الحضارة والعيش المشترك

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحضارة والعيش المشترك


بقلم:المستشار الشيخ /فيصل مولوي

أمين عام الجماعة الإسلامية في لبنان

مقدمة

إنّ بناء الحضارة الإنسانية على العيش المشترك، أمر لا يقبل الجدال، والحضارة التي نعيش اليوم في ظلّ خدماتها المادية الهائلة، كما نعيش في ظلّ أزماتها المتعاظمة، هي في الواقع نتاج التعاون بين جميع الناس على اختلاف أديانهم وفلسفاتهم وأفكارهم وأنظمتهم، وهي نتاج التكامل بين الأجيال البشرية المتعاقبة.

إن العيش المشترك بين بني آدم أنتج حضارة مادية متطوّرة، لكنّه لم بنتج حتى الآن تفاهماً اجتماعياً وسياسياً بين الشرائح الإنسانية المتعددة.

وسأتناول في هذا الحديث النظرة الإسلامية للعيش المشترك بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص.

وسأجتهد أن يكون حديثي مختصراً وشاملاً، وأن يوضح ويشرح بعض المسائل الغامضة عسى أن يساعد ذلك على بناء عيشنا المشترك على أسس سليمة، تجعله قابلاً للثبات ولتحقيق الأهداف الإنسانية التي نلتقي عليها.

لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه

هذا ما نص عليه اتفاق الطائف، وورد في الفقرة الأولى من مقدّمة الدستور.

إنّ المسلمين اللبنانيين كسائر المواطنين، خلقوا في هذا البلد، فهو وطنهم ووطن أجدادهم وأولادهم، ارتضوا قضاء حياتهم فيه، إنّه وطنهم النهائي، بأرضه وشعبه، لا وطن لهم غيره، وهم حريصون على خيره وعلى استقراره السياسي، ونموّه الاقتصادي.

يشاركون في الدفاع عنه، ويساهمون في بنائه وتقدّمه، وهم يعتقدون أنّ المحافظة على العيش المشترك والوحدة الوطنية والسلم الأهلي واجب شرعي، كما هو واجب وطني يسعون إليه ويحرصون عليه.

لكننا إلى جانب ذلك نرى أنّ نهائية الوطن اللبناني لا تعني الجمود على نظامه السياسي، ولا الانعزال ضمن حدوده الحالية، فالأنظمة السياسية تتطور وتتغير حسب إرادة الشعوب، والدول تنـزع إلى الاتحاد مع غيرها لتحقيق مصالح مشتركة، كما حصل في الاتحاد الأوروبي الذي يضم خمساً وعشرين دولة، فكيف إذا كانت الدول المتعددة تضم شعباً واحداً كالدول العربية؟

مشروعية العيش المشترك

إنّ طبيعة لبنان كبلد متنوع الطوائف تجعل العيش المشترك أساس الاجتماع اللبناني، إنّ مشروعية العيش المشترك بين المسلمين وغيرهم، مسألة تضافرت عليها عندنا الأدلّة الشرعية.

- فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، كلّما وفد عليه أحد أبناء القبائل العربية وأسلم على يده، يأمره بالعودة إلى قومه المشركين ليعيش معهم، هكذا فعل مع ضَماد الأزْدي، وعمرو بن عبْسة السُّلمي، والطفيل بن عمرو الدوسي، وأبو ذر الغفاري، كما ذكرت جميع كتب السيرة، فالرسول صلى الله عليه وسلّم هو أول من دعا إلى العيش المشترك مع الآخرين.

- وهؤلاء المهاجرون إلى الحبشة فراراً من الاضطهاد الذي كانوا يتعرّضون له في مكة المكرّمة، وقد وجدوا في الحبشة النصرانية نظاماً سياسياً يحميهم ويحفظ حقوقهم، لكن رغم ذلك عندما أقيمت دولة الإسلام في المدينة المنورة، لم يعودوا إليها، بل ولم يطالبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعودة، مع أنّهم كانوا يعيشون في الحبشة أقليّة في المجتمع، وتحت سلطان غير إسلامي، لكنهم لم يعودوا إلى المدينة إلاّ في السنة السابعة للهجرة.

ولو لم يكن العيش المشترك مع غير المسلمين مشروعاً لما بقوا مهاجرين سبع سنوات من غير ضرورة ولا حاجة.

- بل ربما كان للمسلم الذي يعيش في وطن واحد مع غير المسلمين أجراً أكبر.

قال عمر بن الخطاب لأسماء بنت عميس- وهي إحدى مهاجرات الحبشة-: (سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم، فغضبت وقالت: كلاّ والله).

ثمّ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان).

وهكذا اعتبر المهاجرين إلى الحبشة والمقيمين فيها حتى بعد زوال أسباب الهجرة، أعظم أجراً من الذين هاجروا ثمّ عادوا إلى وطن إسلامي.

الأسس الشرعية للعيش المشترك

عندما يعيش المسلمون مع غيرهم في نطاق مجتمع واحد، فعليهم أن يلتزموا بالأسس الشرعية التي أكّدها قول الله عز وجل:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين) (سورة الممتحنة: 8)

وهي تتلخّص بأربعة قواعد:

القاعدة الأولى

احترام الآخر والاعتراف به والتعامل معه: وهو بالنسبة للمسلمين مسألة شرعية، تشمل كلّ أنواع الاختلاف.

لقد أتاح الله تعالى للإنسان حريّة الاختيار بين الإيمان والكفر، ومع ذلك لم يحرم الكافر ممّا أعطاه للمؤمنين، لكنّه بيّن له أنّ الإيمان هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ودعاه إليه ورغّبه فيه، (لا إكْرَاهَ في الدِّين،ِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ، فمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغوتِ وَيُؤْمنْ باللَّهِ فَقَدْ استمْسَكَ بالْعُرْوَة الْوُثقَى، لا انفصَامَ لَها واللَّهُ سَميعٌ عَليم) (سورة البقرة: 256).

القاعدة الثانية

الأخلاق: وهي التي تحكم أسلوب التعامل مع الآخرين.

إنها في نظر الإسلام قيم مطلقة يتعامل بها الإنسان مع الموافق والمخالف، لا تتأثّر باختلاف الدين، ولا بوسائل الإنتاج، ولا بأيّ اعتبار آخر.

الأخلاق ليست فقط أسلوب تعامل المسلم مع من يحب، ولا مع أبناء عشيرته أو قومه أو دينه، إنّها أسلوب التعامل مع الناس جميعاً خاصّة المخالفين منهم.

هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المشركين في مكّة، ومع اليهود في المدينة، وكانت أعظم صفة مدحه بها ربّه قوله عزّ وجلّ: (وإنّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم) (سورة القلم: 4).

القاعدة الثالثة

العدالة: وهي التي تحدّد الحقوق والواجبات تجاه الغير.

إنها أهمّ القيم الإنسانية على الإطلاق.

من أجل تحقيقها أرسل الله الرسل بالبيّنات: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالميزَانَ لِيَقومَ النَّاسُ بالقِسْطِ) (سورة الحديد: 25).

الكتاب هو مصدر العدالة.

والميزان هو وسيلة تحقيقها، لأنه يعني التوازن بين الحقوق والواجبات.

والعدالة من القيم المطلقة التي يأمر بها الإسلام مع العدو والصديق ومع البعيد والقريب، وحتى مع العدو المحارب: (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) (سورة المائدة: 8).

إنّه لا يمكن أن يقوم عيش مشترك في نطاق دولة معينة أو منطقة محددة، أو حتى في نطاق العالم إلا بإقرار العدالة للجميع.

والسلم الوطني والسلم العالمي لا يمكن قيامه إلامع تحقيق العدالة للجميع، واستعمال ميزان واحد تتساوى فيه الحقوق بين الجميع.

القاعدة الرابعة

التعاون: لا معنى للعيش المشترك إذا لم يتعاون فيه الناس لتحقيق المصالح المشتركة.

وقد بيّن الله تعالى أنّ التعاون مطلوب حتّى مع المشركين (..وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا، وتَعَاوَنوا علَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوَانِ..) (سورة المائدة: 3).

لقد صدّ الكافرون المسلمين عن المسجد الحرام، وترتّب على ذلك وجود الكره في قلوبهم تجاه هؤلاء الكفّار، لكن هذا الكره لا يجوز أن يدفع المسلمين إلى الاعتداء.

وإذا وجدوا مجالاً للتعاون مع هؤلاء المشركين، فهو جائز ومطلوب بشرط واحد: أن يكون تعاوناً على البرّ والتقوى، وليس على الإثم والعدوان.

وقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حِلف الفُضول – قبل البعثة – وكان فيه زعماء قريش الذين تعاهدوا على أن ينصروا الضعيف ويغيثوا الملهوف ويساعدوا المحتاج ويُقروا الضيْف وغير ذلك من مكارم الأخلاق.. وقال فيه بعد البعثة: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حُمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت) (سيرة ابن هشام).

هذا الحلف هو دليل قاطع على مشروعيّة التعاون بين المسلمين وغيرهم لتحقيق كلّ أمر مشروع.

الحاجة إلى مشروع وطني واحد

حين يتعايش الناس مع اختلافاتهم في وطن واحد، فلا بدّ لهم من مشروع وطني يجمعهم، وينظّم الحياة المشتركة بينهم، ابتداء من تحديد الدستور، إلى اختيار السلطة، إلى تشريع القوانين المختلفة، ويمنع تحوّل الخلافات إلى صراع.

إنّ لبنان وطن يتألّف من مجموعة من الطوائف.

هذا هو واقعه، وهو ما يؤكّده دستوره.

لكلّ من الطوائف مساحتها الخاصة، تمارس فيها خصوصيتها الدينية ضمن ساحة المجتمع العامة.

بينما تمارس الدولة سلطتها في المساحة المشتركة التي تجمع جميع الطوائف.

إنّ العلاقة بين الوطن وطوائفه يمكن أن تكون علاقة صراع، ويحصل ذلك حين تريد السلطة توسيع المساحة الوطنية المشتركة على حساب خصوصيات الطوائف، أو حين تريد الطوائف توسيع مساحتها الخاصة على حساب المساحة المشتركة.

ويمكن أن تكون العلاقة بين الوطن وطوائفه علاقة توافق وتكامل، وذلك حين تكون الحدود واضحة بين المساحة المشتركة والمساحات الدينية الخاصة، ويرضى كل من الطرفين بمساحته المحددة.

إنّ دستور لبنان منذ قيامه يحدد مساحة الطوائف الخاصة بأمور العبادة والأحوال الشخصية.

وهذا يعني أن كل ساحات المجتمع الأخرى هي ساحات وطنية مشتركة.

لكن الأعراف قضت بتوزيع أهم المناصب السياسية والادارية توزيعاً طائفياً، فوسّعت مساحة الطوائف خارج نطاق العبادة والأحوال الشخصية، بحيث تداخلت مع المساحة الوطنية المشتركة، بل وتغلّبت عليها.

وجاء اتّفاق الطائف ليؤكّد تقاسم السلطات بين الطوائف لكن بصورة مؤقّته، وريثما يتمّ إلغاء الطائفية السياسية.

هناك بعض اللبنانيين يرفضون إلغاء الطائفية السياسية إلاّ بعد إقرار العلمانية الشاملة، بما في ذلك وضع قانون موحّد للأحوال الشخصية، ولو كان اختيارياً، ويستندون في ذلك إلى أنّ أكثر الدول العلمانية اليوم تعتبر قوانين الأحوال الشخصية داخلة في التشريعات الوطنية العامّة وتسحبها من اختصاصات الطوائف.

بينما يرفض البعض الآخر إخراج مسألة الأحوال الشخصية من نطاق التشريع الديني إلى ساحة التشريع الوطني، ويحتجّون بأنّ بعض الدول العلمانية لا تزال تحافظ على حقوق الطوائف في التزام تشريعاتها الدينية.

علماً بأنّ هذه المسألة محسومة عند الأكثرية الساحقة من المسلمين اللبنانيين لاعتمادها على مبادئ ثابتة.

ونحن لا نحبّ الدخول في تفاصيل هذا الموضوع الآن، لكّننا نؤّكد أنّ جميع اللبنانيين توافقوا في الطائف بواسطة ممثليهم على أنّ (إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية)، وتمّ تكليف مجلس النواب بتشكيل (هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، مهمّتها اقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية).

كما توافقوا على أنّ التوزيع الطائفي القائم في نطاق السلطات العامة ووظائف الفئة الأولى، هو مرحلة انتقالية بانتظار إلغاء الطائفية السياسية.

ومع أنّ الطائفية السياسية تجرح المساواة بين المواطنين، وهو ما يخالف أهم مبادئ الديمقراطية، إلاّ انّنا نقدّر أنّ إلغاءها يحتاج إلى حوار موضوعي، في ظروف طبيعية بعيدة عن التشنّج وافتعال الصراعات، علماً بأنّ الظلم الناتج عنها ليس خاصاً بالمسلمين، بل هو عام لجميع اللبنانيين، لأنّه يضع المحاصصة الطائفية بديلاً عن الكفاءة الشخصية، وبالتالي فهو ظلم للجميع، لكنّه رغم ذلك لا يبرر التنكر للمواطنة وواجباتها، بل يدفع الجميع للحوار الجاد من أجل التخلّص من هذا المرض الذي يهدّد الوحدة الوطنية في الصميم.

لبنان وطن صغير، بمساحة أرضه وعدد سكانه، لكنه كبير برسالته الإنسانية الفريدة.

رسالة المجتمع المتنوع في العقائد والأفكار والسياسات والمصالح، والمجتمع الموحّد حول القيم الإنسانية الثابتة، والمصالح المشتركة.

فهل يتاح له أن يبني دولة معاصرة تحفظ حقوق الإنسان وتحمي حرياته، وتطلق نشاطه؟ أم يظل خاضعاً للصراعات والتجاذبات الإقليمية والعالمية؟ كلنا أمل أن المستقبل للإنسان وللقيم الإنسانية الخالدة، قيم الحق والعدالة والأخلاق، مهما طال الزمن وكثرت التضحيات.

نص مداخلة ألقيت في المؤتمر الذي دعت إليه جمعية سانت أجيديو في قبرص في الحلقة الخاصة بلبنان، وشارك فيها الوزير إبراهيم شمس الدين والقاضي عباس الحلبي ، والمطران بول يوسف مطر، والسيد محمد السّماك.