الحلقة السابعة: زيارتي الثانية للشرق الأقصى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحلقة السابعة: زيارتي الثانية للشرق الأقصى
  • إلى ماليزيا
  • إلى سنغافورة
  • إلى الفلبين
  • إلى طوكيو باليابان
  • إلى كوريا
  • إلى هونج كونج المحطة الأخيرة

الزيارة الثانية للشرق الأقصى

تحدثت عن زيارتي الأولى للشرق الأقصى قبل ذلك، عندما زرتها في أواخر صيف سنة 1974م، في رفقة طيبة، كانت تضم فضيلة الأخ الحبيب الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، والأخ العزيز الأستاذ سيد أبو يوسف مفتش اللغة الإنجليزية في وزارة التربية والتعليم، وقد استمرت نحو ثلاثة أسابيع.

وبعد أربع سنوات أراد صديقنا الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم كاظم مدير جامعة قطر: أن ينظم لي رحلة أخرى إلى بلاد الشرق الأقصى، ألتقي فيها برجالات الإسلام، وبالجمعيات الدينية، والحركات الإسلامية، والجامعات المعتبرة، في كل من: ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة والفلبين وهونج كونج وكوريا واليابان.

وقد كتبت الجامعة إلى هذه البلدان كلها، وإلى أهم الشخصيات التي سألقاها، محددة بتواريخها، فكانت رحلة منظمة غاية في التنظيم. وكان لسكرتيرة د. كاظم السيدة (إيفون) دور أساسي في حسن ترتيبها، بالبرقيات المتتابعة (لم تكن الفاكسات قد ظهرت بعد)، وبالاتصال الهاتفي عند اللزوم، حتى انتظمت الرحلة من بدايتها إلى نهايتها بحمد الله.

وكنت قد طلبت من وزارة التربية أن يرافقني صهري الأخ الأستاذ سامي عبد الجواد، الأمين المساعد لدار الكتب القطرية، لمعرفته باللغة الإنجليزية، ولئلا أكون وحدي في هذه الرحلة الطويلة، وقد قال العرب: الرفيق قبل الطريق. ووافقت الوزارة مشكورة على ذلك.

إلى ماليزيا

كانت ماليزيا المحطة الأولى في سفرية القرضاوي كانت المحطة الأولى في هذه السفرية إلى ماليزيا، وقد مكثنا فيها عدة أيام، وألقيت فيها عدة محاضرات، وزرنا فيها بعض الولايات، واشترينا بعض المشغولات المصنوعة من الفضة من حلي النساء.

ومما أذكره في هذه الزيارة: المحاضرة التي ألقيتها في جامعة الملايو، وقد وجه إليّ عقبها سؤال محرج، والذي وجهه هو رئيس الجامعة (إنْكو عزيز) وخلاصة السؤال: إن الشيوعيين يفحمون المسلمين بسؤال لا يجدون له جوابا حول الزكاة. يقولون: إن الإسلام ألقى عبء الزكاة على الفقراء، وأعفى منها الأغنياء، وذلك أن المجلس الملي أو الشرعي في الولاية يأخذ الزكاة (العشر) من زراع الأرز أو القمح أو الشعير مثلا، وربما كان الزارع مستأجرا للأرض، وليس مالكا لها، ولكن المجلس لا يأخذ شيئا ممن يملك حدائق جوز الهند أو التفاح، أو مزارع الشاي أو المطاط أو غيرها مما يجلب على صاحبه الملايين، ومع هذا لا يطالب من الزكاة بقليل ولا كثير، حيث يقول الفقهاء: هذه الفواكه وأمثالها، وكذلك الشاي والمطاط لا يجب فيها شيء من الزكاة!!

قلت لهم: إن المجالس التي تجمع الزكاة عندكم ملتزمون بمذهب الشافعي، الذي لا يوجب فيما أخرجت الأرض زكاة، إلا فيما يكال وييبس ويدخر، وما عدا ذلك لا زكاة فيه، ولكن الذي رجحته بالأدلة في كتابي (فقه الزكاة): أن الزكاة واجبة في كل ما خرج من الأرض، مأكولا كان أم غير مأكول، حتى القطن والكتان والمطاط ونحوها. وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وأصحابه، وداود الظاهري، وهو الذي تسنده الأدلة من القرآن والسنة.

حتى إن إمام المالكية في عصره، القاضي أبا بكر بن العربي: رجح مذهب أبي حنيفة في كتابه (أحكام القرآن) عند تفسير آية {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] من سورة الأنعام وعند شرحه لحديث: "فيما سقت السماء العشر"[1] في شرحه لجامع الترمذي، وضعًّف مذهبه ـ وهو مذهب مالك ـ في هذه المسألة، قائلا في الأحكام: أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، فأوجبها في كل ما أخرجت الأرض، وكذا قال في (عارضة الأحوذي في شرح الترمذي) مستندا إلى عموم الآية (ما أخرجنا لكم من الأرض) وعموم الحديث: "ما سقت السماء" مؤيدا بأن هذا القول، أليقها بشكر النعمة، وأحوطها للمساكين.

وأحسب أن الإمام الشافعي لو كان حيا اليوم، ورأى هذه المفارقات، لغير رأيه، كما غيره في كثير من المسائل، والتي يقال فيها: قال الشافعي في (القديم)، وقال الشافعي في (الجديد) وقديمه ما كان يراه قبل مجيئه إلى مصر، وجديده ما غيره بعد إقامته في مصر، حيث رأى ما لم يكن قد رأى، وسمع ما لم يكن سمع، كما أنه قد ازداد نضجا وعمقا، واتسع علمه، فلا غرو أن يتغير اجتهاده في بعض المسائل.

واستراح دكتور عزيز لجوابي، وقال: ليت المشايخ عندنا يفقهون مثل هذا الكلام، ويأخذون الزكاة من كل ذي مال نام. وبهذا يسوون بين المكلفين جميعا، كما هو الأصل الشرعي أن الناس سواء أمام التكاليف.

وقد لقيت في هذه الرحلة الأخ أنور إبراهيم الذي قويت جمعيته وصلب عودها، وهي (جمعية الشباب المسلم) المسماة بالماليزية (آبيم). وكان المترجم بيني وبينه أحد الإخوة الماليزيين الذين يجيدون العربية، وهم كثيرون بحمد الله، ومن الجمعية عدد منهم.

إلى إندونيسيا

خطب القرضاوي الجمعة في مسجد الجامعة بجاكرتا وبعد ذلك سافرنا إلى إندونيسيا، حيث نزلنا في مطار جاكرتا، ووجدنا من ينتظرنا في المطار، وكان هذا من ثمرات حسن تنظيم الرحلة: أننا نجد في كل مطار من ينتظرنا ومن حجز لنا في الفندق، ويسر لنا أمورنا، وهذا من فضل الله، ومن بركات الترتيب والإعداد الجيد.

وكان أهم من لقيناه: الدكتور محمد ناصر رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الذي تحدثت عنه فيما سبق، وقد أعد لي برنامجا حافلا لزيارة الجامعات والمدارس الإسلامية، ومراكز النشاط الإسلامي المختلفة، (فزرنا جامعة ابن خلدون) وزرنا (المدرسة الشافعية) والمدرسة الطاهرية، وزرنا مجلس العلماء.

وأذكر أني خطبت الجمعة في مسجد الجامعة بجاكرتا، وزرت مدينة بالقرب من جاكرتا نسيت اسمها، وبتنا فيها ليلة واحدة.

وبعد أيام حافلة بالمحاضرات العامة، واللقاءات الخاصة، والأنشطة المتنوعة: غادرنا إندونيسيا إلى سنغافورة.

إلى سنغافورة

سنغافورة كانت جزءا من ماليزيا قبل أن تستقل عنها وفي سنغافورة بتنا ليلتين، وقد استقبلنا الإخوة من أعضاء الجمعية الإسلامية، التي تقوم على أمر المسلمين في سنغافورة، وهم يمثلون أقلية لها وزنها.

ومن المعروف: أن سنغافورة كانت جزءا من ماليزيا (أو من بلاد الملايو) وكانت تعتبر من (المضايق البحرية) التي يملكها المسلمون[2]، ثم كثر فيها العنصر الصيني في عهد الاحتلال البريطاني، الذي فتح الأبواب على مصاريعها للصينيين والهندوس، ولكن الصينيين ركزوا على سنغافورة لما يعرفون من أهميتها التجارية والإستراتيجية، وهم يسمون الصينيين: يهود الشرق الأقصى! ولذلك تكاثروا في سنغافورة، ونظموا أنفسهم، ثم طالبوا باستقلال هذه الجزيرة، وقد تمكنوا من تحقيق مطلبهم في عهد رئيس الوزراء الماليزي المعروف:تنكو عبد الرحمن، الذي صدر في عهده قراران في غاية الخطورة، وهما: استقلال سنغافورة عن ماليزيا.. والثاني: إعطاء الجنسية الماليزية للصينيين والهندوس بعد عشرين سنة، وسرعان ما انقضت السنون العشرون، وحصل الفريقان على الجنسية الماليزية، وأصبحا يزاحمان أهل البلاد الأصلية من العنصر الملاوي.

والحق يقال: إن الصينيين قد ارتقوا بهذا البلد الصغير في مساحته وحجمه، وجعلوا منه مثالا يُحتذى في رعاية النظام والنظافة، بحيث لا يجوز لأحد أن يرمي في الطريق ورقة أو بقية سيجارة أو نحو ذلك، وحتى أنهم يستخدمون عقوبة الجلد لمن يتعمد ارتكاب مخالفة في هذا الاتجاه.

كما جعلوا منها مركزا عالميا للتجارة والتسوق وللسياحة والانتجاع، فضلا عن تفوقهم في مجال التصنيع الخفيف الذي عرفوا به.

بقينا يومين في سنغافورة مع المسلمين، تحدثت إليهم، وتعرفت على أنشطتهم، وزرت بعض مدارسهم، وصليت في جامعهم الكبير، وتعرفت على بعض الإخوة من علماء الأزهر، الذين كانوا مبعوثين إلى سنغافورة، نسيت اسمهما، وهما اثنان: أحدهما شعلة من النشاط في الدعوة والحركة. والثاني: ليس له هذه الهمة في العمل. الأول يعمل بروح صاحب الرسالة، والثاني: يعمل بروح الموظف.

ومما أذكره: أن بعض الإخوة السنغافوريين زارونا في الفندق، وأحسب أنهم كانوا سببا في تأخرنا أن ندرك الطيارة التي كنا سنركبها إلى (مانيلا) عاصمة الفلبين، فتأخرنا يوما عن الوصول في موعدنا إلى جنوب الفلبين.

إلى الفلبين

للأزهر أثر واضح في الدعوة بالفلبين ومن سنغافورة ركبنا الطائرة التي أقلتنا إلى (مانيلا) عاصمة الفلبين، وفي مانيلا يوجد مسلمون في مناطق شتى، ولهم تجمعات ومناطق يسكنون فيها، ولهم مدارسهم ومساجدهم وأنشطتهم. وقد زرت ـ ومعي صهري الأخ سامي عبد الجواد ـ هذه المناطق، وعقدت معهم لقاءات مختلفة، وألقيت فيهم كلمات مناسبة، بعضها قصير، وبعضها طويل، حسب مقتضى الحال، وقد هيئوا لي مترجما أو أكثر، ولا سيما أن بعضهم يتكلم بلهجة لا يتكلم بها الآخرون.

وبعد بيات الليلة في مانيلا سافرنا بالطائرة إلى الجنوب، وكنا قد تأخرنا يوما عن موعد وصولنا المحدد، حين فاتتنا الطائرة قبل ذلك، وشاء الله أن يخرج أهل (مراوى ستي) أهم مدن المسلمين في الجنوب، وقد خرج منهم جم غفير ليستقبلونا في المطار ـ وهو على بعد عشرات الكيلو مترات ـ حسب موعدنا القديم معهم، فلما لم يجدونا، عادوا متأسفين لتأخرنا، وأراد الله أن يحدث لواحد منهم حادث في الطريق، توفاه الله فيه، وغلب الحزن على مشاعر الناس بعد أن كانوا في المطار في شبه عرس!

وفي اليوم التالي وصلنا، ووجدنا عددا كبيرا في انتظارنا في المطار، ولكنه أقل من عدد الأمس، وأخبرونا بما حدث بالأمس، ولم يكن المتوفى قد دفن بعد، فعند حضورنا صليت عليه صلاة الجنازة، وشيعناه إلى قبره، وواسيناهم في فقيدهم، رحمه الله رحمة واسعة. وألقيت كلمة مناسبة في هذا المقام.

وبقيت ثلاثة أيام أو أربعة في (مراوي) زرت فيها جامعة مندناو، والجامعة الإسلامية التي يشرف عليها د. أحمد ألونتو، كما زرت عددا من المدارس العربية الإسلامية، المنتشرة هناك، وتضم البنين والبنات في صفوفها، وإن كان البنات في العادة أكثر من البنين.

وقد تحدثت في الزيارة الماضية، التي تمت منذ سنوات مع الشيخ الأنصاري، عن ضرورة تطوير هذه المدارس: مبانيها وأدواتها ومناهجها ومدرسيها ولغتها، فهي بعيدة كل البعد عن عصرها، وتدرس لأبنائها وبناتها بعض ما كان يدرسه الأزهر قديما من كتب يعجز العرب الخلص عن فهمها، فكيف بالأعاجم؟!

ومن المؤسف: أني وجدت هذه المدارس، كما تركتها في المرة الماضية، لم تتقدم خطوة إلى الأمام لا في الشكل ولا في المضمون.

والمشرفون عليها يعتذرون بأن تطويرها يحتاج إلى مال كثير، ومن أين لهم المال، وأكثرهم فقراء لا حول لهم ولا قوة؟ من أين لهم ما يبنون به مدرسة حديثة، أو مختبرا مجهزا بلوازمه، أو يوظفون به مدرسا للفيزياء أو الكيمياء، أو الرياضيات أو اللغة الإنجليزية؟!

قاتل الله الفقر، فكم أعجز الناس أن يجدوا الضرورات لحياتهم، وكاد الفقر أن يكون كفرا. وقد قال علي رضي الله عنه: لو تمثل الفقر رجلا لقتلته!

وقال الشاعر:

إن الدراهم في الأماكن كلها تكسو الرجال مهابة وجمالا

فهي اللسان لمن أراد فصاحة وهي السلاح لمن أراد قتالا

وجزى الله خيرا: اتحاد المدارس العربية الذي يرأسه الأمير محمد الفيصل آل سعود، ويتولى أمانته العامة: الأستاذ الدكتور توفيق الشاوي، الذي اهتم بهذه المدارس، واجتهد أن ينهض بها على قدر استطاعته، وأقام عندهم في إحدى الإجازات الصيفية دورة تدريبية، لرفع مستوى المدرسين تربويا ووظيفيا، وقد استعانوا ببعض الجامعات العربية، لتمدهم ببعض المتخصصين في إجازات الصيف، مساهمة في هذا العمل العلمي التربوي الخير، شارك فيها بعض الأساتذة من جامعة قطر، كان منهم في إحدى السنوات أخونا الحبيب الدكتور عبد العظيم الديب، وبعض رفقائه الذين أدوا بعض الواجب لهؤلاء الإخوة المعزولين عن العالم الإسلامي.

القائد الأزهري سلامات هاشم

ومما شاهدته في هذه البلاد: أثر الأزهر البيّن فيهم، فقد وجدت خريجي الأزهر يعملون بكل جد على كل صعيد، في التعليم في المدارس، وفي الدعوة في المساجد، وحتى في الجهاد الذي كانت تدور رحاه بين المسلمين وبين الحكومة المركزية في مانيلا، كان للأزهريين دور غير منكور مع القائد الأزهري المعروف سلامات هاشم رحمه الله.

زرت في هذه الأيام عددا كبيرا من المدارس، أتكلم في كل مدرسة منها، وانتقل من مدرسة إلى أخرى، من الصباح إلى المساء، وفي المساجد، وفي الحفلات التي أقامها الناس في أماكن شتى احتفالا بنا، وكان معي مترجمان يصحبانني، يتبادلان الترجمة، وقد تعبا في النهاية، وشكوا من كثرة الكلام، حتى بح صوتهما، وقالا لي: نحن اثنان، وقد شعرنا بالتعب، ونحن نترجم وأنت تنشئ! لا نقول إلا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله!

وبعد أيامنا في الجنوب عدنا إلى مانيلا من حيث جئنا، وبتنا فيها ليلة، لنواصل مسيرتنا إلى اليابان، إلى طوكيو.

إلى طوكيو باليابان

طوكيو تشتهر بمناطق التسوق ورآها القرضاوي أنها أغلى بلاد العالم ومن مانيلا، انتقلنا إلى (طوكيو) العاصمة اليابانية، وكان الجو باردا شديد البرودة، وزاد إحساسنا بالبرودة: أن المناطق التي زرناها كلها: ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، وحتى الفلبين، كلها ذات فصل واحد، لا تعرف الفصول الأربعة، فلا يختلف صيف عندها من شتاء، بل هي أقرب إلى الحرارة منها إلى البرودة، وإن كانت حرارتها ليست كحرارة بلاد الخليج ونحوها، كما أنها تتميز بكثرة الأمطار التي تنشر الخضرة في كل مكان.

ولكنا كنا نعرف طبيعة الجو في اليابان وكوريا، وقد أخذنا معنا من الملابس ما يدفئنا عند اللزوم، وقد قال الشاعر: البس لكل حال لَبوسها؛ فلا غرو أن لبسنا للبرد لبوسه المناسب.

وقد زرنا المركز الإسلامي، وألقيت به محاضرة، ولم يكن الأخ الدكتور صالح السامرائي مدير المركز موجوداً في تلك الفترة، وهو الذي عايش المركز من قديم، ونهض به بمعونات أهل الخير من العرب، وزرنا المسجد (التركي) الذي بناه الأتراك، الذين هاجروا من تركيا قديما، واستوطنوا اليابان، وقد خطبت الجمعة فيه، وزرت إحدى الجزر اليابانية، نسيت اسمها.

كما زرت جامعتين يابانيتين في طوكيو، ورتبت لي محاضرة في كل منهما، وزرت مكتبة إحداهما، وكانت مكتبة متطورة، تعمل بأحدث النظم العصرية.

وقد شكونا مر الشكوى من الغلاء في طوكيو، أحسب أنها أغلى بلاد العالم، كل ليلة في الفندق بمبلغ كبير يؤود الظهر، وكل أكلة في مطعم من المطاعم كذلك. وقد ذهبنا إلى أسواقها واشترينا بعض اللوازم منها، وكان مما زاد غلاءها: أن (اليَن) الياباني كان في القمة بالنسبة للدولار، وهذا زاد الطين بلة، كما يقولون؛ ولذا لم يطل المقام باليابان.

إلى كوريا

ومن اليابان اتجهنا إلى (كوريا) والمقصود: كوريا الجنوبية، فبلاد الخليج كلها لا تتعامل إلا مع كوريا الجنوبية، وقد حططنا الرحال في عاصمتها (سوول) ونزلنا في فندق (حياه) أو (هياه) كما ينطقونه، ولما سألناهم عن معنى هذا الاسم، قالوا: إنهم لا يعرفون معناه، لأنه منقول إليهم من لغة أخرى، فقلت لهم: إن أصله عربي، ومعنى حياة بالإنجليزية (لايف).

وكان في العاصمة مركز إسلامي ساهمت بعض البلاد الإسلامية- ومنها قطر-في إقامته، ووجدنا بعض الشباب الذين أخلصوا للإسلام، هم الذين يقوم عليهم النشاط كله، الدعوة والتعليم والنشاط الاجتماعي، وهم عدد محدود بارك الله فيهم، على حين قالوا لنا: إن المسلمين يبلغون عشرين ألفا أو يزيدون! فأين هم؟!

سألناهم عن هؤلاء المسلمين: أيحضرون بعض الصلوات أم يحضرون يوم الجمعة؟ فقالوا: لا يحضرون إلا القليل، بعضهم يحضر في صلاة العيدين: الفطر والأضحى، والأكثرون لا نراهم، حتى في العيدين! فليت شعري: ما الذي يربطهم بالإسلام إذن؟

إن الإسلام دين اجتماعي، لا يمكن للمسلم أن يثبت وجوده فيه إلا داخل جماعة، لهذا شرعت صلاة الجماعة، وجعلت أفضل من صلاة الفرد وحده بسبع وعشرين درجة، وأنشئت المساجد لصلاة الجمع والجماعات، لتوحد المسلمين، وتصلهم بالجماعة المسلمة، فيد الله مع الجماعة، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. وللمسلم على المسلم جملة حقوق: يسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، ويسأل عنه إذا غاب، ويعينه إذا احتاج، ويعوده إذا مرض، ويهنئه إذا فرح، ويعزيه إذا حزن، ويصلي عليه إذا مات.

لهذا لا يستطيع مسلم أن يحتفظ بإسلامه قويا مؤثرا إذا عاش وحده، بل بالتعاون مع إخوانه يحيا ويبقى ويقوى، وهذا ما نصحنا به الإخوة هناك: أن يعيشوا بالإسلام مترابطين متآخين، يتزاورون ويتضامنون فيما بينهم، وبذلك يشعرون بنعمة الأخوة تظلهم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62-63].

قرية صغيرة واحدة زرناها مع الإخوة هي التي أثلجت صدورنا، فأهل هذه القرية قد أسلموا، وأسسوا مدرسة صغيرة لأبنائهم وبناتهم، أشبه بالكتاب، يتعلمون فيها ما يتعلمه التلاميذ في مدارس الرياض والابتدائية، فهم بهذا يحيون حياة إسلامية مشتركة، وهي حياة عملية لا جدلية ولا صورية.

إن إعلان المرء دخول الإسلام: أمر يفرح له كل مسلم، ويحمد الله عليه، أن زاد المسلمون واحدا، يعبد الله وحده لا شريك له، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله، ويلتزم بالإسلام عقيدة وعملا، ولكن بدون متابعة هؤلاء المسلمين الجدد، وتعليمهم الإسلام الميسر بالتدريج، ووصلهم بجماعة المسلمين، ومساجد المسلمين: يظل إسلامهم صورة لا حقيقة لها، وشكلا لا مضمون له، ويوشك أن يضيع هذا الإسلام الجديد إذا لم يجد له محضنا.

قد يهتم بعض دعاة الأديان بمجرد الإعلان عن الدخول في دينهم، للمباهاة بالأعداد، والمكاثرة في حرب الإحصاءات والتعداد، ولأن عندهم: إذا أمنت بالمُخَلِّص (يسوع المسيح) فقد نجوت وإن لم تعمل! أما نحن فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، كما تدل على ذلك العشرات ـ بل المئات ـ من آيات القرآن، وأحاديث الرسول. وحسبنا قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:125،124]. المدار إذن على العمل لا على الدعاوى والأماني.

إلى هونج كونج المحطة الأخيرة

كانت هونج كونج المحطة الأخيرة ومن كوريا استقللنا الطائرة إلى (هونج كونج) تلك المدينة الصينية العجيبة، التي تحكمها بريطانيا، وفق اتفاقية معروفة، وهي في نظامها السياسي: ديمقراطية، وفي نظامها الاقتصادي: رأسمالية، وقد استطاعت في ظل الحرية أن تصبح قلعة صناعية وتجارية، وأن تغزو بمنتجاتها العالم، شرقا وغربا، وأن تكون فيها (بورصة) عالمية، رغم ضيق رقعتها، التي جعلت بعض أهلها لا يجدون لهم مكانا، إلا في شقق صغيرة في بحيراتها، فهي منازلهم التي يبيتون فيها، ويأوون إليها. برغم الأبراج العالية، التي يعتبر بعضها من ناطحات السحاب، ففيها أعلى عمارة في قارة آسيا كلها (بضعة وخمسون طابقا).

وكان في هونج كونج جامعان كبيران للمسلمين، وهم يحاولون أن يبنوا ثالثا في منطقة حية وعامرة من المدينة.

وقد زرت المسجدين، وألقيت فيهما بعض الدروس، بترتيب من الإخوة المعنيين هناك، كما زرت إحدى المدارس الخاصة بالمسلمين، مع الأخ الصيني المسلم المعروف (يوسف يو).

كما تجولنا في أسواقها على العادة، لنشتري منها بعض الهدايا للأولاد، ولا سيما أن الأسعار هناك معقولة جدا، إذا قورنت ببلاد الخليج، فهي في بلاد الخليج تأتينا محملة بأجور النقل والجمارك ـ وإن قلت ـ وربح تجار التجزئة، وكثيرا ما يبالغون فيه.

وأذكر مما اشتريته من (هونج كونج) مناظر طبيعية، وهي لوحات زيتية، يرسمها فنانون مبدعون بريشاتهم، تنطق بصنع الله الذي أتقن كل شيء، وقد كنت عرفت المنطقة التي تباع فيها هذه اللوحات، ويتنافس فيها الفنانون، والباعة، وكانت في منتهى الرخص، وأنا من المولعين بهذه اللوحات، وأنتقيها طبيعية محضة، ليس فيها صورة إنسان ولا حيوان، وإن كان رأيي أن صور الإنسان والحيوان لا تحرم إلا إذا كانت مجسمة، ولم تكن لعبا للأطفال.

ومن هونج كونج عدنا ـ على ما أذكر ـ إلى البحرين، على طائرة (كاتي باسفيك) ومن البحرين إلى قطر. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكل مسافر سيعود يوما إذا رزق السلامة والإيابا

طالع في الحلقة القادمة:

مؤتمر تنصير المسلمين في كلورادو 1978م

[1] - رواه البخاري ( 1483) عن عبد الله بن عمر.

[2] - مثل مضيق جبل طارق، ومضيق باب المندب، ومضيق هرمز، والدردنيل والبسفور.