الحرية كما يراها الإخوان المسلمون

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحرية كما يراها الإخوان المسلمون

رسالة من الأستاذ محمد مهدي عاكف - المرشد العام للإخوان المسلمين

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد، المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، ورضي الله عن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..

فتنطلق كلماتُنا دعوةً تُحطِّم كل قيدٍ، وصيحةً تعلو فوق كل زور.. إيمانًا منا بوجوب الصدوع بالحق؛ امتثالاً لأمر الحقِّ لسيد الخلق جل وعلا محمد- صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحِجْر: 94)، وتنبع كلماتُنا من معين الدستور الخالد ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)، تخرج متلمِّسةً هديَ النبيِ الأمينِ عندما وقف بين سادة قريش ضد محاولات الإغراء قائلاً: "والله يا عم.. لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهرَه الله أو أهلكَ دونه".

يتحرك الإخوان المسلمون بدعوتهم إلى (الحرية) نورًا يهدونه كلَّ البشر، دونما افتراءٍ أو اجتزاءٍ، وبغير تفريط أو توريط، دعوةً أصيلةً قديمةً قِدَمَ دعوةِ الإسلام، وحديثةً حداثةَ قول الإمام حسن البنا في رسالةٍ من أوائل رسائل دعوته- حملت عنوان (بين الأمس واليوم)- قال في خواتيمها: "إذا قيل لكم- أيها الإخوان- إلامَ تدعون؟! فقولوا: ندعو إلى الإسلام، والحكومة جزءٌ منه، والحرية فريضةٌ من فرائضه، فإذا قيل لكم هذه سياسة!! فقولوا: هذا هو الإسلام ولا نعرف نحن هذه الأقسام".

نعم أيها الناس.. الحرية التي يراها الإخوان فريضةً..

هي تلك التي تثمرها شجرةُ التوحيد التي قوامها شهادة "لا إله إلا الله" لتحرر النفوس من كل قيد إلا الانصياع للمولى القدير، فلا إلهَ- إلا اللهُ- يتألَّه على البشر، ولا فرعونَ يرهبهم بقوله ﴿أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى" (النازعات: 24)، ولا نمروذَ يهتف في وعيهم ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ (البقرة: 258)، ولا جنودَ يسلِّطون أسلحتَهم على الخلق بعد أن سيطر عليهم الاستبداد رافعًا شعار ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ (الزخرف: 54).

الحرية التي يراها الإخوان فريضةً..

هي تلك التي تنبع من تكليف إلهي لتتأسَّس عليها أمانةُ المسئولية ورسالة الاستخلاف- استخلاف الله للإنسان في الأرض- التي هي جماع المقاصد الإلهية من خلق الإنسان، فالحرية هي الطريق الذى يمكِّن الإنسان من الفعل المعبِّر عن إرادته في أي ميدان من ميادين الفعل أو الترك، وبأي لون من ألوان التعبير.

هي تلك التي صاغها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حين قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!"، ويسير على دربه الإمام عليٌّ- كرم الله وجهه- حين خاطب الإنسان: "لا تكن عبدَ غيرِك وقد جعلك الله حرًّا".

هي التي تجعل من الأمة مصدرًا للسلطات؛ حيث تختار حاكمَها عن رضًى، وحيث يَحيا الحاكمُ في كنف هذا الرضى متعايشًا مع نص الأصل النبوي في الحكم الذي صاغه الرسول- عليه الصلاة والسلام- قائلاً: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم".. قال: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟! قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة" (رواه مسلم).

وهي التي يربي عليها الحاكمُ رعيتَه، كما فعل الخليفة أبو بكر الصديق أولَ ما تولى الخلافةَ، حين خطب في الناس فقال: "أيها الناس إني وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، إن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيتُ فلا طاعةَ لي عليكم".. إمامٌ يدعو شعبَه للجُرأة في الحق ليبنيَ بعزِّهم مجدَ أمته.

وعلى ذات الدرب سار الفاروق عمر حين وقف أحدُ أبناءِ شعبِه قائلاً: "اتقِ الله يا ابن الخطاب..!!" فهمَّ إليه بعضُ أصحابه قائلين له "لا تقل هذا لأن.."، فقاطعهم الحاكم بمقولةٍ خلَّدها له تاريخُ الحرية "دعه يقولها.. لا خيرَ فيكم إذا لم تقولوها، ولا خيرَ فينا إذا لم نسمعها.. رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبَ نفسي"..!! وليت عمر وقف عند هذا الحد، بل دَعا المحكومين للإيجابية ولاقتناصِ حريتِهم حين خطب في الشعب قائلاً: "من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومْني".. فقام واحد منهم ليقول "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوَّمناه بحدِّ سيوفنا".. ساعتَها لم يأمر عمر بقانون الطوارئ، ولم يفتح أبواب معتقلاته، ولم يطرق باب الرجل ليلاً، ولم يحبسه خمسةَ عشرَ يومًا على ذمة التحقيقات.. بل قال "الحمد لله الذي جعل في الرعية من يُقوِّم اعوجاجَ عمرَ بحدِّ سيفه"..!!

الحرية التي يراها الإخوان فريضةً..

لا تقبل المتجبِّرين في الأرض؛ لأن منهجها الرباني يؤكد ﴿واسْتَفْتَحُوا وخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ (إبراهيم: 15)، ويضيف ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ (غافر: 35)، وتراهم حريتُنا فاسدين مفسدين ﴿إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 4).

وهي التي تعد مقاومة الفراعنة والجبابرة مبدأً إسلاميًّا أساسيًّا؛ حتى يكون المسلم حرًّا عبدًا لله سيدًا في الكون.. أعطاه ربه حقَّ تسخير ذلك ﴿وسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّماَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ (الجاثية: 13)، وكرَّمه على سائرِ مَن خلَق "ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70)، واستخلفه في الأرض ﴿إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)؛ ليَحيا عزيزًا بغير ذلٍّ، كريمًا بغير إهانةٍ، عابدًا وعبدًا.. الأرض كلها لله وليس لأحد سواه.. ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: 64).

إنها النصيحة.. فلا ترهبوها

الحرية-4.jpg

وما الحريةُ في قاموسنا إلا نصيحةٌ نصدع بها؛ عملاً بتوجيه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- الذي ارتضيناه قدوةً وقائدًا، حين وقف بين يدَي صحبه موصيًا "الدين النصيحة" قالوا لمن؟! قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، ولا فرقَ عندنا بين أن تكونَ نصيحةً لحاكمٍ عادلٍ أو سلطانٍ جائرٍ، فاليقين أن "أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".

فلئن كانت دعاوى الإصلاح مرفوعةً وراياتُ التغيير ترفرف.. فإننا نؤمن إيمانًا لا ريبَ فيه أن أولى خطوات الإصلاح هو تحطيم القيود والأغلال التي تقيِّد الناسَ، وتوفير أجواء الحرية لهم؛ حتى يستطيعوا أن يتحركوا وأن يفكِّروا وأن يريدوا، وأن تكون لهم طموحات وأهداف يسعَون إلى تحقيقها.

إننا نعتبر هذا من أُولى خطوات الإصلاح الحقيقي؛ حتى تعيش الأمة حرةَ الإرادة، تقرر لنفسها، وتختار لنفسها، ولئن كانت الضغوط الخارجية تسعى للنيل من إرادة أمتنا فلا بدَّ من شعبٍ حرٍّ يقاوم؛ لأن العبيد لا يَصلحون للمقاومة، ولكنهم يساقون بالعصا، فلن يتَّحِد الصف ويستقيم الحال دونما إصلاح حقيقي يرفَع الأغلال عن أعناق الناس ويفَكُّ القيود من أرجلهم.

وأنتم يا علماء الأمة..

عصور الإسلام توالت وعلماؤه العاملون لا يكتمون حقًّا، ولا ينصرون باطلاً، ولا يهابون ذا سلطان، بل يجهرون بآرائهم في شئون السياسة والحكم، حتى قال قائلهم: "الحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب".. بمثل هذا الفهم عاش علماء الإسلام حياتَهم، يعلِّمون الناسَ دينَهم، ويبيِّنون لهم أحكامَ شريعتهم، ويقولون رأيَهم في سلوك حكامهم، فاذكروا سعيدَ بنَ المسيب حين دُعي إلى ثلاثين ألفًا ليأخذَها هديةً من الوالي، فقال: "لا حاجةَ لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم".

واذكروا الفضيل بن عياض- وكان من العبَّاد الزهَّاد- يوم لقي هارون الرشيد فسلمَ عليه وقال له: "يا لها من كفٍّ، ما ألينَها إن نجت غدًا من عذاب الله عز وجل".. ثم توالى وعظُه له حتى كان من قوله له: "إياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غشٌّ لأحد من رعيتك؛ فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أصبح لهم غاشًّا لم يرح رائحة الجنة".

فقوموا يا علماءَ الأمة لله قومةً تستنفرون فيها روحَ الإسلام في نفوس ولاةِ الأمر، ولسان قولكم ما كان من كتاب أبي يوسف لهارون الرشيد: "فلا تلقَ الله غدًا وأنت سالكٌ سبيلَ المعتدين؛ فإنَّ ديَّان الدينِ يومَ الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم، وقد حذرَك الله فاحذر؛ فإنك لم تُخلق عبثًا، ولن تُترك سدًى، وإن الله سائلك عما أنت فيه وعما عملت به، فانظر ما الجواب.. واعلم أنه لن تزول قدمُ عبد حتى يسأل عن أربع: عن علمه ما عمل فيه!! وعن عمُره فيم أفناه!! وعن ماله من أين اكتسبه!! وفيم أنفقه!! وعن جسده فيم أبلاه!! فأعدَّ للمسألة جوابَها؛ فإن ما عملت فأُثبت فهو عليك غدًا يُقرأ، فاذكر كشف قناعِك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد..".

وأنتم يا دعاة الحرية..

خلف الأسوار.. وفي كل ثغر.. تذكَّروا أن الدرب طويل، وأن يوم الدين أطول، واعلموا أن للحق رجالاً لا يكونُ إلا بهم وهم لا يكونون بغيره، واجعلوا نصبَ أعينكم ما أقره السابقون أن "لا خيرَ فيهم إن لم يقولوها"، فقولوها واحتسِبوا واصبروا وصابروا ورابطوا وافعلوا الخير، آملين أن تكونوا ممن قال فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمين بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون".. و﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (آل عمران: 160).. والله أكبر ولله الحمد.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.