السياسية، ورغم التغيرات التي أقدم عليها النظام في السبعينات بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، وتولى الرئيس السادات للحكم إلا أنها لم تشكل انقطاعا كاملا في طبيعة النظام،

حيث ظلت الخصائص التي اتسم بها نظام ثورة يوليو محددا رئيسيا لتحليل الكثير من سياساته ومواقفه تجاه المعارضة السياسية بشكل عام والإسلامية منها بشكل خاص، إذ اكتسبت الحالة الأخيرة بعدا خاصا نظرا للخليفة التاريخية التي حكمت العلاقة بين النخبة الحاكمة للثورة وقوى المعارضة السياسية الإسلامية والتي مثلتها حركة الإخوان المسلمين.

في هذا الإطار ينقسم الباب إلى ثلاثة فصول: يتناول الفصل الأول عرضا لخصائص نظام ثورة يوليو وتطور موقفه من المعارضة الإسلامية.

ويعرض الفصل الثاني للفترة الأولى من عهد الرئيس السادات التي شهدت الكثير من عوامل الصراع السياسي تثبيتا لدعائم الحكم للعهد الجديد، والتي لعبت دورا هاما في تحديد موقف النظام خلال هذه الفترة من قوى المعارضة الإسلامية على وجه التحديد.

ويعالج الفصل الثالث التحولات السياسية التي شهدتها حقبة السبعينات بعد حرب أكتوبر 1973 وانعكاساتها على موقف النظام من المعارضة السياسية في إطار التعددية الحزبية التي عرفتها هذه الحقبة ، والتي أثرت بدورها على موقع المعارضة الإسلامية وموقف النظام منها.

الفصل الأول نظام ثورة يوليو والمعارضة الإسلامية

يتناول هذا الفصل ثلاثة مستويات للتحليل ، يهدف المستوى الأول إلى تحديد خصائص نظام ثورة يوليو الذي يعد مدخلا أساسيا لتقييم سياساته تجاه المعارضة السياسية بشكل عام. ويتطرق المستوى الثاني إلى الخلفية التاريخية التي حكمت العلاقة بين تنظيم الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين قبيل قيام الثورة، كما يتابع تطور مسار هذا العلاقة بعد عام 1952 واتخاذ الإخوان المسلمين موقع المعارضة أما المستوى الثالث فيتناول موقع الدين من التوجهات السياسية لنظام ثورة يوليو وأثره على موقف النظام من المعارضة الإسلامية.

أولا: خصائص نظام ثورة يوليو

انتهت أغلب الدراسات في مجال النظم السياسية المقارنة إلى إدراج النظام السياسي المصري في عهد الرئيس عبد الناصر ضمن النظم " السلطوية" ، وذلك في إطار التفرقة بين كل من النظم الديمقراطية، والسلطوية ، ووفق هذا التصنيف فإن النظام السلطوي يتسم بعدد من الخصائص تميزه عن كل من النمطين السابقين أهمها:

• غنه نظام لا ينهض على وجود أيديولوجية سياسية قوية متماسكة.

• وجود حزب سيأسى واحد يحتكر القوة السياسية وإن كل ذلك لا يمنع وجود تنظيمات سياسية أخر مستقلة عنه ولكنها تكون في العادة محدودة الفعالية، وفى المقابل فإن هذا الحزب السلطوي ليس تنظيما عقائديا ولا توجد شروط صارمة لعضويته بل يعتبر حزبا مفتوحا ولذلك فقد توجد عارضة للنظام من داخل الحزب. • لا يوجد تعبئة سياسية في النظام السياسي السلطوي إلا في بداية قيامه، أما بعد استقراره فإن النظام لا يميل إلى الاعتماد على التعبئة الجماهيرية.

• يهتم النظام بالسيطرة على الجيش . ويحتل القادة العسكريون وضعا متميزا في النظام السياسي ، حيث يتحولون على سياسيين ، ويشتركون مع الفنيين والبيروقراطيين في اتخاذ القرارات الرئيسة، ولكن كلما استقر النظام قلت نسبة العسكريين الذين يعينون في المناصب السياسية ويتجه النظام على إبعاد الجيش عن السياسة، والتأكيد على صفة الاحتراف العسكري ولكن مع احتفاظ قادة النظام بصلات قوية مع الجيش لضمان استمرار ولائه للنظام السياسي.

ولقد اهتم الباحث الأمريكية"مور" في وقت مبكر، باختبار السمات السلطوية للنظام الناصري، وطرح في دراسته الشهيرة على السياسات السلطوية في مجتمع " غير مدمج" التحديات التي يطرحها ذلك النظام حول المقولات التقليدية عن مآل النظم السلطوية، وركز بالذات- على حقيقة ضعف المؤسسات والتجمعات الطوعية في مصر في العهد الناصري، فضلا عن سيطرة التنظيم السياسي الواحد عليها.

وفى هذا الإطار فإن هذا المبحث يركز على النقاط التي تتعلق بالخصائص السلطوية للنظام والتي تؤثر على إستراتيجيته وسياساته إزاء قوى المعارضة السياسية والتي تتمثل في : ضعف الأيديولوجية الرسمية، وضعف المؤسسات، وطبيعة تكوين النخبة الحاكمة.

ضعف الأيديولوجية الرسمية

يمكن تعريف " الأيديولوجية " بأنها مجموعة الأفكار والمبادئ المرتبطة بتصوير العالم السياسي عندما تتمتع بدرجة عالية من التماثل والتماسك بحيث توضح النظام المثالي الذي يجب أن يتجه إليه التطور السياسي وأساليب الوصول إلى ذلك النموذج المثالي.

بهذا التعريف تستهدف الأيديولوجية التأثير المباشر في السلوك السياسي ، فلا تقتصر على أن تكون مجموعة من الأفكار المجردة وإنما تتعدى ذلك لتصبح أداة اجتماعية نشطة ودليلا للحركة.

ولذلك ترتبط الأيديولوجية بكيان سياسي معين: حركة منظمة، أو جماعة، أو حزب سياسي. أي أنها مذهب يعتنقه أصحابه ويجعلهم يرفضون أو يقبلون واقعهم السياسي ويحشدون جهودهم للثورة على النظام القائم أو للدفاع عنه.

بهذا المعنى ، لم يعرف النظام الناصري أيديولوجية سياسية متكاملة أو قوية، وإنما عرف مجموعة من المبادئ والأهداف العامة التي يصعب وصفها " بالأيديولوجية" فلم تنظر نخبة الضباط الأحرار إلى مسألة وجود نظرية أو أيديولوجية سياسية للنظام الجديد باعتبارها قضية حاسمة أو ذات أولوية متقدمة لازمة للسير على طريق " الثورة" أو لبناء تنظيم حزبي سياسي فعال، وظلت هذه القضية ثانوية بأكثر من معنى. فالحركة ظلت لدى عبد الناصر حقيقة سابقة على الفكر وارتبط ذلك بالميل إلى التقليل من شأن الأفكار والنظريات وأخذها بدرجة عالية من التبسيط.

وقد عكست تلك النظرة الطابع العسكري للنخبة الحاكمة، الذي اتسم بالتركيز على الحسم والانجاز، وتجاوز المناقشات والجدال الفكري، وانعكس هذا على حقيقة أن التطبيق – بما في ذلك قيام التنظيم السياسي- كانت لا تسبقه سوى التوجهات العامة، أما البحث عن نظرية فكان تاليا للتطبيق، أو لقيام التنظيم، ولقد قامت هيئة التحرير في ظل شعار عام مبهم هو: " الاتحاد والنظام والعمل" وصاحب قيام الهيئة إعلان نظامها الأساسي ،

ثم بذلت بعد ذلك محاولات لمزيد من التأهيل أو التنظيم. وفى ظل شعار" الاشتراكية الديمقراطية التعاونية" تكون الاتحاد القومى، وحاول بعض قادة التنظيم أن يبلوروا أفكار الاتحاد بالاستعانة ببعض المثقفين، ولكن هذه المحاولات كانت أضعف من أن تشيد أساسا فكريا وعقائديا، أما " الاتحاد الاشتراكي، فمع أن بناءه جاء – عكس سابقيه- تاليا لصدور الميثاق ، ومحاولا التعبير عما جاء فيه من أفكار، إلا أن الأهم من ذلك هو أن صدور " القوانين الاشتراكية" وتنفيذها في يوليو 1961 كان سابقا- كما هو معروف لصدور الميثاق ولطرح أي أفكار اشتراكية متكاملة.

ومن ناحية أخرى فقد أجمعت غالبية الدراسات التي تناولت أيديولوجية ثورة يوليو 1952 على الطابع التجريبي لها، وهو ما أطلق عليه عبد الناصر " منهج التجربة والخطأ".

ويتمثل هذا المنهج في حقيقته أن أهم التطورات كانت تجيء بالأساس كرد فعل لإخفاق فشل خطير حدث بالفعل ، وفرض نتائجه كأمر واقع يحتم الاستجابة له، وليس نتيجة لدراسة الواقع ونقده كهدف في حد ذاته، ولعل أبرز الدلائل على ذلك تتمثل في التطورات التي لحقت بالتنظيم الحزبي الرئيسي للنظام الناصري ( أي الاتحاد الاشتراكي) وما ارتبط به من تطورات فكرية.

فصحيح أن إنشاء الاتحاد الاشتراكي في 1962 وإعادة بنائه في 1968 جاء كل منها ما في أعقاب إقرار وثيقة فكرية هامة، أنى الميثاق ثم بيان 30 مارس على التوالي، إي أن هالتين الوثيقتين جاءتا كرد فعل لانحسار خطير في النظام الناصري تمثل أولا في الانفصال السوري عام 1961، وتمثل ثانيا في هزيمة 1967 التي أدت إلى مزيد من الضغوط الشعبية عليه بلغت ذروتها في مظاهرات العمال والطلاب في فبراير 1968.

وأخيرا فقد اتسمت الأفكار المعلنة للنظام الناصري، بما في ذلك ما جاء في الميثاق بطابع انتقائي واضح وهو الطابع الذي اتسمت به أغلب الأيديولوجيات المعلنة في العالم العربي، والتي يرى فيها العديد من الباحثين تلفيقا من مدارس واتجاهات وتيارات فكرية متباينة وجمعها لآراء بطريقة ميكانيكية دون الوصول على صيغة تركيبية تجمع هذه الآراء في نسق فكرى متكامل.

وإذا كان التفسير الشائع للسمة الانتقائية لأفكار ثورة يوليو يتعلق بانتماء نخبة يوليو على الطبقة المتوسطة، فإن الواقع هو أن نخبة الضباط الأحرار مثلت بالفعل مختلف الاتجاهات التي كانت تعبر عنها التنظيمات السياسية للطبقة الوسطى في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، ومثلما دعا نظام يوليو إلى تآلف كافة القوى والطبقات في تنظيم حزبي واحد، فإن أفكاره جمعت في داخلها بين خصائص مختلفة ومتباينة ولذلك لم يكن غريبا أن تعددت الاجتهادات في تفسير " الميثاق".

وقد رأى الباحث الأمريكي "مور" في تلك النزعة الانتقائية لأيديولوجية النظام الناصري، دلالة على ضعف الانتماء الأيديولوجي للنخبة الحاكمة بشكل عام، ذلك أن أيديولوجية الميثاق- طبقا لما يقول مور- تؤكد على التناسق والتوازن أكثر مما تؤكد على الصراع ، ولا تقدم بالتالي أي وسائل عملية لتمييز" القديسين عن الأشرار" ، أو "الطليعة عن الرجعيين".

ورأى " ايليا حريق" أن تلك الأيديولوجية تقدم رموزا ملائمة لكل فئة اجتماعية على حدة بشكل اختياري، ففي حين يؤكد الفلاحون والعمال على مبادئ العدالة الاجتماعية ، فقد يشدد رجال الأعمال وملاك الأراضي على الوحدة الوطنية.

ويرتبط ذلك بحقيقة "المضمون الشعبوى" لأيديولوجية ثورة يوليو والذي يتمثل في تأكيدها على توحد الشعب، وتسامى هذا التوحد على الاختلافات أو التناقضات الطبقية القائمة. إن إطلاق صفة " الشعبوية" على هذا المضمون لأيديولوجية ثورة يوليو يشير على اشتراكها في العديد من سمات الاتجاهات الشعبوية التي أخذت أقصى أشكالها تبلورا ووضوح في أمريكا اللاتينية ،

ومثلت شكلا من السياسات التي سادت في غالبية بلاد العالم الثالث، مما دعا كثيرا من الدارسين للبحث ليس فقط في سمات " الشعبوية" وإنما أيضا في العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تستدعى ظهورها في هذه البلدان وكذلك التنظيمات السياسية التي تعبر عنها.

وترفض " الشعبوية" انقسام المجتمع إلى طبقات، وتؤكد على أن الانقسام السياسي الهام الوحيد، هو بين الشعب وأعداء الشعب سواء في الخارج أو الداخل، وامتدادا لذلك ، فإن الحركات الشعبوية عادة ما تكون حركات فضفاضة تخضع للقائد وأتباعه بشكل يقترب من نمط القيادة الكاريزمية لدى "فيبر" وتقدم التجربة الناصرية أوجها كثيرة للتماثل مع الظروف لنشأة الحركات الشعبوية.

لقد كانت الدعوة " للاتحاد " بين أبناء الشعب هي النداء الذي أطلقته نخبة الضباط الأحرار من أجل تحقيق أهداف الثورة في " القضاء على الاستعمار" وأعوانه من " الخونة المصريين"، وعلى " الإقطاع " وعلى " الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم".

على أن السيطرة في هذا التحالف الشعبي كانت للطبقة الوسطى، وبالتحديد لنخبتها العسكرية، بادرت به وحددت إطاراته ومثلما تتسم " الاتجاهات الشعبوية" بوجود تنظيمات فضفاضة تعتمد على جاذبية قادتها على بنائها المحكم فقد اتسم النظام الناصري بنفس السمة من حيث الضعف التنظيمي وسيادة الطابع الشعبوى، ويربط د. على الدين هلال هذا الطابع الشعبوى لأيديولوجية النظام الناصري بالفترة من 1956-1961 – على وجه الخصوص ، وبقيام نشاط لاتحاد القومي في تلك الفترة،

ومع ذلك فإن الشعبوية تظل سمة عامة لأيديولوجية النظام الناصري، ولتنظيماته الحزبية، فهيئة التحرير قدمت إلى الأمة باعتبارها هيئة تنظيم الشعب وتبرز وحدته وتنسق جهود العاملين في مختلف الميادين، ووصف عبد الناصر هيئة التحرير بأنها ليست حزبا سياسيا يجر المغانم على الأعضاء، أو يستهدف شهوة الحكم والسلطان ، وإنما هي أداة لتنظيم قوى الشعل، وإعادة بناء مجتمعه على أسس جديدة صالحة، أساسها الفرد.

وكان جوهر الاتحاد القومي- كما يراه عبد الناصر- هو أنه يجسد وحدة الأمة ويكتل جهودها على عكس الأحزاب التي تسبب فرقة الأمة وتشتت جهودها، فضلا عن كونه إطارا لممارسة الشعب كله للسياسة وليس احتكارها من جانب قلة سواء تمثلت في أحزاب متعددة، أو في حزب واحد،

وقد بدأ هذا الجانب من التوجه الشعبوى لدى عبد الناصر في العديد من خطبه وتصريحاته حيث يشير:" الحزب الواحد عبارة عن فئة قليلة من الناس تحتكر العمل السياسي والباقي كله قطيع، هذه هي النازية، وهذه هي الفاشية ، لكننا أخذنا تجربة جديدة، قلنا لسنا نريد طبقة أو مجموعة من الناس تحتكر العمل السياسي.. ما فيش احتكار سياسي، ما فيش فئة، ما فيش طبقة.. نعمل اتحاد قومي، كل البلد تنتخب القيادة.. وكل البلد تختار ممثليها.

وماذا كان الاتحاد الاشتراكي قد حل محل " الاتحاد القومي " في عام 1962 ، فإن هذا لم يعن إلغاء السمة الشعبوية للأيديولوجية الرسمية للنظام، بقدر ما عنى تغير بعض ملامحها.

فانطلاقا من فكرة " تحالف قوى الشعب العاملة" كما وردت في الميثاق ، وكما طبقت في الاتحاد الاشتراكي فإن أهم التغيرات التي لحقت بالسمات الشعبوية لأيديولوجية تمثلت أولا في بروز مفهوم أعداء الشعب فبدلا من تكتل الشعب ضد أعدائه الخارجين أو أعدائه الداخلين الممثلين أساسا في قوى سياسية ( أي لا طبقية بالدرجة الأولى) – كما في الاتحاد القومي ، برز الحديث عن الأعداء الداخلين من الرجعيين وأعوان الاستعمار- باعتبارهم قوى اجتماعية وطبقية معينة، ولكن جوهر الشعبوية ظل قائما متمثلا في تحالف طبقي يخرج عن إطاره أعداء الشعب وأنصار كل الشعب في بوتقة التنظيم الواحد.

الضعف المؤسسي

تشير أغلب الدراسات السائدة حول التاريخ السياسي والاجتماعي لمصر إلى ضعف مستوى المؤسسية السياسية وبالذات المؤسسات القائمة بين السلطة الحاكمة من ناحية والطبقات المحكومة من ناحية أخرى ، وترتبط هذه السمة بالعوامل التي ينظر إليها باعتبار أنها شكلت خصوصية المجتمع المصري عبر تاريخه الطويل من حيث أساسه المادي أو علاقاته الاقتصادية الاجتماعية أو المؤثرات الخارجية التي تعرض لها، وهى العوامل التي أسهمت – بالتالي- في صياغة هياكله السياسية والاجتماعية والثقافية؟

ولقد أسهمت هذه العوامل سواء منفردة أو في تفاعلها مع بعضها البعض في تكريس الشروط التي أعاقت – على مدى التاريخ السياسي في مصر- تبلور تراث من المؤسسية السياسية ، وتبدى ذلك على وجه الخصوص في الثقافة السياسية التي سادت المجتمع المصري ،وتشوه التكوين الطبقي للمجتمع وتأثير طبيعة التقاليد المؤسسية السائدة.

لقد ساد المجتمع المصري نمط تقليدي من الثقافة السياسية ، ظل يشكل رغم بعض عوامل التغير التي أحدثتها الحقبة الليبرالية السابقة على نظام 1952، عاملا هاما ومؤثرا في التطور السياسي للمجتمع، وبالتحديد من زاوية إعاقة تبلور درجة من المؤسسية فيه، بمعنى إمكانية وجود تنظيمات تقوم على اتحاد أفراد من المجتمع مع بعضهم البعض لتحقيق أغراض تتجاوز اهتماماتهم الضيقة المباشرة، وتتمتع بقدر من الاستقلال والاستمرارية والفعالية.

وتشكل هذا النمط من الثقافة السياسية بفعل عوامل تاريخية معقدة ومتشابكة لعل أهمها طبيعة الحياة النهرية في مصر القائمة على الزراعة والتي استلزمت وجود سلطة مركزية قوية تنظم العمل الجماعي للفلاحين، فضلا عن تركز الإقليم وسط الصحراء، والإدارة البيروقراطية الضخمة، واحتكار النخبة الحاكمة لملكية الأرض، وكلها عوامل أدت إلى زيادة قبضة الحكومة المركزية، واستخدام شتى أساليب القهر، كذلك فإن المفاهيم التي ارتبطت بتفسير الدين، والتي تحض على طاعة الحاكم واعتبار أن سلطانه مستمد من الله، تغلغلت في وجدان الغالبية الساحقة من الشعب، وساهمت في تشكيل ثقافته السياسية.

وأدت هذه العوامل إلى إضعاف الروح المؤسسية لدى المصريين فترسخت عبادة السلطة، بمعنى الطاعة للحاكم، والانصياع شبه المطلق لأولى الأمر، كما سادت شخصية السلطة بمعنى إيداعها في شخص الحاكم والنظر إليه ليس على أنها مؤسسة ذات إطار دستوري أو قانوني، وإنما على أنها شخص له قدسيته الخاصة،

كذلك فإن ما دأبت عليه الإدارة الحكومية من استغلال ونهب وما اتسمت به من قسوة وتعال وفساد، وعدم اهتمام بمصالح الفلاحين، أدت على زرع قيم الشك فى الحكومة، ودفعت الفلاح المصري إلى اكتساب صفات المكر والخداع والمراوغة إلى جانب زرع قيمة الخوف والإذعان لسلطة الحكومة دون احترامها، وساعد على ترسيخ هذه الصفات التنشئة العائلية التي تربى الأبناء على نفس الأساليب.

ومن ناحية أخرى، فإن وجود مصدر الرزق في القرية وعزلتها عن المراكز الحضرية، قد غذى الفلاح بالعزلة ودعم النزعة المحلية لديه.

وعلى الرغم من التغيرات التي أصابت الاقتصاد القروي في القرن التاسع عشر والنصف من القرن العشرين إلا أن الولاء المحلى ( سواء للعائلة أو القرية) ظل هو السمة المميزة لولاء الفلاح وانتمائه، وافتقد الفلاح بشكل عام الشعور بالمواطنة، بما ترتبه من حقوق والتزامات ، وآثر مصلحته الذاتية على المصلحة العامة، ومصلحة قريته على مصلحة المجتمع القومي.

وفى إطار تحليل الأسباب التاريخية والثقافية التي ساهمت في ضعف أو عدم وجود جماعات منظمة على أساس نوعى أو جماعات كربوراتية في التاريخ الإسلامى. طرح "مور" فكرة أن العالم الإسلامى لم يشهد تنظيم الكنيسة وبالتالي ل تتوفر الشروط الأيديولوجية التي سادت في الغرب وساعدت على ترسيخ المؤسسية هناك، فضلا عن التحديات الأخرى التي شهدتها المجتمعات الغربية والتي استنهضت بالتالي مهارات التجمعية والتنظيمية.

فكما يشير "مور" أن الإسلام لم يكن مستهدفا من أية جماعة ثورية تنظم ضده، وتستوعب مهاراته التنظيمية مثلما فعل" البيوريتان" ( التطهريين) ، ثم البلاشفة في العالم المسيحي والقوه الوحيدة التي استهدفت ذلك جاءت متأخرة كثيرا في صورة الوجود الاستعماري الغربي. وفى إحالته عن مصر يرى أنه لم يكن من الممكن إحداث تحول رئيسي في الثقافة السياسية ، كما أن الأبنية التي كانت قائمة ، خاصة الجهاز البيروقراطي للدولة،

تم فقط تعديلها على أيدي البريطانيين ، ولكنهم لم يزيلوها، أو حتى يدخلوا إصلاحات جوهرية عليها، أما " سبرنجبورج" فأشار إلى حقيقة أن مصر لم تعرف التنظيمات الأهلية إلا بشكل استثنائي عندما كانت الحكومة المركزية تتعرض للضعف سواء بسبب عوامل داخلية أو خارجية ومثال ذلك ما حدث في الفترة، بين جلاء الحملة الفرنسية وبين تولى محمد على سلطته، حيث شهدت ضعفا وتشتتا لقوى المماليك، وهو ما أفسح لرجال الدين ممارسة أقصى صور نفوذهم السياسي.

وفى مجال تحليل ضعف المؤسسات السياسية في مصر، يبقى التفسير المتعلق بطبيعة البناء الطبقي في المجتمع المصر، حيث يرجع هذا التفسير عدم وجود الجماعات أو التنظيمات النوعية الحديثة في مصر إلى عدم تبلور الطبقات الاجتماعية بشكل مستقر، وخضوع القوة الاقتصادية على القوة السياسة وليس العكس ،

وهو ما قاد العديد من الباحثين إلى وصف هذا الوضع بوجود طبقات وشرائح اجتماعية متعددة، ومتداخلة وغير مكتملة الملامح، ومن ثم فلا يوجد تدرج طبقي في المجتمع المصري وإنما شرائح اجتماعية مما يترتب عليه انعدام وجود أي جماعات متداخلة بين العائلة والدولة يمكن أن توفر حقوقا وقوة سياسية واقتصادية للمواطنين ،وكذلك افتقاد الانتماءات الطبقية الحادة.

وانتهى "مور" في تحليله عن الجمعيات والاتحادات الطوعية وتطورها في إطار " النظام السلطوي" في مصر في عهد عبد الناصر إلى نتيجة هامة وهى تناقض عدد من الاتحادات والجمعيات الطوعية في تلك الفترة فضلا عن اتسام ما كان موجودا منها بضعف التنظيم، وبسرعة نشأتها وزوالها مع استثناءات محدودة، كذلك فإن النقابات العمالية والمهنية، وتعاونيات الفلاحين، وتنظيمات رجال الأعمال، اتسمت بالضعف وغلبة الطابع البيروقراطي عليها وربط مولا هذا الضعف للجمعيات والاتحادات المهنية وغيرها بضعف الأبنية السياسية أيضا.

النخبة الحاكمة

اتسمت النخبة الحاكمة في النظام السياسي المصري بعد 1952 بعدد من الخصائص يمكن إيجازها في ثلاث: أولاهما ، انتماؤها الأساسي إلى الطبقة الوسطى، وثانيتهما : طابعها العسكري أي الانتماء على الجيش وثالثتهما ، تبلور ما يسمى بالبرجوازية البيروقراطية.

لقد تعددت الكتابات التي تناولت بالتحليل حقيقة انتماء النخبة الحاكمة بعد نظام 1952 إلى الفئات الوسطى من المجتمع المصري( متوسطوالملاك في الريف، والبرجوازية الصغيرة الصناعية والتجارية في المدن) وما يهمنا إبرازه في هذا الصدد هو أثر الانتماء الطبقي للنخبة الحاكمة والعناصر التي ارتبطت بها على طبيعة النظام السياسي وعلى الموقف من التنظيمات والقوى المعارضة.

فلا شك أن الانتماء الوطني للنخبة الحاكمة يتدخل إلى حد كبير فى تحديد الأساس الذي يقوم عليه النظام، ولعل أبرز مثال على ذلك هو التغير الذي قاده النظام الناصري عن نظام ما قبل 1952 والذي ارتبط بالتحول الذي طرأ على النخبة الحاكمة، وأدى انتماء القيادات السياسية والحزبية التقليدية السابقة على نظام 1952، إلى الطبقات العليا( كبار الملاك في الريف، والبرجوازية التجارية والصناعية والمالية في المدن) إلى جعل نظام الحكم معبرا عن توجهات تلك الطبقات ،

وفى هذا السياق فإن إلغاء حركة الجيش لدستور 1923 في ديسمبر 1952 كان في واقع الأمر- إلغاء للأساس القانوني الذي كان يستند عليه النظام وانقلابا على الطبقات الاجتماعية المعبرة عنه، إذ كان واضحا تماما، أن دستور 23 لم يعد يتناسب مع الطبقة المتوسطة التي وثبت إلى السلطة،

ولم يكن منطقيا أن تترك دستورا يحرمها من فرصة تأكيد وجودها وتحقيق أهدافها ، وفى نفس الوقت فإن الانتماء الطبقي للضباط الأحرار ، يفسر إلى حد كبير أيضا تخوفهم الشديد من أية مبادرات تنظيمية مستقلة للطبقات العمالية والفلاحين وحرصهم على السيطرة على أية أبنية تنظيمية نقابية أو سياسية لتلك الطبقات.

وفى المقابل فإن التنظيمات السياسية الرافضة- التي عبرت عن نفس الطبقة المتوسطة وطموحاتها- والتي وجدت قبل نظام 1952 وتمثل أبرزها في جماعة الإخوان المسلمين وجماعة مصر الفتاة، عكست نفس التوجهات السياسية وإن اختلف الأساس الفكري الذي قامت عليه .

فالإخوان انتقدوا مبدأ التعددية الحزبية لاعتبار أن الإسلام يحرم العصبية الحزبية التي تفرق الأمة وتشتتها وفق منطقهم ، كذلك عكست جماعة مصر الفتاة الانبهار بالفاشية

كما ظهرت في ذلك الحين في إيطاليا وألمانيا ، وقد أدى ظهور هذه التنظيمات بتوجهاتها السياسية إلى إضعاف الحياة الحزبية التي كانت في مقدمة العوامل التي مهدت لحركة الجيش في 1952، وفى تحليل " بيرلموتر" للشروط السياسية التي تؤدى إلى ظهور الدولة " البريتوريانية" ( أي الدولة التي تتيح للعسكريين إمكانية السيطرة على النظام السياسي) وضع في مقدمة تلك الشروط ضعف وعدم فعالية الأحزاب السياسية وذلك كتعبير عن ضعف المؤسسية بشكل عام.

والواقع أن رؤية الجيش، كبديل عن الأحزاب السياسية وغيرها من المؤسسات الدستورية السائدة كانت واضحة لدى النخبة الحاكمة في 1952، إلا أن الجيش قد اتخذ- كما يرى كثير من الباحثين- اتجاها شعبيا في توجهاته ف الحكم أكثر من تعبيره عن مصالح طبقة اجتماعية محددة خاصة في المراحل الأولى التي انشغل فيها بتثبيت سلطته وتأكيد دوره، ولكن مع تبلور مصالح طبقية جديدة محددة بدأ الجيش يرتبط بتلك المصلح ويعبر عنها.

وفى المقابل أدت سيادة الطابع العسكري على النخبة الحاكمة إلى إلغاء العمل السياسي تماما أو على الأقل حظر " الأساليب السياسية في المجال السياسي " وافترض أن تكون جميع الأنشطة السياسية حكرا على الجيش.

أما الطابع البيروقراطي للنخبة الحاكمة، فقد ارتبط بنظام رأسمالية الدولة في ظل النظام الناصري، وما يهم في هذا المجال هوتلك القوى الاجتماعية التي ارتبطت برأسمالية الدولة، والتي أضحت تعرف باسم " البرجوازية البيروقراطية" والتي يقصد بها: تلط الطبقة التي تنشى لنفسها موقعا ( أحيانا مسيطرا) في علاقات الإنتاج، من خلال سيطرتها على قطاع إنتاجي مملوك ملكية عامة، وقد تديره باسم الدولة .

وقد سادت " البرجوازية البيروقراطية"وأسهمت بشكل متزايد في تشكيل التنظيم السياسي ، ومثلما أسهم في هذا التشكيل في البداية انتماء الضباط الأحرار إلى الطبقة الوسطى، وغلى السلك العسكري، فإن تكون واتساع البرجوازية البيروقراطية أسهم بدوره في تبلور عدد من السمات التي ميزت التنظيم السياسي فى الستينات، ولقد كان الاتحاد الاشتراكي في الواقع هو التنظيم السياسي للبرجوازية البيروقراطية ( ذات الأصول العسكرية والمدنية) في المقام الأول ومثل تحالفا بيروقراطيا بين القوى الاجتماعية ومنطويا على نزعة التسييس عن أية معارضة محتملة.

وقد لعبت هذه الخصائص العامة للنظام السياسي، فضلا عن طبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي لنخبته الحاكمة، دورا هاما في تحديد استراتيجيات النظام وسياساته تجاه المعارضة السياسية بشكل عام والإسلامية منها بشكل خاص، حيث كان للخلفية التاريخية التي حكمت العلاقة بين النخبة الجديدة لثورة يوليو والمعارضة الإسلامية التي مثلتها جماعة الإخوان المسلمين أثر كبير في إضفاء نوع من الخصوصية على طبيعة العلاقة التي سادت والتي تحددت في إطارها إستراتيجية كل منهما إزاء الآخر.

ثانيا: تطور موقف نظام ثورة يوليو من المعارضة الإسلامية

تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين

لم يشكل اختفاء الرئيس جمال عبد الناصر عن المسرح السياسي برحيله عام 1970 انقطاعا في طبيعة النظام السياسي الذي حكم مصر منذ 1952، ولا في نخبته السياسية التي تعود بجذورها إلى تنظيم الضباط الأحرار ،

ورغم اختلاف العهود السياسية من عبد الناصر إلى السادات إلا أننا نلمح استمرارية في النظام السياسي المصري انعكست على طبيعة الحكم، وسياساته، وحددت إلى حد كبير طبيعة العلاقات بين القوى السياسية المختلفة.

ويصدق ذلك بشكل عام على كافة القوى السياسية من يسارية وليبرالية وبشكل خاص على القوى السياسية الإسلامية، التي تعامل معها النظام منذ وقت مبكر.

إن قراءة التاريخ السياسي المعاصر لمصر منذ 1952 تشير على خصوصية العلاقة التي ربطت بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين أولى الحركات السياسية الإسلامية في مصر.

وتنطوي هذه العلاقة ابتداء على بعدين أساسيين : الأول، هو السياق السياسي الذي نمت في إطاره الحركتان قبل نجاح حركة الجيش في الاستيلاء على الحكم. والآخر ، يتعلق بالأصول الاجتماعية التى جاءت منها كل من هاتين الحركتين والتي عبرت عن أحد شرائح الطبقة الوسطى المصرية هي الشريحة الدنيا منها.

ولعب هذان البعدان دورا أساسيا في صياغة العلاقة بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين والتي تراوحت بين التعاون حينا والصراع حينا آخر ولكنها في كل الأحوال كانت تحمل في طياتها طابعا تنافسيا مستمرا،وإذا كانت دواعي البراجماتية السياسية قد جمعت بينهما لمواجهة النظام السابق على 1952 إلا أن استمرار عوامل المنافسة بينهما حالت دون تعايشهما لفترة طويلة.

لقد زخرت الحياة السياسية المصرية قبل 1952 بالعديد من الأحزاب والحركات السياسية التي رغم اختلاف توجهاتها السياسية وتضادها أحيانا إلا أنه قد جمع بين أغلبها الانتماء إلى أصول اجتماعية واحدة تقريبا وهى البرجوازية الصغيرة، وكانت كل من حركتي الإخوان المسلمين والضباط الأحرار تعبيرا عن هذا الواقع.

فقد مثلتا إحدى شرائح الطبقة الوسطى وعبرتا بذلك عن بعض آمال وطموحات هذه الشريحة في فترة ما قبل 1952 والتي اتخذت أبعادا سياسية مختلفة وإن لم تستقر كل من حركتي الإخوان والضباط الأحرار في تشكيلات حزبية أو مؤسسية تصيغ على أساسها برامجها، وتملك من خلالها الأدوات والقنوات التي تضمن لها تحقيق قدر من المشاركة في الحكم.

وكانت بذلك على العكس من حزب " الوفد" الذي مثل في هذه الفترة التاريخية إطارا سياسيا رئيسيا للطبقة الوسطى والبرجوازية المصرية والذي نجح في بناء كيان مؤسسي حزبي وتشكيل قاعدة جماهيرية كانت مصدرا رئيسيا لفعاليته و حيويته السياسية، فكما يشير طارق البشرى( لم تنجح الحركات السياسية الأخرى في بناء كيان مؤسسي حزبي إلا الوفد الذي كان جهازا سياسيا ذا مستويات ومسئوليات لا يعتمد إلى حد كبير في نشاطه الداخلي على الفرد أو على الروابط الشخصية،

ورغم أن هذه الظواهر كانت موجودة به فلم تكن المتحكمة) ويفسر ذلك بأن انتماء هذه الحركات على البرجوازية الصغيرة ( التي تتشكل من الطلبة وصغار الموظفين والتجار والصناع والطبقة الوسطى الريفية حديثة الاستيطان بالمدن) جعلها بعيدة عن خبرة التنظيم الحديث وبناء المؤسسات بحكم فرديتها المعروفة في الإنتاج والنشاط، أما الوفد فكان حزب البرجوازية التي كانت قادرة بوضعها الطبقي وثقافتها الليبرالية وروحها العملية على إنجاز مثل هذا البناء، هذا فضلا عن افتقاد أغلب هذه الحركات إلى التجانس الفكري والرؤية السياسية المتماسكة بحكم واقعها الاجتماعي.

هذه اللمحة السريعة تثير ملاحظتين: الأولى، هي التداخل بين بعض الحركات السياسية، وكانت حركة الضباط الأحرار نموذجا واضحا على ذلك، فقد كانت تعبر عن جيل جديد داخل الجيش انتمى أغلب قياداته إلى شريحة اجتماعية من الطبقة الوسطى وعبر الضباط الأحرار عن أبناء الموظفين وبعض أثرياء الفلاحين من أصحاب الملكيات الصغيرة عدا قلة منهم من أبناء فقراء هذه الطبقة، وكانت الترجمة السياسية لهذا الواقع الاجتماعي هي التذبذب بين العديد من التيارات والأفكار التي عبرت عنها الأحزاب والحركات السياسية التي جاءت من نفس الأصول الاجتماعية مثل الحزب الاشتاركى، والحزب الوطني الجديد، والإخوان المسلمين،

وبعض الحركات الماركسية، وبالتالي لم يكن غريبا أن نجد جذورا إخوانية لحركة الضباط الأحرار أما الأخرى، فتتعلق بطبيعة الصراع السياسي فقد كان لتمتع أحد الأجنحة الهامة للطبقة الوسطى بشكل حزبي ومؤسسي ممثلا في الوفد واقتسامه للسلطة أثرا في ترسيخ علاقة يحكمها العداء مع أغلب الحركات السياسية الأخرى ومن ضمنها حركتي الضباط الأحرار والإخوان، وفى هذا الإطار يمكن فهم طبيعة العلاقة التي ربطت بين تنظيم الضباط والإخوان قبل نجاح حركة الجيش في الوصول على الحكم.

ساعدت الأحداث السياسية في هذه الفترة على إبراز التناقض بين الضباط الأحرار والوفد، وكان لحادث فبراير 1942 أثر في إبعاد كثير من شبابا الضباط عن الوفد، الذي زاد سخطهم عليه بعد أن تولى الحكم في عام 1952، ورغم تأييد الضباط الأحرار في منشوراتهم للإجراء الذي اتخذته الحكومة الوفدية وقتئذ لإلغاء معاهدة 1936

إلا أنهم سرعان ما تراجعوا عن هذا التأييد بسبب معركة القنال، كذلك فقد أثرت التداعيات السياسية التي أعقبت حريق القاهرة في 26 يناير 1952 على جماهيرية الوفد، إذ كانت حكومته هي التي أعلنت الأحكام العرفية والتي أعقبتها حركة اعتقالات واسعة،

وربما أدت هذه الأحداث والاضطرابات التي شهدتها مصر في تلك الفترة إلى تآكل شعبية الوفد كمؤسسة جماهيرية ، وكان ذلك يعنى سقوط الوفد وسقوط النظام الذي بدأ يحكم الوفد سنة 1924 وانتهى بحكمه أيضا في 1952 وقد مهد هذا الظرف التاريخي لصعود حركة الجيش ممثلة في تنظيم الضباط الأحرار.

استفاد الضباط في هذه الفترة باتصالهم بأغلب القوى الشعبية والثورية السرية والعلنية وساعدهم على ذلك عدم وجود أيديولوجية حاكمة للحركة فكان تنظيم الضباط على صلة بكافة التيارات السياسية السائدة في المجتمع، ورغم انعكاس هذه التيارات بشكل عام على التوجهات السياسية لحركة الضباط الأحرار إلا أنها لم تنجذب لواحد من هذه التيارات بعينها.

وعكس هذا السلوك السياسي سمتين أساسيتين لحركة الضباط : الأول، أنها ضمت بين صفوفها العديد من الاتجاهات السياسية المختلفة بل والمتناقضة ( من يسار إلى إخوان) دون أن يعنى ذلك تحيزا فكريا لأي منها، وهو الأمر الذي غذى من عوامل التنافس ضد الحركات الأصلية المعبرة عن هذه الاتجاهات، والأخرى، تتعلق باتساع قاعدة التحرك والمناورة السياسية التي تمتعت بها.

في هذا الإطار يمكن فهم طبيعة العلاقة التي ربطت بين كل من الضباط الأحرار والإخوانقبل قيام الثورة في 1952 فقد كان لبعض أعضاء اللجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار جذور من حركة الإخوان،

وربما ساعدت هذه الصلة على التنسيق بينهما في بعض المراحل في أواخر الأربعينات حيث كانت حرب فلسطين مبررا إضافيا لكل منهما لزيادة الصراع من الوفد وخلق مساحة مشتركة للتحرك( وإن لم يمنع ذلك الخلاف بينهما حول العديد من القضايا ومن ضمنها أسلوب الاشتراك في حرب 1948 نفسها) ولذلك فقد استمرت الصلة بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان قائمة على أسس غير عدائية وغير تنظيمية أيضا).

وربما كان الدافع الكامن لتقوية الصلة بالإخوانهو تنامي دورهم السياسي الذي توازى مع نمو الجهاز السري من حيث الإعداد التنظيمي والتدريب والتسليح. وهو ما أعطى لهم قوة نسبية على الساحة السياسية كان م الصعب تجاهلها،

لذلك فقد شهدت الأربعينات تحالفات سياسية بين الجماعة والقصر حينا وبينها وأحزاب الأقلية حينا آخر، وذلك وفقا لما تمليه دواعي المصلحة السياسية في المراحل المختلفة، ولكن ظل التنافس الرئيسي للجماعة هو حزب الوفد الذي اتخذت العلاقة معه طابعا عدائيا وصداميا في أغلب الأحيان.

ونخلص من ذلك إلى الإطار التنافسي الذي اتسمت به العلاقة بين حزب الوفد من ناحية، وجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم الضباط الأحرار من ناحية أخرى .وقد أدى هذا الإطار إلى تعاون كل من الضباط والإخوانلتوجيه حركتهما في بعض اللحظات التاريخية ضد الوفد. ولكم مسار هذه العلاقة التعاونية اختلف بعد تغير هذا الظرف التاريخي بصعود الأحرار ووصولها إلى الحكم مع بقاء الإخوانخارجه.

نظام ثورة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين

لا شك أن نجاح حركة الجيش في 23 يوليو 1952 قد قلب الكثير من الموازين السياسية ، وإذا كانت الظروف السياسية والاجتماعية قد وضعت كلا من " الضباط الأحرار " والإخوان المسلمين في خندق واحد قبل 1952 كحركتين سياسيتين معارضتين خارج الحكم فإن نجاح إحداهما في الصعود إلى السلطة السياسية كان إيذانا بتغيير مسار العلاقة التي بدأت بالتعاون ، ومرت بفترات من الصعود والهبوط، وانتهت بالصدام أكثر من مرة.

كانت حركة الضباط على وعى منذ البداية بضرورة الحفاظ على استقلاليتها ورغم اتجاهها لدواعي الواقعية السياسية إلى التعاون مع حركات سياسية أخرى ومن ضمنها الإخوان، إي أن هذا التعاون لم يصل إلى درجة التحالف قبل وصولها على الحكم، كما لم يكن مبررا لاقتسام السلطة مع أي منها بعد نجاحها في 23 يوليو 1952.

وفى هذا السياق لجأ النظام الجديد إلى احتواء الإخوانبشكل مبكر لسببين رئيسيين: الأول، أنهم شكلوا قوة من أهم القوى السياسية والتي كان لها تنظيماتها السرية . والآخر، هو تطلعها إلى اقتسام السلطة مع النخبة السياسية الجديدة.

وقد بدأ النظام الجديد عهده بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، فصدر قرار بعفو خاص في 11أكتوبر 1952 عن قتلة المستشار أحمد الخازندار رئيس محكمة جنايات القاهرة، قبل أن يصدر بعد ذلك بأيام مرسوم بالعفو الشامل عن الجرائم السياسية التي وقعت في الفترة من توقيع معاهدة 1936 على 23 يوليو 1952.

وكانت هذه أول إشارة إلى رغبة النظام في الاحتواء المبكر للإخوان، ثم بدأ ذلك بشكل أوضح في أول قانون أعلنه النظام الجديد لتنظيم الأحزاب السياسية وهو القانون رقم 179 الصادر في 3 سبتمبر 1952.

وقد اشتمل القانون على نص هام مؤداه أنه يقصد بالحزب السياسي كل حزب أو جمعية أو جماعة منظمة تشتغل بالشؤون السياسية الداخلية والخارجية للدولة لتحقيق أهداف معينة عن طريق يتصل بالحكم، ولا يعتبر حزبا سياسيا الجماعة التي تقوم على محض أغراض علمية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية).

واستنادا إلى هذه العبارة الأخيرة تم استثناء جماعة الإخوان المسلمين من الخضوع للتشريعات الخاصة بالأحزاب السياسية وممارسة نشاطها، بما في ذلك استثناؤها من قرار حل الأحزاب في 18 يناير 1953.

ورغم هذه الأسباب الشكلية لاستثناء جماعة الإخوان المسلمين من قرار الحلإلا أنها في حقيقة الأمر قد استندت إلى اعتبارات وأهداف سياسية بحتة، أهمها مراعاة التوازن السياسي والتحسب من دور الجهاز السري للإخوان واحتمالات قيامه بأعمال عنف تهز الاستقرار المطلوب في بداية الثورة.

وفى المقابل كان واضحا أن قيادات الجماعة قد عملت هي الأخرى على تأييد الثورة وأهدافها، وكان هذا التأييد من منطلق سياسي أيضا، إذ رأت الجماعة أنها ستحقق ثقلا سياسيا من خلال علاقتها الخاصة والمتميزة بالنخبة السياسية الجديدة، خاصة وأن بعض قيادات الثورة كان لهم ارتباط فكرى وتنظيمي بالجماعة، ولعبوا دورا في تأكيد تلك العلاقة الخاصة التي ربطت بين النخبة الحاكمة والجماعة في تلك المرحلة المبكرة من الثورة.

ويمكن تفسير المغزى من هذا الموقف المهادن الذي اتخذه نظام 1952 في البداية من الإخوانفي ضوء حقيقتين : الأولى، أن الحكم لم يكن قد استقر بعد ولم تكن مسألة السلطة السياسية قد حسمت تماما لصالح مجموعة الضباط الأحرار وعلى رأسها جمال عبد الناصر. غذ كانت المواجهة السياسية للحكم ما زالت ممثلة في قيادة محمد نجيب.

والأخرى، تتعلق بطبيعة الصراع السياسي والاجتماعي الذي شهدته مصر فى هذه الفترة الحرجة منذ صدور قانون الأحزاب السياسية فئ سبتمبر 1952، على تاريخ صدور قانون حل الأحزاب السياسية في 18 يناير 1953، فقد كانت هذه الفترة فترة صراع سافر بين الأحزاب والقوى السياسية،

وخاصة بين نخبة النظام الجديد وحزب الوفد الذي شكل أحد التحديات الرئيسية في تلك الفترة أمام سلطة الحكم الجديد، حيث سعى الأخير إلى إقصاء القوى السياسية القديمة خارج إطار عملية المنافسة السياسية على السلطة، من خلال ضرب وتصفية الأحزاب وإيقاع الفرقة والانقسام بين صفوفها.

وفشلت محاولات الوفد في الحفاظ على استمرارية وضعه السياسي والاجتماعي في ظل النظام الجديد ، الذي خطا خطوات أوسع لهدم أسس النظام القديم ببنيته الدستورية، فألغى دستور 1923 وأعلن دستور فترة الانتقال في 10 فبراير 1953 الذي أكملت النخبة الجديدة به استيلاءها على السلطة من الناحية القانونية، حيث أصبحت السيادة العليا في الدولة بمقتضاه في يد " قائد الثورة" كما تم تركيز السلطتين التشريعية والتنفيذية في يد قيادة الثورة وهو ما أدى في النهاية إلى سيادة حكومة الثورة، واستبعاد الوفد، وبقاء الإخوانخارج الحكم.

وبذلك عملت سياسة الحكم الجديد، على التخلص أولا من حزب الوفد بما له من ثقل سياسي، ثم التحول بعد ذلك إلى تصفية باقي القوى من اليسار واليمين ممثلة في الشيوعيين والإخوان المسلمين، وقد تم تنفيذ المرحلة الأولى بنجاح،

أما بالنسبة للمرحلة الثانية، وفيما يختص باليسار فإن الثورة استطاعت توجيه ضربة قوية للحزب الشيوعي المصري، وبقى الإخوانونظرا لما كانوا يتمتعون به من ضخامة التنظيم وقوته وتغلغله في أعماق الريف بل وفى صفوف الجيش فقد تطلب الأمر معالجة من نوع آخر.

كانت الضغوط التي يبذلها الإخوانتتزايد من أجل المشاركة في الحكم إذ تصورا أن نجاح حركة الجيش سيترتب عليه نوع من اقتسام السلطة وكانت القيادة السياسية بدورها على وعى بما يعمل من أجله الإخوان المسلمين ، فأرادت تحييدهم عن طريق إبداء رغبتها في إشراكهم معها في الحكم بتمثيلهم في الوزارة، وكان اللواء محمد نجيب ما زال رئيس للوزراء ، وقد أبدى المرشد العام للإخوان في ذلك الوقت قبولا بالمبدأ ورشح ثلاثة من الإخوانهم " منير الدلة" و" حسن عشماوي" و" محمد أبو السعود

كما اقترح العشماوى اسم الشيخ حسن الباقورى الذى تحمس له " جمال عبد الناصر" والذي قبل بدوره الاشتراك في الوزارة، والواقع أنه رغم ترحيب المرشد بالمبدأ إلا أنه تحفظ على العدد حيث رأى أن اشتراك الإخوانبهذا العدد القليل يقوى الثورة ويضعف الإخوان، ولذلك فعندما وافق الباقورى على دخول الوزارة اتخذ مكتب الإرشاد قرارا بفصله من هيئة الإخوان.

وكان هذا هو الصدام المكتوم الأول بين نخبة الثورة وجماعة الإخوان المسلمين، فقد شعر الإخوان أن النخبة الجديدة لا تستجيب لإرادة الجماعة وشعرت الأخيرة بدورها بموقف الجماعة السلبي منها، وهو ما غذى من عوامل الصراع الصامت بينهما، إزاء تحرك الإخوان على مستويين:

تصعيد مطالبهم السياسية والتي تبلورت حين تقدم الإخوانبطلب تشكيل حزب سياسي بعد ما طلب الحكم من الأحزاب أن تقدم إخطارات بإعادة تكوينها.والآخر، هو دفع التناقضات بين محمد نجيب الذي راهنوا عليه، ومجموعة الضباط الأحرار حيث كان الصراع على السلطة يدور بين الجانبين.

ولم يلق كل من التحركين نجاحا، فقد قوبل الطلب الأول بالرفض حيث نصحت القيادة الفعلية للحكم متمثلة في عبد الناصر الإخوانبالعدول عن هذا المطلب والاكتفاء بممارسة الدعوة بعيدا عن الحزبية والمعارك السياسية. كما أن غياب أرضية مشتركة لالتقاء الجماعة مع محمد نجيب بعيدا عن دواعي الواقعية السياسية كان كفيلا بإنهاء تحركها الثاني إزاءه.

فقد وقف عداء الإخوانللديمقراطية وعودة الحياة الحزبية والبرلمانية حائلا دون التعاون الفعلي بينهم وبين محمد نجيب الذي أدرك ذلك الشكل مبكر. هذا فضلا عن اتخاذ الصراع على السلطة مسارا آخر لصالح الضباط الأحرار حتى انتهى بحسمه نهائيا لصالحهم وتولى جمال عبد الناصر رئاسة الوزراء في 17 أبريل 1954 بعد إقصاء محمد نجيب . وكان هذا التاريخ هو بداية التحول الرسمي في مسار النظام الجديد.

وفى المقابل ، استمرت عوامل الصراع غير المعلن أيضا من جانب مجلس قيادة الثورة إذ حاول بدوره التسرب على صفوف الإخوان ومحاولة تعميق التناقضات الداخلية بينهم، وبدا ذلك حول قضيتين الأولى، هو مسألة التعاون مع حركة الجيش، والأخرى، تتعلق ببقاء الجهاز السري ودوره حيث إن استمرار نشاط هذا الجهاز يمثل تهديدا لاستقرار النظام الجديد.

وقد بدأت بوادر الصدام بين الثورة والجماعة عندما تكشف لكل طرف الأهداف الحقيقية للطرف الآخر، وهو ما أدى على وقوع الصدام بينهما، وبذلت محاولات التقريب بين الجانبين، ولعب الشيخ حسن الباقورى بالتعاون مع إبراهيم الطحاوى سكرتير هيئة التحرير دورا في دعم الجناح المؤيد من الإخوان للتعاون مع الحكم الجديد،

كما سعى عبد الناصر لتقريب عبد الرحمن السندي إليه والذي كان على خلاف مع حسن الهضيبي والشيخ سيد سابق منشئ الجهاز وهو ما أدى إلى تعميق الانقسامات الداخلية في صفوف الجماعة.

ورغم ذلك فقد تزايدت مخاوف مجلس قيادة الثورة من تزايد نفوذ الجناح المناوئ له في الإخوان والذي اتخذ موقفا سلبيا من بعض سياسات الحكم الجديد والتصريح بذلك علنا، ومن ذلك عدم حماس الإخوان لقانون الإصلاح الزراعي، وعدم ارتياحهم لقرار إقالة رشاد مهنا الذي كان قريبا منهم،

فضلا عن بعض تصريحاتهم أمام الصحافة الخارجية والتي لم تلق قبولا من جانب مجلس قيادة الثورة ، وإلى جانب ذلك سعى الإخوانلتكثيف نشاطهم والتغلغل داخل بعض النقابات العمالية وفى الجامعات. وقد أثارت هذه التحركات السياسية من جانب الإخوان مزيدا من المخاوف لدى السلطة الجديدة وكانت المقدمات الطبيعية لتفجير الموقف بينهما،

وتمثل ذلك في الاضطرابات التي اجتاحت الجامعة عقب الاحتفال بذكرى معركة القناة، ووقوع اشتباكات بين الطلبة، اشترك فيها الإخوان، واستخدمت فيها الأسلحة في 13 يناير 1954 ، وكانت هذه هي نقطة التحول التي أدت إلى الصدام واتخاذ مجلس قيادة الثورة قرارا في اليوم التالي 14 يناير 1954 بحل جماعة الإخوان المسلمين.

وأدت هذه الخطوة على تصعيد المواجهة بينهما، ففي أعقاب توقيع اتفاقية الجلاء في 27 يوليو 1954 بالأحرف الأولى، اتخذ الإخوان موقفا رافضا منها، بسبب ما ورد في الاتفاقية حول عودة القوات البريطانية إلى مصر في حالة وقوع هجوم مسلح على أي بلد يكون طرفا في معاهدة الدفاع المشترك من دول الجامعة العربية أو تركيا.

وبعد التوقيع النهائي على الاتفاقية يوم 19 أكتوبر وأثناء إلقاء عبد الناصر خطابه بالإسكندرية يوم 26 أكتوبر احتفالا بتوقيع الاتفاقية في ميدان المنشية ، قام [[الإخوان] بمحاولة لاغتياله، وردا على هذه المحاولة قام النظام بشن حملة اعتقالات واسعة ضد أعضاء الجماعة ، وفى نفس الليلة صدرت الأوامر باعتقال الإخوان المسلمين،

وتم تشكيل محكمة خاصة في أول نوفمبر 1954، سميت باسم محكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية السادات و حسين الشافعي لمحاكمتهم، كما صدرت أحكام بالإعدام شملت مجموعة من أبرز قيادات الجماعة والجهاز السري منهم (محمود عبد اللطيف، و يوسف طلعت، وهنداوى دوير، وإبراهيم الطيب، و عبد القادر عودة، ومحمد فرغى) ونفذ الحكم فعلا ، كما صدر حكم بإعدام حسن الهضيبى المرشد العام ، ثم خفف الحكم على الأشغال الشاقة المؤبدة.

واستمر الصدام بعد ذلك بين نظام حكم الرئيس الراحل عبد الناصر وبين جماعة الإخوان المسلمين وتجسد ذلك أكثر في محاولة إحياء الجهاز السري مرة أخرى عام 1965 بقيادة سيد قطب لاستئناف عمليات العنف مرة ثانية ولكنها انتهت بالفشل، وتم إلقاء القبض على العناصر المتورطة في التخطيط وقدموا للمحاكمة وحكم على بعضهم بالإعدام وفى مقدمتهم سيد قطب ، ومثل هذا التاريخ نقطة تحول خطيرة سواء على صعيد تطور الحركة الإسلامية بعد ذلك أو في علاقتها بالنظام السياسي.

والواقع أن استعراض تطور العلاقة بين حركة الضباط الأحرار التي أصبحت هي النخبة الحاكمة لنظام يوليو 1952 ، وجماعة الإخوان المسلمين يكشف عن الأبعاد المتشابكة التي حكمت طبيعة هذه العلاقة وحددت مساراتها لعقود تالية، فقد مثلت كل من حركة الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين جناحين لطبقة واحدة هي الطبقة الوسطى الصغيرة

وإذا كان هذا البعد المشترك شكل في مرحلة من المراحل السياسية والاجتماعية التي شهدها المجتمع المصري نقطة التقاء بينهما، إلا أنه كان هو نفسه عاملا أساسيا من عوامل تغذية المنافسة في مراحل لاحقة، كذلك فقد لعبت المتغيرات السياسية المتلاحقة التي شهدتها نفس الفترة أي منذ أواخر الأربعينات حتى النصف الأول من الخمسينات،

وهى فترة اتسمت بالعديد من الصراعات السياسية وأهمها الصراع مع الوفد، وكان هذا التحدي سببا للتنسيق بين هاتين الحركتين عندما كانتا خارج الحكم، ولكن نجاح حرة الجيش في الوصول إلى الحكم واستبعاد الوفد من العملية السياسية بعد توجيه ضربة قاصمة له بحل الأحزاب في 1953، كان سببا في تغذية العلاقة التنافسية مع الحركة الأخرى( الإخوان) التي بقيت خارج الحكم حتى وصلت العلاقة إلى مرحلة الصدام والصراع العلني.

عكست العلاقة بين النخبة السياسية الجديدة والإخوان بعد 1952 في الجانب الأكبر منها مظاهر الصراع على اقتسام السلطة السياسية، والذي زاد منها حقيقة التاريخ السياسي لكل منهما، حيث عرفتا طريق العمل السري وامتلكتا القدرة على حمل السلاح ودقة التنظيم فضلا عن التغلغل الجماهيري، وكلها عوامل أدت على زيادة المخاوف والشكوك من جانب ك لمنهما تجاه الأخرى،

ومن هنا فإن العلاقة بينهما اتخذت أبعادا عديدة وتراوحت بين التعاون حينا ، والمهادنة والتعايش حينا آخر، ثم محاولة التحييد والاحتواء، وأخيرا الصدام والصراع العلني، وهى أبعاد لم تكن تنفصل عن بعضها البعض وإنما ارتبط تغليب أحدها على الآخر بمقتضيات المراحل السياسية المختلفة التي تطورت في إطارها هذه العلاقة.

كما أضافت طبيعة الأيديولوجية الحاكمة للنخبة السياسية الجديدة أبعادا أخرى لهذا الصراع حيث لم تعبر عن اتجاه فكرى متجانس بقدر ما حاولت الجمع بين مختلف التيارات والاتجاهات،

وانعكس ذلك على موقعا من باقي التيارات والقوى السياسية المعبرة عنها في المجتمع فسعت إلى حرمانها من حقها في المشاركة السياسية بدعوى قدرتها على تمثيلها جميعا، وتمثلت الترجمة الفعلية لهذا الاتجاه بشكل مبكر بإنشاء هيئة التحرير في 1953 بعد حل جميع الأحزاب السياسية والانقلاب على دستور 1923،

ثم الاتحاد القومي الذي أنشئ بموجب دستور 16 يناير 1956 وأخيرا الاتحاد الاشتراكي الذي ولد في 28 سبتمبر1961 وقد حل كل من هذه التنظيمات- التي أريد لها أن تكون بمثابة منظمات شعبية تحتوى وتعبر عن كافة الاتجاهات السياسية- محل الآخر. وإن ل تثبت في النهاية أية فعالية سياسية حقيقية لها، وظلت في التحليل الأخير معبرة عن السلطة الحاكمة.

وفى إطار هذه السياسة أراد النظام سحب البساط من تحت أقدام جميع التيارات والقوى السياسية الفاعلة في المجتمع من ليبرالية ويسارية وإسلامية، ولما كانت القوى الأخيرة ما زالت تشكل تحديا من نوع خاص بسبب الشرعية الدينية التي تستند عليها فقد حرص النظام هو الآخر على التأكيد على هذه الشرعية باعتبار أن الإسلام يشكل رافدا أساسيا في أيديولوجية مما يجرد الأخيرة من أي شرعية سياسية، فقد سعى إلى توليد نوع من الشرعية للحكم سوء من خلال إيجاد تبرير ديني لبعض السياسات الحيوية التي ارتبطت بالعهد الناصري مثل سياسة التحول الاشتراكي، والإصلاح الزراعي وغيرها،

أو بزيادة هيمنة الدولة ورقابتها على المؤسسات الدينية الرسمية من خلال تطوير الأزهر،وإنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية فضلا عن إنشاء محطة إذاعة القرآن الكريم، وجعل الدين مادة إجبارية في المدارس وبناء المساجد وغيرها. وكان المقابل لهذا التوجه هو إقصاء القوى السياسية الإسلامية ممثلة في الإخوان عن المشاركة في الحكم بالمهادنة حينا والمواجهة والحسم حينا آخر. وفى هذا الإطار تبلور موقف نظام 1952 من موقع الدين في الحياة السياسية .

ثالثا : موقع الدين في التوجهات السياسية لنظام ثورة يوليو

مثل الدين أحد المكونات الهامة في تشكيل أيديولوجية النظام في العهد الناصري وإن اكتسب رؤية خاصة اتفقت مع التوجهات السياسية العامة للنظام فكان عنصرا من العناصر التي اعتمد عليها لإضفاء نوع من الشرعية على عملية التحول السياسي والاجتماعي التي شهدتها مرحلة الستينات، فضلا عن الاعتماد عليه كعامل من عوامل التعبئة السياسية.

الإسلام والاشتراكية

في بداية الثورة سعى النظام إلى الربط بين بعض الشعارات السياسية التي رفعها وبين القيم الدينية فقدم شعار "الاتحاد والنظام والعمل" باعتباره يتفق مع قيم إسلامية خالصة مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله (صلعم) وتاريخ الصحابة والتابعين ونظم الخلفاء الراشدين وربط قرار إلغاء الألقاب بالقاعدة الإيمانية التي تشير إلى أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ،و"الاتحاد" أسند على قول الرسول (صلعم) ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).

ومع بدء عملية التحول الاشتراكي في عام 1961، وصدور قوانين التأميم، حاول النظام إضفاء الشرعية الدينية على تلك الإجراءات ، وأصدر المفتى فتوى أوضح فيها أن القوانين الاشتراكية تتفق مع قواعد الفقه الإسلامى، وحرص الرئيس عبد الناصر حينئذ على التوفيق بين الاشتراكية والإسلام فئ أكثر من خطاب كقوله النبي محمد أول من طبق الاشتراكية في العالم، والإسلام عندما ذهب إلى العراق أخذ الأرض من الإقطاع وأعطاها للشعب هذه هي الاشتراكية،

وعندما ذهب الإسلام إلى الأندلس أخذ الأرض من النبلاء وأعطاها للشعب، والشعب كان عبيدا ولم يكونوا شركاء ، هذه هي الاشتراكية، والإسلام حينما نادى بالزكاة كان معنى هذا أن الفرد الذي يدفع 2,5% من أمواله يعطى في 50 سنة أمواله للشعب والدولة،

إذن هذه هي العدالة الاجتماعية وهذه هي الاشتراكية) وفى خطاب آخر( أن الاشتراكية تتمشى مع الدين.. شريعة الله دائما كانت هي شريعة العدل وشريعة العدل هي الاشتراكية).

وفى نفس الإطار اهتمت وزارة التربية والتعليم بتطوير مناهج وخطط الدراسة في المرحلة الابتدائية – ومنها الجوانب الدينية- بحيث أعادت النظر في تطوير هذه المناهج بناء على ما أوصى به مؤتمر النهوض بالتعليم الابتدائي المنعقد في فبراير 1963 حيث شكلت عدة لجان فنية قامت بإعداد المناهج المتطورة التي بدء في تطبيقها اعتبارا من العام الدراسي 1965-1966 واستهدف منهج التعليم الديني غرس القيم الدينية التي تتفق مع توجهات النظام مثل( القومية العربية، التكافل الاجتماعي، الإيمان بالضمير الاجتماعي).

إضافة على ذلك صدرت تعليمات أخرى في عام 64/1966 أعيد فيها النظر فى خطط ومناهج ونظم امتحانات التعليم الابتدائي. وفى عام 1968 صدر قانون التعليم الجديد رقم 68 لسنة 1968 وتضمن هو الآخر مجموعة من التعديلات كان من أبرزها تخصيص عدد ساعات أكثر في مناهج التعليم الدراسية في المرحلة الابتدائية لعدد من المواد من ضمنها مادة الدين، وإذا تأملنا التعديلات التي أدخلت على التعليم الديني في إطار المرحلة الابتدائية نجد أن أبرز ملامحها تلخصت في ربط الدين بمفاهيم الوطنية والقومية وجعل الدين من المواد الأساسية التي تخصص لها ساعات أكثر واعتباره ضمن مواد النجاح والرسوب.

وشهدت نفس الفترة زيادة عدد المعاهد الدينية الأزهرية التي امتدت إلى المحافظات، ولم تقتصر على العاصمة وافتتحت لأول مرة معاهد أزهرية للبنات، وأقيمت مسابقات لتحفيظ القرآن الكريم ، كما تم إنشاء مدينة البعوث الإسلامية لاستقبال الطلاب الوافدين من البلاد الإسلامية للتعليم الأزهري.

لم تقتصر سياسة النظام في هذه الحقبة على تطويع المؤسسات الدينية الرسمية وتوظيفها بما يتواءم والأهداف السياسية للنظام، وإنما امتدت لتشمل إعادة التوجيه السياسي وهيئات التنشئة في المجتمع من خلال سياسات الدولة في مجال الإعلام والتعليم،

ولعل أبرز هذه الخطوات تمثلت في إنشاء محطة خاصة بالقرآن الكريم بدأت إرسالها عام 1964 وبمعدل 14 ساعة يوميا فضلا عن البرامج الدينية الخاصة، كما تم تخصيص صفحات خاصة للشئون الدينية في الصحف اليومية مرة كل أسبوع وهو التقليد الذي استمر بعد ذلك، وساهم النظام في إنشاء العديد من دور النشر التي تولت إعادة نشر التراث الإسلامى كالدار القومية للطباعة والنشر، كما قام مكتب الشؤون الدينية بالاتحاد الاشتراكي بمهمة مماثلة في مجال الإعلام الدين والتنشئة الدينية السياسية.

وفى إطار الاهتمام بزيادة التنشئة الدينية ارتفع عدد المساجد الأهلية في مصر في تلك الفترة من 11 ألف مسجد إلى 21 ألف مسجد، وارتبطت هذه السياسة بمحاولة النظام مد إشراف رقابة وزارة الأوقاف عليها والتوجيه السياسي لها من خلال الرقابة على الخطب لأئمة المساجد.

والواقع أن تكثف الاهتمام بوسائل التنشئة الدينية في المجتمع كان يدخل ضمن الإطار العام لمجمل توجهات هذا العهد فيما يتعلق بالموقف من الدين والذي ظل مرتبطا بهدفين: الأول، هو تكريس الشرعية الدينية للنظام بعيدا عن القوى السياسية الإسلامية التي أصبحت في موقع المعارضة، هو ضمان هيمنة الدولة وسيطرتها على الدين سواء من خلال المؤسسات الرسمية أو أجهزة وأدوات التنشئة بما يضمن التوجه السياسي لها وتوظيفها في تبرير سياسات النظام.

موقف النظام من المؤسسات الدينية

ليس من الممكن فصل لنظام السياسي إزاء المؤسسات الدينية الرسمية أو شبه الرسمية في المجتمع، عن موقفه إزاء القوى السياسية الإسلامية المعارضة بل أن هناك بالضرورة علاقة متشابكة بين موقف النظام إزاء كلا الطرفين، وتنطلق هذه العلاقة من أن إخفاق النظام في تطوير المؤسسات الدينية الرسمية، ودفعها للعب دورها المفترض في المجتمع، يسهم في صعود القوى السياسية السلامية المعارضة، التي تسعى على تجاوز المؤسسات الدينية الرسمية،

وتبدو هذه العلاقة شديدة الوضوح في موقف نظام ثورة يوليو من ( الإخوان المسلمين) والذي انتقل من التعاون والمهادنة ، إلى التناقض والعداء ، وفى المقابل فقد اهتم النظام بتطوير المؤسسة الدينية الرسمية، وإحكام السيطرة عليها.

وكما يشير أحد الباحثين فإن " الضباط الأحرار" واجهوا في عام 1952 صعوبات فى التعامل مع المؤسسة الدينية، ورغم محاولات التعاون مع الإخوان فقد انقلبوا عليهم واتخذوا موقفا معاديا للنظام وشرعوا في استخدام العنف خاصة في عام 1954. واتجه النظام بعد ذلك إلى وضع جميع المؤسسات الدينية في الدولة تحت هيمنة ورقابة الدولة ،

وقد تحقق ذلك من خلال عدة أساليب تراوحت بين إلغاء بعض المؤسسات وتطوير بعضها الآخر، فضلا عن استحداث مؤسسات جديدة وتمثلت أهم ترجمة عملية لسياسة التطوير في إصلاح الأزهر، وإدخال العلوم والتخصصات الحديثة من طب وهندسة وزراعة فيه يجعله أكثر اتساقا واستجابة لمتطلبات الحياة الحديث، ولعل هذه الخطوات تعبر عن أهمية التغيير الذي اعترى هذه المؤسسة الدينية في الستينات وقد بدأت هذه الإصلاحات بالتغيير على مستوى القانون الحاكم للأزهر حيث تم إلغاء وتحديد بعض المواد القانونية المنظمة له.

وفى يونيو 1961 صدر القانون رقم 603 بإعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، وأعطى القانون للدولة سيطرة أكبر من هذه المؤسسة بعد إلغاء أحكام القوانين السابقة خاصة القانون (26) لسنة 1936 والذي كان يعطى درجة أكبر من الاستقلالية للأزهر،

وتم تحديد دور الأزهر في ( حفظ التراث، وتنقيته ونشره، ونشر الدعوة الإسلامية، وإظهار الدور التقدمي للإسلام في رقى الشعوب وبيان حضارة العرب وإعداد جيل جديد من العلماء يجمع بين علوم الدين والدنيا) .

وفى هذا الإطار يمكن القول إن أهم التغيرات تتلخص في تقليص استقلالية الأزهر وجعله تابعا بشكل مباشر لرئاسة الجمهورية ليس فقط من خلال تعيين شيخ ووكيل الأزهر بقرار جمهوري، ولكن أيضا بتخصيص جزء من ميزانية الدولة للأزهر بحيث اعتبر مؤسسة حكومية خاضعة للدولة تدرج ميزانيتها ضمن ميزانية الدولة، وارتبطت هذه السياسة بإنشاء العديد من المعاهد الدينية فى إطار إعادة صياغة شاملة لنظامه التعليمي فضلا عن إضافة إدارات جديدة حددت مسئوليتها من قبل الحكومة حيث أضيفت أربع كليات حديثة في محاولة لتوجيه الدور الديني للأزهر.

وبهذا المعنى يمكن التأكيد على أن الهدف الذي سعى إليه نظام عبد الناصر في الستينات من تطوير الأزهر هدفا سياسيا في الأساس الغرض منه إحكام سيطرة الدولة على كافة المؤسسات بما فيها المؤسسة الدينية .

وفى ذلك يشير أحد الباحثين إلى أن هذه السياسة استهدفت ربط الدين بالسياسة بحيث تتحدد العلاقة في خدمة الدولة للأهداف الإسلامية مقابل دعم الإسلام ممثلا في المؤسسات الدينية للأهداف المباشرة لسياسة الحكومة ، ويؤكد آخر على نفس المعنى يقوله إن موقف النظام السياسي الناصري من المؤسسات الدينية الرسمية كان جزءا من موقف أشمل يتصل برؤية النظام لعلاقة الدين بالمجتمع والوظيفة المنوطة به في مجال التنمية

ومن هنا ينظر للإنفاق على الأزهر وتطويره على أنه هدف سياسي يسعى إلى تحجيم الاستقلالية النسبية التي كان يتمتع بها ليصبح رجاله موظفين في الدولة حريصين على المناصب الحكومية وذلك لإخضاع هذه المؤسسة من ناحية، ولإضفاء الشرعية على سياسات النظام من ناحية أخرى.

ولم يكتف النظام في الستينات بتطوير المؤسسات الدينية القائمة ولكنه استحدث هيئات جديدة ضمن نفس السياسة، كان أولها المؤتمر الإسلامى الذي انشىء في عام 1955، واختير السادات سكرتيرا عاما له، ثم أنشئ المجلس الإسلامى الأعلى للشؤون وأصدر سلسلتين شهريتين :

الأولى( دراسات في الإسلام) والثانية ( كتب إسلامية) كما أصدر مجلة شهرية تحمل اسم " منبر الإسلام" بأكثر من لغة فضلا عن استمرار عمل بعثات الوعظ والإرشاد وتعليم العربية والمساهمة في إنشاء العديد من المراكز الإسلامية في العالم. بعبارة أخرى كانت هذه الهيئات هي إحدى أدوات السياسة الخارجية المصرية لتقديم مصر على العالم العربي على أنها نموذج للإسلام المجدد ورائدة لعصر إسلامي جديد"

وإذا كان لهذه المجلس وظيفة إعلامية تتصل بأهداف الثورة وقتئذ على الصعيد الخارجي فقد كانت له أيضا وظيفة سياسية داخلية لإضفاء التبرير الديني على سياسات النظام في الداخل ولذلك فقد خضع المجلس- مثله مثل الأزهر- بشكل مباشر لرئاسة الجمهورية رغم انتمائه الشكلي لوزارة الأوقاف،

ولعل في تولى أحد الضباط الأحرار وأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة لرئاسة المجلس في هذه الفترة تأكيدا على أهميته السياسية.

والخلاصة أن النخبة السياسية لنظام يوليو 1952 اعتبرت "الدين" إحدى الركائز الأساسية لأيديولوجيتها السياسية، خاصة في المراحل الأولى لتدعيم الحكم (1952-1961) وعندما رفع النظام شعار الاشتراكية كتوجيه رئيسي له في الفترة اللاحقة (1961-1967) استخدمت الدين لتبرير هذا التوجيه، وحرصت على الربط بين الاشتراكية والإسلام،

وساعد على ذلك التوجه" الشعبوى" للنظام الناصري والذي لم يرتكز على أيديولوجية متماسكة متجانسة ولهل ذلك ما ساهم في تعقيد العلاقة بين السياسة والدين على مستوى الدولة، وزيادة الاعتماد على التبرير الديني للسياسات لتأكيد شرعية النظام.

وإذا كان الهدف كما رآه في البداية هو التقريب بين الاتجاه التقليدي الذي يقوم على الدين وبين الاتجاه "التحديثي" إلا أنه قد انتهى إلى عكس المتوقع، حيث زادت حدة التناقض بين الاتجاهين، ولم يشكل أي منهما اتجاها أصيلا للنظام منذ 1952 وفى العهود اللاحقة له، وهو ما أدى في النهاية إلى محدودية أثر كل منهما على السياسات.

وحو لمحدودية هذا الأثر في العهد الناصري يعلق " مكسيم رودنسون" على محاولة النظام الناصري الاعتماد على الدين لتبرير توجهاته الاشتراكية في الستينات بقوله: أن الإسلام لن يفيد في خدمة البناء الاشتراكي إلا إذا كان من المستطاع ترجمته إلى شعارات محددة، واضحة نضالية، قادرة على التعبئة وإلا إذا كانت القيادة تنفيذا لهذه الشعارات- تستطيع أن تحدد لكل فرد وظيفة مباشرة، إذا كان ممكنا أن يتهم أعداء الاشتراكية علنا بأنهم " أعداء الله" وفقا للصيغة التقليدية حتى وإن جهروا بولائهم للدين الإسلامى، ومن هنا يؤكد بعض الباحثين على أن محاولات الربط بين الاشتراكية والإسلام في العهد الناصري لم تؤد إلا إلى تأسيس موقف يكتنفه الكثير من الغموض.

وفى التحليل النهائي لتوجيه النظام الناصري فإن إخضاع النظام لأهم مؤسسة دينية ممثلة في الأزهر لرقابة الدولة قد وسع من هيمنة الدولة على الدين، إلا أنه لم يؤد على " العلمانية" فقد توسعت السياسة ولكنها لم ـأخذ مكانها المستقل،

وقدم "سميث" تفسيرا تاريخيا لفهم هذه العلاقة الارتباطية بين الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية حيث رأى نظم الحكم الدينية التي عرفتها كنظم عضوية تختلط فيها الوظيفة الدينية بالسياسة في هيكل واحد، ويمارس الحاكم سلطة زمنية وروحية في آن واحد، ومن الناحية النظرية يخضع الشعب، وعلماء الدين والحاكم للشريعة الإسلامية، وفى هذا الإطار حلل طبيعة العلاقة بين الحكام " العلماء" ووصفها " بالاعتمادية" فالحاكم يعتمد على العلماء لتبرير سياساته والعلماء يحتاجون للحاكم لتأكيد نفوذهم وتدعيمه.

وربما لم يستطع النظام الناصري بدوره- رغم توجهه للتحديث والتجديد- أن يتحرر من هذا الإرث في تشكيل علاقته بالمؤسسة الدينية، وتكثيف علاقته بعلماء الدين، وهو جوهر ما يشير إليه"فاتيكيوس" في معرض تحليله للمؤسسات الإسلامية التي أنشأها النظام لخدمة أهدافه السياسية ومن أمثلتها:مجمع البحوث الإسلامية في 1964 بهدف مواجهة رابطة العالم الإسلامى السعودية ورغم ما كان لهذه الخطوات من دور في دعم شرعية السياسة الخارجية للنظام وخاصة على النطاق الاقليمى إلا أنها أدت في المقابل إلى إضفاء المزيد من الغموض والتناقض على توجهاته.

وترتبط هذه القضية في جانب هام منها بطبيعة الثقافة السياسية والقيم التي تتشكل منها والتي تحدد هوية الجماعة السياسية ، وتلعب دورا رئيسيا في تحديد مصادر الشرعية التي يعتمد عليها النظام وقياداته السياسية ويمكن القول أن نمط الثقافة السياسية ظل مرتبطا بالدين، وبهذا المعنى ظل الدين إلى حد كبير مصدرا للشرعية سواء للحكم والقيادة ، أو للجماعة السياسية ،

ولذلك فعندما تبنى النظام الاشتراكية لم يقدمها أبدا كأيديولوجية مستقلة، ولم يسبغ عليها صفة علمانية ، ولكنه قدم نوعا من القراءة الإسلامية للاشتراكية أي محاولة للتوفيق بين القيم الاشتراكية والقيم الدينية، ويسرى ذلك على معظم السياسات الخاصة بالتغيير الداخلي مثل سياسات الإصلاح الزراعي، والتأميم وبعض القضايا الاجتماعية مثل تنظيم الأسرة.

وبالمثل تم الربط بين مفهومي العروبة والهوية الإسلامية، ومن ثم ظلت العروبة في أوج فترات مدها في ا لخمسينات والستينات مرتبطة بالإسلام إذ أن تمرير الفكرة استند في جانب هام منه إلى الدين كهوية تجمع بين العرب.

وبالتالي فمن الصعب الحكم على موقف النظام في العهد الناصري من الدين وموقعه في الحياة السياسية بأنه موقف قام على أساس الجديد القيمى والثقافة، بقدر ما قام على أساس التوظيف السياسي للدين في ظل اشتداد قبضة النظام على المؤسسات الدينية وتقييده الشديد لقوى المعارضة السياسية الإسلامية.

هذه المحددات العامة لخصائص النظام منذ ثورة يوليو 1952، والتي تم استعراضها في هذا المبحث. تقدم إطارا تحليليا لدراسة عوامل التغيير التي طرأت عليه في السبعينات أي في عهد الرئيس السادات 0 وهو ما سيتناوله المبحث اللاحق- كما تعد مدخلا لتحليل موقف النظام من المعارضة الإسلامية والتطورات التي لحقت به على ضوء المتغيرات السياسية الهامة التي شهدها العهدان.

الفصل الثاني عهد الرئيس السادات: مرحلة تثبيت دعائم النظام

عهد الرئيس السادات: مرحلة تثبيت دعائم النظام والبحث عن مصادر جديدة للشرعية :

يعرض هذا الفصل للفترة الأولى من عهد الرئيس السادات منذ تولي للحكم في 1970 حتى قيام حرب أكتوبر 1973. حيث مثلت فترة انتقال في تاريخ النظام بين عهدين سياسيين لهما توجهاتهما المختلفة. ورغم أن هذه الفترة لم تشهد تغيرات جذرية إلا أنها حملت البذور الجنينية للتحولات السياسية الهامة التي شهدتها المرحلة اللاحقة على حرب أكتوبر.

وقد اتسمت هذه الفترة الأولى بسمتين رئيسيتين كان لهما أثر على موقف النظام من مختلف القوى السياسية : الأولى، تتعلق بالصراع السياسي على السلطة، والذي قاده العهد الجديد ضد ما أسماه بمراكز القوى السياسية الممثلة للاتجاهات العهد

السابق والذي انتهى بالإعلان عن " ثورة التصحيح" في 15 مايو 1971 والأخرى، خاصة باتجاه النظام نحو إيجاد مصادر جديدة للشرعية السياسية تختلف عن الشرعية الثورية التي اعتمد عليها العهد الناصري، وفى هذا السياق طرحت شعارات سياسية مقابلة للشعارات التي سادت في الفترة السابقة مثل " دولة العلم والإيمان"و" دولة المؤسسات" و" سيادة القانون"

ويبدو من بعض هذه الشعارات لجوء النظام في بداية عهد الرئيس السادات إلى الاعتماد على مصادر تقليدية دينية لتوريد شرعية سياسية جديدة تختلف عن شرعية سلفه بما أثر في النهاية على علاقة النظام بالقوى الإسلامية وبكيفية توظيفه للعامل الديني في الصراع السياسي وهو ما سيتناوله هذا الفصل.

أولا: تثبيت دعائم النظام(1970-1973)

اتسمت الفترة الأولى لعهد الرئيس السادات بتثبيت دعائم السلطة وأركان الحكم، كما شهدت محاولات أخرى لإيجاد صيغة جديدة للتعامل مع التركة السياسية التي ورثها عن العهد السابق، والتي وضعت شرعية ثورة يوليو التي كان السادات بدوره يمثل أحد رموزها، على المحك. فلا شك أن هزيمة 1967 وما ترتب عليها من تداعيات سياسية داخلية وخارجية فضلا عن تزايد عوامل الأزمة السياسية والاقتصادية في الداخل قد استدعت الكثير من عوامل التغيير.

ويصف د. سعد الدين إبراهيم في معرض تحليله لأزمة الشرعية التي واجهتها اغلب النظم العربية خاصة " الثورية" منها في هذه المرحلة بقوله: إن هزيمة 1967 كانت هي الشرخ الأعظم في شرعية معظم الأنظمة" التقدمية" صحيح أن الجماهير العربية ظلت على تأييدها والتفافها حول عبد الناصر حتى آخر يوم في حياته، ولكن الجماهير العربية- وخاصة في مصر- بدأت تشك في الصيغة السياسية التي حرمتها من المشاركة والمساءلة والمحاسبة.

وقد أدرك عبد الناصر نفسه هذا التغيير، وبدأ يراجع صيغة الشرعية التي استند إليها حكمه/ ويفكر في اعتماد صيغة جديدة أقرب إلى التعددية السياسية في إطار الأيديولوجية الثورية، ولكن عوامل عديدة داخلية وخارجية تكالبت عليه وعاقت من سرعة هذا المسعى.

والواقع أن هذه الأبعاد العميقة للأزمة التي وصل إليها النظام بعد عام 1967، والتي بدأت ظواهرها على مستويات عدة داخلية وإقليمية ودولية، استلزمت التغيير في كثير من التوجهات السابقة، إلا أن ما تمتعت به الزعامة الكاريزمية لعبد الناصر من جماهيرية مثلت ليس فقط عائقا أمام العهد الجديد لترسيخ شعبيته،

وإنما أيضا استلزمت عدم الإفصاح سريعا عن التحولات والتغييرات الهامة التي اعتزم إجراءها، وربما لعبت هذه الحقيقة المزدوجة- أي تآكل شرعية النظام منذ 1967 من ناحية، مع استمرار شعبية الرئيس عبد الناصر من ناحية أخرى- دورا في الغموض الذي أحاط بسلوك وسياسات الرئيس السادات في بداية عهده،

حيث بدأ في التحول عن التوجهات السياسية للعهد الناصري في الوقت الذي حاول فيه الاستناد على شرعيته، ويصف " نيل كوبر" هذه المرحلة الانتقالية الأولى لعد السادات بقوله" إن هذه المرحلة والتي تمثل مرحلة انتقال للمجتمع المصري، كان السادات يتحاور فيها مع شبح عبد الناصر وقد أنتج هذا التحاور البعد عن سياسته ، وتأسيس سياسة مخالفة له،

ويؤكد " فاتيكيوتيس" نفس المعنى بقوله: إنه على الرغم من التناقض بين لشخصيتين ومحاولات التغيير، إ أن التأثير الجماهيري لعبد الناصر ظل مقيدا للسادات لبعض الوقت. "

ومع أن المشكلات التي واجهها نظام السادات في بداية عهده كانت متعددة وأهمها تزايد حدة الأزمة الاقتصادية والضغط الشعبة في 1971-1972 لإزالة آثار العدوان، وتعاظم حركات الاحتجاج التي جسدتها بالذات مظاهرات الطلبة فى 1972 إلى جانب بعض المظاهرات العمالية، إلا أنه يبدو أن السادات رتب أولويات التصدي لهذه المشكلات في خلال الفترة الأولى، وقد تمحورت تلك الأولويات حول اثنتين: الأول، تثبيت دعائم الحكم. والأخرى، الإعداد للمواجهة العسكرية مع إسرائيل .

وقد أكد أنور السادات في "البحث عن الذات" هذه الأولوية فى تعليقه على الأزمة الاقتصادية التي واجهها في البداية (طبعا كافحت واستعنت بكل ما يمكن الاستعانة به ولم أشعر طوال سنة 1971 و1972 بحقيقة الكارثة ولكن قبل المعركة بخمسة أيام واجهت مجلس الأمن القومي بحقيقة اقتصادنا وبأنه تحت الصفر،

وهذا أمر لو صادف غيري أو أي إنسان لابد وأن يخيفه ولكنى فكرت وقررت، ولا أعتقد أن أحدا مكاني كان سيجد الشجاعة لإصدار أي قرار ، ولكنى كنت على ثقة من أن مفتاح كل شيء سياسيا واقتصاديا وعسكريا هو أن نصحح هزيمة 1967 لكي نستعيد ثقتنا في أنفسنا وثقة العالم بنا، فلم يكن الوضع الاقتصادي سوى بعد واحد من أبعاد المشكلة ، لقد كان محو عار ومهانة الهزيمة سنة 1967 هو الأساس.. )

وقد أدى ترتيب هذه الأولويات إلى تأجيل التغييرات في المجال الاقتصادي إلى ما بعد الحرب حيث بدأت تتضح مع سياسة الانفتاح في 1974.

أما التحولات السياسية الهامة التي شهدتها هذه الفترة باسم ثورة التصحيح في 15 مايو 1971 والتا رفع النظام فيها شعار دولة المؤسسات وسيادة القانون فقد ارتبطت في الواقع بحقيقة الصراع على السلطة الذي انتهى بتصفية السادات لبقايا رموز العهد الناصري وعلى رأسهم على صبري الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية والذي كان السادات يطلق عليه وصف (رجل موسكو الأول في مصر) وشملت هذه المجموعة وزير الحربية (الفريق /محمد فوزي) ، ووزير الداخلية( شعراوي جمعة) ، ووزير الإعلام( محمد فايق) ورئيس مجلس الشعب( د. لبيب شقير) ومدير مكتب رئيس الجمهورية( سامي شرف) وغيرهم ممن احتلوا المواقع القيادية في العهد السابق.

وفى تبريره لما حدث قال السادات ( كان من الضروري أن نتخلص من آثار هذه المراكز التي ظلت جاثمة فوق الصدور سنة بعد سنة تعبث بأقدار الناس وتزرع الخوف في الإنسان المصري وتعطل العدالة وتشيع الحقد وتذيق الناس من ألوان القهر والتعذيب ما لا طاقة لهم به، وتحرمهم من أهم مقومات الحياة وهى الحرية.

فأمرت بحرق جميع شرائط التسجيل الموجودة في وزارة الداخلية. وكان هذا رمزا لإعادة الحرية إلى الناس فقد أمرت على الفور بإغلاق جميع المعتقلات وتحريم الاعتقال وأعلنت أن لكل مواطن الحق في أن يفعل أو يقول اى شيء في ظل سيادة القانون).

ورغم هذا التحول الذي أعلنه السادات فقد ظل حريصا على الاستناد إلى شرعية العهد السابق خاصة على مستوى الخطاب السياسي حيث وصف السادات "ثورة التصحيح" بقوله( كان ما حدث في مايو 1971 والأيام التي تلت تصحيحا لمسار ثورة يوليو 1952 ولكن في نفس الوقت بمثابة اللبنة الأولى في بناء المجتمع الاشتراكي الذي نعيشه اليوم والذي يتسم بالعدل الاجتماعي الحقيق لا بالشعارات).

وما تجدرالاشارة إليه فئ هذا الصدد هو التأكيد على إحدى الخصائص التي اتسم بها النظام السياسي في مصر منذ 1952 والتي سبقت الإشارة إليها، هي "الضعف الأيديولوجي "فرغم إعلان السادات عن "ثورة التصحيح" وقيام دولة المؤسسات إلا أن ذلك لم يكن يعكس تماسكا أيديولوجيا لصالح الأخير، بل اتخذ طابعا عمليا لإدارة معركته حول السلطة، والحقيقة أنه رغم الاختلاف فى شخصية وأسلوب كل من عبد الناصر والسادات ، إلا أن سياستهما ظل يحكمها الطابع العملي الذي يفتقد إلى النظرية السياسية.

ويمكن التأكيد على ذلك ف ضوء حقيقتين: الأولى أنه رغم رفع شعار دولة المؤسسات التي تحدد دورها في إضفاء الشكل القانوني على القرارات الرئاسية، وقد أكد دستور 1971 هذا التوجه حيث خول رئيس الجمهورية ليس فقط حق تمثيل الدولة في علاقتها الخارجية وإنما أيضا أن يكون حكما بين السلطات الثلاث ويعلوها. وبعبارة أخرى فإن تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية والتوسع فيها وفقا للدستور لم يكن يتمشى تماما مع رفع شعار دولة المؤسسات وسيادة القانون، وهو ما يؤكد على استمرار نفس خصائص النظام السياسي لثورة يوليو رغم تغير القيادة السياسية وتوجهاتها.

الحقيقة الثانية تتعلق بالتذبذب في مصادر الشرعية التي اعتمد عليها السادات في بداية عهده، والتي ظل يستند فيها إلى الشرعية الناصرية رغم انتقاده الشديد لما أسفرت عنه سياسات العهد الناصري، ومعنى ذلك أن التغييرات التي أقدم عليها السادات خلال السنوات الثلاث الأولى من الحكم ، لم تكن من العمق بحيث تعبر عن تحول فعلى على مستوى النظام والأيديولوجية التي يعبر عنها، برغم محاولة إظهار اعتماده على مصدر لشرعية ديمقراطية جسدتها شعارات" دولة المؤسسات" وسيادة القانون وهى سمة لصيقة بطبيعة المرحلة الانتقالية،

ولعل ذلك ما دفع السادات للبحث عن توليد مصادر أخرى للشرعية اعتمد فيها على الدين بالأساس ، وعلى المصالحة مع التيار الديني ، استعدادا لتحقيق الهدف الأول في هذه المرحلة المبكرة وهو خوض " معركة التحرير" مع إسرائيل في السنوات الثلاثة الأولى، يستمد شرعيته أساسا من خلافته لعبد الناصر، وظل مبقيا على التوجهات الرئيسية للعهد السابق مع تعديلات جزئية محددة، إلى أن اتخذ قرار الحرب في أكتوبر 1973. وكان ذلك الانجاز هو البداية لإيجاد شرعية مستقلة.

ثانيا : البحث مصادر جديدة للشرعية

(1) المصالحة مع التيار الديني

بدأ السادات عهده بإدخال تغيير دستوري يحدد فيه موقع الدين في سياساته، حيث نصت المادة الثانية من دستور 1971 على:" إن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، وقد كان ذلك مؤشرا على توجهين: الأول، هو المصالحة مع التيار الديني وتبديل التحالفات السياسية في إطار الصراع على السلطة الذي شهدته هذه الفترة، والآخر، هو السعي لتوليد مصادر شرعية مستقلة يعتمد عليها في القرارات والسياسات التي اعتزم اتخاذها.

فقد شهد نفس العام الإفراج عن المسجونين من جماعة الإخوان المسلمين ضمن المصالحة السياسية التي لجأ إليها السادات كسبا لتأييد قوى المعارضة، ولم يقتصر الأمر على مجرد الإفراج عن الإخوان وإنما كان ذلك جزءا من سياسة أشمل سعى فيها السادات خلال السنوات الثلاث الأولى، لاستغلال التيار الديني لضرب القوى السياسية المناهضة في أوائل السبعينات والتي مثلتها التيارات اليسارية من الناصريين والماركسيين.

وفى مذكراته في "الأمن والسياسة " يذكر وزير الداخلية الأسبق اللواء حسن أبو باشا "كانت الخطوة الأولى التي اتخذها الرئيس الراحل السادات بعد صدامه مع من أطلق عليهم مراكز القوى ها إعطاء الضوء الأخضر لتشكيل ما سمى بالجماعات الإسلامية في الجامعات، وكان واضحا أنه لجأ إلى هذه الخطوة لكي يحقق توازنا على الساحة السياسية في مواجهة التيار الماركسي الذي وقف ضد نظام حكمه منذ اللحظات الأولى بعد ولايته.

ولم يكن هذا التحول في موقف السادات من التيار الديني السياسي في بداية السبعينات جديدا تماما على نظام ثورة يوليو حيث سبق أن دعت اعتبارات التوازن السياسي في بداية عهد الثورة إلى الالتقاء المحلى بين عبد الناصر وجماعة الإخوان المسلمين، ورغم ما انتهى إليه هذا التعاون من فشل وصدام بين الجانبين( 1954-1965)

فقد كرر السادات نفس السياسة وهى ضرب قوى سياسية بقوى أخرى يختلف معها لصالح تدعيم الحكم واستقراره والواقع أن السادات لم يكن بتحوله نحو التيار الديني السياسي يسعى فقط لضرب القوى السياسية المناوئة له داخليان وإنما كانت خطوة أخرى لدعم توجهاته الخارجية التي بدأت ملامحها الأولى تتضح بقرار طرد 15,000 خبير سوفيتي كبداية لتحجيم نفوذ الاتحاد السوفيتي في مصر

والذي تزايد خلال العهد السابق، ويعبر السادات عن ذلك بقوله( كان من أهم الأسباب لقراري هي أنني أردت أن أضع السوفيت في حجمهم الطبيعي كدولة صديقة لأنهم ظنوا في مرحلة من المراحل أن مصر أصبحت في جيبهم وظن العالم أن الاتحاد السوفيتي هو ولى أمرنا، فأردت أن أقول للسوفيت أن مصر إرادتها تنبع فقط من ذاتها) ، وهكذا فقد رأى السادات في هذه الخطوة ليس فقط توجيه ضربة لأهم حليف للعهد السابق ورموزه التي احتلت مواقع قيادية حتى بداية توليه الحكم، وإنما أيضا بداية لإعادة ترتيب تحالفاته الدولية.

وكما يذكر السادات أيضا( في يوم 29 أغسطس 1972 كتبت رسالة للاتحاد السوفيتي.. في هذه الرسالة أعلنتهم أنى أمنحهم فرصة إلى شهر أكتوبر 1972 بعد أن شرحت الموقف كاملا بيننا وبين السوفيت ،

ولكنى كنت في واد والسوفيت في واد آخر، فقد كانوا يعدون لافتتاح الجامعات المصرية في أكتوبر 1972 إذ جاء فى المخطط الصادر من الأحزاب الشيوعية العربية- وهو صادر طبعا من موسكو- عن كيفية تحرك العملاء داخل الجامعة) ولعل مظاهرات الطلبة التي قادتها العناصر اليسارية في منتصف نفس العام 1972 والتي انتهت باعتصام عدة مئات من الطلاب بميدان التحرير ضاعفت إحساس السادات بخطر هذه القوى بالذات وضرورة التصدي لها .

ويشرح حسن أبو باشا في مذكراته سياسة التصدي لهذا الخطر المتمثل في الحركة الاحتجاجية للطلبة بقوله" إنه كان واضحا تماما في ذلك الوقت أن تنظيم الاتحاد الاشتراكي ، بعد تفكك تنظيمه الطلابي بصفة خاصة، وأن القدرة الحركية للعناصر الماركسية في المجال الطلابي تتجاوز بكثير قدرة الاتحاد الاشتراكي..

وكانت الظاهرة الأولى بعد إسناد أمانة التنظيم بالاتحاد الاشتراكي للسيد محمد عثمان إسماعيل أن بدأت تظهر في المجال الطلابي ما يسمى بالجماعات الإسلامية) وترجمة لهذه السياسة ركزت الأمانة بعد ذلك على دعم تلك الجماعات الإسلامية التي وفقا لرواية حسن أبو باشا بدأ يتوالى ظهورها في الكليات الجامعية المختلفة بجميع الإمكانات والأساليب ، بل وكان يتم دفعها للصدام مع العناصر الماركسية في أية مناسبة يتاح لها فيها أن تختلق مثل هذا الصدام.

ويبدو أن ما عزز من هذا الخيار- أي الاعتماد على التيارالسياسى الإسلامى في أوساط الطلاب- عدم ثقة الرئيس في منظمة الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكي والتي كان من المفترض أن تلعب الدور الأساسي في هذا المجال بسبب سيطرة نفس العناصر اليسارية عليها فضلا عن اكتشاف لإعادة تشكيل بعض التنظيمات الماركسية السرية.

(2) شعار دولة العلم والإيمان

لم تقتصر سياسة المصالحة مع التيار الديني السياسي التي انتهجها السادات في السنوات الثلاث الأولى عن الإفراج عن الإخوان المسلمين ودعم الجماعات الإسلامية بالجامعات ولكن وجهها الآخر تمثل في رفع السادات لشعارات وعبارات ذات مضمون ديني بدءا من إطلاق لقب" الرئيس المؤمن" ، إلى شعار " دولة العلم والإيمان" فضلا عن التأكيد على الرموز والقيم الدينية في مخاطبته للجماهير.

وقد حاول السادات في بداية دعوته لدولة " العلم والإيمان" التأكيد على عدم تعارض هذه الدعوة مع خط سلفه(اليوم وقد حدثتكم منذ بضعة أيام عن بناء دولتنا الجديدة التي كان يحلم بها جمال) لقد سعى السادات من خلال هذه الإشارات إلى تدعيم دعوته الجديدة حيث لم يكن قد تخلى بعد الاستناد إلى الشرعية الناصرية رغم أن التوجه الرئيسي كان يتجه إلى بناء شرعية مستقلة بشكل تدريجي، خاصة مع الإعداد لاستخدام هذه الدعوة بشكل مختلف للتمهيد لحرب 1973.

وقد أوقع ذلك السادات في كثير من المواقف المتناقضة، فقد أشار في إحدى خطبه السياسية إلى ( إن الإيمان وحده لا يكفى ، لأن لدى عدونا من مستحدثات العصر ما يستطيع أن يكسب به جولة وجولة إذا لم نتسلح الذي يتسلحون به) ،

ثم عاد في مناسبة أخرى للتأكيد على ( أن القوة الحقيقية ليست قوة السلاح وإنما هي قوة الإيمان، قوة الفرد وقوة الرسالة والإيمان بالعقيدة والإيمان بالمبدأ) ، ويستطرد(.. لن تنال منا أمريكا ولا إسرائيل قد يكون لديهم من السلاح الشيء الحديث ونحن نستورد أيضا الشيء الحديث ولكن الأمر في أساه ليس أمر السلاح وإنما هو أمر الفرد المؤمن نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى معنا نحن نؤمن بأن الحق معنا نحن نؤمن كما قال الله سبحانه وتعالى أننا خير أمة أخرجت للناس، نحن نؤمن بما أوصانا به الله سبحانه وتعالى في كتابه ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).

وقد استخدم السادات هذه الدعوة للتعبئة السياسية استعدادا للحرب وللتخفيف من عبء الضغط الجماهيري في هذه المرحلة( علينا أن نقف قليلا نتأمل، الفترة التي نعيشها اليوم فترة امتحان رهيب امتحان أول ما يكون لإيماننا فقد حملنا الأمة، أمانة الرسالة المحمدية ..

إنهم يريدون أن يزلزلوا إيماننا .. حرب نفسية علينا) . ويلح السادات على ضرورة تحمل الشعب معاناة الإعداد للمعركة مع إسرائيل بالتأكيد على القيم الإيمانية مثل قوله( سنصبر صبر المؤمن القوى وليس المؤمن الضعيف، ولقد أرسل الله سبحانه وتعالى لنا العلامات في السنوات الماضية بارك الله لنا في محاصيلنا كما لم يحدث من ثلاثين عاما) ويضفى السادات طابعا دينيا على هذا الصراع ويبرر قصة التفاوض مع إسرائيل بأسباب دينية اقتداء بالرسول( هذا ما فعله رسولنا (في إشارة لرفضه التفاوض مع اليهود) .. لن نفاوضهم مفاوضة مباشرة.. نحن نعرف تاريخنا ونحن نعرف تاريخهم، قوم جبلوا على الخيانة..

في هذا العام أعاهدكم أن نحتفل في الذكرى المقبلة إن شاء الله ليس فقط بتحرير أرضنا، وإنما بقهر ذلك الغزو الاسرائيلى لكي يعودوا مرة أخرى كما قال لنا كتابنا " كتبت عليهم الذلة والمسكنة" لن نتنازل عن هذا ) وفى موضع آخر يشير ( اليوم علينا أن نواجه هذه الغزوة الشرسة غزوة الصهيونية مع الاستعمار لأنها لا تستهدف عقيدتنا وحدها وإنما تستهدف أرضنا ومصيرنا وحياة أجيالنا المقبلة وأن تسيطر على كل شيء).

وقد جاءت حرب أكتوبر 1973 تتويجا لهذا التوجه السياسي المعتمد على التبرير الديني حيث كانت الرموز المستخدمة لوصف المعركة حربا من "حروب المسلمين" قامت في رمضان وأطلق على العبور عملية "بدر" وكانت هذه المعركة بما صاحبها من تعبئة سياسية دينية كفيلة بامتصاص التوترات والاضطرابات التي كان يعانى منها النظام في ذلك الوقت.

وقد كانت نفس السياسة التي انتهجها السادات في هذه الفترة الأولى من الحكم، هي عماده أيضا في تحديد سياسته الخارجية خاصة على المستوى العربي والإسلامى وقد حرص السادات على إعادة تشكيل دور مصر باعتبارها رائدة للعالم العربي والإسلامى من منطلق ديني أيضا، وقدمت مصر باعتبارها حامية الإسلام ومقدساته وثرواته.

ففي إحدى خطبه يشير السادات(مصر هي مصر.. ستحفظ الأمانة وستؤدى الأمانة بمشيئة الله على هذه الأرض، كان الصمود دائما من أجل الدفاع عن الإسلام ومقدساته وستظل بعون الله وبمشيئته هذه الأرض قلع متينة للدفاع عن مقدسات الإسلام وعن تراث الإسلام، مهما كانت المعارك ومهما كانت شراستها وضراوتها) ومن هنا يؤكد السادات على أهمية دور مصر باعتبارها تمثل بؤرة العالم العربي ( ليس عجبا أن يشهد التاريخ بأن سلام المنطقة كله مرهون بسلام مصر وأن قلاقل المنطقة كلها أصداء لقلاقل مصر).

وفى "البحث عن الذات" يبرر السادات تحركه نحو العالم العربي بقوله( كانت التركة التي ورثتها عن عبد الناصر في حالة يرثى لها..

فمن الناحية السياسية وجدت أن علاقتنا مقطوعة مع جميع أنحاء العالم ما عدا الاتحاد السوفيتي،وفى العامل العربي ساد ما نادى به عبد الناصر وسمى بالتقدمية والرجعية وبناء على هذا التقسيم التعسفي كان يقيم أو لا يقيم علاقاته بدول الأمة العربية). إن هذه العبارة تلخص جوهر التوجه لبلورة سياسة جديدة تجاه العالم العربي والإسلامى، تقوم على منهج مخالف لسياسة سلفه خاصة تجاه الدول التي وصفت بالرجعية من قبل النظام في عهد عبد الناصر وعلى رأسها الدول الخليجية.

ومن هنا كان المنطلق الإسلامى لدى السادات ملائما لإجراء مصالحة مع هذه الدول وتحييدها. وقد شهدت هذه الفترة- اتساقا مع هذا النهج- اهتماما ملحوظا من قبل النظام للوجود المصري في المؤتمرات الإسلامية وتأكيد دور مصر في هذا المجال.

وكما سعى النظام في عهد عبد الناصر للهيمنة على المؤسسة الدينية وخاصة الأزهر لتبرير سياسته، فقد عمل السادات على استقطاب نفس المؤسسة وعلمائها وإن اختلف الهدف السياسي لاختلاف التوجهات الرئيسية لكل من ناصر والسادات،

فعن دور الأزهر الذي أراد السادات الاستعانة به لإضفاء شرعية على توجهاته السياسية تحت شعار "دولة العلم والإيمان" يشير في إحدى خطبه التي وجه فيها كلمة إلى علماء الأزهر( أريد أن أقول لكم وأنتم أعلم منى بقوله" إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان" علينا أمانة وتبعات في بناء دولة العلم والإيمان).

واحتل الأزهر مكانة ملحوظة في خطب السادات وأحاديثه الموجهة للمؤتمرات الإسلامية على وجه خاص دعما لسياساته في هذا المجال ، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الموقف من الأزهر ودوره كان يعكس في النهاية نوعا من التوازن السياسي لتوظيف هذه المؤسسة بما يخدم أهداف النظام،

ولكنه لم يكن ليسمح للمؤسسة الدينية بتحقيق نوع من الاستقلالية كما أنه في المقابل لم يكن ليعطيها الفرصة لمهاجمة الحكم بالبعد عن الدين أو الاتجاه نحو " العلمانية" وربما كانت دعوة " دولة العلم والإيمان" هي أبرز تعبير عن هذه السياسة التي تقوم على المزاوجة بين مصدرين مختلفين للشرعية وربما متناقضين.

(3) قانون الوحدة الوطنية(1972) ودلالته السياسية

لعل من أهم التغييرات التي شهدتها تلك الفترة الأولى من حكم السادات- هو إصدار قانون الوحدة الوطنية رقم 34 لسنة 1972 الذي جاء مكملا للسياق العام الذي تحرك من خلاله السادات، إذ كان الوجه المقابل لتوجهه الجديد الذي حمل بعدا دينيا ليس فقط بالدعوة إلى دولة العلم والإيمان والاهتمام بإحياء الرموز الدينية الرسمية والشعبية وإنما- وهو الأهم- التغيير الدستوري الذي تم في 1971 حاملا تحديدا واضحا- لموقع الدين في صنع السياسة من خلال الدستور الجديد،

ورغم أن هذه الفترة 1970 / 1972 لم تشهد سوى بعض الحوادث الفردية التي يمكن إدراجها تحت اسم " الفتنة الطائفية" إلا أنه يبدو أن القانون جاء ليعبر عن قلق مبكر لدى السادات بسبب التغيرات السابقة الذكر والتي كانت تحمل في طياتها نذر تهديد للتعايش التاريخي في مصر بين المسلمين والمسيحيين ولسبب آخر يتعلق بشخصية البابا الجديد الذي تم تعيينه في نوفمبر 1971 .

فكما يصفه محمد حسنين هيكل في خريف الغضب( كان شابا متعلما، كاتبا، وخطيبا.. ذا شخصية قوية تحمل الكثير من صفات الزعامة) .

وقد بدأ عهده بنشاط واسع ودعا لتطوير الكلية الاكليركية، واستعادة كنسية الإسكندرية لمنزلتها العالمية.وربما سببت هذه الشخصية قلقا سياسيا عند الرئيس خاصة وأنها أثارت قضية التغيير الدستوري في أحد البيانات الصادرة عن المؤتمر القبطي في ذلك الوقت الذي جاء فيه( أنه ما دام الأمر متعلقا بتطبيق الأحكام الواردة في القرآن والسنة فلا يتأتى أن يلزم بهذا التطبيق إلا المسلمون وأن إلزام غير المسلمين لعقيدة الإسلام تتعارض مع أقدس حقوق الإنسان، وأولى حريات المواطن المصري في الدستور الدائم، وهى حرية العقيدة).

وبالتالي كان إصدار قانون الوحدة الوطنية في أغسطس 1972 والذي نصت المادة الأولى منه على( أن حماية الوحدة الوطنية واجب كل مواطن، وعلى جميع مؤسسات الدولة والمنظمات الجماهيرية العمل على دعمها وصيانتها ويقصد بالوحدة الوطنية في تطبيق أحكام هذا القانون الوحدة القائمة على احترام نظام الدولة والمقومات الأساسية من المجتمع كما حددها الدستور) واشتمل القانون على عدد من العقوبات لمن يخل بالوحدة الوطنية.

ولكن على الرغم من صدور هذا القانون فلم تمض عدة شهور حتى تصاعدت الأحداث المهددة للوحدة الوطنية والتي كانت بدايتها ما وقع في نوفمبر من نفس العام وعرف بحادث الخانكة والذي تم فيه حرق كنيسة الخانكة وتم تشكيل لجنة للبحث عن أسباب هذا الحادث فئ ذلك الوقت برئاسة الدكتور جمال العطيفى.

وبعبارة أخرى فإن القانون الذي أصدرته الدولة درءا لهذا الخطر لم يمنع وقوع هذه الحوادث بل وتصاعدها بعد ذلك، كما عكست هذه التطورات إخفاق النظام في تقييم حجم الانعكاسات السياسية والاجتماعية والطائفية لتوجهاته السياسية "الدينية" كذلك فإن الأسلوب الذي عولجت به هذه الحوادث عكس نفس الإخفاق، حيث مال إلى التقليل من أهمية هذه الحوادث وخطورتها على وحدة المجتمع، فبعد عام م وقوعها أعلن السادات في خطاب له( أنه قد حدثت فتنة طائفية ولكنى صفيتها) .

كما حاول في المقابل ، أن يعزو الأمر إلى العوامل الخارجية قائلا( هناك وثائق شاهدها شيخ الأزهر، وباب الأقباط وهى تؤكد أن مخططها وضع في أمريكا وكندا بالذات وأن الطائفية في مصر دائما أمر مفتعل لأنها ليست من أصالتنا في شيء).

وألح السادات في مواجهته للظاهرة، على البعد التاريخي في تآلف المسلمين والأقباط في مصر( لقد واجهتنا ما يمكن أن أسميه نوعا من الردة عن قيم تمسكنا بها في تاريخنا الطويل العريق، إن ها الوطن كان وما يزال وسوف يظل عمره كله مؤمنا برسالات السماء، ولقد كان هذا الوطن دائما قلعة من القلاع الحصينة في الدفاع عن الدين قبل الإسلام وبعده بل أن الدين لديه كان في عصور طويلة وعاء للوطنية ذاتها).

وقد قام هذا الإدراك على تغييب الأسباب والمتغيرات السياسية والاجتماعية التي كانت سببا في تغذية عوامل التوتر والصراع المستند على أسس دينية في المجتمع، كما أنه قدم أسبابا تاريخية لنفى هذا الصراع من منظور ثابت يتنافى مع منطق التغيير الذي تعرفه جميع الظواهر السياسية أو الاجتماعية،ومن هنا اتسمت معالجة النظام للمسألة " الطائفية" بالسلبية والقصور حيث عادت للظهور بشكل أكثر حدة في أواخر السبعينات.

ثالثا : موقع الشرعية الدينية في توجهات النظام وانعكاساتها على الموقف من المعارضة الإسلامية

إذا كانت هذه المرحلة الأولى من عهد السادات (1970- 1973) قد حملت البذور الجنينية للتحولات السياسية والاجتماعية الهامة التي شهدها النظام في الفترة اللاحقة، فقد حملت أيضا مؤشرا على طبيعة التوجه السياسي المصطبغ بالدين، والذي أثر بشكل ملحوظ على كثير من سياسات النظام في السنوات اللاحقة.

وقبل الانتقال إلى تحليل هذه السياسات وانعكاساتها على المجتمع المصري خلال هذه الحقبة ، تجدر الإشارة إلى ملاحظتين أساسيتين:

الأولى، إن تحليل سياسات النظام في عهد السادات تجاه القوى الإسلامية سواء استخدمت كمصدر تأييد للنظام أو كانت في موقع المعارضة، لا يمكن أن يتم بمعزل عن الخصائص العامة التي ميزت النظام السياسي في مصر منذ 1952، صحيح أن الحقبة الناصرية عبرت عن رؤية ومنهج وفلسفة مغايرة لتلك التي عبرت عنها حقبة السادات بسبب اختلاف طبيعة المرحلة التاريخية والتحديات الداخلية والخارجية،

إلا أنه تبقى هناك مساحة مشتركة بين كل من الرئيسين( عبد الناصر والسادات) فيما يتعلق بالشرعية السياسية والاجتماعية التي عبرا عنها والتي حددت طبيعة الحكم، فقد كانا من أبناء جيل واحد، وانحدرا من نفس الطبقة الاجتماعية وضمهما معا مجلس قيادة الثورة

كما كان السادات من النخبة الحاكمة طوال عهد عبد الناصر ( 1952-1970) الأخرى، تتعلق بطبيعة الأيديولوجية العامة لنظام ثورة يوليو والتي اتخذت طابعا شعوبيا جعلها ترتكز على أكثر من رافد فكرى وكان الدين هو أحد روافدها الأساسية، إذ شكلت هذه الأيديولوجية بطابعها " الشعبوى" هجينا للعديد من الرؤى والأفكار المختلفة بل والمتناقضة في كثير من الأحيان.

ومن هنا فإن الاعتماد على الدين كأحد ركائز هذه الأيديولوجية ، رغم اتخاذه أبعادا مختلفة في عهد السادات بسبب العوامل الذاتية التي حددت إدراك الحاكم واختياراته في كل من العهدين- لم يشكل انقطاعا مع الأيديولوجية العامة التي عبر عنها نظام الثورة بشكل عام.

وفى ضوء هاتين الملاحظتين يمكن استخلاص ملامح موقف النظام من العامل الديني من 1952- أي منذ قيام الثورة، وحتى 1973 الفترة الأولى من عهد السادات.

فقد مثل الدين أحد الروافد الأساسية للشرعية في الفترة الأولى من حكم النظام الثوري( 1952-1960) وإن اتخذ بعدين أساسيين: البعد الأول، هو الاعتماد على القوى الدينية في الصراع السياسي لتثبيت السلطة وتدعيم الحكم في هذه الفترة المبكرة من قيام الثورة، وكان أبرز مظاهره هو التحالف الذي نشأ بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين .

أما البعد الآخر، فقد تمثل في الاعتماد على الدين كأحد روافد الشرعية السياسية للنظام واستخدمه في التعبئة السياسية للجماهير كما تمثل في الحرص على إحياء المناسبات الدينية واستخدام الرموز الدينية في حالات التعبئة العامة كما في حرب 1956 .

وقد عكست هذه الفترة قدرة عالية من عبد الناصر على التحكم في العامل الديني ، وتوجيهه بما يخدم الأهداف العامة للنظام لعدة أسباب ربما يأتي في مقدمتها ما تمتعت به القيادة الناصرية من جماهيرية عالية فضلا عن ارتفاع أداء النظام في هذه الفترة سواء على المستوى الداخلي أو الاقليمى ( فترة الزخم الثوري) حيث شهدت نفس الفترة مدا إقليميا هاما لدور مصر من خلال رفع دعوة " القومية العربية" .

ورغم ما شهدته الفترة اللاحقة منذ بداية الستينات إلى 1967 ( وهى النقطة الفاصلة في أداء النظام الناصري) من تحول هام على صعيد التوجه الأيديولوجي للنظام نحو الاشتراكية واتخاذ عدد من الإجراءات المؤيدة لهذا التوجه إلا أن هذه الفترة عرفت أيضا استخداما عاليا من جانب الرئيس والنخبة السياسية للدين في تبرير توجهاتها الجديدة نحو الاشتراكية،

ولكن اتساع المساحة التي احتلها العنصر الديني في الحقبة الناصرية يبرز أكثر في المرحلة الأخيرة منها أي بعد هزيمة 1967، والتي عكست انكسارا داخليا وخارجيا للنظام، واهتزازا في شرعيته ، وبدا ذلك في لغة الخطاب السياسي والتي بررت الهزيمة بأشكال قدرية فضلا عن استعانتها بالرموز الدينية في تعبئة الجيش لتجاوز الهزيمة) .

ويقيم د. حسن حنفي هذه الحقبة فيما يتعلق باستخدامها للعامل الديني في السياسة بقوله( في هذه الفترة من 1952- 1970 ، كانت هناك حملات دينية شبه منظمة تهدف في النهاية على استخدام الدين بشكل يصبغ على القيادة السياسية الصفة الشرعية، واستمرت الحملات بشكل مكثف بعد الهزيمة فئ 1967، فلقد تحولت المعركة من جيش مقاتل إلى دولة تدعم المعركة بعنصر مهم من عناصر تكوينها وهو الدين والإيمان).

وتجدر الإشارة- في مجال تقييم الحقبة الناصرية في تعاملها السياسي مع العامل الديني إلى عدد من الملاحظات.

(1) إن التعامل السياسي مع هذا العامل سواء على المستوى الأيديولوجية أو مستوى السياسات قد تم بشكل انتقائي بما يخدم أهداف النظام.

(2) إن قدرة النظام ونجاحه في التحكم في علاقة الدين بالسياسة ظلت مرهونة بأداء النظام داخليا وخارجيا أي كلما كان الأداء عاليا زادت قدرته ليس فقط على التحكم في هذا العامل وإنما في صياغة طبيعة العلاقة التي تربط بين الدين والسياسة.

(3) إن سياسة النظام في هذا المجال اعتمدت على آليتين أساسيتين :

الأولى ، هي عدم السماح ببروز أية قوى سياسية إسلامية معارضة تنازع النظام هذه الشرعية السياسية الدينية وهو ما يفسر الصدام مع الإخوان 1954 و 1965 ، الذين شكلوا أهم قوى سياسية دينية معارضة، حيث لم يدر الصراع على أرضية فكرية بقدر ما حددته طبيعة الصراع السياسي على السلطة .

والأخرى، تتمثل في السعي للسيطرة على المؤسسة الدينية كما حدث في الستينات بعد الإصلاحات التي أدخلها النظام على الأزهر فضلا عن الإجراءات الخاصة بالنواحي القضائية في مجال الأحوال الشخصية وإلغاء المحاكم الملية، وقد عكست هذه الآلية قدرة عالية من النظام على تطويع هذه المؤسسات وإخضاعها لهيمنة الدولة.

(4) إن النظام الناصري لم يعكس منذ البداية توجها أيديولوجيا متماسكا ولا تحديدا صريحا لموقع الدين من الحياة السياسية وهو ما أكسبه مرونة عالية في تبديل وتغيير موقعه في الأيديولوجية العامة للنظام، فقد كانت هذه الأيديولوجية خليطا من الأفكار التي عبرت عنها الأحزاب والتنظيمات السياسية الرافضة التي لم تكن جزءا من السلطة في العهد الملكي، وتمثلت هذه الروافد في حركة مصر الفتاة، الإخوان المسلمين ، الحزب الوطني القديم، الطليعة الوفدية، الفكر الماركسي.

وكانت مجموعة الضباط الأحرار التي انتمى إليها عبد الناصر ، هي خليط من المتأثرين بهذه الأدبيات ، والمتأمل لكل التوجهات الرئيسية للحقبة الناصرية يمكنه أن يجد البذور الجنينية لكل توجه في واحد أو أكثر من هذه الروافد الفكرية التي ازدهرت في الأربعينات وأوائل الخمسينات، والتي تشكل منها النظام فلسفته العامة بعد الثورة.

(5) إن الحقبة الناصرية في صياغتها للعلاقة بين الدين والسياسة لم تكن في تقييمها النهائى تعكس توجها علمانيا – رغم إقدامها على تطوير وإصلاح أعرق مؤسسة دينية ، أي الأزهر ورغم صدامها وقمعها للقوى السياسية الدينية التي شكلتها جماعة الإخوان المسلمين – بقدر ما عكست هيمنة أكبر للدولة وسيطرة على العامل الديني سواء في شكله الرسمي أو غير الرسمي وإن كانت هذه الهيمنة أخذت تضعف بانكسار بعد هزيمة 1967.

ولم يشكل عهد السادات الذي بدأ في أكتوبر 1970 انقطاعا عن التركيبة الفكرية التي عبرت عنها النخبة السياسية لثورة يوليو، ولا عن طبيعة النظام السياسي الذي أقامته.

فقد كان السادات جزءا من هذه النخبة ، وتأثر بنفس الروافد الفكرية التي تأثر بها عبد الناصر، وإن كان الفارق الرئيسي يكمن في البعد الزمني الذي فصل بين عهدي كل منهما، والذي أضعف كثيرا من النزعة الثورية التي اتسمت بها المبادئ والأفكار التي أعلنتها الحقبة الناصرية والتي كانت نتاجا طبيعيا لمرحلة التحرر الوطني واللحظة التاريخية التي قامت فيها الثورة.

وعلى العكس فقد أظهر السادات انحيازا للأفكار والاتجاهات الأكثر محافظة حيث تولى الحكم في ظروف تاريخية مغايرة، وبعد مرور ما يقرب من ثمانية عشر عاما على قيام ثورة يوليو كانت النزعة الثورية منها قد خفقت وتعرضت أغلب أفكارها للتعثر أثناء التطبيق والممارسة. بل إن الشرعية الثورية للنظام قد تعرضت نفسها للاهتزاز بعد 1967.

وإذا كانت هذه العوامل قد غلبت في النهاية المحافظة للسادات بما حملته من مبادئ وأفكار تميل للاعتماد على الرافد الديني، فإن طبيعة الصراع السياسي الذي خاضه السادات في بداية عهده قد لعب دورا آخر في تغذية نفس النزعة،

حيث دار هذا الصراع بين أبناء نخبة سياسية واحدة مما جعله يتخذ أبعادا حادة استلزمت تغييرا في طبيعة التحالفات السياسي للنظام في العهد الجديد، وفى مصادر شرعيته، وفى كل الأحوال كان الرافد الديني في التوجهات السياسية للنظام، والتعاون مع القوى السياسية الإسلامية إحدى الأدوات الهامة لإدارة هذا الصراع.

ورغم أن العهدين ( أي عهدي عبد الناصر والسادات) قد بدءا بالتعاون مع نفس القوى السياسية- ممثلة في الإخوان المسلمين- كجزء من مقتضيات الصراع على تثبيت السلطة في الحالتين ، إلا أن طبيعة القوى السياسية التي شكلت طرفا أساسيا في الصراع اختلفت. فتحالف قادة الثورة مع الإخوان في البداية كان جزء منه موجها ضد القوى التي شكلت " عدوا مشتركا" لهما ممثلة في حزب الوفد.

في حين أن مصالحة السادات مع نفس القوى كانت موجهة إلى أحد أجنحة النخبة الحاكمة وربما في ذلك بعض التفسير للشوط الأبعد الذي قطعه السادات في تصالحه ليس فقط مع القوى السياسية الإسلامية ممثلة في الإخوان ، وإنما في إبراز الرافد الإسلامى في توجهه السياسي وهو ما تمثل في اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع في دستور 1971، وربما يساهم في تفسير هذا التوجه أيضا الطبيعة القلقة التي اتسمت بها هذه المرحلة بصفتها مرحلة تكريس للسلطة وللشرعية الجديدة.

ورغم أهمية هذا التوجه الذي تبناه السادات منذ بداية عهده، والذي استمر بعد ذلك طوال فترة حكمه، إلا أنه من الصعب القول بأنه عبر عن تبنى أيديولوجية متماسكة بديلة لأيديولوجية النظام منذ 1952، إذ ظلت هذه الأيديولوجية يحكمها الطابع العملي الذي يسمح لها بالتبدل وفق تغيير معطيات الواقع الداخلي والخارجي من ناحية ، ووفق الإدراك الذاتي للرئيس من ناحية أخرى. ولعل هذا ما أوقع النظام في عهد السادات في الكثير من التناقضات خاصة على مستوى التعامل مع القوى السياسة الإسلامية.

الفصل الثالث التحولات السياسية في حقبة السبعينات وانعكاساتها على دور القوى المعارضة

يتعرض هذا الفصل للتغيرات التي حدثت في مرحلة ما بعد حرب أكتوبر 1973، حيث شهدت هذه الفترة تحولات هامة هي كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخارجية، ويعتبر عام 1974 نقطة تحول في المنطلقات الرئيسية للنظام فشهد بداية إرساء سياسة الانفتاح الاقتصادي التي جسدها القانون رقم 43 لعام 1974 ورقة أكتوبر ، ثم صدور قانون تنظيم الأحزاب السياسية في 1976،

وكانت هذه التحولات في توجهاتها العريضة تعنى الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر، ومن التنظيم السياسي الواحد إلى التعددية السياسية والحزبية، بعبارة أخرى أن هذه التحولات التي عرفها النظام في حقبة السبعينات يمكن إدراجها ضمن محاولات التحول من " السلطوية " على الديمقراطية " الليبرالية" ، أي أنها مثلت مرحلة انتقال هامة في حياة النظام،

وقد أثر هذا الطابع الانتقالي على الكثير من مواقفه وسياساته، كما كان له أثر على حدود التحول الديمقراطي في تلك الحقبة، في هذا السياق يتناول الفصل ثلاث نقاط رئيسية : الأولى، هي مفاهيم التحول الديمقراطي والليبرالي . والثانية ، تجربة التعددية الحزبية المقيدة . أما الثالثة ، فتعالج حدود التحول الديمقراطي في حقبة السبعينات.

ويهدف الفصل من ذلك إلى تحديد طبيعة النظام والخصائص العامة المميزة له في تلك الحقبة والتي تشكل مدخلا أساسيا لتحليل سياساته تجاه قوى المعارضة السياسية بما فيها قوى المعارضة الإسلامية.

أولا: مفاهيم الانتقال الديمقراطي والليبرالي

وفقا لما يذكره الباحثان " أودونيل" و" شميتر" فإن مفهوم " الانتقال " يقصد به المرحلة الفاصلة بين نظام سياسي وآخر، وأثناء عملية الانتقال أو في أعقابها يتم تدعيم النظام الجديد، وتنتهي هذه العملية في اللحظة التي يجرى فيها اكتمال تأسيس النظام الجديد وعمليات الانتقال لا تحسم دائما الشكل النهائي لنظام الحكم، فهي قد تؤدى على تحلل النظام السلطوي، وإقامة شكل من أشكال الديمقراطية،

وقد تتم العودة إلى بعض أشكال الحكم السلطوي، وقد يظهر شكل آخر من أشكال الحكم. ومن سمات مرحلة " الانتقال" ألا تتحدد خلالها قواعد اللعبة السياسية فهذه القواعد لا تكون فقط في تغير مستمر، ولكنها تخضع في العادة لتحديات قوية، ويتصارع الفاعلون ليس فقط لتحقيق مصالحهم الآنية أو مصالح القوى التي يمثلونها، ولكن أيضا لتحديد القواعد والإجراءات التي ستحدد بمقتضاها هوية الرابحين والخاسرين في المستقبل.

عملية التحول الليبرالي

يقصد بالتحول الليبرالي عملية إعادة تحديد ومنح الحقوق بما يترتب عليها من نتائج مقصودة وغير مقصودة . وينطوي التحول الليبرالي على تفعيل بعض الحقوق التي تحمى كلا من الأفراد والجماعات من أي أعمال تعسفية أو غير قانونية قد ترتكبها الدولة أو أطراف ثالثة.

وعلى مستوى الأفراد تشمل هذه الضمانات العناصر الكلاسيكية للتراث الليبرالي، مثل عدم الاعتقال بدون محاكمة، وحرمة المنازل والمراسلات الخاصة، وحق الدفاع عن النفس في محاكمة عادلة طبقا للقانون، وحرية التنقل والتعبير والالتماس وغيره.

وعلى مستوى الجماعات تأخذ هذه الحقوق أشكالا مثل عدم التعرض للعقاب نتيجة للتعبير عن الاعتراض الجماعي على سياسة الحكومة وعدم التعرض للرقابة على وسائل الاتصالات وحرية الالتقاء الطوعي.. الخ.

ومع التسليم بأن هذه المجموعة من الضمانات ربما لا يجرى مراعاتها بشكل تام وغير مشروط من قبل السلطات العامة، وأن مضمونها قد يتغير بمرور الوقت، إلا أن مراعاة هذه الأسس ولو بشكل متفرق أو متدرج يشكل نقطة انطلاق هامة، وبداية للابتعاد عن ممارسات الأنظمة السلطوية.

وعادة ما تتم هذه التطورات بشكل متداع وتراكمي، عندما يبدأ بعض الفاعلين في ممارسة هذه الحقوق بشكل عام دون التعرض للعقاب مثلما يكون الحال في أوج النظام السلطوي، وبالرغم من أنه ليس هناك تسلسل منطقي لبروز أو ظهور مجالات النشاط وممارسة الحقوق الليبرالية،

إلا أن استعادة بعض الحقوق الفردية قد يسبق منح ضمانات للعمل الجماعي، فضلا عن أن التقدم في هذه المجالات يمكن أن يتعرض لانتكاسات ، وإحدى سمات هذه المرحلة المبكرة من الانتقال هو اعتمادها على السلطة الحكومية التي تظل قسرية ومتقلبة، ومع ذلك فإذا لم تكن السياسات الليبرالية مهددة للنظام ( الحاكم) بشكل حاد فإنها تميل إلى التراكم وتقل بذلك إمكانات إلغائها المحتمل.

التحول الديمقراطي

المبدأ الأساسي في الديمقراطية هو " المواطنة" ويعنى حق المعاملة بالمثل من قبل الآخرين فيما يتعلق بتبني الخيارات الجماعية وواجب من يقومون بتنفيذ هذه الخيارات بالخضوع في المقابل للمحاسبة وإمكانية الوصول إليهم من قبل جميع أفراد المجتمع، ويفرض هذا المبدأ تبعات أو واجبات على المحكومين تتمثل فى احترام شرعية الخيارات التي يسفر عنها الحوار العام،

كما يوفر هذا المبدأ حقوقا للحكام للتصرف كسلطة واستخدام الإكراه- العنف- إذا ما دعت الضرورة لتعزيز فعالية هذه الخيارات ولحماية الدولة من الأخطار التي تهدد استمراريتها وهناك عدد كبير ومتنوع من القوانين والقواعد والإجراءات للمشاركة التي تجسد مبدأ المواطنة.

وقد تباينت عبر الزمن وفى إطار النظم السياسية المختلفة المؤسسات التي تحدد بذاتها الديمقراطية بما في ذلك العناصر البارزة منها مثل مبدأ " الأغلبية" أو التمثيل الجغرافي وسيادة السلطة التشريعية ، أو مسئولية المنتخبين شعبيا، بل أن هناك العديد من المؤسسات التي ينظر إليها الآن بأنها" ديمقراطية" كانت قد تأسست في البداية لأغراض مغايرة تماما، وجرى استيعابها فيما بعد، بما في ذلك البرلمانات والأحزاب وجماعات المصالح وما شابه، وبالرغم من أن الشكل المحدد الذي تأخذه الديمقراطية في بلد ما يظلل وما شابه،

وبالرغم من أن الشكل المحدد الذي تأخذ الديمقراطية في بلد ما يظل مسألة مرتبطة بظروفه وسماته، إلا أنه استنادا إلى وجود " نماذج " بارزة وانتشارها عالميا يمكن القول أن هناك حدا أدنى من الإجراءات أو المؤسسات التي ينبغي أن يقبلها الأطراف المعنيون كعناصر ضرورية للديمقراطية السياسية ويشهد العالم المعاصر الآن إجماعا على مجموعة من العناصر وهى:

الاقتراع السري، والمشاركة الشعبية ، والانتخابات المنظمة، والتنافس الحزبي، والإقرار بحق التجمع ومحاسبة المسئولين التنفيذيين.

وهكذا فإن التحول الديمقراطي يعنى العملية التي يجرى بموجبها تطبيق قواعد وإجراءات المواطنة على المؤسسات السياسية التي كانت محكومة بمبادئ أخرى، أو توسيع هذه القواعد والإجراءات لتشمل أشخاصا لم يتسن لهم التمتع بمبادئ أخرى، أو توسيع هذه القواعد لتشمل أشخاصا لم يتسن لهم التمتع بها سابقا ( مثل من لا يدفعون الضرائب والأميين ، والنساء ، والشباب والأقليات العرقية) أو بسط هذه القواعد والإجراءات لتغطى موضوعات ومؤسسات لم تخضع من قبل لمشاركة المواطنين (كأجهزة الدولة، والمؤسسات العسكرية، والمنظمات الحزبية، جماعات المصالح) ، وكما هو الحال في التحول الليبرالي ليس هناك ترتيب منطقي لهذه العمليات فضلا عن حقيقة أن التحول الديمقراطي قابل للانتكاس.

التفاعل بين التحول الليبرالي والتحول الديمقراطي

ليس التحول الليبرالي والتحول الديمقراطي مترادفين، وذلك على الرغم من وجود علاقة وثيقة بينهما، فبدون ضمانات لحرية الفرد وحرية الجماعات أى بدون التحول الليبرالي ، فإنه لا يمكن ضمان تحقيق التحول الديمقراطي، ومن ناحية أخرى ، وبدون حرية الانتخابات

والمحاسبة السياسية( أي التحول الديمقراطي) قد يكون من السهل استغلال واختزال التحول الليبرالي طبقا لأهواء شاغلي السلطة ومع ذلك وأثناء عملية الانتقال قد لا يحدث الاثنان( أي التحول الليبرالي والتحول الديمقراطي) في نفس الوقت، وقد يتحمل الحكام السلطويون أو حتى يشجعون التحول الليبرالي لاعتقادهم بأن إتاحة بعض المجالات للحركة أمام الفرد والجماعة،

يمكن أن يخفف الضغوط على الحاكمين ويساعد على الحصول على المعلومات والدعم المطلوبين دون الحاجة إلى تغيير بنية السلطة، أي بدون أن تصبح السلطة خاضعة لمحاسبة المواطنين على ما تقوم به من أعمال ودون إخضاع مطالبتها بالحكم لانتخابات تنافسية عادلة،

وقد أشير في بعض الأدبيات إلى مثل هذا الشكل من أشكال الحكم بتعبيرات مثل" ديمقراطية الوصاية" أو " السلطوية الليبرالية" وفى المقابل ومع بداية التحول الليبرالي فإن هناك احتمالا بأن يبدى دعاته المترددون الخوف من التوسع الزائد لهذه العملية أو استثناء الموضوعات المثيرة للخلاف من الموضوعات المطروحة للتداول الجماعي، بل أنهم قد يستمرون في التمسك بالقيود القديمة، وقد يضعون قيودا جديدة على حريات أفراد معينين أو جماعات معينة قد ينظر إليها باعتبارها غير مهيأة بشكل كاف للتمتع بحقوق المواطنة الكاملة ويطلق على هذه الحالات تعبير " الديمقراطية المحدودة" ،

وبناء على هذه التمييزات يخلص " أودونيل" على عدة نتائج يمكن إيجازها فيما يلي:

(1) أن التحول الليبرالي هو مسألة نسبية وذلك على الرغم من عدم إمكانية قياسه بمقياس واحد في كل الحالات فقد يكون أكثر أو أقل تقدما اعتمادا على حجم الضمانات ، وعلى مدى قدرة الإرادة والجماعات على الحصول على حماية سريعة وفعالة من الانتهاكات التي قد ترتكب بحقهم.

(2) ينطبق مبدأ التدرج على التحول الديمقراطي أيضا وذلك رغم صعوبة تحدي القواعد والإجراءات الأكثر أو الأقل ديمقراطية بسبب عامل الزمن، وطبيعة الظروف الموضوعية التي يتم فيها التغيير وفى حالة تشكيل الديمقراطية السياسية التي تقتصر على تطبيق مبدأ المواطنة على مؤسسات الحكم العامة. وفى هذا السياق يوجد هناك بعدان يبدوان ذا أهمية خاصة:

البعد الأول، هو الشروط التي تقيد التنافس الحزبي والخيار الانتخابي- كحظر أحزاب سياسية أو اتجاهات أيديولوجية معينة، أو وضع قيود صارمة على تشكيلها أو تقييد حرية الترشيح، أو تحديد القطاعات الانتخابية أو التمثيل المميز لقطاعات أو جماعات مصالح خاصة، أو تحديد وسائل تمويل الأحزاب. أما البعد الثاني، فيتعلق بالتشكيل المحتمل " مرتبة ثانية" من آليات التشاور وصنع القرار التي يقصد منها الالتفاف على النواب المنتخبين شعبيا وذلك من خلال إخراج بعض الموضوعات من نطاق صلاحياتهم.

(3)أن التحول الليبرالي يمكن أن يوجد بدون التحول الديمقراطي ، فمن الممكن منح الضمانات في وقت يمنع فيه الأفراد والجماعات من المشاركة في انتخابات تنافسية ، ومن الوصول على المشاركة في المداولات المتعلقة برسم السياسة، ومن ممارسة الحقوق التي تجعل الحكام مسئولين بشكل أكثر معقولية أمام هؤلاء الأفراد والجماعات ، ويجرى تبرير ذلك في العادة بزعم أو ادعاء أن جمهرة المواطنين" غير ناضجة" أو "غير مؤهلة " لممارسة حقوقها السياسة ، وأنها بحاجة إلى تعليم قبل السماح لها بممارسة مسئوليات الموطنة الكاملة.

وكلما تقدم التحول الليبرالي كلما زادت قوة المطالبة بالحول الديمقراطي، ومن الأمور الرئيسية المثارة في عملية الانتقال( من التحول الليبرالي إلى التحول الديمقراطي) ، هو ما إذا كانت هذه المطالب ذات درجة كافية من القوة بحيث تكفل فرض هذا الانتقال أم على العكس، أي تكون على درجة من عدم النضج والقوة ، فتحدث تراجعا سلطويا.

(4) وفى جميع التجارب التي مرت بمرحلة انتقالية، سبق تحقيق الديمقراطية السياسية تحول ليبرالي هام، وفى بعض الحالات كالبرتغال واليونان، كان الانتقال سريعا لدرجة أن العمليتين كانتا تقريبا متزامنتين ولكن حتى في هاتين الحالتين تم منح حقوق أساسية فردية وجماعية قبل الدعوة لانتخابات تنافسية وتنظيم تمثيل فعال للمصالح، وإخضاع الصلة التنفيذية للمحاسبة الشعبية،

ولذلك يمكن تشخيص- على صعيد المفاهيم- عملية الانتقال هذه على أنها نوع من " التيار المزدوج" الذي تتفاعل فيه هاتان العمليتان الفرعيتان، وفى حالة تحقيق نتيجة ناجحة( أي ديمقراطية سياسية ممكنة) تصبح العمليتان مرتبطتين ببعضهما بشكل آمن.

(5) إذا كان التحول الليبرالي هو الذي تبدأ به عملية الانتقال فإنه يبدأ في اللحظة التي يعلن فيها الحكام السلطويون أو بعض منهم- نواياهم لتوسيع مجال الحقوق الفردية والجماعية المكفولة بشكل هام ، وقبل ذلك قد تبرز درجة معينة من التحول الليبرالي الفعلي، وخاصة بالمقارنة مع " التجاوزات التعسفية" التي تميز المرحلة السلطوية.

ويثور في هذه المجال أهمية أن تكون للتحول الليبرالي مصداقية كافية لإحداث التغيير في استراتيجيات الفاعلين الآخرين.

وقد يسمح هذا المعيار بتحديد عمليات الانتقال الناقصة التي يجرى فيها التراجع عن النوايا المعلنة بحماية بعض الحقوق من قبل من دعوا إليها أو إلغائها من قبل فئات منافسة داخل النظام.

(6) إن أحد أسس عملية الانتقال هي أنه من الممكن بل والمرغوب فيه تحقيق الديمقراطية السياسية بدون عنف منظم، أو انقطاع جذري. ذلك أن خطر العنف والاحتجاجات المتكررة والإضرابات والمظاهرات قائما ولكن عندما يتحول العنف إلى أسلوب للعمل السياسي ، أو عندما يصبح العنف واسع الانتشار ومتكرر الحدوث، تتقلص بشكل جذري احتمالات تحقيق الديمقراطية السياسية.

وعلى ضوء هذه المحددات العامة التي تتسم بها المرحلة الانتقالية والتي تولد ضغوطا على النظام أثناء عملية التحول من السلطوية إلى الديمقراطية يتم تحليل التحولات السياسية التي شهدها النظام السياسي المصري في السبعينات وحدودها وآثارها على تغيير الخصائص العامة للنظام من ناحية، وموقع القوى السياسية المختلفة ودورها في عملية التحول الديمقراطي من ناحية أخرى.

ثانيا: التعددية الحزبية المقيدة

مع بداية السبعينات وتولى الرئيس السادات الحكم ارتفع شعار دولة " المؤسسات وسيادة القانون" وهو ما كان إشارة على بدء تحول مؤسسي على مستوى النظام، حيث اجتمعت مجموعة من العوامل ساهمت في دفع هذا التحول، وكان أول هذه العوامل هو اختفاء نمط " الزعامة الكاريزمية" الذي مثلته قيادة عبد الناصر في الحقبة السابقة ،

وزاد من أثر هذا العامل، صراع السلطة الذي حدث في الفترة التالية على تولى الرئيس السادات، وكان استخدام السادات لشعاري"دولة المؤسسات وسيادة القانون" هو إحدى الأدوات الرئيسية لإدارة هذا الصراع، حيث ركز انتقاداته للعهد السابق ورموزه السياسية فى عدم احترام الدستور والقواعد القانونية، وضعف المؤسسات السياسية.

كذلك ساهمت العوامل السياسية التي سادت بعد هزيمة 1967 فى دفع النظام فى اتجاه التحول المؤسسي حيث تنامت حركة سياسية في البلاد دعت إلى توسيع قاعدة الحقوق السياسية للمواطنين وتقديم الضمانات الكافية لحرية التعبير للأفراد والجماعات، واتخذت هذه الحركة مظهرا طلابيا عبر عن نفسه في المظاهرات التي قامت في فبراير 1968 ،

وفى نوفمبر من نفي العام، ثم تبلورت في شكل واضح في حركة الطلبة في يناير 1972 التي أسفرت عن وقوع عدد من المصادمات مع قوات الأمن ، كما أدت إلى تحريك عدد من النقابات المهنية تأييدا للطلبة.

وإلى جانب هذه العوامل المرتبطة بالتداعيات السياسية لسياسات العهد السابق، فقد برزت عوامل أخرى خاصة بتوجهات العهد الجديد ودفعت بدورها في اتجاه تدعيم التحول المؤسسي ولعل أبرزها سياسة الانفتاح الاقتصادي وما صاحبها من ملامح تغيير في القاعدة الاقتصادية الاجتماعية متمثلة في بروز دور البرجوازية الاقتصادية التي دعا بعض أجنحتها إلى الربط بين " الانفتاح" أي العودة إلى علاقات السوق، وبين الحرية السياسية، فضلا عن التغير السياسي الخارجي للنظام وتوجهه بشكل أساسي نحو الولايات المتحدة والدول الغربية وما ارتبط به من رغبة الرئيس في إرساء شكل من أشكال الحكم الديمقراطي.

وإذا كانت هذه بعض العوامل التي دفعت النظام إلى تغيير الإطار المؤسسي للنظام والإقرار بمبدأ التعددية الحزبية في 1977 ، إلا أن مجرد إقامة المؤسسات السياسية لا يكفى وحده لإتمام عملية التحول الديمقراطي، وإنما يرتبط هذا التحول بالدرجة الأولى بفاعلية هذه المشاركة السياسية وقدرتها على التعبير عن آراء ومصالح الفئات المختلفة، وتحقيق المشاركة السياسية، وكذلك قدرة هذه المؤسسات على التكيف مع التغيرات والتحديات التي تفرضها البيئة المحيطة، فضلا عن استقلاليتها وتماسكها الداخلي.

كان أهم تحول على الصعيد السياسي شهده عهد السادات في السبعينات في الفترة بعد حرب أكتوبر 1973، هو الانتقال من التنظيم السياسي الواحد إلى التعددية الحزبية، ولما كان هذا التحول يشكل مرحلة انتقال هامة في حياة النظام، بعد إقراره لسياسة الانفتاح على الصعيد الاقتصادي فإن تحديد ملامح هذه التجربة يعطى دلالات هامة على طبيعة التحديات التي واجهتها ويقدم مدخلا لتفسير العلاقة بين النظام من ناحية والقوى السياسية الأخرى التي أفرزتها هذه التجربة من ناحية أخرى والتي يأتي في مقدمتها القوى الإسلامية.

بدأت ملامح التحول في النظام بشكل تدريجي تتحدد من خلال ورقة أكتوبر في 1974، التي حاولت إدخال بعض التعديلات مع الإبقاء على التنظيم السياسي الواحد،فقد أكدت ورقة أكتوبر على ( أن يكون التحالف إطارا صحيحا للوحدة الوطنية تعبر من داخله كل قوى التحالف عن مصالحها المشروعة وعن آرائها بحيث تتضح الاتجاهات التي تحظى بتأييد الأغلبية التي يجب أن تتبناها الدولة. إن التنظيم السياسي يجب أن يكون بؤرة للحوار).

ثم تكونت " لجنة مستقبل العمل السياسي" في يناير 1976 لدراسة الفكرة التي طرأت في ذلك الحين باسم " المنابر" وبعد جدال واسع ساد اتجاه لإقامة " منابر" داخل الاتحاد الاشتراكي قرر الرئيس السادات في مارس 1976 السماح بقيام ثلاثة منابر لتمثيل اليمين ( تنظيم الأحرار الاشتراكيين) والوسط ( تنظيم مصر العربي الاشتراكي) ، واليسار( تنظيم التجمع الوطني التقدمي الوحدوي).

وخاضت هذه المنابر انتخابات مجلس الشعب في صيف ذلك العام وفى أول اجتماع للمجلس في 11 نوفمبر 1976، أعلن رئيس الجمهورية تحول التنظيمات الثلاثة إلى أحزاب، ثم صدر قانون الأحزاب السياسية في يوليو 1977، لأول مرة منذ إلغائها في 1953،

ولكنه حدد شروطا معينة يضمن من خلالها استمرار ممارسة الاتحاد الاشتراكي لرقابته على الحياة الحزبية، إذ اشترط أن يحصل أي حزب على موافقة الاتحاد الاشتراكي، وان يضم مؤسسوه 20 عضوا من البرلمان، وأن يعترف بالحل الاشتراكي، وأن تكون أهداف ومبادئ أي حزب جديد مختلفة عن الأحزاب الثلاثة الموجودة داخل الاتحاد الاشتراكي وعدم تشكيل أي حزب ينشأ على أساس الجنس أو الدين أو الاعتقاد أو التمييز الجغرافي وكانت هذه الشروط تعنى ضمنا عدم السماح للوفد والإخوان المسلمين على وجه التحديد بتكوين أحزاب سياسية.

ولا شك أنه كان لطريقة ميلاد تجربة التعددية في ظل السادات أثر هام على مسارها في السنوات اللاحقة ، فقد ولدت الأحزاب السياسية من داخل التنظيم السياسي الواحد وبقرار من رئيس الجمهورية ومن ثم فقد افتقدت هذه الأحزاب للقاعدة الجماهيرية فضلا عن عدم تبلور برنامج سياسي واضح لها تقوم على أساسه بسبب القيود التي وضعها قانون تنظيم الأحزاب منذ صدوره.

وكان أول الأحزاب التي نشأت بعد هذا القانون هو " حزب مصر العربي" الذي اعتبر الامتداد الطبيعي لتيار ثورة يوليو ولتنظيم الاتحاد الاشتراكي،وحزب " الأحرار الاشتراكيين" الذي لم تكن له توجهات فكرية وسياسية محددة المعالم أو تميزا حقيقيا عن حزب مصر، خاصة وأن رئيسه كان أحد الضباط الأحرار ويدل وجود صفة الاشتراكية في اسمه على صعوبة وصفه بأنه كان يمثل تيارا جديدا أو تيارا ليبراليا، أما حزب التجمع الوحدوي الديمقراطي فقد كان يضم تيارات اليسار وإن كانت شرعيته قد استمدت أيضا من ثورة يوليو.

وربما كانت أهم ملاحظة حول توجهات هذه الأحزاب الثلاثة هي عدم وجود تمايزات واضحة بينها فقد اتخذت كلها مواقع وسطية وانتمت إلى نخبة سياسية واحدة وحملت برامجها الكثير من عوامل التشابه والاختلاط في هذا الوقت المبكر.

وشهد عام 1978 تطورات أخرى في الحياة الحزبية الوليدة عندما أعاد الرئيس السادات تشكيل الخريطة الحزبية، فأعلن قيام" الحزب الوطني الديمقراطي" في أغسطس 1978 برئاسته مما نتج عنه اختفاء حزب مصر العربي الاشتراكي، بعد تحول غالبية أعضائه إلى الانضمام إلى الحزب الجديد .

كما أعلن- في نفس العام- عن ميلاد حزب العمل الاشتراكي في 11 ديسمبر 1978 برئاسة المهندس/ إبراهيم شكري الذي كان يشغل وزير الزراعة بعد أن قدمت له كافة التسهيلات من قبل الحكومة ووقع الرئيس وأعضاء الهيئة البرلمانية على بيان تأسيس الحزب، الذي أريد له أن يشكل نوعا من المعارضة المعتدلة التى يرضى عنها النظام، وشهدت نفس الفترة (يونيو 1978) الفاعلان عن تشكيل حزب الوفد برئاسة محمد فؤاد سراج الدين سكرتير حزب الوفد 1952.

وترجع إعادة تشكيل الخريطة الحزبية في 1978 إلى التحديات الهامة التي واجهها النظام في تلك السنوات فقد شهدت توترا في الحياة السياسية حيث وقعت أحداث 18، 19 يناير كما برزت في هذه الأعوام ظاهرة العنف السياسي من قبل بعض الجماعات الإسلامية وفى المقابل كان عام 1977 هو بداية تحول جذري على صعيد السياسة الخارجية تمثل في زيارة السادات إلى القدس، وما أعقبها من توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في 1978،

ثم المعاهدة المصرية الإسرائيلية في 1979 والتي لاقت معارضة من قبل العديد من القوى السياسية والإسلامية وهو ما جعل كثيرا من المحللين ينظرون إلى عام 1977 كنقطة تحول تعبر عن أزمة النظام السياسي، سواء في أدائه الداخلي أو الخارجي.

وكان لضعف الأحزاب السياسية التي نشأت بعد الإقرار بمبدأ التعددية اثر فى الدفع نحو إعادة تشكيل الخريطة الحزبية .

في هذا الإطار تم السماح بعودة حزب الوفد إلى الحياة السياسية تحت اسم " الوفد الجديد" سعيا إلى تخفيف حدة المعارضة السياسية وخاصة الإسلامية منها إزاء السياسات والتوجهات الجديدة للنظام داخليا وخارجيا، وكان أبرزها ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية وتوقيع اتفاقيات الصلح مع إسرائيل وفى نفس الوقت سعى السادات لتشجيع تشكيل حزب جديد يحتل موقع المعارضة- كما تصورها- متمثلا في حزب العمل الاشتراكي كبديل ، وحزب التجمع الوطني).

إذ لم يكن الأحرار الاشتراكيين بالطريقة التي نشأ بها قادرا على تحقيق أية فعالية سياسية أو جماهيرية تتفق مع كونه حزب المعارضة الرئيسي، وكان هناك الأسباب من الموضوعية ما يبرر ضعف هذا الحزب على المستوى السياسي وأهمها عدم التماسك الأيديولوجي الذي اتسم به.

فالرغبة في أن يكون حزب الأحرار الاشتراكيين ممثلا لليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي تعارضت مع المنطلق الأساسي الذي بدأ منه الحزب وهو انتسابه لثورة يوليو وهو ما أوقعه في تناقض كبير خاصة وأنه اتخذ في توجهاته في المجال الاقتصادي موقفا مدافعا عن الاقتصاد الحر الذي يتناقض مع الاتجاه والخط الذي سارت عليه ثورة يوليو في هذا المجال، مما عكس ارتباكا وتناقضا على مستوى إيديولوجية الحزب ولذا لم يكن غريبا أن يتأثر حزب الأحرار الاشتراكيين تأثرا بالغا بعودة الوفد الجديد المثل التقليدي للتوجه الليبرالي،

والذي استقطب العناصر الليبرالية ليس فقط من خارج الحزب وإنما من داخله سواء على مستوى الأعضاء أو المؤسسين والذين رأوا في الوفد تعبيرا أيديولوجيا متسقا مع التوجه الليبرالي يفوق التوجه البديل لحزب الأحرار الاشتراكيين، ويضاف إلى ذلك عدم تمتع الحزب بمصداقية عالية من جراء ارتباطه في نشأته بالسلطة السياسية وقبوله لعب دور المعارضة في الإطار الذي رسم له منذ البداية وبدا ذلك من خلال دوره في مجلس الشعب في الفترة التي بدأت بقيام الأحزاب في 1976 وانتهت بحل مجلس الشعب في 1978.

أما حزب التجمع فقد كان بحكم تكوينه وتمثيله لليسار مؤهلا لأن يتخذ موقفا معارضا للسياسات الداخلية والخارجية التي اتخذها السادات إذ عادى سياسة الانفتاح الاقتصادي على الصعيد الداخلي ورفض سياسات التصالح مع الغرب وتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة على الصعيد الخارجي وهى سياسات التحول الرئيسية التي ا تسم بها عهد السادات في هذه المرحلة،ولذلك لم يكن حزب التجمع- الزى تشكل من بعض عناصر التنظيمات الماركسية التي كانت موجودة قبل 1952،

والجناح اليساري الناصري وعبر اجتماعا عن بعض فئات الطبقة الوسطى الصغيرة من أصحاب الدخول الثابتة من صغار الموظفين أو متوسطيهم الصغيرة من مؤهلا للعب نفس الدور مع السلطة والذي قام به حزب الأحرار كحزب يميني وقد بدا ذلك واضحا في مواقف الحزب، خاصة تجاه أزمة يناير 1977، وزيارة السادات إلى القدس في نفس العام.

وهو ما أدى إلى توتر العلاقة بين الحزب والسلطة ، وهو الأمر الذي انتهى على تجميد نشاط الحزب.

هذه بعض الملامح التي تحدد السياق السياسي والاجتماعي الذي أعاد نظام السادات في إطاره تشكيل الخريطة الحزبية في 1978، ولم يقتصر الأمر على أحزاب المعارضة ممثلة في ظهور حزب العمل الاشتراكي وعودة حزب الوفد الجديد وإنما امتد أيضا إلى حزب مصر العربي الاشتراكي ، وعودة حزب الوفد الجديد وإنما امتد أيضا إلى حزب مصر العربي الاشتراكي الذي أحل السادات محله الحزب الوطني الديمقراطي في أغسطس 1978.

ولم تكن أسباب إنشاء الحزب الوطني الديمقراطيبعيدة عن نفس الأسباب السياسية والاجتماعية وعوامل التوتر التي سادت المجتمع في عام 1977 فضلا عن تصاعد حدة المعارضة للسياسات الداخلية والخارجية التي اتبعها السادات، وإخفاق "حزب مصر" في القيام بدور فعال في مواجهة الأزمة التي تعرض لها النظام في السبعينات .

ولعل هذا الإخفاق كان أحد السباب التي دفعت السادات لتشكيل حزب جديد ليكون بديلا عن حزب مصر، ويمكن إجمال العوامل التي وقفت وراء ميلاد الحزب الوطني الديمقراطيفي ثلاثة:

الأول، هو رغبة النظام في التحرر من الإرث الذي حمله حزب مصر من سلبيات بعض السياسات الحكومية التي أدت على أحداث يناير 1977. الثاني، هو الطابع البيروقراطي الشديد لحزب مصر والذي بدا من خلال فترة الممارسة القصيرة التي تولى فيها مسئولية العمل الحزبي حيث أن الكوادر التي تشكل منها الحزب كانت هي نفسها الكوادر التي تشكلت في ظل الاتحاد الاشتراكي وهى بحكم تكوينها كانت تغلب عليها الصفة البيروقراطية وتفتقد إلى الرؤية السياسية المطلوبة للعمل الحزبي،

وهو ما أدركه السادات فسعى إلى ضم بعض العناصر السياسية إلى الحزب الجديد. أما العامل الثالث ، فيتمثل فى رغبة الرئيس في أن يخضع الحزب الجديد لمؤسسة الرئاسة مباشرة، صحيح أن حزب مصر لم يكن بعيدا عن هذه المؤسسة إلا أن الصلة لم تصل على حد التلاحم، كما كان الحال في ظل التنظيم السياسي الواحد ممثلا في الاتحاد الاشتراكي ، وهو الأمر الذي أدى- من وجهة نظر النظام إلى تعرضه للكثير من عوامل النقد والهجوم بلغ ذروته مع أحداث يناير، وهو ما دفع السادات إلى اتخاذ قراره بتأليف الحزب الوطني الديمقراطيتحت رئاسته.

وربما يكون من المهم التوقف عند بعض الخصائص العامة للحزب الوطني، لما لها من أثر على تشكيل مسار التجربة الحزبية التي ولدت في السبعينات، وعلى ملامح التعددية السياسية في تلك الحقبة. ويأتي في مقدمة هذه الخصائص تلك الصلة الوثيقة التي ربطت بين الحزب والسلطة ممثلة في مؤسسة الرئاسة، وهى صلة ورثها النظام عن المرحلة السابقة للتنظيم السياسي الواحد، حيث شهدت هذه المرحلة تمركزا للسلطة تمثل أولا في مجلس قيادة الثورة

ثم أخذ في الانتقال بعد أزمة مارس 1954 إلى مؤسسة الرئاسة التي استأثرت بأهم الصلاحيات التنفيذية والتشريعية إلى جانب كونها صاحب القرار السياسي ، وكان أهم ما ترتب على هذه السمة هو توقف الحياة الحزبية في مصر لنحو ما يقرب من ربع قرن ليحل مكانها التنظيم السياسي الواحد، والذي بدوره تم خلفه من قبل مؤسسة الرئاسة، مما صبغ عليه طابعا سلطويا.

ولم تختلف هذه الصيغة السياسية جوهريا بعد الانتقال من شكل التنظيم السياسي الواحد إلى التعددية الحزبية، فالانتقال من هيئة التحرير التي تشكلت في 1953 إلى صيغة الاتحاد القومي في 1956 انتهاء بالاتحاد الاشتراكي في 1962 جاء بقرار من رئيس الجمهورية في العهد الناصري، وكذلك فإن ميلاد الحزب الوطني الديمقراطيفي ظل السادات سار على نفس الخطى حيث بدأ تحت اسم منبر الوسط في نوفمبر 1975 برئاسة محمود أبو وافية الذي كانت تربطه صلة قرابة برئيس الجمهورية،

ثم تحول بعد ذلك إلى حزب مصر العربي الاشتراكي، برئاسة ممدوح سالم- رئيس الوزراء وقتئذ، وأخيرا تم التحول عنه على الحزب الوطني الديمقراطيالذي رأسه السادات، وكل هذه التحولات جاءت أيضا بقرار من رئيس الجمهورية.

هذه السمة الأساسية لهيمنة مؤسسة الرئاسة على الحزب ارتبطت بخاصية أخرى وهى سيادة الطابع البيروقراطي عليه بحكم طبيعة التكوين والنشأة، التي امتدت في جذورها إلى تشكيلات التنظيم السياسي الواحد، صحيح أن العسكريين كانوا يمثلون الجانب الأهم في تنظيم هيئة التحرير وانتقل الأمر على التكنوقراط في الاتحاد الاشتراكي وخاصة بعد 1967 ،

إلا أنه في جميع الحالات غلبت القيادات البيروقراطية على العمل الحزبي سواء كان في صورة التنظيم الواحد أو الحزب الكبير في ظل التعددية الحزبية، ولم تنعكس هذه السمة على الأداء السياسي للحزب الوطني فحسب وإنما أيضا على الميكانيزم الداخلي له بحيث أن كوادر الحزب لم تأت من قواعده وإنما كان يتم تشكيلها من خلال التعيين وهو ما جعل كثيرا من المحللين يشيرون إلى أن حركة الحزب تأتى من أعلى على أسفل بالطريقة البيروقراطية التقليدية المعروفة .

ويضاف على هذه الخصائص سمة أخرى اتسم بها الحزب الوطني الديمقراطيوهى إصراره على الانتساب إلى " ثورة يوليو" كأحد المصادر الرئيسية لشرعيته حيث ينص برنامجه على ( أن الحزب الوطني الديمقراطيالذي قام في أغسطس 1978 هو التعبير الحي عن الالتزام بتطبيق مبادئ ثورة يوليو من أجل الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية وتطبيق الديمقراطية في ظل حياة حزبية سليمة) ولا شك أن هذه الخاصية أوقعت الحزب في كثير من التناقض حيث كان الكثير من التوجهات والسياسات الجديدة التي دافع عنها الحزب تتعارض مع المبادئ والأفكار التي تبناها النظام في 1952.

وهو ما جعل الحزب ضعيفا من الناحية الأيديولوجية يفتقد إلى الاتساق الفكري والسياسي، كما يفتقد على بلورة نفسه كحزب جديد يتفق ومرحلة التغيير التي أعلنها السادات، وربما كان الإصرار على الاحتفاظ بشرعية " ثورة يوليو" عاملا من وجهة نظر السادات في ذلك الوقت، على إعطاء طابع جماهيري للحزب.

لا شك أن هذه الخصائص العامة التي اتسم بها الحزب الوطني والتي حملت الكثير من إرث التنظيم السياسي الواحد قد أثرت كثيرا، على الفعالية السياسية للحزب وعلى أدائه في ظل التجربة الحزبية الوليدة وجعلته يتسم بنفس الطابع السلطوى الذي اتسمت به التنظيمات السياسية السابقة ، وكما يشير " هاينوبوش"

فإنه على الرغم من التحولات الرئيسية في توجهات نظام السادات واختلافها في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي عن توجهات الحقبة الناصرية السابقة سواء على الصعيد الداخلي والخارجي إلا أن العامل المشترك الذي ظل باقيا ومحددا للحقبتين الناصرية والساداتية تمثل في درجة تمركز السلطة في يد الرئيس ومحورية دور مؤسسة الرئاسة في العملية السياسية والذي انعكس على مجمل التجربة الحزبية وجعل نظام تعدد الأحزاب مقيدا في ظل السادات.

وعلى الرغم مما شهدته فترة السبعينات في إطار عملية التحول السياسي من التوسع في إقرار بعض الحريات الفردية والجماعية، وتخفيف الرقابة على وسائل التعبير وأولها الصحافة فضلا عن إعادة تشكيل المحاكم وإلغاء بعض إجراءات التأميم تأمينا للملكية الخاصة وغيرها من الإجراءات التي تعكس قدرا من الليبرالية في توجهات النظام إلا أنها كانت بدورها ليبرالية محدودة ومقيدة بسبب الخصائص السلطوية التي تميز بها النظام،

والتي أكدتها طبيعة الحزب الوطني، ومحورية دور الرئيس في العملية السياسية وهى خصائص حالت دون تنشيط وتقوية التنظيمات والمؤسسات السياسية اللازمة لتطور تجربة التعددية ، ودفعها نحو التحول الديمقراطي.

ولا ترجع أزمة المؤسسات السياسية وعدم فعاليتها في ظل سياسة التحول نحو التعددية إلى هذه الخصائص السلطوية وحدها،وإنما إلى ما صاحب هذه العملية من إعادة إنتاج للرموز والقيم التقليدية في الثقافة السياسية حيث أكد السادات بشكل خاص على الرموز والقيم الدينية والأبوية التي تؤكد على معاني الطاعة والولاء، وهو ما يطلق عليه بعض المحللين السياسيين إعادة التكوين التقليدي للمؤسسات السياسية فضلا عن تكريسها لعوامل " السلطة الأبوية" التي تتنافى مع أي تحول ليبرالي أو ديمقراطي حقيقي.

ويضاف على ذلك محدودية التجربة الحزبية والتي عكستها طريقة الميلاد والنشأة حيث عمل النظام منذ بداية التجربة على تقييدها حتى لا تخرج عن الإطار السياسي المرسوم لها ، فتم استبعاد بعض القوى السياسية منذ البداية عن حق التشكيل الحزبي ومنها تلك التي كانت قائمة قبل نظام 1952 ( الوفد) وهو ما يبرر فترة ظهوره القصيرة على الساحة السياسية في 1978 حينما دعت بعض الاعتبارات السياسية للنظام السماح له بالعودة

ولكن سرعان ما تغلب عوامل الصراع التاريخي بين الجانبين وتوترت العلاقة مما دعا الحزب إلى حل نفسه بعد شهور الصراع التاريخي بين الجانبين وتوترت العلاقة مما دعا الحزب إلى حل نفسه بعد شهور قليلة من عودته، كما حرم النظام بعض القوى السياسية الأخرى من حق العمل الحزبي، ومنها القوى التي عارضت حركة التصحيح فى مايو 1971 ( أي الناصريين) والقوى التي اعتبرها مناهضة للأديان( الماركسيين) ثم القوى الدينية السياسية وقصد بها( الإخوان المسلمين).

ثالثا: حدود التحول الديمقراطي في السبعينات:

إن الشروط التي نشأت وتطورت في ظلها الأحزاب السياسية كانت مؤشرا على ضعف الإطار المؤسسي للتجربة وبالتالي محدودية التحول الديمقراطي في عهد الرئيس السادات. بعبارة أخرى فإن تجربة التعدد الحزبي في مصر( 1976-1981) سمحت بتحقيق قد رمن الليبرالية السياسية

ولكنها لم تصل على حد التحول الديمقراطي وإن كانت نفس العملية الأولى ظلت مقيدة إلى حد كبير بسبب القيود المفروضة على حرية التعبير والرقابة على الصحف ، إلى جانب إصدار العديد من القوانين والتشريعات المقيدة للحريات سواء على مستوى الفرد أو الجماعة.

كما اتسمت هذه الفترة باللجوء المتتالي على استخدام السياسات الرئاسية، مما كان سببا في تقوية ميكانيزمات التسلط السياسي على حساب ميكانيزمات الليبرالية السياسية، وهو الأمر الذي فرض ضغوطا شديدة على عملية التحول الديمقراطي في السبعينات وتعرضها لأزمات عديدة. وذلك على النحو التالي:

أزمة التعددية المقيدة

تتعلق هذه الأزمة بمفهوم التعددية السياسية وطبيعة الضوابط القانونية الحاكمة لحركة الأحزاب السياسية ومدى فاعليتها، لقد وضعت هذه الضوابط منذ بداية حكم السادات قيودا على التوجه الفكري والسياسي للأحزاب، سواء فيما يتعلق بالنصوص الحاكمة لتشكيل الأحزاب ، وشروط تشكيلها، أو القيود المفروضة على نشاطها،

حيث وضع النظام الأهداف العامة التي يجب أن تلتزم بها كافة الأحزاب وحصر الاختلاف بينها في مجال " الوسائل" فقد حدد مجموعة من القضايا القومية التي لا ينبغي الخلاف أو الجدل حولها باعتبارها تتعلق بالمصالح العليا للوطن وتمس أمنه، ومعنى ذلك أن سماح النظام بقيام أحزاب سياسية لم يعكس تعددية حقيقة،

لأنه قام على تصور أنه يمكن السماح بقيام أحزاب متعددة دون أن يؤدى ذلك إلى نقد جذري، وخلاف اساسى في الرأي مع اتجاهات الحكم، وأن الخلاف يجب أن ينحصر في التفصيلات وفى برامج التنفيذ ولا ينصرف إلى التوجهات السياسية في المجال الداخلي أو الخارجي، وأنه يمكن قيام الأحزاب مع استمرار أيديولوجية وممارسة " الإجماع السياسي" التي لا توجد عادة إلا في إطار التنظيم السياسي الواحد.

وارتبط ذلك بتضييق قنوات المشاركة السياسية من خلال القرارات والقوانين التي صدرت طوال هذه الحقبة بخصوص العمل الحزبي مثل قانون الأحزاب السياسية رقم 40 لسنة 1977 والمعدل بقانون 36 لسنة 1979، وقانون حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي رقم 33 لسنة 1978، وهى القوانين التي تضمنت حرمان بعض القوى السياسية من ممارسة العمل الحزبي، ثم القانون رقم 95 لسنة 1980 بشأن حماية القيم من العيب . والقانون 105 لسنة 1980 بشأن محاكم أمن الدولة والقانون رقم 148 لسنة 1980 بشأن حرية الصحافة، بالإضافة إلى الإبقاء على بعض القوانين المقيدة للحريات السياسية الموروثة عن الحقبة السابقة.

وهذا يعنى أن التعددية السياسية التي أرساها النظام في عهد السادات كانت تسير جنبا إلى جنب مع الإبقاء على سيطرته ورقابته على كل مؤسسات الدولة فضلا عن استبعادها لبعض القوى السياسية من المشاركة مما جعلها مقيدة على حد كبير أو محدودة.

الضعف المؤسسي

لم ترتبط عملية التحول بترسيخ القيم المؤسسية أو تقوية المؤسسات، رغم وجودها بشكل رسمي، مما انطوى على استمرا الأزمة " المؤسسية " على كافة المستويات البرلمانية والحزبية، ومثل عائقا حقيقيا أمام التحول نحو الديمقراطية ،

وقد بدت مظاهر هذه الأزمة من خلال اللجوء المتتالي إلى السياسات الرئاسية وسيطرة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية فضلا عن أسلوب اختيار القيادات والكوادر الحزبية والبرلمانية والنقابية والصحفية والذي تم في أغلب الأحيان بشكل فوقى من الرئاسة.

وارتبط هذا الشغف المؤسسي خلال السبعينات بسيطرة الطابع الشخصي على العلاقات السياسية، حيث لعبت الروابط والصلات الشخصية دورا مؤثرا في العملية السياسية وبصفة خاصة في عملية التجنيد النخبوي، وهى سمة ميزت النظام السياسي في الستينات، مما يعنى أنه رغم الافتراض النظري بضرورة اختفاء هذه السمة مع التحول نحو الليبرالية، فقد استمرت في عهد السادات مما وضع حدودا على طبيعة وآفاق هذا التحول.

وفى هذا الإطار يمكن القول أنه رغم رفع الرئيس السادات لشعار دولة المؤسسات عقب 15 مايو 1971، إلا أن ذلك لم يعكس ازديادا في دور وأهمية المؤسسات السياسية وفعاليتها ، بل ظلت السمة الغالبة هي خضوع تلك المؤسسات للسلطة التنفيذية، بل ولرئيس الجمهورية بالذات حيث اتخذت أغلب القرارات الهامة خارج إطار المؤسسات السياسية التي انحصر دورها في إضفاء الشكل القانوني والشرعية على هذه القرارات.

ويعتبر ضعف البرلمان ودوره في عهد السادات نموذجا هاما على الضعف المؤسسي، حيث استمر ضعف البرلمان كمؤسسة سياسية كما كان الحال في العهد الناصري، وتضاءل تأثيره في إطار النظام السياسي مقارنا بقوة السلطة التنفيذية، فعلى الرغم مما شهده هذا العهد من تزايد نسبى لدور البرلمان ( الذي أصبح يسمى " مجلس الشعب " منذ 1971) ولأدائه في المجالين التشريعي والرقابي ، إلا أنه ظل ضعيفا أمام السلطة التنفيذية من الناحية الواقعية ، حيث اقر دستور 1971 بمسئولية الوزارة أمام البرلمان، إلا أنه نص على أن رئيس الجمهورية هو الذي يتولى السلطة التنفيذية وهو ما وسع من سلطات الرئيس في هذا الإطار.

وقد عرف عهد السادات (1970- 1981) تكوين ثلاثة برلمانات أولها في نوفمبر 1971- حتى أكتوبر 1976، وثانيها في نوفمبر 1976، حتى أبريل 1979، أما ألأخير فهو الذي شكل في يونيو 1979، ويمكن القول إن البرلمان كمؤسسة سياسية كان أكثر استقرارا في عهد السادات عنه في العهد الناصري، اعتمادا على متوسط العمر الزمني للبرلمان ، مع ملاحظة اختلاف هذا الاستقرار،

فقد استكمل البرلمان الأول مدته الدستورية ( خمس سنوات وفقا لنص الدستور) أما البرلمان الثاني فلم يتجاوز عمره سنتين وخمسة أشهر ( أي أقل من متوسط عمر البرلمان في العهد الناصري) مما يعكس مؤشرا معينا لعدم الاستقرار إذ لم يستكمل نصف المدة المنصوص عليها في الدستور،

أما البرلمان الثالث والأخير في عهد الرئيس السادات فكان عمره الزمني عند وفاته في ديسمبر 1981 سنتين وأربعة أشهر، ولا شك أن درجة استقرار البرلمان هي احد المؤشرات الهامة على استقرار المؤسسة السياسية من ناحية ، وعلى تدعيم عملية التحول الديمقراطي من ناحية أخرى.

ولعل من أهم أسباب ضعف البرلمان كجزء من ضعف الإطار المؤسسي لعملية التحول فئ النظام السياسي بشكل عام هو انخفاض قدرته على التكيف مع الظروف والمتغيرات إلى تفرزها البيئة المحيطة، وهى سمة مرتبطة بضعفه أمام السلطة التنفيذية منذ قيام نظام 1952،

حيث اقتصرت وظيفته في أغلب الأحيان على إضفاء الشكل القانوني على ما تتخذه الرئاسة من سياسات وقرارات ( قوانين يوليو الاشتراكية في 1961 والتي كانت تعبر عن تحول جذري في الأساس الاقتصادي- الاجتماعي للنظام السياسي صدرت دون مشاركة من البرلمان) وبالمثل فإن قرار التحول على التعددية الحزبية في السبعينات تم أيضا بقرار من رئيس الجمهورية)

وإذا كانت هذه الملامح العامة للتطور البرلماني في عهد السادات تدل على الضعف المؤسسي فإن عدم الاستقرار الوزاري في ظل نفس العهد يضيف بعدا آخر لأزمة المؤسسات السياسية، فقد شهد عهد السادات الذي استمر أحد عشر عاما ( أكتوبر 1970- إلى أكتوبر 1981) تشكيلا وزاريا وتراوحت هذه التشكيلات بين تغيير وزاري شامل بمعنى تغيير رئيس الوزارة بالإضافة إلى تغيير أغلب أعضائها وتعكس هذه المؤشرات عدم الاستقرار السياسي على مستوى الوزارة كمؤسسة سياسية، وربما تكون هذه إحدى سمات النظام السايسى في مصر التي لم يطرأ عليها تغيير جوهري رغم عملية التحول التي قادها السادات.

أزمة الشرعية

واجه النظام في عهد السادات أزمة الشرعية ربما ورث بعض عواملها من نظام سلفه، وكما يشير " مايكل هدسون" فإن النظام الناصري استطاع أن يحقق ما يصفه "بشرعية تكتيكية" ولكنه فشل على المستوى " الاستراتيجي" في توليد نظام دائم للشرعية، أى أن النظام الناصري أخفق في أن يرسخ عوامل الشرعية سواء لنفسه أو للنظام الذي يخلفه من الناحية الهيكلية من خلال إنشاء المؤسسات، والمشاركة السياسية المفتوحة، وقد زاد من هذه الأزمة الضغوط التي واجهها النظام بعد هزيمة 1967، وكما يشير " هدسون" أيضا فإن نظام السادات لم يكن فقط الوريث الوحيد لمشاكل الشرعية التي خلفها النظام الناصري، ولكنه أضاف إليها مشاكل جديدة.

فلا شك أن الشخصية الكاريزمية " لعبد الناصر" لعبت دورا هاما في بناء شرعية النظام في العهد الناصري ولكن هذه الشرعية تعرضت للاهتزاز على مستويات عدة.

فعلى المستوى الداخلي رفض الضباط الأحرار اقتسام السلطة مع أى مؤسسة أو تنظيم آخر، كما تم توجيه ضربات عنيفة لبعض القوى السياسية المعارضة مثل الإخوان والشيوعيين، وعلى المستوى الاقليمى فإن التوجه القومي العربي للنظام والوحدة مع سوريا في 1958 أدت إلى ازدياد شرعية النظام ولكنها أدت هي نفسها بحلول عام 1961 ووقوع الانفصال مع سوريا إلى اهتزاز هذه الشرعية، وكانت هزيمة 1967 نقطة فاصلة ، وبحلول فبراير 1968 كانت هذه الهزيمة قد تركت آثارها على النظام داخليا وإقليميا.

وأدت هذه العوامل إلى ازدياد المطالبة بتحقيق المشاركة السياسية، ولكن ضعف المؤسسات لم يؤد إلى إشباع هذا المطلب، وكان البديل الذي اعتمد عليه النظام هو القمع. ما تجدر الإشارة إليه ليس هو لجوء النظام إلى هذا البديل، وإنما قدرته على تحمله خاصة مع دعم الجهاز البيروقراطي والعسكريين للحكم فضلا عن تنظيم الاتحاد الاشتراكي الذين كانت لهم مصالح وروابط عضوية مع مركز السلطة ، وبينما أخفق عبد الناصر في تحقيق شرعية هيكلية بالمعنى السياسي، وإلا انه كان يملك بعض الروابط الهيكلية مع المجتمع مكنته من قمع وتحجيم المنشقين على النظام.

ومنذ السبعينات أراد النظام أن يبلور صيغة مختلفة للشرعية التي اعتمد عليها العهد السابق، سواء على المستوى الاقليمى( إعلاء مشاعر الوطنية المصرية) أو الدولي ( التوجه إلى الغرب) أو على مستوى الداخلي( التحول إلى التعددية) بعبارة أخرى فإن التوجهات الجديدة للنظام كانت تفرض عليه الاعتماد على مصادر جديدة للشرعية تستمد من القيم الليبرالية والمشاركة السياسية وقوة المؤسسات ، ولكن التحدي الأساسي الذي واجه النظام هو عدم قدرته على إشباع هذه المطالب وتوفيرها فضلا عن عوامل الضغط التي نجمت عن الأزمة الاقتصادية وضعف الجهاز الادارى أو البنية التحتية للنظام.

أما التحدي الآخر الذي واجهه النظام فقد تمثل في ظهور قوى معارضة منظمة على طرفي اليمين( ممثلة في الإخوان منذ منتصف السبعينات) واليسار( القوى التي كان لها روابط بالجهاز البيروقراطي المدني والعسكري والتي انتقدت الصيغة الاجتماعية الجديدة التي اعتمد عليها النظام) ، ثم جاء التقارب المصري مع إسرائيل ليضيف تحديا جديدا لأزمة الشرعية في عهد السادات.

بروز حركات الاحتجاج السياسي والاجتماعي

ربما يكون ظهور حركات الاحتجاج السياسي والاجتماعي في شكل تنظيمات ممثلة في الجماعات السياسية الإسلامية بشكل واسع منذ منصف السبعينات أحد أهم مظاهر أزمات التحول الديمقراطي للنظام السياسي، ودون الدخول في تحليل عوامل وأسباب ظهور هذه التنظيمات ( التي سيتم الحديث عنها في الفصول اللاحقة) ، فإن ما يهم الإشارة إليه هو الأزمة الاجتماعية التي عبرت عنها هذه الجماعات حيث أتت من الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى ذات الأصول الريفية

وكان أغلبها من طلاب الجامعات مما يمكن ربطه بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة في السبعينات، فوفقا لما أثاره " بايندر" في معرض تحليله لأثر التغيرات السياسية على التركيبة الاجتماعية التي يعتمد عليها النظام- أن هذه التغييرات كانت لابد وأن تهز العلاقة بين الطبقات المتوسطة الريفية والنظام، تلك العلاقة التي كانت لابد وأن تهز العلاقة بين الطبقات المتوسطة الريفية والنظام،تلك العلاقة التي كانت الأساس الذي اعتمد عليه النظام السابق على مدى ما يقرب من خمسة وعشرين عاما.

ورغم ما يشير إليه بايندر من عدم وضوح تحيز النظام للبرجوازية المدينية على حساب البرجوازية الريفية والطلبة والعمال الذين كانوا سندا للنظام في العهد السابق بشكل مبكر، إلا أن ذلك لم يكن يرجع إلى توجه أيديولوجي معين للعهد الجديد، بقدر ما عبر عن المهارة السياسية للسادات. إذ رغم أن سياسات النظام في المجال الاقتصادي كانت تتجه في الأساس للبرجوازية المدينية إلا أن الطبقة المتوسطة الريفية وجدت فرصتها للنمو من خلال بعض السياسات الزراعية،

وهو ما جعل النظام يكسب التأييد السياسي من قبل الجناح اليميني، دون أن يستبعد الطبقة المتوسطة الريفية، لذلك فقد استمر خلال فترة انتقالية حرجة في الحفاظ على صيغة الاتحاد الاشتراكي ( التي لقيت التأييد من الطبقة المتوسطة الريفية) رغم تحوله نحو التعددية السياسية والليبرالية الاقتصادية،

فقد بدأ النظام يفقد السيطرة على البرجوازية الصغيرة في المدينة، والتي سبق أن شكلت هي نفسها تحديا للنظام الملكي في الثلاثينات قبل قيام نظام 1952، والتي أضعفت الوفد، واستطاع العهد الناصري السيطرة عليها من خلال الاتحاد القومي .

إن هذه الطبقة- وفقا لهذا التحليل – كان من الممكن ألا تشكل تهديدا خطيرا لنظام السادات، إذا ما استطاع الحفاظ على تأييد البرجوازية المدينية وأجنحة من البرجوازية الريفية المتوسطة المقيمة في المدينة، وغلبة البرجوازية الريفية المتوسطة على جانب الجيش،

ولكن تأييد هذه الفئات الاجتماعية للنظام في عهد السادات كان م شأنه إحداث تغييرات في تركيبتها بشكل يدعوها إلى إعادة ترتيب مصالحها، ومن هنا فإن سياسات النظام الجديد رغم نجاحها الجزئي في الحفاظ على نوع من التوازن الاجتماعي، كان لابد وأن تزيد من حدة التمايز في التركيب الطبقي للريف والمدينة، مما أدى إلى التنافس السياسي بينهما.

وقد تطلب ذلك على المدى الأبعد تحديدا واضحا لموقف النظام من كل منهما، أى تأييده لأي منهما وهو ما وضع النظام أمام بديلين: الأول، هو الانقلاب التام على السياسات التي ميزت الحقبة الناصرية والقيام ببناء الدولة البرجوازية .

أى إلغاء الاتحاد الاشتراكي( وهو ما تم بالفعل) وإقامة نظام تعددي وإلغاء التعاونيات والقطاع العام ورأسملة الزراعة وتقليل اعتمادها على العمالة المكثفة ، ولا شك أن الأساس الاجتماعي لهذا النظام كان لابد أن يعتمد على البرجوازية المدينية وعناصر من البرجوازية الريفية المتوسطة، وأن تفصل هذه الطبقة الجديدة عن الجيش، مع تشجيع السياسات التي تساعد على التطور الاقتصادي وإعادة توزيع الأراضي وفقا لميكانيزم السوق بما يترتب على هذه السياسات من إعادة التركيب الطبقي للقاعدة الاجتماعية للنظام، أما البديل الثاني، فيتمثل في استمرار الاعتماد على نفس الصيغة الطبقية للنظام الناصري ،أى على الطبقة في الريف وفروعها في المدينة.

فإذا كانت التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام قد مالت في المراحل اللاحقة للبديل الأول، فإن ذلك كان لابد وأن يفتح المجال لظهور حركة احتجاج رافضة بين أبناء الطبقة التي اعتمد عليها النظام السابق، والتي شعرت بالتهميش من خلال السياسات الجديدة، وهو ما يقدم بعض التفسير لظهور تنظيمات الرفض ممثلة في جماعات الإسلام السياسي معبرة عن نفس الطبقة أى البرجوازية الصغيرة الحضرية ذات الأصول الريفية في إطار التحولات السياسية التي شهدتها حقبة السبعينات.

إن المحدودية التي اتسمت بها عملية التحول الديمقرطى في حقبة السبعينات كما عرض لها هذا المبحث كان لها أثر على تحديد سياسات النظام ومواقفه إزاء القوى المعارضة ، فعلى الرغم من التحول إلى التعددية السياسية إلا أن تقييدها أدى في النهاية إلى تقليص فعالية الأحزاب السياسية التي مثلت المعارضة كما أدى في المقابل إلى نمو معارضة خارج الإطار الحزبي وفى مقدمتها القوى الإسلامية.

والواقع أن التقييد الذي شهدته التجربة الحزبية في السبعينات قد أضعف كثيرا من الفعالية السياسية للأحزاب مما جعل كلا من النظام والقوى المعارضة غير الحزبية( أى الإسلامية) هما طرفي الصراع الرئيسي أى أدى إلى وجود حالة من الاستقطاب بين الطرفين، كما كان لمحدودية التحولات أثر على الشرعية السياسية للنظام وهو ما جعله يلجأ في كثير من الأحيان إلى الاعتماد على مصادر تقليدية للشرعية جعلته يصطدم مع المعارضة الإسلامية حيث سادت علاقة تنافسية فى هذا المجال، وهو ما أضفى بعدا آخر على توجهات النظام ومواقفه إزاء هذه القوى المعارضة.

الباب الثالث

استراتيجيات النظام تجاه المعارضة الإسلامية في عهد الرئيس السادات

شهدت حقبة السبعينات بما حملته من تحولات سياسية واجتماعية هامة، صعودا لدور المعارضة السياسية، وكان أبرزها المعارضة الإسلامية التي مثلتها قوتان رئيسيتان: الأولى، هي " الإخوان المسلمين" الذين شكلوا تقليديا قوى المعارضة الإسلامية الرئيسية والأخرى، هي جماعات العنف السياسية الإسلامية التي ظهرت في نفس الحقبة.

ورغم اختلاف منهج وأسلوب التعبير عن معارضة كل منهما إلا أنهما مارسا ضغطا مستمرا على النظام منذ منتصف السبعينات، بحيث مثلا تحديا رئيسيا له في أواخر نفس العقد، وهو الأمر الذي انتهى باغتيال الرئيس السادات في 1981 على يد إحدى فصائل الجماعات الأخيرة.

في هذا الإطار يعالج الباب قوى المعارضة الإسلامية بشقيها السياسي ( الإخوان المسلمين) والعنيف( الجماعات الإسلامية) وفى المقابل يتم تحليل المواقف والسياسات المختلفة للنظام تجاه هذه القوى على المستويين: الأول، يتعلق بالسياسات والتفاعلات المباشرة بين الطرفين. والآخر، يعرض لأساليب وسياسات المواجهة غير المباشرة معهما،

وينتهي الباب بتحليل انعكاسات هذه السياسات في مجالاتها المختلفة على موقف الكنيسة القبطية والتي اتخذت موقفا معارضا في مواجهة النظام خلال نفس الحقبة.

وتتم هذه المعالجة من خلال ثلاثة فصول: يعرض الأول منها لسياسات النظام إزاء الإخوان المسلمين، مع التركيز على قضية تطبيق الشريعة السلامية، ويعرض الثاني لسياسات النظام إزاء جماعات العنف السياسي.

أما الفصل الثالث فيتناول بالتحليل المواجهة غير المباشرة والتي تمت من خلال عدد من المجالات هي: المؤسسة الدينية ( الأزهر) والمساجد الأهلية، والطرق الصوفية، والإعلام والتعليم.

الفصل الأول النظام والمعارضة الإسلامية

يتناول هذا الفصل موقف النظام من المعارضة السياسية الإسلامية ممثلة في الإخوان المسلمين ، فيعرض لمظاهر معارضة الإخوان لسياسات النظام وإستراتيجيتهم في العمل السياسي، كما يعرض في المقابل لسياسة النظام في مواجهة هذه المعارضة، وموقفه من قضية تطبيق الشريعة الإسلامية التي تحتل موقعا محوريا من مطالب المعارضة الإسلامية.

أولا: مظاهر المعارضة السياسية للإخوان المسلمين وإستراتيجيتهم في العمل السياسي

على الرغم من المصالحة التي عقدها السادات مع الإخوان المسلمين في بداية ولايته بالإفراج عن الكثير من قياداتهم ، والسماح لهم بالعودة لممارسة نشاطهم، واستئناف إصدار مجلتهم " الدعوة" إلا أن هذه المصالحة كانت مقيدة منذ البداية ، فلم يترتب عليها اعتراف شرعي من قبل النظام بالإخوان كجمعية دينية رسمية أو كحزب سياسي، وفى المقابل لم تصل مصالحة الإخوان مع النظام إلى حد الولاء السياسي للنظام أو الدعم غير المشروط،

وكما يشير بعض المحللين( أن ما فشل السادات في استيعابه في مصالحته مع الإخوان هو أنهم قد يلعبون دور الحليف ويقدمون المساندة السياسية فقط عندما يكون ذلك مرهونا بخدمة بعض أهدافهم المرحلية ، ولا يعرض أيديولوجيتهم للتهديد ، ومن ثم فعندما تعرضت المصلحة مع ما يطرحه النظام أو مع ما يهدف إليه الإخوان كان من الطبيعي أن تظهر معارضتهم له.

وتجدر الإشارة أن هذه المعارضة لم تأخذ شكلا عنيفا من قبل الإخوان أو التحدي السافر للسلطة، بل كانت أقرب إلى ممارسة الضغط السياسي على النظام بهدف دفعه إلى تقديم المزيد من التنازلات السياسية التي تخدم أهدافهم، ويمكن القول أن الإستراتيجية التي اتبعها الإخوان في مواجهة النظام قامت على مستويين:

الأول، استراتيجي يتعلق بالهدف البعيد لهم وهو إقامة دولة إسلامية ونظام اجتماعي إسلامي يعتمد على تطبيق الشريعة الإسلامية وإحلالها محل القوانين الوضعية، والآخر، تكتيكي ويختص بوسائل تحقيق هذا الهدف والتي تعتمد على القنوات والأدوات السياسية الشرعية للضغط على النظام، والاتجاه على مجالات العمل الاجتماعي والجماهيري لتغيير الوعي العام للجماهير بحيث يصبح أكثر تواؤما مع الفكر الإخوانى.

ولذلك فقد حرص الإخوان منذ عودتهم لممارسة نشاطهم السياسي في السبعينات ، على تمييز أنفسهم عن الجماعات الإسلامية التي ظهرت في نفس الحقبة ولجأت على العنف كوسيلة للتغيير السريع وصولا على نفس الهدف وهو إقامة نظام سياسي واجتماعي إسلامي، ويبدو أن تاريخ صراع الجماعة مع السلطة لعب دورا في تشكيل إستراتيجيتها الجديدة التي كانت تتيح لها فرصة لإعادة بناء نفسها ، ولم يجد الإخوان مانعا في إطار هذه الإستراتيجية من تنسيق مواقفهم مع بعض القوى المعارضة الأخرى بهدف ممارسة مزيد من الضغط على النظام.

ولكن تتبع علاقة الإخوان بالنظام لا تشير إلى اتخذها خطا واحدا فقد تراوحت بين التأييد والمعارضة التي أخذت تتصاعد منذ النصف الثاني من السبعينات وخاصة منذ 1976 وهو العام الذي شهد ميلاد التجربة الحزبية،

كما شهدت الأعوام اللاحقة تحولات أخرى على الصعيد الخارجي أهمها زيارة الرئيس السادات إلى القدس وما انتهت إليه من عقد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية إلى جانب الموقف المؤيد الذي اتخذه النظام من شاه إيران ضد الثورة الإسلامية التي أطاحت به. ويمكن تحديد ملامح المعارضة السياسية للإخوان من خلال استعراض مواقفهم تجاه أبرز قضايا هذه الحقبة.

لقد تولى عمر التلمسانى منصب المرشد العام للإخوان المسلمين في عام 1974 بعد وفاة مرشدها السابق حسن الهضيبى، وكان التلمسانى قد سجن عام 1954 حتى أفرج عنه السادات في عام 1971،

وقد أيد الإخوان العهد الجديد وأعلنوا مبايعتهم للسادات ولم تشهد السنوات الأولى معارضة من جانبهم للنظام ويبدو ذلك بوضوح من خلال موقفهم المبكر من أولى سياسات التغيير التي اتخذها السادات بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973، ممثلة في سياسة الانفتاح الاقتصادي والتوجه نحو الغرب وفى ذلك يشير التلمسانى ( إن الإخوان المسلمين يدعون إلى تحسين الصلات مع كل دول العالم الخارجي بما يعود بالنفع الكثير لأن هذه الدول ماديا تركض وراء الربح ويجب أن نصل إليهم من الطريق الذي يحبونه ونحن فتحنا الأبواب الاقتصادية للجميع..

تنافسوا إلى طرقها بما فيه نفعنا وفائدتنا) ، وحول التوجه الاقتصادي الجديد يقول ( نحن لا نطالب الأغنياء بالتخلي عن ثرواتهم بل العكس هو الصحيح، فنحن نطالب المسئولين بأن يوفروا لهم دواعي الألفة والمودة ونقول للأغنياء بارك الله لكم فيما رزقكم وزادكم بسطة في الرزق واعطفوا على الفقراء من معارفكم وجيرانكم لأن هذا يحفظ ثراءكم وينميه وتجدون عونا راضيا إذا استعنتم بهم)،

ولم يقتصر موقف الإخوان على تأييد السياسة الجديدة وإنما امتد ذلك إلى المساهمة في النشاط الاقتصادي خاصة في القطاعات المالية والتجارية والعقارية، ويؤكد المرشد العام هذا الواقع بقوله( لو نظرت اليوم إلى كثير من الشؤون العملية كالبنوك وغيرها لوجدت وراءها الإخوان المسلمين) ، وربما ساعد الإخوان على دخول المجال الاقتصادي عود الكثيرين منهم ممن هاجروا إلى الدول الخليجية في الستينات بعد أن كونوا ثروات كبيرة.

ولكن هذه السياسة المؤيدة من جانب الإخوان للسادات في السنوات الأولى لم تكن تعنى تخليهم عن ممارسة ضغوط على النظام لتحقيق بعض المطالب الأساسية لهم، والتي كان أبرزها الضغط من أجل دفع قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، وربما حملت هذه القضية بوادر الصراع الكامنة بين الجانبين حيث مثل هذا المطلب تحديا هاما للنظام، إذ أن اقتراب كل منهما من مسألة الشريعة بالتحديد كان لابد وأن يأخذ اتجاها مختلفا,

فعلى الرغم من لجوء السادات إلى استخدام الرموز الدينية بكثافة في خطابه السياسي، بل والإقدام على تضمين الدستور الجديد الذي وضعه عام 1971 مادة تشير إلى أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع أى أن الصيغة كانت تدخل في إطار سعيه لجعل الدين مساندا لسياسات النظام ومصدرا من مصادر شرعيته ،

كما عكست جانبا من رؤيته لأسلوب إدارة الصراع السياسي الدائر في ذلك الوقت. بمعنى آخر فإن اقتراب السادات من قضية الشريعة الإسلامية كانت له أهداف سياسية لا تعنى بالضرورة توجها أصيلا نحو بناء الدولة الإسلامية كما يراها الإخوان المسلمين.

ولم يكن الإخوان ليكتفوا بهذا النص في الدستور فبدأوا منذ منتصف السبعينات في ممارسة ضغوط مستمرة على النظام لتعديل الدستور واتخذ هذا الضغط مستويين: الأول، هو المطالبة بتعديل المادة الثانية من الدستور بدعوى أنه وضعت الشريعة في وضع متساو مع مصادر التشريع الأخرى.

والآخر، هو مطابقة القوانين الوضعية بالأحكام الشريعة الإسلامية، وفى هذا الإطار ذهب البعض إلى تفسير المادة الثانية من الدستور بأنها تعنى أن كل القوانين التي سبقت دستور 1971 لم تكن مطابقة للشريعة ، وبالتالي فهي غير دستورية من وجهة نظر هذا الرأي وإلى جانب هذا المطلب بتعديل لدستور وموقع الشريعة منه قدمت اقتراحات بمشاريع قوانين تهدف إلى تطبيق أحكام الشريعة في حالات محددة، ومن ذلك مشروع قانون بتحريم تداول الخمور وإنتاجها وتوزيعها في 1973 ومشروع إقامة حد الردة في 1977 وهو ما أثار حفيظة الكنيسة والأقلية المسيحية في مصر،

فضلا عن مشروع القانون بتطبيق الحدود والذي قدم في فبراير 1977، كذلك هاجم الإخوان ومعهم قطاع من الاتجاه الديني الرسمي المحافظ محاولات تعديل قانون الأحوال الشخصية باعتباره منافيا لمبادئ الشريعة، كما دافعوا عن استقلالية الأزهر من خلال مراجعة القانون الخاص به والصادر في عام 1961، وبصفة عامة فإن ضغط الإخوان من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية يتكامل مع رؤيتهم في كون أن الشريعة تمثل القضية المركزية لمجال عملهم السياسي كما تعد إحدى الأدوات الأساسية لإعادة صياغة النموذج الاجتماعي والسياسي والقانوني بما يتفق وهدفهم النهائي في بناء الدولة الإسلامية.

أما بالنسبة للتعددية السياسية، فقد كان موقف الإخوان أيضا على مستويين: الأول، هو الضغط على السلطة السياسية من اجل الاعتراف لهم بالشرعية القانونية في إطار السياسية الجديدة، والآخر، هو انتقادهم لمجمل التجربة،ومن المهم التفرقة بين موقفهم الفكري من التعددية السياسية والحزبية ، وموقفهم السياسي منها،

فبينما اتسم الموقف الأخير بطابع عملي حددته المصلحة السياسية في عودة الجماعة بشكل رسمي وقانوني إلى الحياة السياسية، إلا أن الموقف الفكري كان مختلفا جوهريا مع منطق التعددية الحزبية كما تقرها النظم الديمقراطية،

فيقول عمر التلمسانى( لقد جاءت كلمة الأحزاب في القرآن يحوطها الشر والعدوان، لقد بلونا بالأحزاب والهيئات في مصر طوال نصف قرن فلم نلق فيها إلى العلقم والمر.. إذا كانت الأحزاب قد زالت من مصر حينا فقد عادت مثل ما تحمله معها من أثقال) بل ويطالب السلطة بإلغاء الأحزاب القائمة بدعوى أن الشيوعيين يسيطرون عليها ويتساءل ( لماذا يمنح العهد الحالي للشيوعيين شرعية قانونية تبدو في شكل أحزاب يحترم الحكم وجودها بما يوطد لهم قواعدها ويمهد لهم الطريق للوصول إلى ما يهدفون إليه) .

والواضح أن هذا الموقف من الأحزاب الأخرى ومن الحزبية بشمل عام يثير المسألة على مستوى مفهوم التعددية لدى الإخوان واختلافه عن المفهوم الحديث لها كما تقرها النظم الديمقراطية.

وقد انتقل الإخوان من موقع التأييد في بداية حكم السادات إلى موقع المعارضة وأخذت مجلة الدعوة لسان حالهم وكذلك مجلة الاعتصام تزيد من انتقاداتها للسياسات الداخلية للنظام، وبدا ذلك خلال أزمة يناير 1977 ، حيث نددت بالإجراءات الاقتصادية التي اتخذها النظام برفع الدعم عن بعض السلع الغذائية والتي تسببت في تلك الأزمة،

وجاء هذا الموقف بعد تأييد الإخوان المبكر لسياسة الانفتاح الاقتصادي، فضلا عن انتقاد سياسات النظام في مجال الحرية السياسية وحرية التعبير والتنظيم، وطالب كتابهم في الدعوة بالتوسع في تلك الحريات ومنحهم حق تكوين حزب سياسي، كما طالبوا في المقابل بالأخذ بنظام الشورى باعتبارها تعبر عن نظام الحكم في الإسلامى، وضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية.

ولم تقف معارضة الإخوان عند حد القضايا الداخلية وإنما امتدت لتشمل السياسة الخارجية وخاصة في المجال الاقليمى حيث أثارت زيارة السادات للقدس عام 1977 هجوما من الإخوان على السياسة المصرية إزاء إسرائيل، وكانت مجلة الدعوة بدورها هي المنبر الرئيسي الذي عبروا من خلاله عن هذه المعارضة ،

وقد عبر المرشد العام في ذلك الوقت عن هذا الموقف بقوله( نحن ننظر إلى الأمر من الناحية العقيدين التي تحرم على المسلم أن يرضى باقتطاع جزء من أرضه مختارا، فإن أرغمته القوة على إقرار الاغتصاب فلا يرضى من ناحيته أن يعطى الرضا الاختياري، ونحن لا نتهم النوايا لأن هذا يحرمه الإسلام، ولكن قلنا وجهة نظر الإسلام في الموقف).

ثانيا: سياسة النظام تجاه الإخوان المسلمين

بدأت العلاقة بين السادات والإخوان في السنوات الأولى لحكمه وحتى منتصف السبعينات يحكمها طابع التعاون قبل أن تظهر على السطح بوادر التوتر بين الجانبين بعدها اتخذ الإخوان جانب المعارضة لسياسات النظام، وقد سعى السادات في البداية لاحتواء هذه المعارضة، ثم أخذ في تقديم بعض التنازلات السياسية إليها. إلى أن انتهى الأمر إلى المواجهة بينهما في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات.

سعى السادات إلى كسب ولاء وتأييد الإخوان له، وكان أهم مؤشر إيجابي على ذلك هو إخراج قياداتهم من السجون، وقد بدأت هذه العملية منذ توليه السلطة، وإذا كان هذا المؤشر قد عكس جانبا من التوجه التقليدي للمصالحة السياسية التي قد يقدم عليها أي رئيس جديد مع الخصوم السياسيين للعهد الذي سبقه سعيا لمزيد من التأييد له، إلا أن تعاون السادات مع الإخوان قد أخذ أبعادا أشمل، وبدأت تتضح ملامحه مع تبلور سياسات النظام في المرحلة التالية، لحر بأكتوبر،

فكما يشير صلاح عيسى ( بدأت تتضح في الأفق بوادر تحالف جديد بين الإخوان المسلمين والسلطة السياسية تعيدنا مرة أخرى إلى تحالفات الحلقة الأولى بينهم وبين السلطة في بداية العد الناصري وهو ما علق عليه حسن الهضيبىالمرشد العام الثاني بعد حسن البنا- بأنه هدنة طويلة الأجل بين الإخوان والسادات،

قد أتت سياسة المصالحة التي اتبعها نظام السادات مع الإخوان في بداية عهده ضمن توجهه العام لتوليد مصادر شرعية جديدة للحكم بدأها بالتأكيد على الرموز والمعاني الدينية ورفع شعار دولة العلم والإيمان فضلا عن تحقيقه بعض الأهداف السياسية والتي كان يأتي في مقدمتها الوقوف في وجه بعض التيارات السياسية وخاصة الناصرية والتي كان لها وجود ملموس خاصة في الأوساط الطلابية في بداية السبعينات،

ولكن منذ عام 1974 وعندما بدأ يبرز نوع آخر من المعارضة اشد عنفا في تحديها للسلطة ( أي ظهور أول جماعة سياسية إسلامية والتي قامت بحادث الفنية العسكرية) ، بدأت سياسة السادات نحو الإخوان تأخذ بعدا آخر، فلم يقتصر الأمر على مواجهة قوى اليسار وإنما امتد ليشمل القوى السياسية الدينية الجديدة التي بدأت تشكل عنصرا للتهديد وعدم الاستقرار.

وربما سعى السادات للتعاون مع الإخوان في هذه المرحلة تحقيقا لهدفين:

الأول، هو الاعتماد عليهم في احتواء تيار العنف الذي مثلته الجماعات الإسلامية الجديدة، والآخر، هو خلق نوع من الانشقاق داخل الحركة السياسية الإسلامية بالتفرقة بين جناحيها أي الإخوان والجماعات، وقد قامت هذه التفرقة على أساس سياسي في المقام الأول، واعتمدت على التمييز بين الإستراتيجيتين اللتين اتبعهما كل من الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى في تعاملها مع النظام،

ولكن على الرغم من صحة هذا التمييز إلا أنه لم يأخذ في الاعتبار الإيديولوجية والمساس الفكري اللذين قام على أساسهما كل من هاتين القوتين، والذي كان لابد وأن يجعل اعتماد النظام على أحدهما في مواجهة الآخر أمرا يتسم بالكثير من التعقيد،

وربما كان هذا العامل وراء محدودية تنفيذ هذه السياسة طوال السبعينات ، حيث لم يفلح اعتماد السادات على الإخوان في تقليص مساحة العنف التي شهدتها هذه السنوات، ولا في الحد من انتشار وظهور الجماعات الإسلامية الأخرى وهو الأمر الذي استمر حتى نهاية حكم السادات.

وعلى الرغم من صعوبة الحكم على فترة التعاون الأولى بين السادات و الإخوان بأنها فترة ولاء كامل من جانب الإخوان للنظام أو احتواء كامل من جانب النظام للإخوان، إلا أنها عكست نوعا من المهادنة السياسية بين الجانبين،

وقد استمر هذا الوضع حتى عام 1976 حينما بدأت بعض الخلافات تظهر على السطح بسبب الضغوط التي مارسها الإخوان لعودة الشرعية إلى الجماعة، ومعارضتهم لبعض سياسات النظام، وعلى الرغم من عدم استجابة السادات للمطلب الأول

إلا أنه حرص منذ البداية على أن لا يتخذ هذا الرفض شكل المواجهة، ويمكن تفسير هذا الحرص في تعامل النظام مع الإخوان في ضوء رغبته في الحفاظ على الوجه الليبرالي للنظام، وتجنب الدخول في صدام مع أبرز القوى السياسية الإسلامية للتهدئة من حدة المعارضة الإسلامية العنيفة.

ومن هنا فقد عمد السادات على إتباع سياسة مرحلية أخرى في التعامل مع المطالب السياسية للإخوان تقوم على " الاحتواء" وتجسد ذلك في السماح لهم بإعادة إصدار مجلتهم " الدعوة" التي توقفت عن الصدور منذ عام 1954 أي بعد انقطاع دام لما يقرب من 22 عاما، ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن هذا السماح بعودة الدعوة على الصدور جاء بقرار سياسي دون وجود ترخيص قانوني لها.

وإذا كانت هذه السياسة قد حققت قدرا من النجاح النسبي باكتساب الإخوان وضعا " شبه شرعي" لتحييد مطلبهم الرئيسي إلا أن ذلك لم يدم طويلا. حيث استمر هذا المطلب يشكل ضغطا مستمرا على النظام فضلا عن وقوف الإخوان موقف المعارضة من سياساته خاصة بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في 1978، وهو ما دعا السادات إلى تقديم بعض التنازلات في إطار سياسته لاحتواء الإخوان.

ومن ذلك تعيين بعض الشخصيات القريبة منهم في بعض المنصب الهامة وكما يروى التلمسانى فقد عرض السادات في ديسمبر 1979 منحه مقعدا في مجلس الشورى إلا أنه رفض قبول هذا العرض، وقد أتت هذه المحاولة بعد تزايد حدة المعارضة السياسية التي مارسها الإخوان ضد سياسات السادات خاصة بعد توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية، ويبدو أن المطالب السياسية للإخوان كانت تتجاوز بكثير ما عرضه السادات على المرشد العام في ذلك الوقت.

وبالإضافة على ذلك فربما شجع المناخ العام الذي ساد في أواخر السبعينات الإخوان على ممارسة مزيد من الضغوط على النظام- فقد اشتدت حدة المعارضة السياسية والحزبية لسياساته، كما تزايد انتشار جماعات العنف الإسلامية، وكلها عوامل تشكل مناخا ملائما- من وجهة نظر الإخوان للضغط على النظام ودفعه لتقديم مزيد من التنازلات السياسية.

وإزاء هذا التحدي لجا النظام على أسلوب الهجوم على الإخوان واتخذ إجراء حاسما بوقف مجلة الدعوة في سبتمبر 1981 حيث أشار السادات في خطاب له( الإخوان المسلمين كجمعية غير موجودة رسميا وغير شرعية لأنه بمقتضى قرار مجلس قيادة الثورة الجمعية محلولة فليست هنا كجمعية ولا حق لها في إصدار مجلة الدعوة).

ثالثا: النظام وقضية تطبيق الشريعة الإسلامية

يعتبر مجال تطبيق الشريعة الإسلامية أحد المجالات الهامة التحى شهدت صراعا صامتا بين الإخوان ومؤيديهم من التيار الإسلامى من ناحية والنظام من ناحية أخرى، فقد حاول الإخوان استخدامك الأداة التشريعية كإحدى الوسائل الرئيسية لممارسة مزيد من الضغوط السياسية على النظام، وتجدر الإشارة هنا إلى ملاحظة أساسية وهى اختلاف إدراك كل من الطرفين لمسألة تطبيق الشريعة الإسلامية " فانطلاقا من أيديولوجية الإخوان فإن هذه المسألة تصبح محورا رئيسيا لإقامة " المجتمع الإسلامى" وفقا لرؤيتهم ،

ومن هنا فإن الضغط من أجل تغيير القوانين القائمة وإحلالها تدريجيا بأحكام الشريعة الإسلامية يعتبر جسرا رئيسيا " لأسلمة" المجتمع تحقيقا للهدف السياسي البعيد الذي يرنو إليه الإخوان، وفى المقابل فإن طرح النظام لمسألة الشريعة الإسلامية كما عبر عنه مبكرا خلال المادة الثانية من الدستور كان له اتجاه سياسي مختلفا

إذ كانت هذه المسألة أحد الأدوات السياسية التي اعتمد عليها السادات لإدارة الصراع السياسي الذي شهدته السنوات الأولى من الحكم والذي دار بشكل رئيسي بينه وبين قوى اليسار، وفى هذا الإطار فقد عمل النظام على أن لا تتجاوز هذه القضية- أي قضية الشريعة- ما تقتضيه مصلحته السياسية.

ومن الملاحظ للسياسة التي اتبعها النظام في مجال تطبيق الشريعة لم تتخذ شكل المواجهة مع التيار الإسلامى وإنما سارت في اتجاهين: الأول، احتواء مطالب المعارضة الإسلامية من خلال الاستجابة الجزئية لبعض مطالبها، الآخر، هو تبنى نفس المطالب وطرحها من خلال ممثلي الحكومة، وتكشف الممارسة السياسية داخل مجلس الشعب طوال سنوات السبعينات بعض ملامح هذه السياسة.

فقد اتخذت الضغوط التي مارسها التيار الإسلامى من خلال القناة التشريعية شكل التقدم بمجموعة من مشاريع القوانين التي تتعلق بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المجالات الاجتماعية المختلفة ومن ذلك مشروع قانون في عام 1972 خاص بإقامة حد السرقة، وإلزام المرأة العاملة بارتداء الحجاب، ومنع الرجال من العمل في بعض مجالات العمل الخاصة بالتعامل مع السيدات( 1973) ،

ومشروع قانون خاص بمنع تداول الخمور أو إنتاجها ،( فئ نفس العام) ، وتطبيق الحدود( 1977) ومشروع قانون خاص بتقنين وتنظيم جمع الزكاة فضلا عن مشروع قانون بتشديد العقوبة على المفطرين في رمضان، ورغم أن أغلب هذه المشاريع بقيت حبيسة اللجان المختلفة داخل مجلس الشعب

إلا أن نجاح الإستراتيجية التي اتبعها التيار الإسلامى في هذا المجال تمثل في قدرتهم على فرض هذه المشاريع على جدول إعمال مجلس الشعب خلال هذه الفترة، كما قام نفس التيار بالضغط من أجل تعديل المادة الثانية من الدستور والمتعلقة بموقع الشريعة الإسلامية في مجال التشريع المصري، والمطالبة بجعلها المصدر الرئيسي وليس مجرد مصدر من مصادر التشريع.

وإزاء هذه الضغوط لجأ النظام إلى ممثلي الحكومة فئ المجلس إلى تعطيل بعض هذه المشاريع ثم التقدم ببعض مشاريع القوانين المماثلة لسحب البساط من تحت أقدام ممثلي التيار الإسلامى، وبدت هذه السياسة خلال النصف الثاني من السبعينات حيث كانت أهم المؤشرات على ذلك هو حكم المحكمة الدستورية العليا في 1975 ،

والذي قضى بأن الشريعة هي إحدى الركائز الأساسية للحكم على مدى دستورية القوانين الحالية والقوانين الجديدة، كما شكلت لجنة مجلس الشعب برئاسة القاضي جمال صادق المرصفاوى لمراجعة كافة القوانين السارية في مصر ومطابقتها بأحكام الشريعة وفقا لما تنص عليه المادة الثانية من الدستور ،

كما تقدمت بدورها بعدد من مشاريع القوانين تعكس نفس التوجه وتتعلق بمجال القانون الجنائي ومن ذلك تطبيق حد السرقة، وتحريم تداول الخمور والفائدة في المعاملات الاقتصادية، وإقامة حد الزنا، وتطبيق عقوبة الإعدام على المرتد وهو ما أثار احتجاجا شديدا من الأقلية المسيحية ، وإذا كانت أغلب مشاريع هذه القوانين قد بقيت بدورها في اللجان إلا أنه في بعض الخالات تم التوصل إلى حل وسط، ومن ذلك إقرار مشروع القانون الخاص بتحريم الخمور في مايو1976 إلا في الأماكن السياحية.

وإذا كانت هذه السياسة عكست بعض محاولات النظام لتحييد واحتواء المعارضة الإسلامية في المجال التشريعي، فقد قام في المقابل بإقرار قوانين مغايرة لهذا الاتجاه وفى مقدمتها تعديل القانون الخاص بالأحوال الشخصية الذي بقي جامدا منذ صدوره في العشرينات ،

وقد لقيت هذه المحاولة معارضة شديدة من ممثلي التيار الإسلامى- خاصة وأنه قد تم إجهاض محاولة مماثلة في الستينات لتعديل نفس القانون من قبل الأزهر، وتكرر نفس الموقف في السبعينات حيث وقف الشيخ عبد الحليم محمود خلال فترة توليه منصب شيخ الأزهر( 1972-1978) موقف المعارض لهذا التعديل وقدم مشروع قانون مضاد أعده مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر ،

ورأس اللجنة التي تقدمت به على مجلس الشعب في فبراير 1977، ولم يتم إقرار التعديلات المقترحة إلا بعد تدخل الرئيس السادات حيث استخدم السلطات المخولة له في إصدار قرارات لها قوة القانون في الأمور العاجلة في فترة عد انعقاد المجلس، وتم ذلك في الفترة من أبريل 1979 إلى يونيو 1979 ، حيث صدر قرار جمهوري بهذا الشأن وتم إقراره في مجلس الشعب في 3 يوليو 1979.

ورغم هذا الصعود والهبوط في مجال تطبيق الشريعة الإسلامية إلا أن الدلالة الهامة على التحول فيما يتعلق بسياسة النظام في المجال التشريعي جاءت بعد أقل من عام على تعديل قانون الأحوال الشخصية، حيث أقدم على أهم خطوة تشريعية في هذا الاتجاه وذلك بتعديل المادة الثانية من الدستور في 30 أبريل 1980 بحيث تنص على أن " مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع" وليس مصدرا من مصادر التشريع،

وربما جاءت هذه الخطوة في جانب منها لامتصاص غضب المعارضة الإسلامية على تعديل قانون الأحوال الشخصية، كما عكست فى جانب آخر محاولة النظام لمواجهة المعارضة اليسارية خاصة وأن التحضير لهذا التعديل الدستوري تصادف مع وقوع أحداث 18، 19 يناير والتي كشفت عن استمرار الصراع بين النظام وقوى اليسار، بمعنى آخر استحدثت مسألة الشريعة الإسلامية كأداة من أدوات النظام السياسي لإحداث نوع من التوازن بين القوى السياسية المختلفة للحد من دور التيار اليساري على اختلاف توجهاته الفكرية( ناصريين وماركسيين) مقابل دعم التيار الديني وهو شكل من أشكال توظيف الدين في الصراع السياسي.

ولكوى تبقى لهذه الخطوة الخاصة بالتعديل الدستوري لسنة 1980 دلالاتها الأخرى إزاء القوى الإسلامية التي أراد السادات أن يدعمها سياسيا في البداية ، حيث تمثل نقطة تحول هامة في مسار النظام القانوني في مصر، يعكس عمق الصراع السياسي بين الحركة الإسلامية والنظام السياسي المصري في عهد السادات،

فالدستور في النهاية هو بمثابة تقنين لحركة الصراع في المجتمع بأبعادها السياسية والاجتماعية المختلفة ، كما أنه معبر عن أهم القضايا التي تشغل المجتمع، ومن هنا يمكن اعتبار قضية الشريعة الإسلامية في السبعينات من أهم القضايا المحورية التي فرضت نفسها على النظام والنخبة السياسية ، والتي ترجمها التعديل الدستوري في 1980.

وتشير المتابعة التاريخية للدستور قبل نظام يوليو 1952 ، إلى وجود نص تقليدي يفيد بأن " الإسلام دين الدولة" ويتضح ذلك من خلال المادة 149 في دستور 1922 ، والمادة 138فى دستور 1930 ، وهو نص لا يرتب التزاما مباشرا على الدولة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وقد عكس هذا الوضع طبيعة الصراع السياسي والاجتماعي الذي شهدته مصر في العشرينات والثلاثينات والأربعينات من هذا القرن، وطبيعة الأحزاب السياسية التي سيطرت على المجتمع السياسي في تلك العقود،

إذ لم تكن مسألة الشريعة تدخل ضمن أولوياتها السياسية والاجتماعية، بل أنها نوعت بحكم تركيب النخبة السياسية التي حكمت( وعلى رأسها حزب الوفد) إلى تقنين نوع من " العلمانية" سواء على مستوى الحركة السياسية أو الفكر السياسي والاجتماعي، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على الوضع القانوني والدستوري( والاستثناء التاريخي الهام في هذا المجال هو جماعة الإخوان المسلمين) .

وبالتالي فلم تكن قضية الشريعة الإسلامية وفق هذا السياق السياسي والاجتماعي قبل 1952 تلح على النظام بحيث تدفعه إلى تنظيمها وتقنينها على مستوى الدستور.

وقد ظل هذا الاتجاه سائدا في الدساتير المتعاقبة حتى بعد 1952، كما توضح المادة 3 من دستور [1956]]، والمادة 5 من الدستور المؤقت لسنة 1964، مع استثناء دستور 1958، وهو الدستور الوحيد الذي لا توجد هبه إشارة إلى دين الدولة، وقد عكس هذا موقفا في علاقة الدين بالنظام السياسي المصري وإن لم يحسم القضية المحورية بترجمة هذا النص عمليا إلى أحكام ملزمة،

ولهذا فقد ظلت قضية الشريعة الإسلامية مثارة تخفت وتعلو حينا آخر وفق ما يحدده مسار الصراع السياسي والاجتماعي بين النظام والقوى السياسية المختلفة، ويبدو ذلك واضحا من المقارنة بين عهدي عبد الناصر والسادات فقد أدى اشتداد قبضة النظام على المؤسسة الدينية والمواجهة السياسية العنيفة مع حركة الإخوان المسلمين في الخمسينات إلى تحجيم الاتجاهات السياسية الإسلامية، وبالتالي خفوت المطالبة بتطبيق النظام القانوني الإسلامى وهو ما عكسه الدستور المؤقت لسنة 1964.

ولم تبرز قضية الشريعة الإسلامية على الساحة السياسية مرة أخرى إلا بعد هزيمة 1967 وما صاحبها من اهتزاز داخلي عنيف للنظام الناصري، وقد أخذت هذه القضية شكلا متصاعدا في عهد السادات نتيجة لتنامي الدور السياسي لعناصر الحركة الإسلامية والتي أصبحت تشكل قوة سياسية واجتماعية ضاغطة من ناحية ،

وبطبيعة التفاعلات المختلفة بينها وبين النظام السياسي في السبعينات من ناحية أخرى، وربما تعكس الفترة من 1971 حين وضعت المادة الثانية في الدستور الدائم المتعلق بموقع الشريعة الإسلامية في مجال التشريع المصري إلى مايو 1980 عندما تم تعديلها لتصبح هي " المصدر الرئيسي للتشريع" مسار هذه التفاعلات ، ومدى قوة كل من طرفيها على توجيه الصراع السياسي.

فإذا كان أحد الأهداف المبكرة لسياسة النظام في مجال الشريعة الإسلامية هو استخدامها كأداة لتجميع القوى الإسلامية في مواجهة القوى اليسارية، إلا أن تزايد نفوذ القوى الإسلامية قد خلق وظيفة أخرى لتعامل النظام مع " مسألة الشريعة" فقد استفادت هذه القوى- من تحجيم النظام لباقي القوى السياسية، فضلا عن الشعارات الإسلامية التي مزجها بخطابه السياسي لتحقيق مزيد من الهيمنة على الحياة السياسية والاجتماعية، والتغلغل في قطاعات جماهيرية واسعة بحيث أصبحت تشكل نفوذا مضادا للنظام في بعض الأحيان،

وقد لجأت هذه القوى وعلى رئسها الإخوان المسلمين إلى استخدام " قضية الشريعة الإسلامية" كأداة صراعية مع النظام السياسي ومعيار للحكم على مدى شرعيته الدينية وشرعيته السياسية في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية، وإزاء هذا التحدي أصبحت قضية الشريعة الإسلامية إحدى أدوات الصراع السياسي للنظام في مواجهته لهذه القوى، وكما لعبت دورا توازنيا في بداية السبعينات لمواجهة قوى اليسار، فقد أدت دورا مشابها في أوائل الثمانينات ولكن في مواجهة القوى الدينية المتشددة والعنيفة

وقد لا تقتصر دلالة هذا التغيير الدستوري بشأن " موقع الشريعة الإسلامية" في التشريع المصري الذي أقدم عليه الرئيس السادات في عام 1980 على عوامل الصراع السياسي التي حكمت التجربة السياسية في السبعينات وحدها،

وإنما يمكن أن نجد تفسيرا أيضا من خلال تحليل طبيعة الأيديولوجية التي عبر عنها النظام والإطار المرجعي للنخبة السياسية الحاكمة والتي تحدد في النهاية الملامح العامة لسلوكه وسياساته فكما يشير السيد يسين( أن إدراك الصفوات السياسية الحاكمة للواقع الاجتماعي ، في مجتمع ما ،

واختياراتها الأيديولوجية والقيمية والثقافية هو البداية الصحيحة لفهم مارساتها وسلوكياتها السياسية ، والاقتصادية والاجتماعية) وقد كانت أيديولوجية النظام منذ عام 1952 خليطا غير متجانس من رؤى فكرية عديدة بعضها ينحو نحو الحداثة والآخر مستمد من المكونات الثقافية التقليدية، وهو ما جعل سياسات النظام- في مجملها- وفى عهديه المتتاليين تكتسب طابعا انتقائيا إزاء القضايا والأزمات التي تواجهها دون أن يكون لها اتجاه فكرى واحد أو متسق.

ولا شك أن هذه السمة تفسر إلى حد كبير طبيعة إدراك الرئيس والنخبة السياسية لموقع الدين من سياسات النظام.وربما عبر الرئيس السادات أفضل تعبير عن هذه التوفيقية الفكرية لأيديولوجيته السياسية،وإن كان قد مال إلى المكونات التقليدية وهو ما ظهر من خلال إحيائه للقيم والرموز التقليدية والدينية ، التي عكستها شعاراته السياسية، فضلا عن حرصه على إظهار اتجاهه الإسلامى كشخص متدين وكثرة استخدامه اللغة الدينية في خطبه السياسية.

ولا شك أن الخطاب السياسي جزء لا يتجزأ من الأيديولوجية الرسمية للنظام إذ يتضمن مجموعة المفاهيم التي يتم من خلالها عرض سياسات وقرارات السلطة في كافة المجالات، ويلاحظ في فترة الرئيس السادات ازدياد مساحة الخطب في المناسبات الدينية فضلا عن كثرة استخدامه للرموز والشعارات الدينية فيها.

ومن هنا يعتبر العامل الديني في تصور وإدراك الرئيس السادات أحد المصادر الفكرية السياسية التي يتم توظيفها سياسيا وتمثل ذلك فى اتجاهين: الأول، هو الاعتماد عليه كعنصر رئيسي ومصدر للقيم، وهذا المنظور استخدمه النظام كأداة للتعبئة الجماهيرية من ناحية، والهجوم على خصومه السياسيين من ناحية أخرى.والثانية، اعتبار الرافد الديني منطلقا رئيسيا لأيديولوجية سياسية يقوم بتوجيهها بهدف دعم سياساته وإضفاء الشرعية عليها.

وتوافقت هذه التوجهات الفكرية والسياسية للنظام في السبعينات مع طبيعة التركيبة الاجتماعية للمؤسسات السياسية في هذه الحقبة، إذ على الرغم من التحولات السياسية التي شهدها عقد السبعينات إلا أن ذلك لم ينعكس على طبيعة التشكيل السياسي والاجتماعي للمؤسسات بما يتوافق وعملية التحول الديمقراطي، حتى أنها لم تتعرض لعملية تحديث سياسي أو اجتماعي وإنما على العكس فقد خضعت لنوع من إعادة التكوين التقليدي لها- كما سبق شرحه- ارتبط بالتوجهات السياسية التقليدية للنظام في هذه الحقبة من ناحية ،

وبالقاعدة الاجتماعية التي اعتمد عليها لتوفير الدعم السياسي من ناحية أخرى، والتي تجد جذورها في الريف حيث تشكلت من الأعيان والبرجوازية الريفية إلى جانب بعض شرائح من البرجوازية الحضرية، ولا شك أن هذه التركيبة الاجتماعية كانت أميل في سلوكها السياسي إلى الاتجاهات التقليدية والمحافظة.

وقد شهدت الفترة منذ نهاية الستينات إلى أواخر السبعينات نموا للدور السياسي لأعيان الريف وتزايده وعكست الانتخابات البرلمانية في عهد السادات والتشكيل الاجتماعي لمجلس الشعب نموا لهذه القاعدة الاجتماعية والقوى السياسية الممثلة لها.

وقد عبر هذا التيار في النخبة السياسية عن الاتجاه المحافظ الذي ساد التوجهات التشريعية في مجلس الشعب والذي قدم دعما – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- للتيار الإسلامى ، وكان له دور في التطورات التي شهدتها قضية تطبيق الشريعة الإسلامية على الساحة البرلمانية، وراء أهم تعديل دستوري شهدته مصر في مطلع الثمانينات فيما يختص بشأن القضية.

الفصل الثاني النظام وجماعات العنف السياسي

في مقابل المعارضة السياسية الإسلامية التي مثلها الإخوان المسلمين ، شهد عقد السبعينات بروز نمط آخر من المعارضة الإسلامية اتخذ منهجا سياسيا مغايرا يتمس بالعنف ويجعله وسيلته الأساسية لمناهضة النظام، ومثل هذا النمط الجماعات الإسلامية التي ظهرت خارج نطاق جماعة الإخوان المسلمين .

ويتعرض هذا الفصل لهذه الجماعات والأسباب السياسية والاجتماعية لظهورها، وموقفها من النظام وإستراتيجيتها في العمل السياسي، كما يعرض في المقابل لمواقف النظام وسياساته في مواجهتها.

أولا: المدخل السياسي والاجتماعي لتفسير ظهور جماعات العنف

بالرغم من وجود مداخل عديدة لتحليل ظاهرة العنف لدى الجماعات الإسلامية المعاصرة كظاهرة سياسية- اجتماعية وكمظهر من مظاهر التحدي الذي يواجه أغلب النظم السياسية في المنطقة العربية- الإسلامية. فسوف يتم التركيز على المدخل الخاص بالتحديث إذ أنه يقدم إطارا تحليليا للمرحلة الانتقالية التي تمر بها هذه النظم- وهو ما ينطبق على النظام السياسي المصري خاصة في مرحلة السبعينات التي شهدت تغيرات واسعة في توجهات النظام وسياساته وتعتبر من المراحل الانتقالية التي عادة ما تصاحبها مشكلات عديدة في عمليات التحول السياسي والاجتماعي.

يرجع كثير من المحللين السياسيين ظهور جماعات العنف على فشل النظام السياسي في قيادة عملية التحديث ومن ثم ينظر إلى هذه الظاهرة على أنها صورة من صور الرفض الناتجة عن هذا الإخفاق. فيرى " مايكل هدسون" مثلا في دراسته عن الإسلام والتنمية :

الدين والتغيير السياسي الاجتماعي أن ظاهرة الإحياء الديني على المستوى السياسي هي نوع من الارتداد إلى التحديث أو كما يسميها " بوال" التنمية السياسية السلبية ، إذ أنه وفقا للمعايير الغربية لتحديث النظام السياسة تعتبر" العلمانية" معيارا أساسيا وجوهريا في عملية "التنمية السياسية" و بالتالي فإن الإخفاق في التحول نحو هذا لاتجاه يعد نوعا من أنواع الارتداد على مجمل عملية التنمية من المنظور التحديثي.

وقدمت إسهامات عديدة من كثير من علماء السياسة لتحليل الإشكالية الخاصة بالعلاقة بين الإسلام كنظام أساسي للقيم في المجتمعات العربية والإسلامية وبين العلمانية كمفهوم التنمية السياسية، ورأى البعض إمكانية التحول من التقليدية إلى الحداثة من خلال التغيير التدريجي في الاتجاه المعرفي السائد ومن ذلك ما قدمه دونالد سميث" عن الإسلام كدراسة حالة لإمكانية التغيير القيم بما يتوافق واحتياجات المجتمعات الحديثة.

وفى الدراسة الهامة التي صدرت عام 1963 تحت عنوان سياسات التغير الاجتماعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشير " مانفريد هالبرن" إلى الأثر المزدوج الذي تحدثه عملية التحديث، فمن ناحية قد يتم إدماج الدين والقيم التقليدية تحت تأثير التحولات الهائلة لعملية التحديث، وتحت ضغط متطلبات الطبقة الوسطى الجديدة كما يسميها " هالبرن" والتي يفترض فيها أن تقود عملية التحديث،

ولكنه في المقابل يشير على أن هناك احتمالا آخر بأن تؤدى نفس العملية إلى رد فعل عكسي، يفتح المجال لظهور الحركات الاجتماعية الشمولية التي تعبر من وجهة نظره عن نوع من الإحباط الاجتماعي والنفسي في مواجهة التغيرات التي تستلزمها عملية التحديث، ومن هذا المنظور يرى" هالبرن" أن الحركات الدينية الشعبوية هي رد فعل على هذه العملية، وأنها من الزاوية الاجتماعية تعبر عن أزمة الطبقة الوسطى.

وقدم " هالبرن" تحليلا متميزا عن الطبقة الوسطى، في بلدان الشرق الأوسط حيث اعتبر أن السلطة في هذه البلدان تقود إلى الثروة ، أكثر مما تقود الثروة إلى السلطة، ووفق هذا المنظور أشار إلى أن الطبقة الوسطى في هذه المجتمعات لم تأت مثلما حدث في الغرب حيث وجدت بعد عمليات التحديث، وبالتالي دافعت عن النظام القائم، وإنما على العكس وصلت الطبقة الوسطى في بلدان الشرق الأوسط إلى السلطة قبل أن تؤكد مكانتها الاجتماعية ومن ثم استخدمت سلطتها ليس للدفاع عن النظام ونمط الملكية وتوزيع الثروة السائد ولكن لخلقهما ، وخلق أدوات السلطة معهما.

وفى إطار معالجة نفس هذه الأزمة يرجع" جيمس بسكاتورى" أسباب حركات الإحياء الإسلامى إلى أزمة التنمية التي تشهدها معظم المجتمعات العربية والإسلامية والتي سببت من وجهة نظره ضغطا على نمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أدى إلى الارتداد إلى الرموز التقليدية في المجتمع،

وأهمها الرموز الدينية، ويركز " بسكاتورى" في هذا الإطار على أزمة عملية " التحضر" وما أدت إليه من تناقضات حادة بين الريف والمدينة، خاصة على مستوى القيم الحاكمة للمجتمع بسبب التقليدية الشديدة لمنظومة القيم السائدة في الريف والتي تقود إلى ارتباك وتناقض على مستوى القيم الحاكمة للمجتمع ككل من جراء عملية الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة.

ويثير " دكمجيان" القضية من زاوية أزمة الشرعية التي يتعرض لها النظام أثناء عملية التحديث فيشير على أن عملية بناء الشرعية تعتبر واحد من أهم العوامل في بناء الدولة الحديثة، ووفق هذا المنظور اعتبر أن انتشار الجماعات الإسلامية المعاصرة بمثابة نوع من رد الفعل على إخفاق النخبة السياسية في بناء نظام عام يحظى بالشرعية ويعزو بسكاتورى في معرض تحليله لأزمة الشرعية الأسباب على الضعف المؤسسي لأغلب هذه النظم،

وهو ما جعلها في كثير من الأحيان تبتعد عن المصادر العقلانية للشرعية وميلها إلى تبنى المصادر التقليدية وأهمها الدين، وهو ما جعل الإسلام بدوره مصدرا أساسيا لشرعية في المجتمع سواء لإضفاء الشرعية السياسية على النظام أو للتعبير عن المعارضة مثلما ظهر في حركات الاحتجاج الاجتماعي ذات الطابع الديني.

ويشير" بسكاتورى" أيضا إلى أزمة الهوية أو الانتماء التي يسميها "دانيال بيل"( بالشكل الجديد للتوحد الذي يربط حاضر الفرد بالجماعة والتاريخ) وينتهي هذا التحليل إلى القول بأن الجماعات الإسلامية المعاصرة تعبر في أحد جوانبها عن البحث عن الانتماء بالرجوع إلى الماضي والتاريخ، حيث تنطوي مسألة الهوية على معان رمزية وروحية وحضارية جماعية تعطى الفرد إحساسا بالانتماء إليها وتتجاوز الحدود الجغرافية للوطن الذي يعيش فيه، ويضيف سعد الدين إبراهيم أن هذه الوظيفة الرمزية- الروحية- الحضارية للهوية تقل أهميتها في حالة فعالية الدولة والنظام الحاكم في تحقيق التنمية الاقتصادية وفى إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين ، وعلى العكس تزداد في حال انخفاض أداء النظام ونقص فعاليته.

ومن هنا فإن أزمة الهوية ترتبط بالتغيرات الجذرية التي تحدثها عملية التحديث والتي تؤدى إلى إعادة تشكيل المجتمع وزيادة التشابك في العلاقات بين الجماعات والأفراد.

فكما يشير " سبنسر" لم تعد العلاقات الأساسية في الحياة محدودة وضيقة كما كانت في المجتمعات التقليدية ويتواكب ذلك مع سرعة عملية الحراك الطبقي وانتقال الفرد أو الجماعة من طبقة إلى أخرى وهو ما يخلق وضع من عدم الاستقرار ، قد يدفع الفرد أو الجماعة منطبقة على أخرى وهو ما يخلق وضع من عدم الاستقرار ،

قد يدفع الفرد أو الجماعة على الشعور بالاغتراب ، وتصبح هناك حاجة إلى إعادة تعريف الذات، وهو أحد ملامح أزمة الهوية.

وقد يؤدى ذلك على وصول الأفراد والجماعات على حدود جديدة لتعريف الهوية وتنشأ جماعات جديدة بهذا المعنى ، أو يظل الحراك والتغير مستمرا بشكل يسمح للمؤسسات السائدة في المجتمع أن تستوعبه مثل النقابات والأحزاب، أو في المقابل يحدث ميل للتجمع على أساس عرقي أو ديني خارج هذا الإطار، ولهذا عرفت مجتمعات عديدة في مراحل التحديث مسألة تعريف الهوية.

إن هذه المداخل قد تقدم بعض التفسيرات لظاهرة الاحتجاج الديني التي تشهدها مصر منذ السبعينيات والتي جسدتها الجماعات السياسية الإسلامية.

ثانيا : التعريف بجماعات العنف في السبعينيات

شهدت سنوات السبعينيات ظهور عدد من لتنظيمات والجماعات الإسلامية التي تملك منهجها الخاص في التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي والذي ينطوي على قدر علا من العنف، وذلك خلافا لما اتبعه جماعة الإخوان المسلمين،وقبل التعرض إلى الموقف السياسي لهذه الجماعات تجدر الإشارة إلى ملاحظتين رئيسيتين : الأولى، هي أنه على الرغم من نمو الجماعات الإسلامية في السبعينات خارج نطاق " الإخوان المسلمين" إلا أنه ظلت التنظيم الأم الذي خرجت منه هذه الجماعات،

إذ أن أغلب أعضائها كانوا أعضاء في الإخوان المسلمين وأمضى الكثيرون منهم فترات طويلة في السجون بسبب هذا الانتماء ، ولذا فإن تلك الحقبة هي التي شهدت التشكيل الجنيني للجماعات الإسلامية الجديدة، كما أن مؤلفات سيد قطب- المفكر الإخوانى خاصة مؤلفيه " في ظلال القرآن" و" معالم على الطريق" – كانت في مقدمة المراجع الفكرية التي تأثرت بها الجماعات الإسلامية التي ظهرت في السبعينيات ،

كما كان لها دور كبير في التحولات الفكرية والتنظيمية التي طرأت على الحركة الإسلامية وبروز جماعات تركز حركتها حول " الجهاد الإسلامى" وترفع شعار " الحاكمة لله" و" جاهلية المجتمع" وهى المفاهيم التي احتلت مكانة محورية في كتابات سيد قطب، وقد ترجمت الجماعات الإسلامية هذه المفاهيم في شكل عنف سياسي واجتماعي بحيث شكلت ظاهرة من أخطر الظواهر السياسية والاجتماعية فئ حقبة السبعينات واستمرت حتى منتصف التسعينات.

أما الملاحظة الثانية ، فتتعلق ببنية الفكر السياسي الإسلامى الذي يشكل العنف في بعض فروعه جزءا عضويا فيه لتطبيق الأوامر والنواهي الإلهية واستقراء التاريخ السياسي الإسلامى البعيد يكشف عن أن ظاهرة العنف شكلت تقليديا إحدى الأدوات السياسية الرئيسية التي ا ستخدمها جماعات وفق مختلفة، مستندة في ذلك إلى نصوص من القرآن والسنة .

ويرجع كثير من المؤرخين بداية بروز العنف في التاريخ السياسي إلى وقت حدوث الانشقاق الأول بين " على بن أبى طالب " و" معاوية بن أبى سفيان" فمنذ ذلك التاريخ وبنجاح معاوية في الاستيلاء على الحكم وتأسيس الدولة الأموية ، ثم جعل نظام الحكم وراثيا ، عرف التاريخ الإسلامى الجماعات الخارجة عن الحكم والتي تعمل على إسقاطه بالعنف ، كما يرى كثير منهم أن العنف بدأ من معسكر الشيعة أنصار على بن أبى طالب بسبب فقدانهم للخلافة حيث تكاثرت الفرق التي انتهجت العنف كوسيلة للخروج على الحاكم( وهو ما أسس لفكر الخوارج) ، ويرى آخرون أن العنف بدأ من معسكر معاوية عندما انتزع الخلافة بحد السيف.

وإذا كان هذا ليس مجال تأريخ نشأة العنف السياسي في التاريخ الإسلامى، إلا أنه تجدر الإشارة إلى حقيقتين هامتين: الأولى، هي عدم حداثة ظاهرة العنف الإسلامى وإن كانت درجتها ترتبط بالسياق السياسي والاجتماعي الذي يسمح لها بالظهور والانتشار عبر المراحل التاريخية المختلفة. والأخرى، أن نشأة فرق العنف المختلفة ارتبطت في الأساس بالأسباب السياسية وليس الأسباب الدينية الخالصة.

وفى هذا السياق ظهر منطق التكفير المتبادل بين الفرق والجماعات المتنازعة ، واستمرت هذه الظاهرة طوال عصور الدولة الإسلامية، تبرز وتخبو حسب قوة أو ضعف الدولة حتى سقوط الخلافة العثمانية في 1924 ،

وقد ظهر العنف السياسي الديني مرة أخرى في التاريخ الحديث مع نشأة جماعة الإخوان المسلمين في مصر في أواخر العشرينات وتشكيل جناحها العسكري الذي عرف باسم " التنظيم السري" أو " النظام الخاص" وكان مسئولا عن حوادث العنف السياسية التي قامت بها الجماعة في الأربعينيات والتي عرفها التاريخ السياسي لمصر قبل 1952.

وأخيرا برزت ظاهرة العنف الديني المعاصر من خلال الجماعات الإسلامية المختلفة. وإلى جانب تأثر هذه الجماعات من الناحية الفكرية بكتابات الإخوان المسلمين خاصة سيد قطب، فقد كان هناك مفكران آخران كان لهما تأثيرهما البارز على صياغة أفكار أغلب هذه الجماعات أحدهما باكستاني هو " أبو الأعلى المودودى" والثاني إيراني هو " على شريعتي" وهى كلها مصادر تقرب فكر هذه الجماعات من فكر الخوارج.

وتمثلت هذه الجماعات في السبعينيات في ثلاث ها: جماعة" شباب محمد" كما عرفت إعلاميا " بالفنية العسكرية" والتي كشف عن وجودها في 1974,وجماعة المسلمون أو "التكفير والهجرة" كما عرفت إعلاميا في 1977، وتنظيم "الجهاد"في 1979، والذي كان مسئولا عن حادث اغتيال الرئيس السادات فى 1981.

جماعة " الفنية العسكرية"

هي جماعة " شباب محمد" لكنها عرفت إعلاميا باسم " الفنية العسكرية " بسبب قيامها في عام 1974 بالهجوم المسلح على كلية " الفنية العسكرية" وتعد هذه الجماعة هي أول محاولة لتشكيل تنظيم يعتنق فكرة " الجهاد" الإسلامى ويهدف إلى قلب نظام الحكم ، كما كانت هي أول جماعة دينية سياسية خارج نطاق مجاعة الإخوان تصطدم بالسلطة في عهد السادات ، وقبل التعرض لأفكار الجماعة واستراتيجياتها السياسية تجدر الإشارة إلى ملاحظتين رئيسيتين :

(1) إن قائد هذه الجماعة صالح سرية الفلسطيني الأصل والأردني الجنسية، لعب دورا محوريا في تشكيل أفكارها وتحديد مسار حركتها السياسية من خلال مؤلفه " رسالة الإيمان" وهو كتيب يقع في حوالي 60 صفحة ويعتبر الوثيقة الفكرية الأساسية للجماعة.

(2) إن صالح سرية كان أحد أعضاء الإخوان المسلمين في الأردن، ثم انضم إلى حزب " التحرير الإسلامى" وبعد هزيمة 1967 التحق بتنظيمات فلطينية متعددة كان لها ارتباط ببعض النظم العربية مثل ليبيا والعراق.

ولا شك أن التجربة السياسية لصالح سرية لعبت دورا كبيرا فئ تشكيل أفكاره وتوجيهها سياسيا، وفى هذا السياق احتلت قضية الصراع العربي الاسرائيلى الذي اكسبه بعدا دينيا باعتباره صراعا بين المسلمين واليهود أحد المحاور الأساسية في تحديد الصراع مع النظام الحاكم، وربما ليست مصادفة أن يكون قائد أول جماعة إسلامية " راديكالية" في مصر فلسطيني الأصل ، فقد وقف هذا العامل وراء كثير من تفسيراته السياسية للدين والتي اتخذت توجها ثوريا يتفق واعتبارات الصراع الخاص بالقضية الفلسطينية.

(أ‌) أيديولوجية الجماعة

تصف " رسالة الإيمان" نظام الحكم القائم بقولها( إن الحكم القائم في جميع بلاد الإسلام هو حكم كافر لا شك فيه) وتستند في ذلك إلى قاعدة " غلبة الأحكام" التي من خلالها يمكن تكفير الدولة.حيث أن ( دار الإسلام عند الفقهاء هي الدار التي تكون فيها كلمة الله هي العليا ويحكم فيها بما أنزل الله حتى ولو كان كل سكانها من الكافرين، ودا الحرب هي الدار التي تكون فيها كلمة الكفر هي العليا ولا يحكم فيها بما انزل الله ولو كان سكانها من المسلمين،

ومن هنا فإن السبيل لتغيير الحك( الكافر) هو " الجهاد" ( فالجهاد لتغيير هذه الحكومات وإقامة الدولة الإسلامية فرض عين عل كل مسلم لأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وهو الطريق لإقامة الدولة الإسلامية لأنه لا يجوز موالاة الكفار والأنظمة الكافرة).

وقد ترتب على ذلك تحديد موقف الجماعة من قضيتين أساسيتين متعلقتين بشكل الحكم وهما قضيتا " الديمقراطية" و"الحزبية" اللتين تتخذ منهما موقفا رافضا ( فالديمقراطية منهاج للحياة مخالف لمنهاج الإسلام) ، كما أن كل من ( اشترك فى حزب عقائدي فهو كافر لا شك في كفره، فهذه الأحزاب لها عقائد ومناهج مخالفة لعقائد الإسلام) ، كما تلخص الجماعة هذا الموقف بإشارتها إلى أن ( هناك حكومات وأحزاب وجماعات كافرة، وفى مقابلها جماعات تعمل لإقامة الدولة الإسلامية فهناك إذن حزب الشيطان، وحزب الله).

ويأتي في هذا الإطار الموقف من مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة. وهذه لا ترفض الجماعة التعامل معها بشكل مطلق، وإنما تضع لها الدولة حدودا وشروطا لكيفية التعامل معها واستخدامها لتحقيق الهدف الأعلى للجماعة وهوإقامة الدولة الإسلامية، وينطبق نفس هذا الموقف النسبي من مؤسسات الدولة على الموقف من باقي أفراد المجتمع.

وتجدر الإشارة إلى أن الجماعة تحكم على المجتمعات القائمة بشكل عام بأنها في مرحلة جاهلية ( إن المجتمعات كلها مجتمعات جاهلية) ، ولكنها تقف أمام أفراد المجتمع لتضع معايير محددة للحكم على " كفر" الفرد ، والمعيار الأساسى وفق هذا المنطق هو عدم موالاته للحكومة الكافرة، وهو معيار فضفاض ويتسم بالعمومية الشديدة بحيث يترك مساحة واسعة للبلبلة الفكرية وإصدار أحكام عامة بالكفر على الأفراد.

(ب‌) إستراتيجية الجماعة.

في إطار هذا الأيديولوجية العامة قامت إستراتيجية الحركة في التعامل السياسي على المواجهة العنيفة مع السلطة، ويفسر أحد أعضاء الجماعة هذه الإستراتيجية بقوله( كان مفهوم الجهاد في ذلك الوقت يعنى عملية عسكرية ضد السلطة قبل أن تصطدم السلطة بالجماعة ويصبح مصيرها مثل مصير جماعة الإخوان المسلمين ) أي أنها اختارت إستراتيجية هجومية وليس دفاعية في مواجهتها للنظام.

ورغم اتفاق الجماعة على ضرورة المواجهة مع السلطة ، إلا أنه ظهرت لها عدة اتجاهات حول شكل المواجهة وأسلوبها، فكان هناك اتجاه هام داخلها يرى اتباع الأسلوب التقليدي للانقلاب العسكري من خلال التغلغل في الجيش للوصول على السلطة- التي ستضمن وفق رؤية الجماعة- تطبيق الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية،

وفى مقابله كان هناك اتجاه آخر يرى اللجوء إلى أسلوب حرب العصابات ضد مؤسسات الدولة ورموزها، وقد جاء حادث التصادم مع السلطة الذي قامت به الجماعة في عام 1974 ترجيحا للأسلوب الأول- رغم تحفظ قائدها صالح سرية عليه وقتئذ- الذي رأى تأجيل الصدام مع السلطة لحين اكتمال قوة الجماعة.

وتم اختيار " الكلية الفنية العسكرية " كنقطة للهجوم وكان ذلك يوم 19 أبريل 1974، وفى وقت اجتماع الرئيس السادات ببعض القيادات السياسية لمناقشة ورقة أكتوبر في مبنى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي.

جماعة "المسلمون"

ترتبط نشأة وتطور هذه الجماعة بشخصية مؤسسها وأميرها العام " شكري مصطفى" الذي كان عضوا بجماعة الإخوان المسلمين حتى اعتقل في 1965 ولم يفرج عنه إلا عام 1971، ضمن المجموعات التي أفرج عنها السادات عقب توليه السلطة، وقد بدأ مباشرة في تشكيل جماعته الجديدة فور خروجه باسم " جماعة المسلمون"والى بدأ الإعداد لها وتجنيد أعضائها منذ وجوده داخل السجن.

تتسم أفكار الجماعة بالسلفية من حيث رجوعها مباشرة إلى المصادر الإسلامية الرئيسية ( القرآن والسنة) وليس المذاهب الفقهية التقليدية، وبالتالي فتفسير الإسلام وفق هذه النزعة يكمن في هذين المصدرين ، وتتشابه الانتماءات الفكرية لهذه الجماعة مع الجماعة الأولى( شباب محمد أو الفنية العسكرية) من حيث التأثر بأعمال سيد قطب وأبو الأعلى المودودى وعلى شريعتي فضلا عن فكر الخوارج وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، كما تفق أفكارهما غيما يتعلق " بتكفير" النظام السياسي، وإن كانت تزيد عليها تكفيرها لباقي المجتمع، حيث لا ترى الجماعة- وفق رؤية أميرها شكري مصطفى – فرقا بين النظام السياسي والمجتمع في مجموعه استنادا على أن المجتمع الفاسد يقود إلى نظام فاسد أو ما يسميه بالجاهلية الجديدة.

ولأن الجماعة لا تفرق بين الدولة والمجتمع، فقد انعكس ذلك على علاقاتها بالمؤسسات القائمة التي حكمت عليها جميعا بالكفر، وطالبت أعضائها باعتزال الأجهزة الحكومية ومؤسساتها، والامتناع عن أداء الخدمة العسكرية، أو قبول الوظائف العامة التابعة للدولة، ومقاطعة الصلاة في المساجد العامة التي تنتشر فيها البدع وفق رؤية الجماعة.

وانعكست أفكار جماعة المسلمون على إستراتيجيتها التي اختلفت فيها مع الجماعة الأولى حيث أنها اتسمت بالنفس الطويل والمرحلية لأن الحكم بالكفر لم يكن قاصرا على النظام وإنما على المجتمع أيضا، وبالتالي فإن الانقلاب السريع لم يكن يمثل الإستراتيجية الملائمة لأفكار شكري مصطفى، لكنه رأى ضرورة اعتزال المجتمع (أسوة بما فعله الرسول (صلعم) حين هاجر من مكة على المدينة لتكوين أنصار له) ثم العودة إليه مرة أخرى بعد استكمال الجماعة لقوتها لإقامة المجتمع المسلم، وقد مارست الجماعة هذه العزلة حين لجأت مجموعة منها إلى الإقامة بالمنيا منذ عام 1973 في حالة شبه منعزلة عن المجتمع . ورغم أن هذه الإستراتيجية التي قامت عليها حركة جماعة المسلمون جعلت منهجها في العنف يختلف عن منهج جماعة شباب محمد إلا أن ذلك لم يحل دون إقدامها في عام 1977 على اختطاف الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف الأسبق واغتياله، ربما بسبب غلبة منطق التكفير على أفكارها.

تنظيم " الجهاد"

تعود جذور هذا التنظيم إلى جماعة الفنية العسكرية التي تم الكشف عنها في عام 1974 ويمكن اعتباره إحدى حلقات تطورها التي مرت بمرحلتين عامي 1977 و1979. وقد تشكل التنظيم الأول على يد اثنين من أعضاء جماعة الفنية في عام 1977 بالإسكندرية تحت اسم جديد وهو الجهاد ، أما الآخر فقد شكله محمد عبد السلام فرج بعد أن انضم في أوائل عام 1978 إلى تنظيم الجهاد بالإسكندرية قبل أن ينشىء تنظيما في القاهرة في العام التالي ( 1979) تحت نفس الاسم .

واعتبر فرج مؤسس التنظيم ومنظره حيث كتب كتيبا باسم " الفريضة الغائبة" اعتبر بمثابة الوثيقة الفكرية الرئيسية للجماعة، وقد لخصت الوثيقة أفكار التنظيم حول قيام الدولة الإسلامية وعودة الخلافة.

ويعتبر مبدأ الجهاد هو الفكرة المحورية التي صاغ عبد السلام فرج أفكاره حولها، وحدد من خلالها إستراتيجية التنظيم السياسية، وتبدأ مقدمة " الفريضة الغائبة" بالتنويه إلى خطورة إغفال مبدأ الجهاد بالقول( إن الجهاد في سبيل الله بالرغم من أهميتها القصوى وخطورته العظمى على مستقبل هذا الدين فقد أهمله علماء العصر وتجاهلوه بالرغم من علمهم بأنه السبيل الوحيد لعودة ورفع صرح الإسلام من جديد، والذي لا شك هو أن طواغيت –هذه الأرض لن تزول إلا بقوة السيف).

وتلخص الوثيقة التي استندت إلى بعض القواعد الفقهية والفتاوى التي قدمتها بعض العلماء في العصور الماضية ـ إلى تفكير الحكم وضرورة الخروج على الحاكم .

ومن هذا المنطق الفكري حدد فرج إستراتيجيته في "الجهاد"وفقا لمعيارين ك الأول , هو تحديد " العدو القريب والعدو البعيد " , ولآخر , هو وجوب القتال كفرض عين على كل مسلم . بالنسبة للمعيار الأول و يعطي الأولوية للخروج على نظام الحكم " الداخلي " قبل مواجهة أي تحد لقوى الخارجية , فيقول : (هناك من يقول بأن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس كأرض مقدسة , والحقيقة أن تحرير الأراضي المقدسة أمر شرعي واجب على كل مسلم ولكن يجب توضيح أن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد ..

لأن دماء المسلمين التي ستنزف حتى وإن تحقق النصر لن تكون لصالح الدولة الإسلامية .وإنما لصالح الحكم الكافر القائم ..وهو تثبيت لأركان الدولة الخارجة عن شرع الله " .. ويضيف : إن أساس وجود الاستعمار هو آمر غير مجد وغير مفيد ) , ثم يستحدث عن المعيار الثاني بوجوب القتال أو "الجهاد" ضد الحكام بأنه فرض عين على كل مسلم .

ومن هنا أسبغ تنظيم الجهاد شريعة دينية على إستراتيجيته في العنف المسلح لمواجهة النظام القائم , وقد اعتمد التنظيم في هذا السياق على فتوى لابن تيميه أصدرها للرد على بعض الأسئلة التي وجهت إليه والتي جاء فيها بأن(زعماء المغول غير مسلمين رغم إيمانهم بوحدة الله , وبرسالة محمد ), لتبرير تدبيره اغتيال رئيس الدولة في أكتوبر عام 1981 باسم " الجهاد الإسلامي ". والواقع أن كتاب الفرضية الغائبة يكتسب أهمية كبيرة ليس فقط لارتباطه المباشر يحادث اغتيال الرئيس السادات , وإنما أيضا لأنه اعتبر وثيقة أساسية للتبرير الفقهي الذي اعتمد عليه تنظيم الجهاد في إباحة القتل , واستحلال المال العام , ومحاولة قلب نظام الحكم , وتجدر الإشارة إلى أن " الفرضية الغائبة " .

ظلت منذ السلام فرج ,هي المنبع الرئيسي لأفكار تيار " الجهاد" في مصر رغم التغيرات التنظيمية التي طرأت عليه منذ نشأته في أواخر السبعينات، إذ ظلت الوثائق والبيانات المتفرقة التي صدرت باسم " تنظيم الجهاد" بعد ذلك تأخذ عن كتاب " الفريضة الغائبة" وتعتبره المصدر الفكري الرئيسي له، ومن قبلها " رسالة الإيمان" لصالح سرية حيث سبقت أطروحاته الفكرية عن " الجهاد" في الإسلام ومقاومة الحكومات القائمة عمل عبد السلام فرج،

ويعتبر مضمون الوثيقتين واحدا رغم الفروقات التفصيلية التي تتعلق بإستراتيجية " الحركة" خاصة في مجال التعامل مع أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة،إذ أن بعض الأفكار التي طرحها صالح سرية حول جواز العمل الحزبي- المشروط، ودخول الانتخابات والمشاركة في الوزارات، والعمل في مختلف أجهزة الدولة، بغرض خدمة الحركة الإسلامية ودعمها لم تلق قبولا عند عبد السلام فرج الذي اتخذ موقفا أكثر تشددا يرفض التعامل مع مؤسسات الدولة.

وتأثر تيار " الجهاد" بمجموعاته المختلفة أكثر بآراء الأخير في مجال العمل السياسي أو في إستراتيجية الحركة، وإن كان في المقابل تأثر بأفكار الاثنين حول القضايا المشتركة الرئيسية على صعيد الأفكار التي يمكن تلخيص أهمها في اعتبار نظام الحكم ، والحكم " بتكفير " الحاكم، وبجاهلية المجتمع واعتباره ( دار حرب) ورفض القوانين المعمول بها باعتبارها قوانين كفر.

ورغم تعدد هذا الجماعات والتنظيمات إلا أن ثمة ملاحظات عامة تشير إلى كثير من نقاط الالتقاء ويمكن إيجازها في الآتي:

(1) تشابه الخلفية الاجتماعية لأعضاء هذه الجماعات، حيث ينتمي أغلبها إلى شرائح الطبقة الوسطى خاص الدنيا منها من ذوى الأصول الريفية، فضلا عن الانتماء إلى فئة عمرية واحدة( تقع بين 18-35 عاما) وكان أكثرهم من الطلاب.

(2) أنه رغم الفروقات في الهياكل التنظيمية والعلاقات الهرمية بين القيادة والأعضاء في كل من هذه الجماعات، إلا أن التشكيل التنظيمي على مستوى العمل الحركي التنفيذي ظل متشابها، حيث اعتمد على شكل المجموعات أو الخلايا الصغيرة العدد والتي تتفق مع طابع السرية لعمل هذه الجماعات، فضلا عن توفير سهولة الانتشار وتجنب الضربات الأمنية الشاملة.

(3) التشابك التظيمى بين الجماعات والتنظيمات المختلفة، إذ على الرغم من صعوبة الحكم بشكل قاطع على مدى الارتباط العضوي بينها، إلا أن ما يمكن التأكيد عليه هو وجود نوع من التداخل بين الجماعات المختلفة، ويظهر ذلك بشكل خاص فيما يتعلق بالعضوية حيث شهدت بعض هذه الجماعات تنقلات عديدة بين أفرادها من جماعة إلى أخرى كما يظهر في حالة جماعة " الفنية العسكرية" حيث تحول بعض أعضائها إلى جماعة " المسلمون" التي ظهرت بعدها بخمس سنوات، وقام بعضها الآخر بتأسيس تنظيم " الجهاد" وإلى جانب هذا التداخل والتحول يجدر التذكير بالانتماء السابق لبعض قيادات ومؤسسي هذه الجماعات إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وربما يثير التداخل بين الجماعات المختلفة، والتحولات التي تطرأ على أفكار أعضائها،طبيعة الدور الذي أصبحت تلعبه السجون فيما يمكن تسميته " بإعادة التنشئة" حيث تتحول لأماكن للتجمع واللقاء والحوار، ومراجعة إستراتيجية الجماعات بعد كل ضربة أمنية تتعرض لها، وهى تعد بذلك إحدى الوسائل الجديدة للتجنيد، ولبث الروح الجماعية بين مختلف الأعضاء.

ويدل على ذلك إن التشكيل الجنيني للجماعات الإسلامية التي ظهرت في السبعينات نما في المعتقلات والسجون التي ضمت أعضاء وقيادات الإخوان المسلمين في الستينات وهو ما أسفر عن قيام البعض منهم بتأسيس جماعات جديدة عقب الخروج من السجن لتأخذ منهجا سياسيا مغايرا للمنهج الذي سارت عليه جماعة الإخوان،

وتعد حالة شكري ومصطفى مؤسس جماعة المسلمون نموذجا بارزا على ذلك، هذا فضلا عن التحولات التي طرأت على أعضاء بعض الجماعات الأخرى- داخل السجون أيضا- والتي سبق الإشارة إليها.

(4) وأخيرا فإن أسلوب " التجنيد" لهذه الجماعات اعتمد في الأساس على دور العبادة إلى جانب عامل القرابة والصداقة، وإذا كان العاملان الأخيران يعتبران من الدوائر المغلقة نسبيا، إلا أن الوسيلة الأولى وهو دور العبادة أي المساجد كانت من أكثر طرق التجنيد فعالية على المستوى القاعدي.

الأبعاد والأصول الاجتماعية:

يتمنى معظم أعضاء هذه الجماعات إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى من ذوى الأصول الريفية حديثة الاستيطان بالمدن، ويمثل أغلب هؤلاء الأعضاء الجيل الأول من مهاجرى الريف إلى المدينة وتوضح المؤشرات الخاصة بالتوزيع المهني والجغرافي لهذه الجماعات تفاصيل هذا البعد الاجتماعي، فمعظم أعضاء هذه الجماعات هم من الشباب المتعلم تعليما مدنيا حديثا، كما كانت أعلى نسبة من الطلبة وأدناها من الفلاحين،

فأما أعضاء جماعة الفنية العسكرية على سبيل المثال كانوا من طلاب خريجي كليات الطب والهندسة والفنية العسكرية، وكان من بينهم بعض الضباط، كما كانوا من أبناء موظفي الدولة وصغار ومتوسطي الملاك في الريف والمدن، وينطبق نفس الشيء على أغلب أعضاء الجماعات الأخرى( التكفير والهجري، والجهاد) .

ويعكس التوزيع الجغرافي نفس المعنى فتركز وجود هذه الجماعات في المدن الكبرى وخاصة في العاصمة في المناطق التي يطلق عليها هوامش المدن، وهى ظاهرة ملحوظة في محافظتي القاهرة والجيزة حيث الوجود المكثف يقع في مناطق مثل المطرية والزيتون وروض الفرج وعين شمس والزاوية الحمراء، والتي تعد من أكثر الأماكن التي تجمع المهاجرين من الريف، وفى الجيزة كان التركيز في مناطق مشابهة مثل بولاق الدكرور ومنطقة الهرم، أي أنها مناطق تعرف العمران العشوائي والتكدس السكاني ونقص الخدمات، وبالتالي التدني الواضح في مستويات المعيشة.

أما مركز الثقل الجغرافي الآخر للجماعات الإسلامية فهو في صعيد مصر، وخاصة في العواصم الريفية، ويرجع ذلك أيضا على الأوضاع الاجتماعية، حيث تعانى تلك المناطق مندرجة تأخر ملحوظة عن باقي أنحاء الجمهورية، ويظهر ذلك من خلال تدنى مستويات المعيشة، وسيادة نمط مغلق من الثقافة تسود فيه العادات والتقاليد الجامدة التي يعرفها عيد مصر منذ قرون بعيدة، ويضاف إلى ذلك الاتساع الذي شهدته العواصم الريفية مثل أسيوط والمنيا وفتح كليات جامعية جديدة بها، مما جعلها أكثر عرضة لعوامل عدم الاستقرار الاجتماعي.

ومن هنا يصنف كثير من الباحثين جماعات العنف السياسي الإسلامى كحركة احتجاج اجتماعي حضرية تعبر عن أزمة الطبقة الوسطى الصغيرة، فكما يشير "هاينبوش" ( ن ظهور جماعات العنف الإسلامية انعكاس لتراكم مجموعة من الأسباب التي ترجع إلى التغيير الاجتماع السريع غير المتوازن) ويقر ذلك من خلال مؤشرين أساسيين:

الأول، هو التحضر الواسع الذي نقل أعدادا هائلة من الريف إلى المدن بدرجة تفوق قدرة القطاع الاقتصادي الحضري على أن يستوعبه، وهو ما ولد لدى هؤلاء المهاجرين درجة عالية من الإحباط الاجتماعي والشعور بالاغتراب ، أي أنه أدى في النهاية إلى ما يعرف بأزمة" هوية " بسبب عوامل التهميش التي يتعرضون لها في المدن، واستعدادهم بالتالي للانخراط في حركات الاحتجاج والرفض.

والثاني، خاص بمشاكل السياسة التعليمية التي تخرج سنويا فائضا ضخما من خريجي الجامعات أصحاب المؤهلات الدراسية العليا الذين لا تستوعبهم التنظيمات الاقتصادية مما جعل الجامعات بدورها تشكل أرضا خصبة لحركات المعارضة، وأصبح النظام التعليمي نفسه مولدا محتملا للعنف حيث تزداد درجة الوعي لدى المتعلمين- خاصة الجامعيين- دون أن تصاحبها قدرة موازنة من النظام السياسي على إرضاء الطموحات الاجتماعية التي تزداد بحكم التعليم.

وبهذا المعنى فإن جماعات العنف السياسي الإسلامى ظهرت كتعبير عن الاحتجاج الاجتماعي المرتبط بإحباطات الطبقة الوسطى خاصة في شرائحها الدنيا، التي تعانى من عوامل القلق والتذبذب وعدم التحديد بسبب عوامل التغير والحراك التي تمر بها والتي تجعلها دائما في وضع عد استقرار اجتماعي، ومن هنا فإن انتماء أعضاء الجماعات الإسلامية اجتماعيا إلى هذه الطبقة يعكس هذا الاضطراب ، حيث عبروا عن الطبقة الدنيا القادمة من الريف في مرحلة انتقالية على الطبقة الوسطى الدنيا الحضرية وهى بذلك تكون مؤهلة أكثر من غيرها للتعبئة السياسية والتمرد.

ثالثا: موقف النظام من جماعات العنف

ارتبطت الأساليب المختلفة التي لجأ إليها النظام في عهد الرئيس السادات في مواجهة جماعات العنف، بطبيعة إدراكه لهذه الظاهرة، والتي عكستها الخطب السياسية للسادات خاصة مع بداية ظهور أول جماعة في عام 1974 حيث مال إلى التقليل من شان هذا التحدي رغم ما انطوى عليه من عنف مباشر ضد السلطة، فأشار إليها بقوله( إنها موجة فكما ظهرت في أوربا موجة الهيبز بعد الحرب العالمية الثانية كذلك عندنا،

ولكن بسبب عمق التدين في منطقتنا ظهرت الموجة هنا في شكل العودة إلى الشعوذة الدينية، أنا لا أسميها تدينا ، بل شعوذة دينية)، كذلك فقد حمل هذا الإدراك ربطا للظاهرة بالعناصر الخارجية فكما أشار( طبعا هناك محركون من الخارج ، فقضية الكلية العسكرية محركها شخص من خارج مصر هو صالح سرية).

والملاحظة الهامة هنا أن الإدراك المبكر للسادات لطبيعة التحدي سعى إرجاعه على العنصر الديني- بالمعنى الضيق- بما يعنى تغييب العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية ويبدو أن هذا الإدراك لم يتغير كثيرا بعد ظهور جماعة المسلمون في عام 1977 ، غذ أشار على وجود هذه الجماعات أمر طبيعي في كل دولة حيث يوجد متعبون في كل مكان.

ووفق قوله( إن النوع الجديد من الإخوان المسلمين يطلق عليه اسم المنظمات الإسلامية، وهذه المنظمات تتسم بالتعصب الشديد لدرجة أنهم بدأوا بمقتل وزير الأوقاف السابق وهو جل مسلم مثلهم، إنهم ليسوا فقط ضد المسيحيين بل إنهم ضد الحكومة وقد تمت محاكمتهم وإعدام اثنين منهم.. إن لدينا ذلك ولكن هذا أمر طبيعي في كل دولة يوجد بها متعصبون في هذا الجانب أو ذاك).

واتسم الخطاب الذي استخدمه السادات في مواجهة تحدى جماعات العنف بالمراوحة بين أسلوب التهديد المباشر تارة، ومحاولة النصح تارة أخرى فضلا عما انطوى عليه أحيانا من سخرية من أفكار هذه الجماعات ومنهجها في فهم الدين.

ولكن ثمة ملاحظات أساسية حول خطاب السادات الموجه للجماعات الإسلامية في هذه السياق :

(1) ليس هناك دليل على أن التهديد المباشر الذي لجأ إليه بصورة متكررة خاصة في أعقاب تزايد حوادث العنف- قد أدى إلى ردع هذه الجماعات، كان أبرز دليل على ذلك هو تزايد نشاطها، بل وظهور جماعات أخرى جديدة، وربما أدى هذا الأسلوب إلى فتح المجال أمام العنف المضاد من ناحية، كما أعطى الأولوية للمعالجة الأمنية من ناحية أخرى.

(2) إن "النصح" الذي لجأ إليه السادات كأسلوب آخر في خطاباه الموجه لجماعات العنف استند على مفهوم " السلطة الأبوية" بما تعنيه من ترسيخ لمفاهيم الطاعة والولاء في الثقافات التقليدية، فضلا عن إخضاع العلاقة بين الحاكم والمحكومين لمعايير العلاقة السلطوية للأب على الأبناء، والواقع أن هذه النزعة لدى السادات لم تقتصر على توجهه ناحية الجماعات الإسلامية، وإنما شكلت عنصرا أساسيا من بينة خطابه السياسي بشكل عام، والذي حرص دائما على استهلاله بعبارة " أبنائي وبناتي".

بعبارة أخرى عكست هذه الملاحظة نوعا من الممارسة الأبوية للسلطة وقدم السادات نفسه لاعتباره ربا للعائلة المصرية بحيث اعتبر أن أي خلاف في الرأي هو خروج عن القيم التي تفرضها العلاقة العائلية، وإذا كانت هذه الممارسة، بما تحمله من مضمون قيمي، تتناقض جذريا مع المفاهيم السياسية الحديثة للمواطنة، وتتعارض مع فكرة التعددية السياسية والتحول الديمقراطي الذي قاده النظام، فإن لجوء السادات إلى تكرار نفس الخطاب الأبوي في تعامله مع هذا النوع بالذات من المعارضة السياسية الذي مثلته الجماعات الإسلامية بمنحاها العنيف ، كان لابد وأن يحمل الكثير من السلبيات فضلا عن تقليله من شأن التحدي الذي واجهه.

(3) إن خطاب السادات الموجه إلى الجماعات الإسلامية حمل تناقضا جوهريا بين التوجه "الديني السياسي" والتوجه " العلماني" بحيث أثر على مصداقيته في كلا الاتجاهين، فقد احتل الدين مكانا بارزا في خطابه وتوجهه السياسي، بحيث جعل الرؤية السياسية تختلط بالمضمون الديني وهو ما يتعارض مع الاتجاه العلماني. إذ أن كلا الاتجاهين يقدم بالضرورة تصورا متكاملا يتحدد في إطاره سلوك الفرد والمجتمع والنظام السياسي، وكلاهما مغاير للآخر. وقد ترتب على التوجه الأول خلق معايير دينية- سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة- للحكم على مدى التزام النظام بترجمة هذا التوجه إلى سياسات وتشريعات تتعدى مستوى الخطاب ومفهوم التدين الفردي.

وفى هذا السياق كانت أشد معارضة سياسية للنظام هي المعارضة ذات الاتجاه الديني. وفى المقابل فقد أدى عنف المعارضة السياسية الإسلامية في مواجهة النظام، على لجوئه لخطاب مغاير في مواجهتها يؤكد على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، وهو ما ردده مرارا في تعليقه على حوادث العنف التي قامت بها الجماعات الإسلامية مما أوقعه في تناقض واضح، وعكس الخطاب السياسي للسادات جانبا هاما من سياسة الدولة إزاء الجماعات الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالمواجهة الأمنية،

حيث تمشت هذه السياسية جنبا على جنب مع تصاعد حدة لغة الخطاب، والتي ارتبطت بدورها بتزايد أعمال العنف وتوالى ظهور جماعات جديدة بعد جماعة شباب محمد أو الفنية العسكرية، متمثلة في جماعة المسلمون أو التكفير والهجرة،

ثم تنظيم الجهاد وصدرت أحكام بإعدام معظم قيادات هذه الجماعات، فضلا عن اعتقال بعض أعضائها. وإن كانت هذه المواجهة الأمنية لم تتخذ طابعا واسعا قياسا بالمواجهة التي تمت مع التنظيم الأخير بعد إقدامه على اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981.

يتضح مما سبق المحدودية التي اتسمت بها معالجة النظام لظاهرة العنف والجماعات المعبرة عنه حيث قامت على تصور إمكانية إخضاع العامل الديني لمقتضيات الصراع السياسي وتوظيفه بما يخدم استقرار النظام. وعلى الرغم من التحدي الذي مثلته جماعات العنف أمام هذا التصور، إلا أنه لم يؤد على تغير جوهري في موقف النظام، وهو الأمر الذي انعكس في النهاية على فعالية مواجهته لهذا التحدي.

الفصل الثالث

النظام والمواجهة غير المباشرة مع المعارضة الإسلامية:

لم تقتصر الإستراتيجية التي اتبعها النظام في مواجهة المعارضة الإسلامية بشقيها السياسي والعنيف على أساليب المواجهة المباشرة، وإنما امتدت على مجالات عديدة في محاولة لاحتواء هذه المعارضة وتحييدها أو مواجهتها بشكل غير مباشر.

ويتناول هذا الفصل مجالات المواجهة غير المباشرة بين النظام والمعارضة الإسلامية وأثرها على تطور موقف كل من الجانبين إزاء الآخر.

أولا: أبعاد ومجالات المواجهة

شملت مجالات المواجهة غير المباشرة التي لجأ إليها النظام في إطار إستراتيجية لتحييد المعارضة السياسية الإسلامية العديد من المؤسسات والهيئات هي: الأزهر، والمساجد الأهلية،والطرق الصوفية، والإعلام، والتعليم.

(1) المؤسسة الدينية الرسمية:

إذا كانت سياسة النظام في عهد السادات تجاه المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في الأزهر تعكس في جانب منها استمرارا للسياسة التقليدية للسلطة التي تسعى للحصول على دعم وتأييد هذه المؤسسة في مجال السياسات المختلفة، فإنه يمكن النظر إليها أيضا في إطار إستراتيجيته لاحتواء المعارضة الدينية، حيث شكلت إحدى ركائز هذه الإستراتيجية.

وتعبر سياسة النظام تجاه الأزهر عن رؤيته للدور الذي يمكن أن يؤديه، والذي لا يقف عند حدود الدور الديني وإنما يتجاوزه على المجال السياسي سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وإن كان الدور الأخير محكوم بعدم خروجه عن الإطار العام الذي تحدده الدولة، ويتمحور الدور السياسي للأزهر وفقا لهذه الرؤية حول محورين أساسيين: الأول، هو دعم سياسات النظام وإعطاؤها نوعا من الشرعية الدينية .والآخر، يتلخص في دوره في التعبئة الجماهيرية لهذه السياسات.

ولا تختلف رؤية النظام للدور السياسي للأزهر في عهد السادات عن رؤية سلفه حيث هدفت الإجراءات والقوانين التي اتخذها عبد الناصر في هذا المجال، ومن ذلك ضم الوقف الأهلي، وإلغاء المحاكم الشرعية، فضلا عن إصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر في عام 1961 إلى إخضاع هذه المؤسسة لهيمنة الدولي حرصا على توجيه الدور السياسي لها بما يتفق ورؤية النظام وتصوره لهذا الدور،

ولم يقدم السادات على إجراء أي تغيير أو تعديل جوهري على الخطوات السابقة، مما يعكس الاستمرارية والتشابه في رؤية كل منهما للدور السياسي للأزهر، وربما تقع مساحة الاختلاف في درجة السيطرة على هذه المؤسسة، وتوجيه دورها بما يخدم الأهداف السياسية للعهدين.

ولكن تجدر الإشارة على أن قانون تنظيم الأزهر لاقى قدرا من المعارضة من قبل بعض علماء الدين في بداية عهد السادات وأبرزهم الشيخ عبد الحليم محمود وهى معارضة بدأت منذ أن كان وزيرا لشؤون الأزهر( 1971-1973) حيث تقدم بعدد من الاقتراحات من أجل تعديل بعض مواد القانون واستمرت هذه المعارضة حتى بعد تعيينه شيخا للأزهر في عام 1973، كما اعترض على القرار الجمهوري الذي أصدره السادات برقم 1098 والخاص بتنظيم شؤون الأزهر ، رغم موافقة وزير الأوقاف عليه حينئذ وهو الشيخ عبد العزيز عيسى.

ووصلت معارضة الشيخ عبد الحليم محمود إلى حد تقديم استقالته،وتركز اعتراضه الأساسي على القرار في أنه يجعل الأزهر تابعا بشكل كامل لوزير شؤون الأزهر، الأمر الذي يشكل قيدا عليه كما أنه لم يمنح وزير شؤون الأزهر نفوذا وزاريا مطلقا.

وفى المقابل تقدم الشيخ عبد الحليم محمود بمشروع قانون لتعديل بعض أحكام قانون إعادة تنظيم الأزهر كان أهم ما جاء فيه هو : المطالبة بمنح شيخ الأزهر جميع السلطات المخولة للوزير، وإلغاء منصب وزير شؤون الأزهر وإسناد تمثيل مؤسسة الأزهر في مجلس الوزراء إلى شيخ الأزهر بدلا من وزير شؤون الأزهر.

وقد استجاب الرئيس السادات لاقتراح الشيخ عبد الحليم محمود وصدر القرار الجمهوري رقم 350 لسنة 1975 والذي نص في مادته الأولى على أن ( شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية) وأكدت ماديته الثانية على أن يكون لشيخ الأزهر بالنسبة للأزهر وهيئاته والعاملين بها- عدا جامعة الأزهر- جميع الاختصاصات المقررة للوزير،

أما بالنسبة لجامعة الأزهر فتكون له الاختصاصات المقررة للوزير، أما بالنسبة لجامعة الأزهر فتكون له الاختصاصات المقررة في القانون رقم 103 لسنة 1961. ورغم أن هذه التعديلات لم تمس جوهر القانون الخاص بتنظيم الأزهر إلا أنها عكست حرصا شديدا من جانب الرئيس السادات على إرضاء هذه المؤسسة.

فقد سعى السادات منذ بداية حكه إلى استمالة الأزهر وعلمائه وهو ما ظهر من خلال تأكيده على دور الأزهر التاريخي في مجال الدفاع عن الإسلام في مصر والعالم الإسلامى، وأشار إليه في خطبه السياسية، باعتباره من اعرق الجامعات الإسلامية والذي ناضل طوال ألف عام لكي يحفظ الرسالة الإسلامية وللإسلام قوته ومقوماته ولولا دفاعه عن الإسلام- وفق تعبير الرئيس- لضاع الإسلام، كما أشار على أنه أحد الأسباب التي تجعل مصر مقصد جميع المسلمين بعد مكة والمدينة إذ أنه يعتبر القبلة الثانية بعدهما،

واستمر السادات في التأكيد على هذا الدور التاريخي للأزهر خاصة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه وهى السنوات التي شهدت توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ومقاطعة الدور العربية لمصر ردا على هذه السياسة فضلا عن تعليق عضويتها في المؤتمر الإسلامى حيث أشار إلى ( أنه لا يمكن للأمة العربية أن تعمل بدون مصر وأزهر مصر، وملايين الدولارات العربية لن تبنى ما يماثل الأزهر)

وارتبطت رؤية السادات للأزهر برؤيته لدور رجال الدين وتأكيده على أهميته، وتوافق ذلك بصفة خاصة مع شعار " دولة العلم والإيمان" الذي رفعه حيث أشار إليهم باعتبارهم " حفظة رسالة الإيمان" الذين يقع على عاتقهم مهمة مواجهة الانحراف في فهم الدين وذلك( بنشر القيم الإسلامية وتعريف الأجيال بالدين الصحيح). واتجه السادات في إطار هذه السياسة على استقطاب عدد من رجال الدين، وسعى على تقليدهم مناصب هامة في المؤسسة الدينية.

ومن أمثلة ذلك ترقية الشيخ موسى لاشين- رغم ما عرف عنه من آراء دينية متشددة- من خطيب لأحد مساجد القاهرة، على عميد كلية أصول الدين بالأزهر، كما عين الشيخ محمد الغزالي الذي كان عضوا في الإخوان المسلمين لمنصب نائب وزير الأوقاف، وربما تصور السادات أنه بهذه العيينات سينجح في تحييد القوى الإسلامية المعارضة وخاصة جماعات العنف من خلال احتواء الرموز الدينية المتشددة وجذبها لصفوف المؤسسة الدينية الرسمية.

ولكن الملاحظة الأساسية في هذا المجال هي أن تأكيد السادات على دور رجال الدين اقترن بطبيعة هذا الدور حيث اعترف عندما كان في صالح النظام ويخدم أهدافه،

ثم لجأ إلى تحجيمه عندما تجاوز هذه الحدود، ويبدو ذلك واضحا من خلال المقارنة بين موقف السادات من رجال الدين في السنوات الأولى لحكمه، وموقفه منهم في المرحلة الثاني وبالذات منذ عام 1977 وهى السنوات التي شهدت بدايتها تزايد أحداث الفتنة الطائفية وتصاعد حدة العنف السياسي والاجتماعي من قبل الجماعات الإسلامية ، وهى كلها عوامل أدت على زيادة التوتر بين النظام والقوى الإسلامية، وهو ما أدى إلى تحول ملحوظ في موقف السادات،

حيث اتجه على تقييد دور رجال الدين من خلال ترديد مقولة( لا سياسة في الدين ولا دين في السياسية) ومن هذا المنطلق حث على التنبيه بعدم استخدام المساجد والكنائس إلا في العبادة فقط، ووفقا لعبارته( لا المساجد ولا الكنائس وجدت للاستغلال السياسي) ومن ثم فإن ( اشتغال عالم الدين الإسلامى أو المسيحي بالسياسة وفق هذا الموقف الجديد للسلطة قد يوجب عليه ترك منصبه).

وفى إطار سعى السادات لتحجيم هذا الدور عمد إلى اتخذا بعض الإجراءات القانونية التي تضمن تقييد النشاط السياسي لرجال الدين، وقد حمل هذا الموقف تناقضا ملحوظا مع موقفه السابق حيث عمد إلى إفساح المجال واسعا أمامهم للعب دور في المجال السياسي والاجتماعي باعتبار أن الدين هو أحد الركائز الأساسية للمجتمع المصري وللنظام الحاكم، ثم سعى بعد ذلك على تقليص هذا الدور أو على الأقل تحجيمه بدعوة ضرورة الفصل بين الدين والسياسة،

وهو تناقض ظل من إحدى السمات الرئيسية التي حددت ملامح السلوك السياسي للنظام فئ عهد السادات في هذا المجال.

الأزهر وتبرير سياسات النظام

عمد السادات إلى توظيف دور الأزهر، فى دعم سياسات النظام وإعطائها نوعا من الشرعية الدينية فى مواجهة القوى السياسية المعارضة سواء اتخذت طابعا دينيا أو غير دينى . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أكد السادات على الدور التعبوى للأزهر الذى شكل إحدى أدواته السياسية لتعبئة الجماهير لقبول قراراتالسلطة وسياساتها فى المجالات المختلفة.

وشكلت هذه الرؤية استمرارية فى الخط السيساى الذى تبناه النظام منذ 1952 فى تعامله مع مؤسسة الأزهر، ورما كانأحد الأسباب التى ساعدت على الحفاظ على هذه الاستمرارية هو الموقف المؤيد الذى اتخذه الأزهر من نظام ثورة يوليو والذى يعتبر عهد السادات إحدى حلقاته، إذ لم تشكل هذه المؤسسة وعلماؤها عنصر تهديد لع بعكس " الإخوان المسلمين" الذين شكلوا جماعة دينية سياسية منظمة منذ أواخر العشرينات ولعبا دورا هاما فى الحياة السياسية المصرية، ومثلوا عنصر التحدى الرئيسى لأى نظام سياسى،

وقد كان الصدام المبكر مع هذهالجماعة هو أحد الأسباب الرئيسية التى دعت النظام إلى تقوية علاقاته بالأزهر، وقد استفاد فى ذلك من الخلافات القائمة بين بعض رجاله وبين الإخوان المسلمين حول تفسيرهم ورؤيتهم لدور الإسلام فىالمجتمع، على الرغم من ان كثيرا من الأزهريين كانوا أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين ،

وقد اتجه عدد كبير من رجال الأزهر إلى تأييد ثورة يوليو والهجوم على الإخوان باعتبارهم يعملون ضد النظام وفىمقدمتهم شيخ الأزهر حينئذ محمد الخضر حسين الذى وصفها بأنها( أعظم انقلاب اجتماعى مر بمصر منذ قرون لأنه الانقلاب الوحيد الذى ينشد لمصر النظام لتتمكن من الاستقرار عليه والاستمرار فيه للأبد.

وقد يرجع هذا الموقف المؤيد الذى اتخذه الأزه من الثورة فى بدايتها إلى عاملين: هو عدم انطلاقها من أيديولوجية سياسية واضحة المعالم أولها موقف محدد من وقع الدين فى الحياة السايسية والاجتماعية بحيث تثير عدء مع المؤسسة الدينية، والآخر، يتعلق بالمكاسب الشخصية التى حققها عدد كبير من علماء الأزهر خلال الفترة السابقة للثورة من خلال تحالفهم مع الملك والانجليز وهو ما أضعف موقفهم.

ومن هذا المنطلق عمل الأزهر على تأييد العهد الجديد الذى بدأ بتولى الرئيس السادات للحكم فى 1970 وكان أول مظهر لهذا التأييد هو البيان الذى أصدره المجلس الأعلى للأزهر برئاسة الشيخ محمد الفحام مؤيدا للاجراءات التى أقدم عليها السادات فى 15 مايو 1971 باسم " ثورة التصحيح" حيث اعتبرها ( خطوة تأتى من أجل كفالة الحريات للوطن والمواطنين وسيادة القانون وبناء الدولة الجديدة) ،

كما حرصت مجلة منبر الإسلام فى ذكرى ثورة التصحيح على إصدار مجموعة من المقالات المؤيدة لها من منطلق إسلامى لإضفاء شرعية دينية عليها.

وفى المقابل لجأ السادات على تدعيم علاقته بالأزهر لضمان ولاء هذه المؤسسة للحكم، فلم يكتف بعد تشكيل الحكومة التى رأسها بنفسه فى عام 1973 إلى تعيين شيخ الأزهر كما هى العادة وإنما عمد إلى خلق وظيفتين دينيتين جديدتين فى إطار نفس المؤسسة الدينية وهما:

وزير الدولة للشؤون الدينية، ومنصب وزير الأوقاف ، وكان ذلك مؤشرا على الأهمية التى يوليها للمؤسسة الدينية وحرصه على إبقائها تحت سيطرة الدولة ورقابتها.

وقد انعكست هذه العلاقة على الدور الذى لعبه الأزهر فى تبرير سياسات النظام وتدعيمها سواء على صعيد القضايا الداخلية أو الخارجية ، وتمثلت أهم هذه القضايا داخليا فى التوجهات الاقتصادية الجديدة والموقف من اليسار، والمواجهة مع قوى المعارضة الإسلامية ، وقضية تطبيق الشريعة الإسلامية، وخارجيا فى سياسة المصالحة مع إسرائيل ، وعلاقة مصر بالدول العربية بعد توقيع المعاهدة المصرية الاسرائيلية.

الأزهر والقضايا الداخلية

التوجهات الاقتصادية الجديدة والموقف من اليسار لم يحل الموقف المؤيد الذى اتخذه الأزهر من السياسات الاشتراكية فى عهد عبد الناصر دون اتخاذه نفس الموقف من سياسات التحول الاقتصادى فى عهد السادات باسم الانفتاح بل ووجدت هذه السياسة من يدافع عنها منداخل المقالات المؤيدة للسياسة الاقتصادية الجديدة. وفى نفس السياق اتخذ الأزهر موقفا مؤيدا للنظامفى مواجهته لقوى المعارضة اليسارية، خاصة بعد احداث 17 و18 يناير.

وتعتبر هذه الأحداث من الأحداث الهامة التى أثارت قلقا كبيرا لدى النظام فى عهد السادات، الذىلجأ إلى استخدام عامل الدين كإحدى الأدوات السياسية لمواجهة قوى اليسار التى اعتبرها المسئول الأول عن هذه الأحداث ،

وقد لجأ مرة أخرى إلى رجال الدين للحصول على دعمهم إزاء ما تصره بأنه الخطر المباشر الذى يهدد استقرار نظامه ويعطل سياساتهفى المجال الاقتصادى والاجتماعى، وبدا ذلك من خطبه السياسية للتأكيد على أهمية عنصر الايمان فى بناء المجتمع، ومطالبته للقائمين على الشؤون الدينية فىالمجتمع بضرورة المساهمة فى إيجاد اسلوب عصرى لإدخالالقيم والايمان فى نفوس النشء منذ بداية حياتهم وإلى الجامعة.

وقد لعب الأزهر دورا لدعم النظام فى مواجهة هذا التحدى حيث اجتمع المجلس الأعلى لشؤون الأزهر برئاسة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر وقتئذ ن فى أعقاب شجب السادات لأحداث يناير وانتهى إلى توجيه بيان إلى مجلس الشعب أخذ فيه بتفسير السلطة لهذه الأحداث حيث أشار إليها باعتبارها ( من أعمل الشغب والتخريب التى قامت بها فئة من الغوغاء اليساريين)

كما حرص الشيخ عبد الحليم محمود فى خطبة الجمعة التالية للأحداث على التنديد بالشيوعيين الذى وقفوا وراء الأحداث. كماعمل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية على إصدار كتاب فىنفس الاتجاه ضمنه تبرير السادات للأحداث ، كما أعلن تجديد بيعته للنظام القائم مستنكرا أحداث العنف التى وقعت فى 18 و19 يناير.

وفى نفس الاطار اتجه الشيخ محمد متولى الشعراوى وزير الأوقاف فى ذلك الوقت لشجب نفس الاحداث من منطلق دينى، وعزاها إلى غياب احكام الشريعة الإسلامية وعدم الأخذ بها.

وتجدر الاشارة فى هذا الصدد إلى دعم الأزهر ورجاله لموقف السادات وسياساته إزاء قوى اليسار لم ينبع من التحدى اللحظى الذى فرضته تلك الأحداث وإنما شكل ركيزة أساسية وظفها السادات طوال السبعينات وقبلاندلاع مظارهرات يناير ، لشن هجوم على اليسار عبر أجهزة الاعلام والمؤسسة الرسمية ممثلة فى الأزهر، معتمدا فى ذك على فتوى سابقة للشيخ عبد الحليم محمود تشيرإلى أن ( الشيوعيين ملحدو لا ينتمون إلى الجماعة الإسلامية) وفى هذاالسياق أعلن السادات بأنه لن يولى لأحد منهم منصبا مهما فى الدولة.

ولا شك أن اعتماد الرئيس على هذه الفتوى يعد نموذجا مباشرا لاستخدام السلطة الدينية من خلال رجال الدين ، لتبرير سياسات بعينها.

الموقف من جماعات العنف:

إزاء ما شهدته سنوات السبعينات من تصاعد لأعمال العنف من قبل الجماعات الإسلامية وبالتحديد منذ عام 1974،

ثم قيام إحدى هذه الجماعات ( التكفير والهجرة) بقتل الشيخ محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف الأسبق فى عام 1977، لجأ النظام مرة أخرى إلى المؤسسة الدينية الرسمية لحثها علىالوقوف فىوجه تيار العنف الإسلامى، ودعم سياساته فى مواجهة هذا التحدى الذى شكل تهديدا لاستقرار النظام، ويبدو أن هذا التوجه انطلق من اعتبارين:

الأول، هو عدم نجاح سياسة النظام فى الاعتماد على الإخوان المسلمين كقوة سياسية إسلامية( معتدلة) لصد أو تحجيم تيار العنف الذي تمثله الجماعات الإسلامية ( المتشددة) فهي في كل الأحزاب وعلى الرغم من محاولات الاحتواء التي بذلها السادات معها لتحييدها إلا أنه لم تكن قوى خاضعة في النهاية لسيطرة النظام بل إنها بدأت تدريجيا تأخذ موقع المعارضة تجاه الكثير من سياساته والآخر ، يتلخص في رغبة السادات في ارتكاز على الأزهر لبلورة موقف من هذه الجماعات يدعم سياسات النظام في مواجهتها وتبريرها دون أن يفقد روافده الديني في الشرعية.

ومن هذا المنطلق حرص السادات على أن يصف أفكار ونشاط الجماعات الإسلامية التي تتخذ من العنف وسيلة أساسية لصراعها مع النظام بـأنها تمثل ( انحرافا عن الفهم الصحيح لجوهر الدين الإسلامى) ووفقا لهذا التصور أصدر مجموعة من التوجهات تقوم من خلالها المؤسسات الدينية ورجال الدين بدور أساسي لتقديم ( المفهوم الصحيح للدين) وكجزء من إستراتيجيته المضادة في مواجهة الجماعات الإسلامية المختلفة.

وتمثلت هذه التوجهات التي أشرفت عليها وزارة الأوقاف في إطلاق نشاط الجمعيات الدينية المختلفة في إطار خطة قومية يضعها قطاع الشؤون الدينية، ووضع خطة لتثقيف الشباب دينينا، وتشكيل لجنة مشتركة من القطاعين الديني والاعلامى لربط المجتمع بالدين ربطا يتفق والمرحلة القادمة. هذا مع تنظيم دورات تدريبية لإعداد الواعظ الديني المتخصص، فضلا عن إعداد وحدات متنقلة لنشر الدعوة الإسلامية في الهيئات الاجتماعية المختلفة( النوادي ، النقابات ، المصانع، أماكن التجمعات الجماهيرية) في مختلف المحافظات.

وإذا كانت هذه التوجهات تعطى بعض الملامح العامة للدور الذي لعبته المؤسسات الدينية وعلماؤها في مواجهة جماعات العنف إلا أنه تبقى مجموعة من لملاحظات الأساسية في هذا المجال يمكن تلخيصها حول الآتي:

أولا: إنه على الرغم من عدم وقوف هذه المؤسسات وأهمها الأزهر موقف المعارضة من توجهات النظام ومن الدور الذي أراد له أن يلعبه في هذا السياق إلا أن ذلك لم يكن يعكس ولاء كاملا من قبل هذه المؤسسات للنظام، وخاصة من جانب رجال الدين وعلى رأسهم شيخ الأزهر نفسه وقتئذ الشيخ عبد الحليم محمود ، وقد بدا ذلك بوضوح من خلال موقفه من ( جماعة التكفير والهجرة) المسئولة عن اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي، حيث تباطأ في الإعلان عن رأى الأزهر في القضية المنظورة لهذه الجماعة أمام إحدى المحاكم العسكرية ،

مما اضطر الأخيرة إلى إصدار حكمها بدون صدور رأى رجال الدين، وهو ما حدا بالشيخ عبد الحليم محمود بعد ذلك لإصدار بيان يوضح فيه رأى رجال الأزهر إزاء هذه القضية، ولكنه استند فيه إلى التفرقة بين مسألة القتل وقضية الفكر وهو الموقف الذي لم يرض النظام واعتبره تعبيرا عن نوع من المراوغة في إدانة الجماعة، مما حدا به إلى القيام بحملة إعلامية واسعة النطاق شملت عددا من رجال الدين لتحقيق نفس الغرض واتجهت إلى إدانة الجماعة باعتبار أن أفكارها تتنافى مع مبادئ الإسلام.

وتكرر نفس الموقف الخلافي عندما أصدر الشيخ جاد الحق على جاد الحق مفتى الجمهورية وقتئذ فتوى بخصوص كتاب " الفريضة الغائبة" وهى الوثيقة الأساسية لتنظيم الجهاد ، حيث لقيت هجوما مضادا لها من جانب عدد من علماء الأزهر، رغم أنها سجلت بعض المآخذ على السلطة في معرض انتقاداتها لأفكار الكتاب وللجماعة المعبرة عنه.

ثانيا: إن هذه المواقف الخلافية لعلماء الدين في مواجهة أفكار ونشاط جماعات الإسلام السياسي ربما تكشف عن جانب هام من ضعف الإستراتيجية السياسية التي اتبعها السادات في مواجهة قوى المعارضة من الناحية الدينية في عهده، ويعود السبب الأول لهذا الإخفاق إلى صعوبة التفرقة من الناحية الدينية والعقيدية بين القوى الإسلامية على اختلاف مواقعها سواء خضعت لسيطرة الدولة ( كحال المؤسسة الدينية) أو خرجت عنها إلى موقع المعارضة وتحدى السلطة،

إذ رغم وجود بعض الخلافات الفقهية والتفسيرية بينها حول الأفكار والمبادئ الإسلامية فضلا عن اختلاف أهدافها ومصالحها السياسية والتي تحدد في النهاية موقف كل منها من السلطة والنظام الحاكم،

إلا أنه جميعا تنطلق من أيديولوجية دينية واحدة يصعب الفصل بشكل حاد بين القوى المختلفة المعبرة عنها، ومن هنا فإن اعتماد السادات على إخضاع المؤسسة الدينية ومحاولات احتواء قوى المعارضة السياسة الإسلامية ممثلة في الإخوان لمواجهة قوى العنف لم يحل دون تزايد حجم جماعاتها وانتشارها، بل ولم يخفف من حدة العنف الذي انتهجته طوال السبعينات – وحتى نهاية حكم الرئيس-

ومما يدل على قصور هذه الإستراتيجية وضعفها ما استشعره السادات من محدودية دور المؤسسة الدينية في هذا المجال حينما طلب، في معرض توجيهاته للوزارة الجديدة التي تشكلت في مايو 1980، وزير الأوقاف بإعادة النظر في عملية الدعوة الدينية مشيرا إلى ( أن المساجد والكنائس لم توجد لاستغلالها في السياسة).

وفى نفس الإطار حث الأزهر على إصدار مجلة جديدة لمواجهة الأفكار الدينية المتشددة التي تتبناها الجماعات المعارضة للنظام، وقد عمل الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر حينئذ على إصدار هذه المجلة في يوليو 1981 عن مجمع البحوث الإسلامية تحت عنوان رسالة الأزهر كملحق أسبوعي لمجلة الأزهر وإن لم يبد أنها قد نجحت في القيام بدور فعلا في هذا المجال حيث توقفت بعد صدور 47 عددا منها.

ثالثا: إن اعتماد السادات على المؤسسة الدينية ورجال الدين كجزء من استرايتجيته لمواجهة جماعات العنف الإسلامية أوقعه في كثير من التناقض ,حيث اتجه في البداية واتساقا مع هذه الإستراتيجية للتأكيد على العامل الديني ودور المؤسسة الدينية لسياسات النظام ,ثم تناقض مع هذا الاتجاه حينما بدت محدودية هذا الدور أو خروجه أحيانا عن الحدود المتصورة له ,

إلى التأكيد على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة فضلا عن انتقاده لدور رجل الدين والذي رأى ضرورة اقتصاره على النواحي الدينية والبعد عن العمل في مجال السياسة ,ويلاحظ أن التغير في هذا الموقف ارتبط بطبيعة المرحلة ونوع التحدي الذي يواجه النظام من ناحية ,وطبيعة الدور الذي قامت به المؤسسة الدينية ورجالها من ناحية أخرى .

قضية تطبيق الشريعة الإسلامية

في إطار للدستور الدائم لعام 1971 ,والذي تضمن نصا خاصا بالشريعة الإسلامية ,سعى السادات إلى كسب تأييد الأزهر لخطوته في هذا المجال,وبدا ذلك من خلال حرص اللجنة التحضيرية للدستور على الالتقاء بقيادات الأزهر لعرض مشروع الدستور الدائم قبل ظهوره في صيغته النهائية ,وشجع الأزهر هذه الخطوة إلا أن الصيغة التي وردت بالدستور والمتعلقة بالشريعة الإسلامية باعتبارها مصدرا رئيسيا للتشريع أثارت جدلا هاما من جانب عدد من رجال الدين ,حيث لم تكن تشكل سوى خطوة على طريق تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم .

وعلى الرغم من تأييد المؤسسة الدينية لسياسة النظام في مجال الشريعة الإسلامية ,إلا أن ذلك لم يكن يعني عدم ممارستها لضغوط غير مباشرة عليه لدفعه إلى استكمال الخطوة التي اتخذها في بداية السبعينيات ,وقد بدا ذلك واضحا منذ منتصف السبعينيات وبعد تزايد إلحاح القوى السياسية الإسلامية على مسألة تطبيق الشريعة واستجابة النظام جزئيا لهذا المطلب بإعادة طرح القضية في مجلس الشعب ,إذ نادى شيخ الأزهر وقتئذ الشيخ محمد الفحام بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية على اعتبار أن مصر بلد إسلامي كما دعا مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر لوضع قانون إسلامي من أجل تقنين الشريعة .

وتبنى الشيخ عبد الحليم محمود الذي خلف الشيخ الفحام في 1973 هذه القضية ,ومارس ضغوطا ملحوظة على مجلس الشعب للإسراع في تطبيق أحكام الشريعة وعدم تعطيلها أو تطبيقها في مجال دون آخر حيث أشار إلى (أنه لا مجال لاجتهاد البشر في مسألة يوجد فيها نص شرعي قطعي ) ,وبوصفه شيخا للأزهر فقد عمل على تشكيل لجنة عليا لمراجعة التشريعات الوضعية وتعديلها بما يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية وهي اللجنة التي انتهت إلى وضع مشروع قانون الحدود الشرعية في عام 1977 .

وفي نفس الإطار عقد بعض رجال الدين وعلى رأسهم الشيخ حسنين مخلوف مؤتمرا في نفس العام تحت رعاية شيخ الأزهر الشيخ عبد الحليم محمود ضم عددا من الهيئات وممثلي بعض القيادات الإسلامية ,وكان أهم ما نادى به المؤتمر هو سرعة الأخذ بها وبطلان أي تشريع أو حكم يصدر مخالفا لما جاء به الإسلام .

وعلى الرغم من تبني الشيخ عبد الرحمن بيصار , الذي تولى الأزهر خلفا للشيخ عبد الحليم محمود في عام 1978 , لوجهة نظر مغايرة في مجل تطبيق الشريعة الإسلامية حيث لم ير ضرورة لتغيير كافة القوانين وإنما فقط تعديل بعض أحكام القانون التجاري والمدني فضلا عن قانون العقوبات ,

أما بالنسبة لتعديل القوانين الخاصة بالنظام المصرفي فرأى أن تعديلها يجب أن يتم بشكل تدريجي حتى لا يترتب عليه إضرار بالاقتصاد الوطني , إلا أنه في النهاية كان يعبر ـ رغم هذه الصيغة المعتدلة التني طرحها في مجال تطبيق الشريعة ـ عن الإصرار على ضرورة الأخذ بها بشكل كامل حتى ولو تم ذلك على مدى زمني أطول وبصورة تدريجية .

لعل ما تشير إليه هذه الوقائع هو أنه على الرغم من تجنب المؤسسة الدينية وتحاشيها لأي صدام , ومواجهة عنيفة مع السلطة , بل وعلى الرغم من خضوعها لها باعتبارها من المؤسسات الرسمية للدولة , إلا أن ذلك لم يكن يعني ولاء كامل لها , كما لم يؤد إلى تخليها عن بعض قضاياها الرئيسية التي تشكل محورا رئيسيا لوجودها مثل قضية الشريعة الإسلامية ,

وربما يختلف شكل طرحها لهذه القضايا ودرجة ممارستها للضغوط من أجل تحقيقها تبعا لطبيعة المرحلة السياسية ومساحة الدور المتاح لها في الحياة السياسية من ناحية , وطبيعة القيادات التي تتولاها من ناحية أخرى , إلا أنه في كل الأحوال يظل لهذه المؤسسة رؤيتها الدينية التي من الصعب إخضاعها بشكل كامل لمتطلبات السياسة وحدها .

ولا شك أن الظروف الموضوعية التي حكمت تجربة السبعينيات قد قدمت إطارا أوسع لعمل المؤسسة الدينية . ويرجع ذلك في جانب كبير منه إلى سياسة السادات تجاهها والتي كانت أقل قبضة وسيطرة على تلك المؤسسة من سياسة عبد الناصر في نفس المجال .

وقد يؤيد هذا الرأي الموقف الذي أتخذه الأزهر من تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي تبناه السادات , حيث سارع شيخ الأزهر وقتئذ الشيخ عبد الحليم محمود إلى إصدار بيان ندد فيه بهذا القانون وحذر من تطبيقه باعتباره مخالفا للشرع ,

وهو الأمر الذي حدا بالحكومة إلى تأجيل إقرار القانون الجديد ولم يصدر إلا بعد وفاة الشيخ عبد الحليم محمود في عام 1978 حيث صدر في يونيو 1979 وقبل انعقاد الدورة البرلمانية الجديدة لمجلس الشعب بثلاثة أيام . ويكشف جانبا من هذا السلوك إخفاق النظام في الحصول على التأييد المستمر من الأزهر رغم سعيه المتواصل للارتكاز عليه في دعم مواقفه وتبرير الكثير من سياسته .

الأزهر وقضايا السياسة الخارجية المصالحة مع إسرائيل

كما حرص السادات على كسب تأييد المؤسسة الدينية في مجالات سياساته الداخلية . فقد انعكس ذلك أيضا على مجالات السياسة الخارجية , والتي تأتي في مقدمتها سياساته تجاه إسرائيل منذ زيارته للقدس في 1977 , وهي السياسة التي أثارت معارضة من قبل كافة القوى السياسية على وجه التقريب وبالأخص من المعارضة الإسلامية سواء تمثلت في الإخوان المسلمين أو الجماعات الأخرى , بحيث اشتدت الحاجة للبحث عن مصدر آخر يضفي نوعا من الشريعة الدينية على هذه السياسة , خاصة أنه حاول تقديم تفسير ديني لها من خلال خطبة وتصريحاته في ذلك الوقت ,

وبرز مرة أخرى دور المؤسسة الدينية في مجال تبرير هذه الخطوة وما تلاها بعد ذلك من توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في عام 1979 حيث أصدر الأزهر في هذا الإطار بيانا يوضح فيه عدم تعارض هذه المعاهدة مع تعاليم الإسلام الممثلة في القرآن والسنة ,

وأشار في هذا الصدد إلى ما فعله الرسول (صعلم) عندما عقد معاهدة صلح الحديبية بينه وبين مشركي مكة وظل حافظا لها حتى نقضها اليهود , وتدعيما لهذا البيان أصدرت وزارة الأوقاف عددا من النشرات الدينية توزع على أئمة المساجد في أنحاء الجمهورية ليعملوا على توضيح موقف الإسلام من قضية الحرب والسلام وتبيان شرعية موقف النظام في إبرام المعاهدة , واستنادها في ذلك إلى تعاليم القرآن .

المجال العربي والإسلامي

احتل هذا المجال أهمية خاصة في أواخر السبعينيات بعد إبرام المعاهدة المصرية الإسرائيلية , وما ترتب عليها من مقاطعة الدول العربية لمصر وتعليق عضويتها في المؤتمر الإسلامي . وردا على هذا الموقف لجأ السادات إلى إبراز دور مصر الإسلامي الرائد مستندا في ذلك على وجود الأزهر بها .

وفي هذا السياق أصدر الأزهر برئاسة الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار وعلماء مجمع البحوث الإسلامية بيانا يعلنون فيه رفضهم لهذا الإجراء , وتضمن القول إن : (مصر هي بلد الأزهر الذي دافع لمدة ما تزيد عن ألف عام عن الإسلام وحماه من الذين يريدون استغلاله ) , وهو الأمر الذي امتدحه السادات واعتبره دعما لسياسته .

وفي هذا الإطار طرح السادات فكرة إنشاء "جامعة الشعوب العربية والإسلامية " ردا على نقل جامعة الدول العربية إلى تونس وتعليق عضوية مصر في المؤتمر الإسلامي ,وكلف د. زكريا البري وزير حينئذ بتشكيل لجنة تحضيرية عام 1980 من أجل الإعداد لقيام الجامعة والتي تمت بالتعاون مع شيخ الأزهر عبد الرحمن بيصار ,

وقد تشابهت هذه الفكرة مع فكرة المؤتمر الإسلامي الذي قام في الخمسينيات والذي شغل السادات منصب السكرتير العام فيه , وقد هدفت "جامعة الشعوب الإسلامية " إلى إخراج مصر من عزلتها في ذلك الوقت وفتح المجال لتحركها في مجال العالم الإسلامى.

وربما كانت أهم ملاحظة تثار فئ سياق التعرض لبعض النماذج من موقف الأزهر أو المؤسسة الدينية على صعيد القضايا الخارجية هو السلوك المؤيد الذي اتخذه إزاء سياسات النظام في هذا المجال والذي اختلف بعض الشيء عن مواقفه تجاه لقضايا الداخلية

وربما يرجع ذلك إلى عاملين : الأول، هو رغبة الأزهر في إظهار دعمه للنظام وهو موقف لا يخرج عن النمط التقليدي في تعامله مع السلطة السياسية حيث قامت هذه العلاقة على الدعم المتبادل بين الجانبين إلى جانب التأكيد عل دوره السياسي . والآخر، هو الاستفادة من ذلك في الحصول على بعض المكاسب على صعيد القضايا الداخلية والتي تكتسب أولوية على القضايا الخارجية.

ويبقى في مجال تقييم إستراتيجية السادات في الاعتماد على المؤسسة الدينية سواء للقيام بدور التعبئة ، والشرعية، والتبرير للسياسات أو لمواجهة المعارضة الإسلامية التي تصاعدت خلال سنوات السبعينات ، الإشارة إلى بعض الملاحظات التي تتعلق بمدى فاعليتها وهى:

(1) إن اعتماد النظام على دور المؤسسة الدينية في التعبئة والشرعية والتبرير لسياساته عكس ضعفا ملحوظا في أداء النظام في مجال السياسات المختلفة، وظلت شرعية هذه السياسات مرتبطة إلى حد كبير بالمصدر التقليدي للشرعية وهو الدين، وبالتالي لم تكتسب عقلانية تستمد من فعاليتها وقدرتها على تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية المختلفة.

(2) إن التصور النظري لقدرة المؤسسة الدينية، اعتمادا على شرعيتها التاريخية، على احتواء المعارضة السياسية الإسلامية قد أثبت محدوديته في الواقع العملي ولعل المؤشر الواضح على ذلك هو استمرار هذه المعارضة وتصاعدها بمختلف فصائلها وتياراتها حتى انتهت بحادث اغتيال الرئيس على يديها. وقد ترجع محدودية هذا التصور إلى عوامل ثلاثة: الأول، أنه يغيب أي بعد سياسي واجتماعي في تعامله مع ظاهرة جماعات العنف السياسي الإسلامى، وفى هذا اختزال شديد للظاهرة.

والثاني، هو محدودية قدرة المؤسسة الدينية نفسها على مواجهة هذا النوع بالذات من المعارضة خاصة على المستوى الفكري. فمع الأخذ في الاعتبار الاختلاف في الرؤى والمواقف السياسية إلا أن الخلافات على المستوى الفكري تظل دائما في الفروع والاجتهادات، إذ أن المنع الفكري والاتفاق على الأصول فيه يظل عاملا مشتركا بين جميع القوى الدينية سواء كانت " مؤسسية " أو "غير مؤسسية" وهو ما جعل المواجهة الفكرية بين الجانبين أمرا بالغ التعقيد بل ومثيرا لكثير من الجدل والخلافات داخل المؤسسة الدينية نفسها وعلمائها،

مما أدى بها في كثير من الأحيان إلى اتخاذ مواقف وسطية إرضاء للجانبين ولكن دون تحقيق نجاح حاسم على أي صعيد منهما. والثالث، يتعلق بالهجوم الشديد الذي تعرضت له هذه المؤسسة من قبل جماعات العنف الإسلامى والتي اتهمتها بالخضوع للسلطة وتعبيرها عما يمكن تسميته " بالإسلام الرسمي" وهو ما أضعف مصداقيتها أمام هذه الجماعات وأفقدها القدرة على إقناعها والتأثير عليها، ويجب الأخذ في الاعتبار أيضا العامل النفسي الزى تعرضت له هذه المؤسسة بعد قتل أحد علمائها الشيخ الذهبي على يد إحدى الجماعات الإسلامية، والذي ربما لعب دورا في زيادة تحجيم دورها في هذا المجال.

(3) إن إصرار النظام على الحصول على الشرعية الدينية من قبل المؤسسات الدينية الرسمية خاصة الزهر لتبرير أغلب سياساته قد أفضى في النهاية إلى إضفاء نوع من " الأسلمة" على هذه السياسات، أو بمعنى آخر اى تغليب العامل الديني في مجال صنع وتنفيذ السياسات.

وهو الأمر الذي جعل الصراع السياسي بين النظام وقوى المعارضة السياسية يدور على أرضية دينية، وإذا كان أحد الأهداف العامة لهذا التوجه تتمثل في رغبة النظام في السبعينيات في تجريد هذه القوى من الشرعية، فإن النتيجة النهائية للصراع والتي انتهت بمقتل السادات كانت على العكس تماما، وربما تكون هذه النتيجة نموذجا على خطورة استخدام الدين وتوظيفه في مجال الصراع السياسي.

(4) إن التقييم النهائي لعلاقة النظام في عهد السادات بالمؤسسة الدينية يعكس ضعفا في سيطرة النظام عليها في هذه المرحلة مقابل تنامي دورها، وهو الدور الذي بدا يتزايد منذ الانكسار الذي تعرض له النظام في 1967.

حيث أخفق في تقديم تبرير عقلاني للهزيمة وبرزت الحاجة إلى الدور المعنوي والتبريري الذي يمكن أن تؤديه المؤسسة الدينية، وعلى الرغم من قيام مؤسسة الأزهر بهذه الوظيفة إلا أنها استفادت من الظروف الموضوعية التي سادت في نهاية الستينات وبداية السبعينيات لتحقيق بعض المكاسب السياسية وتدعيم نفوذها

وهو الأمر الذي تأكد من خلال الضغط الذي مارسته لإدراج النص الخاص بالشريعة الإسلامية في الدستور الدائم لعام 1971، والموقف من محاولات تحديد قانون الأحوال الشخصية، فضلا عن العمل المستمر في اتجاه استكمال الخطوة التي بدأت في عام 1971 بصدد الشريعة حتى جاء تعديل المادة الخاصة بها في الدستور لينص على أنها المصدر الرئيسي للتشريع في مايو 1980،

وتعد هذه الخطوة في مجملها انتصارا لمطالب الاتجاه الإسلامى والتي دفعت إليها المؤسسة الدينية جنبا إلى جنب مع القوى الإسلامية المعارضة حيث اعتبرت قضية الشريعة الإسلامية هي المطلب الرئيسي للإخوان المسلمين ولكثير من الجماعات الإسلامية.

دور المساجد والأئمة

في إطار اهتمام النظام في عهد السادات بتوظيف دور رجال الدين والمؤسسة الدينية بما يخدم الأهداف السياسية للنظام برز دور الواعظ الديني والإمام والمسجد كأدوات للتعبئة وقناة للاتصال المباشر بالجماهير، وربما زاد من أهمية هذا الدور من وجهة نظر الرئيس السادات قدرة هذه الوسائل على التوجيه الديني السريع لما تتبعه من أسلوب مبسط ومباشر في مخاطبة عامة الشعب،

ولعل الصعود المفاجئ لدور الشيخ محمد متولي الشعراوى منذ بداية السبعينيات أحد النماذج الدالة على ذلك، فلم يكن الشيخ الشعراوى من علماء الدين البارزين، وإنما عمل بالتدريس في بعض محافظات الجمهورية ثم في فترة متأخرة شغل بعض المناصب الإدارية الثانوية بالأزهر، وتمثلت قوته الحقيقية في قدرته على الجذب الجماهيري من خلال عرضه وتفسيره المبسط للإسلام،

وبدا دع النظام لهذا الاتجاه من خلال إفساح المجال أمام الشيخ الشعراوى لأداء دوره من خلال أجهزة الإعلام الرسمية حيث قدم برامج دينية يقوم فيها بدو اقرب إلى دور الواعظ الديني، فضلا عن إقدام السادات على تعيين الشيخ الشعراوى وزيرا للأوقاف ( 1976- 1978) وهو المنصب الذي لم يستمر فيه أكثر من عامين ثم عاد مرة أخرى إلى دوره التقليدي من خلال أجهزة الإعلام.

ولكن اللافت للانتباه أن هذا النموذج للدور الذي لعبه الشيخ الشعراوى قد أدى إلى زيادة التعبئة الدينية بشكل عام بسبب قدرته على التأثير الجماهيري وسعة الانتشار الاعلامى، والتي لم تكن بالضرورة تصب في اتجاه الأهداف السياسية التي أرادها النظام من هذه التعبئة، في الوقت الذي أخفق في استقطاب الجانب المعارض والذي تمثل في جماعات العنف السياسي،

حيث تعرض للنقد والهجوم من جانبها على أثر تعيينه وزيرا للأوقاف كما أن محاولاته للحوار الفكري معها اتسمت بالمحدودية الشديدة والضعف، وبالتالي فقد بدا تدعيم هذا الدور من قبل النظام يسير في اتجاه ثم انتهى إلى عكسه تقريبا.

وفى نفس السياق يأتي دعم النظام لدور المساجد والأئمة حيث شجع على زيادة بناء المساجد وانتشارها، بحيث زادت أعدادها في السبعينيات زيادة ملحوظة ، وخاصة المساجد الأهلية ففي عام 1962 كان عدد المساجد الحكومية نحو 3000 مسجد وعدد المساجد الأهلية 14,000 مسجد أي بفارق حوالي 11,000 مسجد وبعد انتهاء عهد السادات كان تقدير عدد هذه المساجد عام 1982 هو 6000 مسجد حكومي مقابل 40,003 من المساجد الأهلية بفارق 33,003 مسجد أي أن الفجوة بينهما تضاعفت بأكثر من ثلاث مرات خلال عشرين عاما.

وجدير بالذكر أن المساجد الحكومية تخضع مباشرة بوزارة الأوقاف التي تتولى الإشراف عليها، كما تقوم بتعيين الأئمة فيها من بين خريجي كليات أصول الدين ولكن مع تزايد الحاجة إلى الأئمة ونقص الأعداد من خريجي هذه الكلية اضطرت الوزارة إلى تعيين خريجي الثانوية الأزهرية كأئمة في المساجد الصغيرة أو حتى من ذوى الكفاءات الأقل. أما المساجد الأهلية فهي التي يتولى بناءها وإدارتها الأفراد والجمعيات، ولا تخضع لنفس اللوائح والتعليمات الحاكمة للمساجد الحكومية.

وبعكس إخضاع المساجد الحكومية لوزارة الأوقاف وإعطاؤها صلاحية ضم بعض المساجد الخاصة طبقا للقانون، اهتماما ملحوظا من قبل الحكومات المتعاقبة لضمان السيطرة على كافة المؤسسات الدينية وتوجيهها، خاصة في ظل قرار إلغاء جميع الأوقاف الخاصة وإخضاع أراضيها لقوانين الإصلاح الزراعي في الحقبة السابقة، مما يعنى نزع استقلاليتها المالية وربطها بميزانية الدولة.

وقد كانت مهمة الإشراف على المساجد من أكثر مهام وزارة الأوقاف التي تنامت بصورة ملحوظة خاصة في ظل نظام 1952، حيث أصبحت إحدى الأدوات السياسية لتوجيه الاتجاهات والسلوك الجماهيري بما يتوافق وأهداف النظام في إطار سعيه لتحقيق تغيير اجتماعي سريع عن طريق تكثيف التعبئة الجماهيرية باستخدام العامل الديني.

ولا شك أن دور المسجد تاريخيا كان يؤهله للقيام بهذه المهمة حيث يعتبر من أهم مراكز التجمع الطوعي للجماهير، ومن ثم يمثل أهمية محورية لدى النظام السياسي لتوظيفه في مجال التعبئة السياسية، وكما يشير " مورو برجر" فإن هذه الوظيفة تعاظمت في ظل الحقبة الناصرية حيث نظر إلى المساجد مصدرا للتعبئة الروحية لأكبر عدد من الأفراد والتي يمكن توجيهها لخدمة التوجهات السياسية ، ويعتبر هذا التوجه هو صورة أخي من صور ربط الدين بالسياسة ولكن بوضعه تحت هيمنة الدولة من خلال السيطرة على جميع المؤسسات المعبرة عنه.

والواضح أنه مع اعتماد النظام على دور المؤسسات الدينية وتوجيهها سياسيا بدت المشكلة الرئيسية في المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه السيطرة خاصة فى حالة المساجد والتي بحكم طبيعتها وسعة انتشارها كان من الصعب الهيمنة عليها خاصة مع الزيادة الملحوظة في عدد المساجد الأهلية والتي لا تخضع للتوجيه الحكومي وللإشراف المباشر لوزارة الأوقاف.

وقد أدى ذلك على أمرين: الأول، فقدان وزارة الأوقاف رقابتها على المساجد .

والآخر، هو نقص عدد الأئمة من خريجي الأزهر والذين كانوا تقليديا يقومون بوظيفة الإمام في المساجد التابعة للوزارة، ومن هنا بدأ يظهر على مدى العقدين الأخيرين أئمة مستقلون لعبوا دورا هاما على صعيد " الخطاب الإسلامى" في جذب أنصار للجماعات الإسلامية المتشددة، وفى هذا الإطار اعتبرت هذه المساجد أكثر الأماكن ملائمة للتعارف واللقاء والتجنيد لهذه الجماعات.

وتجسدت هذه المشكلة بشكل بارز في عهد السادات وظهرت في تزايد الفجوة بين عدد المساجد الحكومية مقارنة بالمساجد الأهلية كما سبقت الإشارة. وقد وصف د. زكريا البرى آخر من شغل منصب وزير الأوقاف في عهد السادات هذه المشكلة بقوله( لقد تم الإسراع في بناء المساجد الأهلية بمعدل لم تعرف له مصر مثيلا مطلقا وذلك خلال السنوات الأخيرة وبشكل يفوق بكثير إمكانيات الوزارة للإشراف عليها) .

وقد واجهت الحكومة مصاعب عديدة في التعامل مع المساجد الأهلية يأتي في مقدمتها ضعف الإمكانيات المادية والبشرية التي يمكن أن توفرها قياسا بهذا التزايد الكمي السريع، وكإجراء عاجل لمواجهة هذه المشكلة خصصت وزارة الأوقاف عام 1981 ( 2 مليون جنيه) من ميزانيتها لاستيعاب جزء من هذه المساجد في بداية الثمانينيات واستطاعت بالفعل ضم حوالي 900 مسجد أهلي، وهو عدد ضئيل بالقياس إلى التضخم العددي للمساجد الأهلية،

ولم تكن الإمكانيات المالية هي العائق الوحيد وإنما عانت الوزارة أيضا من نقص الأعداد المطلوبة لإمداد المساجد بالأئمة والخطباء المعتمدين منها. والمفارقة الهامة في هذا المجال تبدو فيما عانت منه الوزارة في الأساس من عدم قدرة العنصر البشرى لديها على تغطية المساجد الحكومية والأهلية، وتوضح هذه المؤشرات جانبا هاما من المشكلة التي واجهتها الحكومة والتي تزايدت حدتها في المحافظات وخاصة محافظات الصعيد التي تعانى تقليديا من النقص الشديد فئ كافة الإمكانيات المطلوبة لتطويرها.

وقد ألقت كل من الهيئات الدينية مسئولية هذا العجز على بعضها البعض، حيث سعت وزارة الأوقاف إلى تحميل الأزهر مسئولة عدم تأهيل أعداد كافية من الأئمة للمساجد.

وأشار الشيخ عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر وقتئذ بدوره إلى إهمال وزارة الأوقاف في الإشراف على المساجد، وهو ما دعا هذه الوزارة بعد ذلك إلى القيام بضم عدد من المساجد الأهلية بدون التنسيق مع الأزهر.

وبرز الجانب السياسي من مشكلة تزايد المساجد وخاصة الأهلية منها في عهد السادات ليس فقط فئ افتقاد الدولة للقدرة على توجيه هذه المساجد، وإنما في خروجها شبه الكامل عن سيطرة الدولة حيث شكل المسجد منذ السبعينيات أداة هامة للتعبئة استخدمتها القوى السلامية المعارضة فى مواجهة النظام .

وبرزت قيادات دينية مارست هذا الدور من خلال إمامتها للمساجد الأهلية( مثل محمد عبد الحميد كشك في القاهرة والشيخ أحمد المحلاوي في السكندرية وغيرهم كثيرون).

ولم يكن من السهل مواجهة هذا التحدي لاعتبارين أساسيين: الأول، هو ما تمثله هذه المساجد من تجمع عفوي للجماهير فضلا عن الاعتبار الثاني الذي يجعل من اللجوء إلى إغلاقها أمرا بالغ التعقيد ومثيرا للكثير من الحساسية.

والآخر، يتمثل في صعوبة اتخاذ إجراء من جانب السلطة لإقصاء أحد أئمة المساجد دون الدخول في مواجهة أو صدام مع مريديه، وهو ما حدث بالفعل خلال هذه المحاولات والتي كانت تؤدى في أغلب الأحيان إلى تدخل جهاز الأمن فض عن الصعوبة الأخرى المتمثلة في عدم قدرة وزارة الأوقاف باعتبارها الجهة المسئولة عن الإشراف على المساجد فئ توفير أئمة كبديل عن أولئك الذين يتقرر إبعادهم.

هكذا برزت الجوانب السياسية لمشكلة التزايد الكمي للمساجد الأهلية في السبعينيات، وانتقل دور المسجد والإمام الزى راهن عليه النظام كإحدى أدوات التعبئة السياسية الدينية المطلوبة لخدمة أهدافه السياسية إلى أداة للتعبئة في الاتجاه المضاد، خاصة مع تزايد هيمنة فصائل من جماعات المعارضة السياسية الإسلامية على الكثير من هذه المساجد، وهى القضية التي اتخذت شكلا أكثر حدة في الثمانيات.

الطرق الصوفية

تعكس الخطوات التي اتخذها السادات في السبعينيات في سبيل تنظيم الطرق الصوفية مؤشرا آخر على اهتمامه بالعامل الديني ورغبته في إخضاعه للمجال السياسي، حيث تعتبر هذه الطرق إحدى حلقات الاتصال المباشر بالجماهير، وربما اعتبرها النظام إحدى الأدوات غير المباشرة لنشر المفهوم الرسمي للإسلام خارج إطار المؤسسة الدينية الرسمية. وفى هذا السياق اتجه السادات لتنظيم الطرق الصوفية من خلال القانون رقم 118 لسنة1976.

وأهم ما يلاحظ على هذا القانون هو سعيه لإخضاع هذه الطرق للسيطرة المباشرة للدولة من خلال النصوص التي تضمنها القانون وأهمها، أن يعين شيخ مشايخ الطرق الصوفية بقرار من رئيس الجمهورية، ووجود ممثلين للسلطة في مجلس هذه الطرق والذي يتشكل طبقا للقانون من شيخ مشايخ الطرق الصوفية، وعشرة أعضاء من مشايخ الطرق، وممثل للأزهر، ثم ممثل لوزارة الأوقاف ، ولوزارة الثقافة، والأمانة العامة للحكم المحلى والتنظيمات الشعبية وأهم من ذلك ممثل عن وزارة الداخلية.

ورغم أن القانون صدر بدعوى تخليص هذه الطرق من السلبيات ومطابقة نشاطها مع أحكام الشريعة الإسلامية خاصة وأنها تعرضت للنقد من قبل المؤسسات والهيئات الدينية إلا أن المنحى السياسي الكامن للقانون ظهر من خلال القيود التي وضعها لضمان عد قيامها بنشاط سياسي من ناحية ،

وتوظيفها بما يخدم توجهات النظام من ناحية أخرى، وقد بدا هذا الجانب واضحا عقب إصدار مجلة شهرية بعنوان التصوف الإسلامى عام 1979 والتي رأس مجلس إدارتها شيخ مشايخ الطرق الصوفية، وظهر الدعم المباشر لها من قبل النظام حيث عمد السادات إلى كتابة مقال خاص نشرته المجلة في عددها الأول متضمنا أهمية الاتجاه الديني الصوفي في المرحلة الراهنة، وركزت المجلة على الإسلام كنظام خلقي يدعو إلى التسامح من خلال إثارتها للموضوعات العقائدية والخلقية دون إبداء اهتمام خاص بالسياسة. وربما توضح ظروف إصدار هذه المجلة والدور الذي اضطلعت به سعى النظام لإيجاد مصدر ديني آخر للشرعية، وخاصة وأنها صدرت في السنوات التي شهدت صدامات متكررة بين النظام وجماعات المعارضة الإسلامية العنيفة، ومن ثم يمكن اعتبارها أداة من أدواته في إدارة الصراع.

الإعلام

حظي التوجيه الديني من خلال أجهزة الإعلام الرسمية بمجالاتها المختلفة المسموعة والمقروءة باهتمام ملحوظ من قبل خاصة منذ النصف الثاني من السبعينيات، والذي يرجع في جانب كبير منه إلى الأحداث السياسية التي شهدتها هذه السنوات والتي أبرزت صعودا قوى المعارضة السياسية الإسلامية وخاصة العنيفة منها،

ويعكس هذا الاهتمام بدوره جانبا مهما من إستراتيجية النظام في عد السادات في مواجهة التحدي الذي مثلته هذه المعارضة من خلال اعتماده على أهم أدوات التأثير الجماهيري متمثلة في وسائل الإعلام المختلفة السمعية والمرئية والمقروءة.

وفى هذا السياق تم استحداث إذاعة محلية جديدة هي إذاعة " الشباب والرياضة" التي بدأت إرسالها في أكتوبر 1975 بهدف التوجه مباشرة إلى قضايا الشباب، والتي ركزت في معرض إنشائها على الاهتمام بتدعيم وترسيخ القيم الدينية لدى هذا القطاع الحيوي في المجتمع، ويمكن الربط زمنيا بين قرار إنشاء هذه الإذاعة وما شهده القطاع السابق على إنشائها من ظهور أول جماعة عنف إسلامية متمثلة في جماعة " الفنية العسكرية"

وما أثاره ظهورها من جدل واسع حول ضرورة الاهتمام بقطاع الشباب وتوجيهه من الناحية الدينية، ومن هنا فقد عكست هذه الخطوة إحدى محاولات النظام للتوجه الاعلامى نحو نفس الفئة العمرية التي تستقطبها الجماعات الإسلامية.

وخضعت الأداة المرئية( التليفزيون) لنفس التوجه، ففي نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينات استحوذت البرامج الدينية أو ذات المضمن الديني على حوالي 22% من وقت الإرسال على القناة الأولى الرئيسية 19% على القناة الثانية/ كما أفرد التليفزيون مساحة هامة لتقديم " رجال الدين" وتخصيص برامج لهم.

ولم يقتصر الأمر على الإعلام المرئي والمسموع وإنما اتجه النظام إلى الاهتمام بالإعلام المقروء خاصة في مجال الصحافة فلم يكتف بالمجلات الدينية التقليدية التابعة للمؤسسة الدينية وهيئاتها المختلفة مثل " مجلة الأزهر" التابعة لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر وتصدر منذ عام 1930 ، و" منبر الإسلام" التي تصدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية منذ عام 1943 ، و" ونور الإسلام" التابعة لهيئة الوعظ والإرشاد بالأزهر وتصدر منذ عام 1953،

ثم بعد ذلك" رسالة الأزهر" في يوليو 1981، وإنما عمد السادات على اللجوء بشكل مباشر إلى إصدار جريدة إسلامية عن " الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم باسم " اللواء الإسلامى" في مارس 1981، وقد صدرت طوال الستة شهور الأولى كملحق أسبوعي لجريد " مايو" لسان حال الحزب، ثم صدرت كجريدة مستقلة بعد حادث اغتيال السادات.

وإلى جانب إصدار جريدة حزبية تم الاهتمام بالاتجاه الديني في الصحف اليومية الواسعة الانتشار، حيث شهدت السبعينيات ظهور صفحات ديني متخصصة في الصحف اليومية وهو تقليد لم يكن سائدا من قبل باستثناء بعض الأبواب والصفحات المرتبطة بالمناسبات الدينية، واتجهت تلك الصفحات الدينية إلى تجاوز الموضوعات المعتادة الخاصة بالعبارات والتراث وما شابهها إلى معالجة القضايا الدينية السياسية خاصة تلك المتعلقة بظهور جماعات العنف الإسلامية في نفس الفترة.

وربما عكس هذا الاتجاه فى مجال الصحافة القومية في عهد السادات رغبته في خلق أداة تعبير مماثلة لتلك التي استخدمتها القوى السياسية الإسلامية المعارضة سواء الإخوان من خلال مجلتهم الدعوة والاعتصام أو الجماعات الإسلامية الأخرى من خلال مطبوعاتها ومنشوراتها السرية المناهضة للنظام، أي أنها كانت إحدى أدوات المواجهة في المجال الاعلامى مع تلك القوى المعارضة،

ويؤيد ذلك عدم اكتفاء النظام بالمجلات الدينية التقليدية التابعة للأزهر والأوقاف والتي عكست وجهة نظر علماء الدين (مجلة الأزهر ، ومنبر الإسلام) رغم اتجاه الأخير في عهد وزير الأوقاف السابق زكريا البرى إلى مواجهة بعض القضايا السياسية الإسلامية التي أثارها الإخوان والجماعات بشكل مباشر، وربما يكون اتسام هذه المجلات بطابع متخصص فضلا عن صدورها بصورة شهرية هو ما دفع السادات على الاعتماد على الوسيلة الأوسع انتشارا والمتمثلة في الصحف اليومية.

ولكن ما تجدر الإشارة إليه في مجال تقييم " التوجيه الديني" للإعلام في عهد السادات في مجالاته المختلفة هو محدودية الدور الذي لعبه في مجال مواجهة المعارضة الدينية حيث اتسمت معالجته للموضوعات الدينية بالجزئية، بحيث لم تقدم رؤية شاملة لمجمل القضايا الدينية المثارة على الساحة السياسية، فضلا عن اتخاذها موقفا تبريريا ودفاعيا إزاء القضايا التي أثاراتها المعارضة السياسية الإسلامية

وهو ما جعل الإعلام الموجه في هذا المجال يدور في إطار رد الفعل ، حيث كانت مبادرة طرح القضايا المختلفة في هذا المجال من نصيب الجانب المعارض، وبالإضافة على ذلك يمكن القول بشك لعام إن المعالجة الإعلامية لقضايا الإسلام السياسي اتسمت بالشكل التقليدي الذي يستند إلى المعالجة الفقهية التقليدية ، والتي كانت في أغلب الأحيان غير قادرة على مواجهة التحديات ذات الطابع السياسي والمثير للجدل والتي طرحتها المعارضة الإسلامية.

وتبقى بعض الملاحظات في هذا السياق، والتي يمكن تلخيصها في ثلاث: الأولى، هي ارتباط هذا التوجه الاعلامى ذي الطابع الديني بالتوجه الرسمي للنظام، مما اضعف من مصداقيته وحجم دوره في مجال المواجهة الفعالة للمعارضة الإسلامية والتي امتلكت أدواتها الخاصة في التعبير السياسي من خلال صحفها.

وتتعلق الملاحظة الثانية، بالنظرة الضيقة للنظام لظاهرة المعارضة الإسلامية وخاصة العنيفة منها حيث عكس الاعتماد على الأداة الإعلامية تغييبا للعناصر السياسية والاجتماعية التي لعبت دورا رئيسيا في تنشيط هذه المعارضة والتي يرجع بعضها على مجمل التجربة السياسية التي شهدتها مصر في السبعينات من ناحية، وإلى الخصائص العامة الرئيسية التي حملها النظام السياسي المصري منذ 1952,

أما الملاحظة الثالثة فترجع إلى الدور المباشر أو غير المباشر الذي لعبه التوجه الديني الاعلامى بشكل عام في مجال زيادة عوامل التنشئة الدينية في المجتمع بغض النظر عن الأهداف السياسية التي سعى إليها والتي لم يكن باديا أنها حققت نجاحا ملموسا في هذا الاتجاه ،

وربما لعبت هذه العوامل الخاصة بالتنشئة الدينية دورا في زيادة المناخ الديني العام وهيمنته على الحياة السياسية والاجتماعية والذي لم يكن بالضرورة في صالح النظام، بل الذي ربما استفادت منه القوى الإسلامية المعارضة في مجال التعبئة الدينية الجماهيرية التي تنشدها.

التعليم

لم تقتصر عملية التوجيه الديني في السبعينيات على مجال الأعلام، وإنما شهد عهد السادات إجراءات أخرى في نفس الاتجاه في مجال التعليم. الذي يعد إحدى الأدوات الرئيسية في مجال التنشئة الاجتماعية والسياسية، وغنى عن الإشارة أن هذا التوجه في نفس السياق السياسي الذي حدد إستراتيجية السادات في مواجهة تصاعد المعارضة الإسلامية حيث أصدر قرار في عام 1978 باعتبار مادة التربية الدينية مادة إجبارية في مراحل التعليم المختلفة بالمدارس.

والواقع أن هذا التقليد لم يكن جديدا تماما حيث بدأت وزارة التعليم في اعتبار الدين مادة أساسية ( رسوب ونجاح) في عام 1968 ولكن مع استثناء الشهادات العامة.

إلا أن إعادة تأكيد السادات على أهمية التدريس مادة الدين وتعميمها إجباريا في جميع مراحل الدراسة كانت لها دلالتها السياسية الهامة حيث أشار في أحاديثه إلى أهمية إدخال القيم الدينية والإيمان عند الفرد في جميع مراحل حياته، وبالتحديد في سنوات التنشئة الأولى من خلال النظام التعليمي. وحمل هذا التوجه في طياته تغليبا للقيم الدينية في المجتمع.

وقد انعكس هذا التوجه للنظام على برامج الأحزاب السياسية ، فنص الحزب الوطني الديمقراطيفي برنامجه على ( تدعيم القيم الروحية والدينية في برامج التعليم بحيث تكون مادة رسوب ونجاح كما يجب أداء الشعائر الدينية داخل المدرسة).

وبالمثل أشار برنامج حزب العمل( إلى التربية الدينية باعتبارها أساس غرس القيم الخلقية السليمة في نفوس الأجيال الصاعدة، ولابد أن يراعى أن تجمع بين المنهج الدراسي المناسب على مستوى الطلاب وبين الممارسة العملية عن طريق أداء الصلاة في مواقيتها بالمدارس ومراعاة السلوك الديني في المجتمع المدرسي) ،

أما برنامج حزب الأحرار الاشتراكي فأشار فيما يتعلق بالتعليم الديني( إلى ضرورة الاهتمام بالتعليم الأزهري ونشر معاهد التعليم الأزهري في كل أنحاء الجمهورية، والتوسع في إنشاء جامعات إسلامية تنتمي إلى الأزهر، وتشجيع الإقبال على الكليات الأزهرية التقليدية مثل الشريعة وأصول الدين واللغة العربية ، ومساواة خريجي الأزهر بنظرائهم في التعليم العام).

وثمة ملاحظة أساسية على الاهتمام بالتوجه الديني للنظام وهو ربط الدين بالسياسة إذ أن هذا التوجه بشكل عام لم يأخذ مجرد شكل محايد للاهتمام بالتربية الدينية كإحدى المواد الدراسية في مراحل التعليم،

وإنما عمد النظام من خلال توجيه البرامج التعليمية للتأكيد على التوجهات السياسية من خلال القيم الدينية التي تحويها هذه البرامج خاصة في سنوات التنشئة الأولى من خلال التعليم الابتدائي، ومن ذلك دعم التوجه الاقتصادي للنظام( كما حدث في الستينات بربط الاشتراكية بالقيم الدينية) ، والتأكيد على قيم التكافل الاجتماعي وتطهير النفوس من الحقد والحسد- وفق التعبير الذي استخدمه السادات مرارا- على الأغنياء من خلال مفهوم الزكاة ،

فضلا عن إبراز القيم التي تحض على الصبر والتسامح الديني. ويلاحظ ارتباط الاهتمام بهذه القيم بالتطورات السياسية التي وقعت في نفس الفترة بسبب أحداث الفتنة الطائفية وكذلك القيم التي تؤكد على السلام وإقرار الصلح مع إسرائيل.

وتشير إحدى الدراسات الميدانية في مجال التعليم إلى أن نسبة القيم الدينية على القيم الأخرى في مجال التعليم( خاصة الابتدائي) بلغت حوالي 47% من مجموع القيم التي عليها البرامج الدراسية.

ثانيا: انعكاسات سياسية النظام تجاه المعارضة الإسلامية على الكنيسة في السبعينات

كان الوجه المقابل لصعود قوى المعارضة الإسلامية في السبعينات بفصائلها المختلفة خاصة العنيفة منها- ظهور توتر على الجانب الآخر من الجماعة الوطنية المصرية ممثلا في الأقباط - وبدأت تبرز حركة احتجاج مسيحي تزعمتها الكنيسة القبطية وهى وإن لم تتخذ شكلا عنيفا إلا أنها اعتبرت نوعا من أنواع الاعتراض الذي مثل تحديا آخر أمام النظام السياسي إلى جانب التحدي الذي مثلته الجماعات الإسلامية.

فقد شهدت سنوات السبعينيات تزايدا لحوادث العنف بين بعض العناصر الإسلامية والمسيحية انتهت على مواجهة مسلحة في كثير من الأحيان وبلغت هذه الأحداث ذروتها فيما عرف بحادث الزاوية الحمراء في يونيو 1980 والذي راح ضحيته كثير من القتلى والجرحى، وإذا كانت النزعة الاعتراضية للأقباط والكنيسة عبرت في جانب هام منها عن رد فعل الأقلية الدينية إزاء تصاعد القوى الإسلامية في المجال السياسي والاجتماعي، واتخاذها منحى عنيفا من قبل بعض فصائلها،

إلا أنها عكست في جانب آخر عدم رضائها عن التوجه السياسي العام للنظام والذي عمل على تغليب العامل الديني فئ إدارته للصراع السياسي والاجتماعي مع هذه القوى. ولعل التطورات التي لحقت بالمجال التشريعي في عهد السادات كانت من أبرز العوامل التي أدت على توتر علاقة الكنيسة بالنظام وأوصلتها إلى نقطة الصدام .

مظاهر معارضة الكنيسة

بدأ السادات عهده بوضع الدستور الدائم عام 1971 متضمنا النص في مادته الثانية على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع وانتهى عام 1980 بتعديل نفس المادة لتصبح مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع في البلاد، وقد احتلت قضية الشريعة الإسلامية منذ النصف الثاني من السبعينيات مكانا بارزا في إطار عملية الصراع السياسي بين النظام والمعارضة السياسية الإسلامية،

وهو ما دعا الأول إلى تشجيع دفع قضية الشريعة داخل مجلس الشعب تهدئة لمطالب المعارضة الإسلامية من ناحية، ومحاولة لسحب البساط من تحت أقدامها من ناحية أخرى، وتم تشكيل لجان عديدة للإعداد لعملية صياغة القوانين بما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية، وكان أبرزها اللجنة التحى تشكلت داخل الأزهر، وبدأت نتائج أعمال هذه اللجنة تظهر في شكل مشاريع قوانين الحدود ومنها حد السرقة وحد الردة وغيرها.

وكان طبيعيا في هذا السياق أن تبرز عوامل الصراع الديني في المجتمع ,أن يظهر رد فعل على الجانب الآخر أي عند الأقباط , ولعل أهم مظهر لذلك تمثل في المؤتمر الذي عقده بطريرك الأقباط في 17 يناير 1977 للمجتمع المقدس , والذي عبر عن مخاوف الأقباط من تصاعد التوجه الديني سواء على صعيد القوى السياسية الإسلامية أو النظام نفسه خاصة في مجال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وبالذات مشروع قانون " حد الردة " الذي قدم إلى مجلس الشعب , فضلا عن النص الدستوري بأنها " مصدر رئيسي للتشريع " , وأشار المؤتمر إلى أن هذا النص يتعلق بتطبيق الأحكام الواردة في " القرآن والسنة " وبالتالي فلا يتأتى أن يلزم به غير المسلمين , واستند في ذلك إلى تعارض هذا النص مع نص دستوري آخر وهو " حرية العقيدة " .

وفي هذا الإطار قام شيخ الأزهر وقتئذ الشيخ عبد الحليم محمود بعقد مؤتمر إسلامي في يوليو 1977 ردا على المؤتمر القبطي أكد فيه على ضرورة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كما جاء ضمن قراراته أن أي قانون أو لائحة تتعارض مع تعليم الإسلام تعتبر لاغيه , وأن مقاومة هذه التشريعات واللوائح واجب على كل مسلم , استنادا إلى أن الالتزام بأحكام الشريعة لا يتوقف فقط على إقرار البرلمان بها أو تقنينها من خلال إصدار تشريعات خاصة بتطبيقها وإنما هي شريعة ملزمة قبل ذلك , ومن هنا طالب بسرعة تحرك المجلس التشريعي لإقرارها حسما للجدل .

وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر القبطي لم يقتصر على مناقشة قضية تطبيق الشريعة الإسلامية وإنما أثار قضايا أخرى تتعلق بمجمل أوضاع المسيحيين في المجتمع , ومنها مسألة تمثيلهم في الهيئات البرلمانية وضرورة استبعاد الطائفية من تولى الوظائف العامة للدولة على كافة المستويات , والقوانين المتعلقة بتنظيم الأحوال المدنية للأقباط ( كالأسرة والزواج ) , بالإضافة إلى المطالب المتعلقة بإلغاء القوانين العثمانية التي تقيد حق بناء الكنائس , وحرية نشر الفكر والتراث القبطي , وإحياء اللغة القبطية وهو ما أثارته مجلتا "الكرازة " و " وطني" .

وفي26 مارس 1980 ألقى البابا شنودة الثالث خطابا يعارض فيه فكرة أن تكون الشريعة الإسلامية أساسا يطبق على غير المسلمين , وأبدى مخاوفه من أن الدين يوشك أن يحل محل " الوطنية " , كما أعلن في نفس الوقت الخطاب أن صلوات عيد القيامة لهذه السنة لن تقام , كنوع من الاحتجاج على تجاهل ما تقدم به الأقباط من طلبات ,

وقرر في هذا الإطار الاعتكاف مع مجموعة من الأساقفة في أحد الأديرة في الصحراء يصلون من أجل الخلاص مما يعانيه الأقباط , وأصدر البابا أمرا إلى كل رجال الكنيسة بعدم تقبل التهاني بعيد القيامة من أي مسئول رسمي تبعث به الدولة وهو التقليد المتبع .

وارتبط هذا المتصاعد الذي مارسته الكنيسة بعدما أعلنت حكومة ممدوح سالم وقتئذ في أغسطس 1977 عن اعتزامها تطبيق " الحدود " بضغط آخر مارسته التكتلات القبطية في المهجر , خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية واستراليا , والتي ظلت على علاقتها بالكنيسة .

وقد تحرك هؤلاء في مظاهرات ضد الاتجاهات التشريعية الجديدة تعضيدا للموقف الاعتراضي للكنيسة , ولم يهدأ الأمر إلا بعد أن أرسل لهم البابا برقية تنبئ بزوال الأزمة بعد تراجع الحكومة وإعلانها سحب مشاريع القوانين المقدمة إلى البرلمان في هذا المجال , وإن كان ذلك لم يثن النظام بعد ذلك عن الإقدام على تعديل المادة الثانية من الدستور لتصبح " مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع " .

الدور السياسي للكنيسة

لا شك أن وضع الكنيسة الممثلة لأقلية دينية في مجتمع ما يحمل نوعا من الخصوصية ينعكس على الدور تلعبه في الحياة السياسية والاجتماعية , وعلى سلوك الأقلية التي تمثلها , حيث تعبر الكنيسة عن نوع من أنواع التمييز والهوية لدى هذه الأقلية خاصة في فترات اشتداد حدة الصراع الديني في المجتمع , وهو ما ينطبق على حالة الأقباط في مصر وعلاقتهم بالكنيسة في السبعينيات وهي الفترة التي عرفت نوعا من أنواع " أزمة الهوية " في المجتمع بسبب تغليب العامل الديني على عملية إدارة الصراع السياسي والاجتماعي , وكان من الطبيعي أن تميل هذه الأقلية إلى الاحتماء بالدين والكنيسة لتأكيد هويتها وتميزها عن الأغلبية .

وإذا كان هذا المدخل يقدم أحد المحددات العامة للدور الذي يمكن أن تلعبه " الكنيسة " كمؤسسة دينية ممثلة للأقلية , فثمة محدد آخر يقدم تفسيرا لنفس الدور وهو الخاص بالبعد الاجتماعي لهذه الأقلية , فكما يشير الكثير من الباحثين فإن الأقباط يمثلون نموذجا " للأقلية المتوسطة " , حيث يتركز وجود الأقباط في الطبقة الوسطى وخاصة من أصحاب المهن المتخصصة والحرة , كما أن لهم وجودا في فئة رجال الأعمال .

ووفق هذا المنظور فإن الأقلية القبطية لا تعبر في غالبيتها عن أقلية "مغلوبة " ولا أقلية " مسيطرة " ولهذا فهي غالبا أقلية صامتة , فانتماؤها إلى الطبقة الوسطى خاصة الشرائح المتوسطة والعليا منها يجعلها تتميز بخصائص تلك الطبقة التي يغلب عليها الحذر والسلبية والميل إلى تجنب المواجهة المباشرة مع السلطة .

وينعكس هذا البعد الاجتماعي على السلوك السياسي للأقباط حيث يرتبط غالبا بالمناخ السياسي العام وما يوفره من قنوات تدفعهم إلى الانخراط في العمل دون شعور بالخطر المهدد لهويتهم أو وجودهم في المجتمع , وربما اتضح أبرز نموذج لذلك من خلال ثورة 1919 وحزب الوفد قبل 1952 .

وعلى العكس عندما تضيق قنوات المشاركة , وتبرز عوامل الاستقطاب الديني في المجتمع ينخفض وجود الأقباط في العمل العام ويتواكب ذلك مع ميلهم إلى الاحتماء بالكنيسة مما يزيد من دورها السياسي في مراحل معينة .

ورغم سعي الكنيسة للعب دور متميز تجاه الأقلية التي تمثلها إلا أنها في المقابل تميل إلى ربط وجودها بالدولة تجنبا لحالة العزلة وتأكيدا على اندماجها في الكيان الأكبر للدولة والمجتمع , وهاتان الخاصيتان المرتبطتان بوضع الكنيسة الممثلة لأقلية دينية في المجتمع تجعلان العلاقة بينها وبين الدولة تسير في اتجاهين متعارضين أحيانا :

الأول , هو ربط الكنيسة بالدولة . والآخر , هو محاولة تمييز الكنيسة عن الدولة , ولا شك أنه يصعب الفصل التام بين الاتجاهين إذ قد يوجدا معا , ولكن ربما يبرز اتجاه أكثر من الآخر وفق المراحل التاريخية والسياسية المختلفة .

ويلاحظ أن الاتجاه نحو تمييز الكنيسة عن الدولة كان هو السائد في فترة السبعينيات بسبب التغيرات التي اجتاحت الواقع السياسي والاجتماعي والتي أبرزت حالة واسعة من الاستقطاب الديني في المجتمع التي نشطت من خلالها الكنيسة في مواجهة النظام حماية للأقلية المعبرة عنها،

ويرى البعض أن الكنائس تحولت على نوع من المؤسسات الاجتماعية التي لعبت دورا في التنشئة والتعليم والتعبئة يماثل عملية الإحياء التي شهدتها المساجد الأهلية في السبعينيات والتي لعبت دورا هائلا في عمليات التعبئة والتجنيد وصياغة الاتجاهات السياسية الدينية،

وربما ساهمت المتغيرات الخارجية في هذه الفترة في تغذية عوامل الاستقطاب الداخلي حيث كان ثمة اهتمام من الغرب وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية في دعم دور المؤسسات الدينية في العالم الثالث لتوظيفها في إدارة الصراع السياسي مع الاتحاد السوفيتي وقتئذ تحت دعوى مواجهة " الإلحاد والشيوعية" وفى هذا السياق لعب الأنبا" صموئيل" أسقف الخدمات والعلاقات الخارجية دورا فئ تدعيم العلاقات مع مجلس الكنائس العالمي وإعادة تنظيم الموارد المالية بهدف تأمين قدر من الاستقرار والاستقلال المالي للكنيسة.

وساهمت هذه العوامل مجتمعة في السبعينات في إبراز دور الكنيسة وظهور الخطاب الكنسي وهو ما أدى في النهاية على دخولها في صدام مع النظام في عهد السادات.

فقد اتسمت فترة السبعينيات بتنامي دور الكنيسة وقدرتها على استقطاب الأقباط كأحد مظاهر عملية الإحياء الديني التي شهدها المجتمع المصري على الجانبين الإسلامى والمسيحي، وقد مهد هذا الأمر للدور السياسي الذي لعبته الكنيسة وظهور الحركة " الاعتراضية" التي عبرت عنها، التي لا تتم غالبا من خلال عمل سياسي مباشر يلجأ للعنف وإنما تأخذ شكل المقاومة السلبية التي تحمل في طياتها نوعا من أنواع العنف يمكن وصفه بالعنف السلبي ،ويمكن تحديد المقصود بالعنف السلبي من خلال ما أشار إليه الباب من أنه الكآبة المستمرة، البكاء الدائم، الإضراب عن الطعام، الصمت الحزين، الانسحاب، وكلها أنواع من العنف الهادئ الصامت،

ويفسر ذلك بقوله( أنه ليست كل أنواع العنف مرفوضة فهناك قاعدة روحية تفرق بين الحق العام والحق الخاص، وقد نتساهل في حقوقنا الخاصة بدافع من الوداعة) وهو ما يعنى أن الموقف الاعتراضي للكنيسة كان يتعلق بالحق القبطي العام ويشكل ضغطا على السلطة بعيدا عن المواجهة المباشرة حيث أن هذا الأسلوب لا يحرمه القانون وبالتالي يشكل وسيلة فعالة للضغط،

وفى ذلك أشار الباب ( قلت للرئيس.. إن صومنا عبادة وليس سياسة، هو صوم موجه إلى الله وليس موجها إلى الناس) ، ويرجع ذلك على العاملين اللذين سبقت الإشارة إليهما: الأول، هو حرص الكنيسة على الحفاظ على روابطها كع الدولة رغم سعيها لتمييز دورها إزاء النظام واستقطابها للأقلية القبطية .

والآخر، هو طبيعة الأقلية التي تمثلها والتي بحكم انتماء قاعدتها للأقلية إلى الطبقة الوسطى فإنها تكون أميل على هذا النوع من المقاومة أو الاعتراض السلبي.

وتمثلت أهم مظاهر اعتراض الكنيسة في السبعينيات من خلال قرارات المجمع المقدس عام 1977 الذي عرض مطالب الأقباط بجوانبها السياسية والاجتماعية، والشكوى التي تقدم بها المجمع المقدس في 1980 إلى السادات طالبا منه التدخل لحماية الأقباط بعد الاعتداءات المتتالية التي تعرضوا لها في جامعات أسيوط والمنيا والإسكندرية.

وثمة ملاحظات حول المدى الذي وصلت إليه الكنيسة في حركتها الاعتراضية والتي يمكن تلخيصها في الآتي: • إن الكنيسة لن تعارض سياسات النظام في السبعينيات مثل سياسة الانفتاح الاقتصادي والصلح مع إسرائيل، وهى أهم سياسات التحول التي شهدتها حقبة السبعينيات ، وإنما تلخصت معارضتها حول القضايا التي تخص الأقباط.

• إن الكنيسة بهذا الموقف الاحتجاجي الذي اتخذته وخاصة من قبل المجمع المقدس بدت كالمدافع الأول عن حقوق الأقباط في مواجهة ما اعتبرته تساهلا من النظام في حماية الأقلية من اـاعتداءات المتكررة عليها، وهو ما أدى على تزايد ارتباط الأقباط بمؤسسة الكنيسة فضلا عن اعتبارها رمزا للتعبير عن الهوية القبطية وأعطاها دورا متميزا يتمتع بالاستقلالية.

• إن اعتراض الكنيسة على أسلوب مواجهة النظام للعنف الذي تعرض له الأقباط يعكس نوعا من المواجهة غير المباشرة معه، حيث يظهر هنا أسلوب العنف السلبي أو الصامت الذي يشكل ضغطا مستمرا على الجانب الآخر دون الدخول في صدام مباشر معه.

ومن هذا المنطلق وجدت الكنيسة طريقا للتأثير على السياسة دون ممارستها بشكل صريح ويتأكد هذا الدور من خلال قول الباب( لا نستطيع أن نقول أنه لا دين في السياسة إلا أن تكون السياسة ملحدة بلا دين.. ورجل السياسة مفروض أن يكون رجلا متدينا) ، ويؤكد هذا المعنى في عبارة أخرى( أن هناك أمورا لا يستطيع رجل الدين أن ينعزل عنها وإلا يعتبر أن الدين مجرد عبادة وليس فيه نصيب في الحياة الاجتماعية كلها).

المواجهة بين النظام والكنيسة

هكذا دخلت الكنيسة منذ السبعينيات مرحلة جديدة، حيث بات واضحا اهتمامها برعاية الأمور العامة للأقلية القبطية والتي يثير العديد من الجوانب السياسية مثل مسألة التمثيل النيابي للأقباط وموقعهم من تولى الوظائف العامة، هذا فضلا عما أثارته الكنيسة القبطية من ضرورة إجراء إحصاء بين عدد المصريين الأقباط، وهو ما عكس تشككا وعدم ثقة في أجهزة الدولة الرسمية المختصة بعملية الإحصاء.

ولا شك أن هذا الدور شكل مدخلا رئيسيا للصراع بين الكنيسة والنظام حيث تداخل مع المسئولية الدستورية لنظام الحكم، مما حدا بالسادات إلى الإشارة في إحدى خطبه على ( أن الأمر لا يخرج عن كونه صراع الكنيسة من أجل السلطة، فرئيس الكنيسة يريد العودة إلى العصور الوسطى، الصراع بين الكنيسة والحكومة ، وكان يريد أن يكون زعيما سياسيا) ، بل وأشار صراحة على تطلعات الباب في الزعامة السياسية ومحاولة تشكيل دولة داخل دولة وفق تعبيره.

ورغم أنه كانت ثمة أسباب موضوعية لتصاعد حدة الصراع الديني في المجتمع وهو الأمر الذي عكسته المواجهات المستمرة بين بعض عناصر الجماعات الإسلامية والأقباط، فضلا عن التغييرات الدستورية التي أقدم عليها النظام في مجال تطبيق الشريعة الإسلامية إلا أن الملاحظة الأساسية حول معالجة السادات لمسألة التوتر الطائفي وبروز حركة الاعتراض المسيحية تشير على محاولة النظام البعد عن التطرق إلى الأسباب الرئيسية الكامنة لتوليد الصراع. وفى المقابل لجأ إلى استخدام لغة التهديد أحيانا، وتقديم بعض التنازلات الجزئية أحيانا أخرى فى محالة لاحتواء الحركة الاحتجاجية للكنيسة.

وفى هذا السياق سعى السادات إلى التأكيد في خطابه السياسي على الوحدة الوطنية، مستندا إلى البعد التاريخي في التعايش السلمي بين أبناء الجماعة الوطنية المصرية مسلمين وأقباط، ويلاحظ على أسلوب هذا الخطاب خاصتين: الأولى، تجاهله للمتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع المصري في حقب متتالية ، والتي لعبت دورا في تغذية عوامل الصراع الديني.

والآخر، هو تزايد الاستشهاد بالرموز الدينية مما عكس استمرار الاعتماد على نفس اللغة الدينية مما عكس استمرار الاعتماد على نفس اللغة الدينية في الخطاب السياسي لإدارة الصراع السياسي.

وفى المقابل لجأ السادات- إزاء استمرار عمليات الضغط التي مارستها الكنيسة- إلى تقديم التنازلات الجزئية، ومن ذلك الاستجابة إلى بعض المطالب التي طرحها المؤتمر القبطي الذي عقد في يناير 1977 والمتعلقة بحرية بناء الكنائس، ورغم أن المطلب القبطي دار حول إلغاء القيود والقرارات المعمول بها في هذا المجال منذ العهد العثماني إلا أن استجابة النظام تمحورت حول منح الكنيسة حق زياد عدد الكنائس دون التعرض للقوانين المنظمة لهذا الأمر.

ولا شك أن هذا الأسلوب كان يضمن استمرار هيمنة السلطة السياسية على الكنيسة حيث الكنيسة حيث يصبح الحاكم هو جهة المنع و المنح، وفى نفس السياق أكد السادات على عدم مشروعية المطالب السياسية التي أثارتها الكنيسة حول مسالة التمثيل البرلماني للأقباط حيث أو وضعهم كأقلية لا يتيح لهم تحقيق هذا التمثيل من خلال عملية الانتخاب.

وتجدر الإشارة على أن تعامل النظام مع الحركة الاعتراضية التي أظهرتها الكنيسة في السبعينيات لم يؤد على تخفيف التوتر التي استمرت في تصاعد وزاد منها الموقف الذي اتخذه الأقباط في المهجر خاصة إبان زيارة الرئيس السادات على كامب ديفيد في الولايات المتحدة في 1978 حيث اندلعت المظاهرات أمام مبنى الأمم المتحدة والبيت الأبيض وأمام منزل الضيافة الذي نزل فيه السادات فضلا عن المنشورات والبرقيات التي أرسلها الأقباط إلى الرئيس الأمريكي كارتر وكلها تدين الوضع الداخلي في مصر والموقف من الأقباط بعد الحوادث التي تعرضوا لها في هذه الفترة، وتطالب بمراعاة تطبيق مبادئ حقوق الإنسان وهو ما سبب حرجا بالغا للرئيس المصري أثناء الزيارة .

وتشير قراءة خطاب السادات، الذي ألقاه في مجلس الشعب في 14 مايو 1980، مدى التوتر الذي وصلت إليه العلاقة بين النظام والكنيسة المصرية، حيث اتسم بعدم الترتيب والطابع الانفعالي وهو ما أنذر ببداية لجوء النظام إلى أسلوب لردع حيال الكنيسة خاصة بعد هجوم الرئيس المتتالي على الباب ن

وقد سارت الأحداث بعد ذلك في اتجاه التصعيد خاصة بعد وقوع حادث الزاوية الحمراء وكانت أبرز مظاهر هذا التصعيد ما شملته قرارات 5 سبتمبر 1981 من عزل البابا، فأعلن السادات إلغاءه لقرار رئيس الجمهورية بتعيين الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وتشكيل لجنة للقيام بمهام البابوية.

ويمكن ملاحظة بعض أوجه الشبه بين أسلوبي معالجة النظام لكل من المعارضة الإسلامية وحركة الاعتراض المسيحسة حيث بدأت بالمهادنة ومحاولات الاحتواء، وانتهت على الصراع ثم الصدام المباشر. وثمة بعد آخر حكم اسلوبى المعالجة وهو موقف النظام من دور الدين في إدارة الصراع السياسي والاجتماعي ، فكما استخدم الدين كأداة للشرعية والتبرير والتعبئة السياسية للنظام، فإنه في مرحلة أخرى- خاصة بعد تزايد حدة المعارضة ذات الطابع الديني على الجانبين- لجأ إلى التأكيد على ضرورة فصل الدين عن السياسة،

وهو ما ابرز مرة أخرى عمق التناقض الذي حكم التوجهات السياسية للنظام في هذه الحقبة، فكما رفع السادات شعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين بعد اشتداد حدة المعارضة الإسلامية فإنه عاد وأكد على نفس المعنى في مواجهة حركة الاعتراض المسيحية التي قادتها الكنيسة إذ قال بما نصه ( عند الوحدة الوطنية مش مستعد أن أساوم أبدا.. الأمر متعلق باستغلال الدين.. وأنا قلت قبل كده لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة).

ورغم الأبعاد الدينية التي اتخذتها الحركة الاعتراضية المسيحسة والتي ارتبطت بزيادة عوامل الاستقطاب الديني في المجتمع منذ تلك الحقبة، إلا أن هذه الحركة عكست جانبا من أزمة المشاركة السياسية التي ارتبطت بطبيعة النظام السياسي خاصة بعد قيام نظام يوليو 1952.

فكما يشير د. ميلاد حنا أنه لم يكن هناك قبطي واحد في قيادة تنظيم الضباط الأحرار- وما سمى بعد ذلك بمجلس قيادة الثورة الذي بلغ عدد أعضاؤه 13 عضوا، ولم يعرف فيما بعد عن وجود شخصية قبطية واحدة ذات وزن في كل حركة الجيش، ولذلك فإن فترة حكم عبد الناصر- وفق هذا الرأي – لم تمثل وجودا للأقباط على الساحة السياسية ولا على المستوى القيادي،

واكتفى النظام بالاعتماد على العناصر القبطية من التكنوقراط الذين لم يكن لهم تأثير سياسي كبير لكي يقوموا بتمثيل الأقباط في الوزارة، وربما كان لنشأة تنظيم الضباط الأحرار الذي أصبح بعد ذلك سلطة الحكم في البلاد داخل المؤسسة العسكرية أثر في إبراز مشكلة التمثيل السياسي للأقباط بسبب الاعتبارات التاريخية التي حكمت تشكيل الجيش من هذه الزاوية.

ويضاف على هذا الاعتبار التوجهات السياسية التي سادت نظام 1952، والتي حظرت نشاط الأحزاب السياسية القديمة وخاصة حزب الوفد الذي شكل الأقباط عنصرا بارزا فيهن فقد ارتبط دورهم في الحياة السياسية بالحركة الوطنية المصرية قبيل العشرينات غذ مهد الطابع العلماني لثورة 1919 فرصة للأقباط للمساهمة بقوة في الحركة الوطنية، كما لعبت قيادة سعد زغلول لهذه الحركة دورا في تذويب عوامل التفرقة الدينية وتشجيع الأقباط على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية وهو الرمز الذي سار عليه حزب الوفد حتى صار تعبيرا عن الوحدة الوطنية المصرية.

وفى المقابل لم ينجح النظام بعد 1952 في تكوين تنظيم سياسي ، بديل للوفد يقوم على المشاركة السياسية الحقيقية، بل اعتمد بشكل عال على الإدارة كجهاز رئيسي يستند إليه في نشاطه السياسي وهو ما أعطى له طابعا بيروقراطيا واضحا،

وربما كان الجهاز البيروقراطي من أكثر المؤسسات التي يظهر في تكوينها مظاهر للتفرقة بين المسلمين والأقباط لأسباب تاريخية ترجع إلى طابعه المحافظ بالإضافة إلى ما روعي في اختيار قياداته بعد 1952 من أن يكونوا من أهل الثقة وهم في الغالب كانوا من الضباط الأحرار أو ممن يتصلون بهم بروابط وثيقة.

وقد سرى ذلك أيضا على تشكيل البرلمان، ويصف د. ميلاد حنا هذا الوضع بقوله( ظل الأقباط في حالة ترقب منذ بداية الثورة عام 1952.

وغلبت عليهم السلبية في الانتخابات وفى الحياة العامة حيث وجدوا صعوبة شديدة في استئناف نشاطهم مثلما كانوا أيام انتخابات الوفد.. وعندما تقرر عمل انتخابات عامة لأول مجلس للأمة في عهد الثورة عام 1957 اتضح لهم مع الممارسة أن وصول قبطي إلى مقعد في هذا المجلس لهو أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا، فقد تقرر حل جميع الأحزاب السياسية بما فيها حزب الوفد..

وأصبح كل المرشحين هم بالضرورة أعضاء في التنظيم السياسي الواحد هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي وبتوازي قنوات المشاركة السياسية ظهرت الطائفية على السطح وأصبح الفيصل في الاختيار هو الانتماء الطائفي أو الشللية).

إن بوادر أزمة التمثيل السياسي القبطي التي أظهرتها أول انتخابات نيابية في عهد النظام الجديد في 1957 استمرت من خلال المجالس المتتالية ( 1964-1968) ثم في ( 1971-1976-1979) وتم معالجة هذا الأمر من خلال إعطاء رئيس الجمهورية الحق في تعيين عشرة أعضاء في مجلس الشعب لتمثيل الأقباط من بين 360 عضوا وهو التقليد الذي بدأ في الستينات واستمر في السبعينات .

ورغم أن هذا الأمر قد حل مشكلة التمثيل السياسي للأقباط جزئيا إلا أنه لم يفتح لهم قنوات المشاركة السياسية الحقيقية حيث رهن مسألة المشاركة بمشيئة الحاكم .

ورغم التحولات السياسية التي أقدم عليها السادات في السبعينيات بإقراره للتعددية السياسية وبداية تجربة سياسية جديدة نحو التحول الديمقراطي , إلا أن المؤسسات والتشكيلات السياسية ظلت تتسم بالضعف إزاء استمرار الطابع السلطوي للنظام وبقيت أزمة المشاركة السياسية قائمة .

وفي ظل هذه الظروف السياسية نشطت حركة الإحياء الديني في المجتمع والتي غذتها توجهات النظام السياسي في هذا العهد مما زاد من أسباب انحياز كل من طرفي الجماعة الوطنية المصرية الإسلامية والمسيحية إلى انتمائه العقيدي والديني وأصبحت المؤسسة الدينية من ناحية وجماعات المعارضة الدينية من ناحية أخرى بديلا عن المؤسسات السياسية في استقطاب أبناء كل طرف وهو ما يمثل حالة الأقباط والمسلمين في العمل السياسي في السبعينيات .

وبذلك يكشف واقع السبعينيات عن طبيعة الأزمة التي تعرض لها النظام في تلك الحقبة , والتي تجسدت في نهايتها في تعدد واتساع قوى المعارضة ضده , ولم تقتصر تلك المعارضة على القوى التي كانت بحكم مصالحها وتوجهاتها مضادة للنظام , وأنها أيضا تلك القوى التي لم يفلح النظام في استقطابها , أو على الأقل في تحييدها ,

وبلغت الأزمة ذروتها بأحداث سبتمبر 1981 وحملة الاعتقالات الواسعة التي شملت ممثلي كافة القوى السياسية في المجتمع المصري تقريبا , وانتهت بمسألة اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر من نفس العام على يد أحد أعضاء التنظيمات الإسلامية التي تبنت العنف أسلوبا لحركتها .

الفصل الرابع استراتجيات النظام في مواجهة المعارضة الإسلامية

يعالج هذا الباب التطورات المتوالية التي لحقت بإستراتيجية النظام في مواجهة المعارضة الإسلامية في عهد الرئيس مبارك , وينقسم إلى مقدمة وثلاث فصول , تتناول المقدمة التوجهات السياسية للنظام في هذا العهد وأثرها على إستراتيجيته إزاء المعارضة الإسلامية .

ويعرض الفصل الأول لتطور موقف النظام وسياساته تجاه قوى المعارضة السياسية الإسلامية التي يمثلها الإخوان المسلمين , من خلال وجودهم في الأحزاب السياسية ومجلس الشعب في الثمانينيات , ويتعرض الفصل الثاني لأساليب ومجالات المواجهة غير المباشرة بين النظام والقوى الإسلامية خارج نطاق هذا الإطار السياسي والمؤسسي , والتي تمثلت في النقابات المهنية , والجمعيات الأهلية , والاتحادات الطلابية , ويتعرض الفصل من هذه الزاوية إلى التطورات والتفاعلات المختلفة بين الجانبين والمواجهات غير المباشرة بينهما والتي شهدتها هذه المجالات المختلفة طوال عقد الثمانينيات .

وأخيرا , يعالج الفصل الثالث , تطور جماعات العنف ـ التي تشكل الجناح المتشدد من المعارضة الإسلامية ـ وسياسة النظام في مواجهتها .

التوجهات السياسية للنظام والمعارضة الإسلامية

رغم اتجاه النظام في عهد الرئيس مبارك نحو تحقيق مزيد من الليبرالية السياسية إلا أن هذه العملية لم تصل إلى التحول الكامل نحو الديمقراطية التي تعتمد على قوة المؤسسات السياسية على مستوى صنع القرار.

ومن هنا يمكن اعتبار حقبة الثمانينيات هي حقبة انتقالية أخرى في حياة النظام السياسي المصري لم تكتمل مقوماتها بعد . فالتحول من " الشريعة الدستورية " التي أعلنها السادات في منتصف السبعينيات , كان مرحلة انتقالية لم تنته بانتهاء عهد السادات وإنما استمرت تحت حكم مبارك , وفضلا عن ذلك , فإن النظام السياسي المصري لا يزال مليئا بالخلط بين عوامل الاستمرار الموروثة , وعوامل التجديد التي يتطلبها التحول الليبرالي الديمقراطي .

أن أهم ما يتعرض عملية الانتقال "هو طبيعة النظام السياسي السائد الذي ظل محتفظا بالكثير من الخصائص التي ورثها منذ الحقبة الناصرية رغم التحول في اتجاهاته السياسية في عهدي السادات و مبارك , فالنظام المصري ما زال محتفظا بطابعه السلطوي " الذي تجسد في هيمنة جهاز الدولة , أي الحكومة وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة والجهاز البيروقراطي والجيش , مقابل ضعف المجتمع المدني ,

وفي كلا المجالين تسود العلاقات الشخصية والرعوية وتلعب دورا هاما في تجميع المصالح والتعبير عنها .

إن هذه الطبيعة (أو الخاصية ) للنظام السياسي عرضت عملية التحول الليبرالي والديمقراطي إلى ضغوط شديدة , فالثقافة السياسية ما زالت تحكمها القيم التقليدية , وما يتبعها من التأكيد على قيم الطاعة والولاء , والاستناد إلى الدين كأحد المصادر الرئيسية للشرعية السياسية والاجتماعية فقد ظلت ضعيفة , وبالتالي لم تمثل القنوات الرئيسية للنشاط السياسي في ظل عملية التحول الديمقراطي في الثمانينيات .

كذلك فإن التنظيمات التي شكلها النظام في صورة شبه حزبية بدءا من التنظيم السياسي الواحد (الاتحاد الاشتراكي في الستينيات ) إلى نظام التعددية الحزبية , في السبعينيات والثمانينيات لم ينجح في تحويلها إلى تنظيمات سياسية مستقلة , تقوم بدور فعال في عملية المشاركة السياسية تتفق وطبيعة التغيرات التي تتطلبها عملية التحول الديمقراطي .

وتجدر الإشارة إلى أن النخبة السياسية الحاكمة ما زالت تحمل الكثير من التشابه مع نخبة يوليو 1952 خاصة من ناحية لأيديولوجية المعبرة عنها، فالأخيرة لم تعكس قط تجانسا فكريا وافتقدت إلى رؤية سياسية واضحة ، وهذه الحقيقة أضعفت كثيرا من قدرة النظام على تعبئة المواطنين نحو هدف التغيير من ناحية، وأفقدته القدرة على صياغة برنامج عمل سياسي واجتماعي متماسك.

وقد أثرت هذه الخصائص على عملية التحول الليبرالي والديمقراطي في الثمانينات، كما كان لها أثرها على ضعف الحياة الحزبية، فضلا عن تنمية الاتجاهات المحافظة على المستويين السياسي والاجتماعي بسبب الطبيعة التقليدية للثقافة السياسية التي عبرت عنها النخبة الحاكمة.

وإذا كانت هذه الخصائص ليست لها صلة مباشرة بالاتجاهات السياسية الأصولية إلا أنها قدمت لها الأرضية الملائمة للنمو.

وقد اتجه النظام خلال السنوات الأولى من عهد مبارك إلى إعادة دفع عملية التحول الليبرالي، والتي كانت قد تعرضت إلى أزمة في السنوات الأخيرة من حكم السادات بعد الإجراءات القمعية التي اتخذها ضد اغلب تيارات المعارضة السياسية فى سبتمبر 1981، وبدت هذه الدفعة من خلال مستويين: الأول ، هو إبداء قد اكبر من التسامح مع التعددية السياسية وتوسيع مجال حرية التعبير خاصة على مستوى الصحافة، والآخر، هو التوسع النسبي في حق التنظيم للأحزاب والجمعيات.

وانعكس هذا التوجه الليبرالي على موقف النظام من المعارضة السياسة حيث سعى مبارك ( خاصة في فترة رئاسته الأولى 1981- 1987) على إعادة إدماج بعض القوى السياسية المعارضة في العملية السياسية خاصة تلك التي استبعدت من المشاركة السياسية خلال العهدين السابقين، وكان الهدف الأول لمبارك هو خلق قاعدة عريض من الإجماع القومي تضم كاف التيارات والقوى السياسية المعتدلة في مواجهة القوى الإسلامية المتشددة التي شكلت التحدي الرئيسي أمام النظام منذ اغتيال الرئيس السابق.

وفى إطار هذه السياسة تحددت إستراتيجية مبارك في التعامل مع المعارضة الإسلامية استنادا إلى مقومين أساسيين: الأول، هو إحداث نوع من التوازن بين المعارضة العلمانية التي – تم تحجيمها في عهد السادات- والمعارضة الإسلامية.

والآخر، هو التفرقة داخل المعارضة الإسلامية بين جناحيها المعتدل( الإخوان المسلمين) والعنيف ( الجماعات الإسلامية) .

وتمثلت الترجمة العملية لهذه الإستراتيجية على المستوى الأول في تشكيل حزب الوفد ذي الطابع ( العلماني) للأغلبية البرلمانية المعارضة في انتخابات 1984 بعد تحالفه مع الإخوان المسلمين، وتبدى المستوى الآخر في السماح للإخوان بالانخراط في العملية السياسية،

وإتاحة قدر أكبر من المشاركة السياسية لهم، وإن كانت هذه الخطوة لمتعن إعطائهم حق التنظيم السياسي المستقل كحزب، أو إعادة الشرعية لهم كجمعية دينية، وإنما إعطاؤهم الضوء الأخضر للعمل من داخل الأحزاب السياسية الشرعية والمشاركة في الانتخابات النيابية والتمثيل داخل البرلمان، مع إفساح المجال لهم لحرية التعبير من خلال الصحف المختلفة،

وربما كان الهدف الأول من هذه الإستراتيجية هو تهميش الجناح الآخر للمعارضة الإسلامية متمثلا في جماعات العنف التي رفضت الاعتراف بشرعية النظام والحاكم، حيث راهنت على إمكانية إضعاف قوى المعارضة الإسلامية من خلال سياسة التفرقة بين عناصرها.

وحققت هذه الإستراتيجية بعض النجاح في احتواء المعارضة الإسلامية خلال السنوات الأولى لحكم مبارك، ولكنها أثبتت محدوديتها في المرحلة اللاحقة ، وبدا ذلك من خلال ثلاثة مؤشرات.

أولا: الفشل في إحداث توازن بين المعارضة العلمانية والإسلامية حيث أن تحالف الوفد مع الإخوان لم يؤد إلى استيعاب الإسلاميين ، بل أدى على العكس إلى تراجع القوى العلمانية مقابل صعود القوى الإسلامية وهو الأمر الذي برز بشدة في الانتخابات التالية في عام 1987 حيث تزعم الإخوان المعارضة السياسية بتحالفهم مع حزبي العمل والأحرار تحت اسم التحالف الإسلامى وشكلوا أكبر كتلة برلمانية معارضة في ذلك الوقت.

ثانيا: عودة العنف السياسي منذ عام 1985 وتزايد نشاط الجماعات الإسلامية.

ثالثا: نجاح الحركة الإسلامية في الثمانينات ليس فقط في اختراق الأحزاب السياسية، وإنما في التغلغل داخل الكثير من مؤسسات المجتمع المدني مثل النقابات المهنية والاتحادات الطلابية والجمعيات الأهلية، فضلا عن تزايد نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي.

ويرجع إخفاق هذه الإستراتيجية إلى العديد من العوامل لعل أهمها: هو صعوبة استخدام طرف ضد آخر في شق صفوف الحركة الإسلامية، حيث ضغط كل من طرفيها من أجل تحقيق هدف واحد، له صيغة عقيدية ،وهو إقامة الدولة الإسلامية، سواء كان ذلك من خلال القنوات السياسي لحث النظام على تطبيق التشريع الإسلامية (هو المنهج الذي اتبعه الإخوان) أو بالعنف لقلب النظام وتحقيق نفس الهدف هو الأسلوب الذي انتهجته الجماعات الإسلامية،

كما أن القوى الإسلامية كانت هي القوى السياسية الوحيدة( بسبب عدم تمتعها بشرعية العمل الحزبي) التي مارست نشاطها السياسي كن وراء ستار القوى الحزبية الأخرى، وبالتالي فقد كانت هي القوى التحى لم تختبر والقوى السياسي الأخرى. بالإضافة إلى امتلاكها لقدرة عالية على التعبئة السياسية بسبب اعتمادها على الدين وتمتعها ببنية تنظيمية متماسكة وفعالة.

وفى المقابل فقد استفادت الحركة الإسلامية من ضعف القوى الليبرالية في التجربة أحزبية التي ولدت في السبعينات، وتجدر الإشارة على أن هذه القوى التي مثل قاعدتها الجماهيرية العريضة حزب الوفد في تجربة ( 1923-1952) قد تعرضت لضربة شديدة منذ قيام نظام يوليو 1952 ليس فقط على مستوى وجودها السياسي من خلال الأحزاب في الستينات.

ولم تكن البرجوازية المصرية التي تشكلت في السبعينات ذات طابع ليبرالي ، بل غلب عليها الاتجاه المحافظ غذ كانت خليطا من البرجوازية الحضرية واليمين المحافظ ( أعيان الريف) إلى جانب قطاع من الإخوان المسلمين الذين كونوا ثروات بعد هجرتهم إلى دول الخليج في الستينات، فضلا عن قطاع من البرجوازية الحضرية، ولذلك لم يتبلور الحضور السياسي لهذه البرجوازية الجديدة في إطار حزب ليبرالي.

وأخيرا فإن ضعف الأحزاب التي ولدتها التجربة الحزبية في السبعينات سواء على المستوى الأيديولوجي أو التنظيمي، أفقدها الكثير من مقومات الفعالية السياسية، والقدرة على التعبئة ، ولعبت هذه العوامل السلبية دورا في تزايد النفوذ السياسي للحركة الإسلامية.

الفصل الأول

النظام والمعارضة السياسة الإسلامية: الإخوان المسلمين

يعالج هذا الفصل موقف النظام من المعارضة السياسية للإخوان المسلمين في الثمانينات لقد مارس الإخوان المسلمين هذا الدور المعارض من خلال قناتين: الأولى، هي القناة الحزبية، حيث سعى الإخوان إلى التحالف مع الأحزاب الأخرى حزب الوفد أولا ثم حزبي العمل والأحرار، وقد أثر هذا السلوك بداهة على الموقف السياسي لكل منهما أي الإخوان والأحزاب.

أما القناة الثانية فهي القناة البرلمانية، حيث مارس الإخوان – للمرة الأولى- دورا واضحا في مجلس الشعب، محاولين اتخذا مواقف مميزة عن القوى السياسية الأخرى بتوجهاتها المختلفة، وقد أدت هذه الممارسات إلى بعض التحول في سياسة النظام إزاءهم مطلع التسعينات.

أولا: الإخوان المسلمين والتعددية الحزبية:

تتبنى القوى السياسية الإسلامية مفهوما مغايرا لمفهوم الديمقراطية الغربية، غير أن هذا لا ينفى اتخاذ جناح منها هو الإخوان المسلمين موقفا يتسم بالواقعية السياسية، وهو ما بدا في موقفهم من تجربة التعددية الحزبية المرتبطة بعملية التحول الديمقراطي، فقد قبلوا العمل من خلال الأحزاب القائمة لتدعيم نفوذهم السياسي من ناحية، وللالتفاف حول قانون تشكيل الأحزاب السيادية الذي يحظر تكوين حزب سياسي على أساس ديني من ناحية ثانية.

ويتفق هذا المنهج الواقعي مع الإستراتيجية السياسية التي تبناها الإخوان منذ عودتهم إلى الحياة العامة في السبعينات والتي تعمل على الوصول إلى هدفهم النهائي في إقامة دولة دينية بشكل تدريجي وسلمى، من خلال اختراق التنظيمات والهيئات السياسية والاجتماعية، بغرض تغييرها من الداخل، وتمثلت الترجمة العملية لهذه الإستراتيجية فئ تحالفهم مع حزب الوفد 1984 ثم تحالفهم مع حزبي العمل والأحرار تحت لافتة التحالف الإسلامى في 1978.

تحالف الإخوان مع الوفد

على الرغم من العائق القانوني الذي حال دون تمكن الإخوان من تشكيل حزب سياسي مستقل إلا أنهم استطاعوا المشاركة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في مايو 1984 تحت مظلة حزب الوفد، وقد أسفرت هذه الانتخابات هم حصولهم مجتمعين على 57 مقعدا في البرلمان من مجموع 448 أي حوالي 15% من نسبة التمثيل البرلماني.

وساهمت مجموعة من العوامل السياسية في دفع كل من الوفد والإخوان للتحالف في هذه الانتخابات، رغم الخصومة التاريخية التي حكمت العلاقة بينهما.

وكان في مقدمة تلك العوامل القانون الانتخابي المعمول به في ذلك الوقت، والذي يقوم على التمثيل النسبي والاقتراع من خلال القوائم الحزبية، ووجوب حصول أي حزب سياسي على 8% من أصوات الناخبين على مستوى الجمهورية محدد أدنى لتمثيله داخل مجلس الشعب.

وعبر هذا التحالف عن واقعية سياسية لتحقيق المصلحة الانتخابية، ووفر لكل من طرفيه فرصة للمشاركة في العملية السياسية خاصة وأنهما كانا من القوى المستبعدة منذ 1952.

ولأن هذا التحالف لم يستند إلى أساس أيديولوجي أو أرضية أصلية يقوم عليها فقد اتسم بطابع تكتيكي ما لبث أن انهار، ولكن ما هو أهم من ذلك، أن هذا التحالف وإن قدم ميزة للإخوان باشتراكهم في العملية السياسية والحياة البرلمانية ، إلا أنه على العكس أدى على إضعاف حزب الوفد ، حيث أثر بشدة على طابعه الليبرالي العلماني فضلا عن الخلافات الداخلية التي شهدها الحزب بسبب تحالفه مع القوى المناوئة له تاريخيا.

التحالف الإسلامى

هو التحالف الذي تشكل في عام 1987 بين كل من حزبي العمل والأحرار وجماعة الإخوان المسلمين، إبان الانتخابات البرلمانية التي جرت في نفس العام. وقد جاء هذا التحالف نتيجة للدواعي الانتخابية، وتعبيرا عن اجتماع المصلحة السياسية المتبادلة للأطراف الثلاثة، وكان وسيلة لضمان تمثيلها داخل مجلس الشعب. والاستعراض السريع لواقع هذه القوى قبل تشكيل التحالف يؤيد هذا القول.

فحزب العمل الاشتراكي نشأ بقرار من السلطة في 1978 حين أعاد الرئيس السابق أنور السادات تشكيل الخريطة الحزبية في مصر بعد حل مجلس الشعب في نفس العام وقيام الحزب الوطني الديمقراطيبرئاسته، وترتب على ذلك اختفاء حزب مصر العربي الاشتراكي وتقلص دور حزب الأحرار الاشتراكيين، ورأس الحزب من البداية إبراهيم شكري أحد القيادات القديمة لحركة مصر الفتاة.

ويبدو أن النظام وقتها رأى ضرورة وجود حزب جديد يلعب دور المعارضة السياسية بدلا من حزب الأحرار الذي أنشاء لنفس الغرض وإن لم يتمكن من لعب الدور المحدد له بسبب ارتباطاته الواضحة بالحكومة، ولم يبق سوى حزب التجمع اليساري كحزب معارض. هكذا تقرر إنشاء حزب جديد هو حزب العمل الاشتراكي الذي قدمت له الحكومة كافة التسهيلات السياسية ،

وجرت انتخابات برلمانية جديدة في 1979 ليحصل حزب العمل فيها على 23 مقعدا ويصبح بذلك حزب المعارضة الرئيسي داخل المجلس، غير أن مواقف الحزب في الحياة السياسية باعدت تدريجيا بينه وبين الحكومة، بحيث انتقل الحزب على مرحلة جديدة في العمل السياسي ، أدت في النهاية على تعرضه لنفس الإجراءات العنيفة التي اتخذها النظام في سبتمبر 1981 ضد باقي قوى المعارضة.

ثم عاد الحزب لاستئناف نشاطه السياسي في ظل العهد الجديد لمبارك ، وإن كان قد فقد وضعه السابق كممثل رئيسي للمعارضة. وأخذ دوره بين باقي الأحزاب التي تصدرها حزبا الوفد والتجمع، ولكن الصدمة الكبرى التي تلقاها حزب العمل تمثلت فيما أسفرت عنه الانتخابات البرلمانية التي أجريت فئ 27 مايو 1984 والتي تمت ولأول مرة وفقا لنظام الحزبية النسبية، واشترطت لتمثيل أي حزب في المجلس حصوله على نسبة 8% من أصوات الناخبين على مستوى الجمهورية، فخرج الحزب من مجلس الشعب ودخله في المقابل خصمه التاريخي المتمثل في حزب الوفد بعد تحالفه مع الإخوان المسلمين.

ومن هنا فإن دخول حزب العمل في تحالف مع قوى سياسية أخرى تتسق مع التطورات السياسية التي مر بها حزب العمل، بل اعتبرت أحد الاختيارات حين جاء موعد الانتخابات البرلمانية في 1987 وفق نفس نظام القائمة النسبية.

والواقع أن فكرة التحالف في البداية كانت دعوة من الحزب وجهها إلى كافة القوى والتيارات السياسية المعارضة في مصر، وكانت الفكرة بذلك أقرب على محاولة تشكيل جبهة للمعارضة. غير أن التحالف استقر في النهاية على الإخوان المسلمين وحزب الأحرار الاشتراكيين.

كذلك فإنه فئ ظل نظام الانتخابات بالقائمة الحزبية كان يستحيل على الإخوان المسلمين الوجود داخل مجلس الشعب طالما أنهم لم يحصلوا على حق إنشاء حزب سياسي.

وبالتالي فإن فكرة التحالف مع قوى حزبية كانت أداة لضمان التمثيل البرلماني – خاصة بعد فض تحالفهم مع الوفد- الذي سبق أن قام لنفس الغرض.

أما حزب الأحرار فقد كانت له أيضا مصلحة في الدخول ضمن التحالف الإسلامى والذي بدونه لم يكن ليتسنى له نزول انتخابات 1987. فالمتتبع للتجربة الحزبية في مصر منذ 1976 يلحظ التدهور المستمر الذي أصاب حزب الأحرار الاشتراكيين .

حيث لم يحصل في انتخابات 1984 إلا على 06,% أي أقل من 1% من الأصوات، والواقع أن هذا التدهور الذي أصاب حزب الأحرار الاشتراكيين ارتبط في جزء كبير منه بظهور حزب الوفد الجديد ذي الجذور التاريخية الطويلة، والذي عبر عن نفس القوى التي أراد تمثيلها حزب الأحرار أي القوى الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي.

وبعبارة أخرى فإن حزب الأحرار الاشتراكيين كان قد فقد الكثير من مبررات وجوده السياسة والجماهيري، خاصة وأنه لم تكن له من البداية أيديولوجية واضحة يرتكز عليها كما ارتبط دوره بالسلطة منذ نشأته، حيث اعتمد على الدعم المالي والسياسي من الحكومة، والتي أرادت له أن يكون ممثلا للمعارضة اليمينية في مجلس الشعب. ويمكن أن نخلص إلى أنه لم يكن يوما حزبا معارضا بالمعنى الحقيقي، وهو ما جعله في النهاية حزبا ضعيفا.

هذه العوامل دفعت بالحزب للتحالف مع كل من حزب العمل والإخوان فكان التحالف الإسلامى وسيلته لخوض انتخابات 1987 والتمثيل داخل مجلس الشعب بثلاثة نواب، ولأن الحزب لم يكن يملك الكثير ولا يتمتع بشعبية حقيقية فقد اعتبر اضعف حلقات التحالف الثلاثي، وبالتالي يمكن اعتبار أن كلا من حزب العمل وجماعة الإخوان المسلمين هما القطبان الرئيسيان في التحالف الإسلامى.

وعلى عكس تحالف الإخوان مع حزب الوفد في 1984 فإن التوجهات الفكرية لحزب العمل الاشتراكي والتجربة التاريخية لمصر الفتاة في الثلاثينيان – وهى الحركة التي ما زال الحزب يستمد شرعيته منها- كانت كفيلة بخلق مساحة مشتركة مع الإخوان المسلمين أوسع من تلك التي كانت بينهم وحزب الوفد.

والواقع أن حركة مصر الفتاة كانت من أكثر الحركات تقلبا في الحياة السياسية المصرية قبل 1952 وعكس ذلك توجهاتها الأيديولوجية التي جمعت بين العديد من التيارات السياسة مثل القومية المصرية، والإسلامية ، والاشتراكية وهو ما جعلها تفتقد إلى الاتجاه الفكري المتجانس،

وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو محاولة الحركة المزج بين الاتجاه الاشتراكي والاتجاه الإسلاميى حيث نظرت إلى الإسلام كحركة تقدمية ضد الاستعمار والفساد، وكنظام اجتماعي يقدم نظاما بديلا للنظام الغربي الرأسمالي، ورأى الحركة أنه طالما أن الإسلام يحرك الربا فهو يحرم الرأسمالية ، باعتبار أن فوائد البنوك هي قوائم النظام الرأسمالي وأنه من هذا المنطلق يمكن أن يلتقي الإسلام مع الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية.

وربما ساعدت هذه الخلفية التاريخية لحزب العمل الاشتراكي على سهولة تحالفه مع الإخوان في الثمانينات.

أثر وجود الإخوان على الأحزاب السياسية

حرص الإخوان رغم قبولهم بمبدأ التحالفات السياسية على تمييز أنفسهم عن باقى الأحزاب والقوى السياسية التي تحالفوا معها.

وبدا ذلك خلال الحملات الانتخابية حيث أبقى على تمايز مرشحيهم أثناء الانتخابات وأصدروا منشوراتهم الخاصة بالدعاية الانتخابية في 1987 تحت اسم الإسلاميون على قائمة حزب العمل أو جبهة الإخوان المسلمين وحزب العمل وهو نفس المسلك الذي سلكه الإخوان إبان تحالفهم مع حزب الوفد 1984.

ويرجع هذا الحرص من الإخوان على تمييز أنفسهم كقوة سياسية عن باقي الأحزاب إلى عدة عوامل أهمها، رغبتهم في التعددية السياسية ، ولكن دون إسقاط حقهم في المطالبة بحق التنظيم السياسي المستقل ،

وهو ما حدث بالفعل حيث استمر الإخوان في المطالبة بعودة الشرعية إلى جماعتهم التي تم حلها عام 1954 رغم دخولهم في تحالفات سياسية مع الأحزاب الأخرى، وربما يضاف إلى هذا الاعتبار الموقف الفكري الذي تتخذه الجماعة من الأحزاب السياسية والذي يحدد في النهاية موقفها منها، فهي ترى باعتبارها جماعة دينية سياسية أنها الممثل الشرعي للإسلام وبالتالي فهي تتميز عن أي حزب سياسي ، بل إنها وفق هذا المنطق، تقف في موقف يعلو على الأحزاب جميعا.

ومن هنا فإن أي تعاون مع هذه الأحزاب لأسباب سياسية لابد وأن يخدم في النهاية المبادئ الأساسية للجماعة، وبالفعل نجح الإخوان في فرض وجودهم السياسي على أغلب الأحزاب القائمة بحيث رفعت الشعارات الإسلامية ومزجت خطابها السياسي بالمفردات الدينية.

ويرجع ذلك إما لاعتبارات المصلحة والتحالف ( كما في حالة الوفد والعمل والأحرار) أو المنافسة ( كما في حالة الحزب الوطني الحاكم) ،

ولكن في كل الأحوال كان القاسم المشترك بين هذه الأحزاب هو مراعاة المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ولعل هذا هو أهم متغير شهدته التجربة الحزبية في الثمانينات حيث كانت الانتخابات البرلمانية في ( 1984 و 1987) هي أول انتخابات تجرى بعد هذا التعديل بخلاف الحال في السبعينيات.

في هذا الاطار أشار برنامج الحزب الوطني على ضرورة التمسك بقيم الدين والشريعة كمصدر أساسي للتشريع وإن كان قد أضاف أن ما يزيد عن 90% من القوانين في مصر تتفق والشريعة الإسلامية وكذلك القوانين الجديدة أو تعديلاتها كما يؤكد على ضرورة إعداد المجتمع للتمسك بالقيم والفضائل والأخلاق الكريمة، من خلال التعليم والإعلام والتوسع في التعليم الأزهري بكافة مراحله لتخريج الدعاة، ودعم رسالة المسجد ليؤدى دوره الرائد دينيا واجتماعيا.

واتسم البرنامج في مجمله بطابع شديد المحافظة واستمر الحزب في التأكيد على نفس المعنى في بيانه الانتخابي الذي أصدره في انتخابات 1987 حيث أشار على التمسك بالشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع وإلى دعم القيم والفضائل والأخلاق والوحدة الوطنية.

ولم يقتصر الأمر على الحزب الوطني، بل خصص حزب الوفد في برنامجه العام جزءا هاما حول دور الدين في الحياة السياسية جاء فيه ".ز يؤمن حزب الوفد بما نص عليه الدستور من أن الإسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.. ويؤمن في سماحة الإسلام الذي يكفل الحق لصاحبه ولو لغير المسلم على المسلم وهو خير ضمان للوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.." وبجانب ذلك يرى الحزب"..

وجوب الاهتمام بالتربية الدينية بين المترددين على المساجد والكنائس على أن يقوم بذلك أخصائيون مثقفون دينيا وتربويا يملكون القدرة على مخاطبة الشباب ومختلف طبقات الشعب والصول إلى إقناعهم بالقيم الدينية والمثل الأخلاقية". ويرى".. توجيه الإعلام من إذاعة وتليفزيون وسينما وصحافة على دوره الهام في هذا المجال ومحاربة كل ما يتعارض مع آدابنا وتقاليدنا.." كما أكد برنامج الوفد على ".. ضرورة دعم جهاز الوعظ والإرشاد بالأزهر حتى يستطيع أداء رسالته على الوجه الأكمل، وإعادة تكوين هيئة كبار العلماء وفقا للأوضاع التي كانت لها من قبل ، وأن يكون لها حق اختيار شيخ الأزهر من بين أعضائها دون قيد على السن".

وقد صاغ حزب الوفد برنامجه العام الأول في نوفمبر 1977، ثم جاء برنامجه العام الثاني بعد ذلك بحوالي سبع سنوات في 1984 وتضمن بعض التعديلات على البرنامج الأول، وإن لم تمس المبادئ والأسس العامة التي وردت به ،

حيث ظلت قضية الحريات العامة تحتل الأولوية في برنامج حزب الوفد، إلا أنه تم تخصيص جانب هام في برنامجه الثاني لما أسماه بالشؤون الدينية وربما جاء ذلك استجابة للظروف السياسية والانتخابية العامة، ومراعاة لما نص عليه الدستور من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع ولم يتغير هذا البرنامج في انتخابات 1987.

أما حزب العمل فقد تضمن برنامجه الانتخابي الذي صاغه بالتحالف مع كل من الإخوان وحزب الأحرار قسما خاصا عن تطبيق الشريعة الإسلامية وآخر بعنوان إشاعة الفضيلة وإغلاق أبواب الفساد وضم القسم الأول ستة بنود جاء فيها".

إن تطبيق الشريعة الإسلامية واجب ديني وضرورة وطنية.. وأن التعديل في المرحلة الأولى يجب أن ينصب على التشريعات المخالفة صريحة وشاملة لأحكام الشريعة أو المعطلة لنصوصها الصريحة، ويضيف " إن التشريع المستمد من الشريعة الإسلامية لا يمكن ألا أن يمضى على سنة الاجتهاد الإسلامى الحميد، وأن العمل الكبير المطلوب في هذا الاتجاه ليس مهمة المشرع وحده بل هو مهمة متكاملة يحمل جانبا منها المشرع، ويحمل جوانب أخرى الفقهاء وأساتذة القانون والعلماء المتخصصون في الاقتصاد والمشتغلون بالتجارة والصناعة وغيرهم،

وعلى هذا الضوء فإن المفهوم المتكامل للشريعة يتجاوز بطبيعة الحال مسألة الحدود بل يتجاوز القوانين المدنية والجنائية، فسياسة الإعلام والتعليم، على سبيل المثال ، لا تقل خطرا ، أما القسم الآخر الخاص بإشاعة الفضيلة فقد حوي مجموعة من المطالب الخاصة بالتثقيف والتربية على أسس إسلامية مع المطالبة بإغلاق مصانع الخمور التي تملكها الدولة، وعدم الترخيص بوجود دور اللهو والحرام باسم السياحة أو تحت أية ذريعة أخرى.."

وقد حمل برنامج حزب العمل بذلك صيغة أكثر تشددا في تفسيره لتطبيق الشريعة ورؤيته لتغيير مختلف جوانب الحياة الاجتماعية بما يتفق وهذا التفسير، والمقارنة بين البرنامج الانتخابي للوفد( 1984) والبرنامج الانتخابي لحزب العمل (1987) تظهر أثر التحالف مع الإخوان أكثر مما هو عليه مع الوفد، وربما ارتبط ذل بالدرجة الأولى بطبيعة علاقات القوى بين الأطراف الداخلة في التحالف الانتخابي في الحالتين،

ولكن على الرغم من ذلك فلا يمكن تجاهل حقيقة أن السمة الدينية والأخلاقية هي سمة أساسية لحزب العمل الاشتراكي ولحركته السالفة مصر الفتاة ، ومن هنا فإن توجهه السياسي الإسلامى الذي ظهر واضحا من خلال برنامجه الانتخابي الأخير قد لا يعزى على تحالفه مع الإخوان المسلمين إلا بشكل جزئي، وربما ساعد التحالف على إحياء هذه النزعة القديمة.

والملاحظ أن برنامج العمل 1987 جاء مختلفا عن برنامجه في 1984، وعن البرنامج العام للحزب أفرد بندين مستقلين لقضيتين رئيسيتين: الأولى ، هي قضية تطبيق الشريعة السلامية التي لم ترد إلا بشكل موجز في البرنامج العام للحزب وكذلك في برنامج الانتخابي لعام 1984.

والأخرى، تتعلق بالثقافة والإعلام والتي لم ترد بدورها في برنامج 1984 إلا بصورة سريعة، هذا منا ناحية، ومن ناحية أخرى يلاحظ على نفس البرنامج لجوءه على تغيير أولويات القضايا محل اهتمام الحزب، وتبدو ابرز التغييرات التي طرأت في هذا الاطار في أن مطلب الإصلاح للأوضاع الاقتصادية الذي كان يشكل البند الأول في أولويات برنامج 1984والبند الثاني في البرنامج العام للحزب تراجع في برنامج 1987 ليصبح هو البند السادس ( قبل الأخير)،

وأصبح على رأس الأولويات إصلاح نظام الحكم الذي يحتل فيه تطبيق الشريعة مكانا مركزيا، وحتى مفهوم الإصلاح الاقتصادي اصطبغ بصبغة دينية فتضمن البرنامج ( أنه من الأيمان والأخلاق والفضائل سيبدأ حل المشكلة الاقتصادية) أي أن مدخل الإصلاح هو في الأساس مدخل أخلاقي وقيمي قبل أن يكون سياسيا أو اقتصاديا.

ويأتي المتغير الأهم والحاسم في البرنامج وهو الخاص بموضوع تطبيق الشريعة الإسلامية حيث اعتبرها واجبا دينيا وضرورة وطنية فلا يجوز أن يكون ذلك مجالا للموافقة والمعارضة بل يتعين عل كل مسلم الاستجابة إلى أمر الله تعالى بتحكيم شريعته.

وتتجاوز هذه المطالب التفصيلية الخاصة بتطبيق الشريعة ما جاء في برنامج الحزب لعام 1984 عن الدعوة ( لمراجعة التشريعات للتأكد من مطابقتها لأحكام الشريعة) أو ما جاء في البرنامج العام للحزب عن ( عدم جواز أن تتضمن القوانين يخالف الشريعة الإسلامية، أي أن برنامج حزب العمل لعام 1987 ارتكز بالدرجة الأولى على قضية الشريعة الإسلامية وهو ما بلور توجهه الإسلامى منذ ذلك الحين.

وأخيرا، تبنى حزب الأحرار الاشتراكيين الطرف الثالث في التحالف الإسلامى في 1987 قضية الشريعة الإسلامية ولكن بصورة أكثر عمومية من حزب العمل فقد ذكر في برنامج تحت عنوان الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للدستور والقانون يؤمن حزب الأحرار أن في الشريعة الإسلامية حلولا حاسمة لما يعانيه المجتمع المصري من مشاكل، وهى تضيف على الحزب روحانية تحرره من مادية المذاهب السياسية الأخرى..).

ويمكن من خلال النظرة المقارنة لبرنامج الأحزاب المختلفة، الإشارة إلى أن أغلب هذه البرامج أفردت مساحة هامة للمسألة الدينية في برامجها السياسية ( باستثناء حزب التجمع) ، وترجمت ذلك عمليا من خلال تمسكها بقضية تطبيق الشريعة الإسلامية، ولكن مع ملاحظة اعتبارين: الأول ، أن قضية الشريعة اكتسبت معنى شديد العمومية، ولم يكن هناك اتفاق محدد حول مضمون تطبيقها بل طرح كل حزب رؤيته الخاصة في هذا المجال.

والآخر، أن أولوية هذه القضية اختلفت من حزب إلى آخر ومن دورة برلمانية إلى أخرى، فعلى سبيل المثال احتلت المسالة الدينية مساحة أكبر في حزب الوفد أثناء حملته الانتخابية في عام 1984 إبان تحالفه مع الإخوان، وبالمثل احتلت نفس القضية مكان الصدارة لدى حزب العمل في 1987 بعد تحالفه مع الإخوان وطغت على بعض القضايا الأخرى التي احتلت الأولوية في الانتخابات السابقة مثل قضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإذا كانت هذه الظاهرة تشير في جانب منها إلى دواعي المصلحة السياسية ، إلا أنها تعكس في جانب آخر ضعف التشكيلات الحزبية القائمة والتي بدت واضحة من البرامج الانتخابية التي اتسمت بطابع شديد العمومية والعملية أكثر من تعبيرها عن مبادئ ثابتة ومواقف محددة تجاه العديد من القضايا الهامة والأساسية .

كما كشفت مواقف الأحزاب المختلفة عن الثر لهام الذي فرضته الحركة الإسلامية على الواقع الحزبي والسياسي في الثمانينات خاصة بعد دخول بعض أطرافها في تحالفات انتخابية .

وزاد من أهمية هذا الأثر عاملان. الأول، هو الطابع المحافظ لهذه الأحزاب والذي جعلها تتخذ موقفا وسطيا من كافة التيارات والاتجاهات السياسية الموجودة، وعلى رأسها التيار الإسلامى . والآخر، يتعلق بالدستور وموقفه من قضية الشريعة الإسلامية والتي اعتبرها- وفق التعديل الذي أدخل على المادة الثانية منه في عام 1980- المصدر الرئيسي للتشريع، ولا شك أن هذا التعديل الدستوري كان له تأثير كبير على موقف الأحزاب من المسألة الدينية وضرورة مراعاتها في برامجها المختلفة.

ثانيا : الإخوان المسلمين والتمثيل داخل البرلمان

تكتسب الانتخابات التي شهدتها حقبة الثمانينات في 1984 و 1987 ، أهمية خاصة لاعتبارين: أولهما، التعديلات الجوهرية التي أدخلت على القانون المنظم للانتخابات في أغسطس 1983، والتي بموجبها أجريت الانتخابات في هاتين الدورتين .

وثانيهما ، يتعلق بالقوى السياسية المشاركة فيهما، والتي شهدت لأول مرة تمثيلا للقوى الإسلامية في الحياة البرلمانية.

لعب الاطار الدستوري والقانوني دورا هاما في تحديد مسار العملية الانتخابية وطبيعة القوى المشاركة فيها. فقد صدر القانون رقم 114 لسنة 1983 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 38 لسنة 1972 وبمقتضى هذا التعديل زاد أعضاء مجلس الشعب المطلوب انتخابهم إلى 448 عضوا،

وفى نفس الوقت تم تخفيض عدد الدوائر الانتخابية بالبلاد على 48 دائرة بحيث يتسع عدد الممثلين عن كل دائرة، إلا أن أهم تعديل جاء به القانون الجديد هو ما نصت عليه المادة الخامسة (مكرر) والتي نصت على أن يكون انتخاب أعضاء مجلس الشعب بالقوائم الحزبية بحيث يكون لكل حزب قائمة خاصة به ولا يجوز أن تتضمن القائمة الواحدة أكثر من مرشحي حزب واحد .

وبالإضافة إلى هذه المادة نصت المادة (17) على أن يعطى لكل قائمة عدد من مقاعد الدائرة بنسبة عدد الأصوات الصحيحة التي حصلت عليها وتعطى المقاعد المتبقية بعد ذلك للقائمة الحائزة أصلا على أكثر الأصوات، ولا يمثل في المجلس الحزب الذي لا تحصل قوائمه على ثمانية في المائة على الأقل من مجموع الأصوات الصحيحة التي أعطيت على مستوى الجمهورية ،

ولم يأت قانون أغسطس 1986 بتعديل جوهري على هذه المواد، باستثناء إقراره بشكل جزئي للانتخاب الفردي إلى جانب النظام الأساسي في الانتخاب بالقائمة ، وهو ما أتاح الفرصة لوجود عدد من النواب المستقلين في برلمان 1987.

وأهم الدلالات السياسية لهذا ا لتعديل القانوني الخاص بتنظيم انتخابات مجلس الشعب تكمن فيما أتاحه من فرص لتمثيل التيار الإسلامى بشكل غير مباشر من خلال الأحزاب القائمة، فشرط الانتخاب من خلال القوائم الحزبية كان محددا هاما لدخول الإخوان- الذين لا يتمتعون بتنظيم حزبي مستقل- فئ تحالفات مع الأحزاب القائمة، كما أن شرط حصول كل حزب على نسبة 8% من الأصوات على مستوى الجمهورية كان دافعا لحث الأحزاب السياسة على اللجوء إلى تحالفات مع نفس القوى وفيما بينها أيضا.

ويمكن تلخيص أهم الدلالات السياسية للانتخابات البرلمانية في الثمانينات في ثلاث دلالات رئيسية:

(1) ظهور التيار الإسلامى كقوة برلمانية.

(ت‌) تراجع القوى المدنية في مواجهة القوى الإسلامية.

(جـ) استمرار هيمنة الحزب الحاكم على الحياة البرلمانية .


(أ‌) ظهور التيار الإسلامى كقوة برلمانية:

شكلت جماعة الإخوان المسلمين منذ بروزها في الحياة السياسية في الثلاثينيات والأربعينيات حركة معارضة خارج الاطار الحزبي والبرلماني، ولم يتح لها فرصة خوض الانتخابات البرلمانية وفى أول مرة حاولت فيها الجماعة في عام 1942 نزول الانتخابات ، تدخل زعيم الوفد مصطفى النحاس لإقناع قيادتها بالتراجع .

ولم يعاود الإخوان هذه التجربة حتى قامت الثورة في يوليو 1952 وألغت الأحزاب بعد ذلك بستة شهور، ثم حلت الجماعة نهائيا في 1954. وعندما سمح بتعدد الأحزاب مرة أخرى في نوفمبر 1976 بأن الإخوان ليسوا حزبا لأن الأحزاب تسترشد بمبادئ دنيوية.

ولكن الواضح أن إستراتيجية الإخوان السياسية تغيرت في الثمانينات بحيث اقتنعوا بأهمية العمل السياسي من خلال القنوات السياسية الموجودة والتحول إلى أساليب العمل شبه الحزبي بما في ذلك خوض الانتخابات البرلمانية ، هكذا شهدت سنوات الثمانينات لأول مرة في تاريخ جماعة الإخوان ظهورهم كقوة رئيسية علنية على مسح السياسة في مصر ولها تمثيل داخل البرلمان.

وقد دخل الإخوان انتخابات مجلس الشعب في عام 1984 بالتحالف مع حزب الوفد، حيث حصلا على 58 مقعدا من إجمالي 448 كان نصيب الإخوان فيها 7 مقاعد مقابل 51 مقعدا لحزب الوفد، ولم تنجح الأحزاب الصغيرة في الحصول على نسبة الأصوات التي تمكنها من دخول مجلس الشعب مثل حزب العمل ( الذي تم تمثيله من خلال التعيين وليس الانتخاب) والأحرار ، بالإضافة إلى حزب التجمع.

وإذا كانت انتخابات 1984 قد شهدت تمثيلا محدودا للإخوان في إطار تحالفهم مع حزب الوفد ذي التاريخ القديم، والذي حرص على الاحتفاظ بهويته المستقلة رغم قبوله لهذا التحالف الانتخابي، فإن انتخابات 1987 التي تحالفوا فيها مع أحزاب صغيرة هي العمل والأحرار قد أتاحت لهم على العكس ليس فقط فرصة للتمثيل البرلماني ، وإنما لتشكيل أكبر تجمع للمعارضة في مجلس الشعب، ولعل هذه الحقيقة واحدة من أهم المتغيرات السياسية التي شهدتها دورة 1987 .

وتتعلق بتغيير طبيعة الكتلة الرئيسية المعارضة في البرلمان حيث تصدرها لأول مرة في تاريخ الحياة النيابية في مصر حركة الإخوان المسلمين ، فقد جاءت نتيجة هذه الانتخابات بـ 60 مقعدا للتحالف الإسلامى. كان نصيب نواب الإخوان وحدهم هو 34 مقعدا، مضافا إليها أربعة مقاعد للنواب الذين نجحوا كمستقيلن أي وصل مجموع مقاعد الإخوان إلى 38 مقعدا أما حزب العمل فقد حصل على 22 مقعدا والأحرار على 4 مقاعد.

ويبدو التفاوت في هذه الحالة لافتا للانتباه حيث عكس القوة الانتخابية للإخوان الذين أصبحوا مركز الثقل الأساسي في التحالف من ناحية، وتمكنوا من تزعم المعارضة داخل البرلمان واحتلال مكان الصدارة الذي كان لحزب الوفد في الدورة البرلمانية السابقة من ناحية أخرى. حيث انخفض عدد المقاعد التي حصل عليها الوفد من 51 مقعدا في 1984 إلى 36 مقعدا في 1987.

(ب‌) تراجع القوى المدنية في مواجهة القوى الإسلامية:

إن تراجع كافة القوى المدنية في مواجهة التيار الإسلامية كان إحدى السمات الأساسية التي كشفت عنها انتخابات 1987، إذ عكست هذه الانتخابات تراجعا ملحوظا للأحزاب والقوى المدنية ليس فقط مقارنة بالقوى الأخرى التي رفعت شعار الإسلام( التحالف الإسلامى) وإنما مقارنة الأصوات التي حصل عليها كل من أحزاب الوطني والوفد والتجمع بينما تقدمت الأحزاب والقوى التي رفعت شعار الإسلام، إذ قل نصيب الحزب الوطني من أصوات الناخبين بنسبة 3,2% عما حصل عليه عام 1984 وكان قد سجل 72,9% من الأصوات فئ تلك الانتخابات مقابل 69.6% في عام 1987،

وفى حالة حزب الوفد وصلت نسبته في المشاركة البرلمانية إلى 15,1% إبان تحالفه مع الإخوان في 1984، بينما تراجعت نسبته في الانتخابات اللاحقة 1987 على 10,9% وكذلك الحال بالنسبة لحزب التجمع الذي حصل على 4,6% من أصوات الناخبين في 1984 ولم يتعد نصف هذه النسبة 2.3% في انتخابات 1987.

وفى المقابل ، فقد تقدمت نسبة أصوات حزبي العمل والأحرار بعد نزول الإخوان معهم على قائمة مشتركة لتصل إلى 17% من أصوات الناخبين في 1987 بينما لم يتمكن من التمثيل داخل البرلمان ، وتم إدخال ممثلين لحزب العمل عن طريق التعيين( 4 مقاعد).

ولذلك يبقى أهم مؤشر شهدته الحياة البرلمانية في الثمانينات هو بروز القوى الإسلامية مقابل تراجع القوى السياسية الأخرى، وتمثيلها لأول مرة داخل مجلس الشعب عن طريق التحالف مع الأحزاب الأخرى.

(جـ) استمرار هيمنة الحزب الحاكم على الحياة البرلمانية:

على الرغم من أن الاطار الدستوري والقانوني الذي جرت في ظله الانتخابات البرلمانية قد أتاح فرصة أكبر لمشاركة العديد من القوى السياسية ، وبالتحديد الإسلامية، داخل مجلس الشعب إلا أن المفارقة هنا تكمن فيما نص عليه القانون من شرط حصول أي حزب على نسبة 8% من الأصوات على مستوى الجمهورية ( المادة الخامسة مكرر)

وإضافة أصوات الأحزاب التي لا تتمكن من الوصول إلى هذه النسبة إلى الحزب الذي يحصل على الأغلبية في كل دائرة ( المادة 17) وكان هذا التفاوت بين مدى التأييد الذي تتمتع به كل من القوى السياسية التي تجاوزت نسبة الثمانية في المائة ونسبة المقاعد التي حصلت عليها في مجلس الشعب،

وإذا أخذنا آخر انتخابات برلمانية في الثمانينات (1987) كمثال نجد أن الحزب الوطني حصل على 69,6% من الأصوات، بينما فاز بأكثر من ثلاثة أرباع مقاعد القوائم في مجلس الشعب 77% وعلى العكس فقد قلت نسبة المقاعد التي حصل عليها كل من التحالف والوفد عن نسبة أصوات كل منهما، فبينما كان نصيب التحالف من أصوات الناخبين هو 17% إلا أن مقاعده مثلت 14% فقط.

وقل نصيب المقاعد التي حصل عليها الوفد من 10% على 9% أي أنه أضيف إلى الحزب الوطني ما يقرب من 3% من أصوات التحالف و1,1% من أصوات الوفد وكل أصوات حزبي التجمع، والأمة حوالي 2,4% معا، وبذلك زاد نصيب الحزب الحاكم من مقاعد مجلس الشعب على حساب أحزاب وقوى المعارضة حتى تلك التي تمكنت من تخطى حاجز الثمانية في المائة.

ونستخلص من ذلك استمرا هيمنة الحزب الحاكم وتكريس ذلك من خلال الأداة القانونية التي أعطت للحزب فرص عالية لتحقيق مكاسب ربما تفوق نشاطه السياسي ووجوده الجماهيري .

وذلك على الرغم مما أتاحه نفس الأداة لقوى سياسية لم تكتسب بعد وجودا حزبيا وقانونيا من فرص التمثيل داخل البرلمان، وإذا كانت الخطوة الأخيرة تعكس درجة أكثر تقدما في اتجاه التعددية إلا أنها بقيت محدودة ومقيدة بنفس الأطر السلطوية.

إجمالي عدد المقاعد ( بالانتخاب) إجمالي عدد المقاعد بالتعيين الحزب الوطني الوفد ( بالتحالف مع الإخوان) العمل الأحرار التجمع 448 10 58 51 وفد 7 إخوان 4 ( بالتعيين) - - نتائج انتخابات مجلس الشعب في 1984

إجمالي عدد المقاعد بالانتخاب إجمالي عدد المقاعد ( بالتعيين) الحزب الوطني الوفد التحالف الإسلامى العمل +الاخون+ الأحرار التجمع مستقلون 448 400 انتخاب بالقائمة 48 انتخاب فردى 10 348 35 60 إخوان 34 (الإضافة على 4 مستلقين أي المجموع 38) عمل22 أحرار 4 1 ( بالتعيين) 5

نتائج انتخابات مجلس الشعب 1987

(د) نشاط الإخوان داخل مجلس الشعب:

سعى الإخوان من خلال وجودهم داخل مجلس الشعب إلى ممارسة نوع من الضغط غير المباشر على النظام من أجل تحقيق مطالبهم السياسية. فكما صرح أحد قياداتهم: " إن دخولنا مجلس الشعب لا يعنى رضاءنا عن الوضع الراهن، ولكننا دخلنا المجلس بهدف تغيير هذا الوضع ولسيادة الشريعة الإسلامية".

فإذا كان الإخوان كجماعة سياسية هم داخل إطار العمل السياسة المشروع وخارجه أيضا باعتبار أنهم لم يحصلوا بعد على حق الوجود القانوني المستقل إلا أنهم استفادوا كثيرا من هذا الوضع حيث استطاعوا الحصول على ميزات العمل السياسي العلني من خلال القنوات الشرعية أو الرسمية الموجودة دون أن يفقدوا القدرة على التغلغل داخل الأجهزة والمؤسسات المختلفة.

ونجح الإخوان من خلال نشاطهم في المجلس في طرح قضية الشريعة الإسلامية وفرضها على مختلف القوى السياسية والحزبية الموجودة بحيث لم يعد هناك خطاب سياسي يخلو من المفردات الإسلامية أو الجديث عن الشريعة.

وبغض النظر عن التوجه الفعلي نحو استصدار تشريعات خاصة بتنظيم الشريعة تتماثل مع رؤية الإخوان فإن ذلك لا يقلل من أمية هذا الطرح خاصة أن سلوكهم داخل المجلس اعتمد على سياسة النفس الطويل والعمل على تغيير القوانين بصورة تدريجية في الاتجاه الإسلامي في مختلف المجالات خاصة في مجال التعليم، حتى تصبح مسالة تطبيق الشريعة أمرا طبيعيا على المدى الطويل.

وفى المقابل أعطى الإخوان اهتماما أساسيا من خلال أدائهم داخل البرلمان لموضوع الحريات السياسية باعتبارها المدخل الرئيسي لضمان حصولهم على مزيد من الحقوق السياسية.

فقد شهدت الدورة البرلمانية( 1987-1990) أكثر من استجواب تقدم به نواب الإخوان ضد وزير الداخلية اعتراضا على ممارسات جهاز الأمن وما اعتبروه انتهاكا للحريات، ومن ذلك الاستجواب الذي قدم في نوفمبر 1987 حول اقتحام وحدات الأمن للمساجد.

وفى نفس الجلسة قدم استجواب آخر لوزير الداخلية حول أشكال التعذيب التي تقترفها أجهزة الشرطة ضد المعتقلين، كما هاجم الإخوان قانون الطوارئ ، فضلا عن عدد من القوانين المتعلقة بمباشرة الحقوق السياسية، ومن ذلك قانون المجالس المحلية وأسلوب الانتخابات بالقائمة المطلقة، وطالبوا بوضع ضمانات على العملية الانتخابية وإجرائها تحت إشراف القضاء.

بالإضافة إلى ذلك تقدم نواب الإخوان بأكثر من اقتراح لمشاريع قوانين تتعلق بالحريات العامة منها اقتراح بمشروع قانون لإلغاء القانون الخاص بمحكمة الثورة، وآخر لتعديل بعض أحكام القانون الخاصة بحالة الطوارئ وئلأحكام العسكرية، كما تقدموا باقتراح لتعديل قانون تنظيم السجون.

ويرجع تركيز الإخوان في مجلس الشعب على قضايا الحريات السياسية على اعتبارين: الأول، إن هذه القضايا لا تثير خلافا بين مختلف قوى المعارضة داخل المجلس بل هي على العكس من القضايا التي يمكن أن تشكل مطلبا عاما تجتمع حوله لممارسة مزيد من الضغط على الحكومة. والآخر، يعود إلى أن التوسع فى مجال الحريات السياسية سيؤدى في النهاية إلى حصول الإخوان بشكل خاص والقوى الإسلامية بشكل عام على مزيد من الحقوق السياسية.

وإذا كانت قضية الحريات السياسية قد احتلت مساحة هامة من نشاط الإخوان داخل مجلس الشعب، فقد حرصوا بشكل حثيث على توجيه بعض القضايا للوجهة الإسلامية، ومن ذلك الاستجواب الذي تقدم به نائب إخواني لوزير الثقافة بسبب بعض تصريحاته التي تحدث فيها عن الخيال المادي في مواجهة الخيال الغيبي وهو ما أعتبره النائب الإخوانى خطرا على عقائد وأمن المجتمع.

وفى المقابل تقدموا بمجموعة من مشاريع القوانين التي ترسخ هذا الاتجاه ومنها اقتراح بمشروع قانون لتحريم الخمر إنتاجا وبيعا وتداولا إلى أن يأتي تشريع منظم، واقتراح بمشروع قانون لتعميم تدريس التربية الدينية في جميع مراحل التعليم تشمل المدارس والجامعات، فضلا عن مشروع قانون لتعميم زى المرأة العاملة في الدولة.

وفى هذا الإطار دافع الإخوان داخل المجلس عن شركات توظيف الأموال التي كان يمكن أن تمثل من وجهة نظرهم شكلا إسلاميا ملائما للمؤسسات الاقتصادية حيث تحرم الربا بخلاف البنوك وغيرها من مؤسسات الدولة الاقتصادية غير الإسلامية من وجهة نظرهم،

وقد حذر الإخوان من تصفية هذه الشركات وطالبوا بحماية المودعين وحماية الشركات الجادة منها. كما اعترضوا على العديد من المواد التي تضمنها مشروع القانون الخاص بتلقي الأموال باعتبار أنها تعوق نشاط هذه الشركات ، وتخضعها لسيطرة الأجهزة البيروقراطية والأمنية.

ولا شك أن هذه اللمحة عن سلوك الإخوان داخل المجلس يمكن أن توضح سلم الأولويات الذي اتبعوه والذي يمكن من خلاله قراءة إستراتيجيتهم في التعامل مع النظام السياسي، والتي تقوم على الضغط على النظام من خلال القنوات الرسمية للحصول على مزيد من الحقوق السياسية، ولكن مع تجنب حدوث صدام يعرقل الأهداف المرحلية التي يعمل الإخوان على تحقيقها.

ثالثا: موقف النظام من تصاعد الدور البرلماني للإخوان المسلمين

سعى النظام لاحتواء المعارضة الإسلامية المعتدلة الممثلة في الإخوان من خلال الأداة القانونية وإعطائهم الضوء الأخضر لخوض الانتخابات البرلمانية وفرصة التمثيل داخل مجلس الشعب، وهى السياسة التي حققت نجاحا نسبيا في الثمانينات ، وإن كانت لم تصل إلى درجة الاستيعاب الكامل لهم في الحياة السياسية، إذ أدى وجود الإخوان داخل مجلس الشعب على ممارسة ضغوط متزايدة على النظام خاصة فيما يتعلق بمشاريع القوانين، والأسئلة وطلبات الإحاطة التي تتفق ورؤيتهم السياسية للمجتمع الإسلامى وكانت المعالجة التقليدية للنظام في هذا المجال تعتمد على وسلتين: الأولى، تعطيل بعض مشاريع القوانين المقدمة من المعارضة داخل مجلس الشعب.

والأخرى، طرح مشاريع بديلة من قبل نواب الحكومة في البرلمان. وسعت هذه السياسة إلى تحقيق هدف مزدوج وهو تهدئة هذا النوع من المعارضة دون الصدام معها من ناحية، ومنافستها فيما تطرحه من مشاريع قوانين بما يضمن سحب البساط من تحت أقدامها من ناحية أخرى.

وقد استمرت هذه السياسة في الثمانينات خاصة بعد تولى الدكتور رفعت المحجوب رئاسة البرلمان عقب الانتخابات التشريعية التي جرت في مايو 1984.

وقد عمدت الحكومة إلى جانب هذه السياسة إلى تقديم بعض التنازلات في الجوانب الأخلاقية والاجتماعية دون السياسية.

ومن ذلك القرار الذي صدر – بعد 17 يوما من انتخابات مجلس الشعب- قاضيا بسحب النسخة العربية من كتاب "ألف ليلة وليلة" بدعوى أنها تتعارض مع القيم الإسلامية، ثم صدر قرار آخر خاص بشركة مصر للطيران يقضى بمنع تقديم المشروبات الكحولية في 22 مارس 1984.

ولكن هذه السياسة ل تؤد على تقيل الضغوط التي مارستها المعارضة في البرلمان للمطالبة بتطبيق الشريعة، وهو الموضوع الذي احتل مكانة رئيسية في الجدل السياسي والبرلماني منذ النصف الثاني من الثمانينات بل وعلى العكس فإن تمثيل الإخوان داخل البرلمان زاد من تطلعاتهم السياسية ومن مطالبهم إزاء النظام.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن دخول الإخوان مجلس الشعب لم يؤد- كما كان متوقعا0 إلى تقليص مساحة العنف التي يقوم بها التيار الآخر، غذ لم يمض شهر على انتخابات 1987 التي شكل فيها الإخوان من خلال التحالف الإسلامى أكبر كتلة برلمانية معارضة داخل مجلس الشعب،

حتى وقعت محاولات اغتيال كل من حسن أبو باشا، والنبوي إسماعيل ( وزيري الداخلية السابقين) في 26 مايو، 13أغسطس 1987، ومكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة " المصور" في 4 يونيو 1987 ، بل واستمر معدل لعنف في تصاعد طوال النصف الثاني من الثمانينات . وقد لعبت هذه المتغيرات دورا في تغيير السياسة التي اتبعها النظام خاصة إزاء الإخوان المسلمين.

فكما كانت الوسيلة القانونية والتشريعية أداة هامة استخدمها النظام لإدماج الإخوان في الحياة السياسية والبرلمانية في أوائل الثمانينات وفق الشروط السياسية التي قبل مشاركتهم في إطارها، فقد لعبت نفس الأداة دورا في الاتجاه المغاير في التسعينات، وتمثلت الحالة الأولى في القانون الذي أجريت على أساسه الانتخابات البرلمانية في 1984، و1987، أما الحالة الأخرى فتتعلق بالقانون الذي تمت في ظله انتخابات مجلس الشعب في 1990.

فقد جاءت هذه الانتخابات قبل أن يكون مجلس الشعب فصله التشريعي الخامس الذي بدأ عام 1987، بسبب تأييد المحكمة الدستورية العليا للطعن الخاص بعدم دستورية قانون الانتخابات الذي انتخب على أساسه المجلس لذلك الفصل ،

والذي تضمن أعلى نسبة تمثيل للمعارضة الإسلامية منذ الانتقال إلى التعدد الحزبي. واستجابة لقرار المحكمة دعا رئيس الجمهورية إلى استفتاء عام أسفر عن الموافقة على حل المجلس ن فصدر قرار جمهوري في 11 أكتوبر 1990 بالدعوة على انتخابات جديدة.

وأهم ما يمكن التوقف عنده هنا هو أن الانتخابات قد جرت وفق أحكام قانون جديد حيث أصد رئيس الجمهورية قرارا بقانون رقم 206 لسنة 1990 كان أهم ما جاء فيه هو الدعوة إلى النظام الفردي الذي كان متبعا قبل انتخابات 1984، وإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية والتي بلغت وفقا لهذا القانون مائتين واثنتين وعشرين دائرة انتخابية.

وقد لاقى هذا التقسيم بشكل عام نقدا شديدا من بعض أحزاب المعارضة، التى رأت فيه أنه يهدف بالأساس على خدمة الحزب الوطني الحاكم ، وذلك بإتاحة الفرصة له لكي يضم عددا كبير من القرى والنجوع إلى دوائر المدن التي يقل فيها مؤيدو الحزب ، وكان التحالف الإسلامى ( العمل والإخوان والأحرار ) على راش المنتقدين للإجراءات الجديدة، فهاجم قرار رئيس الجمهورية بإجراء استفتاء على حل مجلس الشعب، ودعا على عرض القوانين الانتخابية الجديدة على الرأي العام، كما أبدى تفضيله لنظام القائمة في الانتخابات ولكن غير المشروطة.

ثم عاد أبدى عدم معارضته الرجوع إلى نظام الانتخاب الفردي، ولكن بعد ما وضع عدة شروط تتعلق بإقرار بعض الضمانات للانتخابات، وإعادة النظر في تقسيم الدوائر ، فضلا عن المطالبة بوقف العمل بقانون الطوارئ وضرورة إشراف القضاء على الانتخابات وغيرها من المطالب المشابهة.

وقد أدى تجاهل الحكومة لمطالب المعارضة عند صياغتها وإقراراها لقانون الانتخاب الجديد إلى اتخاذ الأخيرة وفى مقدمتها قوى التحالف قرارا بمقاطعة انتخابات مجلس الشعب. ويبدو أن انتخابات مجلس الشورى التي جرت عام 1989 وفقا لنفس النظام الانتخابي، والتي لم ينجح فيها أي من مرشحي التحالف والذي كان ينافس وحده الحزب الوطني عقب مقاطعة الوفد والتجمع لهذه الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

وشارك حزب الوفد التحالف الإسلامى فى قرار المقاطعة ولا شك ان هذا الموقف بالتحديد ساعد على إبراز وتقوية مركز التحالف إذ أن دخول الوفد (أكبر أحزاب المعارضة ) الانتخابات كان لابد وأن يحرج (العمل والإخوان) القطبين الرئيسيين للتحالف اللذين قررا مقاطعتها كما كان سيضعهما في موقف معزول.

واستتبع قرار المقاطعة بالطبع خروج كل من التحالف والوفد من البرلمان ، والظاهرة الجديرة بالملاحظة في هذه النتيجة هي إخفاق النظام في استقطاب أي من طرفي المعارضة الرئيسية سواء الإسلامية أو الليبرالية.

وإذا كان قانون الانتخابات قد نجح على المستوى العملي في ضرب التحالفات بين الأحزاب المختلفة أو بالتحديد بين القوى الإسلامية وغيرها من الأحزاب من خلال إلغائه لنظام القائمة الحزبية الذي كان بدوره سببا مباشرا في تجميع هذه القوى وتحالفها مع بعضها، إلا أن وقوف الوفد على جانب التحالف رغم تباين توجهما السياسي قد أضعف من موقف النظام ومن مصداقيته على الصعيد الديمقراطي.

الفصل الثاني النظام والمواجهة غير المباشرة مع المعارضة الإسلامية

يتناول هذا الفصل موقف النظام السياسي في عهد الرئيس مبارك من المعارضة الإسلامية في كل من النقابات المهنية، والجمعيات الأهلية، والاتحادات الطلابية، وهى المؤسسات التي شهدت تصاعدا ملحوظا للدور السياسي للتيار الإسلامى خلال الثمانينات وهو ما أدى إلى نوع من المواجهة غير المباشرة بين النظام، والمعارضة الإسلامية يختلف كيفيا عن المواجهة المباشرة التي تمت من خلال المؤسسات السياسة.

أولا: النقابات المهنية

(1) صعود دور التيار الإسلامى في النقابات:

تعد النقابات المهنية من أبرز المؤسسات التي شهدت وجودا متزايدا للتيار الإسلامى فيها منذ منتصف الثمانينات، وبدا ذلك من خلال الانتخابات الرئيسية والفرعية التي شهدتها هذه النقابات منذ تلك الفترة، والتي أسفرت عن سيطرة التيار الإسلامى- في العديد منها- على أغلب مقاعد مجالس إدارتها. وبدأت هذه الظاهرة في نقابتي الأطباء والمهندسين، ثم في نقابة الصيادلة في أواخر الثمانينات، حتى امتدت في بداية التسعينات إلى واحدة من أهم وأقدم النقابات المهنية في مصر وهى نقابة المحامين.

بدأ بروز التيار الإسلامى داخل النقابات المهنية يتضح منذ منتصف الثمانينات وكانت أولى النقابات التي شهدت ظهور هذا التيار بداخلها هي نقابة الأطباء، حيث بلغ عدد مقاعد الإسلاميين داخل مجلس إدارتها في 1984 سبعة أعضاء بنسبة 29,2% وفى عام 1986 جرت انتخابات التجديد النصفي ،

التي فاز فيها ممدوح جبر بمنصب النقيب، وفاز التيار الإسلامي بمركز الوكيلـ والأمين العام، والأمين العام المساعد، وأمين عام مساعد الصندوق إلى أنحصل ممثلوه على أربعة مناصب فى هيئة المكتب المنتخبة من مجموع خمسة كما سيطر ممثلو نفس التيار على وظائف مقرري اللجان فحصلوا على خمسة مراكز من سبعة بنسبة 71.4% .

وفى عام 1988 جرت انتخابات التجديد النصفي بالنقابة العامة والنقابات الفرعية، بالإضافة على انتخاب النقيب ، وقد أسفرت هذه الانتخابات عن فوز د. ممدوح جبر مرة أخرى بمنصب النقيب ( وهو أمين المهنيين بالحزب الوطني) وحقق التيار الإسلامى نجاحا ملحوظا على مستوى المجلس، إذ سيطر على معظم المقاعد بنسبة تصل إلى 95% مع الأخذ في الاعتبار فوزه بأغلب المقاعد المخصصة لممثلي النقابة العامة على مستوى مناطق الجمهورية( شرق الدلتا، وسط الدلتا، شمال الصعيد ، جنوب الصعيد، القاهرة) أي أنه سيطر على خمسة مراكز من مجموع ستة.

كما حقق تقدما ملحوظا أيضا على مستوى النقابات الفعلية في نفس هذه الانتخابات ففي النقابة الفرعية بالقاهرة، فاز ممثلوه في انتخابات التجديد النصفي بنسبة 100% كما فاز بمنصب النقيب فيها أحد رموز نفس التيار وهو د. سمير الضيائى.

وفى فرع الجيزة حصل التيار الإسلامى على أربعة مقاعد من إجمالي ثمانية أي بنسبة 50% ونفس الشيء النقابة الفرعية في كفر الشيخ فاز التيار الإسلامى بثلاثة مقاعد من إجمالي أربعة اى نسبة 75% أما فرع أسيوط فقد فاز ممثلو نفس التيار بجميع المقاعد المتنافس عليها، وكذلك بمنصب النقيب ، وإن كان في المنيا لم يفز إلا بمقعد واحد بنسبة 25% وفى الغربية حصل على مقعدين من إجمالي أربعة مقاعد أي بنسبة 50% وارتفعت النسبة في بني سويف حيث فاز الإسلاميون بثلاثة مقاعد من إجمالي أربعة أي بنسبة 75% بالإضافة إلى فوزهم بمنصب النقيب.

وامتدت نفس الظاهرة إلى نقابة المهندسين، ففي عام 1987 جرت انتخابات النقابة لاختيار النقيب والأعضاء المكملين، وأسفرت عن فوز التيار الإسلامى في انتخابات النقابة العامة بـ 54 مقعدا من جملة المقاعد المتنافس عليها وعى 61 مقعدا وبنسبة 88,2% . وفى النقابات الفرعية فازت القائمة الإسلامية بالكامل في الإسكندرية والفيوم والسويس والمنوفية بينما فشلت في المنيا والجيزة.

وتزايد هذا الوجود مع انتخابات التجديد النصفي لأعضاء مجلس النقابة العامة والنقابات الفرعية، وحصل التيار الإسلامى على 41 مقعدا من إجمالي 43 بنسبة 97,7% من جملة المقاعد المتنافس عليها على مستوى الشعب السبعة، بالإضافة إلى فوزه في كافة النقابات الفرعية على مستوى الجمهورية والبالغ عددها 23 فرعا.

وتعتبر هاتان النقابتان التي شهدت تصاعدا ملحوظا للتيار الإسلامى بداخلها في الثمانينات ، حيث كان وجوده في النقابات الأخرى أقل.

ولكن مع بداية التسعينات بدأت هذه الظاهرة في الاتساع حيث لم يقتصر وجود التيار الإسلامى على النقابات التي شهدت صعوده في الثمانينات وإنما امتدت إلى نقابات أخرى جديدة. فقد استمر ممثلو هذا التيار في الحفاظ على وجودهم المكثف في نقابة الأطباء ، ففي عام 1990 سيطروا على هيئة المكتب المنتخبة بالكامل بنسبة 100% وبعد انتخابات التجديد سيطر التيار الإسلامى على مجلس النقابة بنسبة 96% .

أما على مستوى المناطق فقد حصل نفس التيار على 11 مقعدا من إجمالي 12 في انتخابات التجديد النصفي، كما فاز بمنصب النقيب وجميع أعضاء المجلس في النقابات الفرعية في القاهرة، والإسكندرية ، والجيزة ، ودمياط، والغربية، والدقهلية. فضلا عن سيطرته على معظم المقاعد في بعض المحافظات الأخرى مثل الشرقية والجيزة و كفر الشيخ وبني سويف والمنوفية ، ومقعدين بالفيوم لأول مرة في حين أخفق في بعض المحافظات مثل أسوان، والسويس ، وبور سعيد.

وتشير نتائج انتخابات نقابة الأطباء في 1992 على فوز التيار الإسلامى بحوالي 16 ألف صوت أي ما يقرب من 52% من عدد الأصوات.

وشهدت نقابة المهندسين تصاعدا ملحوظا للتيار الإسلامى بها، حيث حصل ممثلو هذا التيار في الانتخابات التي جرت عام 1991 على كل مقاعد الشعب السبعة للنقابة ( خمسون مقعدا) ، فضلا عن سيطرته على المقاعد الست لمجلس النقابة.

وعلى مستوى النقابات الفرعية فاز الإسلاميون في 21 نقابة فرعية من إجمالي 23 ، أما منصب النقيب ففاز به حسب الله الكفراوي والذي شغل منصب وزير الإسكان والتعمير .

وإذا كان وجود التيار الإسلامى في نقابة الأطباء والمهندسين هو ظاهرة ممتدة منذ الثمانينات إلا أن المؤشر الجديد الذي حملته بداية التسعينات هو نجاح نفس التيار في التمثيل لأول مرة ، وبشكل ملحوظ داخل مجلس نقابة المحامين، فقد جرت انتخابات مجلس النقابة العامة والنقيب عام 1992

وشارك في هذه الانتخابات تيارات مختلفة إلا أن الغلبة كانت للإسلاميين حيث وصلت بنسبة تمثيلهم في مجلس النقابة 66,6% مقابل 25% مستقلين، و4,2% لممثلي الوفد، و4,2% للتيار الناصري، أما النقيب ففاز به أحمد الخواجة للمرة الخامسة.

وشهدت نقابة الصيادلة في انتخاباتها التي جرت في نفس العام نفس الظاهرة ولأول مرة، حيث حصل التيار الإسلامى على 17 مقعدا من إجمالي 24 أي بنسبة تصل على 70.8% أما التيارات الأخرى فقد حصلت على سبعة مقاعد أي بنسبة 29,2% أما منصب النقيب ففاز به د. زكريا جاد.

وبخلاف ذلك كان وجود التيار الإسلامى في النقابات الأخرى ضعيفا، وإن لم ينف ذلك سعيه المستمر للتمثل في أغلبها، وأحد مؤشرات ذلك هو محاولاته في نقابة البيطريين التي لم تكن له وجود بها حيث فاز بمقعد واحد من إجمالي 12 مقعدا في انتخابات التجديد النصفي التي جرت في 1993 ، ولم تتجاوز نسبته 8,4% وإن كان قد حقق النجاح على مستوى النقابات الفرعية في سبع محافظات هي [[الشرقية[[ والقليوبية والإسماعيلية والجيزة والدقهلية ودمياط والغربية، في حين كانت مقاعد المحافظات النائية من نصيب مرشحي الحزب الوطني.

وانخفض هذا الوجود نسبيا في نقابة التجاريين، ووصل أدناه في المعلمين والزراعيين ، واللافت للانتباه أن غياب التيار الإسلامى عن بعض النقابات المهنية ارتبط بتلك التي اتسمت بقوة علاقاتها بالدولة من ناحية، وبمحدودية اهتمامها بالقضايا العامة مقابل تركيزها على القضايا المهنية من ناحية أخرى، أي النقابات التي انخفضت فيها التسييس وطغى عليها الطابع المهني.

وثمة ملاحظتان حول صعود التيار الإسلامى في النقابات الأولى: إن هذا الوجود المكثف في النقابات المهنية ، قالبه على الناحية الأخرى غياب أو ضعف دوره في النقابات العمالية حيث تخضع الأخيرة للرقابة والسيطرة شبه الكاملة للدولة ومثل ذلك أحد الاتجاهات الثابتة للنظام منذ 1952 ،

حيث عمل على تجميد الدور السياسي للنقابات العمالية، وفرض نوعا من الوصاية المالية والإدارية لوزارة العمل عليها، مع إخضاعها لتنظم هرمي من خلال إنشاء الاتحاد العام لنقابات العمال في 1957وزاد الأمر في التسعينات عن طريق الجمع بين منصب رئيسي الاتحاد ومنصب وزير القوى العاملة ، وأدت هذه السياسة على الحد من استقلالية العمالية، ومساندتها المستمرة للسلطة.

وفى المقابل ركزت هذه النقابات اهتمامها على المشاكل اليومية للعمل والمتعلقة بالأجور والمرتبات والعلاقة مع مجالس الإدارة وبالتالي لم تشكل النقابات العمالية أرضا ملائمة لنشاط أي تيار سياسي أسوة بما شهدته النقابات المهنية .

وتنطبق نفس الملاحظة على جماعات المصالح ذات النشاط الاقتصادي مثل ( الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الأعمال) ، حيث تعبر عن مصالح قوة اجتماعية معينة ويغلب على تفاعلاتها وتوجهاتها اعتبارات المصلحة، كما تمارس دورها على صانع القرار كجماعات ضغط لتحقيق أهداف محددة تتعلق مباشرة بأنشطتها الاقتصادية وبالتالي لم تشكل بدورها وبحكم طبيعتها مناخا ملائما لنشاط التيار الإسلامى.

والملاحظة الأخرى، أن نجاح التيار الإسلامى في النقابات ظل مقصورا على عضوية مجالس الإدارة ولكنه لم يمتد إلى منصب النقيب حيث يمثله في الغالب إحدى الشخصيات المقبولة من الحكومة، وربما يرجع عدم إقدام التيار الإسلامى على المنافسة على منصب النقيب إلى رغبته في تجنب أية أسباب للصدام أو المواجهة مع النظام، حيث يكتفي مرحليا بتكثيف وجوده على مستوى مجالس إدارات متلف النقابات المهنية حتى تتح له فرصة التغلغل فيها وتوسيع قاعدة تأييده داخلها كخطوة هامة للسيطرة التدريجية الكاملة عليها.

(2) الأبعاد السياسية والاجتماعية لصعود التيار الإسلامى فى النقابات:

يرتبط صعود التيار الإسلامى في النقابات المهنية بالعديد من العوامل السياسية والاجتماعية التي تحددها طبيعة النظام السياسي من ناحية، والتفاعلات بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية من ناحية أخرى، ويمكن تلخيص أهم هذه العوامل في ثلاث:

(1) محدودية تجربة التعددية السياسية والتي يبرزها مؤشران:

الأول، هو حرمان بعض القوى السياسية وعلى رأسها القوى الإسلامية من حق التنظيم السياسي المستقل ( كما بدا في تجربة السبعينيات) ، أو السماح لها فقط بالعمل من خلال الأحزاب السياسية الأخرى في الثمانينات، وهو ما أدى إلى توجيه جزء كبير من نشاطها نحو ساحة العمل النقابي حيث ضمن لها المجال الأخير تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية في حركتها من ناحية ، وشكل لها بديلا عن الحزب السياسي من ناحية أخرى، هو ضعف الأحزاب السياسية وتضاؤل قدرتها التنظيمية وهو ما أدى إلى ضعف دورها في العمل بين الجماهير وعجزها عن التعبير عن مصالح المواطنين ،

مما ساهم في إضفاء قدر أكبر من التسييس على العمل النقابي ، وكانت القوى الإسلامية هي أكثر القوى التي استفادت من هذه الظاهرة، وبدت النقابات كمجال خصب للحركة السياسية ولخلق قنوات اتصال بالقاعدة العريضة من المهنيين يشكلون أحد أعمدة الطبقة الوسطى المصرية .

(2) الضعف العام للمؤسسات السياسية واتسامها بالطابع التقليدي فضلا عن خضوعها بدرجة أو بأخرى لسيطرة الدولة منذ 1952. وهو ما جعلها تعانى من السلبية وعدم الفعالية وضعف المشاركة، وفى هذا السياق برزت القدرة التنظيمية والتعبوية التي تمتع بها التيار الإسلامى، حيث اعتمد على الدين كوسيلة أساسية للحشد والتعبئة، وطرح مسألة المشاركة كواجب ديني، وليس كمبدأ ديمقراطي .

ولا شك أن هذا العامل شكل عنصرا هاما للضغط والتأثير على الناخبين في محيط ثقافي تغلب عليه التقليدية سواء على صعيد الثقافة العامة للمجتمع، أو على صعيد الثقافة السياسية.

ولذلك فالمتابع للعملية الانتخابية في المؤسسات النقابية يلحظ الاستقطاب الشديد الذي سادها بين قوتين رئيسيتين هما الحزب الوطني الديمقراطيالحاكم، والذي قدم دعما هائلا لمرشحيه في المناصب القيادية، مقابل قوى التيار الإسلامى التي ركزت جهودها على الفوز بأكبر عدد من المقاعد والضعف المزمن الذي تعانى منه هذه المؤسسات والذي لم يسمح غالبا لأية قوى سياسية بالنمو بداخلها خارج إطار القوى الحكومية، والاستثناء الهام عهنا هو القوى الإسلامية، ولذا شكل كل من الحزب الحاكم وقوى التيار الإسلامى اللاعبين الرئيسيين، وأحيانا الوحيدين في الانتخابات التي شهدتها النقابات المهنية.

(2) الضغوط التي مارستها القوى الاجتماعية الصاعدة داخل النقابات ، والتي عبرت عن طموحات شرائح واسعة من الطبقة الوسطى. فالتركيبة الاجتماعية للنقابات المهنية بالتحديد ترتكز في قاعدتها العريضة على هذه الشرائح، وهى نفس الطبقة التي عبرت عنها الحركة الإسلامية،

وبالتالي فإن توجه قوى التيار الإسلامى داخل النقابات إلى هذه الشرائح الاجتماعية يعد أمرا مفهوما ومتسقا مع طبيعة البعد الاجتماعي والحضري الذي ميز هذه الحركة تاريخيا، ويؤيد ذلك أن القاعدة العريضة من الأعضاء في النقابات المهنية هم فئ سن أقل من 35 سنة أي في مرحلة التكوين المهني المادي والعلمي، حيث تزداد التوقعات من المؤسسة النقابية لمواجهة احتياجاتهم وطموحاتهم.

في هذا الإطار وجه التيار الإسلامى من خلال عمله النقابي جزءا هاما من نشاطه إلى المجال الخدمي ، والذي شكل عنصرا هاما لاستقطاب المهنيين خاصة من الأجيال الجديدة، التي تتطلع على تحسين وضعها من خلال عملية الحراك الاجتماعي ولا يمكن إلى جانب هذه العوامل إغفال البعد الهام المتعلق بطبيعة الثقافة الحاكمة للقطاع العريض من هذه الشرائح والتي تغلب عليها النزعة المحافظة والتدين.

(3)إستراتيجية النظام ف مواجهة تصاعد التيار الإسلامى في النقابات:

ساعدت العوامل والظروف السياسية التي سادت في الثمانينات على تحقيق قدر اكبر نسبيا من حرية التعبير والحركة على مستوى النقابات المهنية، وقد أدى ذلك إلى تحول بعضها خاصة تلك التي هيمن التيار الإسلامى على مجالس إدارتها نحو العمل السياسي ،وساعد على ذلك محدودية الفعالية السياسية للأحزاب.

ووضح هذا الدور السياسي من خلال العديد من المواقف المعارضة، التي تبناها ممثلو التيار الإسلامى، إزاء توجهات الدولة في بعض القضايا الهامة. وشكلت المؤتمرات والندوات وإصدار البيانات وتشكيل اللجان ، الآليات الأساسية التي اعتمد عليها هذا التيار للتعبير عن معارضته. وفى المقابل لجأ النظام إلى ممارسة نوع من الضغط لاحتواء المعارضة داخل النقابات المهنية خاصة من خلال منصب النقيب، وهو ما أدى إلى وقوع بعض الصدامات بين الطرفين، ومثلت هذه السياسة شكلا من أشكال الاحتواء طوال الثمانينات .

ولكن مع بداية التسعينات طرا تحول هام على هذه السياسية ، حيث لجأ النظام إلى استخدام الأداة القانونية في مواجهة التصاعد المستمر لقوى التيار الإسلامى في النقابات ، إذ عكس ما شاهدته سنوات الثمانينات من إعطاء الضوء الأخضر لهذه القوى لخوض الانتخابات النقابية والعمل داخل العديد من مجالس هذه النقابات ،

شهد عام 1993 إصدار القانون رقم 100 الخاص بتنظيم الانتخابات داخل النقابات المهنية والذي اشترط لأول مرة لصحة إجراء الانتخابات رفع نسبة الحضور إلى 50% وإخضاعها للإشراف القضائي فنصت المادة الثانية منه على أنه يشترط لصحة انتخابات النقيب وأعضاء مجلس النقابة العامة أو الفرعية تصويت نصف عدد أعضاء الجمعية العمومية إلى اجتماع ثان خلال أسبوعين ،

ويكون الانتخاب هذه المرة صحيحا بتصويت ثلث عدد الأعضاء ، كما نصت المادة الثالثة من نفس القانون على أنه إذا لم يتم انتخاب النقيب وأعضاء المجلس وفقا للأحكام المنصوص عليها في المادة السابقة، يتولى اختصاصات مجلس النقابة العامة لجنة مؤقتة برئاسة أقدم رئيس بمحكمة استئناف القاهرة، وعضوية أقدم أربعة من رؤساء أو نواب رئيس بهذه المحكمة ،

يضاف إليهم أقدم أربعة أعضاء ممن لهم حق الانتخاب بحسب أقدميتهم في النقابة بشرط ألا يكونوا من بين المرشحين لعضوية مجلس النقابة، وتضيف المادة السادسة بأن تجرى الانتخابات لجميع المستويات النقابية عن طريق الانتخاب بالاقتراع السري المباشر، ويشرف على الانتخاب بجميع مستوياته لجنة قضائية برئاسة رئيس المحكمة الابتدائية التي يقع في دائرتها الانتخاب.

وقد تعرض القانون الجديد لكثير من النقد وخاصة من قبل بعض النقابات التي سيطر التيار الإسلامى على مجالسها ، مثل نقابة الأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين والعلميين، وتركزت الانتقادات حول استثناء القانون للنقابات المهنية دون غيرها من المؤسسات السياسية والاجتماعية بتحديد نسبة معينة لصحة إجراء الانتخابات مما يشكل نوعا من التقييد عليها.

ويظل العامل السياسي هو المحدد الرئيسي لمعارضة القانون الجديد للنقابات المهنية وبالذات من قبل التيار الإسلامى، حيث نظر إليه كخطوة أولى لسحب البساط من تحت قدميه داخل النقابات المهنية، خاصة وأن نجاح ممثليه في الانتخابات المتتالية التي جرت في الثمانيات ارتبط بانخفاض نسبة المشاركة، فهذا انخفاض ،

ورغم أنه جزء من ظاهرة عامة، إلا أنه كان عاملا مساعدا على بروز التيار الإسلامى في النقابات، ولذلك فقد عكس القانون الجديد سعى النظام لإعادة توجيه النقابات المهنية وممارسة نوع من الرقابة عليها، وشكلت هذه الخطوة تراجعا عن السياسة السابقة التي اتبعت في الثمانينات.

ثانيا:الجمعيات الأهلية

(1) تطور الجمعيات الأهلية في مصر:

ارتبط العمل الاجتماعي الأهلي في مصر بمراحل تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد لعب دورا بارزا سواء بشكل سرى أو علني في مرحلة ما قبل الاستقلال وقبلها في فترة الحكم العثماني لمصرن وقد بدأ هذا العمل يأخذ شكلا منظما منذ منتصف القرن التاسع عشر حيث بدأ تشكيل الجمعيات الأهلية المصرية وتأسست بعض الجمعيات التي كان لها الدور الريادي في مجال العمل الاجتماعي ، فأنشئت جمعية المعارف المصرية عام 1868، والجمعية الجغرافية في 1875، ثم الجمعية الخيرية الإسلامية الأولى في 1878 وجمعية التوفيق القبطية.

وشهد العقد الأول من القرن الحالي تطورا في نشاط الجمعيات الأهلية خاصة فى مجالات التعليم، ومحو الأمية، وتأسست العديد من الجمعيات الدينية والثقافية والعلمية وتوجت هذه الجمعيات جهودها بإنشاء الجامعة الأهلية عام 1907 كأول جامعة أهلية مصرية.

وتعرض العمل الاجتماعي الأهلي لمؤثرات عديدة على مدى العقود التالية كان أهمها إنشاء الشؤون الاجتماعية عام 1939 وصدور القانون رقم 1949 لسنة 1945، والذي عدل بالقانون رقم 384 لعام 1956 الخاص بالجمعيات والمؤسسات الخاصة حتى صدر القانون رقم 32 لسنة 1964 ولائحته التنفيذية التي صدرت بقرار رئيس الجمهورية رقم لسنة 1966.

وقد تم تحديد علاقة الدولة بالجمعيات الأهلية من خلال هذه التنظيمات والتشريعات المتتالية والتي أدت على زيادة رقابة الدولة عليها في النواحي القانونية والإدارية والمالية، ووفقا لهذه لترتيبات والتي إلى زيادة رقابة الدولة عليها في النواحي القانونية والإدارية والمالية، ووفقا لهذه الترتيبات التي يتم توجيه الدولة وإشرافها على الجمعيات الأهلية من خلال ثلاث قنوات رئيسية:

الأولى: القناة التشريعية بما تصدره الدولة من قوانين، وآخرها قانون 32 لسنة 1964 والذي يعطى الجهةالادارية المختصة الكثير من حقوق الرقابة على الجمعيات بما فيها حق الحل والإدماج، فتنص المادة 12 من القانون على "أن للجهة الإدارية المختصة بعد أخذ رأى الاتحاد المختص حق رفض شهر نظام الجمعية إذا كانت البيئة في غير حاجة على خدمتها أو لوجود جمعيات أخرى تسد حاجة البيئة في ميدان النشاط المطلوب وإذا كان إنشاؤها لا يتفق مع دواعي الأمن أو لعدم صلاحية المكان من الناحية الصحية والاجتماعية أو لكون الجمعية قد أنشئت بغرض إحياء جمعية أخرى سبق حلها".

وتنص المادة 27 من نفس القانون على أن " تخضع الجمعيات لرقابة الجهة الإدارية المختصة وتتناول هذه الرقابة فحص أعمال الجمعية والتحقق من مطابقتها القوانين وبنظام الجمعية وقرارات الجمعية العمومية ، ويتولى هذه الرقابة مفتشون تعينهم الجهة الإدارية المختصة"كما تنص المادة 29 على أن " للجهة الإدارية المختصة أن تقرر إدماج أكثر من جمعية تعمل لتحقيق غرض متماثل أو توحيد إدارتها أو تعديل أغراضها تبعا لاحتياجات البيئة أو لتحقق التناسق بين الخدمات التي تؤيدها أو لغير ذلك من الأسباب التي تراها كفيلة بحسن تحقيق الغرض الذي أنشئت من أجله.

الثانية: الرقابة المالية والتي تحدد من خلال المعونة الحكومية التي تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية للجمعيات الأهلية، وما تسنده الوزارة لهذه الجمعيات من مشروعات يقع عليها جانب تنفيذها. مما يحولها بعض الأحيان إلى أجهزة تنفيذية تابعة للوزارة.

وتحدد المواد 17، 18، 19، 20 فضلا عن المادة من قانون 32 لسنة 1964 حقوق الرقابة المالية للدولة على الجمعيات فضلا عن شكل المعونة الحكومية لها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الإعفاءات الضريبية والجمركية وغيرها، والتي تقررها الوزارة للجمعيات.

وتؤثر هذه التشريعات الخاصة بالجانب المالي على استقلالية الجمعيات الأهلية من ناحية، وتخضعها بشكل غير مباشر لسيطرة الدولة من ناحية أخرى وهو ما يحدد في النهاية مجالات نشاطها.

الثالثة: تتحدد الأداة الثالثة لرقابة الدولة على الجمعيات الأهلية من خلال منح بعض الجمعيات مزايا واختصاصات السلطة العامة تشجيعا لها على مباشرة أنشطة معينة تحتاجها الدولة، وتعتبر بعض الخدمات التي تقوم بها هذه الجمعيات مكملة للخدمات الحكومية ومعاونة لها، وفى هذا الاطار قرار رئيس الجمهورية رقم 750 لسنة 1968 باعتبار بعض الجمعيات والمؤسسات الخاصة والاتحادات ذات صفة عامة وحددها في 128 جمعية. وبموجب هذا القرار تتمتع هذه الجمعيات والمؤسسات والاتحادات ذات الصفة العامة بخصائص السلطة الآتية:

(أ‌) عدم جواز الحجز على أموالها.

(ب‌) عدم جواز تملك أموالها بمضي المدة.

(جـ)جواز قيام وزارة الشؤون الاجتماعية بنزع الملكية للمنفعة العامة التي تقوم بها.

ثم صدر قرار الجمهورية رقم 1165 لسنة 1969 باعتبار بعض الجمعيات والمؤسسات الخاصة ذات صفة عامة. وحددها في 50 جمعية. ونص في مادته الثانية على تفويض وزير الشؤون الاجتماعية فئ تعيين ما تتمتع به الجمعيات والمؤسسات الخاصة المشار إليها في المادة الأولى من القرار من اختصاص السلطة العامة، وأخيرا صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 859 لسنة 1985 باعتبار بعض الجمعيات ذات صفة عامة وحددها في 17 جمعية بما يعنيه من تمتعها باختصاصات السلطة العامة.

ووفق هذا الاطار التشريعي تم تحديد ميادين عمل الجمعيات الأهلية في ثلاثة عشر مجالا وفقا للائحة التنفيذية لقانون 32 لسنة 1964 متضمنا في المادة الأولى ميادين عمل الجمعيات على النحو التالي: رعاية الطفولة والأمومة، رعاية الأسرة، المساعدات الاجتماعية، رعاية الشيخوخة، رعاية الفئات الخاصة والمعوقين، الخدمات الثقافية والعلمية والدينية، تنمية المجتمعات المحلية.

ثم صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 2340 لسنة 1967 ليضيف المجالات التالية: تنظيم الأسرة، الصداقة بين الشعوب، رعاية المسجونين ، التنظيم والإدارة، النشاط الأدبي .

وفى عام 1981 صدر قرار وزير الشؤون الاجتماعية رقم 132 ليضيف ميدانا جديدا وهو الدفاع المدني.

ويمكن تتبع تطور عدد الجمعيات الأهلية وفق ميادين النشاط خلال 1981- 1991 على النحو التالي:

م الميدان العدد عام 1981 العدد عام 1991 نسبة الزيادة
1 رعاية الطفولة والأمومة 181 جمعية 134 جمعية 25,9%
2 رعاية الأسرة 244 جمعية 265 جمعية 8,6%
3 المساعدات الاجتماعية 2878 جمعية 4105 جمعية 42,6%
4 رعاية الشيخوخة 25 جمعية 195 جمعية 680%
5 رعاية الفئات الخاصة والمعوقين 140 جمعية 325 جمعية 1321%
6 الخدمات الثقافية والعلمية والدينية 1985 جمعية 4715 جمعية 137,5%
7 تنمية المجتمعات المحلية 2872 جمعية 4440 جمعية 54,5%
8 الإدارة والتنظيم 3 جمعية 166 جمعية 5433%
9 رعاية المسجونين 20 جمعية 36 جمعية 80%
10 تنظيم الأسرة 61 جمعية 41 جمعية 33%
11 الصداقة بين الشعوب 34 جمعية 46 جمعية 35,2%
12 النشاط الأدبي 7 جمعية 100 جمعية 1328%
13 جمعيات تعمل في أكثر من ميدان 2281 جمعية - --%
14 الدفاع الاجتماعي - 32 جمعية --%
15 أصحاب المعاشات - 54 جمعية --%
- المجموع 10731 14654 36,55%


ويتضح من هذا الجدول أن إجمالي عدد الجمعيات الأهلية في مصر قد زاد بما يقدر بـ 3923 جمعية في هذه الفترة.

ويحتل كل من ميداني الخدمات الثقافية والعلمية والدينية من ناحية، وتنمية المجتمعات المحلية من ناحية أخرى لنصيب الأكبر من حيث عدد الجمعيات ( 1985 جمعية في عام 1981 زادت إلى 4715 جمعية في 1991 بالنسبة للميدان الأول بنسبة (137% ) و2872 جمعية في 1981 زادت إلى 4440 جمعية في 1991 بالنسبة للميدان الآخر بنسبة (54,5%) وربما تعود الزيادة في الجمعيات الأخيرة – أي تلك الخاصة بتنمية المجتمعات المحلية- على الاهتمام المبكر بها في الريف والقرى، وشجعها حاجة الدولة إلى خدماتها.

ويمكن الإشارة إلى أنه رغم هذه الزيادة العددية في عدد الجمعيات الأهلية في مصر إلا أنها ما زالت تعانى من مشكلات عديدة تحد من فعاليتها وتحول دون تحولها تمارس هذه الجمعيات نشاطها من خلاله، والذي يجعلها في أحيان كثيرة ترتبط بالدولة – كما سبقت الإشارة- فضلا عن افتقادها للموارد المادية والبشرية والفنية اللازمة لتطورها بشكل مستقل عن الدولة،

هذا إلى جانب ضعف ومحدودية المشاركة الشعبية التطوعية في أغلب هذه الجمعيات لعوامل يعود بعضها على طبيعة النشاط الذي تضطلع به الجمعيات الأهلية والذي يغيب عنه الحافز المادي من ناحية ، وإلى العوامل الثقافية السائدة في المجتمع والتي تضعف معها المشاركة الشعبية ويغيب عنها عنصر المبادرة الفردية اللازمة لأي عمل تطوعي أو أهلي.

(2) الجمعيات الأهلية الإسلامية:

ربما تساعد هذه اللمحة السريعة عن واقع الجمعيات الأهلية في مصر على إلقاء الضوء على الجمعيات الأهلية ذات الطابع الديني والتي لأسباب عديدة احتلت مكانا هاما داخل حركة الجمعيات، هذه الأسباب قد ترجع في جزء منها على الضعف ونقص الفعالية الذي تعانى منه الجمعيات الأهلية بشكل عام، وقد تعود على عوامل ذاتية خاصة بهذا النوع من الجمعيات لأسباب ثقافية أو لأسباب ترجع إلى قدرتها على تحقيق قدر أكبر من الاستقلال المالي.

فلا شك أن غلبة الجانب التقليدي على الثقافة العامة للمجتمع والتي يعتبر الدين أحد مكوناتها الأساسية قد لعب دورا في إفساح المجال لنمو الجمعيات الأهلية ذات البعد الديني، خاصة وأن السمة الخيرية التي تقوم على تقديم المساعدات المالية والعينية للفقراء ظلت هي السمة الغالبة على الجمعيات الأهلية لفترة طويلة ،

بل إن أول قانون منظم للجمعيات وهو القانون رقم 49 لسنة 1945 لم ينص إلا على الهدف الخيري للجمعيات الذي يركز على مفهوم البر من خلال تقديم المساعدات المادية والمعنوي والتي تركز منها المادة الأولى من القانون الخدمات الدينية، والتعليمية، والفنية، والترويحية.

وقد أكد القانون الصادر في 1956 بشأن الجمعيات على نفس مضمون قانون 1945، ولم تضف الأنشطة الجديدة ويتسع مجال عمل الجمعيات الأهلية في مصر إلا مع صدور قانون 32 لسنة 1964، ولا شك أن مفهوم الجمعيات الأهلية يتجاوز هذا المفهوم التقليدي للبر والخير، ولكن الارتباط المبكر بينهما سواء بحكم العوامل الثقافية أو القانون قد كرس هذه السمة الخيرية والتي تعتبر لصيقة بالجمعيات ذات البعد الديني. وقد كانت الجمعية الخيرية الإسلامية التي أنشأت في منتصف القرن التاسع عشر من أولى الجمعيات الأهلية في مصر، وهو ما أضاف بعدا تاريخيا على نشاط الجمعيات ذات الطابع الديني.

ويقع تصنيف الجمعيات الأهلية الإسلامية وفقا لقانون 32 لسنة 1964 الذي يحدد أربعة عشر ميدانا لنشاط الجمعيات الأهلية تحت بند الجمعيات الثقافية والعلمية والدينية، والتي بلغ عددها 4715 جمعية في عام 1991 . ويشمل هذا الميدان جمعيات المحافظة على القرآن الكريم، الجمعيات الدينية، وجمعيات البحوث والدراسات العلمية والاجتماعية، والأندية الاجتماعية، ومدارس محو الأميـة، وفصول التقوية، والتمثيل والمسرح والموسيقى.

ويعد هذا الميدان من أهم ميادين عمل الجمعيات، ولقد كان يحكم هذه الجمعيات قانون مستقل بها بسبب اختلاف طبيعتها عن طبيعة جمعيات الرعية الاجتماعية على أن صدر القانون رقم 384 لسنة [1956]] وجمع القوانين التي تحكم الجمعيات بصفة عامة وبموجب هذا التعديل تم وضع خطة تحدد دور الجمعيات الدينية بحيث تشتمل أنشطتها على نواح اجتماعية، وبحيث لا يقتصر دورها على النشاط الديني فحسب وإنما يمتد إلى مجالات الرعاية الاجتماعية مثل إنشاء دور الحضانة ، المستوصفات، والمشاغل.

وقد استطاعت الجمعيات الإسلامية من خلال هذا الإطار القانوني أن توسع مجال نشاطها وأن تمد دورها الاجتماعي، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال زيادة عدد مراكز الرعاية الصحية( المستوصفات) ومراكز التأهيل فضلا عن روضات الأطفال وبيوت الطلبة والطالبات المغتربين التي أنشأت تحت رعاية الجمعيات الأهلية الإسلامية، والتي كان لها أكبر الأثر في استقطاب أعداد متزايدة من الشباب من خلال دورات التدريب التي تنظمها المراكز التابعة لها على المهن والحرف المختلفة وتقديم سبل الرعاية والإقامة من خلال بيوت الشباب لطلبة والطالبات والمغتربين، فضلا عن توفير بعض فرص العمل لهم.

وقد استفادت الجمعيات الأهلية ذات الطابع الإسلامى في توسيع دورها الاجتماعي من قدرتها العالية نسبيا- قياسا بالجمعيات الأخرى- على تحقيق الاستقلال المالي من خلال زيادة حجم التبرعات( خاصة أموال الزكاة) إلى جانب الهبات والمساعدات التي تتلقاها.

الجمعيات الأهلية الإسلامية ذات الصفة العامة:

تتمتع الجمعيات الأهلية ذات الصفة العامة بمميزات سبقت الإشارة إليها عند الحديث عن القوانين الخاصة بمنح الجمعيات الصفة العامة لسنة 1968، 1969، 1985 ، وبالتالي فإن حصر عدد الجمعيات الأهلية الإسلامية منها وتحديد نسبتها قد يكون له دلالاته الخاصة في مجال هذه الجمعيات.

توزيع الجمعيات الأهلية ذات الصفة العامة طبقا لقرار رئيس الجمهورية رقم 750 لسنة 1968 حسب المديرية

م المديرية عدد الجمعيات الجمعيات الإسلامية الجمعيات الإسلامية النسبة المئوية
1 مديرية الشؤون الاجتماعية الجنوبية القاهرة 27 6 22,2 %
2 مديرية الشؤون الاجتماعية الشمالية القاهرة 20 6 30%
3 مديرية الشؤون الاجتماعية بالإسكندرية 19 4 21.0%
4 مديرية الشؤون الاجتماعية بالبحيرة 3 - --%
5 مديرية الشؤون الاجتماعية بالغربية 2 - --%
6 مديرية الشؤون الاجتماعية بالدقهلية 3 2 66,6%
7 مديرية الشؤون الاجتماعية بالمنوفية 3 1 33,3%
8 مديرية الشئون الاجتماعية بدمياط 3 - --%
9 مديرية الشؤون الاجتماعية ببور سعيد 3 2 28,57%
10 مديرية الشؤون الاجتماعية بالإسماعيلية 7 1 33,3%
11 مديرية الشؤون الاجتماعية بالسويس 3 3 60%
12 مديرية الشؤون الاجتماعية بالشرقية 5 1 33,3%
13 مديرية الشؤون الاجتماعية بالقليوبية 3 - --%
14 مديرية الشؤون الاجتماعية بالجيزة 1 - --%
15 مديرية الشئون الاجتماعية بالفيوم 2 1 25%
16 مديرية الشئون الاجتماعية ببني سويف 4 2 50%
17 مديرية الشؤون الاجتماعية بأسيوط 4 2 33,3%
18 مديرية الشؤون الاجتماعية بالمنيا 1 - --%
19 مديرية الشئون الاجتماعية بأسيوط 7 4 57%
20 مديرية الشؤون الاجتماعية بقنا 4 4 100%
21 مديرية الشئون الاجتماعية بأسوان 3 1 33,3%
22 مديرية الشؤون الاجتماعية بسيناء 1 1 100%
- المجموع 128 41 32%

توزيع الجمعيات الأهلية ذات الصفة العامة طبقا لقرار رئيس الجمهورية رقم 1165 لسنة 1969 (56)

م المحافظة عدد الجمعيات الجمعيات الإسلامية النسبة المئوية
1 محافظة القاهرة 6 - --%
2 محافظة الإسكندرية 7 1 14,2%
3 محافظة البحيرة 3 1 33,3%
4 محافظة الدقهلية 5 2 40%
5 محافظة دمياط 3 - --%
6 محافظة بور سعيد 4 2 50%
7 محافظة الإسماعيلية 1 - --%
8 محافظة الشرقية 3 1 33,3%
9 محافظة القليوبية 1 - --%
10 محافظة الفيوم 1 - --%
11 محافظة بني سويف 3 1 33,3%
12 محافظة أسيوط 2 - --%
13 محافظة سوهاج 7 5 71,4%
14 محافظة الغربية 1 - --%
- المجموع 50 13 26%

توزيع الجمعيات الأهلية ذات الصفة العامة طبقا لقرار رئيس الوزراء رقم 859 لسنة 1985 ( 57)

م المديرية عدد الجمعيات الجمعيات الإسلامية النسبة المئوية 1


2 3 4 5 6 7 مديرية الشؤون الاجتماعية بالقاهرة (أ) إدارة الزيتون الاجتماعية بالقاهرة (ب)إدارة الويلى الاجتماعية بالقاهرة (جـ) إدارة شمال القاهرة الاجتماعية (د) إدارة حلوان الاجتماعية مديرية الشؤون الاجتماعية بالقليوبية مديرية الشؤون الاجتماعية بالدقهلية مديرية الشؤون الاجتماعية بالمنوفية مديرية الشؤون الاجتماعية بالبحيرة مديرية الشؤون الاجتماعية بسوهاج مديرية الشؤون الاجتماعية بقنا 1 1 3 1 1 1 4 1 3 1

1 - 1 1 1 - 4 - 3 1 100% --% 33,3% 100% --% 100% --% 100% 100% المجموع 17 12 70,58%

وتكتسب الجمعيات ذات الصفة العامة خاصة ليس فقط لتمتعها بحكم القانون ببعض اختصاصات السلطة العامة وبحقها في إنشاء فروع لها في كافة أنحاء الجمهورية، وإنما أيضا لما تكلفها به الدولة من تنفيذ بعض المشروعات التي تدخل في إطار تحقيق منفعة عامة.

وقد ينظر إلى الأمر الأخير في أحد جوانبه على أنه يقوى من وضع الدولة إزاء هذا النوع من الجمعيات ويعمل على فرض هيمنتها عليها- وهو أمر صحيح على حد كبير- ولكن يمكن الأخذ في الاعتبار أن هذه الرابطة تؤدى في المقابل إلى اعتماد الدولة على هذه الجمعيات في ظل زيادة عجز الدولة عن القيام ببعض المشروعات ومن هذا المنطلق نصت المادة 66 من قانون 32 لسنة 1964 فيما يتعلق بالجمعيات ذات الصفة العامة أنه يجوز لوزير الشؤون الاجتماعية أن يعهد على إحدى الجمعيات ذات الصفة العامة بإدارة المؤسسات التابعة للوزارة أو تنفيذ بعض مشروعاتها أو برامجها.

ويمكن ملاحظة ازدياد عدد الجمعيات الإسلامية التي منحت الصفة العامة من خلال قراري رئيس الجمهورية الصادر في 1968، 1969، ثم قرار رئيس مجلس الوزراء لعام 1985. فقد بلغت 30.20% من عدد الجمعيات الأهلية ذات الصفة العامة في 1968، ثم انخفضت هذه النسبة قليلا في 1969 حيث بلغت 26% لتعود مرة أخرى إلى الارتفاع في عام 1985 لتصل إلى 70,58% .

(3) الدور السياسي للجمعيات الأهلية:

لعبت الجمعيات الأهلية ذات الطابع الديني دورا هاما فئ واقع الحركة الإسلامية في مصر، فكثير من عناصر هذه الحركة على اختلاف التيارات التي تنمى إليها كان لها وجود فئ بعض هذه الجمعيات، والتي ربما تأتى في مقدمتها " الجمعية الشرعية" وجمعية الشبان المسلمين ، وجمعية " أنصار السنة".

كما يرتبط بالجمعيات الأهلية الإسلامية الدور الذي تلعبه المساجد الأهلية التابعة لها، ويلعب المسجد في ظل الثقافة السائدة دورا بارزا في عملية التنشئة الدينية والتعبئة، وبالتالي فقد كان للجمعيات الأهلية دور في نشاط الحركة الإسلامية من خلال امتلاكها لعدد هائل من المساجد يفوق ما تملكه وزارة الأوقاف، ويزيد من هذا الدور إقبال العديد من عناصر الحركة الإسلامية على ارتياد المساجد الأهلية التابعة لهذه الجمعيات والتمركز فيها.

بالإضافة إلى أن معظم الدعاة البارزين في ساحة الحركة الإسلامية يمارسون نشاطهم- الخطابة والدروس الدينية- من خلال مساجد الجمعيات الأهلية، وقد انجذبت وراءهم التيارات الإسلامية لتعطى هذه الجمعيات ثقلا سياسيا، وقد أتاحت عملية الافتقار إلى الدعاة التي تعانى منها الجمعيات ووزارة الأوقاف أيضا الفرصة لعناصر التيارات الإسلامية للتغلغل في هذه الجمعيات، والاشتراك في إدارتها فضلا عن تولى أمر الدعوة والتوجيه بمساجدها.

وهناك عدد كبير من المساجد الأهلية التي تتولى إدارتها والخطابة فيها عناصر من تيار الجهاد والجماعة الإسلامية والسلفيين كما أن بعض التيارات الإسلامية كالإخوان قد أصبح لها مساجدها الخاصة وجمعياتها الخاصة أيضا.

وكانت بعض الجمعيات الإسلامية قد تم التحفظ عليها بقرارات سبتمبر 1981 التي أصدرها الرئيس السادات نظرا لقيامها بأنشطة سياسية تتناقض مع الدور الذي قامت لأجله، وفى مقدمة تلك الجمعيات " الهداية الإسلامية" التي يرأسها الشيخ حافظ سلامه أحد هؤلاء البارزين ، والتي أقصى عنها ثم عاد إليها بحكم قضائي.

ولا شك أن الانتشار الجغرافي الواسع للمساجد التابعة للجمعيات الأهلية سواء على مستوى المحافظات أو في الأحياء الشعبية جعلها تقترب من القاعدة الجماهيرية، وتزيد من مساحة الدور الذي تلعبه في مجال التعبئة السياسية، ولعل هذا الدور هو الذي أدى على الصدام المتكرر مع السلطة.

نماذج للدور السياسي للجمعيات الإسلامية

إذا كانت مصر قد عرفت منذ عهود طويلة شكلا من أشكال التنظيمات الدينية الشعبية والتي تمثلت بصورة رئيسية في الطرق الصوفية، فقد بدأت تعرف منذ أواخر القرن التاسع ومع بداية احتكاكها المباشر بأوربا أشكالا أخرى من أشكال التنظيمات الدينية، تمثلت في الجمعيات الأهلية التي تقوم في الأساس على جهود أفراد أو جماعات بغرض تحقيق أهداف اجتماعية أو ثقافية أو خيرية. ومنذ ذلك الوقت بدأت تتنامى الجمعيات الأهلية الدينية التي استمدت أشكالها وهياكلها التنظيمية من الأشكال الحديثة للجمعيات في أوربا.

وفى هذا الإطار نشأت الجمعيات الأهلية في مصر، ووجد عدد منها قبل الحرب العالمية الأولى مثل جمعية " مكارم الأخلاق الإسلامية" و" جمعية العروة الوثقى الإسلامية" و" جمعية المواساة الإسلامية" بفروعها في الإسكندرية وطنطا والسويس.

ثم نما عدد هذه الجمعيات نموا كبيرا في العشرينات حتى بلغ عشرين جمعية دينية كانت تتخذ مقرها الرئيسي في القاهرة، ولها فروع في الأقاليم وخاصة في عواصم المحافظات، ومن هذه الجمعيات جمعية التقوى وجمعية الهداية الإسلامية ،

وجمعية إحياء السنة المحمدية وجمعية المسلم العامل وجمعية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجمعية أنصار السنة وجمعية الإخاء الإسلامى وجمعية المحافظ على القرآن الكريم وجمعية الرابطة الإسلامية وجمعية المساعي الخيرية. ولكل من هذه الجمعيات لائحة تنظمها، وهدف يتعلق بجانب من جوانب البر والنشاط الخيري، ولكن كان أبرز نشاط هذه الجمعيات هو ما تعلق بالوعظ وإرشاد من خلال إلقاء المحاضرات والوعظ الديني في اجتماعات دورية وإصدار المجلات التي تنشر تعاليم ومبادئ هذه الجمعيات.

وكان الدافع الرئيسي لقيام هذه الجمعيات ما رآه منشئوها من خطر يتهدد الإسلام في مواجهة عوامل المدنية والحضارة الأوربية فجاء نشاطها مرتكزا في الأساس على بيان محاسن الإسلام ومساوئ الحضارة الأوربية، فضلا عن النمو المطرد للمدارس الحديثة ونظم التعليم الحديث على حساب نمط التعليم الديني التقليدي، والانتشار الهائل لوسائل الإعلام وأجهزة التثقيف الحديث، مما جعل الثقافة الدينية تتراجع عن مركز الصدارة في نظر منشئ هذه الجمعيات.

ولذلك فقد حملت الجمعيات الدينية طابعا سياسيا ضمنيا على الرغم من وجهتها الدينية والخيرية، وهذه الخاصية أتاحت لها لعب دور هام على ساحة الحركة السياسية الإسلامية، ويمكن الوقوف عند هذا الدور من خلال استعراض نشاط بعض الجمعيات الإسلامية التي تقدم نموذجا لهذا الدور.

الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية

تعتبر الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية واحدة من أقدم الجمعيات الأهلية الدينية في مصر، أسسها الشيخ الأزهري الإمام محمد خطاب السبكى عام 1912 وكان الغرض الأساسي منها الوعظ وإرشاد، وقد اهتمت الجمعية منذ وقت مبكر ببناء المساجد لممارسة دورها في مجال الدعوة الدينية فضلا عن اتجاهها بحكم طابعها الخيري إلى مجالات العمل الاجتماعي، والتي أخذت تتطور لتغطى أنشطة مختلفة وتتبنى العديد من مشروعات الرعاية الاجتماعية، وقد وضعت الجمعية لائحة داخلية تنظم شؤونها وإدارتها.

ومع صدور قانون 32 لسنة 1964 المنظم للجمعيات الأهلية، تم شهر الجمعية الشرعية الرئيسة في الإدارة للجمعيات والاتحادات فضلا عن الجمعيات الفرعية لها والعاملة في المحافظات والتي أصبح لها الحق في إنشاء فروع في القسم الادارى الخاص بها، وربما وجدت وزارة الشؤون الاجتماعية في إشهار هذه الفروع للجمعية الرئيسية والفروع التابعة للأخيرة ضمانا لمد أشرافها المباشر عليها.

وإن كان هذا النمو المتزايد لأفرع الجمعية الشرعية قد أعطى لها فرصة كبيرة في توسيع مجالات عملها ووجودها على أكبر مساحة جغرافية على مستوى الجمهورية، وقد بلغ عدد أفرع الجمعية في بداية التسعينات 350 فرعا مشهرا في مختلف المحافظات، وهو ما يعطى مؤشرا على الثقل الذي تتمتع به، كما بلغ حجم عضويتها- وفق التعداد الذي ذكره أحد أعضاء مجلس إدارتها- ثمانية مليون عضو منهم حوالي ثلاثة آلاف عضو مؤسس ، و3 مليون عضو عامل، والباقي أعضاء بالمساهمة أو المشاركة سواء بالتبرع المادي أو العيني والأرجح أن هذا الرقم مبالغ فيه لأنه يخلط بين العضوية وإظهار الدعم والتأييد لأنشطة الجمعية.

أما فيما يتعلق بالتمويل ، فيلاحظ أن الجمعية تعتمد على ثلاثة مصادر أساسية :

أولها، الاشتراكات لشهرية لأعضائها العاملين. وثانيها، التبرعات العامة والهبات التي ترد إليها من المتبرعين من الأعضاء . وأخيرا، الدعم الحكومي الذي تتلقاه الجمعية سنويا من وزارة الشؤون الاجتماعية وتشمل المعونات المادية إلى جانب المساعدات العينية والتسهيلات الخاصة بدعم الأنشطة المختلفة للجمعية، ولكن الملاحظ انخفاض قيمة المساعدات من الجهة الأخيرة قياسا بمصادر التمويل الأخرى الخاصة بالجمعية وهو ما يحقق لها في النهاية نوعا من الاستقلال المالي الذي يتيح لها هامشا أكبر من الحركة وتعدد النشاط واتساعه.

ويصعب بالطبع حصر مصادر التمويل التي تعتمد عليها الجمعية أو تحديد حجمها الاجمالى نظرا لتعدد هذه المصادر وعدم اقتصارها على المصادر المباشرة التي قد تأتى في صورة تبرعات مالية، وإنما تمتد لتشمل مصادر غير مباشرة تدخل في إطار الدعم العيني مثل بناء المساجد التابعة للجمعية، أو إهداء المصاحف، والمساعدات الأخرى التي تخدم المشاريع والأنشطة التي تقوم بها. ويضاف إلى ذلك صعوبة تحديد الجهة التي تشترك في التمويل لسببين:

أولهما، أن القانون قد يحظر على الجمعية قبول تبرعات مالية من أية جهة أجنبية إلا بإذن من الجهات الرسمية. ولكن الأمر لا يسرى على المساعدات العينية . وثانيهما، إن هذه المساعدات ليس شرطا أن تقدم باسم دولة أجنبية بل يمكن أن تقدم بشكل غير مباشر ، ومن خلال وسطاء يخفى مصدرها الأصلي.

مظاهر نشاط الجمعية:

تتنوع أنشطة الجمعية بين مجالات الدعوة الدينية ومجالات الرعاية الاجتماعية,وقد تجسدت المجالات الأولى في النشاط المكثف الذي قامت به الجمعية الشرعية في بناء المساجد والقيام على خدمتها وإعدادها للمصلين، فضلا عن جعلها مكانا لتعليم الفقه وشؤون الدين. وألحق بها عدد من مدارس تحفيظ القرآن وتربية النشء حتى بلغ عدد المساجد التابعة للجمعية والتي تتولى الإشراف عليها مباشرة 6 آلاف مسجد في المحافظات المختلفة. وإذا كان عدد الفروع المشهرة يبلغ حوالي 350 فرعا، فإن كل فرع يتبعه ما لا يقل عن 60 مسجدا.

وتحرص الجمعية على توفير الدعاة والأئمة لخدمة المساجد التابعة لها وتغطية احتياجاتها، وقد أنشأت معهد الإمامة للدراسات الإسلامية في 1967، عندما كانت الجمعية تحت رئاسة الفريق عبد الرحمن محمد أمين. ويهتم معهد الدعاة بإعداد الدارسين من خريجي الجامعات أو طلابها أو أصحاب الشهادات المتوسطة لتولى شؤون الدعوة وتعليمهم علوم الفقه والحديث والتفسير ، وتوجد عدة مراكز تابعة للجمعية لتوزيع الدعاة على مساجدها، ويلاحظ انه في العاصمة يتم التركيز على مناطق التركز السكاني والأحياء الشعبية.

وتمتد أنشطة الجمعية الشرعية على المجال الخدمي والاجتماعي، ويتمثل ذلك في إنشائها للعديد من المستوصفات العلاجية ، والمدارس ، ودور الحضانة إلى جانب مراكز التدريب المهني والحرفي( مشاغل الفتيات وورش نجارة) وتتبنى الجمعية أكثر من مشروع يقع في مجا الرعاية الاجتماعية مثل مشروع الفتاة المسلمة، والطفل المعوق، ومشروع رعاية الأسرة المسلمة ، ويعتبر مشروع الطفل اليتيم من أهم المشاريع التي تقوم بها الجمعية حيث يغطى 17 محافظة، وتبلغ فروعه ومكاتبه 358 فرعا،

وتمتد رعايته لتكفل 78,698 طفلا وطفلة على مستوى هذه المحافظات ، كما يبلغ عدد الأطباء المشرفين على المشروع حوالي 3737 طبيبا موزعين على المحافظات التي يمتد إليها المشروع، ويعتبر المشروع نموذجا هاما لمشاريع الرعاية الاجتماعية التي تتبناها الجمعية.

هذه الأنشطة التي تقوم بها الجمعية سواء على صعيد الدعوة الدينية أو في مجالات الرعاية الاجتماعية ملاحظتين هامتين:

الأولى، هي الدور الذي تلعبه الجمعية الشرعية في عملية التنشئة الدينية من خلال إشرافها المباشر على المساجد التابعة لها فضلا عن الدعاة الذين يقومون عليها، إلى جانب بعض الأنشطة الدينية والثقافية والتربوية التي تقوم بها، والتي تعكس في النهاية الخط الفكري لها، وتعمل على غرس مجموعة من القيم والمفاهيم التي تتفق عليها.

ويساعدها في ذلك اتساع المساحة الجغرافية التي تعمل عليها فضلا عن تمتعها بقدر من الاستقلال المادي لمتابعة هذه الأنشطة وهو ما يجعله تملك أداة هامة لتشكيل وعى نسبة عالية من المواطنين خاصة إذا ما أخذ في الاعتبار مناطق تركز نشاط الجمعية والتي تقع في الغالب في الأحياء التي تتسم بالكثافة السكانية أو الأحياء الشعبية الفقيرة، ويزداد هذا الأمر دلالة في ضوء الحقائق التي تشير إلى ارتفاع نسبة الأمية في المجتمع المصري.

والأخرى، تتعلق بالنشاط الخدمي والاجتماعي الذي تقوم به الجمعية الشرعية والذي يعمل بلا شك على ربط شرائح اجتماعية مختلفة بالجمعية وبتوجهاتها الفكرية، ويوجد شبكة من علاقات الولاء بين المستفيدين من هذه الخدمات وقيادات الجمعية، وكل ذلك يساهم في النهاية في ازدياد المناخ الديني العام الذي تحرص عليه الجمعية.

الدور السياسي للجمعية الشرعية:

إذا كان ثمة دور تلعبه الجمعية الشرعية على المستوى الثقافي والاجتماعي – كما سبقت الإشارة- فتظل هناك إمكانية للحديث عن دور سياسي تلعبه الجمعية سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وربما يرجع أحد الأسباب الرئيسية لذلك إلى الأساس الفكري الذي تقوم عليه هذه النوعية من الجمعيات الأهلية ذات الطابع الديني والذي يجعلها- بقصد أو بدون قصد- تدخل مجال العمل السياسي،

كما يخلق مساحة واسعة للتداخل بين الدور الاجتماعي الذي تؤديه الجمعية وبين البعد السياسي له، وليس هذا عنصر التداخل الوحيد ، فالأيديولوجية التي تقوم عليها الجمعية تخلق مساحة أخرى للتداخل بينها وبين أية حركة سياسية ذات طابع ديني لصعوبة وضع حدود فاصلة بين هذه الأيديولوجية وبين تلك التي تقوم عليها الحركات الأخيرة.

وفى حالة الجمعية الشرعية حدث مثل هذا التزاوج من ناحيتين: الأولى، هي لغة الخطاب الذي استخدمته الجمعية. والأخرى، تتعلق بالنشاط الاجتماعي والتربوي لها. فعلى مستوى الخطاب حرصت الجمعية من خلال بيان مشهور صدر في الستينات للشيخ أمين محمد خليفة الشيخ السبكى بعنوان " الإصلاح الديني" أن تؤكد على ( ضرورة أن تكون قوانين الدولة كلها مستمدة م كتاب الله وسنة رسوله، وتنظيم المرحلة الأولى من التعليم بحيث تشمل مناهج لحفظ القرآن الكريم وإلزام كل من يباشر عملا في الدولة بتأدية ما فرضه الله عليه خاصة – الصلاة والصيام، ووضع نظام لجباية الزكاة ممن وجبت عليه وصرفها للمستحقين، القضاء على الدعارة السرية، ومصادرة الخمور والمكيفات والمخدرات وغيرها).

ولا شك أن التأكيد على هذه المبادئ إنما يدخل مباشرة في تنظيم شؤون الدولة القانونية والسياسية والاجتماعية، كما يتعرض أيضا لمختلف مظاهر السلوك الاجتماعي والفردي. أي أن لغة الخطاب الذي استخدمته الجمعية الشرعية كان له طابع يتعلق بالدولة والمجتمع والفرد.

ويتأكد هذا المعنى من خلال ما أورده عبد اللطيف مشتهرى، أحد الأعضاء البارزين في الجمعية في كتابه هذه دعوتنا بأن ( الإسلام دين ودولة، قضاء وسياسة، مصحف وسلاح، معاش ومعاد) وربما تشابهت هذه العبارة مع المقولة الشهيرة للشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها العام الأول عندما لخص أهداف الجماعة بقوله( الإسلام عبادة وقيادة، دين ودولة، روحانية وعمل ، وصلاة وجهاد ، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف لا ينفك أي من هذين عن الآخرين..).

وقد جاء هذا الكتاب ردا على ما أثير حول الخط الفطري للجمعية الشرعية خاصة من قبل الدولة وحاول أن يؤكد على أصول دعوة الجمعية وخاصة فيما يتعلق بمسألة الفرق الناجية ومبدأ الحاكمية ، ومبدأ الالتزام بالسنة المطهرة، وربما أتى ذلك على غرار الكتاب الشهير الذي أصدره حسن الهضيبى المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين بعنوان دعاة لا قضاة والذي حاول فيه أن يوضح موقف الجماعة من مفهوم الحاكمية وما يترتب عليه من الحكم على جاهلية المجتمع وتكفير الأفراد، وكان ذلك أيا ردا على الجدل الذي أثارته الكتابات المتشددة لسيد قطب في تفسيره لنفس المفهوم.

وقد أدى هذا التشابه في المواقف إلى تقريب لغة الخطاب الخاص بالجمعية الشرعية من مثيلتها عند جماعة الإخوان المسلمين على وجه التحديد.

أما على المستوى الآخر والمتعلق بالنشاط الاجتماعي والتربوي للجمعية الشرعية، فقد تشابهت كثير من الأنشطة والمشروعات التي تتبناها مع الأنشطة الاجتماعية للإخوان المسلمين، بل لم يقتصر الأمر على هذا التشابه وإنما حدث تداخل فعلى مع الإخوان من خلال المشروعات الاجتماعية، ويعتبر مشروع رعاية الطفل اليتيم نموذجا لذلك، بالإضافة على ذلك فقد استطاع الإخوان التغلغل داخل الجمعية الشرعية من خلال علاقاتهم المباشرة مع بعض قياداتها.

ولعل هذه المؤشرات تؤكد صعوبة وضع حدود فاصلة بين الدور الاجتماعي والدور السياسي الذي تلعبه الجمعيات الأهلية ذات الطابع الديني. كما أن النص في لوائحها الداخلية على عدم العمل في السياسة لا يقف من الناحية العملية أمام عناصر التداخل الفكري والحركي لبعض أعضائها مع أعضاء جماعات أخرى دينية لها طابع سياسي.

ولم يقتصر الأمر في حال الجمعية الشرعية على التداخل الفكري والعملي مع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بل امتدت عناصر هذا التشابك والتداخل مع عناصر أخرى من الجماعات الإسلامية ، ولعل أبرز مثال على ذلك تمثل في السيطرة شبه الكاملة للجماعات الإسلامية أبرز هذه الجماعات في الثمانينيات والنصف الأول من التسعينات على فرع الجمعية الشرعية في أسيوط موطن تركزها الأساسي.

وقد أدت هذه العوامل إلى صدام مع السلطة، فعلى إثر التغلغل الواضح للإخوان المسلمين وازدياد نفوذهم داخل مجلس إدارة الجمعية الشرعية لجأت السلطة على حل المجلس في 7 يونيو 1990 وتعيين مجلس إدارة جديد من أعضاء جدد من داخل الجمعية.

ولم تكن هذه هي السابقة الأولى من نوعها وإنما ثارت أزمات مشابهة بين الجمعية الشرعية والدولة لأسباب مماثلة تتعلق بدورها السياسي، وقد سبق أن تعرضت للحل في عام 1968 وتم تعيين الفريق عبد الرحمن أمين رئيسا للجمعية.

وشهدت بداية الثمانينات أزمة أخرى تتعلق بفرع الجمعية الشرعية في أسيوط، حيث شهد هذا الفرع وجودا متزايدا لفصائل من الجماعة الإسلامية حيث استفادت هذه الجماعة من الأنشطة التي تقوم بها الجمعية للسيطرة على فرعها بأسيوط،

وبدأ ذلك من خلال بيوت الطلبة التي كانت الجمعية تقوم بتأجيرها للطلاب، فضلا عن استخدامها للمسجد التابع للجمعية في أسيوط لعقد لقاءاتها وندواتها، حتى انتهى الأمر بالسيطرة شبه الكاملة للجماعة الإسلامية على فرع الجمعية الشرعية بأسيوط ، وهو ما أدى إلى وقوع الصدام بين أعضاء الجماعة وقوات الأمن حول مسجد الجمعية هناك في ديسمبر 1989، ووضعه تحت إشراف وزارة الأوقاف، وحل مجلس إدارة الفرع، وتعيين مجلس جديد في 1990.

جمعية الشبان المسلمين

تكونت جمعية الشبان المسلمين عام 1927 برئاسة عبد الحميد سعيد عضو الحزب الوطني وقتئذ، والشيخ عبد العزيز جاويش نائبا للرئيس، وأحمد تيمور باشا أمينا للصندوق ، ومحب الدين الخطيب سكرتيرا عاما والذي أشرف على مجلة الزهراء الشهرية، ومجلة الفتح الأسبوعية ، ويلاحظ من تشكيل مجلس إدارتها أنها جمعت بين كل من الشخصيات الدينية والسياسية.

وتعد جمعية الشبان واحدة من أهم الجمعيات الأهلية الدينية، وترجع هذه الأهمية ليس فقط إلى قدم الجمعية وإنما إلى الدور الذي لعبته والمواقف التي اتخذتها على الساحة السياسية والتي جعلتها تمثل مرحلة انتقال بين النمط التقليدي من الجمعيات الدينية التي اقتصر نشاطها على الميادين الخيرية والتربوية والثقافية ، وبين الجمعيات الدينية ذات النشاط السياسي.

وعلى الرغم من أن الجمعية حرصت منذ بدايات تكوينها على أن تنص لائحتها الداخلية على حظر العمل أو التدخل في المجال السياسي والتأكيد على هدفها الرئيسي وهو نشر مبادئ الإسلام ، إلا أنه سرعان ما لبثت الجمعية بمنطق دعوتها وفكرها واستجابة للمتغيرات السياسية التي شهدتها تلك الحقبة أن تحولت إلى مجال العمل السياسي وتداخلت دعوتها الدينية مع العوامل السياسية.

ويمكن التدليل على الدور السياسي لجمعية الشبان المسلمين من خلال مستويين: الأول، خاص بموقفها من بعض القضايا السياسية المثارة في ذلك الوقت . والآخر، يتصل بعلاقتها بجماعة الإخوان المسلمين.

وبالنسبة للمستوى الأول، حاولت الجمعية منذ بدايات عملها أن تمد نشاطها إلى المجال العربي، فأسست أفرع لها في فلسطين وسوريا وبغداد والبصرة وغيرها. وقد استلزم ذلك اتخذا مواقف إزاء العددي من القضايا العربية . ومن ذلك أحداث حائط المبكى في فلسطين عام 1929، والسياسة الفرنسية تجاه البربر في مراكش والجزائر والسياسة الاستعمارية الايطالية في ليبيا ، فضلا عن موقفها إزاء النشاط التبشيري في مصر في تلك الفترة، كما كان الموقف من اليهود واعتداءاتهم على الأماكن المقدسة في فلسطين، فضلا عن الهجوم على تركيا بعد إلغائها الخلافة الإسلامية من أهم القضايا المثارة في كتابات محب الدين الخطيب.

واستلزمت مواقف جمعية الشبان المسلمين من القضايا العربية المختلفة اتخاذ مواقف من سياسات الدول العربية وحكوماتها وهى مواقف سياسية بالضرورة، وزاد من ذلك ما طالبت به الجمعية في المؤتمر الذي عقدته في أوائل الثلاثينات من ضرورة العمل على استعادة الخلافة الإسلامية وطرح مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية، ولا شك أن هذين المطلبين يتجاوزان مفهوم العمل الخيري أو التربوي الذي قامت من أجله جمعية الشبان المسلمين ويدخل في صميم العمل السياسي.

أما المستوى الآخر، فيرتبط بعلاقة الجمعية بجماعة الإخوان المسلمين وفى ذلك يروى حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها العام الأول فى مذكراته الدعوة والداعية بأنه – عندما كان طالبا بدار العلوم- ساهم مع بعض زملائه في إنشاء جمعية الشبان المسلمين ، وأن الشباب بالتحديد لعب الدور الأول في تأسيس الجمعية.

وكان هدفها الأول هو التحرك المنظم للدفاع عن الإسلام ومقاومة التيارات الغربية وتم إصدار صحيفة الفتح التي رأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور وأدارها محب الدين الخطيب . وهكذا كانت هذه الخطوات وراء تكوين جمعية الشبان المسلمين . كما يرويها حسن البنا الذي أشار على أنه بقى حتى بعد تخرجه من دار العلوم واشتغاله مدرسا بالإسماعيلية على صلة بمجموعة الشباب الذين تعاهد معهم على العمل من أجل الدعوة الإسلامية حتى تكونت جمعية الشبان المسلمين برئاسة عبد الحميد سعيد وأرسل له بطلب الانضمام إلى الجمعية.

ويعلق طارق البشرى على ذلك بقوله( أنه يظهر من ذلك أن الشيخ البنا يعتبر نفسه الموجه لإنشاء جمعية الشبان،وأنه مع صحبه هم المحركون لها من خلال الجيل الأقدم الذي تولى صدارة العمل فيها).

وقد ساهمت هذه العناصر المتشابكة في توجيه الجمعية وتحويلها إلى مجال العمل السياسي، وإن كان وجود قيادات تنتمي على الجيل القديم قد حال دون النزول مباشرة إلى مجال العمل السياسي، كما أن وجود عدد من هذه القيادات من ذوى الثقافة الحديثة ربما حال دون إغراق الجمعية فى الاتجاه السلفي الذي عرفت به جماعة الإخوان المسلمين فيما بعد.

وهو ما أوجد المبرر لدى الشيخ حسن البنا وأصحابه لإنشاء جماعتهم المستقلة باسم الإخوان المسلمين وإن ظل البنا على صلة بالجمعية حتى أن مجلة الفتح التي أشرف عليها محب الدين الخطيب سكرتير عام الجمعية كانت هى ا لمنبر الطبيعي الذي توجه إليه حسن البنا في كتاباته حتى بعد تأسيس جماعته الجديدة في الإسماعيلية في 1928، إذ لم يكن لها في القاهرة صحية تنطق باسمها أو دار تعقد فيها اللقاءات، فكان مقر جمعية الشبان المسلمين بدوره هو مكان عقد الاجتماعات وإلقاء المحاضرات بالنسبة للبنا.

ومن هنا يخلص البشرى إلى القول ( بأن جمعية الشبان المسلمين رغم استمرار بقائها كانت مقدمة وتمهيدا لجماعة الإخوان المسلمين) .

وهذه اللمحة التاريخية عن نشأة جمعية الشبان المسلمين تدل على عدم إمكانية الفصل بين ما هو اجتماعي أو خيري، وبين ما هو سياسي في الجمعيات ذات الطابع الديني، كما يصعب التفرقة في عضويتها بين الملتزمين بالشروط التي تحددها اللائحة الداخلية للجمعية والتي تشترط عدم النشاط السياسي، وبين من يمارسون أنشطة سياسية من الناحية الفعلية.

وعلى الأقل يكون لهم توجه سياسي، خاصة وأن الجمعية تقبل بأنواع ثلاثة من العضوية هي " عامل ومنتسب ،وفخري" فالأول هو ما اشترك في تأسيس الجمعية منذ إنشائها وتقدم بطلب التحاق، وقبل مجلس الإدارة عضويته وله حق حضور الجمعية العمومية وحق الترشيح لمجلس الإدارة، أما المنتسب فهو من لا تتوافر فيه جميع شروط العضوية وحق الترشيح لمجلس الإدارة ،

أما المنتسب فهو من لا تتوافر فيه جميع شروط العضوية الكاملة ولكنه يتمتع بممارسة أنشطة الجمعية دون أن يكون له حق حضور الجمعية العمومية ولا حق الترشيح لمجلس الإدارة. وأخيرا هناك العضو الفخري وه من يقدم خدمات كبرى للجمعية سواء كانت مادية أو أدبية وليس له حق حضور الجمعية العمومية والترشيح.

يصل حجم العضوية- وفقا لإحصاء 1986- في جمعية الشبان المسلمين إلى ما يزيد عن 150636 عضوا .

أما عدد أفرع الجمعية فيصل إلى 112 فرعا موزعا على مختلف محافظات الجمهورية وهذه الأفرع تقوم بكافة الأنشطة ( الثقافي ، والدينية ، والاجتماعية، والرياضية).

أما التوزيع الجغرافي لهذه الأفرع فهو على النحو التالي:

جدول توزيع أفرع جمعية الشبان المسلمين على مستوى الجمهورية

المحافظة عدد الأفرع المحافظة عدد الأفرع
محافظة القاهرة 3 محافظة الجيزة 1
محافظة القليوبية 5 محافظة بني سويف 4
محافظة الغربية 6 محافظة المنيا 10
محافظة الدقهلية 5 محافظة الفيوم 1
محافظة كفر الشيخ 5 محافظة أسيوط 5
محافظة المنوفية 4 محافظة سوهاج 13
محافظة الإسكندرية 1 محافظة قنا 8
محافظة البحيرة 1 محافظة أسوان 2
محافظة الشرقية 9 محافظة البحر الأحمر 4
محافظة دمياط 2 محافظة مرسى مطروح 3
محافظة السويس 1 محافظة الوادي الجديد 2
محافظة بور سعيد 1 محافظة شمال سيناء 1
محافظة الإسماعيلية 1 محافظة جنوب سيناء 1

ويلاحظ من التوزيع السابق ما يلي:

(1) إن محافظات الوجه القبلي تشهد أكبر عدد من أفرع هذه الجمعيات وخاصة سوهاج التي يوجد بها( 13) فرعا تليها المنيا( 10) وقنا(8) وأسيوط (5) وبني سويف(4) لتشكل بذلك ما يزيد عن ثلث عدد أفرع الجمعية على مستوى الجمهورية.

(2) تجيء محافظة الشرقية على قمة محافظات الوجه البحري فيوجد بها( 9) أفرع، تليها الغربية(6) ، الدقهلية(5) وتتساوى القليوبية وكفر الشيخ والمنوفية(4) والبحر الأحمر (4) ومرسى مطروح والقاهرة(3) والوادي الجديد ودمياط(2) .

(3) بينما جاءت أقل نسبة وجود للجمعية في محافظات : الإسكندرية والبحيرة والسويس وبور سعيد والإسماعيلية والجيزة والفيوم وشمال سيناء وجنوب سيناء.

وربما يثير هذا التوزيع الجغرافي لأفرع جمعية الشبان المسلمين ملاحظة هامة فيما يتعلق بتوزيعها في المحافظات التي تقع في صعيد مصر حيث تبلغ أعلى نسبة لها، إذ أن هذه المحافظات هي نفسها التي تشهد وجودا مكثفا لنشاط الجماعات الإسلامية بشكل عام.

وربما استفادت هذه الجماعات من الأنشطة التي تقوم بها الجمعية سواء على المستوى التربوي والثقافي أو الخدمي والاجتماعي والرياضي، ووجدت فيها تربة خصبة للعمل السياسي. خاصة وأن الجمعية تعمل على ازدياد عوامل التنشئة الدينية بالذات عند الشباب ، وهو نفس الفئة التي تسعى هذه الجماعات لاستقطابها سياسيا بعد ذلك.

ويمك الاستنتاج من ذلك أنه إذا كان ثمة دور سياسي تلعبه جمعية الشبان المسلمين فهو دور غير مباشر، إذ أن الجمعية تسعى لتجنب الصدام مع الدولة وذلك بتجنب الصيغة السياسية المباشرة لأنشطتها، فضلا عن تجنب استخدامها كواجهة لنشاط بعض عناصر الجماعات الإسلامية كما حدث بالنسبة لجمعيات دينية أخرى، وربما استفادت بعض عناصر الجماعات الإسلامية كما حدث بالنسبة لجمعيات دينية أخرى، وربما استفادت جمعية الشبان المسلمين من تجربة الستينات

حيث تعرض مجلس إدارتها للحل عام 1968 وتم تعيين رئيس له من قبل الدولة، وقد يكون هذا السبب وراء ميل الجمعية إلى إتباع صيغة توازن دقيقة من خلال علاقتها بوزارة الشؤون الاجتماعية التي تتولى شؤون الإشراف والرقابة عليها، ولكن يبقى مما يقوى من وضع الجمعية إزاء الدولة هو قدرتها على تحقيق قدر هام من الاستقلال المالي الذي يمكنها من التوسع في النشطة الخاصة بالشباب .

جمعية أنصار السنة المحمدية

تأسست في القاهرة عام 1926 على يد الشيخ محمد حامد الفقى عام (1891-1959) وهو من خريجي الأزهر، ويرأسها الآن(1994) الشيخ على عبد الرحيم.

ولخص الشيخ محمد الفقى أهداف جماعته في كتابه" جماعة أنصار السنة المحمدية" والتي تبلورت حول عدد النقاط منها، العودة إلى القرآن والسنة، ربط الدنيا بالدين، إقامة المجتمع المسلم، وهى الأهداف التي صيغت منها اللائحة الداخلية للجمعية، مع إضافة بعض الأهداف الأخرى والمتعلقة بالتنشئة الدينية والثقافية والاجتماعية.

ويتضح من أهداف الجمعية غلبة الطابع السلفي عليها فضلا عن توجهها للربط بين الدعوة الدينية وقضايا السياسة والحكم والمجتمع، وبدأ ذلك واضحا فيما يتعلق بالمبدأ القائل بالدعوة على إقامة المجتمع المسلم والحكم بما أنزل الله والذي يعتبر من أهم المبادئ ذات الدلالة السياسية بالنسب لهذه الجمعية على وجه التحديد بحيث يتجاوز دورها الاهتمام بالقضايا الدينية والفقهية والتربوية ويؤكد ذلك ما به أحد قيادات الجمعية بتلخيص أهدافها في عشر نقاط في إحداها بخلاف القضايا العقيدية ما نصه : إن الإسلام دين ودولة وعبادة وحكم ،وهم ما يحمل مضمونا صريحا لتسييس أهداف الجمعية.

وتعتمد في تحقيق هذه الأهداف هي تعدد أنشطتها ومجال عملها، بحيث تمتد لتشمل أنشطة دينية واجتماعية وخدمية فضلا عن إصدارها لمجلتين شهريتين هما التوحيد والهدى النبوي وإن كانت الأخيرة قد توقفت عن الصدور، وتتيح لها هذه الأنشطة القيام بدور هام في مجال التعبئة لأهدافها خاصة وأن لها أفرع ممتدة في مختلف المحافظات، ويتبعها عدد كبير من المساجد والمدارس الخاصة بتحفيظ القرآن.

وقد كان الجانب السياسي لنشاط جمعية أنصار السنة، على جانب علاقتها مع السعودية ، سببا في اتخاذ قرار في عهد الرئيس عبد الناصر بدمجها في الجمعية الشرعية، إلا أنه أعيد بقرار آخر في عهد السادات بعد طلب من رئيس مجلس إدارتها لإعادة إشهارها كجمعية مستقلة عن الجمعية الشرعية.

المساجد الأهلية

(أ) الدور السياسي للمساجد الأهلية والأئمة:

شهدت الثمانينات تزايدا في الدور السياسي الذي تلعبه المساجد الأهلية على ساحة الحركة الإسلامية، ورغم أن انتشار هذه الظاهرة برز منذ السبعينات في ظل ضعف رقابة وسيطرة الدولة عليها إلا أنها استمرت وبشكل ملحوظ خلال عقد الثمانينات بحيث أصبحت تشكل أحد التحديات أمام النظام في مواجهة المعارضة السياسية الإسلامية ، إذ تجاوز دور هذه المساجد حدود العبادة وتحولت على ما يشبه المؤسسة الاجتماعية تلحق بها المراكز الطبية العلاجية، وفصول التدريس ولها مصادر تمويلها الخاصة التي تأتى من أموال الزكاة والتبرعات، كما أصبح لها خطاب ديني خاص له طابع متشدد وأئمة مستقلون لعبوا دورا سياسيا.

وكما برزت أسماء لهؤلاء الأئمة في عهد السادات مثل ا لشيخ أحمد المحلاوي، الذي اعتقل في سبتمبر 1981 بسبب الخطب التي كان يلقيها في أحد الجوامع بالإسكندرية، والتي حملت مضمونا سياسيا متشددا، فقد شهدت الثمانينات نفس الدور لأئمة آخرين أمثال الشيخ حافظ سلامة الذي اتخذ نفس الخط المتشدد فئ مجال الدعوة للتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية وأراد قيادة ما أسماه" بالمسيرة الخضراء" إلى مقر رئاسة الجمهورية، بالتنسيق مع الشيخ عمر عبد الرحمن مفتى " الجماعة الإسلامية " للمطالبة بتحقيق هذا المطلب في يونيو 1985.

وهو ما دعا الحكومة لإصدار مرسوم في يوليو من نفس العام لوضع بعض المساجد الأهلية تحت وصاية وزير الأوقاف وإخضاع خطبة الجمعة للرقابة، وردا على هذا المرسوم الحكومي نادي حافظ سلامة بتنظيم مظاهرة تخرج من مسجد النور في 12 يوليو 1985، وانتهى الأمر باعتقاله وإغلاق المسجد في 19 يوليو من نفس العام.

وفى نفس الاتجاه برز دور الشيخ طه السماوي الذي شكل جماعة صغيرة ظهرت في نهاية السبعينات على ساحة العمل السياسي الإسلامى، ومارس نشاطه في الثمانيات من خلال الدعوة في المساجد، كما اشترك مع الشيخ حافظ سلامة في دعوته إلى المسيرة الداعية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية والتي تم منعها من قبل الحكومة ،

وفى العام التالي برز نشاط جماعة الشيخ السماوي في قضية الاعتداء على نوادي الفيديو عام 1986 والتي اعتبرها الشيخ رمزا من رموز الكفر والفساد في البلاد وارتكز خطابه الديني على بعض القيم الأخلاقية التي تدخل في إطار تغيير أنماط السلوك الاجتماعي السائد بالقوة.

وللشيخ السماوي كتاب يشرح فيه رؤيته للتغيير السياسي والاجتماعي ويدحض فيه فكرة وصياغة مشروع أو برنامج يتعلق بمسألة تطبيق الشريعة الإسلامية، ولأنه مطلب- من وجهة نظره- هو من قبيل محاولة الجاهلية ( إحراج دعاة الله بمطالبتهم ببرنامج مفصل للحكم، وليس على المسلمين أن يشغلوا بالهم بهذا لأن المشكلات القائم في المجتمع المصري الجاهلي هي مشكلات وليدة هذا المجتمع لأنه لا يحكم بشريعة الله).

والواقع أن الدور السياسي لبعض الأئمة من خلال نشاطهم في المساجد الأهلية أصبح من الظواهر المتكررة في الثمانينات خاصة مع استمرار تزايد عدد هذه المساجد التي وصل تقدير عددها إلى 70 ألف مسجد مقابل 9 آلاف مسجد تابع لوزارة الأوقاف.

وتستقطب هذه المساجد العديد من عناصر الحركة الإسلامية الأمر الذي زاد من عوامل تسييسها من ناحية وحولها إلى ساحة للمواجهة بين الجماعات الإسلامية وقوات الأمن بهدف السيطرة على هذه لمساجد من ناحية أخرى،

وشهد عقد الثمانينات ومطلع التسعينات مواجهات متتالية حول هذه المساجد المنتشرة في بعض الأحياء الفقيرة مثل عين شمس 0 مسجد آدم) والمطرية وإمبابة وضواحي الهرم وبولاق الدكرور والزاوية الحمراء وامتد الأمر إلى أحياء أخرى مثل مسجد صلاح الدين في المنيل.

(ت‌) سياسة ضم المساجد الأهلية:

لجأ النظام في مواجهة التزايد المستمر للنشاط السياسي للمساجد الأهلية إلى سياسة ضم هذه المساجد بشكل تدريجي، وإخضاعها لرقابة وزارة الأوقاف عليها (85) وتوفير الدعاة والأئمة المعينين من قبل الوزارة ، كما سعى في نفس الاتجاه للدعوة لنظام الكتاتيب خاصة في القرى ومراكز تحفيظ القرآن ، في محاولة لسحب البساط من تحت أقدام الجماعات الإسلامية التي تسيطر على اغلب هذه المساجد لتجنيد أنصار لها واستقطاب مؤيديها، وسعيا لتوجيه الخطاب الديني الذي خرج عن نطاق سيطرة الدولة في هذه المساجد.

ورغم ذلك فقد ظلت هذه السياسة محدودة لنفس العوامل والعراقيل التي واجهتها منذ السبعينات بسبب حاجتها إلى التمويل ، على جانب العجز المستمر فى توفير الأئمة والدعاة من خريجي الأزهر مما يقف حائلا دون قدرة الدولة على استيعاب هذا العدد الضخم من المساجد الأهلية التي تتمتع بدعم وتمويل مستقل من خلال التبرعات وأموال الزكاة.

ثالثا: الحركة الطلابية

شهدت الثمانينات تناميا ملحوظا للتيار الإسلامى داخل الحركة الطلابية بالجامعات. وبدا ذلك من خلال سيطرة ممثلى هذا التيار على مجالس اتحادات الطلبة عبر سنوات متتالية، وبقدر ما سجل هذا المؤشر نجاحا نسبيا للتيار الإسلامى فى الجامعات، بقدر ما أظهر تراجعا نسبيا للتيارات الأخرى التى لعبت دورا هاما فى تطور الحركة لطلابية فى مراحل وفترات سابقة.

ويشكل الطلبة عنصرا هاما من عناصر الحركة السياسية فىالمجتمع حيث ينتمون على أكثر الفئات العمرية تأثرا بعوامل التغيير التى يمر بها فى مراحل تطوره، فضلا عن تمتعهم بدرجة من الوعى بسبب التعليم قد لا تتوافر عند الأغلبية من المواطنين إلى جانب امتلاكهم لقدرة عالية على التنظيم بسبب تركزهم بأعداد كبيرة فى أماكن محدودة مما يسهل حركتهم الجماعية.

هذهالعوامل تجعل من الطلبة- خاصة فى النظم التى تعرف قدرا من التقييد السياسى على حرية التعبير والتنظيم- إحدى القوى الاجتماعية الهامة للضغط السياسى ، والتى تعبر عن نفسها خارج نطاق القنوات المؤسسية. وفى المقابل ، أدت نفس العوامل بالعديد من التيارات والتنظيمات السياسية للسعى لاجتذاب هذا القطاع الحيوى من المجتمع، وهو ما أضفى درجة عالية من التسييس على الحركة الطلابية، وربطها بمسار ومجريات الصراع السياسى فىالمجتمع.

وفى هذا السياق فإن التعرض لظاهرة صعود التيار الإسلامى وسيطرته على الحركة الطلابية فى الثمانينات لا يمكن أن يتم بمعزل عن التطور السياسى لمجمل هذه الحركة من ناحية، والتغيرات السياسية والاجتماعية المتلاحقة التى شهدتها العقود السابقة.

(1) التطور السياسى للحركة الطلابية :

مارست الحركة الطلابية فى مصر نشاطا سياسيا ملحوظا منذ الثلاثينات والأربيعينات وقت صعود الحركة الوطنية، وساعد على ذلك أن الساحة السياسية فى ذلك الوقت كانت تموج بالعديد من التيارا ت والحركات السياسية الجديدة، التى كانت تسعى لتدعيم مواقعها وبناء قواعدها الاجتماعية والسياسية.وكانت القوة الطلابية إحدى الركائز الهامة التى سعت إلى اجتذابها.

وساعدت هذه العوامل على تسييس النشاط الطلابى، وتمثل ذلك عمليا فى مظاهرات الطلبة ىف الثلاثينيات (35/1936) ، وفى أعقبا الحرب العالمية الثانية فى عام 1947 حيث شهدت هذه الأعوام صعودا للحركة الطلابية كقوة جديدة تتمتع باستقلالية نسبية عن القوى الحزبية الموجودة فى ذلك الوقت.

وكان الاضطراب الذى ساد الحياة الدستورية فى مصر فى النصف الأول من الثلاثينيات، وعجز النظام وقتئذ عن التوصل إلى تحقيق الاستقلال التام عاملا هاما على التمرد الذىاجتاح صفوف الطلاب، وأدى خروجهم فى مظاهرات للمنادة بمطالب البلاد فىالاستقلال.

وكانتالنتيجة المباشرة لهذ الانتفاضة هى تكوين جبهة وطنية موحدة تضم الأحزاب السياسية لتبنى هذه المطالب، الأم الذى ساعد على دفع القصر لإصدار مرسوم ملكى فى 12 ديسمبر 1935 يقضى بإعادة دستور 1923.

واستمرت الحركة الطلابية فى قيادة عمليات التمرد والاضطراب ضد الاحتلال فى نفس العام، الأمر الذى مهد فى سياق الحركة الوطنية لتوقيع معاهدة 1936.

لقد سجلت هذه العوامل بداية ظهور الحركة الطلابية كقوة متميزة فى الحياة السياسية المصرية، فى الوقت الذى اخذت تتجاذبها فيه العديد من التيارات السياسية. وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية اشتدت مطالب الاستقلال بعد انتصار الحلفاء، وكان للحركة الطلابية دور بارز فيها، بلغ ذروته فى مظاهرات (46/1647) ،حيث اجتاحت المظاهرات العديد من الجامعات / كما ساهم الطلبة فى إنشاء اللجان الوطنية للمطالبة بحق البلاد فى الاستقلال.

وإذا كانت مظاهرات الطلبى (35/1936) قد مثلت نقطة هامة فى مسار الحركة الطلابية على صعيد العمل السياسى، فإنه أرخت أيضا لبداية انضمام الطلبة وبأعداد كبيرة إلى التنظيمات السياسية الناشئة خارج نطاق الأحزاب السياسية التقليدية وعلى راس هذه التنظيمات حركتا مصر الفتاة، والإخوان المسلمين.

وكانت مصر الفتاة أو ل تنظيم سياسى يقيمه ويتزعمه طلاب وخريجون شباب ، حيث شكل الطلاب ما يقرب من نصف أعضاء هذه الحركة، ولعب طلاب حركة مصر الفتاة دورا رئيسيا فى انتفاضة 35-1936 . ومن ناحية أخرى، وبالرغم من صغر حجم التنظيم الطلابى لحركة مصر الفتاة فى إطار الحركة الطلابية ككل إلا أن وزنها النسبى كان يفوق قوتها العددية والتنظيمية.

وبالمثل اهتم الإخوان المسلمين وبشكل مبكر بإجتذاب الطلاب بين صفوف جماعتهم، حيث تم تنظيمهم فى أسر داخل الحجامعة وكان معظم الطلاب المنتمين للجماعة أعضاء فى فرق الجوالة التابعه لها.وتزايد نشاط الإخوان فى الحركة الطلابية بعد الحرب العالمية الثانية، حتى اعتبر الإخوان من القوى الرئيسية فيها، وقدر عدد أعضاء فرق الجوالة المكونة أساسا من الطلاب، بين عشرين ألفا وخمسين ألفا، ووضح تأثير الإخوان المسلمين على الطلاب فى هذه الفترة، من اكتساحهم انتخابات الطلاب جامعة القاهرة فى نوفمبر 1951.

وفى المقابل سعت أيضا قوى اليسار ممثلة فى الحركة الشيوعية الناشئة إلى اجتذاب الحركة الطلابية، وشهدت أعوام 45-1946 درجة عالية من نشاط هذه القوى بين الطلاب. إلا أنه كان لتعدد الانقاسامات داخل الحركة اليسارية، فضلا عن موقفها من حرب فلسطين فى 1948، أثر فى انحسار نفوذها داخل الحركة الطلابية مقابل تصاعد نفوذ التيارات السابقة.

(2) الحركة الطلابية بعد 1952

وإذا كان المناخ السياسى والاجتماعى الذى ساد مصر فى الحقبة الليبرالية الأولى السابقة على قيام نظام يوليو 1952 قد ساعد على إبراز ونمو الحركة الطلابية وصبغها بطابع سياسى واضح عليها، فإن تغيير طبيعة النظام السياسى مع ا لعهدالجديد، والذى اتسم بطابع سلطوى ، بما يعينه من اشتداد قبضته على القوى السياسية والاجتماعية، التى زخر بها المجتمع، قاد الحركة الطلابية إلى مسار آخر.

فقد لجأ نظام 1952 إلى اتخاذ مختلف الاجراءات للسيطرة على الجامعات سياسيا وتعليميا وإداريا. وتمثل ذلك فىنقل المسئولية عن الجامعات والمعاهد العليا عام 1961 من وزارة التعليم إلى الوزارة الجديدة للتعليم العالى. وإنشاء المجلس الأعلى للجامعات التابع لها والذى كان الغرض منه دمج الجامعات فى النظام الحكومى، رغ إبقائها من الناحية الفنية كمؤسسات مستقلة.

وأدت هذه الاجراءات إلى إحكامالرقابة السياسية غير المباشرة على النشاط الطلابى من خلال إدارة الجامعة، وفىالمقابل حاول النظام الجديد توجيه النشاط السياسى للطلبة من خلال التنظيمات السياسية الجديدة التى اقامها بدءا من مكتب الطلبة فى هيئة التحرير عام 1953، وانتهاء بمنظمة الشباب الاشتراكى فى 1965، وطليعة الاشتراكيين ( التنظيم الطليعى) منذ 1968،

كما تم إنشاء تنظيمات سياسية أخرى تحت إشراف الأجهزة الحكومية للاشراف على الرياضة والأنشطة الترفيهية للشباب والطلبة، وكان على راس هذه الأجهزة المجلس الأعلى لرعاية الشباب ووزارة الشباب اللذين أنشئا عام 1954 و1966 على التوالى .

وإلى جانب ذلك، لجأ النظام فى هذه الفترة على الحد من الاستقلال التنظيمى لاتحاد الطلبة، من أجل ضمان ولائه، من خلال اللائحة المنظمة له والتى تم تعديلها مرات عديدة. فقد قضت اللائحة الصادرة عام 1958-1959 على أن يهتم الاتحاد فقط بالمسائل الاجتماعية المتعلقة برعاية الطلبة، بينما حظر النشاط السياسى والدينى، كما فتح باب العضوية أمام الأساتذة إلى جانب الطلبة، مع قصر سلطة إصدار القرارات على الأساتذة.

ولكن المعارضة الطلابية لنصوص اللائحة أدت على تعديلها فى 1963 حيث اقتصرت العضوية على الطلبة مرة أخرى ولكن مع استمرار عدد من هيئة التدريس فى ممارسة الاشراف كمستشارين للجان الاتحاد. ومع الأزمة التى لحقت بالنظام فى عام 1967، بدأت عوامل التذمر والسخط تجتاح الأوساط الطلابية لتخرج ههذ القوة عن صمتها السياسى الذى أجبرت عليه منذ الخمسينات.

وكانت عودة النشاط الطلابى فى ههذ الفترة جزءا لا يتجزأ من الضغوط العامة التى تعرض لها النظام من أجل التغيير. وشهد عام 1968 أول مظاهرات طلابية منذ أزمة مارس 1954، بدأت فى فبراير واشتعلت مرة أخرى فى نوفمبر من نفس العام. وتجاوزت حركة الطلبة الخاصة ببعض القضايا التعليميية التى بدأت بها، إلى المطالب السياسية ومهدت بذلك لعودة النشاط السياسى للطلبة كما فتحت الباب لظهور التيارات السياسية المختلفة داخل صفوف الطلاب من جديد.

وأدت ههذ الاضطرابات التى اجتاحت الجامعات المصرية، والتمرد الذى عبرت عنه الحركة الطلابية إلى لجوء النظام مرة أخرى إلى تعديل اللائحة بشكل يتوافق نسبيا مع مطالب الطلبة سعيا لامتصاص الغضب الذى عبروا عنه 1968. إلا أن الأمر لم يدم طويلا حيث تم تعديل اللائحة مرة أخرى بموجب قرار جمهورى فى عام 1969.

وقد عمل التعديل على ضمان بقاء الاتحاد خاضعا للهياكل الحكومية حيث نصت المادة (5) منه على أن يعمل الاتحاد العام لطلبة الجمهورية على توثيق العلاقة بين الاتحاداتالطلابية والتنظيم السياسى لصالح الوطن وعلى توثيق العلاقة بين الاتحادات الطلابية والأجهزة التنفيذية التى تعمل فى مجال الشباب .

كما نصت اللائحة على توجيه انشطة الاتحاد وذلك من خلال المادة(4) التى تحدد الأوجه المختلفة للنشاط الطلابى فى 17 بندا خصصت أربعة منها لتحديد الأوجه المختلفة للنشاط الطلابى فى 17 بندا خصصت أربعة منها لتحديد طبيعة النشاط السياسى للاتحاد، بينما أنصرف بقيتها لتحديد طبيعة الأنشطة الاجتماعية الخاصة برعاية الطلبة.

وكان التناقض فى اللائحة يرجع إلى تركيزها الكامل تقريبا على الطبيعة السياسية للاتحاد على المستوى القومى، بينما تقصرنشاط قواعده تقريبا على أوجه النشاط الاجتماعى.

ورغك محاولات التقيييد والسيطرة التى شهدتها فترة الخمسينات والستينات على الحركة الطلابية، إلا أنها ل تكن كافية للقضاء على القوى والتيارات السياسية الكامنة ىف هذا الحركة، وكان من الطبيعى مع تطور الوضع السياسى فى 1970، وحل التنظيم الطليعى فى 1971 ، أن تعود هذه التيارات الكامنة إلى السطح مرة أخرى لتمارس دورا سياسيا.

وقد شهدت الجامعات اضطرابات جديدة فى بداية السبعينات مع الاستعداد لاتنتخابات العام (71-1972) وارتفاع الأصوات مطالبة إلغاء الحرس الجامعى، وقد حاولت الحكومة- دون نجاح- إعادة منظمة الشباب ، مما اضطرها على تحقيق المطلب الخاص بإلغاء الحرس وهو الأمر الذى وفر قدرا من الحرية ساعد على إفساح المجال أما الحركة الطلابية للظهور بشكل أقوى من الفترة السابقة، وتجسد ذلك فى مظاهرات الطلبة( 1971-1972.

ورغم تركز المطالب فى هذه المظاهرات حول قضية إنهاء الاحتلال الاسرائيلى ، إلا أنها تجاوزتها للتعرض للمسائل السياسية والاجتماعية الداخلية ، فضلا عن توجيهها انتقادات حادة لممارسات النخبة الحاكمة .وقد تأثرت هذه المطالب إلى حد كبير بالتوجهات السياسية لقيادة الحركة الطلابية فى ذلك الوقت والتى سيطر عليها اليسار.

وأهم ما ميز الحركة الطلابية فى 71-1972 وقت وقوع هذه اللاضطرابات كان هو بداية بروز الاستقطاب السياسىبداخلها وظهور الاختلافات بين صفوفها، وقد امتدت هذه الاختلافات بين الطلبة من ذوى الاتجاهات المختلفة- من يسارية وناصرية وإسلامية ( حيث بدأت الأخيرة فى الصعود منذ بداية السبعينات) إلى الانقسام الداخلى داخل الاتجاه الاول – أى اليسارى- الذى قاد هذه الحركة بسبب الاختلافات المتكررة بين عناصره القيادية.

صعود التيار الإسلامى

بدأ التيار الإسلامى فى الظهور فى الجامعات المصرية فى خضم الاضطرابات التى وقعت فى 1972-1973 التى كان يتزعمها اليسار.

وقد عمل النظام فى البداية علىدفع الاتجاه الأول لدى عودته فى السبعينيات لمواجهة سيطرة الاتجاه الثانى على الحركة الطلابية، ولعب محمد عثمان إسماعيل أمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكى العربى ومحافظ أسيوط فيما بعد دورا هاما فى تحفيز أسلوب استخدام الجامعات الإسلامية لمواجهة اليسار فى الجامعة فى ذلك الوقت.

وبدأ التيار الالاسمى يتبلور حول جماعة شباب الإسلام التى أنشئت فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة مع بداية العام الدارسى 72-1973 .

وإذا كان النظام – لدواعى الصراع السياسى الذى ساد فى أوائل السبعينيات – قد أعطى دفعة أساسية أو أفسح المجال أمام حرية عمل هذا التيارفى الجامعة بهدف تحجيم نشاط اليسار داخل الحركة الطلابية الذى كانت له السيطرة عليها مع مطلع السبعينيات ، إلا أن ذلك لا يعنى أنه قام بخلق قواعده، فجذور هذا التيار داخل الأوساط الطلابية قديمة ترجع على ما قبل قيام نظام 1952، حتى وإن اختلفت الفصائل المعبرة عنه، وإذا كان العهد الذى تلا تلك الحقبة قد شهد انحسارا وقتيا لهذا التيار ضمن تيارات أخرى، فإن ذلك يرجع بشكل أساسى إلى السياسة التى اتبعها النظام وقتئذ ، والتى أدت إلى تحقيق درجة عالية من السيطرة على الحركة الطلابية.

ومنذ ذلك التاريخ أخذ أصحاب التيار الإسلامى فى تقوية مراكزهم وتدعيمها داخل الجامعة تدريجيا، حتىاصبحوا فى منتصف السبعينيات فى مقدمة التيارات الئريسية الفاعلة داخل الحركة الطلابية، وبدأت معارضتهم الكامنة للنظام تظهر بشكل واضح بعد فترة المهادنة الأولى، ومع انتهاء عقد السبعينيات أصبح التيار الإسلامى هو القوة المسيطرة على الحركة الطلابية بلا منافسة حقيقية.

وظهر ذلك واضحا فىانتخابات اتحاد الطلاب التى أجريت فى العام الدراسى 1978-1979 (100) حيث سيطر أصحاب هذا التيار تماما على الاتحاد، مماأعطاهم فرصة أكبر لزيادة هيمنتهم على توجيه الحركة الطلابية ككل.

وأدى ذلك الوضع إلى اشتداد المعارضة الطلابية فى الجامعات لسياسات النظام وتوجهاته ، حيث قامت هذه المعارضة بشكل أساسى على أرضية أيديولوجية واضحة.

وفى المقابل لجأ النظام إلى عدة إجراءات لتحجيم نشاط هذا التيار اتخذت شكل تغييراللائحة الطلابية فى 1979 لتحجيم اثر سيطرة الإسلاميين على اتحاد الطلاب واعادة الحرس الجامعى، وفصل بعض الطلبة من الجامعة نهائيا، وبجانب هذه الاجراءات بذلت بعض المحاولات لاحتواء نفس التيار من خلال الاعتماد علىأساتذة الجامعات ، وعلماء الدين، والقيادات البارزة من الإخوان المسلمين.

وفى أعقاب اغتيال السادات خضعتالجامعات المصرية لقيود شديدة أدت على تراجع نسبى فى نشاط الإسلاميية أظهرته انتخابات الاتحاد العام 1982-1983، ولكن الأمر لم يدم طويلا فمع منتصف الثمانينات عادت الجماعاتالإسلامية بشكل مكثف مرة اخرى فى مختلف الجامعات، وشهدت انتخابات 1984-1985 جوا متوترا وبدأت المطالبة بتغيير اللائحة الطلابية والعودة للائحة 1976، وإلغاء الحرس الجامعى.

وبشكل عام، ورغم ظهور تيارات سياسية أخرى داخل صفوف الحركة الطلابية، إلا ن الغلبة طوال الثمانينات كانت للتيار الإسلامى، وهو ما أدى إلى بروز العنف فى الأوساط الطلابية ، فقد أعطى هذا التيار من خلال وجوده بالجامعات المختلفة أولوية للمسائل السلوكية، بمعنى محاولة تغيير سلوك الأفراد بالقوة وفقا للرؤى والقيم الحاكمة لأصحاب التيار الإسلامى ،

ومن ذلك التدخل بشكل عنيف للفصل بين الجنسين فى قاعات المحاضرات ، ورفض الاجتماعات والحفلات التى يقيمها الطلاب، وتمزيق الملصقات المعارضة، وغيرها من الممارسات التى جعلت من الحركة الطلابية فى السياسة مصدرا للتوتر والعنف وليس للتاثير الايجابى على الحياة السياسية.

ومنذ أواخر الثمانينات أخذت تتبلور ثلاث قوى يتنافس كل منها علىالفوز بأكبر عدد منمقاعد الاتحاداتالطلابية فى الجامعات المصرية، وهى : التيار الإسلامى والجماعة الإسلامية والسلفيون واليسار (الناصريون والاشتراكيون) . وأهم ما يمكن ملاحظته بشأنه هو الضعف النسبى لهذا الاتجاه فى الجامعات خاصة فى السنوات الأخيرة، ويعزز من ذلك عدم فوزه باتحدات الطلاب، حتى فىالكليات التى كانت لسنوات معقلا له.

وأخيرا قائمة طلاب النشاط أو طلاب الحزب الوطنى. وتلقى هذه القوائم مساندة كبيرة من جانب إدارة بعض الكليات سواء فى الانتخابات أو فى ممارسة النشاط الطلابى. ويبدو أن البداية القوية لظهور القوائم كانت فى عام 1987 من خلال إعداد الحزب الوطنى لمعسكرات التصييف المجانية للطلاب، وكذلك المعسكرات التى تخللت العام الدراسى 1987-1988 وبصفة خاصة خلال عطلة نصف العام واشترك فيها بعض أعضاء هيئة التدريس ، ويمكن القول بأن ههذ المعسكرات اتسمت بحضور جمع من الطلاب لا بأس به فى إطار التعبئة التى أشرفت عليها أمانة الحزب الوطنى، وحاضر فيها عدد كبير من الوزراء وكبار المسئولين.

وإذاكانت فترات الانتخابات الطلابية تشهد عادة ذروة جهود كل من تلك القوى للتأثير على الطلاب وجذب أصواتهم، ، فإن القوى الإسلامية دأبت على تصوير تاييدها بأنه واجب دينى قبل كل شىء.. أنه صورت رسولنا الكريم ينادى من مثواعه الخير..

وكأنلسان حاله يقول فرطتم وتركتم الجماعة واتبعتم شهواتكم وتركتم أمر دينكم.." وكذلك التركيز على أن مخرج الأمة من أزمتها فى فلسطين واللحقا بالأمم المتقدمة ر يكون إلا عن طريق التمسك بكتاب الله بعد الحالة المستضعفة التى وصلنا إليها بين الأمم.

وتدعو المنشورات الطلاب على انتخاب الجماعة الإسلامية التى لا تسعى إلا لأهداف سامية، باعتبار أن الله غايتنا ، دعوة ربانية أما طلاب النشاط فإن الجانب الأكبر من بياناتهم وجهودهم وقت الانتخابات يتجه عادة على الهجوم على الجماعة الإسلامية واتهامها بالتطرف والعمالة وأنها تتجاهل مصالح الطلاب، بل وكثيرا ما يلقى هؤلاء باللوم على أجهزة الدول لسماحها لهؤلاء الطلاب بممارسة أنشطتهم.

(4) مواجهة النشاط الإسلامى فى الجامعات:

اتبع النظام السياسى فى مواجهة تزايد نفوذ القوى الإسلامية فى داخل الجامعات أكثر من سياسة لتحجيم هذهالقوى، تعتبر – فىواقع الأمر- امتدادا لسياسته فى مواجهة نشاط القوى المعارضة داخل الجامعات بوجه عام، وإن بدأت – منذ أواخر الثمانينات- تأخذ منحى خاصا يرتبط بطبيعة تحدى القوى الإسلامية اساسا.

وفى مقدمة القضايا التقليدية التى كانت محلا للصراع السياسى داخل الجامعة منذ أوائل الثمانينات قضية تغيير اللائحة الطلابية، أى اللائحة التنفيذي لقانون تنظيم الجامعات عام 1976 والتى تم تعديلها فى 1979 ، وذلك فى جانبها الخاص بالأنشطة الطلابية.

فقد اتسمت لائحة 1976- فيما يتعلق بهذا الجانب الأخير – بمزايا كثيرة، تتيح فرصا واسعة أمام النشاط الطلابى بشكل مستقل، ودون تدخل من جانب الأساتذة او إدارات الجامعات. ويعزو الطلاب جانبا هاما من مزايا تلك اللائحة- مقارنة بالتعديلات التى أدخلت بعد ذلك فى 1979- على أن لائحة 1976 شارك فى وضع أحكامها الطلاب أنفسهم من خلال مؤتمر عام لاتحادات طلاب نصت على أن يتم انتخاب رئيس اتحاد طلاب الجامعة من جانب مجالس اتحادات الطلاب بالكليات،

كما أنها كانت تتيح فرصة لممارسة النشاط السياسى من خلال اللجنة العليا للنشاط الثقافى والسياسى على مستوى الجامعة، كما كانت تسمح بتنسيق أوسع بين اتحادات طلاب الجامعات المصرية من خلال اتحاد طلاب الجمهورية مما يضف على النشاط الطلابى المقدرة على التعبير عن مصالح الطلبة ككل على مستوى الجمهورية.

وفى المقابل تعرضت اللائحة بعد التعديلات التى أدخلت عليها فى 1979 إلى الانتقاد من الطلاب الذين لم يشاركوا فى مناقشة هذه التعديلات وإن لقيت تأييد بعض اعضاء هيئة التدريس فىالجامعات، وكانالهدف من هذه التعيلات نزع النشاط السياسى فى الجامعات حيث جاءت المادة 319 الخاصة بأهداف الاتحادات الطلابية وأنشطتها دون أن يكو من بين ههذ الأنشطة أية إشارة على اللجنة الخاصة بالنشاط الثقافى والسياسى، وأكدت ذلك المادة 332 "لا يجوز إقامة تنظيمات أة تشكيلات على أساس فئوى أو سياسى أوعقائدى بالجامعات او وحداتها، كما لا يجوز تنظيم نشاط لمجالس الاتحادات أو لجانها أو باسمها على اساس فئوى أو سياسى أو تنظيم نشاط لمجالس الاتحادات أو لجانها أو باسمها على أساس فئوى أو سياسى أو عقائدى"

والملاحظة الهامة التى تؤخذ على اللائحة بعد تعديلات 1979 هى أنها وضعت النشاط الطلابى بأكمله تحت إشراف هيئات التدريس بالجامعات وهو ما نصت عليه المادة( 326) " تشكل كل لجنة من لجان الاتحاد الخمس سنويا بريادة رائد منأعضاء هيئة التدريس يصدر بتعيينه قرار من عميد الكلية أو المعهد، وأيضا المادة 328 التى تنص على أن " يشكل مجلس اتحاد طلاب الكلية أو المعهد سنويا بريادة عميد الكلية أو المعهد أو من ينيبه فى ذلك من اعضاء هيئة التدريس وعضوية رواد لجان مجلس الاتحاد من أعضاء هيئة التدريس وأمناء مساعدى لجان مجلس الاتحاد من الطلاب"

كما أدت التعديلات التى أدخلت على اللائحة على زيادة القيود التى فرضتها على قرارات مجلس الاتحاد وإتاحة الفرصة للتدخل بصورة سافرة لأعضاء هيئات التدريس المشرفين على أنشطة الاتحاد فضلا عن إلغاء اتحاد طلاب الجامعات على مستوى الجمهورية والذى قننته المادة 331 التى تنص على أن :" يصدر رئيس المجلس الأعلى للجامعات ، القرارات اللازمة لتنظيم الأنشطة الرياضية والفنية والأدبية وأنشطة الجوالة والخدمة العامة التى تتنافس فيها منتخبات الجامعات المصرية رسميا فيما بينها..".

وإلى جانب هذهالتعديلات فقد أضيفت بنود جديدة للائحة تأديب الطلاب بأحكام قانون تنظيم الجامعات إلى جانب عدد من المواد الأخرى التى تجعل ميزانية الاتحاد يمكن التصرف فيها دون أية رقابة من جانب مجلس اتحاد طلاب الكلية أو المعهد أو الجامة مما يتيح فرصة أخرى للتدخل فى أنشطة الاتحاد.

والواقع أن هذه التعديلات جعلت انشطة اتحادات الطلاب تحت إشراف هيئة التدريس ، ولعل ما يعزز ذلك أنها بدلت اسم اتحاد الطلاب بـ" مجلس تنسيق الأنشطة الطلابية" كما أنها أعادت الحرس الجامعى من جديد إلى الجامعات من خلال المادة 317 التى تنص على أن " تنشأ بكل جامعة وحدة للأمن الجامعى.."

وفى إطار التطورات التى شهدتها الساحة السياسية فى الثمانينات تم تعديل هذهاللائحة وإن كان بشكل حيث أضيف هذا التعديل فى المادة 327، التى جلعت انتخاب أمين اتحاد طلاب الكلية أو المعهد قاصرا على اطلاب فى المجلس بعد أن كان يشمل رواد اللجان من أعضاء هيئة التدريس بجانب الطلاب، وكذلك الأمر على مستوى اتحادطلاب الجامعة والتى نصت عليه المادة 329.

ورغم التعديلات التى أجرت على اللائحة فى الثمانينات فلا تزال قاصرة عن التعبير عن الطموح الطلابى، ويعزز من ذلك أن اتحادات طلاب الجامعات عقدت ثلاثة اجتماعات عام 1985 فى جامعة القاهرة وجامعة الأسكندري والزقازيق لمنقشة عودة اتحاد طلاب جامعات الجمهورية وإلغاء لائحة 1979 والعودة للعمل بلائحة 1976، ولغاء الحرس الجامعى. ثم عقد مؤتمر طلابى بنقابة المحامين وآخر بحزب العمل فى نفس العام للمطالبة بذلك، وتجدر الاشارة إلى أن التيار الإسلامى قد فاز بمعظم اتحادات الطلاب فى الجامعات فى ذلك العام 1985، والذى شهد مظاهرات واسعة عمت معظم الجامعات للمطالبة بإلغاء لائحة 1979.

وفى هذا السياق ، يبدو أن أهم ظاهرة شهدتها الانتخابات الطلابية مؤخر( أى منذ عام 1992) كان هو ظهور تجمع طلابى جديد باس حورس ، تشير أغلب المؤشرات إلى تلقيه دعما مباشرا من الأجهزة الحكومية واستطاع هذا التجمع الطلابى الجديد "حورس" تحقيق الانتشار السريع داخل الجامعات، ووصلت المجموعات الطلابية التى شكلها إلى 82 أسرة جامعية فى جامعات: عين شمس وحلون، والأزهر، والقاهرة، والإسكندرية، والمنصورة .

وبلغ عدد الطلاب المنتمين إليه عام 1992 (68001 طالب) أغلبهم من طلاب النشاط.

ورغم هذه المحاولات لاحتواء الحركة الطلابية إلا أن مغزى ودلالة هذه الحركة يظل أوسع بكثير من الاطار الطلابى الذى تتم الموجهة على أرضيته. فالحركة الطلابية تعبر وفى جانب هام منها عن صعود قوى اجتماعية جديدة تجد جذورها فىالشرائح المختلفة للطبقة الوسطى المصرية، فقد أفسح انتشار التعليم فى الحقبة الليبرالية، وما صاحبه من زيادة عملية التحضر والهجرة من الريف إلى المدن، المجال لنمو شرائح اجتماعية جديدة، تعتمد على التعليم كإحدى الوسائل الرئيسية للحراك الاجتماعى.

ولعب هذا المتغير الاجتماعى دورا فى الاضطرابات التى شهدتها الجامعة المصرية منذ وقت مبكر فىالثلاثينيات، حيث أتت أغلبية الطلاب من أصول تنتمى على الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى فىالحضر( ما كان يطلق عليه أبناء الأفندية) ،وأسر الشريحة الوسطى من ملاك الأراضى فى المناطق الريفية، وبينما زادت القوى العددية لهؤلاء لم تكن الفرص المتاحة لحياتهم العملية تكفى لإرضاء طموحاتهم،

ولذلك كانت المشاكل الخاصة بالمستقل الوظيفى أحد المطالب الرئيسية التى ظهرت على السطح من مظاهرات 35-1936 وكذلك فى 1947 حيث شارك الطلبة أساتذة الجامعات والمدارس فى حالة السخط التى عبروا عنها مطالبين بتحقيق بعض الامتيازات الوظيفية.

ثم عمل نظام 1952 منذ مجيئه على التوسع فى التعليم خاصة التعليم العالى الجامعى وكانت نسبة الزيادة فىعدد طلبة الجامعات تعادل نسبة الزيادة فى التعليم الابتدائى والثانوى الفنى فىالفترة من (1952-1965) ، إلا أن هذهالزيادة اقتصرت أساسا على الكم( أى الزيادة العددية) بسبب الاعتبارات السياسية والاجتماعية التى حددتها توجهات النخبة الجددية لنظام يوليو،

فكان أثرها محدودا على المدى الطويل، بل لقد زادت ضغوط الطبقة الوسطى الجديدة التى نمت مع التوسع فى التعليم، دون قدرة حقيقية من النظام الجديد فى عهوده المتتالية على إرضاء طموحاتها، ولم تكن السيساة التى صاحبت هذا التوسع والمتمثلة فى التزام الدولة بتشغيل الخريجين قادرة على مواكبة التطلعات المتزايدة لأبناء هذه الطبقة.

وزادت حدة ههذالمشكلة فىالسبعينيات والثمانينيات( فخلال عقد واحد 1974 -1984 ، تزايد العدد بأكثر من الضعف) ، خاصة مع الهجرة المكثفة من الريف إلى المدن، والتوسع فى الجامعات الإقليمية واستمرار اعتماد أغلبية خريجى الجامعات على الحكومة فى الحصول على وظيفة، وقد وقفت هذه الأبعاد الاجتماعية وراء الكثير من مظاهر التوتر والاضطرابات التى عانت منها الطبقة الوسطى فى شرائحها المختلفة، والتى شكل الطلبة أحد أعمدتها الرئيسية ، وأصبحت عنصرا رئيسيا من عناصر الضغط علىالنظام السياسى.

الفصل الثالث النظام وجماعات العنف السياسى

يتناول هذا الفصل سيساة النظام تجاه الجناح المتشدد من المعارضة الالاسمية والتى يتسم بالعنف فىالتعبير عن معارضته للنظام القائم، ومثل هذا الجناح الجماعات الإسلامية، وفى هذاالاطار يعرض الفصل للتطور السياسى والتنظيمى لهذه الجماعات فىالثمانينيات ، وموقفها من العملية الديمقراطية، وأنماط العنف الذى اضطلعت به على مدى هذا العقد.

وفى المقابل، يتناول الفصل سياسات النظام فى مواجهة ظاهرة العنف والتى اتخذت مستويين: الأول، هو المواجهةالمباشرة، فى التعامل مع الظاهرة. والآخر، يمثل نوعا من المواجهة غير المباشرة سعيا لاحتواء نفس الظاهرة، وقد اعتمد فيها النظام بشكل أساسى على المؤسسة الدينية الرسمية.

أولا: تطور جماعات العنف فى الثمانينيات

منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بدأت تبرز أسماء جماعات جديدة قامت بأعمال العنف السيساى. ولكن رغم تعدد هذهالأسماء فقد بقيت الجماعات الرئيسية التى انشقت أو تفرعت عنها تدور حول ثلاث هى : الجماعة الإسلامية ، وتنظيم الجهاد، وجماعة المسلمين أو التكفير والهجرة، التى ظهرت منذ السبيعينيات .

ويبدو أنالجماعة الإسلامية أصبحت فى هذهالفترة هىأكثر ههذالجماعات تماسكا، وأشدها تأثيرا ويرجع ذلك إلى اتساع قاعدتها التنظيمية وحجم عضويتها، فضلا عن اختيارها لمنطقة الصعيد، مركزا رئيسيا لبناء تنظيمها وتجنيد أنصارها وممارسة نشاطها.

وقد وفر لها ذلك بيئة سياسية واجتماعية وأمنية ملائمة لتدعيم ذاتها قبل الانطلاق إلى العاصمة. وتتخذ هذه الجماعات منالمناطق الحضرية العشوائية فى العاصمة مراكز أساسية لممارسة النشاط ، وكانت مسئولة عن أغلب حوادث العنف التى وقعت طوال عقد الثمانينيات واستمرت حتى أوائل التسعينيات من الجماعات التى خرجت منها مجموعة بنى سويف التى عرفت باسم صاحبها أحمد يوسف.

أما تنظيم الجهاد المسئول عن حادث اغتيال الرئيس السادات فى 1981،فهو من أكثر التنظيمات الإسلامية التةىتولدت عنهاالعديد منالجماعات الأخى تحت مسميات مختلفة مث : الواثقون من النصر الخلافة، الحركيون، القصاص الإسلامى، طلائع الفتح، وأحدالأسباب الرئيسية وراء ذلك هىالضربة الأمنية التى تعرض لها هذا التنظيم بعد اغتيال السادات فى أوائل الثمانينيات ، ومن ثم فإن توالى ظهور ههذ الجماعات يعد مظهرا من مظاهر إعادة التنظيم مرة أخرى.

وقد استمرت جماعة المسلمون أو التكفير والهجرة والتى برزت فى منتصف السبعينيات كإحدى الجماعات الرئيسية التى ساهمت فى توليد جماعات جديدة ورغم طابعها شديد الانعزالية،إلاأن تأثيرها الفكرى ظل كبيرا ،حيث تولدت عنها أكثر من جماعة فىالثمانينيات وأوائل التسعينيات من ذلك جماعات: التوقف والتبيين، الناجون منالنار ، الشوقيون نسبة إلى مؤسسها شوقى الشيخ وجماعة طه السماوى.

ولا تعتبر ظاهرة الانشقاقات ظاهرة جديدة على الحركة السياسية الإسلامية، بل كانت سمة ملازمة لها منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين بتنظيمها السرى أو جناحها العسكرى، وظلت مستمرة حتى اليوم، وأدت الظاهرة إلى بروزالعديد من الجماعات والتنظيمات والخلايا المتفاوتة حجما وقوة، غير أن الحركة الإسلامية فى الثمانينيات وأوائل السعينيات اتسمت بكثافة الانشقاقات وزيادة معدلاتها بشكل ملحوظ، ويرجع ذلك فى جانب هام منه إلى طغيان العمل المسلح على نشاطها، وطابع السرية ولجوء العديد من هذه الجماعات إلى العمل تحت الأرض.

ورغم تعدد الأسباب الفكرية على الخلافات حول بعض التفسيراتالفقهية التى تتعلق بشكل أساسى بمسألة التكفير للأفراد وما يرتبط بها من تبرير للاعتداء على أرواحهم وممتلكاتهم، أما الأسباب المتعلقة بأساليب العمل السياسى فتشير إلى أساليب العمل العلنى والسرى فكثير من الجماعات الصغيرة الجديدة ترى فى أسلوب العمل السرى الوسيلة الأساسية لممارسة نشاطها السياسى الذى يقوم على العمل العنيف المسلح.

بينما ترى جماعاتأخرى مثل الجماعة الإسلاميةضرورة الجمع بين طابعى العلنية والسرية فىنشاطها حيث تشكل الدعوة أحد أركان استراتيجيتها السياسية إلى جانب العمل المسلح.

وقد كان هذان العاملان من الأسباب الرئيسية للخلاف بين ههذ الجماعة وتنظيم الجهاد.

أما السبب الثالث للانشقاق والخاص بمسألة القيادة فهو الأكثر شيوعا، ويفسر كثيرا من حالات الانشقاق التى يعقبها تكوين مجموعات جديدة تنسب أسماؤها فى الغالب إلى أصحابها ويزيد من هذ الظاهرة طبيعة العلاقة بين رئيس الجماعة أو الأمير وباقى اعضائها، فهذه لعلاقة تقوم على الطاعة المطلقة للأمير، مما يجعل من عمليات الانشقاق إحدى الوسائل الأساسية لحسم الخلافات التى قد تنشب بين الأعضاء وأمير الجماعة. حيث تقع أعمارهم فى الغالب فيما بين 18 – 35 عاما ، وههذ المرحلة العمرية مثلما تساعد على زيادة التم علىالمجتمع، فإنها تجعل من مسالأة الطاعة المطلقة للأمير أمرا صعبا على المدى الطويل.

ورغم أن ظاهرة الانشقاقات داخل الحركة الإسلامية قد تمثل أحد مؤشرات الضعف الداخلى للحركة، إلا أنها فى المقابل تجعل مسألة السيطرة على هذه الجماعات أمرا شديد التعقيد، كما تحد من فعالية مواجهتها بالاعتماد على السياسة الأمنية حيث يزداد طابع السرية والتشعب، بالاضافة على أن أغلب حالات الانشقاق ارتبط بتبنى أفكار أكثر تشددا.

وتعتبر حوادث العنف التى وقعت فى النصف الأول من التسعينيات واضطلعت بها جماعات صغيرة حديثة التكوين دليلا مؤكدا على ذلك، وربما يعبر هذا الاتجاه- فى جزء منه- عن بعض تداعايات سياسية المواجهة الأمنية التى أدت فى الغالب إلى توليد المزيد من الجماعات الأكثر عنفا.

الموقف من الديمقراطية

على عكس موقف الإخوان المسلمين من المسألة الديمقراطية ، وقبولهم من الناحية العملية التعامل منخلال قنواتها ، فإن الجماعات الإسلامية ترفض الديمقراطية فكريا وسياسيا بل تعتبر أن الديمقراطية تحمل فى طياتها مخالفات جوهرية للمنهج الإسلامى بما يجعلها فى تناقض صارخ معه، وتستند فى هذا الموقف إلى عدة أسس منها كما ورد فى أدبياتها:

• أن الديمقراطية تجعل الشعب هو صاحب السيادة، والسيادة لا تكون لأحد من دون الله.

• أنها تجعل الشعب مصدرا للسلطات فتخالف بذلك الإسلام لأنها تمنح الشعب حقا مطلقا دون التزام بالشروط التى وضعتها الشريعة.

• أن الحريات التىتقرها الديمقراطية وتمنحها لللمواطنين دون قيد أو شروط تنافى مفهوم الحرية فى الإسلام، التى تتحدد بعدم مخالفة الدين وتجاوز الحدود سواء فى الأقوال أو الأفعال. وبالتالى فلا يحل- فى الإسلام- إطلاق حرية الدعوة لأية فكرة تخالف شرع الله ودينه.

• أن الديمقراطية ترسى قاعدة تعدد الأحزاب . وتلك القاعدة تختلف أيضا مع الإسلام اختلافا جذريا، حيث أن تعدد الأحزاب لا ينشأ إلا عن تعدد الأيديولوجيات في المجتمع، بينما الحكم في الدولة المسلمة لا تتنازعه أيديولوجيات مختلفة فليس هناك في المجتمع المسلم إلا حزبان ، حزب الله وحزب الشيطان وقيامه ممنوع.

• تجعل الديمقراطية المواطنة أساس المساواة بين المواطنين وليس الدين وهو ما يخالف تعاليم الإسلام حيث تساوى بين المسلم والكافر.

ومن هنا يمكن تفهم الموقف المبدئي للجماعات الإسلامية الرافضة للعمل السياسي من خلال القنوات السياسية الشرعية، وللتجربة الحزبية. ومن ثم انتقادهم للسلوك السياسي البراجماتى للإخوان المسلمين وإستراتيجيتهم في التغيير التدريجي من خلال المؤسسات السياسية والاجتماعية القائمة، والتي تتسم بالنفس الطويل.

وتجدر الإشارة إلى أن موقف هذه الجماعات من قضية الديمقراطية يرتبط بموقفها من الغرب بشكل عام، حيث تعتبرها أحد منتجات الفكر الغربي والحضارة الغربية، والتي تعتبر نفسها في حالة صراع حتمي وتاريخي معها، وتشير وثائق هذه الجماعات إلى أن الصراع الإسلامى الغربي له أولوية خاص في إطار الصراع بين الإسلام والجاهلية.. وأن التمكين الكامل للإسلام لا يتم إلا على أنقاض الجاهلية الغربية" كما تصف الحضارة الغربية بالجاهلية والكفر والمادية والأيديولوجية الآثمة.

وأن المبادئ التي تحملها هي شعارات مزيفة تروج لها تحت اسم حقوق الإنسان، والسلام العالمي والحرية والإخاء والمساواة وهى تهدف بها إلى خداع الشعوب وترسيخ الجاهلية.

وترى هذه الجماعات أن الاهتمام الغربي بمنطقة الشرق الأوسط الإسلامية هو نوع من الغزو يسعى إلى إعادة تشكيل القيم الحاكمة لشعوب هذه المنطقة من خلال الهيمنة الأمريكية عليها، والتي تستهدف صميم وجود المسلمين وتؤكد هذه الوثائق أن هناك دورا كبيرا للقوى الغربية وراء سعى النظام السياسي المصري إلى تصفية الاتجاه الإسلامى في مصر.

ولكن هذه الجماعات تفرق بين موقفها الرافض لقيم الحضارة الغربية وبين موقفها من النتاج المادي لهه الحضارة ، والتي لا ترى مانعا من استخدامه والاستفادة منه، وهى تستند في موقفها هذا إلى كتابات سيد قطب، فتشير وثائقها إلى أن المسلمين هم صانعو جزء من هذه الحضارة ، وبالتالي فلا يمكن الحكم بالإعدام على الحضارة المادية المعاصرة وإنما ترى ضرورة إخضاع هذه الحضارة المادية للمنهج الالهى الذي يحمى هذه المادة بالأخلاق الإلهية التي جاء بها الإسلام.

وثمة ملاحظات حول موقف الجماعات الإسلامية من الحضارة الغربية يمكن تلخيصها في الآتي:

• أنها تعتبر الدين هو الأساس للصراع الحضاري مع الغرب، لأن هذا الصراع يتخذ طابع المواجهة بين الإسلام والمسيحية ومن هنا تركز على الخلفية التاريخية للحرب الصليبية كما تعزو انهزام العالم الإسلامى في مواجهة تقدم العالم الغربي إلى انهيار الخلافة الإسلامية منذ إلغائها في تركيا عام 1924.

• أن هذه الجماعات – كما تشير وثائقها- تحمل خصومة شديدة للقيم التي تقوم عليها الحضارة الغربية، وتفصل بشكل حاد بين النتاج الفكري والثقافي لهذه الحضارة الذي يعبر من وجهة نظرها عن نظام أخلاقي ينافى القيم الإسلامية وبين نتاجها المادي المرتبط بالتقدم التكنولوجي وهو موقف يقوم على نظرة أحادية تتجاهل العلاقة الوثيقة بين التقدم العلمي والمادي، والأساس الفكري الذي يقوم عليه.

• أنها ترى دعم الغرب للأنظمة العلمانية والديمقراطية في الدول التي تدين شعوبها بالإسلام هو جزء من مخطط غربي للهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على هذه الدول لتكريس تبعيتها للعالم الغربي الذي تحمله المسئولية المباشرة عن تخلف هذه الشعوب.ومن هنا فهي ترى أن صراع القوى الإسلامية مع الأنظمة السياسية الداخلية ليس سوى حلقة من حلقات الصراع الأكبر مع الغرب بكل نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

وفى هذا الإطار ، يتحدد أسلوب عمل هذه الجماعات على المستوى الحركي والسياسي حيث ترفض الاعتراف بشرعية المؤسسات السياسية القائمة، ومن ثم يصبح العنف هو وسيلتها الرئيسية في التغيير وفى الانقلاب على النظام القائم.

أشكال العنف

اتخذت ظاهرة العنف الذي تقوم به الجماعات الإسلامية اتجاها متصاعدا منذ النصف الثاني من الثمانينيات بعد فترة الهدوء النسبي التي شهدها مطلع هذا العقد ، وقد ارتبطت حالة الهدوء بشدة الإجراءات الأمنية التي تلت حادث اغتيال الرئيس السابق أنور السادات من ناحية، والانفراج السياسي النسبي الذي تميزت به السنوات الأولى لعهد الرئيس مبارك والذي ساهم – إلى حين- في امتصاص حالة الغضب السياسي العام الذي تفجر في نهاية عهد السادات ، من ناحية أخرى.

إلا أن عودة الظاهرة وبروزها على السطح مرة أخرى كشف عن استمرار أسبابها السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكامنة في المجتمع والتي شكلت أرضا ملائمة لتزايدها، التي لم تكن السياسية الأمنية أو المصالحات السياسية الجزئية مع بعض فصائل المعارضة السياسية والإسلامية ممثلة في الإخوان المسلمين ،قادرة وحدها على معالجة أو التقليص من وحدتها وخطورتها على عملية التطور الديمقراطي والاستقرار السياسي في البلاد.

وتتخذ ظاهرة العنف السياسي بوجه عام أشكالا عدة تتراوح بين المظاهرات، وأحداث الشغب، والتمرد، والإضراب انتهاء بالاغتيالات أو محاولات الاغتيال والانقلابات أو محاولات الانقلابات وتحمل هذه الأشكال درجات ومستويات مختلفة من العنف السياسي . فالمظاهرة هي تجمع من الموطنين قد ينتمون إلى فئة اجتماعية معينة أو عدة فئات ، وغالبا ما تكون منظمة ويفترض فيها عدم العنف، والهدف منها إعلان الاحتجاج ضد النظام برمته أو ضد السياسية أو قرار سياسي بعينه وإن كانت المظاهرات في بلدان العالم الثالث، لا تخلو في كثير من الأحيان ، من أعمال العنف.

وطبقا لمعيار الانتشار الجغرافي ،يمكن التمييز بين المظاهرات العامة أي التي تنتشر في نطاق جغرافي محدود وتشارك فيها عادة فئة اجتماعية واحدة. ونفس الشيء ينطبق على أحداث الشغب وهى تجمعات من المواطنين منظمة أو غير منظمة، وتهدف إلى إعلان الاحتجاج ضد النظام أو بعض سياسياته من خلال استخدام القوة المادية (قتل ، تدمير، تخريب..الخ)

وهى قد تكون عامة أو محدودة، وكذلك التمرد وهو شكل من أشكال المواجهة المسلحة للنظام القائم من قبل بعض العناصر المدنية أو العسكرية، أو الاثنين معا وذلك لممارسة الضغط والتأثير على النظام للاستجابة لمصالح معينة لهذه القوى ،

وقد يكون التمرد جماهيريا أي يشارك فيه عدد كبير من المواطنين أو عسكريا، تقوم به عناصر من القوات المسلحة أو قوات الأمن أو الاثنين معا. وعادة ما تتداخل وتتشابك أحداث الشغب مع التمرد، بحيث يمكن إدراجها في فئة واحدة.

أما الإضراب، ويعنى امتناع بعض عمال قطاع الصناعة والخدمات عن العمل لفترة قد تطول أو تقصر، لممارسة الضغط والتأثير على سياسات الحكومة تحقيقا لبعض مصالحهم ومطالبهم الفئوية، فيدخل ضمن الأشكال الفئوية للعنف حيث يرتبط عادة بمصالح فئة اجتماعية محددة.

وتحمل الاغتيالات أومحاولات الاغتيال أشكالا للعنف السياسي لها دلالة خاصة حيث يتجاوز الفعل في العادة حجمه النسبي ويكتسب بعدا رمزيا ، والاغتيالات أو محاولات الاغتيال هي عمليات القتل محاولات القتل التي تستهدف شخصيات تشغل مناصب سياسية أو شخصيات عامة، وذلك بقصد تحقيق أهداف سياسية.

وأخيرا يأتي الانقلاب كشكل للعنف السياسي الحاد، ويعنى عملية الإطاحة الفجائية والسريعة والعنيفة بالنخبة الحاكمة واستبدالها بنخبة أخرى، وذلك اعتمادا على بعض عناصر القوة كالجيش والبوليس ودون مشاركة شعبية حقيقية ودون حدوث تغيرات أساسية في طبيعة النظام السياسي وأنماط وتوزيع القوة فيه. ووفقا لهذه الأشكال للعنف السياسي يمكن تصنيف عمليات العنف التي تقوم بها الجماعات الإسلامية في المجال السياسي على النحو التالي.

(1) المظاهرات وهى أحد الأشكال التي لجأت إليها هذه الجماعات طوال الثمانينات واستمرت مع بداية التسعينيات .

ويمكن إدراجها ضمن المظاهرات المحدودة وليست العامة، حيث اعتمدت في الغالب على فئة اجتماعية واحدة هي بالأساس الطلبة، كما أن مجال انتشارها الجغرافي ظل في النهاية محدودا أي تركزت في كثير من الأحيان في بعض لكليات في الجامعات المختلفة ، أي يصل هذا المستوى إلى حد المظاهرات العامة التي تضم مختلف الفئات الاجتماعية ، أو التي تقع على مساحة جغرافية واسعة بشكل منظم ، بحيث تتحول إلى مظاهرات واسعة.

ويدل هذا المؤشر على محدودية قدرة هذه الجماعات في مجال العمل الجماهيري العام أو عجزها عن تبنى قضايا عامة يهتم بها القطاع العريض من الجماهير. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المطالب التي تبنتها هذه الجماعات في المظاهرات التي قامت بها، والتي تركزت في الغالب حول مسائل أو قضايا تتعلق مباشرة بضمان حرية هذه الجماعات في العمل السياسي،

ومن ذلك الاحتجاج على بعض قرارات الاعتقال الخاصة بأعضائها أو مسألة إغلاق المساجد واقتحامها من جانب قوات الأمن ، حيث شكلت هذه المسألة أحد الأسباب الرئيسية التي وقفت وراء أغلب هذه المظاهرات نظرا لما تمثله المساجد من مراكز أساسية لمزاولة هذه الجماعات لأنشطتها المختلفة.

ونفس الشيء ينطبق على أحداث الشغب، إذ رغم تكراريتها إلا أنها لم تصل على حد الشغب العام. حيث اقتصرت في الغالب على الاشتباك مع رجال الأمن ، وتعد كل من المظاهرات وأحداث الشغب أحد الأشكال الأساسية التي استخدمتها الجماعات الإسلامية لممارسة ضغط متزايد على النظام.

(2) تعد الاغتيالات السياسية أحد الأساليب التي لجأت إليها الجماعات الإسلامية منذ بداية عقد الثمانينيات في مواجهة النظام، لما لها من دلالة رمزية كبيرة تتجاوز حجمها العددي، وبدأت هذه الحوادث باغتيال رئيس الجمهورية السابق أنور السادات على يد تنظيم الجهاد في 1981، وكان لهذه الواقعة أثر سياسي خطير حيث نجح في النيل مباشرة من قمة النظام السياسي ممثلا في شخص الرئيس.

وبعد سنوات من الهدوء النسبي عادت هذه الأداة لتحتل أولوية في أعمال العنف التي تقوم بها هذه الجماعات ، وظهر ذلك من النصف الثاني من الثمانينيات حيث شهد عاد 1987 ثلاث محاولات للاغتيال استهدفت بعض الشخصيات السياسية ( وزيري الداخلية السابقين حسن أبو باشا والنبوي إسماعيل) والشخصيات العامة ( مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور) وتمت هذه المحاولات على يد جماعة تدعى جماعة التوقف والتبيين وهى إحدى الجماعات التي انشقت عن جماعة المسلمون أو التكفير والهجرة وهى الجماعة التي قامت بقتل الشيخ حسن الذهبي عام 1977.

وفى عام 1989 وقعت محاولة اغتيال أخرى ضد وزير الداخلية السابق زكى بدر وقامت بها الجماعة الإسلامية وقد عكس الأسلوب والأدوات التي تمت بها هذه المحاولة درجة أعلى من التدريب الفني لهذه الجماعات ،

حيث تم الاعتماد على وسائل وأسلحة حديثة في تنفيذ هذه العملية بعكس الحوادث السابقة، وكانت هذه المحاولة بداية لسلسة من حوادث الاغتيال أو محاولات الاغتيال التي تمت بنفس الأسلوب تقريبا. وشهدت الأعوام الأولى من التسعينيات تصعيدا ملحوظا في الاغتيالات ومحولات الاغتيال التي قامت بها الجماعات الإسلامية .

وقد استهدفت تلك المحاولات الشخصيات السياسة والعامة وكبار رجال الأمن ، على نحو يفوق ما شهده عقد الثمانينيات ، حيث اتخذت شكلا متتاليا وكثفا وبدأت تلك الحوادث باغتيال رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب في أكتوبر 1990 على يد الجماعة الإسلامية وتوالت خلال ذلك الأحداث فتم اغتيال الكاتب فرج فودة في 1992 على يد الجماعة السلامية،

وكان فودة قد اشترك في أول مناظرة علني بين أنصار الدولة الدينية والدولة المدنية، نظمتها الهيئة المصرية العامة للكتاب وأقيمت في معرض القاهرة الدولي للكتاب قبل شهور من اغتياله، وكان لهذه الواقعة- بالتحديد- دلالة خطيرة باعتبارها سابقة في ممارسة العنف المؤدى المباشر ضد أصحاب الرأي والفكر باستثناء محاولة الاغتيال الفاشلة ضد رئيس تحرير مجلة المصور التي تمت في 1987، وعكست هذه الواقعة أيضا اتجاه الجماعات الإسلامية لتوسيع مجالات المواجهة، بحيث لم تعد قاصرة على الرموز السياسية للنظام أو رجال الدولة.

وشهد العام التالي 1993 تكثيفا في محاولات الاغتيالات السياسية ضد أعضاء الحكومة، حيث وقعت ثلاث محاولات خلال ذلك العام استهدفت كلا من وزيري الإعلام السيد صفوت الشريف في أبريل 1993، والداخلية اللواء حسن الألفي في أغسطس 1993، ورئيس الوزراء السيد عاطف صدقي في ديسمبر من نفس العام.

كما شهدت الأعوام تصعيدا في محاولات الاغتيال الموجهة ضد مسئولين كبار في جهاز الأمن. وتكشف المقارنة بين عقدي الثمانينيات والتسعينيات أو منحنى الاغتيالات بدأ عاليا في مطلع الثمانينيات باغتيال رئيس الدولة ، ثم اتجه للهبوط فى النصف الأول للثمانينيات ،ولكن بدأ في الصعود مرة أخرى منذ النصف الثاني من نفس العقد وحتى نهايته ، ثم اتخذ شكلا تصاعديا منذ بداية عقد التسعينيات ، وهى ظاهرة تعد جديدة على الحياة السياسية المصرية أخذا في الاعتبار نسبة تكرارية هذه الحوادث .

(3) تعتبر حوادث الاعتداء والقتل الموجهة ضد رجال الأمن وجهاز الشرطة أحد الأشكال الرئيسية للعنف الذي تنتهجه الجماعات الإسلامية، وفى مقدمة أساليبها لمواجهة النظام وإدارة الصراع معه. فإرهاق الجهاز الأمني وإضعافه والدخول في مواجهة مستمرة معه جزءا لا يتجزأ من محاولتها لإضعاف النظام القائم برمته. وقد بدأ هذا الاتجاه منذ الثمانينيات ولكنه اتخذ طابعا أكثر كثافة وتصعيدا في التسعينيات.

ويرجع هذا التصعيد إلى سببين رئيسيين : الأول، يتعلق بطبيعة هذه الجماعات حيث أنها في التحليل النهائي حركة سياسية تسعى إلى السلطة وقلب نظام الحكم القائم بانتهاج كافة الأساليب العنيفة. والآخر ، يعود على سياسات المواجهة التي اتبعها النظام منذ نهاية الثمانينيات ، والتي تشكل السياسة الأمنية أحد أعمدتها الرئيسية ، وهو ما أدى في النهاية إلى اتساع دائرة العنف بين الجانبين مع بداية العقد الحالي.

(4) شهدت التسعينيات أيضا أشكالا جديدة للعنف الذي يستهدف إضعاف الدول، وكانت على رأسها حوادث الاعتداء والقتل المتكررة ضد السائحين، خلال عامي 1992-1993. وبعكس هذا النمط الجديد للعنف ، الزى لم يشهده عقد الثمانينيات ، تصميم الجماعات على توجيه ضربات مباشرة لأحد الأركان الرئيسية لقوة الدولة، أي الاقتصاد القومي الذي تمثل السياحة أحد أعمدته الرئيسية ، فضلا عن التهديد المباشر للاستقرار السياسي.

(5) إلى جانب الأشكال السابقة للعنف شهدت التسعينيات حوادث العنف والتفجير العشوائي ، ضد المواطنين والتي تكررت أكثر من مرة في الأحياء المزدحمة بالقاهرة ( ميدان التحرير في وسط القاهرة، وشبرا في شمال القاهرة).

(6) في مقابل أشكال العنف السياسي السابقة، تبرز أشكال أخرى للعنف تتميز بها الجماعات الإسلامية- على وجه التحديد، وهى إشكال يمكن إدراجها في مجال العنف الاجتماعي الموجهة ضد الأفراد ، ويعود هذا النوع من العنف إلى طبيعة التكوين الفكري لهذه الجماعات ،

حيث يتعارض نظام القيم الذي تعتنقه مع نظام القيم السائد، وهى ترى بموجب أفكارها ، ضرورة تغيير الأنماط السائدة للسلوك الاجتماعي للأفراد بالقوة تطبيقا لقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا شك أن الجماعات الإسلامية بانتهاجها العنف في هذا المجال ،إنما تجرد المجتمع القائم من شرعيته أسوة بتجريدها للنظام السياسي من شرعيته.

وبدأت حالات العنف الاجتماعي والاعتداء على حريات الأفراد تبرز منذ منتصف الثمانينيات مع تزايد عدد الجماعات الإسلامية انتشارها على نطاق أوسع مما عرفه عقد السبعينيات الذي شهد ظهور أولى هذه الجماعات في 1974،

وتراوحت هذه الحوادث بين اقتحام المنازل والاعتداء على أصحابها بدعوى استغلالها في أعمال منافية للآداب والاعتداء على أصحاب ومحلات بيع الخمور، وتحطيم نوادي الفيديو ، والاعتداء على الفرق الفنية، ومنع الأهالي في بعض الأحياء من إقامة أية حفلات اجتماعية، ومهاجمة النساء لإجبارهن على الالتزام بزى معين، والاعتداء على الأضرحة ومهاجمة الموالد، وهى الطقوس التي تدخل في إطار التدين الشعبي.. وغيرها من الحوادث التي تدخل مباشرة في إطار انتهاك الحريات الشخصية.

وفى نفس الاتجاه، تأتى حوادث العنف الطائفي ممثلة في الاعتداء على الأقباط سواء في الأرواح أو الممتلكات أو الكنائس، وقد اتخذت هذه الحوادث شكلا متصاعدا متكررا خاصة في صعيد مصر حيث يزداد وجود الأقباط.

ولا شك أن العنف الاجتماعي الذي تمارسه الجماعات الإسلامية ، خاصة مع تكرار حوادثه واتساع مجالاته، يؤدى بشكل تدريجي إلى إشاعة نوع من الفوضى في المجتمع وتهديد النظام العام، فضلا عما له من دلالة سياسية لإضعاف الدولة، وإظهار عد قدرتها على حماية الأفراد.

وتجدر الإشارة إلى ملاحظتين أساسيتين فيما يتعلق بالعنف الاجتماعي: الأولى، هي استمرارية هذا الشكل من العنف، حيث استمرت الحوادث الخاصة بالمجال الاجتماعي بدون انقطاع منذ بدايتها، بعكس حوادث العنف السياسي، التي قد تعلو حينا وتهبط حينا آخر حيث تدخل في نطاق المواجهة المباشرة مع النظام.

والأخرى ، أن مؤشرات العنف الاجتماعي تنتشر وتتزايد في بعض المناطق دون غيرها، وهو ما يعطى لمؤشرات التوزيع الجغرافي دلالة خاصة، إذ يزداد هذا العنف في صعيد مصر بوجه خاص وفى بعض الأحياء الفقيرة في العاصمة، أو ما تعرف بالمناطق الحضرية العشوائية، وأهمية هذه المؤشرات ترتبط بالخصائص الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتشابهة لهذه المناطق والأحياء، والتي تجعل منها في النهاية بيئة مولدة أو مساعدة على ممارسة العنف الاجتماعي.

ثانيا: سياسة النظام في مواجهة ظاهرة العنف

اعتمدت سياسة النظام في مواجهة ظاهرة العنف على أساليب المواجهة المباشرة من خلال السياسة الأمنية ، واستخدام الأداة التشريعية والقانونية التي أسفرت عن إصدار عدد من القوانين لمواجهة الظاهرة.

وفى المقابل لجأت هذه السياسة إلى الأساليب غير المباشرة كنوع من الاحتواء لنفس الظاهرة. واعتمدت هذه الأساليب بشكل اساسى على دور المؤسسة الدينية ورجال الدين لمواجهة السلوك العنيف الذي انتهجته الجماعات الإسلامية في مواجهتها لكل من النظام والمجتمع.

(1) أساليب سياسة النظام في مواجهة تصاعد العنف الذي تقوم به الجماعات الإسلامية بين المواجهة المباشرة ومحاولات الحوار، وقد اتخذت المحاولات الأخيرة طابعا محدودا، حيث قامت بها في الأساس الجهات الأمنية التي بادرت بفتح حوار مع بعض قيادات هذه الجماعات خاصة في المناطق الأكثر توترا والتي تشهد أعمال عنف متزايدة،

وتركزت في الغالب في صعيد مصر، وغلب على هذا الحوار معالجة بعض القضايا الجزئية، فاتجه إلى تهدئة الأوضاع الأمنية في تلك المناطق،مقابل تحقيق بعض المطالب الأمنية للجماعات، والتي تضمنت السماح لها بحرية نسبية لمزاولة نشاطها في المساجد، أو الإفراج عن بعض معتقليها، غير أن هذا الاتجاه لم يتخذ طابعا مستمرا ، وإنما تم بشكل مرحلي يتوافق مع طبيعة التحدي الذي فرضته جماعات العنف صعودا وهبوطا.

واتخذ الحوار شكلا آخر تمثل في حملات التوعية الدينية التي قادها كل من مفتى الجمهورية ، ووزير الأوقاف حيث قاما مع وفود من رجال الدين بزيارات متكررة لبعض المحافظات التي شهدت ممارسات مكثفة للعنف من قبل الجماعات الإسلامية، وعقدت لقاءات قياداتها وأعضائها بهدف احتوائهم. وفى الحالتين ظلت نتائج الحوار محدودة ، ولم تسفر عن انحسار ظاهرة العنف، بل أنها على العكس تتزايد منذ بداية التسعينيات.

وفى المقابل ظلت المواجهة هي المظهر الرئيسي لسياسة النظام إزاء جماعات العنف.

واتخذت هذه المواجهة أشكالا مختلفة من العنف الرسمي، وتتمثل أهم أشكال العنف السياسي الرسمي بشكل عام في : إعلان حالة الطوارىء وهى نظام قانوني لا يتم اللجوء إليه إلا بصفة استثنائي ومؤقتة لمواجهة ظروف فاستثنائية لا يمكن مواجهتها بقواعد القانون العادية،

وقد لا تعد حالة الطوارىء عنفا بالمعنى المباشر ولكنها تشكل إطارا لممارسة العنف من قبل الدولة، كما قد يدخل ضمن هذه الأشكال تشكيل المحاكم الاستثنائية ، وأحكام الإعدام المرتبطة بقضايا سياسية، وهناك أيضا الاعتقال السياسي، وهو سلوك يتضمن القبض على بعض المواطنين والتحفظ عليهم تنفيذا لأوامر إدارية دون صدور أحكام قضائية سابقة ضدهم. وأخيرا هناك التهديد باستخدام وحدات من الجيش للقضاء على أعمال العنف السياسي الداخلي.

وهذه الأشكال تعكس درجات مختلفة من العنف الذي يمكن ممارسته من قبل النظام. وتكتشف مؤشرات العنف السياسي الرسمي في الثمانينيات وأوائل التسعينيات عن العلاقة الطردية بينها وبين مؤشرات العنف غير الرسمي.

ويمكن تتبع هذه العلاقة من خلال التشريعات والتدابير التي اتخذها النظام لمواجهة ظاهرة العنف منذ مطلع الثمانينيات.

فقد أعلنت حالة الطوارئ منذ عام 1981، أي في أعقاب اغتيال الرئيس أنور السادات . ووفقا للمادة الأولى من القانون 162 لسنة 1958 بشأن حالة الطوارئ فإنه تعلن هذه الحالة كلما تعرض الأمن أو النظام العام في أراضى الجمهورية أو في منطقة منها للخطر سواء كان ذلك بسبب وقوع حرب أو قيام حالة تهدد بوقوعها أو حدوث اضطرابات في الداخل أو كوارث عامة أو انتشار أوبئة.

ويعد إعلان حالة الطوارئ أحد الصلاحيات الواسعة التي منحها الدستور لرئيس الجمهورية ، فبمقتضى المادة 148 من الدستور: فإن رئيس الجمهورية هو الذي يعلن حالة الطوارئ ثم يعرضها على مجلس الشعب خلال الخمسة عشر يوما التالية لذلك الإعلان ،كما أنه وفقا للقانون تنتهي حالة الطوارئ بقرار من رئيس الجمهورية ، فهي تظل سارية حتى ولو زالت الأسباب خلال الفترة المعينة ما لم تلغ بقرار من الرئيس، كما أنه لا يلزم لإلغائها العودة لمجلس الشعب.

ورغم الأخذ بهذا القانون في 1981 إلا أنه لم يكن في واقع الأمر جديدا فقد استمر العمل بحالة الطوارئ على مدى ثلاثة عشر عاما متصلة منذ 1967 حتى مايو 1980.

ومع ذلك، فقد اضطرت الحكومة لاستصدار تشريعات جديدة مع زيادة أعمال العنف في أوائل التسعينيات وتمثل ذلك في القانون رقم 97 لسنة 1992 والذي عرف بقانون مكافحة الإرهاب واقتصر على تعديل بعض نصوص قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية، وإنشاء محاكم أمن الدولة وسرية الحسابات بالبنوك، والأسلحة والذخائر ،

وقد صدر هذا القانون على اعتبار أن قانون الطوارئ لا يوفر لأجهزة الأمن المرونة المطلوبة، لأنه يمنح المعتقل حق التنظيم أمام محاكم أمن الدولة العليا خلال ثلاثين يوما وهى فترة غير كافية لجمع الأدلة والقرائن حتى يتحول المعتقل إلى متهم.

ولم يؤد إصدار قانون الإرهاب بدوره إلى مواجهة فعالة للظاهرة، فشهدت السنوات الأولى من التسعينيات إجراء آخر ، وهو تحويل بعض القضايا الخاصة بالعنف إلى المحاكم العسكرية ، حيث صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 375 لسنة 1992 بإحالة المتهمين في اثنين من قضايا الجماعات الإسلامية إلى محكمة عسكرية.

وارتبط اللجوء إلى المحاكم العسكرية مرة أخرى بزيادة حدة العنف، حيث تمت هذه الإحالة بعد قيام الجماعات الإسلامية بتوسيع مجال الصرع مع النظام، عندما قام لأول مرة في التسعينيات بحوادث الاعتداء على السياحة، فضلا عن تكرارية محاولات الاغتيال السياسي. لقد كان اللجوء للمحاكم العسكرية محاولة جديدة من النظام لزيادة فعاليته في مواجهة ظاهرة العنف.

فالقضاء العسكري يتسم على عكس المدني، بسرعة الحسم والبت في القضايا المعروضة عليه، حيث كان بطء إجراءات التقاضي وإصدار الأحكام في قضايا العنف أحد المبررات التي استند إليها النظام لتجاوز المحاكم المدنية التي نظر في هذه النوعية من القضايا في الثمانينات بما فيها محاكم أمن الدولة التي سبق أن شكلت بصورة استثنائية لمواجهة نفس الظاهرة.

وبلغت جملة القضايا التي أحيلت إلى المحاكم العسكرية خلال عام واحد خمس عشرة قضية تبعا لقرارات الاتهام. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يتم اللجوء إلى القضاء العسكري منذ عام 1982 وحتى 1992 حيث أحيلت 1981 القضية الخاصة بتنظيم الجهاد والذي قام بعملية اغتيال الرئيس السادات إلى محكمة عسكرية وشملت هذه القضية ثلاثة قرارات اتهام ، كذلك شهد عام 1982 حالة مماثلة تتعلق بما عرف بتنظيم الانتماء وهى المجموعة التي حاولت اقتحام السجن الحربي لتهريب المتهمين في القضية الأولى.

وأخيرا شهدت السنوات الأولى من التسعينيات أيضا زياد في عدد الاعتقالات السياسية، ولم يكن هذا مؤشرا جديدا حيث ارتبط باستمرار فرض حالة الطوراىء منذ بداية الثمانيات ولكن اتساع مجال تطبيقه في السنوات الأولى من التسعينيات يعكس جانبا من عدم فعالية الأجهزة الأمنية في مواجهة العنف في خلال قنواتها وآلياتها العادية.

ويبقى أن أغلب المؤشرات السابقة اتخذت معدلا متزايدا فقط خلال فترة 1991 -1994 سواء المتعلق منها باستخدام الأداة القانونية التشريعية ، أو تلك الخاصة بتشكيل المحاكم الاستثنائية، أو ما يتعلق بتشديد بعض الجوانب الإجرائية الأمنية. وهى السنوات التي شهدت بدورها تصاعدا ليس فقط في أعداد حوادث العنف الموجهة ضد كل من الدولة والمجتمع، وإنما في حدتها ودرجتها.

(2) المواجهة غير المباشرة : دور المؤسسة الدينية ورجال الدين.

استمر النظام في الثمانينيات في الاعتماد على المؤسسة الدينية إحدى الركائز الأساسية في سياسته لاحتواء ظاهرة العنف التي تضطلع بها الجماعات الإسلامية .

واتسم موقف هذه المؤسسة وبعض رجال الدين بنفس الطابع التقليدي الذي شهدته سنوات السبعينات والذي يفرق بيم الفهم الصحيح للدين الإسلامى، وممارسات هذه الجماعات، وبالتالي إدانة سلكوها العنيف على أساس انحرافها عن مفهوم الدين الصحيح ويبرز هذا الموقف خلال الأحداث التي وقعت في 1987 فصرح شيخ الأزهر بأن : هذه الأحداث ليست من طابع الدين الإسلامى.

كما أصدر الأزهر ( بعد عقده للقاء بين عدد من رجال الدين وعلى رأسهم الشيخ متولي الشعراوى ، والشيخ محمد الغزالي ، والشيخ الطيب النجار ، والشيخ يوسف القرضاوى) بيانا في 1989 حول ممارسات الجماعات الإسلامية أشار فيه على تنفيذ الحدود إنما هو من حق الحاكم، وتغيير المنكر باليد واجب على ولى الأمر،

وعلى كل إنسان في حدود ولايته، وإذا أدى تغيير المنكر إلى مفسدة أشد كان التوقف واجبا لأن إباحة تغيير المنكر بغير ضوابط تؤدى على الفوضى. وفى نفس الاتجاه أكدت اللجنة العليا للفتوى بالأزهر بأنه " لا يجوز لأحد من الناس أن يتهم إنسانا بالردة دون علم أو تحقيق، فالحدود لا توكل لأحد من ا لناس لتنفيذها، فهي من مسئولية الولي.. فمن حق المسلم على ولى أمره أن يحفظ له الكلمات الخمس وهى الدين، والنفس ، والعقل ، والمال ، والعرض كما يقرر فقهاء الشريعة.."

كما اتخذ مفتى الجمهورية موقفا صريحا من حوادث العنف التي تقوم بها نفس الجماعات، ومن ذلك الاعتداء على محلات الذهب، كما أصدر فتوى تشير على وجوب تطبيق حد " الحرابة" على سارقي محلات الذهب، والاعتداء على السائحين

كما صرح أكثر من مرة بأن :"حماية السائح واجب إسلامي حتى ولو كانت دولته في حرب معنا"،وأن مرتكبي الأعمال الإرهابية ليسوا مسلمين وبعيدون عن تعاليم الإسلام، وأن التستر عليهم يعد خيانة للدين والعرض وقارن المفتى بين الوضع في إيران ومصر من حيث الموقف من السياحة حيث عقدت الأولى مؤتمرا في برلين لتنشيط السياحة، حيث عقدت الأولى مؤتمرا في برلين لتنشيط السياحة، وتساءل : هل تكون السياحة حلالا في إيران وحراما في مصر.

وإذا كانت هذه بعض النماذج لدور المؤسسة الدينية الرسمية المساندة للنظام في مواجهة تحدى ظاهرة العنف الديني الذي تقوم به الجماعات الإسلامية، والذي تتراوح بين التصريحات وبيانات الإدانة والاستنكار إلى إصدار الفتاوى، إلا أن هذا الدور لم يعكس بالضرورة موقفا واحدا متجانسا للمؤسسة الدينية ولرجال الدين تجاه نفس الظاهرة، أو اتجاه بعض القضايا الفقهية الخلافية، التي لها تأثير مباشر على الحياة السياسة.

ولعل من أبرز مظاهر التناقض التي سادت هذه المؤسسة موقف مختلف أطرافها من الفتوى الهامة التي أصدرها مفتى الجمهورية بشأن فوائد البنوك التي أقر فيها بأن:" تحديد الأرباح مقدما بالبنوك حلال.. وأقرب إلى روح الإسلام، وأن شهادات الاستثمار الحالية ترتكز على الأسس السلامية" ولقيت هذه الفتوى معارضة شديدة من عدد كبير من رجال الدين وعلى رأسهم شيخ الأزهر، والشيخ متولي الشعراوى وعدد من أساتذة الأزهر، إلى حد مطالبتهم رئيس الجمهورية بعزل المفتى. ولم يهدأ الموقف إلا بعد تدخل الشيخ محمد الغزالي مؤيدا للفتوى، كذلك التعرض للمساجد الأهلية.

وتكشف هذه المواقف عن التناقض السائد بين أقطاب المؤسسة السائد بين أقطاب المؤسسة الدينية، واتخاذ الأزهر موقفا متميزا في مواجهة كل من مؤسسة الإفتاء ووزارة الأوقاف، الأمر الذي انعكس في النهاية على علاقته بالنظام،

إذ خلق هذا الموقف الذي ينحو إلى الاستقلالية، نوعا من التوتر بين الجانبين وكانت أحد مظاهر اتهام رئيس الهيئة البرلمانية للحزب الوطني للأزهر بالتقصير في مواجهة ظاهرة العنف بعد موقفه من الفتوى الخاصة بعمل البنوك، ورفضه قرار وزير الأوقاف بتوحيد خطبة الجمعة. وهو ما دعا شيخ الأزهر بدوره إلى إرسال رسالة احتجاج إلى رئيس مجلس الشعب.

ولم تقتصر مظاهر التناقض في الدور على أطراف المؤسسة الدينية الرسمية وإنما شملن مواقف رجال الدين. وقدمت قضية مظاهر اغتيال الكاتب المصر فرج فودة في بداية التسعينات نموذجا دالا على ازدواجية هذا الموقف، وبرز ذلك من خلال مؤشرين أساسيين: الأول، هو استناد أحد المتهمين في هذه القضية في تبرير عملية الاغتيال على انه إعمال لفتوى صدرت عن ندوة لرجال الأزهر.

والآخر، هو شهادة الشيخ محمد الغزالي في نفس القضية أمام محكمة أمن الدولة العليا في 22 يونيو 1993 والتي أعلن فيها أن ( من يجهر بالمطالبة بعدم تطبيق شرع الله يكون كافرا مرتدا عن الإسلام وينبغي أن يتل.. وكل من يقتله يكون مفتئا على السلطة) وعندما سئل عن عقوبة الافتئات على السلطة أجاب " بأنه لايذكر لها عقوبة في الإسلام".

وأخطر ما تضمنته هذه الشهادة أنها أضفت شرعية دينية على المسلك العنيف للجماعات الإسلامية( حيث لا عقوبة على من يفتئت على السلطة) فضلا عن إباحتها لمسألة تكفير الأفراد ، ( من يجهر بالمطالبة بعدم تطبيق شرع الله يكون كافرا مرتدا).

تقدم هذه النماذج أمثلة على طبيعة الدور الذي لعبته كل من المؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين، والذي انطوى على سمات ثلاث: الأولى ، هي اتصافه بالازدواجية في موقفه سواء من النظام أو من المعارضة السياسية الدينية بفصائلها المختلفة.

والثانية، هي النزوع إلى الاستقلالية، إذ على الرغم من ارتباط هذه المؤسسة وبعض رجال الدين مباشرة بالدولة إلا أن طبيعة هذا الارتباط تضيق إلى حد كبير من مساحة استقلاليتها، وبالعكس فقد تزيد مساحة هذه الاستقلالية عندما تضعف سيطرة الدولة عليها. أما الثالثة، فهي التبرير الفقهي لسلوك المعارضة الإسلامية، وقد دللت بعض مواقف المؤسسة الدينية ورجال الدين على اتفاق آرائهم في كثير من الأحيان مع أفكار أكثر جماعات المعارضة الإسلامية تشددا، حتى وإن اختلفت معها على مستوى السلوك والممارسة.

تصاعد الدور الرقابي للمؤسسة الدينية:

في مقابل تراجع الدور التبريري للمؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين ف الثمانينيات وبداية التسعينيات تصاعد الدور الرقابي لهما في نفس الفترة.

فقد مارست هذه المؤسسة وبالتحديد الأزهر نوعا من الرقابة لم تقتصر على الحياة السياسية، وإنما امتدت لتشمل الحياة الفكرية بكافة جوانبها، فلقد قصر قانون الأزهر رقم 13 لسنة 1961 مهمة مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر على تتبع ما ينشر من أعمال حول الإسلام والتراث الإسلامى، دون أن يكون له حق مصادرتها، أي أن مهمته وفقا للقانون هي مهمة إشرافية.

وحدد القانون رقم 102 لسنة 1985 في المادة الثانية الكتب التي تعرض على الأزهر وهى: المصحف الشريف، والأحاديث النبوية. غير أن العرف جرى على توسع الأزهر في مجال مهمته الإشرافية من حيث تغطيتها لمجالات عديدة من الإنتاج الفكري سواء السياسي أو الأدبي، أو الفني، فضلا عن تدخله المباشر في منع بعض الأعمال أوعدم إعادة طبعها، أو المطالبة بمصادرتها من الجهات المختلفة.

وفى أغلب الأحوال استجاب النظام لطلب هذه المصادرات،وقد يرجع ذلك إلى سببين: الأول، هو المكانة الرمزية الهامة التي يتمتع بها ألزهر، والتي تتيح له ممارسة نوع السلطة الدينية في المجتمع. والآخر، يتعلق بالجانب السياسي أي علاقة النظام بهذه المؤسسة والذي يؤدى بدوره على تقوية وتوسيع مجالاته لاعتبارات سياسية.

ويكشف عقد الثمانينيات عن نجاح المؤسسة الدينية الرسمية في فرض دور رقابي- خاصة في مجال حرية الفكر والتعبير- وهو ما جعلها قادرة على ممارسة ضغوط متزايدة على توجهات الدولة والمجتمع، وغذى من استقلاليتها في مواجهة النظام، في الوقت الذي اتسم دورها بالازدواجية والانقسام في مجال تبرير السياسات أواحتواء المعارضة الدينية السياسية،

مما خلق نوعا من التوتر الكامن بينها وبين النظام، ويبدو أن ذلك الوقف كان وراء إصدار القرار الجمهوري رقم 381 لسنة 1993، بتحديد الوزير المختص بشؤون الأزهر ويقضى بأن يكون رئيس مجلس الوزراء هو الوزير المختص بشؤون الأزهر.

ثالثا: النظام والمعارضة الإسلامية: تقييم تجربة الثمانينيات

لم تكن إستراتيجية النظام في عهد الرئيس مبارك في مواجهة المعارضة الإسلامية انقطاعا كاملا مع إستراتيجية سلفه، وإن سعت لإحداث نوع من الانفراج السياسي في إطار التوجه الليبرالي، الذي تركز حول السماح بقدر أكبر من حرية التعبير، وتوسيع مجال الحركة أمام المعارضة السياسية بوجه عام ومن ضمنها المعارضة الإسلامية بعد القمع الذي تعرضت له في نهاية عهد السادات.

وإذا كان اغتيال الرئيس السادات في 1981 على يد إحدى فصائل المعارضة الإسلامية، مثل نقطة فاصلة في حياة النظام السياسي المصري أوصلته إلى حد الأزمة، فقد حاول الرئيس مبارك منذ توليه الحكم إدارة هذه الأزمة بحيث لا تصل إلى نقطة الانفجار أو انهيار النظام، ولكن دون الإقدام على أي تغيير سياسي أو قانوني أو دستوري جذري يدفع عملية التحول الديمقراطي إلى مستوى أعلى، وهو ما عكس استمرارية في التجربة السياسية مع اختلاف في بعض التفاصيل.

في هذا الإطار اعتمدت إستراتيجية الرئيس مبارك في مواجهة المعارضة الإسلامية على محاولة احتواء التيار السياسي المعتدل منها ممثلا في الإخوان المسلمين ، وإن لم يصل هذا الاحتواء إلى درجة الاستيعاب الكامل لهم، وتمثلت هذه الاستراتيجي بشكل أساسي، في رفض الاعتراف بهم كجماعة سياسية مستقلة ،

وإن سمح لهم النظام بحرية العمل وممارسة النشاط والمشاركة فى العملية السياسية بما فيها الانتخابات ن وتمثل ذلك عمليا في صياغة القانون الانتخابي في 1983 الذي أتاح لهم المشاركة في الحياة السياسية والتشريعية تحت مظلة الأحزاب السياسية الأخرى، من خلال نظام القائمة الحزبية النسبية.

وقد أسفرت سنوات الثمانينات عن التأثير المحدود لهذه الإستراتيجية حيث لم تؤد إلى احتواء المعارضة السياسية الإسلامية، بل على العكس فقد ساهمت بشكل غير مباشر في تصاعد قوة التيار الإسلامى، وأتاحت له فرصة للتغلغل داخل الأحزاب السياسة والنقابات المهنية والتمثيل داخل البرلمان فضلا عن انتشارهم في أوساط الحركة الطلابية ، واتساع مجال نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي من خلال الأنشطة الأهلية.

وتمثلت حدة هذه المعارضة في اشتداد ضغطها على النظام من أجل دفعه إلى تحقيق مطلبها الرئيسي وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، وشكل هذا المطلب بالحديد عنصر ضغط خطير على النظام بسبب المادة الثانية من الدستور المصري،

والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهو ما قوى من موقف المعارضة الإسلامية وأضعف موقف النظام، حيث عملت من خلال القنوات السياسية والتشريعية لإظهار في موقف المماطل أو الممانع في تنفيذ نص دستوري. ولا شك أن هذا النص- الذي ورثه عهد مبارك عن الحقبة السابقة- أوقع النظام في تناقض وحرج سياسي بالغ.

وعلى صعيد الحركة الإسلامية مثلت حقبة الثمانينيات مرحلة ن أهم وأكثر المراحل التي شهدت صعودا مكثفا للنشاط السياسي للقوى الإسلامية المعتدلة- الإخوان المسلمين- إذ رغم عد تمتعهم بالمشروعية القانونية في عملهم السياسي في عدم الحصول على حق التنظيم في هذه القبة، فقد مارس الإخوان في الثمانينيات تجربة التحالفات الحزبية،

وخاضوا الانتخابات البرلمانية في عام 1984و1987 ، وأعطوا اهتماما خاصا للعمل النقابي حتى هيمونا على عدد هام من النقابات المهنية، وأعطوا اهتماما خاصا للعمل النقابي حتى هيمنوا على عدد هام من النقابات المهنية، فضلا عن انتشارهم داخل الحركة الطلابية وتغلغلهم في الجمعيات الأهلية، وقيامهم بالعديد من مظاهر النشاط الاجتماعي والأهلي.

وعكست هذه المظاهر للنجاح السياسي للإخوان قدرة عالية على التنظيم كفلت لهم سعة الانتشار الجغرافي والوجود على كافة المستويات، بمعنى آخر استطاع الإخوان من خلال نشاطهم السياسي والاجتماعي والخدمي من ناحية ، وارتفاع مستواهم التنظيمي من ناحية أخرى ، خلق قنوات مباشرة مع القاعدة العريضة في المجتمع سواء على مستوى الحضر أو الريف، وهو ما تأكد من خلال أدائهم في الأحزاب والنقابات حيث امتد نشاطهم من المدن إلى المحافظات والقرى.

ورغم عوامل القوة الذاتية التي امتلكتها الحركة الإسلامية في الثمانينيات وعلى رأسها الإخوان، والتي وفرت لها جزءا هاما من النجاح ، إلا أن الوجه المقابل لهذا النجاح تمثل في تدهور أداء النظام عل مستويات عديدة خاصة مستوى الخدمات، ووصل هذا التدهور إلى ذروته في بعض المحافظات خاصة في صعيد مصر،

وامتد إلى ما يعرف بأحزمة الفقر في الأحياء العشوائية في العاصمة، كذلك فقد كان ضعف وعدم فعالية الأحزاب السياسية الموجودة عاملا إضافيا لإظهار نجاح الحركة الإسلامية، فقد ظل أداء هذه الأحزاب منخفضا ومحصورا في دوائر ضيقة لا تتجاوز العاصمة، وبعض المراكز الحضرية ، وغائبا في أغلب المناطق الريفية والأحياء العشوائية في العاصمة والتي شهدت في المقابل نشاطا مكثفا للحركة الإسلامية، وعكس ضعف الأحزاب وقلة فعاليتها قصورا شديدا في بنائها التنظيمي مما حرمها من التغلغل في المستويات القاعدية وتوسيع قاعدتها الجماهيرية.

وظهرت مؤشرات ضعف هذه الأحزاب من خلال تدهور مستوى تمثيلها خلال الانتخابات البرلمانية، فحزب التجمع- وهو من أوائل الأحزاب التي أنشئت مع التجربة الحزبية في السبعينات- لم ينجح في انتخابات مجلس الشعب لعام 1976، 1979، 1984،وتم تمثيله بمقعد واحد بالتعيين في 1978، وكذلك حزب الأحرار فقد حصل على 12 مقعدا في 1976، ثم تراجع إلى ثلاثة مقاعد في 1979،

ولم يفرز في انتخابات 1984 ثم اضطر لخوض الانتخابات البرلمانية من خلال التحالف الإسلامى في 1987، ليمثل بأربعة مقاعد ونفس الشيء بالنسبة لحزب العمل حيث حصل على 23 مقعدا في 1979، ولم يتمكن من الفوز في الانتخابات التالية في 1984،

واضطر هو الآخر لخوض انتخابات 1987 من خلال التحالف الإسلامى ليمثل بـ 22 مقعدا ، أما حزب الوفد ذو التاريخ القديم، فقد خاض أول انتخابات برلمانية له في 1984 بعد عودته إلى الحياة السياسية بالتحالف مع الإخوان المسلمين ليمثل بـ 53 مقعدا، ثم تراجع العدد إلى 36 مقعدا بعد خوضه انتخابات 1987 منفردا،

ويشير هذا التراجع المستمر للأحزاب السياسية إلى انخفاض مستواها التنظيمي ، وهو أمر لا يستثنى منه الحزب الوطني الحاكم الذي يعانى هو الآخر من ضعف وجوده على المستويات القاعدية- خاصة في الريف- وانخفاض نشاطه، وشكلت هذه الأسباب مجتمعة الوجه الآخر لصعود القوى الإسلامية في الثمانينيات .

وفى مقابل الصعود السياسي لقوى الإخوان والحركة الإسلامية بشكل عام في الثمانينيات لم تشهد نفس الحقبة انحسارا لظاهرة العنف أو تحجيما لعمل الجماعات الإسلامية حتى أصبحت في أوائل التسعينيات تمثل التحدي الرئيسي للاستقرارالسياسى والاجتماعي.

فقد اتسع نطاق العنف ليشمل المجالين السياسي والاجتماعي، وتكررت ظاهرة الاغتيالات السياسية وامتدت إلى رجال الفكر ، كما تم تكثيف الاعتداء على رجال الشرطة لإرهاق الجهاز الأمني للدولة، وشهدت التسعينيات مظهرا جديدا للعنف تمثل في حوادث الاعتداء المستمرة على السياحة مما شكل تهديدا خطيرا لأحد أعمدة تمثل في حوادث الاعتداء المستمرة على السياحة مما شكل تهديدا خطيرا لأحد أعمدة الاقتصاد القومي فضلا عن هز هيبة الدولة،

كذلك فقد استمرت ممارسة العنف من قبل هذه الجماعات في المجال الاجتماعي في محاولة لإجبار الأفراد على تغيير سلوكهم الاجتماعي بالقوة مما يعنى استمرارها في تجريد كل من النظام والمجتمع فمن شرعيتهما ،

ومن الناحية الجغرافية ظل مركز التركيز الرئيسي لعمل هذه الجماعات في صعيد مصر، إذ ما زالت هذه المنطقة تتسم بالتخلف الشديد فضلا عن أن طبيعتها الجغرافية تمنع السيطرة الأمنية الكاملة عليها، وتمثل بذلك محيطا اجتماعيا وثقافيا وجغرافيا يشكل منطقة محتملة للعنف، وفى المقابل يتركز وجود هذه الجماعات في المدن وفى المناطق الحضرية العشوائية، والتي تحمل خصائص مشابهة.

كما استمرت بعض أفرع الجمعيات الأهلية الإسلامية والمساجد الأهلية في الثمانينيات تشكل أحد العوامل الرئيسية التي تعتمد عليها هذه الجماعات في إحداث التعبئة والتجنيد لأنصارها، واستمرت منبرا هاما لنشر أفكارها على نطاق واسع دون نجاح النظام في السيطرة عليها.

إزاء تزايد ظاهرة العنف في الثمانينيات لجأ النظام إلى الاعتماد بشكل متزايد على السياسة الأمنية لمواجهتها ، وأسفرت هذه السياسة عن مزيد من الاشتباكات الدموية بين رجال الأمن والجماعات الإسلامية فضلا عن تصاعد حملة الاعتقالات واللجوء على المحاكم العسكرية،

وتكشف هذه السياسة عن أن النظام لم يلجأ طوال الثمانينيات إلى معالجة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة والتي تعد المناخ لمزيد منم انتشار أفكار ونشاط هذه الجماعات، واستعاض عن ذلك بالاعتماد سياسيا على إستراتيجية احتواء الإخوان المسلمين في محاولة لعزل وتهميش الجماعات التي تنهج العنف ،

ولم يؤد فشل هذه الإستراتيجية كما وضح في الثمانينيات إلى تغير جوهري في سياسات النظام ، بل لجأ إلى مزيد من الاعتماد على المؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين لمواجهة التحدي الذي فرضته المعارضة الإسلامية العنيفة على النظام.

ولم تؤد السياسة الأخيرة، التي اتسمت بطابع شديد التقليدية إلى انحسار ظاهرة العنف أو السيطرة عليها، وإنما أدت على العكس إلى اتساع مساحة الدور الرقابي الذي مارسته هذه المؤسسة على الحياة السياسية والفكرية ، وأدت بالتالي – وبشكل غير القوى والتحالفات السياسية ، وأدى في الحالة الأولى إلى خروج الإخوان من مجلس الشعب بعد مقاطعتهم للانتخابات البرلمانية التي جرت في أبريل 1990. مباشر- على مزيد من هيمنة المعايير الدينية وسيطرة رجال الدين على السياسة والمجتمع.

هكذا أكدت التجربة السياسية في الثمانينيات اتجاه النظام إلى إدارة الصراع السياسي مع المعارضةالإسلامية، وتمثل ذلك بشكل أساسي في سعى النظام إلى تحجيم نشاط القوى السياسية الإسلامية، وبالذات الإخوان المسلمين واستخدم في ذلك الأداة القانونية ، ومن ذلك القانون رقم 206 لسنة 1990 الخاص بالنظام الانتخابي البرلماني والقانون رقم 100 لسنة 1993 لتنظيم الانتخابات في النقابات المهنية،

وهو الأمر الذي ترتب عليه تغيير في توازنات وشكل هذا التحول الخير نوعا من المواجهة الضمنية بين الطرفين وإن لم تصل على حد الصدام،ويرجع ذلك ليس فقط على حرص كل منهما على تجنب المواجهة العنيفة وإنما على الإستراتيجية التي اتبعها النظام منذ الثمانينيات والتي أعطت له القدرة على تطبيق سياسة المنح والمنع حيث لم يعترف بهم منذ البداية كجماعة سياسية مستقلة تتمتع بالمشروعية القانونية،

فكان نزولهم إلى ساحة العمل السياسي العلني مرهونا إلى حد كبير بالقدر الذي سمح به النظام. وعلى صعيد آخر شهدت السنوات الأخيرة لجوء النظام إلى سياسة الضم التدريجي للمساجد الأهلية ومحاولة تحييد دور المؤسسة الدينية الرسمية وتمثل ذلك في القرار الجمهوري رقم 381 لسنة 1993 القائل بإخضاع الأزهر للإشراف المباشر لرئيس مجلس الوزراء . وقد جاءت هذه التحولات الأخيرة في التسعينيات كرد فعل على محدودية السياسات السابقة وإخفاقها في احتواء واستيعاب المعارضة الإسلامية بشقيها العنيف والمعتدل.

خاتمة

تحددت العلاقة بين النظام والمعارضة الإسلامية من خلال عوامل متشابكة تاريخية وسياسية واجتماعية , في هذا السياق يمكن تتبع خصائص النظام السياسي المصري بالرجوع إلى السمات العامة التي حكمت هذا النظام منذ قيام ثورة يوليو 1952 , والتي شكلت إطارا تحليليا للتحولات والتغييرات التي طرأت عليه في العهدين التاليين .

فقد أحدثت التجربة السياسية التي مرت بها مصر في 1952 انقطاعا هاما مع الحقبة الليبرالية الأولى التي عرفتها البلاد , والتي وضعت الأسس الأولى لقيام نظام ديمقراطي ليبرالي من خلال دستور 1923 , وهو نظام يتسم بالتأكيد على حقوق الفرد والمواطنة والحريات العامة , وإقامة المؤسسات السياسية الحديثة , والأخذ بنظام التعددية الحزبية .

وعلى العكس استند نظام ثورة يوليو 1952 إلى شرعية "ثورية " واتسم بتوجه أيديولوجي " شعبوي " كان تعبيره المؤسسي الأخذ بصيغة التنظيم السياسي الواحد , ورفض مبدأ التعددية والتمايز الحزبي والتنظيمي , وانسحب نفس الموقف على المجال الاقتصادي والاجتماعي وهو ما كرس في النهاية الطابع السلطوي للنظام ,

وقد ساعدت الخلفية الاجتماعية للنخبة الحاكمة , والتي انتمت ـ في معظمها ـ إلى إحدى شرائح الطبقة الوسطى , وبالتحديد البورجوازية الصغيرة على ترسيخ هذه الطبيعة للنظام .

فلم تعبر هذه الشريحة عن توجه فكرية وسياسية متعددة , وهو ما انعكس على سلوكها السياسي وتوجهاتها التي اتسمت بنفس السمة . ومن هنا فقد حملت العهود الثلاثة التي تعاقبت على النظام منذ ذلك الوقت اختلافات في التوجهات السياسية , رغم عدم التغيير الجوهري في طبيعة النظام والخصائص الأساسية الحاكمة له .

إن انتهاء عهد الرئيس عبد الناصر وتولى الرئيس السادات الحكم قد حمل مظاهر هامة للتحولات التي طرأت على التوجهات الرئيسية للنظام , ففي هذا الإطار تم الانتقال من التنظيم السياسي الواحد إلى التعددية الحزبية المقيدة , ومن الاقتصاد القائم على التخطيط المركزي إلى الانتفاخ الاقتصادي , وهو ما يعني التوجه نحو الشكل الديمقراطي الليبرالي للنظام , ولكن بقيت هذه العملية تتسم بالمحدودية في عهد السادات , حيث ظل النظام محتفظا بالخصائص السلطوية جنبا إلى جنب مع التحولات السياسية التي شهدها نفس العهد .

وخطى عهد الرئيس مبارك خطوات أوسع للاقتراب من هذه الصيغة , حيث اتجه نحو تحقيق مزيد من الليبرالية السياسية والاقتصادية , كما سعى لدفع عملية التحول الديمقراطي , ولكن على الرغم من هذه التحولات المتتالية فما زال النظام يعيش مرحلة انتقالية من الشكل السلطوي الذي ورثه عن نظام ثورة يوليو 1952 إلى الصيغة الديمقراطية الليبرالية التي يسعى إليها ,

ومن هنا فقد تراوحت سياسات النظام بشكل عام بين التعبير عن الطابع السلطوي حينا والاتجاه الليبرالي حينا آخر , كما شهدت نفس المرحلة بروز حركات الاحتجاج الاجتماعي في هذه المرحلة الانتقالية .

وتنعكس هذه الطبيعة للنظام بشكل مباشر على سلوكه السياسي وسياساته إزاء المعارضة السياسية , فاختيار النظام لإستراتيجية معنية تجاه المعارضة يتوقف في النهاية على خصائصه , حيث يكون اللجوء إلى إستراتيجية ما ملائما لنمط معين من النظم السياسية وغير ملائم لنمط آخر , وتتراوح هذه الاستراتيجيات بين إتاحة أكبر قدر من حرية التعبير والتمثيل للمعارضة من خلال أو 415 وجود مؤسسات مفتوحة ,

كما هو الحال في النظم الديمقراطية التعددية , التقييد الشديد عليها كما في النظم الشمولية , التي تتسم بقدر عال من الهيمنة السياسية على المعارضة , وتضع قيودا صارمة على حرية القوى السياسية في التعبير عن نفسها من خلال المؤسسات القائمة , وبالتالي تتبع هذه النظم استراتيجيات عن قمعية في مواجهة المعارضة .

وإلى جانب هذين النمطين يجد نمط مختلط يتراوح سلوكه إزاء المعارضة بين التقييد وبين السماح لها بحرية نسبية في التعبير عن نفسها , أي أنها تقع في المنطقة الوسط بين النمطين السابقين , ويصنف النظام السياسي المصري ضمن هذا النمط الأخير , حيث تتخذ درجة التقييد التي يفرضها على المعارضة طابعا نسبيا اختلف باختلاف العهود السياسية الثلاثة التي مرت بها مصر منذ قيام ثورة يوليو 1952 .

في هذا الإطار كان لجوء النظام إلى التقييد على المعارضة أعلى في العهد الناصري في طل صيغة التنظيم السياسي الواحد , واختلف الأمر نسبيا في السبعينيات بعد التحول إلى التعددية السياسية في الثمانينيات حيث تمتعت بدرجة أكبر من حرية التعبير وممارسة النشاط , وإن لم يصل ذلك إلى حد الرفع الكامل للقيود السياسية المفروضة عليها خاصة في مجال تشكيل الأحزاب السياسية , أو حرية الانتخابات العامة .

وفي إطار هذا النمط "المختلط " الذي يجمع بين التقييد وحرية العمل النسبي أمام المعارضة ومنع وصول الصراع السياسي إلى نقطة الانفجار , وتتراوح هذه الأساليب بين محاولات الاحتواء , والاستقطاب , والتحديد وغيرها .

وإذا كانت هذه السمات العامة التي يتحدد في إطارها سلوك النظام واستراتيجياته تجاه المعارضة السياسية ترجع إلى الخصائص والسمات التي يتمتع بها , فإن العوامل الأخرى في تحديد هذه الاستراتيجيات ترجع إلى طبيعة المعارضة السياسية نفسها واستراتيجياتها تجاه النظام .

في هذا الإطار يمكن تحليل الاتجاهات الكبرى التي حكمت سياسات واستراتيجيات النظام المصري تجاه المعارضة السياسية الإسلامية حيث حملت قدرا من الخصوصية ميزها عن غيرها من أنماط المعارضة السياسية نظرا لطبيعتها وللشرعية السياسية الدينية التي استندت عليها من ناحية , وللبعد التاريخي الذي حكم علاقتها بالنخبة الحاكمة منذ 1952 من ناحية أخرى .

مثلت هذه المعارضة تاريخيا جماعة الإخوان المسلمين أولىا لحركات السياسية الإسلامية التي ظهرت في أواخر العشرينيات ، واستمر وجودها السياسي على مدى يزيد عن ستة عقود متتالية رغم تعرضها للحل مرتين.

ولأن هذه المعارضة تاريخيا جماعة الإخوان المسلمين أولى الحركات السياسية الإسلامية التي ظهرت أواخر العشرينات ، واستمر وجودها السياسي على مدى يزيد عن ستة عقود متتالية رغم تعرضها للحل مرتين.

ولأن هذه الحركة سعت للقيام منذ وقت مبكر بدور سياسي واجتماعي يتجاوز الدور الديني، فقد دخلت بشكل مباشر إلى دائرة الصراع على السلطة وكان دخول الجماعة إلى هذه الدائرة نقطة تحول هامة في تاريخها بعد انقضاء فترة الدعوة والانتشار الأولى، وبداية مرحلة طويلة واجهت خلالها الكثير من الأزمات سواء على مستوى علاقتها بالسلطة أو على الصعيد الداخلي.

فقد اكتسبت علاقة الإخوان بالنخبة السياسية لثورة يوليو خصوصية هامة، نتجت عن وجود قواسم مشتركة أهمها الانتماء إلى أصول اجتماعية متقاربة، حيث عبرت كل من جماعة الإخوان المسلمين وحركة الضباط الأحرار عن طموحات بعض شرائح الطبقة الوسطى المصرية خاصة الصغيرة منها،

ولذا فقد أدى انتصار حركة الضباط الأحرار على النظام القديم ونخبته السياسة وتوليها الحكم إلى ازدياد التطلعات السياسية للجماعة وبالذات تطلعاتها في اقتسام السلطة،

ومن هنا كان صراعها مع نخبة نظام 1952 حادا لأنه كان صراعا بين أجنحة مختلفة لطبقة اجتماعية واحدة بعد أن وصل جناح منها إلى قمة السلطة، ولذلك لم تفلح محاولات الاحتواء والمهادنة التي اتبعها النظام في فترات مختلفة في الاستيعاب الفعلي للجماعة، كما لم يثنها أسلوب الترغيب والاستقطاب لبعض أعضائها عن مطلبها الأساسي وهو المشاركة في السلطة.

وظلت مراحل التعاون القصيرة التي مرت بها علاقة الجماعة بالسلطة تحكمها دواعي المصلحة المرحلية، بينما بقيت عوامل المنافسة الكامنة والصراع هي السمة الغالبة على هذه العلاقة طوال العهود السياسية الثلاثة التي شهدتها مصر منذ قيام الثورة.

وكان لهذا الصراع الممتد أثر مزدوج على أساليب العمل السياسي للإخوان، إذ أدى من ناحية إلى تجنب أغلب قياداتهم الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة ثم اعتمادهم على سياسة تتسم بالواقعية والنفس الطويل، وفى المقابل كان لنفس التجربة آثارها على إبراز دور التيار المتشدد الذي تبنى أفكار سيد قطب، وأصبح العنف وسيلته ألأساسية لإدارة الصراع السياسي مع السلطة، وكانت هذه الخلفية هي التي حكمت السلوك السياسي للجماعات الإسلامية المعاصرة التي مثلت الأجيال الجديدة داخل الحركة الإسلامية.

وغلى جانب هذه التجربة السياسية ، لعب البعد الاجتماعي الذي يمكن إرجاعه إلى طبيعة الشرائح الاجتماعية التي يعبر عنها كل من جناحي الحركة الإسلامية( أي الإخوان المسلمين، وجماعات العنف) دورا في تحديد الإستراتيجية السياسية لكل منهما.

فقد عبرت هذه الحركة في مجملها عن أحد جوانب أزمة الطبقة الوسطى التي انتمت إليها، والتي كانت بدورها محلا لميلاد الكثير من الحركات والأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية،ولكن بدرجات متفاوتة.

فعلى الرغم من أن التشكيل الاجتماعي لجماعة الإخوان المسلمين تركز في البداية حول الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى خاصة تلك النازحة من الريف إلى المدينة، إلا أنها استطاعت عب وجودها السياسي الوطيد أن تحقق وجودا ملحوظا في أوساط الطبقة الوسطى الحضرية، وهو ما جعلها تتمتع بقاعدة اجتماعية مستقرة نسبيا، أضفت على سلوكها السياسي طابعا من الاعتدال .

وفى المقابل فإن الخلفية الاجتماعية للجماعات الإسلامية المعاصرة ما زالت تتركز في الطبقات الوسطى الدنيا الريفية والحضرية خاصة تلك النازحة من الريف إلى المدن، وهذه المؤشرات الاجتماعية تشير إلى أنها ما زالت تقف على أول السلم الاجتماعي الذي صعد منه الإخوان،

أي أنها لم تصل بعد إلى تأكيد مكانتها في المجتمع بقدر يحقق لها نوعا من الاستقرار والثقة، وزاد من وضعها القلق الظروف والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي صاحبت سياسيات التغيير، والتي كان من الطبيعي أن تؤثر في مراحلها الانتقالية على العديد من الشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا.

ويفسر هذا العامل استقطاب هذه الجماعات أنصارا لها من الطبقات الدنيا وبعض الفئات الاجتماعية الهامشية في المدن إلى جانب الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى، وخاصة أصحاب التعليم المتوسط. سواء في الريف أو المدينة، والتي وجدت صعوبة بالغة في التكيف النفسي والاجتماعي مع التطورات المتلاحقة التي يمر بها المجتمع، فضلا عن شعورها بدرجة عالية من الحرمان، وربما لعب هذا البعد لاجتماعي دورا في تحديد السلوك السياسي لهذه الجماعات حي اتسم بالرفض والعنف قياسا بالسلوك السياسي للإخوان.

لقد تضافرت طبيعة النظام السياسي وخصائصه المميزة مع طبيعة حركات المعارضة السياسية الإسلامية والتحولات الأساسية التي طرأت عليها، لتؤثر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر على سياسات النظام منها.


فقد جمع كل منهما كونهما حركتين خارج السلطة توحد هدفهما في لحظة تاريخية معينة لهد دعائم النظام السياسي والاجتماعي القديم السابق على الثورة،

وحاولت النخبة الحاكمة الجديدة التي تشكلت من الضباط الأحرار تعويض الإخوان المسلمين عن مشاركتها أو اقتسام السلطة معها باتباعها أساليب للاحتواء ، والاستقطاب والتحييد فبدأت الثورة عهدها بالإفراج عن المعتقلين السياسيين من الإخوان .

كما تم استثناء الجماعة من قرار حل الأحزاب السياسية في 1953، وأمام استمرار الضغوط السياسية التي مارستها الجماعة على النظام جرت محاولات لتحييدها عن طريق ضم بعض أعضائها للوزارة، مثلما حدث مع الشيخ حسن الباقورى ، إلا أن هذه المحاولات كانت أقل من مستوى طموحاتها السياسية، وهو ما غذى عوامل التنافس الكامن بينهما، حتى انتهى الأمر بصراع محتوم مع السلطة في 1954، 1965.

بدا عهد الرئيس السادات بفترة تعاون أخرى مع الإخوان بررته دواعي المصلحة السياسية، فتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين منهم، كما أفسح لهم النظام المجال لحري التعبير من خلال السماح لهم بإعادة إصدار مجلتي الدعوة، والاعتصام، إلا أن الإجراءات كانت بدورها محدودة ومحكومة برغبة النظام في هذه المرحلة في توفير دعم سياسي له في إطار التوجهات الجديدة التي أقدم عليها.

وقد دعم هذا التصور عاملان رئيسيان: الأول، هو دواعي الصراع السياسي الذي ساد في ذلك الوقت والذي مثلت فيها المعارضة اليسارية تحديا رئيسيا للنظام، ومن ثم كانت محاولاته للاعتماد على القوى المعادية تقليديا لليسار كإحدى الأدوات في إدارة هذا الصراع، والآخر، تمثل في سعى النظام في السنوات الأولى من عهد السادات إلى توفير مصادر جديدة للشرعية تختلف عن تلك التي اعتمد عليها العهد السابق، وارتكزت هذا لشرعية الجديدة على المصادر التقليدية التي يحتل فيها العامل الديني مكانا محوريا لمواجهة الشرعية الثورية التي ميزت الحقبة الناصرية.

ومن هنا لجأ النظام على أسلوب الاحتواء تفاديا للسماح لهم بحق التنظيم المستقل، أو بعودة الشرعية إلى الجماعة التي تعرضت للحل في عام 1954.

وتمثلت أساليب الاحتواء في رفع النظام لبعض الشعارات السياسية الإسلامية وتبنى بعض مطالب المعارضة الإسلامية وأهمها قضية تطبيق الشريعة، وتم ترجمة ذلك ليس فقط على مستوى الخطاب السياسي وإنما امتدت إلى الدستور، حيث بدأ النظام في عام 1971 بالنص في المادة الثانية من الدستور:" إن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع".

وتوجها بالتعديل الذي أجراه على نفس المادة في عام 1980 لتصبح مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع" كما حرص نواب الحزب الوطني الحاكم على تبنى مشاريع القوانين الخاصة بالشريعة وطرحها في مجلس الشعب، وتم تشكيل لجنة خاصة لمراجعة كافة القوانين لمطابقتها بمبادئ الشريعة وفقا للنص الدستوري.

ولم يؤد هذا التحول رغم دلالته السياسية الهامة إلى استيعاب الإخوان أو تحييد معارضتهم للنظام،إذ لم يعترف بهم كقوة سياسية رسمية لها كيانها التنظيمي المستقل. بل على العكس فقد ارتبط هذا التغيير بزيادة التقييد على الإخوان حيث حظر قانون تنظيم الأحزاب السياسية في 1977 قيام أي حزب سياسي على أساس ديني.

وفى المقابل لجأ النظام إلى أساليب أخرى للاحتواء تمثلت في المواجهة غير المباشرة مع المعارضة الإسلامية معتمدا بشكل أساسي على المؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين لإضفاء نوع من الشرعية الدينية على سياساته وتوجهاته ، وذلك في محاولة لسحب البساط من تحت أقدام هذه المعارضة وتحجيمها. ولم تقتصر هذه ألأساليب على هذا المجال، بل امتدت إلى مجالات التنشئة السياسية والاجتماعية المختلفة مثل مجالات الإعلام والتعليم،

كما برز في نفس الإطار الدور السياسي للمساجد باعتبارها إحدى الوسائل الهامة للتعبئة الجماهيرية، والتي رأى النظام إمكانية توظيفها لخدمة الأهداف العامة له. إلا أن هذه الأساليب بدورها اتسمت بالمحدودية، حيث لم تؤد إلى احتواء المعارضة الإسلامية أو تحييدها بل على العكس فقد أدت إلى مزيد من الربط بين الدين والسياسة، وجعلت الصراع السياسي يدور عل أرضية دينية.

وكان لاستخدام هذه الأساليب من قبل النظام آثارا سياسية غير مباشرة، إذ أدى الاعتماد على المؤسسة الدينية ورجال الدين إلى تنامي دورهما الرقابي على الحياة السياسية والاجتماعية، وهو ما شكل بدوره ضغطا جديدا على النظام،

كما أدى الحرص على إضفاء شرعية دينية على السياسات المختلفة التي تبناها النظام إلى تكريس المصادر التقليدية للشرعية السياسية، وهو ما تناقض مع عملية التحول الديمقراطي والتي كانت من المفترض أن تعتمد على المصادر العقلانية والقانونية للشرعية والتي تستمد قوتها من أداء النظام.

وينطبق نفس التحليل على الدور الذي لعبته المساجد- خاصة الأهلية منها – التي ازداد عددها بشكل يفوق قدرة النظام على السيطرة عليها أو توجيهها ، بل على العكس فقد سعت المعارضة الإسلامية- بكافة فصائلها- إلى توظيف المساجد للتعبئة السياسة ونشر خطابها السياسي من خلالها.

كما برزت هذه الآثار غير المباشرة على الثقافة السياسية حيث كان الانحياز على الرموز والقيم التقليدية إحدى أدوات النظام في عهد السادات لإدارة صراعه السياسي مع القوى السياسية المعارضة من ناحية، ولاكتساب شرعية سياسية في مواجهة المعارضة الإسلامية خاصة من ناحية أخرى، وانسحب نفس الموقف على المؤسسات السياسية وعلى عضويتها مما أدى إلى اتسامها هي الأخرى بطابع تقليدي حال دون تطويها وتحديثها،

هذه العوامل أدت في النهاية على تغذية النزعة المحافظة التقليدية في المجتمع والنخبة الحاكمة، وتعارضت مع شعارات التغيير والتعددية والديمقراطية التي رفعها النظام في عهد السادات، كما شكلت أرضية خصبة نمت عليها جميع الاتجاهات والتيارات السلفية في المجتمع.

وأخيرا كان لهذه السياسات ، آثارها غير المباشرة على الموقف من الأقباط، حيث أثارت معارضة الكنيسة، مما أدى إلى حدوث نوع من المواجهة مع النظام ، انتهت بالصدام.

وبالتالي فإن التقييم النهائي للسياسة التي اتبعها النظام في إطار إستراتيجيته لمواجهة قوى المعارضة الإسلامية اتسم بالكثير من العوامل السلبية التي أبرزتها الآثار غير المباشرة الناتجة عن هذه السياسات ، دون أن يؤدى إلى تحقيق الهدف الأساسي في احتواء أو تحييد أو استيعاب هذه القوى حتى انتهى الأمر بالصدام معها في نهاية عهد السادات.

ورغم أن المقارنة بين كل من عهدي عبد الناصر والسادات تكشف عن بعض أوجه الشبه فيما يتعلق بمسار العلاقة التي حكمت كلا من النظام والمعارضة الإسلامية( ممثلة بشكل أساسي في الإخوان المسلمين) حيث بدأت هذه العلاقة بفترة تعاون قصيرة، ومرت بمحاولات من جانب النظام لاتباع أساليب مختلفة للاحتواء أو التحييد أو الاستقطاب .

ثم انتهت بالصراع والصدام، إلا أن الاختلاف يكمن في أمرت: الأول، هو درجة استخدام النظام في كل من العهدين للعامل الديني في إدارة الصراع السياسي ، والذي وصل في عهد السادات إلى معدل أعلى بحيث أثر على مجمل التجربة السياسية في السبعينيات،

والآخر، يتعلق بدرجة الهيمنة السياسية التي اتسم بها النظام في العهدين، والتي بلغت درجة أكبر في العهد الناصري، بحيث أحكم النظام قبضته على عوامل الصراع السياسي والاجتماعي بكافة اتجاهاته، وانعكس ذلك على درجة التقييد السياسي التي مارسها على كافة القوى السياسية المعارضة

ومن ضمنها الإسلامية، كما كان له قدرة أكبر على السيطرة على المؤسسة الدينية،بحيث حقق النظام قدرا أكبر من النجاح في تطوير هذه المؤسسة الدينية ، بحيث حقق النظام قدرا أكبر من النجاح في تطوير هذه المؤسسة الدينية، بحيث حقق النظام قدرا اكبر من النجاح في تطوير هذه المؤسسة وتوجيهها بما يتواءم مع أهدافه السياسية.

واختلفت درجة هذه الهيمنة في العهد اللاحق، بسبب الأزمة التي تعرض لها النظام في 1967، والتي أضعفت من قدرته على ممارسة نفس القدر من السيطرة السياسة التي مارسها في فترات سابقة، فضلا عن التحولات السياسية التي طرأت عليه في السبعينيات.

لم تشكل إستراتيجية النظام وسياسياته تجاه المعارضة الإسلامية في عهد الرئيس مبارك انقطاعا كاملا مع إستراتيجية سلفه، وإن تميز هذا العهد بتحقيق قدر أكب من حرية التعبير والنشاط أمام قوى المعارضة السياسية بشكل عام.

وتمثلت هذه الإستراتيجية في السماح لهم بحرية نسبية في ممارسة النشاط، والمشاركة في العمل السياسي بما في ذلك الانتخابات ولكن دون الاعتراف القانوني بالإخوان المسلمين كجماعة سياسية مستقلة.

والواقع أنه رغم عدم تغير موقف النظام جوهريا فيما يتعلق بمسألة الحظر القانوني المفروض على الجماعة منذ عام 1954، إلا أنه من الناحية الفعلية أتاح لهم فرصة أكبر لحرية العمل السياسي تتجاوز ما شهده العهدان السابقان.

وتم تحقيق هذه الإستراتيجية من خلال السماح للإخوان المسلمين بالعمل تحت مظلة الأحزاب السياسية الأخرى، وتمثيلهم لأول مرة داخل مجلس الشعب، فضلا عن عدم تغيير نشاطهم داخل النقابات المهنية.

ولكن على الرغم مما انطوت علي إستراتيجية النظام في هذه الحقبة من محاولة هامة لاحتواء المعارضة الإسلامية، وبالتحديد التي يمثلها الإخوان إلا أنها بدت غير كافية لإرضاء أهدافهم السياسية الرئيسية، ولذلك ما زال الإخوان حريصين- طول الثمانينيات- على تمييز أنفسه عن القوى السياسية أو الحزبية التي تحالفوا معها، حتى يبقى مطلبهم الخاص بالاعتراف بهم كجماعة سياسية مستقلة مطروحا،

وليشكل ضغطا مستمرا على النظام، واستفادوا في ذلك من تكثيف نشاطهم في المجال الحزبي والبرلماني والنقابي، وفى أوساط الحركة الطلابية والجمعيات الأهلية فضلا عن نشاطهم الاجتماعي والخدمي، وربما كان هذا النشاط هو الوجه المقابل لتدهور أداء النظام على بعض المستويات خاصة الاجتماعية والخدمية من ناحية، وضعف وعدم فعالية الأحزاب السياسية الموجودة من ناحية أخرى.

إن ضعف الأحزاب والقوى السياسية الديمقراطية التي تشهدها عملية التحول الديمقراطي كانت النتيجة المنطقية لسيادة نظام حكم سلطوي لعقود طويلة.

ولم يكن من المتوقع ، رغم إقرار النظام بمبدأ التعددية السياسية والحزبية أن تولد أحزاب حديثة تتمتع بفعالية سياسية، أو تكون لها قاعدة اجتماعية تعبر عنها في هذه الفترة الزمنية القصيرة، وفى المقابل برز الدور السياسي للحركة الإسلامية ، حيث أنها بخلاف الأحزاب امتلكت منابر هامة أعطتها فرصة للعمل والنشاط السياسي المستمر.

وتمثلت هذه المنابر في المساجد التي استخدمتها للتعبئة الجماهيرية ونشر خطابها السياسي دون حاجة إلى الحصول على اعتراف رسمي أو قانوني بها لمزاولة نشاطها السياسي، كما أنها بحكم طابعها الشعبوى بحاجة للتنظيم وفق قاعدة اجتماعية متجانسة أسوة بالأحزاب.

وفى المقابل لعبت طبيعة الثقافة السياسية الحاكمة للمجتمع والتي ما زال يغلب عليها الطابع التقليدي، دورا هاما في دفع القوى الإسلامية، مقارنة بالأحزاب ، حيث يجعل هذا الواقع الثقافي من العامل الديني أحد الأسس الشرعية السياسية في المجتمع، ذلك أن الثقافة السياسية ما زالت لا تعرف بشكل متبلور التمايز

وبالتالي فهي أقرب إلى الثقافة الجمعية أو الثقافة أحادية الجانب التي تتفق مع الاتجاهات والتنظيمات الشعبوية بعبارة أخرى، إن هذه الثقافة ما زالت بعيدة عن احترام القيم الفردية والتعددية التي تقوم عليها الثقافة السياسية الحديثة في النظم الديمقراطية.

وفى هذا المحيط الثقافي تبرز فعالية الخطاب السياسي الإسلامى، فسرعة انتشار هذا الخطاب لا ترجع فقط إلى المهارة السياسية والتنظيمية للقوى الإسلامية والحركات المعبرة عنها وحسب، ولكن ترجع أيضا إلى طبيعة البيئة الثقافية التقليدية التي تتجاوب معه.

فالحركات الإسلامية لا تنظم كأحزاب سياسية بالمعنى الحديث، وهى بخلاف الأحزاب تستطيع استقطاب عدد كبير من الأنصار دون حاجة إلى تقديم برنامج سياسي أو اجتماع لأنها تعبر في النهاية عن ثقافة سائدة أو مزاج عام وباعتبارها حركة شعبوية فإنها تستطيع تحريك الجماهير إذا ما توافرت لها القيادة السياسية النشطة.

وهذا العامل هو أحد الأسباب الهامة التي تفسر نجاحها السريع في اكتساب الأصوات في الانتخابات ، حيث تعتمد على العناصر التقليدية لتجميع الناخبين، وهى كلها عوامل مثلت عنصرا إضافيا لإظهار قوة المعارضة الإسلامية.

ونصل من ذلك إلى أن دخول هذه المعارضة ممثلة بشكل أساسي في الإخوان المسلمين مجال العمل السياسي في الثمانينيات لم يؤد إلى اندماجهم الكامل في العملية الديمقراطية، ولو يوجد مصالحة حقيقية بينهم وبين النظام.

وشهد مطلع التسعينيات بداية التحول عن بعض السياسات التي حددت الإستراتيجية السابقة. حيث سعى النظام إلى تحجيم النشاط السياسي للمعارضة الإسلامية من خلال استخدام الأداة القانونية والتشريعية فصدرت عدة قوانين لهذا الغرض منها القانون الخاص بالنظام الانتخابي لمجلسالشعب في 1990 وقانون تنظيم الانتخابات في النقابات المهنية في 1993.

وهو الأمر الذي ترتب عليه تغيير في توازنات القوى والتحالفات السياسية، وأدى في الحالة الأولى إلى خروج الإخوان من مجلس الشعب بعد مقاطعتهم للانتخابات البرلمانية التي جرت في أبريل 1990.

وشكل هذا التحول نوعا من المواجهة الضمنية بين الطرفين وإن لم تصل إلى حد الصدام، ويرجع ذلك ليس فقط إلى حرص كل منهما على تجنب المواجهة العنيفة، وإنما أيضا إلى الإستراتيجية التي اتبعها النظام في الثمانينيات، والتي أعطت له القدرة على تطبيق سياسة المنح والمنع، حيث لم يعترف بهم منذ البداية كجماعة سياسية مستقلة تتمتع بالمشروعية القانونية، فكان نزولهم إلى ساحة العمل السياسي مرهونا إلى حد كبير بالقدر الذي سمح به النظام.

والواقع أن أزمة الإخوان المسلمين مع النظام لا ترجع فقط على عدم اعترافه القانوني بهم، فرغم أنهم لم يجدوا فرصتهم الكاملة في المشاركة السياسية وفق تصورهم، إلا أن ذلك لا ينفى جوانب القصور الذي عانت منها جماعة الإخوان المسلمين نفسها،

إذ على الرغم من النجاح الذي حققته في مجال الممارسة السياسية طوال العقدين الماضيين إلا أن هذا النجاح ظل محدودا، حيث لم يعكس أي تطور فكرى هام للجماعة، أو تبنيها لحركة إصلاح ديني كتلك التي عرفتها مصر في منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،

فقد ظل هو أحد جوانب القصور التي تعانى منها، فقبولها بمنهج الوسطية السياسية لم يعكس بالقدر نفسه نوعا من الانفتاح الفكري الذي يمكنها من التعامل مع الأفكار والاتجاهات الحديثة التي يزخر بها المجتمع، إضافة إلى مستوى الحركة الإسلامية أخفقت الجماعة في استقطاب الأجيال الجديدة داخلها، والتي بقيت معبرة عن تيار الرفض السياسي الإسلامى الذي تشكل منذ ميلاد فكر سيد قطب، واختارت العنف منهجا لفرض مشروعها السياسي بالقوة.

وقد فرض هذا السلوك السياسي العنيف من قبل الجماعات الإسلامية على النظام اللجوء على استخدام العنف في مواجهتها ، وإن كان هذا الخيار حمل لعديد من المحاذير بسبب رغبة النظام في الحفاظ على توجهه الديمقراطي، أي أن قدرته على اللجوء إلى استخدام وسيلة القمع في مواجهة هذا النمط من المعارضة تظل محدودة، وترتبط بالتوجه السياسي العام للنظام.

ومن هنا فإن سياسة النظام منذ منتصف السبعينيات إزاء العارضة الإسلامية بشقيه المعتدل والعنيف تتسم بنوع من الوسطية فالتقييد السياسي على الإخوان المسلمين يقابله من الناحية الأخرى قدر من الانفراج السياسي في التعامل معهم، وإفساح المجال أمامهم لحرية التعبير ومزاولة قدر كبير من النشاط السياسي، وبالمثل فإن اللجوء إلى استخدام العنف في مواجهة الجماعات الإسلامية لا يصل إلى درجة القمع الشامل، أي أن هذه السياسات ما زالت مختلطة تجمع بين الطابع السلطوي والتوجه الليبرالي.

وهذه المزاوجة بين التوجهين تفرضها طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام ولكنها قد تعرضه لضغوط متزايدة على المدى الطويل فهذه السياسة تعتمد في الأساس على قدرة النظام على استخدام القدر المناسب من السياسات التي تعبر عن كل من التوجهين، وبحيث يرفق نقطة التوازن التي يعتمد عليها للحفاظ على الاستقرار ، وهو ما يتطلب درجة عالية من المهارة السياسية من ناحية، ويفترض عد تغيير أي من المعطيات القائمة تغييرا جوهريا.

ولا شك أن طبيعة التحديات التي تفرضها المواجهة قد تجعل من توافر الشرط الأخير أمرا صعبا، فتصاعد أعمال العنف من قبل الجماعات الإسلامية، وازدياد الضغوط السياسية التي يمارسها الإخوان تجعل المعارضة الإسلامية في مجملها أحد العناصر الأساسية الضاغطة التي تهدد بقلب معادلة التوازن التي يعتمد عليها النظام، وقد تضعه أما أحد خيارين:

الأول،هو الارتداد على الطابع السلطوي بما يعنيه من ازدياد اللجوء إلى التقييد السياسي على المعارضة والاعتماد على أساليب القمع، وهو ما يهدد في النهاية عملية التحول الديمقراطي برمتها.

والآخر، هو إجراء المزيد من الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي لاستيعاب هذه القوى وإدماجها في العملية السياسية،ومعالجة الأسباب التي تساعد على ازدياد ظاهرة العنف لمحاصرتها والتضييق عليها.

ولا يمكن تصور تحقيق البديل الأخير إلا في حال تغيير قوى المعارضة الإسلامية على وجه التحديد من أساليب عملها التي تتنافى في كثير من الأحوال مع لقواعد الديمقراطية المتعارف عليها.

وقد يبدأ الإصلاح السياسي بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية من خلال إلغاء بعض القوانين التي تضع قيودا على حرية العمل السياسي وعلى رأسها تلك الخاصة بتشكيل الأحزاب السياسية، وتنظيم الانتخابات أي قوانين مباشرة الحقوق السياسية وقد ينتهي على المدى الطويل بتعديل أو تغيير الدستور، وقد يؤدى هذا الإصلاح إلى اتساع المجال أمام نمو قوى سياسية جديدة تضمن التوازن والتجديد في الحياة السياسية والحزبية.

فربما يكون أحد مثالب القانون الحالي هي القيود العدية التي يضعها أمام الأحزاب والقوى السياسية بحيث تمنع التمايز السياسي بينها وهو شرط أساسي لقيام تجربة حزبية سليمة على الاتجاهات السياسة في آن واحد بدءا باتجاه ثورة يوليو، مرورا بثورة التصحيح وأخيرا مبادئ الشريعة الإسلامية، ولا شك أ هذه القيود أثرت على حالة الجمود السياسي التي تعانى منها الحياة الحزبية والتي أدت في المقابل على نمو المعارضة الإسلامية خارج الإطار الحزبي والقانوني.

كما أدى الواقع إلى زيادة حدة الاستقطاب السياسي بين النظام والقوى السياسية الإسلامية بحيث بديا الفاعلين الرئيسيين في العملية السياسية، وذلك في غياب فعالية القوى السياسية الأخرى التي يعتبر وجودها لازما لإحداث التوازن المطلوب لقيام تعددية سياسية حقيقية تحول دون فرض اتجاه بعينه على الحياة السياسية بشكل ينتفي معه من الناحية الفعلية حرية الاختيار.

والواقع أن السياسة التي اتبعها النظام في الفترة السابقة تجاه المعارضة الإسلامية ،والتي رفضت الاعتراف لهم بحق التنظيم السياسي المستقل قد قابلها على الناحية الأخرى اتباع أساليب عديدة للاحتواء استلزمت الكثير من التنازلات السياسة لصالح هذه القوى على حساب القوى السياسية الأخرى،

وأفضت في النهاية إلى ازدياد قوتها وتأثيرها السياسي دون أن تؤدى إلى إرضائها واستيعابها ، بل على العكس فقد أثرت هذه السياسة على القوى السياسية والحزبية الأخرى بحيث تسابقت جميعها على إضفاء نوع من الشرعية الدينية على برامجها وخطابها السياسي وهو ما أفقدها كثيرا من عناصر التمايز والاختلاف.

وفى المقابل فإن مواجهة ظاهرة العنف ، وفق هذا المنهج لابد وأن تتجاوز حدود السياسة الأمنية، فانتشار هذه الجماعات ما زال يعبر عن أزمة تخفى وراءها العديد من السباب الاقتصادية- الاجتماعية والثقافية، حتى وإن اتخذت طابعا دينيا.

فهذه الجماعات ما زالت تستقطب أنصارا لها من نفس الشرائح الاجتماعية التي أتت منها، والتي تتحدد بشكل أساسي في الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى والمهاجرين من الريف إلى المدينة كما أنها تتركز جغرافيا في مناطق متشابهة من حيث درجة التأخر الاقتصادي والاجتماعي ومستوى المعيشة سواء في الصعيد أو في المناطق الفقيرة في المدن.

وهى مؤشرات تؤكد على أن هذه البيئة تساعد على تقبل أفكار وعمل هذه الجماعات،كما تؤكد على أن من تستقطبهم هم من أكثر الفئات الاجتماعية شعورا بالحرمان، خاصة وأن أغلبهم قد نالوا قدرا من التعليم زاد من طموحاتهم دون أن يقابله على الجانب الآخر. إشباع لهذه الطموحات.

هذه المؤشرات الاجتماعية تطرح قضيتين رئيسيتين:

الأولى، هي ضرورة الاهتمام بتطوير هذه المناطق التي تعانى من التأخر الشديد وبالتحديد المناطق الريفية ، فإهمال الريف لابد وأن يؤدى فى النهاية إلى نوع من الثورة الصامتة على المدينة ، وقد جسدت الجماعات الإسلامية جانبا من هذا التمرد الكامن، الذي يزيد منه عدم قدرتها على التكيف النفسي والاجتماعي مع قيم المدينة.

والأخرى، هي قضية التعليم، فهذه المؤشرات الاجتماعية تكشف بدورها عن عمق الآثار السلبية التي ترتبت على سياسات التعليم التي التزمت بها الدولة حيث أفضت إلى ازدياد أزمة التحضر بسبب دفعها لعوامل الهجرة الداخلية من الريف على المدن حيث توجد الجامعات، بكل ما تحمله هذه الأزمة من أسباب كامنة للتوتر وعدم الاستقرار الاجتماعي،

ويرجع ذلك في جانب هام منه إلى العلاقة العكسية بين ازدياد عدد المتعلمين الجامعيين وعملية الحراك الاجتماعي، فالتوسع الكمي في التعليم الجامعي لم يؤد – كما هو مفترض نظريا- على دفع هذه العملية إلى أعلى ( اى الانتقال عبر التعليم من شريحة اجتماعية إلى شريحة أخرى تعلوها في السلم الاجتماعي)

وإنما أدى إلى مزيد من الإحباط الاجتماعي عند قطاع عريض من الجامعيين خاصة من ذوى الأصول الريفية، لأن التعليم زاد من درجة الوعي والتطلع عند هذه القطاعات دون أن يخلق لها فرص العمل ومستوى المعيشة التي تضمن استمرار دفع عملية الحراك الاجتماعي إلى أعلى، وكذلك الحال بالنسبة للتعليم الفني، الذي لم يستوعب خريجيه بحيث يدمجهم مباشرة في العملية الإنتاجية، فعانى قطاع عريض من هذه الفئات من البطالة أو البطالة المقنعة،وكلها أسباب تفضي على الشعور بالإحباط.

ومن ثم انخراط فئات من الأجيال الجديدة إلى الجماعات الإسلامية بما تشكله من مظهر للرفض والتمرد يرتبط بحالة الحرمان النسبي الذي تعانى منه هذه الفئات.

هذه الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية المرتبطة بصعود الدور السياسي للحركة الإسلامية كحركة معارضة في مصر تكشف عن أزمة التحول الديمقراطي التي بدأت بإقرار التعددية السياسية والحزبية في السبعينات وما صاحبها من ظهور المعارضة السياسية ذات الطابع الديني التي مثلتها هذه الحركة، والتي بدأت تمثل منذ عقد الثمانينيات - وعلى اختلاف فصائلها وتياراتها- التحدي الرئيسي أمام الاستقرار السياسي والاجتماعي اللازم لتحقيق الديمقراطية .

ورغم اختلاف وسائل وأساليب مواجهة السلطة لهذا التحدي إلا أن هذه الأساليب تدخل ضمن المعالجات الجزئية والسياسات قصيرة المدى.

فالتحدي الذي تمثله الحركة الإسلامية لا يقف عند مجرد كونها قوة معارضة سياسية لا تحظى بالمشروعية القانونية( حال الإخوان المسلمين) أو حركة رفض اجتماعي( جماعات العنف الإسلامية) فهي وإن كانت تعبر عن هذا التوصيف أو ذاك إلا أنها تزيد على ذلك فيما تجسده من أزمة تتعلق بطبيعة تراكمية، وبدرجة تطوره وبمدى تحديثه، إن التحول إلى الديمقراطية هو عملية تراكمية، ولا يمكن أن تتحقق إلا كنتاج تاريخي لعملية التطور المجتمعي، ولذلك فإن إقرار النظام بمبدأ التعددية السياسية والحزبية ليس معيارا كافيا لإحداث التحول الديمقراطي،

فتحقيق الديمقراطية في المجال السياسي يرتبط بدرجة النمو الاقتصادي والاجتماع فضلا عن طبيعة الثقافة السياسية السائدة، بمعنى آخر لا يمكن تصور إمكانية الوصول إلى نظام ديمقراطي مكتمل دون توافر هذه الشروط الأخرى، فالديمقراطية لم تتحقق عبر التاريخ إلا من خلال المجتمعات الرأسمالية التي حققت قدرا متقدما من التطور الاقتصادي، وهذا يعنى أن تحقيقها في مصر سيظل مرهونا بدرجة التطور الاقتصادي الراسمالى،وهذا معيارا أساسي لتحقيق الديمقراطية في المجال السياسي.

وفى المقابل فإن تحديث الثقافة السياسية يظل هو الآخر شرطا لازما لدفع عملية التحول الديمقراطي، وأحد المعايير الهامة لتحديث الثقافة السياسية يرتبط بدرجة تأكيد هذه الثقافة على الحريات الفردية المدنية إلى جانب الحريات العامة، وكما يرتبط بطبيعة النظام السياسي ودرجة تطوره والشرعية السياسية التحى يعتمد عليها،

فالشرعية السياسية للنظام ما زالت تعتمد في جانب هام منها على المصادر التقليدية والتا يأتي في مقدمتها الدين، وهو ما يجعله – اى العامل الديني- دائما في قلب عملية الصراع السياسي ، وبالتالي فإن التحديث التدريجي للنظام السياسي وللشرعية التي يعتمد عليها ، والتي يجب أن تستمد من أدائه في المجالات السياسية والاجتماعية المختلفة سيعمل في النهاية على تطوير الثقافة السياسية.

وهى مرحلة ضرورية لتحقيق النظام الديمقراطي وترسيخ قواعده..