الحركة الإسلامية بين العزائم والرخص

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحركة الإسلامية بين العزائم والرخص


القرأن.jpg

لعل من أهم ما يميز التشريع الإسلامي مرونته ، ومن أمارات هذه المرونة أن التشريع الإسلامي يضع الحلول التي تنفس عن المسلمين كربة تلاقيهم ، فيها مشقة غير عادية ولا محتملة.


ولعلي أوضح أمراً قبل أن ألج في موضوع « العزيمة والرخصة » فأقول: ينبغي ألا تُجعل خصيصة ما من خصائص التشريع الإسلامي مصدراً من مصادره ؛ فتحولُ المرونة أو التيسير أو التخفيف إلى مصادر يخالف طبائعها ، فالمصدر هو الذي تستنبط الأحكام منه أو به ، أما الخصيصة فهي ناتجة عن النظر لمجمل التشريعات ؛ فيستخلص من هذا النظر رابط وجامع بين تلك الجزئيات ؛ فالخلط بين المصدر وبين الخصيصة خلط عجيب !!.


الرخصة هي : الأحكام التي شرعها الله تعالى بناءً على أعذار العباد رعاية لحاجتهم مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي.


والعزيمة هي : ما يقابل الرخصة من أحكام.(1)


أي أن الرخصة تكون حين يوجد عذر لبعض الناس ، واعتبار الشارع هذا العذر مخففاً لمن تلبس به ، فينتقل الحكم في حقه إلى آخر مخففاً ، مع بقاء الحكم الأصلي ، بمعنى أنه عند زوال العذر يعود الحكم الأصلي مرة أخرى ، وعليه يكون الحكم المخفف هو الرخصة ، والحكم الأصلي المقابل له هو العزيمة.


ومن هنا فإنه لا يدخل تحت مسمى الرخصة تلك الأحكام التي شرعت تخفيفاً ، وصار تشريعها مستقراً لا يرتبط بالحاجة التي شرع من أجلها ، أي يجوز للمرء فعلها ولو لم يكن به نفس العذر أو الحاجة.(2)


ومن هذا القبيل القِراض (المضاربة) وهو أن يدفع المالك مالاً إلى العامل ليتجر فيه ، ويكون الربح مشتركاً بينهما بحسب ما اشترطا. وقد شرع القراض أولاً بناءً على حاجة أرباب الأموال الذين لا يستطيعون الضرب في الأرض ، وعلى حاجة ذوي الخبرة الذين لا يجدون مالاً يتجرون فيه. وبعد مشروعية القراض بناءً على الحاجة استقر تشريعه فصار جائزاً للكل سواء كان رب المال قادراً أم لا ، وسواء كان العامل محتاجاً إلى المال أم لا.


حكم الرخصة

الأصل في الرخصة الإباحة ، مثل الفطر في رمضان للمسافر والمريض وغير ذلك ، ولكن ينبغي التنبه إلى أن الحكم الثابت للرخصة يختلف من شخص لآخر ، أو بتعبير الشاطبي « كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه »(3) ، ومرد هذا أن الرخصة قائمة على العذر ، والعواملُ المؤثرة فيه وجوداً وقوة متعددةٌ منها: الزمان والمكان والأحوال والأعمال والشخص ذاته. فما يمكن أن يكون رخصة لشخص ليس بالضرورة أن يكون كذلك لآخر.


قضايا حركية في العزيمة والرخصة

رد الرخص : لا ينبغي رد الرخص التي رخصها الله سبحانه وتعالى وعدم الأخذ بها دائماً وأبداً ، ولكنا نرى حركات إسلامية يقوم جل شأنها على التشدد في الأخذ بالعزائم بين أفرادها أخذاً دائماً لا يختل ، ومطالبة الناس بذلك ، ومحاسبة من حاد عن هذا الطريق !!.


إن الأخذ بقوة مطلوب ومرغوب فيه ، ولكنه حين لا يكون في موضعه فهو مذموم مردود غير مقبول.


وحين نهى رسول الله e أصحابه عن الوصال فلم ينتهوا واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال: « لو تأخر الشهر لزدتكم » كالمنكل لهم حيث أبوا أن ينتهوا. وقال: « لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم ».


قال الحافظ ابن حجر في الفتح: « والمراد بقوله “ لو تأخر لزدتكم ” أي في الوصال إلى أن تعجزوا عنه فتسألوا التخفيف عنكم بتركه ، وكما أشار عليهم أن يرجعوا من حصار الطائف فلم يعجبهم ؛ فأمرهم بمباكرة القتال من الغد ، فأصابتهم جراح وشدة ، وأحبوا الرجوع فأصبح راجعاً بهم فأعجبهم ذلك ».(4)


وفي الحديث الآخر: « إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته » وفي رواية « كما يحب أن تؤتى عزائمه ». (5)


وقد يقول البعض أن رسول الله e كان يفعل بعض الرخص إثباتاً للجواز ، ودفعاً للحرج عن الأمة ، وهذا الاعتراض يدفعه ما ثبت عن رسول الله e ، فلقد كان من الحالات التي ترخص فيها رسول الله e أن كان خالياً لا يطلع عليه أحد من غير أهل بيته.


وينبغي الإشارة هنا إلى الفرق بين العزيمة كحكم مقابل للرخصة ، وبين الأخذ بقول من الأقوال في مسألة ما إن كان القول شديداً أو هو الأشد ، فهذا ترجيح لقول من الأقوال وليس من باب العزائم.


الإفراط في الرخص : كما يراعى عدم العمل بالرخص دائماً وأبداً ، فإنه يراعى أيضا عدم التوسع في الأخذ بها ، إذ أن ذلك يؤدي إلى ضعف العزائم ، والاعتياد على اليسير من الأمور دون الشاق منها ، وعندئذ يصعب على المرء المسلم من التكاليف التي يرى فيها نوعاً من المشقة التي لا يتحملها ، وهي في حقيقتها محتملة بمقياس الشرع ، ولكن ضعفت النفس أو تعودت على اليسر والسهولة فشق عليها ما لم يشق على غيرها. قال المتنبي:


على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتعظم في عين الصغير صغارها

وتأتي على قدر الكرام المكارم وتصغر في عين العظيم العظائم



وقال البوصيري :

والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم


والشرع وإن كان فيه من التيسير على الناس حين المشقات ، والتخفيف عنهم ، إلا أنه ما كان يهمل الجانب الآخر ، فقد جاء الأمر بالأخذ بقوة(6) كما مدح العزم وأولو العزم.(7)


إذن فالموقف المطلوب هو التوسط في الأخذ بالعزائم أو الرخص ، فتؤخذ العزائم تارة ويكون قصد المسلم أن يأخذ نفسه بالشدائد تربية لها واقتداءً بالسابقين ، ومن قبل لأن الله يحب أن تؤتى عزائمه ، ويأخذ أخرى بالرخص تخفيفاً على النفس كي تكون قادرة على الالتزام بسائر التشريعات ، واقتداءً بالسابقين ، ومن قبل لأن الله يحب أن تؤتى رخصه.


أما أن تقوم حركة من الحركات ويكون منهجها قائماً على الترخص الدائم عملاً به في نطاقها ، ودعوة للناس وإفتاءً لهم ، فهذا مردود لا يحبه الله ، فالله يحب إتيان عزائمه من خواص الناس وعوامهم على السواء.


وأظن أن تلك محاولات رخيصة مكشوفة ، لتملق الناس واستمالتهم على حساب دين الله عز وجل.


نعم! قد كان رسول الله e يخفف على الناس ، وأنه e ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً (8) ، ولكن في ذات الوقت كان رسول الله e يربي أصحابه على الأخذ بقوة ، وأن هذا الدين يحتاج إلى العزم في الأخذ به.


لقد كان من أوائل ما نزل على رسول الله e في مكة قوله تعالى { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } (المزمل:5) ، وحين اشتكى الصحابة لرسول الله e حر الظهيرة ورغبوا أن يؤخر لهم صلاة الظهر عن حر الظهيرة ، أي عن أول وقتها ، لم يُزل e عنهم الشكوى(9) ، وفي حديث خباب غضب رسول الله e حين طلب منه الصحابة أن يدعو الله لهم بالتخفيف ، وذكرهم بمن كان قبلهم ممن لاقوا شدة في تحمل الدين.(10)


لا ينبغي أن تكون مسائل العزيمة والرخصة أسلحة الحرب والمناوشات بين الفصائل الحركية المختلفة ، أو بين الدعاة الإسلاميين ، فمن مظاهر الخلل الفكري والأخلاقي القائم في حياتنا المعاصرة أن نجد حركة تشدد في الأخذ بالعزائم ، فتقوم أخرى مقابلها تلتقط الرخص فتعرضها على الناس مبينة شدة الأولى ، أو يكون نقيض هذا !! أو نرى عالماً تكون من طبيعته الترخص عملاً أو إفتاءً ، فيرد عليه آخر بنقيض منهجه رامياً إياه بالتفلت والتساهل في دين الله عز وجل !! فيرمي هذا مخالفه بالتفلت ، ويرمي ذاك مخالفه بالتشدد !!.


والأمر حين يكون منهجياً وقائماً على أسس وضوابط مقبولة شرعاً فلا بأس به ، أما أن يكون إظهاراً لعورات الآخر ، أو استمالة لجمهور من العوام أو الإسلاميين فكلا وألف كلا ، فدين الله تعالى أسمى من هذا وأجل.


الرخصة من طبيعتها - غالباً - التوقيت والخصوصية ، ولذا فيفتى بها لكل شخص منفرداً ، إذ يجب معرفة حاله ، والظرف الذي طرأ عليه ، وهل يمكن أن يكون مؤثراً في الحكم أم لا ؟!.


من الرخص التي يجوز للمرء - حين توفر دواعيها وشروطها - رخصة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو اللسان ، ولكن ينبغي مراعاة أمرين:


الأول: أنه لا يجوز أن يتواطأ الناس على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ أن هذا يؤدي إلى التباس المفاهيم على الناس ، وطمس أو تشويه الحقائق الإسلامية المختلفة ، فيصعب بعدئذ إصلاحها. فجواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو لأفراد الناس أما الكل فلا.


الثاني: أنه وإن جاز للمسلم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رخصة حين تحققها ، إلا أنه إن أخذ بالعزيمة وأظهر الحق جلياً فلم يخش في الله عز وجل لومة لائم كان ثوابه أعظم ، ومكانته عند الله أجل وأرفع.


الهـوامـش

1.الوجيز - زيدان ، ص50 ؛ أصول الفقه - أبو زهرة ، ص40 ؛ أصول الفقه - الزحيلي ، (1/109) ؛ الموافقات - الشاطبي (1/301).

2.الموافقات - الشاطبي ، (1/302).

3.الموافقات - الشاطبي ، (1/314).

4.الفتح (4/206).

5.أحمد وابن حبان وابن خزيمة ، وهو حديث صحيح بروايته كما ذكر ذلك الألباني في الإرواء (3/29).

6. في مواضع في القرآن الكريم: البقرة: 63 ، 93 ؛ الأعراف: 145 - 171 ؛ مريم: 12.

7.لقمان : 17 ؛ آل عمران : 186 ؛ الشورى : 43 ؛ الأحقاف : 35.

8.حديث متفق عليه.

9.رواه مسلم.

10.رواه البخاري.