الفرق بين المراجعتين لصفحة: «الدعوة إلى الله حب (الجزء الثاني)»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سطر ٢٧٩: سطر ٢٧٩:
'''أخي'''
'''أخي'''


لا تستهن ولا تحقرن من المعروف كلمة طيبة. فإن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء – الكلمة الصادقة الهادفة – خطيرة إنا تتحرك وتقيم جسرا.. ولا تعجب إذا علمت أن المستشار حسن الهضيبي – عام 1944 استمع إلى بعض شباب قريته حديثا عن دعوة الإخوان المسلمون لأول مرة فأعجب بفقههم وتأثر بصدق حديثهم – ثم كان واستمع بعد ذلك لأول خطبة من الاستاذ حسن البنا وقال في ذلك "كم من خطب كثيرة سمعت كنت أتمنى كل مرة أن تنتهي سريعا.. ولكني هذه المرة كنت أخشى أن يسرع البنا بإنهاء خطبته... لقد مضت مائة دقيقة جمع فيها قلوب المسلمين في راحتي يديه وهزها حيث أراد. وانتهى الخطاب وأعاد إلى مستمعيه قلوبهم.. ماعدا قلبي فقد بقي في يديه".
لا تستهن ولا تحقرن من المعروف كلمة طيبة.  


هذه ثمرة الكلمة الطيبة – التي قادت حسن الهضيبي – ليكون بعد ذلك خليفة حسن البنا والمرشد العام للإخوان المسلمون.
فإن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء الكلمة الصادقة الهادفة – خطيرة إنا تتحرك وتقيم جسرا.. ولا تعجب إذا علمت أن المستشار [[حسن الهضيبي]] عام [[1944]] استمع إلى بعض شباب قريته حديثا عن دعوة [[الإخوان المسلمون]] لأول مرة فأعجب بفقههم وتأثر بصدق حديثهم – ثم كان واستمع بعد ذلك لأول خطبة من الاستاذ [[حسن البنا]] وقال في ذلك "كم من خطب كثيرة سمعت كنت أتمنى كل مرة أن تنتهي سريعا.. ولكني هذه المرة كنت أخشى أن يسرع البنا بإنهاء خطبته... لقد مضت مائة دقيقة جمع فيها قلوب المسلمين في راحتي يديه وهزها حيث أراد.  


فاعلم أخي أن الكلمة دعوة والدعوة حركة والحركة عمل والعمل بناء والبناء مجد الإسلام.
وانتهى الخطاب وأعاد إلى مستمعيه قلوبهم.. ماعدا قلبي فقد بقي في يديه".
 
هذه ثمرة الكلمة الطيبة – التي قادت [[حسن الهضيبي]] – ليكون بعد ذلك خليفة [[حسن البنا]] و[[المرشد العام]] [[للإخوان المسلمون]].
 
فاعلم أخي أن الكلمة دعوة والدعوة حركة والحركة عمل والعمل بناء والبناء مجد [[الإسلام]].


لا تخف من الفراق فانت جزء من الدعوة – ففي أي مكان على سطح الأرض سوف تستقبلك قلوب حانية – سوف تجد قلوبا في انتظارك فإن لم تجد فإنه ليس عليك إلا أن تبحث عنها وتصنعها فإن الداعية المسلم لا يعوزه العمل الجاد في سبيل إيجاد هذه العناصر التي تعينه على الطاعة وعلى الحب في الله تعالى.. إذن لا تخف من الفراق فإن عاطفة الإيمان والحب في الله سوف تدفع بك يقينا إلى مثل هذه القلوب لأنك لا تستطيع أن تعيش بعيدا عن هذا الميدان الحبيب.
لا تخف من الفراق فانت جزء من الدعوة – ففي أي مكان على سطح الأرض سوف تستقبلك قلوب حانية – سوف تجد قلوبا في انتظارك فإن لم تجد فإنه ليس عليك إلا أن تبحث عنها وتصنعها فإن الداعية المسلم لا يعوزه العمل الجاد في سبيل إيجاد هذه العناصر التي تعينه على الطاعة وعلى الحب في الله تعالى.. إذن لا تخف من الفراق فإن عاطفة الإيمان والحب في الله سوف تدفع بك يقينا إلى مثل هذه القلوب لأنك لا تستطيع أن تعيش بعيدا عن هذا الميدان الحبيب.
سطر ٢٨٩: سطر ٢٩٣:
أرى أن الوفاء من شيم القلوب الكبيرة وأن خسارة قلب، إنما هي خسارة لا تعوض وأعتقد أنك والإخوة على هذا المستوى العظيم من الوفاء. فتعرفوا الأسباب لمن غاب وذاب فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (صل من قطعك وأطعم من حرمك، واعف عمن ظلمك).
أرى أن الوفاء من شيم القلوب الكبيرة وأن خسارة قلب، إنما هي خسارة لا تعوض وأعتقد أنك والإخوة على هذا المستوى العظيم من الوفاء. فتعرفوا الأسباب لمن غاب وذاب فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (صل من قطعك وأطعم من حرمك، واعف عمن ظلمك).


ومكرمة تصنع الحب في جماد وتخرج من صخرة ماءاً. سماحة في الخلق، سلوك الأحباب المجيد في رفق ولهفة نادرة. لهفة محببة تصنع من الإنسان روحا تفيض وتحلق في جوف الليل والناس نيام ويقف الإنسان بين يدي الرحمن راكعا ساجدا في خشوع ودموع. في هذا الغياب الذي يذوب فيه الإنسان بكل كيانه – أتوجه الى الله تعالى بالدعاء لك – أن يحفظك طاهراً نقيا مجاهدا وفيا وهذه هي دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب وهي أشرف عواطف الحب في أقدس مواقف الجلال.. وأمام هذه العاطفة وهذا الدعاء تتضاءل كل معطيات الدنيا التي أتمنى أن أقدمها هدية لك تعبيرا عن حرارة حبي (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وعلى سياق هذا المعنى لازلت أتذكر تصوراتي وتخيلاتي لصورة الكعبة المشرفة حين توجهت لأداء فريضة الحج عام 1943 حيث كنت من أصغر حجاج بيت الله سنا في ذلك الزمان... كنت أتخيل أن الكعبة الشريفة مبنية من الذهب واللؤلؤ والماس لعظم شأنها في تصوراتي حتى إذا واجهت الكعبة انتابني شعور من الهيبة والرهبة والجلال تلاشى معه هذا التصور – حيث أدركت بل فهمت أن الحب والشوق والشعور والإحساس شيء فوق المادة. ولو كانت الذهب واللؤلؤ والماس وما هو أثمن. (فإن أعظم من ذلك وأجل، هو حياة القلب ويقظة الروح ووهج الإحساس).
ومكرمة تصنع الحب في جماد وتخرج من صخرة ماءاً. سماحة في الخلق، سلوك الأحباب المجيد في رفق ولهفة نادرة. لهفة محببة تصنع من الإنسان روحا تفيض وتحلق في جوف الليل والناس نيام ويقف الإنسان بين يدي الرحمن راكعا ساجدا في خشوع ودموع.  
 
في هذا الغياب الذي يذوب فيه الإنسان بكل كيانه – أتوجه الى الله تعالى بالدعاء لك – أن يحفظك طاهراً نقيا مجاهدا وفيا وهذه هي دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب وهي أشرف عواطف الحب في أقدس مواقف الجلال.. وأمام هذه العاطفة وهذا الدعاء تتضاءل كل معطيات الدنيا التي أتمنى أن أقدمها هدية لك تعبيرا عن حرارة حبي (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وعلى سياق هذا المعنى لازلت أتذكر تصوراتي وتخيلاتي لصورة الكعبة المشرفة حين توجهت لأداء فريضة الحج عام 1943 حيث كنت من أصغر حجاج بيت الله سنا في ذلك الزمان... كنت أتخيل أن الكعبة الشريفة مبنية من الذهب واللؤلؤ والماس لعظم شأنها في تصوراتي حتى إذا واجهت الكعبة انتابني شعور من الهيبة والرهبة والجلال تلاشى معه هذا التصور – حيث أدركت بل فهمت أن الحب والشوق والشعور والإحساس شيء فوق المادة.  


ولو كانت الذهب واللؤلؤ والماس وما هو أثمن.


(فإن أعظم من ذلك وأجل، هو حياة القلب ويقظة الروح ووهج الإحساس).


== الرسالة التاسعة==
== الرسالة التاسعة==

مراجعة ١٩:١٠، ٩ أغسطس ٢٠١٢

الدعوة إلى الله حب (الجزء الثاني)


بقلم/ الأستاذ عباس السيسي

إهداء

إلى الإخوة والأخوات

الذين كشفت كلمات الدعوة إلى الله حب. كوامن قلوبهم، وأشعلت عواطفهم، وأدركوا سر حواسهم التي وهبها الله تعالى لتعمل في ميدان النفس البشرية هداية وتربية وإنتاجا، فصارت حياتهم جديدة متجددة بتلك العواطف الندية الريانة والهواتف الروحية بالحب في الله تعالى لكل مسلم أشرق الإيمان في قلبه فأدرك سر وجوده وعرف الغاية من خلقه.

المقدمة

بقلم: سعيد حوي

الحمد لله والصلاة على رسول الله وآله

"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"

وبعد: ليس أدب الإخوانيات غريباً على الأدب العربي، ولا أدب الرسائل بمستغرب عربياً أو عالمياً فمكتبة الإنسانية عامرة بهذا النوع من الآداب ولكن أدب الإخوانيات في الله وأدب الرسائل التي تعبر عن هذه المعاني قليل إن لم يكن معدوماً في مكتبتنا العربية ولذلك فقد كان كتاب الأخ عباس السيسي "الدعوة إلى الله حب" فريداً في بابه جديداً في موضوعه بديعاً في مكانه في المكتبة العربية وفي المكتبة الإسلامية.

لقد حاول الأديب الروسي (دستويفسكى) أن يعرض لنوع من الإخاء الديني في كتابه "الإخوة كرامازوف" ولكن عن طريق القصة واصفاً حال الأخوة القائمة على الأخوة المسيحية ولكن مكتبتنا العربية خلت في علمي من مثل هذه المحاولة التي تبين عمق الإخاء الإسلامي بين أصحابه وهو إخاء قائم على حق وصواب وفيه تتجلى أروع خصائص التعامل الإنساني ومن ههنا كان لرسالة "الدعوة إلى الله حب" جانب إبداعي في ناحتين: في كونها نمطاً جديداً في أدب الرسائل، ونمطاً تطبيقياً في الإخوانيات القائمة على الحب الإسلامي في الله، ومن ههنا أخذت محلها بسرعة في المكتبة الإسلامية وكأنها كانت معها على موعد ولكن الكتاب الأول الذي ظهر في صفحاته المعدودة كان رسائل من جانب واحد هو جانب الأخ عباس إلى إخوانه ولم يظهر في الرسائل مشاعر الجانب الآخر إلا قليلا فكان لا بد من كتاب آخر يكمل هذا النقص فكان هذا الكتاب وهو الثاني في سلسلة الدعوة إلى الله حب هو المكمل فقد جاء هذا الكتاب في بابين الباب الأول: رسائل إلى عباس وهي متخيرة من مجموعة رسائل أُرسلت إليه والباب الثاني رسائل جديدة من عباس إلى إخوانه في الله وهي كذلك متخيرة من مجموعة رسائله إلى إخوانه ليكون هذا الكتاب تصويراً صادقاً للأخذ والعطاء ولا شك أن نقل الرسائل المتفرقة من وضعها الأصلي لوضع آخر تصبح فيه وكأنها رسالة واحدة يحتاج إلى شيء من التصرف غير المخل، وإلى شيء من التصحيح لخطأ أدبي أو نحوي وذلك شيء لا بد أن يعذر فيه كتاب الرسائل الأصلية إذا ما وجدوا بعضاً من رسائلهم أصبحت جزءا من كل ولقد شرفني الأخ عباس بأن أقدم لكتابه الثاني كما قدمت لكتابه الأول وذلك شرف كبير أرجو به الأجر الجزيل من الله عز وجل وعندما اطلعت على كتابه الثاني رأيت فيه رسالتين اقترحت أن يعطيني إياهما ليكونا في هذه المقدمة. الرسالة الأولى موجهة منه لصديق مسيحي والرسالة الثانية موجهة لأخت.

لقد رأيت في هاتين الرسالتين نمطاً جديداً وأدباً حميداً ورأيت فيهما شبه غربة عن بقية الرسائل فأخذتهما لهذه المقدمة فالرسالة الأولى ترمز إلى معنى عميق في دعوة حسن البنا رحمه الله إنها تنظر بأفق رحيب إلى المواطنين من غير المسلمين ولا عجب في ذلك فالله عز وجل يقول "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم"، ومن هنا كانت دعوة حسن البنا تنظر إلى المواطنين من غير المسلمين نظرة خاصة فهي تعاملهم بالعدل والبر معا ومن ههنا كان من الظلم لدعوة حسن البنا أن تتهم بأنها لا تحقق سلاماً اجتماعياً أو وحدة وطنية بل إن دعوة حسن البنا لتحاول أن تفتح علاقات مع المواطنين من غير المسلمين وأن تتعامل بآفاق رحيبة معهم ولذلك اخترت أن تكون رسالة الأستاذ عباس إلى أحد المسيحيين في هذه المقدمة للتأكيد على هذه المعاني ولقد أكد هذه المعاني من قبل أحد المسيحيين المشهورين وهو مكرم عبيد الذي أصر على الخروج مع جنازة حسن البنا يوم أن منعت السلطة كل الناس أن يخرجوا معه لقد كان تصرف مكرم عبيد يومذاك إشارة إلى فهمه العميق لدعوة حسن البنا وأنها دعوة تسع المواطنين جميعاً وهذه رسالة الأخ عباس الى مواطن مسيحي إحدى المؤكدات لهذا المنحى وهذه هي الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ الفاضل الأستاذ أليكسان غطاس إبراهيم

تحية طيبة وبعد:

لقد سررت باستلام خطابكم البار – بعد أم مضى على غيابنا عنكم ثلاثون عاما – حالت دون رؤياكم ظروف شديدة – وكانت رسالتكم الكريمة، في تصوري لمعناها الكبير ومغزاها العميق رائعة، فالوفاء للقلوب هو أسمى ما ترصع به الإنسانية تيجانها وتزين به سيرتها وتاريخها ومما يزيد من أهمية هذا الوفاء النادر – هو اختلاف الأديان، وبعد الزمان والمكان وعدم النسيان.

والذي جاء في خطابك يسجل في صفحات وحدة الأمة بسطور من نور تثبت للأجيال أنها حقيقة وليست خيالاً. وحديثك عني هو صدى خلقك الفاضل وأدبك الرفيع – ولقد سبقتني بالسؤال عني وصاحب السبق له فضل. وتقبل تحياتي وأشواقي مع شكري وتمنياتي الطيبة.

المخلص: عباس السيسي

ألمانيا في 10/04/1984

وأما الرسالة الثانية التي رأيتها أليق بهذه المقدمة فهي رسالة موجهة لأخت فهي رمز على معنى كبير جليل فالإسلام إذ أكد على نظافة العلاقات بين الرجال والنساء وفرض لذلك فروضاً تنسجم مع الفطرة وتطيقها المرأة والرجل لم يتعامل مع العلاقة بين الرجال والنساء تعاملا غير فطري بحيث لا يعطي للمرأة أو للرجل فرص التعبير عما هو كمال وعما هو ضروري فالمرأة ضمن شروط يستطيع أن يخاطب المرأة وهناك دائرة المحارم والأمر في شأنها واسع فلكي يتأكد هذا المعنى اقترحت على الأستاذ أن يعطيني رسالته إلى الأخت لتكون في هذه المقدمة ومعنى آخر لحظته هو أنه لا بد أن يكون في هذا الكتيب كلمة عن المرأة وللمرأة وكان المفروض أن تأخذ من أدب النسائيات ومن أدب الأخوات في رسائلهن الأخوية مما يغطي هذا المعنى وإذ فاتنا ذلك فلا أقل من أن نرصع هذا الكتاب بلفتة للمرأة وعن المرأة وهذه مقتطفات من رسالة الأستاذ عباس إلى أخت في الله :

"اختي الكريمة :

لقد تأخرت في الكتابة إليك وأنا آسف – فالمعروف أن إلقاء السلام سُنة ورد السلام والتحية واجب – لقد سافرت وأنا أشعر بالتقصير في سرعة الرد – حتى إذا استقر بي المقام وأمسكت بالقلم شعرت بالخجل لأني نادرا ما أكتب لفتاة وإن كانت خطاباتي دائما ما تكون للأخ والأخت سواء.

وإن كانت للثانية فمن وراء حجاب. أتمثلها صفات واخلاقاً فأستوحي من ذلك المعنى – ان الحب في الله تعالى التقاء قلوب وأرواح على رسالة وعقيدة.

لأن العقيدة آصرة ووشيجة (إنما المؤمنون إخوة) هو المعنى الجامع لكل الأجناس.

لقد تأثرت كثيراً بكتابك فهو في الواقع هدية ثناء أعتز بها فليس في هذه الدنيا من إنسان إلا وتشده وتأسره تلك اللفتات الصادقة المهذبة.

والإنسانة التي تملك تلك الذخائر – إنسانة غنية، فالإسلام روح وريحان".

"عباس"

وأخيرا وبعد: فهذا هو الكتاب الثاني للاستاذ عباس في سلسلة الدعوة إلى الله حب ندعك معه فانه يحرك المشاعر النبيلة ويوقظ من الغفلة السادرة ويهيج على الكمالات الرفيعة ويذكر الناسين ويوقظ الغافلين.

"سعيد حوي"

ربيع الثاني 1405

يناير (كانون الثاني) 1985

من الإخوة

إلى الأخ عباس السيسي

الرسالة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

أخي الفاضل الحاج عباس السيسي حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعد أن علمت بوجودكم من الأخ سعيد بادرت بالكتابة إليكم شاكرين الله أن حفظكم حتى هذه الساعة راجيا لكم منه تعالى كامل الصحة والسعادة فالله الذي عرفته بكل الإيمان والصدق هو الذي حفظكم وأبقاكم شاهدا له حتى اليوم.

فأنت يا حج عباس صورة حية وقدوة صالحة لكل مؤمن مدقق في إيمانه ورسالته بارك الله فيك وحفظك ودمّم لأخيكم الذي لعلك تتذكره من أيام العريش 1955.

تقبل تحياتي واشواقي ودمّم لأخيكم المخلص.

تحريرا في أول اكتوبر

اليكسان غطاس ابراهيم

1983

رئيس قسم النقابين بورش

العريش

الرسالة الثانية

أخي لماذا أحبك؟

سؤال يسير، غير أن الإجابة عليه أمر عسير اللهم إلا إذا تبدلت الحروف إلى نور والسطور إلى رياحين وزهور.

أحبك لاتحاد الأفكار والآمال والآلام.

لوحدة الهدف وشرف الغاية – للاتفاق في الشعور والشعائر – لان ألفة قلوبنا لا تكون إلا بوحدة أخلاقنا.

فالطيور على أشكالها تقع. والأرواح جنود مجندة لأن الأرواح لا تعزلها المادة ولا تقيدها اللغة أو الجنسية.

فهي تلتحم وتتلاصق بعوامل الحب والصدق والصفاء. وهذا هو الرباط الذي لا ينفصم.

أحبك لأنك النور الذي أضاء لي الطريق الحق. والحق هو أغلى ما في الوجود وأثمن مافي الحياة ولهذا كان "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" لقد كنت قبل أن أعرفك أحب نفسي وحدي – أعطيها كل شيء وآخذ لها كل شيء، لا أبالي بمن حولي لا أفرح لفرحهم ولا أحزن لحزنهم ولا أتألم من أجلهم.

نفسي نفسي هي كل الحياة – فكان حبي لك وحبك لي هو سفينة النجاة حيث طهرت نفسي من الأنانية وحب الذات وأشعلت قلبي بالوهج والحب.

لقد أيقظتني من غفوة وغفلة. فلم أعد وحدي في هذه الدنيا. وأصبح حبي لك تطلعات بعيدة لجيل جديد له هدف وله غاية يحمل الراية بصبر وحلم وعزم – تطلعاتي تطلعات من يريد أن يترك لمن يحب كل ما عنده وما يعرفه من تجارب ليكون معالم لطريق طويل وشاق – حبي لك هو حرصي الشديد أن تسعد بك الدعوة وإن كان الأصل أن تسعد أنت بالدعوة "يمنون عليك أن أسلموا قُل لا تمنوا عَلَىَّ إسلمكم بل الله يمُنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صدقين" – ولكني باحث – أبحث عن رصيد من القلوب لتحمل هذا العبء – بل هذا الشرف – لتبقى الدعوة وتحيا الرسالة.

لكل هذا الشعور الذي نتذوقه ولا ننطقه نسعد به من الأعماق في صمت وحب واشتياق.

كنا قد جلسنا معك جلستين على انفراد، لنستمتع بحديثك، ونفرح برؤيتك ولقد كانتا جلستين رائعتين، تعلمنا فيهما أننا ملك لهذا الدين وأننا بحاجة إليه وما هو بحاجة إلينا. وفي الحقيقة لا أكاد أصف لك شعوري ولا أقدر أن أجسد لك حالتي حينما كانت لحظة الوداع، أحسست وكأني طير في السماء أطير فيها ألهو، تاركا ورائي كل ما يشغل غيري، لقد شعرت آنذاك أن قلبي قد بدل بقلب آخر، قلب أبيض ناصع البياض، قلب محب لك.

أبي الحبيب: ان تلك اللحظة، كانت أكبر درس لي وأعظم موعظة أتعظ بها، لقد كانت هي الحب كله وهي العاطفة كلها التي يشعر المسلم بها نحو أخيه وحبيبه المسلم.

ثم تمضي الأيام وأزداد حبا لهؤلاء الإخوان الذين وجدت عندهم من الحب مالم أجده عند أهلي وأسرتي وها أنا اليوم اعتبر نفسي جزءا منهم وهم في نفسي وقلبي، وأصبحت أعتقد تمام الإعتقاد أن هذا الطريق طريقنا هو الطريق الوحيد لسعادتنا وسعادة البشرية جمعاء، فيه نصرة الإسلام وعزته، فأزداد تمسكا بإخواني وأمضي أدعو غيري من التائهين الحيارى إلى هذا الطريق وأحزن عليهم إن ابتعدوا عن هذا السبيل.

لم أجد الحب الخالص ولم أعرف معناه إلا بين الإخوان، ولا زلت أذكر لقاءنا الأول: كل كلمة كنت أسمعها منك كانت تزيدني ثناتا وتدفعني إلى العمل بجد ونشاط فوالله حضرت لك بعض اللقاءات في الديوانيات فكنت أخرج من الدرس واشعر أنني مقصر لأني لم أدع غيري ولم أدل غيري على الطريق الحق فكنت تقول – حفظك الله – (إنكم جئتم إلى هذه الدعوة بابتسامة وسلام وكلمة طيبة، فلا تبخلوا بهذه الأشياء وادعوا غيركم بهذه الهواتف: الابتسامة والكلمة الطيبة ...) فوالله يا أخي كنت أخرج من عندك وكلي شعور بالأسف أنني لم أؤد واجبي تجاه هؤلاء التائهين، لم أقم بإرشاد أحد منهم.

كم أتمنى يا أبي الحبيب أن يتحقق مافي ذهني وتخطيطي من دراستي للشريعة الإسلامية، والوصول إلى المرحلة التي تؤهلني لأهب نفسي في سبيل الله والدعوة. حقا إنها أمنية وطموح لي يا أبي الحبيب ما أشد شوقي إلى سرعة تحقيقه.

وأتمنى أيضا يا أبي أن أكتب كتاباً أو حتى مجلداً أصف به أحلى العواطف التي تمتعت بها، مع أطيب أب وأرق قلب تعاملت معه في حياتي، أود أن أسجل أشواقي العاطفية معك – دون نسيان ما استفدته من عمل للدعوة من تلك العواطف ومن غيرها – حتى يعلم الناس والمسلمون أن هذا الدين هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يوجد تلك العاطفة وهو الوحيد الذى يهب تلك الروح الشفافة، التي تمتعنا بها جميعا وحقيقة يا أبي لو علم الكفار هذه النعمة لقاتلونا عليها بالسيوف.

في الواقع يا أبي أن الأخ عندما يعتاد ملاقاة إخوانه واجتماعه بهم لا يقدر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه وعلى إخوانه "واذكروا نعمت الله عليكم إذ كُنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً".

ولن يشعر الأخ منا بهذه النعمة وعظمها إلا عندما تنزع منه فيجد نفسه في أحد الأيام وحيدا، لا يجد من يأنسه، لا يجد من يعينه على ذكر الله إن تذكر، ومن يذكره بذكر الله إذا نسي، قد يتصور الأخ في بداية الأمر انه سيكون أمرا طبيعيا جدا، ولن يكون له أدنى تأثير عليه وعلى إيمانه، حيث أنه يعتقد أن الإيمان سهل وتطبيقه أسهل، وما يظن أولئك أنهم يغفلون الواقع لأنهم يعيشون في مجتمع أكلت منه الشهوات، وارتوت منه المعاصي، لن يحسوا بذلك أبدا لأنهم يعيشون بين إخوانهم، يعيشون في مجتمع مصغر للمجتمع الذي يريدون أن يروه فيظنوا بجهلهم أنه هو المجتمع الذي نريد، ويتصورونه بهذه الضخامة التي تجعلهم يهملون الدعوة إلى الله لظنهم أنهم وصلوا إلى الغاية المرتجاة، ولكنهم سيعلمون عظم خطئهم ويندمون على ما فاتهم من فرص في زيادة ذخر إيمانهم، وإعداد أرواحهم ليستطيعوا أن يواجهوا ما واجهوه الآن، ألا وهو بعدهم عن إخوانهم وابتعادهم عنهم.

حقا يا أبي إنها لمعان عظيمة لو تفكر فيها الإخوان حق التفكير، ولو أعطوها كما يعطون غيرها من الأمور من الجدية، لكانوا فوق الأمم بإذن الله ولارتفع بهم إيمانهم إلى ما ارتفع به إيمان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

الرسالة الثالثة

إن مشاعر الإنسان التي تغمره هي سر من أسرار الله تعالى يودعها في قلب من يشاء من عباده، وقد أحسست بمجرد أول لقاء معك بالسعادة والاطمئنان النفسي ولك في قلبي منزلة كبيرة ويعلم الله (أني أحبك في الله تعالى).

لقد زاد حب إخواني في قلبي ومشاعري حينما سمعت منك حديثا عن الحب في الله والعاطفة الإسلامية، فلقد كان هذا الموضوع يشغل عقلي كثيرا وكنت لا أستطيع أن أقوله لأحد من إخواني الذين تربيت على أيديهم لأنني واثق بأن الرد لا يشفي مافي القلب، حتى أنعم الله علي باللقاء بك ففرحت إذ عبرت عما في نفسي وشرحت مافي صدري بكلامك الرقيق.

لقد كانت عواطفي نحو إخواني كبيرة ويعلم الله أنى أحبهم حبا كبيرا وقد امتزجت قلوبنا مع بعضها البعض ومن خلال لقائي معك، عرفت كيف تتوهج العاطفة لا أن تخفت كما قال لي بعض الإخوان، فشغل ذلك عقلي وزاد بذلك همي كيف تخفت العاطفة؟ وكان هذا في ضميري مكتوما حتى سمعت كلامك عن العاطفة وكيفية توجيهها فانشرح صدرى.

طريق الدعوة كما تعلمت منك طريق طويل وشاق. ويحتاج لزاد كبير ويعلم الله ان خير زاد بعد القرآن والسنة هو زاد المحبة والأخوة في الله فلولا الإخوان بمحبتهم الصادقة لما استطاع الإنسان أن يثبت، فالحمد لله على نعمة الأخوة ونعمة الإسلام وأسأل الله أن يجمعنا وإياك في مستقر رحمته.

لقد كانت الجلسات الطيبة المباركة التي جلسناها معك قلوباً ومشاعر – من الأحداث التي نعتز بها أيما اعتزاز فلقد نهلنا من ينبوع قلبك وارتوينا من موارد روحك وحسك حباً لم نعهده من قبل وشعوراً لم نذق طعمه قبل لقياك وعاطفة جياشة صادقة قد زرعتها في نفوسنا وغرستها في قلوبنا فيا أعظم ما زرعت ويا أكرم ما غرست وحقيقة الأمر أننا كنا ندخل بيتك بقلوب ونخرج بأخرى ملؤها الحب والأحساس النقي والشعور العفيف.

والحب هو صفة الأحياء وغريزة الإنسانية ومن لم يعرف قلبه الحب فبطن الأرض أولى به من ظهرها، ومن عرف الحب وارتشف من ينابيعه فنعم القلب هو ونعم الرجل صاحبه.

فالحب حاؤه حياة القلوب وباؤه بلسم الجراح، وهو بين هذا وذاك أمل وخلود وأعظم حقيقة في هذا الوجود.

وأتعجب من أن أجد قلبا مثل قلبك – يا سيدي الوالد – في دنيا ضائعة منحرفة ولكن هو الإسلام وهي مبادئ الإخوان وقديما قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.

ولست أحاول هاهنا أن أصف حبي لك أو بعضا منه إذ أنه أعمق من أن يوصف وأعظم من أن يتصوره الإدراك البشري.

الرسالة الرابعة

ما كنت أتصور أن هذا الحب برنامج لمنهج دعوة وطريقة لتطبيق رسالة اكتشفت أن على قلبي واجبات كما أنه له حقوقاً، لقد توصلت أخيراً إلى أن هذا الحب هو العطاء بعينه من دون أن أنتظر المقابل، لقد تعلمت أن أعطي الجميع من حبي ولا أخص أفرادا معينين.

وبهذاوجدت الكثيرين الذين كنت غافلا عنهم ومقصرا في حقهم كان يمنعهم مني ويمنعني منهم انغماس في ظل حب أناني لأفراد لا يتعدون أصابع اليد الواحدة ولكني الآن أطمئن كل يوم عندما أكتشف أخا جديدا حبيبا إلى قلبي ويزيدني سعادة إشاراتك اللطيفة إلى هؤلاء الإخوة فيطمئن قلبي إلى هذا الاختيار لمشاركتك لي في ذلك.

ومن آثار هذه الوسيلة الجديدة اكتشفت آخرين يعيشون بالقرب منا من الشباب الفلسطيني، فوجدت قلوبا خالية لم تسمع بهذا الحب الرباني، فوجدت تقبلا لهذا الفيض الإلهي.. ولعلها وسيلة لموازنة عواطفي وتوزيع مشاعري بصورة طبيعية.

ولقد ساعدتني في ذلك أحاديثك حول الوحدة الإسلامية المرتقبة، وكم خطر على بالي الوصول إلى نهاية هذا المطاف مهما طال فإن لكل أمر نهاية، وسأدعو الله أن يعينك ويسدد خطاك لتكمل لنا هذا الطريق.

لقد تعلمت منك يا أبي الحبيب أنه ليس شرطا أن يحبك كل من تحبه، ومن هذا ستجد من يحبك وأنت لا تلقي له بالا، وعند هذا الصنف الثاني تستطيع أن تثبت شخصيتك كداعية فتتنازل عن بعض حظ نفسك لتحب من يحبك فيحبك من لا يحبك.

لقد كانت رسالتك الأولى عبارة عن كلمات قليلة (أتمنى ان أراك، فإن كان وقتك لا يسمح فسوف أخضع وقتي لوقتك).

كانت هذه الرسالة غير مفهومة لدي، فأصبحت أسائل نفسي: لماذا بعث إلي بهذه الدعوة، مع أنني لم أره إلا مرة واحدة؟ لماذا كل تلك المشاعر المخفية وراء تلك الكلمات؟ أهي لحاجة ما؟ أم لمصلحة معينة؟ إلى أن أنعم الله علي بفهم الدعوة، فعلمت أنها كلمات قليلة، ولكنها تسد عن ألف كتاب، وأنها أساليب دعوة راقية، لم تقم بها إلا صادقا مخلصا لله، وفي سبيله سبحانه وتعالى، لهذا كانت هذه الوسيلة أول درس أتعلمه في ميدان الدعوة على يد رجل أنعم الله عليه بصدق العاطفة، وبإخلاص العمل، فكان درسا ناجحا والحمد لله أعانني على سلوك هذا الدرب في راحة واطمئنان إلى النتائج، عالما أن الله لا يهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فأرجو الله الثبات على دينه وحسن الطاعة والعبادة له.

إنني أحمد الله تعالى الذي جعل لي رجلا مثلك ألتقي به وأتبادل معه المشاعر والعواطف فأنت تبلغ من العمر 65 سنة وأنا أبلغ 18 سنة، ترى ما هذه العاطفة التي تجعلني أرتبط بك وأحبك حبا غريبا من نوعه!

إنني أحب أن أقول لك بأني وأنا جالس أستمع لحديثك المشوق ونظراتك الجميلة التي أتكلم عن طريقها معك أشعر بأني بعد أن أنتهي من هذا اللقاء سأذهب للدنيا كلها وأجعلها من الإخوان المسلمون، وأحس بالحب الشديد للشباب الذين معنا وأتمنى أن يعرفوا ما أحس به من حب، إنني أتكلم معك كثيرا ولم أفاتحك من قبل إلا يوم أن جلست معك وقلت لك بإحساسي نحوك، أنني مليء بالعواطف والمشاعر، ولكنني لا أقولها لك، فتجدني أجلس أستمع لحديثك وأنا في غاية السعادة والحب.

وإنني أحب أن أقول لك بعض المعاني التي قرأتها عن الامام الشهيد حسن البنا في كلامه عن الدعوة أنه لا قيمة لنا في هذا الوجود بدون هذه الدعوة التي هي بحاجة إلى رجال لكي يقوموا بها ولا تريد هذه الدعوة فضلات الأوقات وأنت من هؤلاء الرجال الذين أراهم ممن يقومون بها ويبلغونها لكل إنسان في هذا الوجود، فأجرك عند الله لن يضيع.

ومن المعاني التي سمعتها منك هي طريقة التعامل مع البشر فهذه معان لم أكن يوما ما أحلم أني سأسمعها، فطريقتك مع الشباب والرجال لضمهم إلى الصف مشوقة جدا.

ومن الكلام والمعاني الطيبة التي أستشعرها في معاملتي مع المجموعات الأخرى هي الحب لهم وليس شرطاً أن نضمهم إلينا بل ان نكسب حبهم لنا، فكما يقول الإمام حسن البنا: أيها الناس كونوا كالشجر يرميه الناس بالحجر فيرميهم بالثمر، إنه معنى جميل جدا يدل على عمق الفهم والتجربة.

إنني اتساءل متى ستقوم دولة الإسلام، ولكن المدة: الله أعلم بها فعلينا أن نعمل لهذه الدعوة وأن نبذل ما في وسعنا من طاقات فكما سمعت منك أن الحواس هي أدوات هامة في التعامل مع الناس (والتفسح في المجلس وأن تصب من انائك في اناء أخيك) وإنني حقا أحفظ كلامك الذي أرجو أن أحوله إلى عمل وحركة.

أسطر إليك خطابي هذا بعد أن طال الافتراق وباعدت بيننا الأقدار.. كل منا في سجنه رغم متعة الحياة الظاهرة لكل عينين.. سجن في داخل النفس.. أتصور نفسي مرات عديدة خلف القضبان واقفا ومن كوة ضيقة مبصرا.. والحياة من حولي تموج بالفتن يردف بعضها بعضا.. الناس أمامي في الطريق إلى المجهول.. ردة إلى الجاهلية ولكن بأسلوب جديد مُقنع بالعلم ومنجزاته.. تدهور في القيم وانحطاط في الأخلاق.. وفساد في العقيدة فإن ناديت بالإسلام فأنا عميل للاستعمار.. وإن دعوت إلى الله فأنا رجعي متأخر.. وإن قلت اتقوا الله أخذت الناس العزة بالإثم.. وحوصرت وحوصر أمثالي في سجن آخر جديد.

فكانت السنة التي أرادها الله فكما قلتم لنا من قبل من لهيب المحنة ينضج الدعاة وتندفع الدعوة.

فإن مبدأكم.. ليس الكبار وحدهم الذين يحبون أن يبلغ إليهم الإسلام في صورته النقية من حيث العمل الجماعي والنهوض بالإسلام.. بل إن القلوب الصغيرة الحديثة العهد بالدعوة.. لأحوج إلى الغذاء.. ليشبوا عليه وطعم الإيمان في نفوسهم.. ونوره في قلوبهم وبشاشته في أرواحهم.. فكانت كتابتك لنا هي المادة الأولى التي تفتحت لها تلك القلوب.. فنحن في أشد الحاجة إليها.. وإلى مراميها العميقة.. وجوها الإيماني التهذيبي المؤثر.. جزاكم الله كل خير.. وزادكم توفيقا وثباتا.. فكنتم هداة لنا نحن الأجيال الناشئة التي تحيط بها العواصف والأعاصير وتنتشر في طريقها الأشواك..

الرسالة الخامسة

أخي عباس: - دعني أخرج عن عصمتي لأعبر عما في نفسي، في لحظات تتألق فيها نفس الإنسان ليناجي فيها الرحمن يتدبر في آيات الله الملأى في الأكوان، وقفات شعورية بين الفينة والأخرى كالبرق الخاطف كاللمعان، ياليتها تبقى! فهي أساس سمو الإنسان، هى زادنا في رحلتنا مع الله ونحو الله في كل مكان وزمان. ما أحلى تلك اللحظات التي يرسل فيها المسلم روحه كي تنطلق بين يدي ربه، هل هي أمل أم حساب أم حب أم تدبر أم كل ذلك معا؟! لكن فيها يحى القلب وتنطلق الأحزان. ما أجمل أن نخرج من قيد الدنيا، نتحرر من كل قيود الشيطان.

ياليت هذا الشعور الأخوي لا يفتر وليت كل تلك الدفقات تبقى متصلة، كي لا تترك الدنيا في أي صورة من صورها مسيطرة على القلب والوجدان.

أخي الحبيب عباس: - كنت عندما أقرأ للإمام البنا في كتاب نظرات في القرآن أشعر بالدفء الأخوي يملأني، كم كنت أسعد عندما أقرأ اللفتات في كثير من الآيات التي لم ألتفت إليها رغم مروري عليها وقراءتها كثيراً من المرات. أعجبت بحسن البنا وبأسلوبه.

لقد شدني حديثك كما كان يشدني حديث البنا – حديث الثلاثاء – فأعود لأسأل نفسي.. هل تفهم لغة الإخوان؟ وأعود لأسأل نفسي.. ما سر فتور الإخوان؟

أيقظت شعوري فنسيت همومي وآلامي، أيقنت بأن الصبر وسيلة المؤمن، لكن أفكر دوما: لا بد من الإمتحان، لبيان صدق الإيمان، فهل أصبر؟

كم هو جميل معنى الأخوة لو أنه يتحقق بيننا. إن وجود الإخوان معا يعين على الصبر والسلوان.

أريد أن أبكي لحالتي لأنني كنت أعيش بعيدا عن معاني الحب في الله ومعانى العمل لله وكسب الأفراد إلى هذا الصف، كل هذه المعاني كانت غير موجودة عندي فأنا كنت ميتاً فعلاً وإن كنت أتنفس الهواء وأتحرك، إنها لمأساة حقا ولكن الحمد لله عندما رأيتك وجلست معك أصبحت أشعر بشعور غريب فتغيرت بعد أن كنت ميتا، فأصبحت أتذوق طعم الحب في الله مع الكثير من الشباب، فأحبهم ويحبونني وتغيرت علاقتي مع الله وأصبحت أشعر بالخوف من الله وازداد ايماني وعبوديتي له، كل هذا عندما رأيتك.

أطلب من هذا القلم الأصَم أن يكتب فيسيل دموعاً ليرسم ما في قلبي من الحب في الله، ثم أحلق في السماء عالياً لأبحث عن عش ألجأ إليه، فلا أجد نفسي إلا وروحي بين أرواح إخواني المسلمين حفظهم الله.

نعم.. تلك هي الساعة الوحيدة التي أشعر فيها بنفسي، وبأننا نعيش في هذه الدنيا الغرورة وأن غيرنا جسد بلا روح يأكل ويشرب وينام كالأنعام لا يعي ولا يحس فبذلك يبقى في غمرة وسبات عميق.. إننا وبحمد الله – بأرواحنا – نتقابل ونتناجى في ظل إسلامنا العظيم الذي كرمنا وشرفنا وبهذه الأخوة الخارقة التي أنارت وستنير – بإذن الله – للبشرية لتنال ما ترجو من النعماء. كم أشعر يا والدي بفرح شديد يغمرني وراحة تملؤني، وصفاء ذهني ينسيني الدنيا وما فيها من هموم.. كل ذلك عندما ألتقي بك وأجلس إلى جوارك، وأناجيك بروحي وأخاطبك بقلبي وعيني، فأتركك وقد شحنتني بذلك الحماس الإيماني الذي يكفيني حتى ألقاك مرة أخرى وتبقى كلماتك ترن في أذني تذكرني وترشدني لما هو خير، فأذكرك بكل خير، وأدعو الله لك بدوام الصحة والعافية لكي تبقى لنا "أترجة" تمدنا بطعم الإيمان الطيب وتزيدنا برائحتها الزكية التي تملأ جونا بالحب والرحمة والأخوة.. آه.. كم تأثرت عندما قرأت كتابك المبارك الدعوة إلى الله حب – لقد شعرت برغبة في البكاء ولا أدري لماذا؟! هل لأنني استشعرت بأنك ستفارقنا يوما ما – والموت حق – كرجل وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، أم أن شعوري نحوك كوالد عزيز هو الذي دفعني إلى ذلك؟! أم الاثنان معا؟! في الحقيقة لا أدري؟!

لقد كان كلامك جميلا فعلا، وفعالا واسأل الله تعالى أن يأجرك عليه وأن يفيدنا بما نصحت وقدمت، وأن يمد في عمرك بما فيه خير وصلاح وتقوى.

هكذا هي العاطفة الربانية.. التي يحكمها الإيمان ويسيرها عقل متصل بالرحمن جل وعلا.. بحر زاخر لا شاطئ له وفضاء رحب لا حد له.. هي العصا الإيمانية التي أحيت القلوب بأريحها وشذاها.. هي السعادة الأبدية بعينها ووصفها!! وهذا للذي يزن حبه بميزان السماء.. ويطهر نفسه وحبه من جراثيم الحب الأرضي؟!!

أبي الحبيب إن الشياطين تحرق الحب في الله.. فلما ران صمت الحب في قلبي... أحسست بأني سلبت شيئا عظيما.. فأخذت أبحث في أعماق نفسي عن الحقيقة.. فالتعمق يفتح أمامنا أبواب عالم رحب مليء بالأسرار.. فبالعمق والصدق وحدهما يتميز الإنسان!! فوجدت أن قلبي لم يزل ينبض بالحب في الله والخير والإيمان.. وشعرت برغبة جارفة وحنين عميق في أن ألتقي بأخ أحبه ويحبني وبصدق.. بعيدا عن جراثيم الأرض.. فأتعامل معه بخبرة سامقة وعاطفة حارة يحكمها عقل وإيمان.. أعطيه ما تعلمته وأخفف عنه ما يحزنه وأشاركه فيما يسره.. ليقول لي.. لساني يلهج بالدعاء لك! وقلبي ستبقى فيه! وموعدي معك جنة عرضها السموات والأرض!! إنها الأمنية التي خفق لها قلبي.. إنه الأمل الذي داعب خيالي. أبي الحبيب.. صوتك معي لن يفارقني ستظل أذني عامرة بصوتك الندي وسأدعو لك الله أن يجعل غدك أفضل من يومك وأن يوفقك إلى طريق الخير والعدل والحق.


الرسالة السادسة

لا تعجب إذ أكتب لك بعد أن افترقنا منذ عام 1954 فالمدة طويلة تبلغ ثلاثين عاما وهي عمر ثانٍ.

ولكن صلة القلوب والأرواح لا تعد بالسنين ولا تحد بالمسافات ولا يقهرها البعد البعيد أو الظرف الشديد، فهي حية باقية زاهرة فالكلمة الطيبة لا تفنى بل تبدأ بذرة ثم تتأصل جذورها مع الزمن حتى تصير شجرة مثمرة.

ولا أنسى أبدا تلك اللحظات التي جمع الله تعالى فيها بيننا في محنة قاسية مريرة مرعبة.

كنت فيها بالنسبة لي واحة ظليلة أستظل تحت أجنحتها الوارفة وأستنشق من عبيرها راحة وسعادة وأنساً وفي مثل هذه الظروف الشديدة تنصهر المعادن وتَتَكَوَّن الجواهر واللآلئ.

ومع شدة هذه الأيام وقوة الحصار على اللقاء والأفكار – فقد سعدت بالكتابة لك بعد أن نقلت إلى مكان آخر.

ورغم أن الكتابة خطيرة فقد دفعني حبي لك أن أظل معك ولو بالكلمة.

ولا أنسى وفاءك البار بالرد على رسائلي بنفس الشعور المبرور.

ولقد كنت أحس رغم أنك تعيش في جو مريح نسبيا إلا أنك كنت ترجو لو تكون في مشاركة مع هؤلاء الذين تحبهم ويحبونك.

ومضت هذه السنون الطويلة وأنا أذكرك دائما بالخير والحب وفي هذه الفترة الطويلة تعرفت فيها على الكثير من القلوب التي تماثلك وهذه هي حقيقة النعيم لو كانوا يفقهون أو يتذوقون.

الرسالة السابعة

كنت أتمنى لحظات أجلس فيها معك يصاحبني حبي وشوقي لرؤيتك ويجالسني فيها أنسك وملاطفتك لي ولإخواني الذين أحب أن يكونوا معنا، أجالسك لأنتفع وأستزيد من خبرتك وتجاربك في طريق الدعوة إلى الله عبر الإتصال الفردي والمحن وأحوال شتى لتكون لي نورا أهتدي به على طريق الدعوة وتكون لي معالم مرسومة واضحة في تحركي في طريق الحق المبين.

وقد كنت نصحتني بالاهتمام بالشباب والارتقاء بمستواهم التعبدي والخلقي والفكري وبهذه النصيحة وضعتني أمام أمر كبير وخطير جداً ألا وهو المسؤولية عنهم أمام الله يوم القيامة ويعلم الله وأنا أكتب لك هذه الكلمات وعاطفتي جياشة وقلبي يشتاق لإخواني ومجالستهم ويتقطع قلبي حزناً وألماً وتدمع عيني كلما وقفت معهم لحظة من اللحظات ثم أفارقهم.

هل تدري لماذا؟ لأنني أفكر في نصيحتك ووصيتك لي وأقول، كيف السبيل للنهوض بهؤلاء الفتية والقلوب الطاهرة الرقيقة المشاعر الملتهبة العواطف حقاً إنها مسؤولية كبيرة تحتاج إلى عزائم لا تعرف القهر ولا الخور ولا الكسل.

ومما عرفنا من إخواننا ان طريق الدعوة يحتاج إلى رجال فكيف يكونون رجالا في طريق الحق والإسلام؟ هذا ما يشغل فكري ويسيطر على قلبي لقد أحببت هؤلاء الفتية وحبي لهم يتطلب أن أكون خادما عاملا على تربيتهم وتفقد أحوالهم ومدارسة مشاكلهم كيف لا وأنا أحبهم أكثر من أهلي وولدي.. ويعلم الله ذلك وليس في ذلك بدعة أبدا فقد قالها ابن مسعود رضي الله عنه لإخوانه "والله لأنتم أحب الي من أهلي لأنكم تذكرونني بالآخرة وهم يذكرونني بالدنيا".

وإنني لأحس أن حب أصحاب هذه القلوب فرض من الفروض والمودة لها فرض آخر، حقاً إنها نعمة ونحن نحسها ونتذوق طعمها لأنها حلاوة روحية كما جاء في الحديث.. (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان.. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله.." وحقا لو يعلم الملوك وابناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بحد السيوف.

إنها نعمة في مقابل أننا نرى كثيرا من الناس يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال ينشدون السعادة بملذات زائفة فانية ولا يجدون من طعمها إلا ما اشتهت نفوسهم في لحظة اللذة ثم تزول ويبقى القلق والهم الذي لا أجر ولا ثواب عليه.

قالوا السعادة جمع مال

قلت التقي هو السعيد

"إني لأحبك في الله" وكم لك من منزلة كبيرة في قلبي وانت من خاصة من أحبهم فالحب عموم وخصوص، وحب الخصوص نستلهم آدابه وأصوله من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم حينما يقول "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحب أسامة بن زيد" البخاري.

ويقول في الأنصار "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق" إن هذه المعاني تدور في قلبي وكم من إخواني الذين أعيش في ظلال محبتهم كم منهم يحبني وأحبه ومنهم من نحبه حب الخصوص ولكنا قد نكتمها في قلوبنا لأن البيئة الجاهلية لا تعرف لهذه المعاني قدرها وقيمتها عرفوا الحب خلاعة وميوعة ونحن – بفضل الله وهذه الدعوة المباركة – عرفنا الحب أصل ومنسك يحس حلاوته من صدق فيه.

أستاذي الفاضل.. ليس أفضل من لحظات صدق يعيشها الإنسان مع إخوانه الذين يحبهم ويحبونه لأن هذه اللحظات زاد على الطريق – وقد وجهتنا جزاك الله خيراً على أن العواطف لا بد أن تلجم بنظرات العقول وإلا صارت عواصف وهذا المعنى نسعى الآن لترسيخه في أذهان أحبابنا الشباب وأرواحهم وقلوبهم.

لقد خلصت نفسي من هم تنوء به، وفجرت ينابيع الهدى واشعلت روحي وأطلقت طاقاتها بعد أن كادت تختنق من فرط ما تعاني من آلام وأحزان شملت كل أطراف الأماني التي كادت تحترق في أتون العذاب لما أقرأه وأسمعه من تخطيطات أعداء الاسلام في كل مكان.

إنها مؤامرات تواصوا بها في الشرق والغرب على السواء.

"قد بَدَتِ البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبرُ" والأدهى والأمر أن يوادهم قوم ينتسبون إلى الإسلام هم من جلدتنا يتكلمون بكلامنا يجيدون التمثيل والنفاق واللعب بكل الاوراق.

لقد وضحت الخيانات وضوح الشمس في رابعة النهار ولم تعد تخفيها شعارات الزلفى ومؤامرات الضياع والامتصاص، ولا خطب الساسة وألاعيب السياسة.

وبعد كل هذه المآسي من مذبحة ديرياسين إلى مذابح صبرا وشاتيلا وما بينها وما بعدها من مذابح ومجازر – أذهلت كل مرضعة عما أرضعت ووضعت كل ذات حمل حملها من هول ما رأيت رأي العين وشاهدت شهود العيان وههنا يبرز سر الحقيقة الخالدة:

"يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء".


من الأخ عباس السيسي

إلى الإخوان

الرسالة الثامنة

أخي

لا تستهن ولا تحقرن من المعروف كلمة طيبة.

فإن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء – الكلمة الصادقة الهادفة – خطيرة إنا تتحرك وتقيم جسرا.. ولا تعجب إذا علمت أن المستشار حسن الهضيبي – عام 1944 استمع إلى بعض شباب قريته حديثا عن دعوة الإخوان المسلمون لأول مرة فأعجب بفقههم وتأثر بصدق حديثهم – ثم كان واستمع بعد ذلك لأول خطبة من الاستاذ حسن البنا وقال في ذلك "كم من خطب كثيرة سمعت كنت أتمنى كل مرة أن تنتهي سريعا.. ولكني هذه المرة كنت أخشى أن يسرع البنا بإنهاء خطبته... لقد مضت مائة دقيقة جمع فيها قلوب المسلمين في راحتي يديه وهزها حيث أراد.

وانتهى الخطاب وأعاد إلى مستمعيه قلوبهم.. ماعدا قلبي فقد بقي في يديه".

هذه ثمرة الكلمة الطيبة – التي قادت حسن الهضيبي – ليكون بعد ذلك خليفة حسن البنا والمرشد العام للإخوان المسلمون.

فاعلم أخي أن الكلمة دعوة والدعوة حركة والحركة عمل والعمل بناء والبناء مجد الإسلام.

لا تخف من الفراق فانت جزء من الدعوة – ففي أي مكان على سطح الأرض سوف تستقبلك قلوب حانية – سوف تجد قلوبا في انتظارك فإن لم تجد فإنه ليس عليك إلا أن تبحث عنها وتصنعها فإن الداعية المسلم لا يعوزه العمل الجاد في سبيل إيجاد هذه العناصر التي تعينه على الطاعة وعلى الحب في الله تعالى.. إذن لا تخف من الفراق فإن عاطفة الإيمان والحب في الله سوف تدفع بك يقينا إلى مثل هذه القلوب لأنك لا تستطيع أن تعيش بعيدا عن هذا الميدان الحبيب.

أرى أن الوفاء من شيم القلوب الكبيرة وأن خسارة قلب، إنما هي خسارة لا تعوض وأعتقد أنك والإخوة على هذا المستوى العظيم من الوفاء. فتعرفوا الأسباب لمن غاب وذاب فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (صل من قطعك وأطعم من حرمك، واعف عمن ظلمك).

ومكرمة تصنع الحب في جماد وتخرج من صخرة ماءاً. سماحة في الخلق، سلوك الأحباب المجيد في رفق ولهفة نادرة. لهفة محببة تصنع من الإنسان روحا تفيض وتحلق في جوف الليل والناس نيام ويقف الإنسان بين يدي الرحمن راكعا ساجدا في خشوع ودموع.

في هذا الغياب الذي يذوب فيه الإنسان بكل كيانه – أتوجه الى الله تعالى بالدعاء لك – أن يحفظك طاهراً نقيا مجاهدا وفيا وهذه هي دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب وهي أشرف عواطف الحب في أقدس مواقف الجلال.. وأمام هذه العاطفة وهذا الدعاء تتضاءل كل معطيات الدنيا التي أتمنى أن أقدمها هدية لك تعبيرا عن حرارة حبي (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وعلى سياق هذا المعنى لازلت أتذكر تصوراتي وتخيلاتي لصورة الكعبة المشرفة حين توجهت لأداء فريضة الحج عام 1943 حيث كنت من أصغر حجاج بيت الله سنا في ذلك الزمان... كنت أتخيل أن الكعبة الشريفة مبنية من الذهب واللؤلؤ والماس لعظم شأنها في تصوراتي حتى إذا واجهت الكعبة انتابني شعور من الهيبة والرهبة والجلال تلاشى معه هذا التصور – حيث أدركت بل فهمت أن الحب والشوق والشعور والإحساس شيء فوق المادة.

ولو كانت الذهب واللؤلؤ والماس وما هو أثمن.

(فإن أعظم من ذلك وأجل، هو حياة القلب ويقظة الروح ووهج الإحساس).

الرسالة التاسعة

أخي

اسمح لي أن أتوجه إليك بهذه الكلمات فهي ليست نصيحة ولكنها تلميحة – لقد تعايشنا في السجون عدد سنين تحملنا فيها من أهوال التعذيب ما يشيب له الولدان وأمدنا الله تعالى بروح من عنده حتى خرجنا إلى ما يسمى بالحرية.

ولكني أراك بعد ذلك قد تجمدت وانطويت وما كان عهدنا ولا وعدنا. فالعهد بيننا جهاد في كل مكان وكل ميدان بالحركة والقلم واللسان بالزحف على القلوب فهي سر حياة الإنسان (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب). صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما بالنا يا أخي الحبيب نتحمل المصائب والأهوال ولا نصبر على الدعوة والبيان.

فليست قوة التحمل في حمل الأثقال والصبر على التعذيب والاعتقال. وإنما القوة والفتوة في قوة العقيدة والإصرار والاستمرار وتخطي الحواجز وتحدي الأخطار – وأوضح ما يكون هذا المعنى ما قاله الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس (إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو اليه على الأقل – إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور. إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره..).

فأين نحن يا أخي من هذا كله!!


الرسالة العاشرة

حين أكتب إليك أستشعر معاني كثيرة جمة تأسست على مدى هذه الشهور الطيبة التي أسعدنى الله تعالى فيها بالتعرف عليك. وحين كانت تلك اللحظة. أو تلك اللمحة. لم أكن اتصور ذلك الذي كان. سوف يكون. كنت أتصور أن تذويب الفوارق بيننا يحتاج إلى زمن من شهور إلى سنين. كنت أظن أيضا أن هذا الوقت ضروري للارتقاء والانتماء. فظني أنك برعم في حاجة إلى الغذاء والماء والهواء وتلك طبيعة الأشياء. كنت في خاطري وليداً أو مولوداً – بذرة أو زهرة في بستان.

وتمضي الأيام فإذا التربة صالحة والبذرة ناجحة.. فأخجلتني ظنوني وأشعلتني شجوني وألهبتني عواطفي نحوك واكتشفت أن المرء بقلبه وإيمانه. وأدركت أيضا أن الإنسان يجب أن يغوص في أعماق القلوب ليكتشف النفائس – كما يغوص الغواصون في أعماق البحار ليكتشفوا اللآلئ.

أنا البحر في أحشائه الدر كامنُ

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي


الرسالة الحادية عشر

الدعوة حركة – والحركة نبض وحياة – والدعوة بلا حركة – كركود الماء وسكون الهواء، فلا تجدد ولا نماء – ومن توقفت حركته مات وقته وفترت همته ومضت فرصته. وعجبي لمن هذا شأنه كيف يغطي عجزه بالنقد والعتاب – مع أنه لو استعاض ذلك بالحركة والعمل لما أحس بعجز الآخرين لأنه يتحرك وليس من ذاق كمن عاق وما أعظم قول الله تعالى (وقُل اعملوا سيرى الله عملكم ورسوله "والمؤمنون") المؤمنون حين يشاهدون يتأثرون ويعملون وينتجون (وهزّي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباً جنياً) هي عملية حركة. ولولا هذه الحركة لما تساقط الرطب! ولو أنك وضعت قطعة من السكر في كوب ماء – فلا بد أن تحركها حتى تذوب. ومفهوم الداعية أنه داع.

أي انسان متحرك يدعو إلى الله تعالى. فهو يلتمس السبيل ويبحث عن الوسيلة ويسعى الى الهدف (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)... وبالحركة اتسعت رقعة العالم الإسلامي بلا حدود. ولولا حركة الدعاة في كل بلد وفي كل اتجاه ما بلغت الدعوة الإسلامية هذه الآفاق.

اسمع يا أخي (عن أبي بي كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده – وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل – وما كان أكثر فهو أحب الى الله تعالى").

إن صلاة الفرد في جماعة أفضل من صلاته وحده بسبع وعشرين درجة هكذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم.

لماذا يا أخي الحبيب... أتدري لماذا؟ حتى يتعارف المسلمون، حتى يتحاب المسلمون. حتى يتعانق المسلمون.. هل عرفت كيف يندبنا الإسلام للحب.. إذا كنت لا تدري فسوف تدري يوم لا قدر الله وتعيش وحدك لظروف خارجة عن إرادتك سوف تشتاق بعمق إلى صلاة الجماعة وسوف تندم على تركها. تصور أنني أعرف ذلك من واقع حياتي ووحدتي وانفرادي. فآمنت وآمنت.


الرسالة الثانية عشر

الحياة بلا قلوب توقع في الذنوب حيث يعيش الإنسان في مجتمع بعيدا كل البعد عن العواطف النظيفة والأخلاق اللطيفة المؤنسة التي تبعد الإنسان عن الغيبة والنميمة والانشغال بدنيا الناس والوسواس الخناس. تصور أن من منافع الحب في الله تعالى أن تجد نفسك منساقا إلى إصلاح نفسك لتكون أهلا لحب هذه القلوب فلا يمكن مثلا أن تحب أو يحبك إلا إنسان مثلك وبهذا الحب تكبر القاعدة المسلمة التي تتعايش بهذا الأسلوب الإسلامي – وإذا اتسع مجال هذا الشعور اتسعت القاعدة بالطبع وآنست قلوبا وأرواحا حية نقية فلا ترضى بعد ذلك أن تنزل لذاك المستوى الرخيص أو الخسيس – ولقد رأيت بنفسي عندكم كيف يبحث الأخ عن أخيه في كل مكان عيناه تحلقان حوله وروحه تبحث عنه إشفاقا وحبا – رأيت عندكم كيف استيقظت القلوب والعواطف وتأججت المشاعر بصورة تحتاج إلى مسار للعمل الجاد المفيد والاستفادة من هذه الطاقات المذخورة في الإنتاج للدعوة – وأنت في رسالتك تقول (لقد بدأتْ تتغير كثير من اهتمامات هذا القلب ... أرجو أن يكون هذا التغيير دافعا إلى العمل الجاد والأسلوب الأمثل ..) وهذا ما أرجوه وأتمناه.

والحقيقة يا أخي الحبيب أن الإنسان حين يشرق في قلبه نور الإسلام وروح هذه العقيدة. فإنه يبدأ متحمسا بطبيعة الفراغ السابق وكلنا هذا الإنسان. والحماس مطلوب إذا رسم له طريق واضح منتج مفيد – والذي لاحظته طوال حياتي – أن كل متحمس يريد أن يسرع الخطى ويتخطى الحواجز من أول لحظة آمن فيها بهذا الإسلام – وأعتقد أن المتحمس يريد أن يرفع عن كاهله عبء هذا الشعور الذي يقلقه بأية صورة كانت ومع الفارق في التشبيه إن الإنسان أو غير الإنسان اذا كان يحمل فوق كتفيه بعض الأثقال فإنه يتمنى بأسرع وقت أن يتحلل من هذا العبء.

لهذا كانت التربية الإسلامية تعتمد على الفهم الدقيق والتربية الصحيحة التي تؤهل المؤمن كي يتحمل عبء دعوة عالمية شاملة قد تستغرق عشرات السنين بل أكثر في سبيل الوصول الى الغاية (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا). ومن أعظم صور الجهاد والبطولة الصبر على المنهاج وطول الطريق وتحمل الصعاب والعذاب وإلا فما ذا استفاد المسلمون الأوائل من رجال الدعوة في عهد رسولنا صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاما غير شيء واحد هو الابتلاء والصبر والثبات (صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة) وأرجو أن تتذوق معنى إن موعدكم الجنة نعم إن ذلك هو هدف المسلم ومن هنا كان لزاما على المسلم أن يضع نصب عينيه الجنة ولا سبيل لها إلا بالعمل الصالح والجهاد المستمر المتواصل حتى نلقى الله تعالى. ومن المعلوم أن جهاد أعداء الإسلام المكشوفين لنا هو أهون من جهاد هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل من أبناء الإسلام المخدوعين بالشعارات البراقة الخادعة ونحن نقضي وقتا طويلا في جدال لا طائل من ورائه إلا تعطيل سفينة الدعوة بل سفينة النجاة عن مواصلة الطريق.

لهذا أقول لك أيها الحبيب – لا تشغل نفسك بالذين يشغلونك عن الدعوة بالمناقشات والجدال وسوء الظن – وتوجه ببوصلة قلبك الطاهر إلى من تحس نحوهم بالصدق وحسن الخلق والحياء، تحدث معهم ولا تتوقف عند أية عقبة حتى لا يطول بك التوقف – ابحث عن قلب تحبه قلب تحس منه صدق العاطفة وصدق الاتجاه، ودع هؤلاء (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (والعقبة للمتقين) سوف تجد عقبات وصداً عن سبيل الله من أقرب الناس ومع هذا فارجو ان تفهم أن ذلك هو طبيعة الدعوات على طول الزمان وفي أي مكان.

يصنع الحب في الله عجبا في تحريك الهمم والارتقاء بالقيم وربط القلوب بهذا الرباط الفريد الذي جمع بين درجات مختلفة يصعب بينها اللقاء فتلين قلوبهم لذكر الله ويكون عبد الله الحبيب من قلبي أقرب قريب. أما سؤالك الخطير – فهل تراك يا أبي قد فهمتني وعلمت شيئا من مشاعري.

ثق أن ما في أعماقنا شيء لا يتحمله غيرنا (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) – فالذي يعلمونه هو ذلك الذي يلمسونه – أما ما بقي فهو غيب القلوب وتطلعات الأرواح. لك وللإخوة الذين أحبهم.

وأملي كبير في إيمانك العميق بالدعوة التي أنت من غرسها من أول يوم بل من أول لحظة وهذا فضل الله تعالى عليك أن نشأت في صميم هذه الجماعة وفي كل مراحلها. فأنت لبنة من لبناتها التي أقيمت في بنائها الشامخ الكبير وحين أقول لبنة إنما أقصد أنك روح وقلب وعقيدة وزمن وتجربة – لهذا فإن المأمول فيك أن تكون محصلة صحيحة تعطي أنموذجا حيا لطبيعة هذه الدعوة ومقاصدها وأعتقد أن أعظم ما ينبغي الالتزام به هو العبادة الصحيحة مع الفقه المستنير في فهم هذا الدين. كل هذا مع حسن الخلق وجميل الصبر والمصابرة والاختلاط بالناس حبا لهم وأملا في جذبهم إلى محاسن الإسلام وليس هدفا لضمهم لدعوة الإخوان اللهم إلا من توجه بقلبه وفهمه إلى ذلك فإن الذي يعيش في رحاب هذه الدعوة سيكون في حياة كلها إشراق وسعادة. ولا تنس أن معايشة الناس بهذا الهدف أصل من أصول الإسلام وليس جديدا في فهم غاية هذا الدين. لهذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"، وبقدر إدراك هذا الأمر نستطيع الارتفاع إلى مستوى الحب والإيثار تقول حفظك الله (لقد زرعت في قلبي مشاعر غذت روحي فاحيتها بعد موتها وانعشتها من بعد ركودها.. هذه المشاعر التي أضاءت ليل هذا القلب بنورها وأطفأت ناره ببردها.. فأخذ ينبض بأحاسيس عفة صادقة ويحس بخلجات طاهرة عذبة) قرأت تلك الإلهامات الروحية بقلبي ووقفت في محراب الصلاة أدعو الله لك أن يبارك هذا الإيمان وتلك النفخات وأن يزيدك من فضله وأن يجعلك نبراسا لتلك القلوب التي تحبك. تقول أريد أن أعبر ولكن كيف؟!!! هذا الذي لم نتفق عليه.. وإنني أرى أننا لن نتفق عليه أبدا لأن هذا الحب الإيماني وهذا الشعور الفياض له عالم غير عالمنا ودنيا غير دنيانا تتخاطب فيها الأرواح وتتناجى القلوب وتتهامس المشاعر لتبوح كل منها بأسرارها وأخبارها.. ولكن اعلم أن هذا يفوق كل تصور ويسمو على كل ادراك بشري.. إن هذا الوصف مجرد ذرة حب أصفها أو أحاول وصفها إنها ذرة من مجرة (مجرة حب في الله تعالى..).


الرسالة الثالثة عشر

قد رأيت دموعك وأنت تغادرني فلم أستطع أن أعبر لك عن شعوري وحزني وسروري أما حزني فهو لهذا الفراق الذي يؤلمني. فراق قلوب أعطتني الكثير مما ينذر في مثل هذا الزمان أما سروري فلأنني أعرف جيدا أن الدموع (حياة) (وصحة) حياة للقلب وصحة للعقيدة. الدموع (رحمة) و (نعمة) بها تفيض الروحانية وتسمو معاني الإنسانية – بها تتلطف الأخلاق وتلين المعاملات. فالعيون التي تدمع هي العيون التي تجمع – فالنفس البشرية تميل وتعشق من يتلطف معها ويخفض لها جناح الذل طمعا في قلبها. وليست إلا العيون وقطرات الدموع تشفع وتنفع (وعين بكت من خشية الله) دموعك هذه نعمة فحافظ عليها بركعات في جوف الليل والخليون هجع – قطرات دموعك عصارة تغسل الذنوب وترطب الأفئدة وتشفع لك بين يدي الله تعالى لتكون عبدا شكورا. وحافظ على قلوب إخوانك.

فإن مشاعر الأخوة والحب في الله هي الزاد الذي يعين على الصبر والقوة والثبات وإنها والله حقيقة فوق الخيال تلك الأحاسيس التي تصنع وتربي الرجال وهي هواتف روحية تتناجى بها القلوب كأقوى ما تصنع المفاعلات في دنيا الصناعات ودنيا الاختراعات. حيث أن قوة العقيدة وقوة الإيمان هي أقوى القوى على الإطلاق. ولكن الكثير من الناس لا يعلمون (سنريهم ءايتنا في الآفاق وفي أنفسهم).

أخي

الإنسان ليس هو تلك الصورة التي نراها بأعيننا فتلك صورة وليست الحقيقة إنما الحقيقة هي أعماق الإنسان وأخلاقه وأشواقه وأذواقه وبقدر ما يملك من تلك المواهب الربانية والخصائص الروحية بقدر ما يقترب أو يبتعد عن معنى الإنسان أو الإنسانية ومنا من يملك بعضها أو يفقدها كلها فلا يعتبر في عداد الأحياء وإن كان يمشي ويتحرك ويتكلم ( لهم قلوب لا يفقهون بها) (ولهم ءاذان لا يسمعون بها) والذين يملكون يستشعرون مقام الروح والقلب والعاطفة والحب هؤلاء الذين اكتشفوا أنفسهم وعرفوا غايتهم وأدركوا سر الله في خلقهم وعرفوا أن لهم غاية ورسالة أسمى وأعظم وأجل وأكرم من تلك التي يعيشها أصحاب المتعة والمتاع والمال والسلطان – لا غاية لهم ولا هدف إلا الإشباع والضياع. فالناس صنفان.. موتى في حياتهم.. وآخرون ببطن الأرض أحياء (يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

فكن كما أوصيتك – قلبا وروحا ومشاعر فإن هذا هو الأحلى وهو الأبقى – وهو الذي يبني ويشيد فلا تحرم نفسك من هذا الغذاء بل هذا الدواء وخذ من الإداريات ما تؤدي به الواجب.. وخذ من العواطف والمشاعر ما يعينك على هذا الأداء (فالحب صنعة الأحياء) ولا تنس أنك في أول الطريق. فاربط قلبك بالقلوب واحرص على الوفاء ولعلك قد أدركت بل عشت معي هذه المرحلة ورأيت كيف أن القلوب هي الحياة. وأن مفتاح القلوب ميسر لمن طلب الحقيقة وعض عليها بالنواجذ، فكن كما أحب لك، تعود على حفظ الأسماء من الألف إلى الياء بكل احترام وثقة وليس من باب المعرفة ولكن من باب الحب والتآلف ستجد في هذه القلوب زادا لقلبك وشفاء لما في الصدور وستعرف أن متاع الدنيا لا يساوي ذرة من متاع القلوب وسوف تدرك حقيقة خالدة أننا خلقنا أصلا لذلك ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اغرس بذرة اغرس فكرة اترك كلمة في قلب من تلقاه فلا تدري في أي القلوب يكون الخير. افتح لها نوافذ الهواء نوافذ الحرية لتسمع وتقرأ وتتدبر. ارعها بالري وري القلوب هو الحدب والحب. فالحب عنصر سريع التلاحم والتجاوب، وتابعها بالعناية والرعاية والاهتمام في السراء والضراء. فذلك هو الهواء وهو الغذاء، مع الصبر على مراحل النماء لتكون شجرة وارفة مثمرة خضراء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

أنا وأنت كراكبي قطار – قطار الدعوة وسائقه قائدها – وقائد الدعوة كقائد القطار يعيش دائما بين الغاز والزيت والنار. وصفير القطار هو الأذان او النداء وشريط السكة الحديد هو طريق الدعوة المرسوم منهاجها المعلوم الذي إن خرج عنه القطار كان الانحراف او الدمار – أو عود على بدء.

للقطار محطات وللإخوان طاقات، فمنهم من يغادر في منتصف الطريق ومنهم من يبقى. ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ومن بتعبه الطريق فقد أعطانا جهد المقل فلا يلام، فعساه يوما يعود ويجود ما بقي بيننا وبينه صلة وقلب ودود. وتوقيت القطار معلوم فالذي يتأخر يفوته القطار ولا تنفعه الأعذار. ومن ركب القطار يلزمه الالتزام بالإسلام في الوقوف والقيام وفي الحلال وفي الحرام وكلما زاد الركاب في القطار انتشرت الدعوة في الأقطار والأمصار. وتلك رسالة الدعاة الذين يحترفون في سبيل الله. ويقدرون عامل الوقت فالوقت هو الحياة.


الرسالة الرابعة عشر

خطابك هزني وأفرحني وسبحت معه سبحات صافية كنت في حاجة إليها مثل هذه الغربة التي طالت وهذه المحنة التي باعدت بيننا، ورسالتك هذه تخفيف وتلطيف. وذكرت شابا من شباب الإسلام في مثل سنك وكنت إلى جواره وهو يقود السيارة سألنى بأحلى عبارة قال وهو ينظر إلىَّ بابتسامة حلوة.. هل الداعية إلى الله تعالى يتعب بهذه الحركة الدائبة والمعاناة في كل اتجاه. قلت له – الحقيقة التي يجب أن تعرفها بيقين أن الداعية لا يتعب بالصورة التي يتعايش بها الناس. لأن الداعية مثله كمثل (النحلة) تسقط دائما على الأزهار فتمص رحيقها ثم تتمثله عسلا نقيا شهيا ثم تقوم فتمشي به في الناس دعوة وحياة.. فليس أسعد من الدعاة. رغم الصدود والعذاب والمعاناة.

لقد قرأت كلماتك في إنصات وروية حتى أرتشف من معانيها رحيقا لقلبي وروحي وسعدت بتلك اللمحات الطيبة في فقه (والسماء ذات البروج) وكيف الهمك الله تعالى هذا التخريج الجميل الصافي المتجرد ففي هذا المشهد – مشهد أصحاب الأخدود – أروع ما وصل إليه التسامي بالإيمان – الإيمان بوعد الرحمن – وأن الجنة كما تقول هي المأوى في الحال بعد أن ألتقى بهم في النار – وهذا الإيمان وهذا الاعتقاد هو سبيلنا الحقيقي للنصر على أعداء هذا الدين – وهو الأساس الذي يجب أن نتربى عليه منذ نشأتنا حتى يمكن للأجيال القادمة أن تؤدي حق هذا الإسلام في صورته الزاهرة الباهرة. لقد علمونا كلمات – "يا أخي إنما تحرص في حياتك على أمرين – تحرص على رزقك وتحرص على أجلك – فإذا علمت أنه لا سلطان لأحد عليهما إلا الله. فلا تخشَ سواه".

اسمعها مني في صراحة. أتمنى أن أجد الفرصة التي أستطيع فيها أن أقول لك كل ما في نفسي. وأهم ما في خاطري نحوك أن أضع يدك على سبيل الدعوة الفردية. فإني أدرك أنك مهيأ لهذا السبيل بما حباك الله تعالى من يقظة في القلب واستفادة بالحواس الإنسانية التي هي سلاح الإنسان – فثق يا... أن أعظم ما تقدمه لهذا الإسلام هو الدعوة بتلك الهبات الربانية التي هي خلاصة (الحكمة والموعظة الحسنة) إنها والله يا... أعذب العذاب في سبيل الله تعالى. لأن الدعوة إلى الله مجاهدة. ومعاناة وحب وتحمل.. ورقة مع الناس ودقة في اختيار الكلمات والألفاظ وعقاب للنفس على التقصير في حق الآخرين وحرص على عمل الخير واختيار الكلمة الحلوة والتعبير الذي له عبير يفوح في اللقاء فيجمع ويؤلف القلوب.

... – أعرف عنك الكثير في هذا الباب. فتزود بالتقوى واشحن قلبك بالحب لكل الناس ولا تترقب الثمرة في القريب فإن سنة الله في الأشياء التدرج ورب كلمة تلقيها فتنساها ولكن الله تعالى ينبتها نباتا حسنا "وما كان ربك نسيا" – ما أعظم هذا الإنسان الذي يختاره الله تعالى لهذه المهمة العظيمة.


الرسالة الخامسة عشر

كان حديثي الذي استمعت إليه بالأمس. عبارة عن هواتف روحية ومناجاة قلبية تبحث عن مدلولها في دنيا الناس. كنت أنشد يقظة في القلوب والوجدان والمشاعر. فإن ذلك هو عين الحياة (أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) كنت أتحدث كما قلت لكل قلب على حدة، حتى أستشعر في أعماقي قيمة الكلمة وقيمة الإنسان – وكم في القلوب من هواتف تلتقطها القلوب الحية المتذوقة "ويا سارية الجبل" ليست بعيدة عن هذا المعنى – وذهبت لصلاة العشاء والتلاوة حية منعشة والقلوب خاشعة – ورأيت أخي ونوره يسعى بين يديه أتمثل فيه كل المعاني الطيبة التي ذكرتها آنفا – ابتسامة عذبة – إشراقة في الوجه، يد حانية. كلمات مهذبة مؤدبة – حياء وبهاء – ذلك فضل الله عليك ولا أزكي على الله أحدا. أراك فأنظر إليك وكلي دعاء أن يحفظك الله ويرعاك. فإن الإنسان الجامد المتحجر الذي لا تنطق ملامحه بروح أو عاطفة أو إشراقة لا يمكن أن تعطي صورته أي انطباع للحب.

كل إنسان حي لا بد فيه ملامح وضاءة متوهجة تلك هي الدوافع الروحية التي تعين وتدفع إليه القلوب وتهفو إليه الأرواح.

وفي هذا المقام أذكر "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من عباد الله أناسا ماهم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم عند الله تعالى قيل: أخبرنا يا رسول الله من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم؟! ".

قال: أولئك قوم تحابوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إنهم لعلى نور وإنهم لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتقون" صدق الله وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم.


الرسالة السادسة عشر

قرأت الرسالة التي تفيض بشعور الأخوة الصادقة التي جمعتنا على هذا البعد البعيد وألفت بين قلوبنا بأشواق نادرة نتذوقها حلاوة وسعادة. والمعاني التي أشرقت بها رسالتك نبعت من معين أدبك الجم ومشاعرك وعواطفك السامية. فكان حسن ظنك بنا أصيل فطرتك ونبع عقيدتك. وسر الله تعالى في صنع هذه الأمة الإسلامية التي تتوافق وتتلاءم في انسجام رائع في الأخلاق والسلوك والمشاعر والهواتف. على اختلاف في المنشأ وتنوع في اللغات بل وعلى أبعاد ما بين المشرق والمغرب. وكل هذا بفضل هذا الإسلام.

أخي الحبيب. كنت أود أن أسترسل في هذه الجداول الرقراقة من معاني القلب والروح.. كي أستروح أو أسترجع ولكني تنبهت أنني أتحدث مع أستاذ فاضل يفيض قلبه بأودية يغترف منها مثلي. فأشفقت علي قلبي حياء.

لقد طلعت الشمس بعد غياب طويل وأشرقت بنورها وضيائها فبعثت الدفء والنشاط والحياة – وأي حياة احلى من حياة هذا القلب وأي دفء أقوى من حرارة الحب في الله تعالى. وأي سعادة ينشرح بها الصدر وتسمو بها النفس من سعادة اللقاء.. لقاء الأرواح وتعانق القلوب. كانت مفاجأة سارة حين استلمت رسالتك التي كنت أرتقبها بصبر وشوق. حتى إذا بلغتني لم أشأ أن أقرأها حتى أتهيأ لها روحيا. لأني أعتقد أنها من نبع قلبك وهواتف أعماقك ولابد من أن تستقبل بنفس الشعور وبنفس الإحساس... خلوت بها قراءة وتدبرا لأن لغة الكتابة لا يدرك سرها إلا بما يتلألأ من أعماقها كما لا تعرف الحاسة إلا بتلك التوهجات المضيئة ولا تبدو تلك التوهجات قوية مؤثرة إلا حين يشتد الظلام ويشتد البعاد وتتباعد البلاد. بهذا الفهم وبهذا الشعور قرأت كتابك فتأثرت جدا حتى وضعته أمامي كي أعود إليه لأتنفس من عباراته عبيرا يهزني ويفرحني ويعزيني عن هذا الفراق الذي طال وكم كنت حزينا لأني لم أسعد بالجلوس معك طويلا في رحلتى الأخيرة.

وأذكر يا أخي الحبيب – حكاية لن أنساها ولعل فيها الإجابة الصحيحة على ما قدمت من سطور – حين ألقيت في زنزانة وحدي بالسجن الحربي لمدة شهرين – لم يتوقف عقلي لحظة عن التفكير المتلاحق – فيما سيأتي به القدر – لقد كنت أتوقع (الإعدام) بمنطق الطغاة. فالقضية كانت خطيرة – وفي الوحدة والقلق والاضطراب والخوف والفزع مما يدور حولنا يعود الانسان دائما إلى الماضي ولا يرى من حياته إلا المعاصي والذنوب ونادرا ما يتذكر عملا صالحا قدمه بين يديه.

كنت أتصور أنني سوف أموت فاقول لنفسي وكيف أموت شهيدا وذنوبي كثيرة وهل يقبل الله مثلي في عداد الشهداء وتروادني نفسي. فتقول لي وكيف أموت وأترك هؤلاء الإخوة الذي يشتعل قلبي بهم حبا وهياما وأنا لا أستطيع أن أفارقهم لحظة!؟ ثم تقول لي نفسي أيضا ولماذا لا أعيش حتى أرى مواكب الدعوة وهي تنتصر وأعلامها ترفرف على ربوع العالمين!؟.

فأنا أريد أن اموت شهيدا حتى أتخلص من موقف أو مواقف الحساب العسير بين يدي الله تعالى. وأرى ان ذنوبي الكثيرة لا ترشحني لهذا المقام العظيم – فأقول لنفسي وإذا قضى ربك أن تكون شهيدا – أليس معنى هذا أن الله تعالى قد صفح عنك وغفر لك ذنوبك!؟.

هواتف نفسية أحاطت بي من كل جانب.

ثم شاء الله تعالى – أن تأخذني سنة من النوم – ويأتيني شاب لطيف من هؤلاء الذين أحبهم في صورة مفرحة تشرح الصدر – وقال لي: مالي أراك في حيرة وبلبلة!! ألست تريد وتتمنى أن تقضي شهيدا؟ ألست تتطلع إلى أن تعيش مع إخوانك الذين تحبهم؟ ألست تريد أن تعيش حتى ترى أعلام الإسلام ترفرف على ربوع العالمين؟ قلت نعم كل هذا هو الذى أنشده وأتمناه – قال: إذن فلتكن الشهادة – فان الشهيد حي لا يموت – وسوف تغفر لك ذنوبك – وسوف تلتقي بإخوانك الذين تحبهم إخوانا على سرر متقابلين وسوف ترى مواكب الدعوة وهي تحقق النصر للمسلمين ألم تقرأ قول الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما ءاتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم..) فاستيقظت على أعظم بشرى في هذا الوجود ومنذ ذلك الحين وأنا أنشد هذه الأمنية الشهادة في سبيل الله ليتحقق لي كل هذا – اللهم آمين.


الرسالة السابعة عشر

تحدثت إليكم في ذلك اللقاء بما شاء الله أن يكون – بكل كياني وأشجاني بكل حبي وقلبي بكل إحساسي وأنفاسي بكل دعاء يجمع تلك القلوب على الحق والخير والنور. لا زلت أتصور كل الوجوه من كل الوجوه. تلك الصورة محفورة لا تغيب عن ذاكرتي. الجالسين أمامي والذين عن يميني والذين عن يساري لأني كنت أتحدث إلى كل أخ منهم كانه حديث خاص. كنت أحس بحرارة أنفاسهم واتصال قلوبهم بقلبي لأني كنت أحاول بصدق حبي وتعاطفي ودعائي العميق. فإن صفاء القلوب يجمع ويربط ويوثق، وها أنذا أؤكد برسالتي هذه المعاني:

والرسائل أنواع كثيرة – فهناك لاسلكية الأرواح وتلغرافات القلوب وجوابات المشاعر وتلك يا أخي موصولة بالله تعالى لا تنقطع ولا تموت لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف أما هذه الخطابات فهي النوع الثاني الذي يحقق الإنسان به ذاته ويصل به إلى قلب أخيه ويقول في هذه الرسائل ما يعجز عن أن يقوله بلسانه والإنسان الذي تعتمل في نفسه أشواق من الحب كثيرا ما يعجز عن التعبير عنها فتكون هذه الكلمات بعض الوفاء للقلب الذي أحبه. خطابك الذي قرأته عدة مرات متوالية. فجر ينابيع وأيقظ عواطف وحرك كوامن. والله إنها مشكلة غائبة عن أولي الألباب. غائبة عن الدعاة أو الذين يظنون أنهم دعاة – ياقوم تعالوا – ياقوم استيقظوا – ياقوم أفيقوا!! إن الأخ... الحبيب وأمثاله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في حاجة اليكم في حاجة الى قلوبكم في حاجة الى عواطفكم في حاجة إلى ترشيدكم، فإنه أمل.

الأمل الذى يعطينا الدروس في حب الناس وسياسة النفوس والذي يؤكد تأكيدا واضحا أن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.


الرسالة الثامنة عشر

إن من رسالتنا تغيير العادات والتقاليد التي تخالف روح الإسلام، وإن من أخطر ما استدرج إليه المسلمون هو (الطبقية) و (العنصرية) التي فرقت بين الأمة الإسلامية. فالغني شيء والفقير شيء والطالب شيء والموظف شيء والعامل شيء آخر!؟ كل له مقام معلوم فلا تقارب ولا تعارف ولا انسجام، مع أن المسجد قد ساوى بين الجميع وقضى على تلك الفوارق بالتقارب والأحكام والعبادات (إن أكرمكم عند الله أتقكم).

جددت دعوتنا في هذا القرن روح الإسلام فغيرت هذا الواقع من الفرقة والذاتية والأنانية إلى وحدة قلوب وتعاطف ومحبة فكانت (إنما المؤمنون إخوة) واقع حي متحرك متميز – كانت تطبيقا عمليا أعاد للأذهان صورة من أخلاق المهاجرين والأنصار – مما فتح أمام المسلمين الأمل في عودة لسالف مجد المسلمين وكانت دروس التربية التي جمعت كل الطبقات في جلسات روحية ومعايشة الأسر عن قرب في حب وأخوة فرفعت مستواها بالتحاب والتراحم والتلاحم – فذابت الفوراق وانمحت العصبيات وأصبحنا بنعمة الله إخوانا.

فما بالي لا أرى شخصية العامل في جلستنا وبين عيوننا كما كان ذلك في سابق عهدنا، فقد كان قسم العمال جناح جهودنا وتوازن حركتنا – إني أحس بانفصام في التصور الشامل لجامعة القلوب وأحس بنقص في بنية الجماعة وضعف في تركيبها – إن جسم جماعة الإخوان جسم متكامل حيث يكمل بعضه بعضا ثقافيا وفنيا واجتماعيا وتعاونيا عند الحاجة والاقتضاء ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.

كأني بالشباب والطلاب لا يستلطفون غيرهم ولا ينسجمون مع غيرهم. وهي غفلة في إدراك كنه الدعوة وأهدافها وتكاملها وشمولها. والدعوة ليست عواطف واستلطاف – ولكنها في الأصل انقاذ لكل المسلمين – فالعواطف وسيلة تقارب وتآلف لبناء الأمة على اختلاف الثقافات والبيئات والطبقات – لأنها دعوة لجميع الناس من مختلف البلاد والأجناس. لتذوب في قول الله تعالى في حديثه القدسي – (يا ابن آدم جعلت نسبا وجعلتم نسبا فقلتم فلان بن فلان وقلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم – فاليوم أرفع نسبي وأوضع نسبكم).

إن دعوتنا انقلاب لتحطيم الفوارق والعوائق بانسياب القلوب في القلوب وتعانق الأرواح بالأرواح.

فاندماج الأرواح لا يتلاشى.. بملال أو يبتلى بنفاد

والتقاء الأجساد شهوة لحم.. تتلظى وتنطفئ كرماد

واندماج الأرواح في ملكوت الحب.. دمج الآباد في الآباد

إن صلة القلوب لا تحتاج إلى أكثر من صدق النية وصدق الحب وإن كلمة واحدة في نظرة صادقة تكفي لإيقاظ القلب وانتعاش الروح ثم تمضي الأيام لتحقق الأحلام وأعظم ما تفضل الله به علينا في هذا الوجود. هو نعمة الحب فيه والفناء في سبيله – وفضلا عن ذلك الأصل العظيم فإن الإنسان في حاجة إلى قلب يحن له ويئن معه.

ولا بد من شكوى إلى ذى مروءة. يواسيك أو يسليك أو يتوجع ففي كل الحالات لا تستطيع الانسان أن يعيش وحده – (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين) ولقد سررت جدا حيث أنتج حبي لك ثمرات كثيرة وهذا هو الأصل في دوافع الحب في الله تعالى "أن تسود هذه العاطفة وتجود بالخير والنماء".


الرسالة التاسعة عشر

لم أكن أتصور أن تأتي هذه اللحظة التي تنساب فيها معنا على فطرتك الحلوة النقية – بهذه الأخوة الصادقة بكل بساطتها وطبيعتها بلا تكلف ولا قيد، بل بالمشاهد التي تعودتها في بيتك وبين إخوانك ومحبيك. لاشك أنني أتذوق تلك اللمحات بعمق وأجد فيها كل ما كنت أطمع فيه منك فإن هذا لهو الحب الصادق الناطق المنعش للقلب والروح. إن الذي يحدث بيننا شيء فوق عادة الناس ومألوفاتهم. إنه في الواقع له مدلول كبير لو تعمقناه – ليس الأمر مجرد صلة حب عادي – فاعلم أن كثيرا من الناس يتحابون – ولكن هناك فرق كبير بين حب العقيدة وحب النتيجة تراهم جميعا وقلوبهم ستى – لهم في حبهم مآرب لا يكشف عنها إلا الزمن – أما حبنا نحن فلن يزيده الزمن إلا ثقة وتأكيدا – وما دونته سيرة الصحابة الكرام والتابعين وتابعي التابعين نور يضيء جوانب الدنيا وتتيه به فخرا على العالمين أصارحك يا أخي بأنني شديد الفرح بما تعطيني من قلبك وما توليني من اهتمامك ولي عظيم الأمل أن يسود هذا الشعور كل القلوب وأن نبعث من قلوبنا تيارا يحمل للإخوة نفس الشعور الذي نحياه ونسعد به (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فليس هذا الحب وقفا علينا وحدنا فهو حق الجميع علينا، هو النور الذي يكشف طريق الحق للناس ويعطينا فرصة حتى تتفتح قلوبهم لنا فيعرفوا دعوتنا ويكونوا بعد ذلك درعا لنا – فما أحوجنا أن نحمل هذه العقيدة إلى القلوب الظامئة إلى الحق والخير والهداية – وليس غيرنا هو صاحب هذا الواجب لأن الله تعالى قد منَّ علينا بما لم يعرفوه أو يتذوقوه (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) نعم إنهم لا يعلمون – لهذا فالمسؤلية تقع على عاتقنا وتحاصرنا أن اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.

ومع أني أعيش في بلد تعبر فيه الأنهار وتغطيه الأشجار وتعطره الأزهار. وكل ما تراه يلفت الأنظار. وأمامي سماء تموج بالطائرات الغاديات الرائحات فضلا عن آلاف من مختلف أنواع السيارات. ولا أقول لك عن مظاهر بعيدة عن خيال أمثالنا. كل هذا قد يتوه فيه الإنسان ويسبح فيه الخيال ومع كل هذه الصور العجيبة فإن قلبي يهفو دائما إلى قلوبكم ويتعطش دائما إلى لقياكم ولا يجد متعة ولا سعادة إلا حين يلتفت بقلبه وروحه حيث أنتم وتلك أعظم خصائص الحب الذي جمع الله تعالى عليه قلوبنا ووحد به صفوفنا وتحدى به أعداءنا. حقيقة خالدة تتعالى ونستعلي بها على كل مظاهر هذه الحياة ومتعها التي فشت في كل قطر وصقع. نحن نعيش بهذا الشعور على البعد البعيد فلا تخدعنا ولا تلفتنا عنه مباهج ومفاتن ومغريات هذه المدنية. ذلك لأننا قد اعتصمنا بالله تعالى (ومن يعتصم بالله فقد هُدىَ إلى صراط مستقيمٍ).

واسمع يا أخي الحبيب. أحدثك – إن الفرق بين الحب في الله وغيره من مختلف أنواع الحب ومقاصده – أن الحب في الله تعالى – لا تتعدد مقاصده – فهو لله وحده والحب لغير الله له مسارب ومآرب – والفرق بين الحبين هو الفرق بين الظلام والنور – والظل والحرور – ويفصل بينهما (خط دقيق) هو (النية) والنية محلها القلب. والحب في الله تعالى. نور وضياء وبهاء. وراحة في القلب وانطلاق في الروح وسمو في النفس وسعة وانشراح في الصدر أما دون ذلك فهو ظلام في النفس وران على القلب.


الرسالة العشرون

النظرة الصادقة الصافية (دعوة) وأنت... حباك الله بنعم كثيرة فاصنع بها للدعوة حياة واجعل من نفسك مبشرا بالقلب والروح والعاطفة والنظرة، سوف تجد أنك قد أديت بعض الواجب – لا أدري لماذا لا أملك دموعي لا أدري لماذا؟ ألأني سعيد بأني قد دخلت إلى قلبك أم لأني سعيد بانك ستكون كما أحب لك – خادما أمينا لهذه الدعوة.

أخي الحبيب الحقيقة أنك أسرتني وأشعلت قلبي والهبت عواطفي، ومن الكلمات ما يهز وينعش وينبض وقولك (أقسم بالله العظيم أني أحبك في الله تعالى) قسم معطر بالإخلاص، ندي بالإيمان عميق الدلالة على سمو النفس وصدق العاطفة ومبلغ التأثر بهذه الحقيقة التي تعيش في أعماقك ووجدانك لقد سمعتها واستقبلتها بكل حواسي ولكن لم أستطع حينها أن أبلغ مداها وأن أرتفع الى مستواها فأبعث إليك بصداها – فكان سكوتي عجزا عن الوفاء بحقها، حتى استيقظت عليها تتفاعل في أعماقي في نداء، كأنه انشودة أو تغريدة أو تسبيحة في محراب الصلاة، استيقظت على روح تهفو وتحلق فإن الحب في الله تعالى يرقى بالإنسان في سماء لا تطاولها سماء – الدنيا كلها لا تتسع لسبحات نفسه وتطلعات روحه وانبعاث أشواقه لما لهذا الحب من أشواق وآثار عميقة الأثر في انفساح القلب وانشراح الصدر وإيقاظ الهمة وانسياب المعاني في جداول رقراقة تغذي وتنعش.

أكتب لك رسالتي هذه وأنا في قمة السعادة وانشراح الصدر. فقد كانت زيارتي الأخيرة لكم من أمتع الزيارات التي سعدت فيها برؤيتك وإخوانك على هذه الصورة المشرقة وأصارحك بأنني تأثرت بك كثيرا لما وجدته منك من مشاعر وعواطف حية نابضة كستني بروح من السعادة والإطمئنان – وقد زاد انفعالي بهذه الأحاسيس ذلك الحدث الكبير بنجاحك وتوفيق الله لك في الثانوية العامة بهذا المجموع الرائع 95% والواقع اننا نهنئ أنفسنا جميعا بهذا النجاح الذي توج رؤوسنا بالفخر والإعتزاز، أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقك على الدوام وأن يحفظك ويرعاك لنا وللإسلام. والأمل في الله كبير أن يحقق بك لنا في المرحلة القادمة في الجامعة ما نصبوا اليه من داعية مسلم يرسم طريقه ويأخذ سبيله بنفس الروح ونفس الثقة التي آنستها منك والتي أغبطك عليها في الفهم الدقيق لمعاملة ومعالجة النفس البشرية بالتي هي أحسن. كما يجب أن يكون ذلك مع كل الجماعات وليس فقط مع الأشخاص ولقد استمعت إلى كلمتك في حفل السمر وأدركت منها ما تتمتع به من نظر بعيد وصبر جميل حتى تؤتي الثمرة أكلها... وأعتقد أن هذا الأسلوب كما أنه مجد ومفيد ومنتج فإنه مع كل هذا ممتع للنفس والقلب وإني علي يقين من أنك سوف تفتح قلبك لكل محب لك وكل مقترب منك وكل مستفسر عن سؤال. ولا تنس أيها الحبيب أن حفظ الأسماء عامل مهم جدا في التقارب والتحاب والألفة ولا ينبئك مثل خبير. وكل تلك المعاني ليست من عندنا كما تعرف. فإن الآيات الكريمة والأحاديث النبوية التي لا تعد ولا تحصى قد وضعت لنا العلامات على الطريق. ومنها نستهدي الهدى والرشاد والحق والنور. ولعلك تذكر يوما تحدثت في خاطرة لنا – ونوهت عن ضرورة توسيع دائرة العلاقات الأخوية بين الجميع حتى لا تبقى هناك ازدواجية بين الإخوة – واعتقد أن ذلك لايتم إلا عن طريق تذويب هذه العواطف في أكبر مجموعة متحابة فحين ذاك سوف لايجد أحدنا وقتا لواحد فقط يتحمل أعباء العمل الجماعي تتفجر أمامه ينابيع الحب لكل أخ على السواء وفي هذا يمكن توزيع تلك العواطف في روافد كثيرة وما اشد تطلعها لمثل تلك العواطف على مستوى الجميع.

إن ود القلوب نادر وإن العثور على قلب أندر من الماس في دنيا الناس. وإن الحرص على قلب هو أعظم من الحرص على كنز فإن النفوس معادن أغلاها وأحلاها من كان له قلب يفقه ويتذوق ويتألم.

لا تنس أن في الكتابة حياة وسعادة فلا تهمل في الوفاء بحق قلبي أما ماذكرت في قولك البريء اللطيف – (ولقد تجلت أسمى آيات الحب في الله في الليلة الوداعية أحسست بأني سأترك دولتي الإسلامية المصغرة لأرحل عنها مدة طويلة... طويلة. وفي تلك الليلة تسللت أول دمعة من نوعها من عيني جارية على خدي.. شعور طالما افتقدته في حياتي. لقد كان ذلك الشعور في الماضي محط استهزاء وسخرية مني واستغراب في نفس الوقت، ولكني بعد ما جربته عرفت الحقيقة!! الحقيقة أني أحببت كل من كان في المخيم.. ولقد أحببتك أنت يا أبي حبا في الله)

هذه السطور تسجل لك في ميزان حسناتك إن شاء ربي إنها تسجيل صادق يبرق ويتلألأ – منطق الحق والشعور بالحقيقة! ومن يعرف ويتذوق يستطيع أن يفرق بين الماضي والحاضر. ومن يقل قولك هذا... يجب أن ينقل هذا الشعور الحي إلى تلك القلوب التائهة الحائرة والغائبة عن الوجود الإسلامي. أنت تقول لقد كان ذلك الشعور في الماضي محط استهزاء وسخرية مني واستغراب في نفس الوقت!! ياليت قومي يعلمون – ياليت إخواني يهرعون إلى قلوب الشباب يحملون في أيديهم مشاعل النور وفي قلوبهم حرارة الحب. يا أخي الحبيب هكذا عرفت الطريق فالزم واعمل وكن رسول خير وبر ومرحمة. (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا).


الرسالة الحادية والعشرون

ومضت الأيام تحقق الأمل الذي كنت أنشده وأتطلع إليه بشوق شديد. وتحقيق الآمال يحتاج إلى صبر. والصبر يحتاج إلى صدق.. والصدق والإخلاص أساس الوصول إلى الغاية والنهاية. ومنذ كان اللقاء الأول الذي لا ينسى، سقطت في قلبي بذرة طيبة. أخذت أغذيها بصدق التوجه إلى الله أن ينميها ويقويها، راح قلبي يهفو إلى مطلع الثمرة رويدا رويدا حتى ظهرت براعمها نقية ندية.

.. ولكن كما قلت لك الصبر الجميل يعطي الكثير، إذ تفتحت الأزاهير وانطلقت المعاني وتجاوبت القلوب وتعانقت الأرواح وطال الحديث وانفرجت الأسارير وانبسطت الأحاديث وانسابت المشاعر في صدق وحب وإخلاص وكنت معكم بكل قلبي وبكل كياني – أما حديث نفسي فهو شيء لايقرأ ولا يكتب إنه فوق التصور والخيال كأني أريد أن أحتفظ به لأيام قادمة إذا شاء الله لي أن أبقى لأستزيد من هذا النعيم – نعيم الأخوة والحب في الله تعالى ذلك النور الذي هوهبة الله لمن أحبه واتضاه إني أطمع في مراحل أوسع وخطوات أبعد حتى تفيض قلوبنا بما تحمل لكم من معان وأحاديث وتجارب. وتلك أمنية عسى الله تعالى أن يرحمنا ويعطف علينا للوفاء بها.

حين أجلس معك يا... لا أجد نفسي في حاجة إلى أن أخفي عنك شيئا – بل إن الواقع يجعلني أريد أن أبوح لك بكل خصائص نفسي وأغوارها – وتلك أسمى ما يبلغه المحب لمن يحب، ليس من السهولة على الإطلاق أن ينفسح القلب وينشرح الصدر وينطلق اللسان إلا لمن رق إحساسه وتعطرت أنفاسه واستيقظت حواسه فكان هذا التلاحم والتراحم، وهذا الحب الذى يفيض بلا حدود. في كل يوم له حكاية، أو مثل وآية، لا ينتهي حده ولا ينقطع مدده – لأنه هو الحب في الله والله حي لا يموت.

.... يوم عرفتك كان يوما من أسعد الأيام، قال لي الأخوة اليوم سوف نعرفك (بهدية) اسمه.. قلت لهم سوف أعرفه باحساسي، فما أخطأت فراستي فيك، وما زاغت عيني عن عينك حتى اقتربت مني، وشددت على يدك وتحدثت معك كلمات قليلة ولكنها غالية.

وددت لو أنك يا ... الحبيب – أمسكت بالقلم وكتبت لي رسالة ولو قصيرة، ردا على إحدى خطاباتي – لا تقل إن ذلك صعب أو أن مقدرتي لا تطاول مقدرتك – أو أن اسلوبي لا يقارن بأسلوبك كل هذا لا يعنيني أبدا ولا أتوقعه – ولكن الذي أطلبه هو أن تكتب من نبع قلبك الطاهر تقول الكلام الذي تحس به في أعماق نفسك – بأي أسلوب... تحدث عن روح ومشاعر الحب الذى تحسه نحو إخوانك الذين تحبهم – تحدث يا... كما يريد الله لك أن تتحدث وليس معنى ذلك أني اضغط عليك لا وإنما أنا أريدها طوة هامة في سبيل النهوض بالكتابة والتعبير وخاصة وأنت طالب ولا بد من ممارسة الكتابة من الآن.

كم أتمنى أن أضع بين يديك معالم على هذا الطريق الفسيح في عالم النفس البشرية ولكني أكتفي بلمحة أو إشارة. إن أعظم ما يجب أن يتميز به مثلك في هذا السبيل أن يوقن أن لكل إنسان مجالاً للخطأ والصواب. فيكون علاج الخطأ دائما (وليتلطف) (لينوافي أيدي إخوانكم) وأن تكون في علاج ذلك طبيبا وحبيبا. القدوة الصالحة في الكلمة والحركة هي العلاج الأمثل والأحسن... إن تقابل المخطئ بابتسامة خير من أن تبدأه بالحساب. حاذر أن يتغير عليك قلب فإنها خسارة لا تعوض. ثم أقول لك أنت أيها الحبيب. إن سماحة الوجه ولطف الحديث وجاذبية العاطفة تطفئ غضب من يأتيك غاضبا. إننا نملك أعظم أساليب الدعوة وصدق الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) في أنفسنا أيها الحبيب ذخائر ودوافع وأحاسيس ومشاعر يلين بها الحديد فاللين أقطع من السيف لو كانوا يعلمون.

يعجب الناس من هذا الحب ويندهشون لانهم تعساء لا يتذوقون. (فذرهم يخوضوا ويلعبوا) (قل أعوذ برب الناس) ولما كان الناس في غفلتهم سادرين – كان علينا واجب مقدس أن نسعى إليهم بهذا النور (ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم).

عباس السيسي