الجانب العاطفي من الإسلام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الجانب العاطفي من الإسلام


بقلم : الشيخ محمد الغزالي

المقدمات

مقدمة الطبعة الأولى

التصوف الفلسفى فى تاريخنا العلمى لون من الغزو الثقافى الماكر قُصد به لفتنا عن عقائدنا ومناهجنا وأهدافنا، ويجب أن ينتبه أولو العلم له، وأن يحذروا أمتنا من بقاياه ودسائسه فإن أعداء الإسلام ينشدون من إشاعته خلق أمة لا انتماء لها ولا وجهة، أمة ثرثارة كسول واهية الصلات بكتاب ربها وسنة نبيها، لا تحسن إلا تأويل الآيات والأحاديث وتحريف الكلم عن مواضعه والاسترسال مع الأحلام والخيالات… أما التصوف الإسلامى فشأن آخر، وربما كره البعض هذا العنوان ونحن لا نكترث لاختلاف الأسماء إذا اتفقنا على حقيقة المسمى!

أسماه البعض علم القلوب!

وأسماه آخرون علم الإحسان بمقاميه من مشاهدة ومراقبة!

وأسماه جماعة من علماء النفس والأخلاق : علم البواعث على الأعمال...

وآثرت أنا تسميته بالجانب العاطفى من الإسلام!

وقد قيل قديما: لا مُشاحة فى الاصطلاح...

المهم أن نفكر ونعمل داخل سياج محكم من توجيهات الوحى وسنن صاحب الرسالة، ومنهاج سلفنا الصالح، وهذا ما حرصت عليه فى هذا الكتاب أشد الحرص...

إن أولى النهى أجمعوا على أن الحضارة الحديثة تربط الإنسان بالأرض وتقطعه عن السماء، وتعلق قلبه بمآرب الدنيا، وتذهله عن مطالب الآخرة، وتعمل على سوق البشر بعيدا عن الله...

أى أنها تسير فى اتجاه معاكس للدين كله، وربما أعانها على إدراك بعض النجاح فشل المتدينين فى تقديم المنهج الإلهى مشبعا للعقل والقلب كافلا للدنيا والآخرة ، ملبيا لحاجات الروح والجسد والعاجلة والآجلة ...

ونحن المسلمين أغنى الناس بمواد البناء في هذا المجال ،وفي تراثنا ما يكفي ويشفي إذا أحسنا الإدراك والإفادة ...

ليس الدين أحكاما جافة وأوامر ميتة، إنه قلب يتحرك بالشوق والرغبة، يحمل صاحبه على المسارعة إلى طاعة الله وهو يقول: (وعجلت إليك رب لترضى).

فكيف تتحول التكاليف الصعبة إلى شىء سائغ حلو...؟

ليس الدين ابتعادا عن المحذورات ابتعاد خائف من مجهول، أو ابتعاد مكره مضطرب، إنه الوجل من عصيان مليك مقتدر، سبقت نعماؤه ووجب الاستحياء منه.

قيل ذلك لبنى إسرائيل قديما: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون)

وقيل للمسلمين من بعدهم: (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون).

لا إيمان إلا لضمير يرفض الدنايا ويرقب الرحمن، ويحرس الحدود والحقوق ويتمخض لله وحده وابتغاء ما عنده!

فى هذا الكتاب إحياء لجانب مهم من مواريثنا العلمية الثمينة، تتجهم له الحياة المعاصرة، ولكنها سوف تحرم من بركات الأرض والسماء إذا خاصمته ومضت إلى غايتها الأرضية بعيدة عنه..

وقد حرصت على ضبط المفاهيم الإسلامية وتقريبها إلى الأجيال الجديدة، وكان همى الأول كيف أصل بين العمل المطلوب فى هذا العصر ـ لنصرة الإسلام ـ وبين المعانى الروحية الموفورة لدينا، كى تنطلق هذه الأعمال بطاقة داخلية قوية ينتعش بها الحق ويسبق !

هناك متكاسلون فى طلب الدنيا..

والكسل صفة رديئة، وعبادة الدنيا صفة رديئة، والإسلام يحتاج إلى دنيا تخدمه، وتدفع عنه، وتمد رواقه، فكيف السبيل إلى جعل القلب متعلقا بربه، يملك الدنيا كى يسخرها لخدمته، ويجمع المال والبنين ليكونا قوة للحق، وسياجا يحتمى بهما؟ كيف يتحول ذكر الله بالغدو والآصال إلى مسلك إيجابى فعال، يجعل أصحابه رهبانا بالليل فرسانا بالنهار.

وليست الفروسية هنا فى ميدان الوغى وحده، بل هى كدح فى أرجاء البر والبحر والجو، ليكون التوحيد صبغة الدنيا كما هو هتاف الكائنات كلها فى الأرض والسماء..

إننى خرجت بالتصوف من جحره أو من صومعته ليكون طاقة محركة...

وقد سرنى أن يضع الله القبول لما كتبت، وسرنى أن دار الدعوة بالإسكندرية قررت إخراج طبعة جديدة لهذا الكتاب، والله المسول أن يجعله فى ميزان الحسنات (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ).

محمد الغزالى 6 فبراير 1990 م 10 رجب 1410 هـ

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

هذا جزء من ثقافتنا الإسلامية يستحق البعث والعناية.

فإن بعض شعب الإيمان لقيت من الدراسة الحصيفة ما جعلها قريبة المأخذ يسيرة العرض، بل لقد حسبت الإسلام كله لطول ما توافر العلماء على خدمتها.

وذلك كفقه العبادات، وما تضمن من طهارة وصلاة وزكاة...

الخ وفقه المعاملات وما تضمن من بيوع وشركات ومعاوضات... الخ.

وكسائر الأحكام التى نظمت العلاقات بين أفراد الأسرة وأركان المجتمع.

إن هذه الجوانب من ديننا العظيم استبحر الكلام فيها، واتسمت دراساتها بدقة علمية ملحوظة، وبرز فيها أئمة مرموقون.

أما الجانب النفسى والخلقى فهو ـ على جلالته ـ مغموط الحق، أو لم يلق العناية الدقيقة التى لقيتها الجوانب الأخرى.

لماذا تؤلف فى الوضوء مثلا كتب كبيرة لها طابع علمى محدد؟ ولا نؤلف هذه الكتب العلمية فى الإخلاص، والتوكل، والتقوى، والأمانة والصبر والحب... الخ.

إن محبة الله جل جلاله، والإخلاص له، والتبتل إليه، والتوكل عليه، والصبر فيه ـ معان تعد فى الطليعة من شعب الإيمان، أو هى من أركانه الركينة.

وتحرير هذه المعانى وفق تفاسير مضبوطة، وشروح مستفيضة ـ خدمة جلى للإسلام وأكاد أقول : إن الأعمال الظاهرة من عبادة ومعاملة ما تصدق وتكمل إلاإذا اتسقت وراءها هذه المعاني الباطنة ، وتخللت مسالك الفؤاد ولذلك يجب أن تطرق موضوعاتها بكثرة ودقة وميدان التربية الإسلامية في هذا العصر أحوج ما يكون إلى هذه الداسات ؛ فالتعاليم المدنية تزحف من كل فج، وتقتحم طريقها إلى النفوس من مسارب لا حصر لها.

وإذا لم نحسن البناء الداخلى للنفوس ورفع الإيمان على دعائمه الفكرية والعاطفية كلها، فإن الأجيال الناشئة لن تنجو من آثار هذا الزحف، وربما شعرت بنقص فى كيانها الروحى تسعى كى تستكمله من جهات أخرى، وهذا باب لو انفتح هبت منه شرور جائحة.

ولست أجهل أن صلة الإنسان بربه، وصلته بنفسه كانت موضع كلام طويل الأنفاس فى كتب التصوف.

غير أن هذا الكلام كان أشبه بمقالات الأدباء، وعواطف الشعراء، يصور الإحساس الخاص لصاحبه أكثر مما يصور حقائق علمية قيمة.

ومهما كان ذلك الإحساس صادقاً فإن خصائص المنطق العلمى أعوزته.

والمنطق العلمى يقوم على الثبات والعموم لا على وجهات النظر الخاصة.

ذلك، أن هذه الكتب أثبتت خلالها أخطاء مزعجة، ومن الخطورة بمكان أن يتناولها رجل الشارع، فلا يدرى ما هو مستقيم منها، وما هو معوج، أو ما هو ذوق خاص، وما هو حقيقة عامة.

ومن الإنصاف أن نسجل للقوم عنايتهم بما انصرف غيرهم عنه أو قل اكتراثهم له.

وهو هذا القسم الضخم من شعب الإيمان المتعلق بأحوال النفس الباطنة.

وإذا كانوا أخطأوا حين درسوا وكتبوا ـ فغيرهم أخطأ حين وقف وجمد.

على أن الأخطاء فى ثقافتنا التقليدية ليست حكرا على كتب التصوف ـ وان نالت هذه الكتب نصيبا جللا منها ـ فإن الأخطاء تطرقت إلى كتب التفسير والفقه والسيرة، واندس فى صحائفها ما يؤذى الله ورسوله، وما اجتهد الأئمة فى التحذير منه.

وكشف القناع عن دخله وغشه.

وكم تحتاج مواريثنا الثقافية إلى جهاد علمى كبير، كى تتجرد من الظنون والأوهام التى علقت بها، وتعود إلى السمات المأثورة عن كتاب الله وسنة رسوله.

وهى سمات الحق واليقين فيما تتناول من قضايا، أو تصدر من أحكام.

وقد دفعنى إلى تأليف هذا الكتاب ما رأيته من ضرورة تجلية هذه الحقائق المطمورة، وتكميل الملامح الإسلامية بكشف الغطاء المضروب على جانب منها.

ثم ما رأيته من أن هذه الحقائق شيبت بما غض من فضلها، حتى تجهم كثيرون لها وضاقوا ذرعا بمجرد ذكرها.

فكان جهدى أن أنحى فى هدوء تلك الشوائب الغريبة، وأن أعود بالمادة الإسلامية الصرف إلى موضعها الخالى منها، لتحتله إلى جوار زميلاتها من حقائق الإسلام الأخرى، معتمدا على كتاب الله وسنة رسوله ومتأثرا خطوات الأسلاف من رجالات الإسلام الذين سبقوا بإنارة الطريق وتمهيده للسالكين.

وقد أسفت ـ كما أسف غيرى ـ لصنفين من الناس:

  • صنف تلمس فى قلبه عاطفة حارة، ورغبة فى الله عميقة، وحبا لرسوله باديا، ومع ذلك تجده ضعيف البصر بأحكام الكتاب والسنة، يعلم منها قليلا ويجهل منها كثيرا، ويغريه بالتعصب للقليل الذى يعلمه أنه يأنس من نفسه صدق الوجهة، وقوة محبة لله ورسوله ربما افتقدها فى غيره فلم يشعر بها.
  • وصنف تلمس فى عقله ذكاء، وفى علمه سعة، وفى قوله بلاغة، يعرف الصواب فى أغلب الأحكام الشرعية، ويؤدى العبادات المطلوبة منه أداء لا بأس به، ولكنه بارد الأنفاس، بادى الجفوة، غليظ القلب، يكاد يتمنى العثار لغيره، كى يندد بأغلاطه، ويستعلى هو بما أوتى من إدراك للحق، وبصر بمواضعه من كتاب وسنة.

عرفت الصنفين معا فى تجاربى مع الناس.

فكان يغيظنى من أصحاب العاطفة، ما يغلب عليهم من جهل وما يشين غيرتهم من عكوف على الخرافات، وعجز عن استيعاب الأحكام التى استعلنت فى دين الله أدلتها، واكتفاؤهم بحب سلبى طائش.

وهؤلاء يصدق عليهم : ما رواه ابن الجوزى بسنده : عن ابن عباس، أنه دخل على عائشة ـ رضى الله عنها ـ فقال: يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده، وآخر يكثر قيامه، ويقل رقاده.

أيهما أحب إليك؟ قالت: سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما سألتنى، فقال: أحسنهما عقلا، فقلت يا رسول الله.

إنما أسألك عن عبادتهما.

فقال: يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل فى الدنيا والآخرة.

وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد، فما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله ".

وكان يغيظنى من الآخرين استكبارهم لما هدوا إليه من صواب فى بعض الأحكام العقيدية والفقهية، واستهانتهم بآفات القلوب وفراغهم من حرارة الإقبال على الله، والحنو على عباده.

وقديما شكا الإمام ابن القيم من أن بعض المدرسين والمفتين والقضاة غلب عليهم جفاف الطبع، وقسوة القلب، وإن كانت براعتهم النظرية فى ميدان العلم لا مطعن فيها.

والمسلم الكامل رجل نير الذهن والقلب معا.

حاد البصر والبصيرة جميعا تتعانق فكرته وعاطفته فى معاملته لله، ومعاملته للناس، فلا تدرى أيهما أسبق؟ صدق أدبه أم حسن معرفته، ولا تدرى أيهما أروع؟ خصوبة نفسه الجياشة أم فطانة عقله اللماح؟..

وهذه الصفات مشتقة من طبيعة الإسلام نفسه، فهو دين يبنى عقائده ـ من ناحية الصحة العقلية ـ على أسس فكرية تشبه البديهيات فى علوم الرياضة من حساب وجبر وهندسة.

والركائز العقلية لهذا الدين ثابتة فيما شرع من معاملات عامة، وفيما يعرض لها من مشكلات متجددة.

وإلى جانب هذا فالإسلام دين عبادة تقوم على سلامة القلب، وشحنه بالإخلاص، والمحبة والأدب، وتجريده من الهوى والأثرة والغش.

وسيرة صاحب الرسالة صلوات الله عليه مثل لهذا الازدواج بين يقظة القلب واللب والتقائهما فى سلوك واحد.

ودين الإنسان ينقص بقدر ما يصحب عاطفته الحارة من نقص علمى أو عجز فكرى، وما نظننا ناسين قصة الدبة التى قتلت صاحبها من حيث تريد حمايته، وإن العقل للإيمان كالبصر للسائر، هيهات أن يرشد سيره إذا فقده.

ويشيع بين أصحاب هذه العاطفة القاصرة التعويل على ما يرونه هم دلالة الصدق وسبيل النجاة، ومن بدع اختلقوها، أو طاعات محدودة القيمة ضخموا قيمتها، ورفعوها فوق قدرها.

على حين ينسون عزائم الإسلام، وتكاليفه المهمة، وموازينه الحساسة فى تقويم الخلق والسلوك وشتى المعاملات.

وما اكثر ما تخدع النفس صاحبها.

حين تغريه بعمل، وتثبطه عن آخر.

والذى قعدت عنه هو خيرها وشرفها، والذى أسرعت إليه قليل الجدوى إن لم يكن مبعث ضرر!!

أعرف موظفا كبيرا يظهر حب آل البيت، ويمسك السبحة بيده ليحصى عليها ما يريد من أسماء وصلوات، إنه يحسب نفسه من الواصلين بإدمانه هذا اللون من العبادة، وتلك عنده مظاهر التقى الشديد، إلى جانب ـ طبعا ـ أدائه للفروض المكتوبة فهو ـ فيما أعتقد ـ لا يقصر فى أدائها.

وحدث يوما أن أقيم حفل تبارى فيه الخطباء، وذكرت الصحف أسماء المتحدثين ونسيت أن تذكر اسم العاشق لآل البيت، وكاد الرجل يجن لما فاته من أسباب الرياء..!!

وانكشفت خبيته، وانكشفت معه خبيثة هذا النوع من التدين الذى لا يستكمل عناصر الإيمان الحق، ولا يحسن فطام النفس من أخبث عللها، بل يدارى هذا النقص بتلاوة أذكار، أو إحصاء صلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم...

ولو أنه قرأ القرآن كله، وهو يستبطن تلك العلل ما أفاده شيئا أن يتلو القرآن والسيرة معا.

إن الله جل شأنه جعل الصراط المستقيم هو المعبر الفذ لمن يبتغيه.

وكل تقصير، أو قصور فى فهم هذا المنهج، واستبانة مراحله ـ لا يدل على خير.

وكل عوض يشتغل المرء به عن المعالم التى وضعها الله لا يزيد صاحبه إلا خبالا.

وأى عاطفة لا يصحبها تفصيل صحيح لأصول الإسلام وفروعه، وعمل تام بها فليس لها عند الله وزن.

وصدق العاطفة ليس عذزا للخلط العلمى، ولا للقول فى دين الله بالهوى والرأى، فإن للإسلام ينابيع معروفة محصورة تؤخذ أحكامه منها وحدها، ولا يؤذن لبشر بالتزيد عليها أو الانتقاص منها.

وقد توفر العلماء جيلا بعد جيل على خدمة هذه المصادر واحترام حدودها.

لكن بعض العاطفيين يؤثرون- بالهوى- حديثا واهنا أو موضوعا على حديث صحيح، ويعتنقون أقوالا فقهية ليس لها من أصول الفقه سناد.

وقد يفسرون القرآن فتسمع منهم الغرائب.

معانى لا صلة لها بدلالات الألفاظ ولا بتراكيب اللغة، ولا بالمأثور عن رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا بالمروى عن أصحابه الذين تعلموا منه، ومشوا فى أثره.

اسمع هذا التفسير الخرافى لسورة النصر: (إذا جاء نصر الله)

أى المدد الملكوتى، والتأييد القدسى بتجليات الأسماء والصفات.

(والفتح): المطلق الذى لا فتح وراءه وهو فتح باب الحضرة الأحدية والكشف الذاتى بعد الفتح المبين، فى مقام الروح بالمشاهدة.

(ورأيت الناس يدخلون في دين الله) : أى التوحيد، والسلوك على الصراط المستقيم وبتأثير نورك فيهم، عند فراغك من تكميل نفسك.

(أفواجا) : أى مجتمعين كأنهم نفس واحدة.

(فسبح) : أى نزه ذاتك من الاحتجاب بمقام القلب إلى الترقى فى حق اليقين.

(بحمد ربك) : أى حامدا له بإظهار كمالاته وأوصافه التامة عند التجريد بالحمد العقلى.

(واستغفره) : واطلب ستر ذاتك بذاته، كما كان حال الفناء قبل الرجوع إلى الخلق أبدا.

(إنه كان توابا) : قابلا لرجوع من رجع إليه بإفنائه بنوره ولما كمل الدين واستقرت دعوته طولب الرسول بذلك أى بالرجوع إلى مقام اليقين الذى يستمر إلى ما بعد الموت .

نقول: وسورة النصر هذه لها قصة معروفة مشهورة.

فإن عمر بن الخطاب كان يقرب إلى مجلسه عبد الله بن عباس، وهو مجلس يشهده أشياخ الصحابة، وعبد الله لما يزل شابا فى مقتبل العمر، فكأنهم استكثروا عليه تلك المنزلة.

ورأى أمير المؤمنين ذلك فأراد أن يريهم سر إعزازه لابن عباس، وأنه لم يؤثره بقربه إلا لرجاحة عقله ورحابة علمه.

فسألهم عن تفسير سورة النصر، فأجابوا بالمعنى المتبادر إلى الذهن: أمر بالتسبيح والاستغفار، موقوت بمجىء النصر، ودخول الناس أفواجا فى الإسلام بعد الفتح الأعظم وسأل عمر : أكذلك يا ابن عباس؟، وأجاب ابن عباس بإضافة معنى آخر، أن السورة تنعى إلى الرسول نفسه، كأن الأمر بالاستغفار بعد دخول الجماهير فى دين الله إيذان بانتهاء وظيفة الرسول، وتمهيد لانتقاله إلى الرفيق الأعلى...

ذلك كله ما تعنيه السورة.

لكن هذا المفسر المتصوف سلك طريقا لا يعرفه شيوخ الصحابة، ولا ابن عباس، ولا أمير المؤمنين عمر، ولا تطيقه معانى الألفاظ، ولا توحى به صياغة الجمل، ولا سناد له من علم اللهم إلا شرود قائله.

وهذا الهراء لا يسمى تفسيرا، ولا يقبل القول به من أحد.

وأسوأ ما فيه أنه فتح لباب الفتنة والتأويل الباطل لدين الله، وأنه تهجم على القرآن العزيز ما يليق أن يصدر من مسلم.

لندع هؤلاء ولننظر إلى الطرف المقابل، وهو خاص بالعلماء النظريين، الذين أحسنوا دراسة الأحكام وتقريرها.

ولما كنت قد أتممت دراستى فى هذا الميدان فأنا خبير بمآخذه.

تلقينا فقه الصلاة مثلا، وحفظنا من واجباتها بضعة عشر، ومن سننها فوق الخمسين، ومن فروضها وشروطها كذا وكذا، واستغرق ذلك وقتا طويلا.

ومع ذلك فلم نع شيئا من روح الصلاة، من الخشوع الحتم فى حضرة الله، لم ندر شيئا عن العظمة الباهرة التى ينبغى أن تغمر أفئدتنا وأوصالنا.

لقد درسنا الشكل بدقة واستوعبنا من التعاريف والضوابط الكثير..

أما موضوع الصلاة فربما عرض له بعض المدرسين الأتقياء بكلمات قلائل وحسب...!!

وليس هذا هو دين الله.

ودرسنا التفسير، فخذ مثلا هذه الآية أنموذجا للشرح المقرر (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)

الجملة الأولى فيها قصر موصوف على صفة، فما سر هذا القصر؟ والجملة الثانية جاءت بعد اسم نكرة فهى صفة.

والجملة الثالثة تضمنت استفهاما إنكاريا بيانه كذا...

والجملة الرابعة فيها الشرط والجزاء يدلان على خسار المرتد واستغناء الله عنه.

أما الجملة الخامسة ففيها وعد الله بمثوبة الشاكرين.

هذا هو التفسير الذى يجىء فيه الامتحان: أما التنويه بالوفاء للمبدأ وإن مات ممثله.

أما تحديد وظيفة المرسلين بأنها البلاغ الذى يقف كل امرئ بين يدى الله مسئولا عن نفسه.

أما النعى على هؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، والذين يفرون من الميدان عند أول مصاب.

أما تبيين قيمة الحياة الدنيا بالنسبة لحملة المبادئ ولسائر الناس.

أما تعليق القلوب بمولى النعم، وبعث الهمم على الارتباط به والبذل له والفناء فيه وحده.

أما توضيح معنى الشكر على نعمة الإسلام، وتوفيق الإيمان الذى ختمت به الآية.

أما ذلك كله فإن أحدا لا يعرض له، ولا يسأل عنه، مع أنه لباب التفسير.

وما إعراب الجمل واستبانة وجوه البلاغة، وتعرف شتى الأحكام إلا إطار لإبراز هذه المعانى التى تدعم اليقين، وتربى الإخلاص، وتعلم التضحية، وتدرب على الجهاد.

وعجيب أن نقع بين صنفين متناقضين: صنف يفسر بقواعد اللغة والبلاغة، ولفت النظر إلى بعض الأحكام القريبة الظاهرة ثم يقف.

وصنف آخر يهدم القواعد ويتجاهل الحدود ويهجم على القرآن بمعان مبتوتة الصلة به لأنها فى نظره ترقق القلب، وترهف الوجدان، وتنقل الناس إلى الله.

إننا فى هذا الكتاب نعرض ـ كما قلنا ـ جزءا من الإسلام لا مصدر له إلا ما يفهم من الوحى، ولا سناد له إلا شواهد القرآن والسنة.

وأعرف أن ناسا من أهل السنة سيقولون: لقد تصوف المؤلف.

وأن ناسا من المتصوفة سيقولون : إنه شارد عن الطريق.

وحسبى أنى استهديت ربى، وأنصفت هذا الدين من شتى الأفهام الحائرة.

ولله الحمد أولا وآخرا.

محمد الغزالي

الإسلام والإيمان والإحسان

ما هو الإيمان؟

  • حديث جامع : من حديث لعمر رضى الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرنى عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت.

قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.

قال: فأخبرنى عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت.

قال: فأخبرنى عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ...".

الإسلام، الإيمان، الإحسان، كلمات ثلاث وردت فى الحديث معرفة بما يشرح دلالتها، وهى ـ فى نظرنا ـ لتعد عناوين شتى لحقيقة واحدة.

والحقيقة الواحدة قد تنظر إليها من عدة جهات فيعنيك من كل جهة وصف خاص بارز، مع أن هذه الأوصاف كلها متضافرة فى تحديد الحقيقة وتوضيح معالمها.

ولذلك ختم الحديث بتلك العبارة: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ".

والدين الذى نزل أمين الوحى لتوضيحه هو الإسلام إن نظرنا إلى السلوك الظاهر، والعمل البين.

وهو الإيمان إن نظرنا إلى اليقين الباعث والعقيدة الدافعة.

وهو الإحسان إن نظرنا إلى كمال الأداء والوفاء على الغاية عند اقتران الإيمان الواضح بالعمل الصالح...

بل هو جملة هذه المعانى، لا ينفصل أحدها عن الآخر عند التصور الكامل، كالشجرة الحية.

قد تنظر إلى جذعها الذى يحمل الغذاء للغصون الدانية والذوائب العالية.

وقد تنظر إلى الأثمار المطعومة والأوراق المظللة.

وقد تنظر إلى ينع الشجرة وحفولها وازدهارها.

بيد أن هذه الأنظار المختلفة لا تغير من وحدة الشجرة، واكتمال صورتها فى الذهن وفى الخارج.

من الجذع القائم، والأغصان الممتدة، والرواء الشائع فى الأزهار والجنى...

وربما انكمشت العناصر التى تتكون منها حقيقة الدين، ووهت الروابط التى تشد بعضها إلى البعض الآخر، فيكون الإسلام عملا خافتا لا تلمح وراءه قوة الإيمان، أو يكون الإيمان باعثا مريضا لا يدفع الأهواء ولا يوقظ الضمائر، أو يكون الإحسان زعما لا يبصر الحق ولا يحس هيمنته.

نعم، قد يقع هذا فى حياة الناس كما ترى أحيانا شجرة معطوبة الثمر، ذابلة الورق، لا جذعها يحمل الخصب والثمار، ولا أفنانها تحمل القطوف والخير ولا منظرها يوحى بالبهجة والرضا.

ولكن هذه الأحوال المعتلة ليست الفطرة العامة والطبيعة السائدة.

والحديث الذى بين أيدينا يشرح الحقيقة الصحيحة للدين.

والإيمان إذا صح لابد أن ينتج العمل.

والعمل إذا صح لابد أن يرتكز على الإيمان.

والإحسان إذا صح لا ينشأ إلا من إيمان راسخ وعمل كامل.

ويمكنك أن تقول: إن الدين الذى جاء جبريل يعلمه هو الإسلام.

والإسلام لا يصح إلا بالروح الكامنة فيه، والوقود المحرك له أى الإيمان الحق.

فإذا استبطن هذا اليقين الدافع فأمامه مثله الأعلى فى إحكام الصلة بالله، والشعور برقابته الدائمة وشهوده الجليل، وهو مقام الإحسان.

وقد شرحنا الحديث بهذا الأسلوب لأن بعض الناس وهم أن كلمات الإسلام والإيمان والإحسان مراتب يسلم بعضها إلى البعض الآخر، وأن بينها فواصل وفجوات، أى أن الإسلام قد ينفك عن الإيمان، وأن الإيمان قد ينفك عن الإسلام ثم جاء فى هذا العصر الهازل من ظن الإحسان منزلة يتوصل إليها بغير الفروض المشروعة والعقائد المقررة.

وبذلك أصبحت الكلمات الثلاث ترمز إلى حقائق شتى لا إلى دين الله الواحد، وهذا شرود بعيد.

والقرآن الكريم يهدى إلى تلازم هذه المعانى وتساوقها فى بيان حقيقة الدين من ألفه إلى يائه، وإلى أن تلون العبارات إنما يشير إلى الوجوه الوضاءة لهذه الحقيقة الواحدة.

وإنك لترى هذا فى عشرات الآيات التى تصف هذا الدين، وتشرح تعاليمه، ذاكرة فى تضاعيف هذا الوصف كلمات الإسلام والإيمان والإحسان، لتكون هذه الكلمات منارا يضىء الطريق، وحاديا يسوق إلى الغاية.

قال عز وجل يصف المؤمنين فى صدر سورة النمل: (هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) .

وقال يصف المحسنين صدر سورة لقمان: (تلك آيات الكتاب الحكيم*هدى ورحمة للمحسنين)

فاتحدت الصفات للنوعين معا.

وأنت خبير بأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة أهم عناصر الإسلام التى ذكرت فى الحديث.

وقال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

(قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين)

(... وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا).

(ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) .

(ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) .

(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

والآيات السابقة كلها ترادفت فيها عبارات الإسلام والإحسان على أساس أن الإيمان المستكن فى الأفئدة شىء مقطوع بوجوده ووفرته، وإلا فلا يتصور هنالك إسلام ولا إحسان.

واذا كانت هذه الآيات قد تناولت الجانب الظاهر من جوهر الدين فإن الآيات الأخرى تناولت الحقيقة تناولا يصف جذرها الأصيل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا)

(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)

(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا)

(يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا).

(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا).

والمتأمل فى هذه الآيات يرى أن متعلقات الإيمان كثيرة لا يجوز بتة أن ينفك أحدها عن الآخر، كما يرى أن آثار الإيمان العملية- وهى لباب الإسلام لا يمكن أن تنفصل هى الأخرى عن طبيعة اليقين الموحى بها.

بل يرى أن الإيمان بالبعض والكفر بالبعض كفر كامل: وأن الإيمان المقرون بنية التمرد، ورفض الخضوع لله كفر كامل: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون).

ومن ثم يتضح أن حقيقة الدين واحدة، وأن أوصاف الإسلام والإيمان والإحسان التى تعرض له هى شروح لوجوه شتى منه، وليست مراحل مغايرة له أو بعيدة عنه، وإن كان العنوان الذى شاع علما على هذا الدين، بل صفة للأديان كلها، وسمة للفطرة الإنسانية السليمة، هو الإسلام...

ما هو الإيمان؟:

الإيمان معرفة بلغت حد اليقين، أو هو علم يصحبه الجزم والقطع.

فإذا قلت: أنا أؤمن بوجود القاهرة فمعنى ذلك أمران: أحدهما عقلى، هو أنك تعرف وجود هذا البلد، والآخر قلبى، وهو أن علمك لا ريبة فيه ولا تردد، بل مقرون بالتصديق التام.

والإيمان بالله ـ جل شأنه ـ ينطوى على الأمرين جميعا، النظرى والنفسى.

فإذا قلت: أنا أؤمن بالله فمعنى ذلك أنك تعرفه، وأن معرفتك له لا تلتبس بشك أو تردد.

بل إن فؤادك ملئ بالتصديق لقضية هذا الوجود الأعلى.

وبديهى أن تتفاوت حقائق الإيمان فى النفوس بتفاوت المعرفة ضيقا وسعة، وتفاوت التصديق عمقا وقربا.

فهناك عارفون بالله معرفة صافية الرونق، مجلوة الأفق، شديدة التألق كأنها معرفة دراسة وخبرة.

(الرحمن فاسأل به خبيرا).

وهناك معرفة دون ذلك.

وهناك أصحاب قلوب مفعمة باليقين، راسخة الثقة، تمر بها العواصف كما تمر الرياح بشماريخ الذرى لا تزحزها عن الحق قيد أنملة.

وهناك يقين دون ذلك.

على أن الإيمان إذا كان معرفة وتصديقا.

فإن هذه المعرفة يجب أولا أن تتسم بالصحة، وإلا فلا قيمة لتصديق لبابه الخطأ.

إن من البشر أجيالا لا تعرف الله، ومنهم من يعرفه على وجه حافل بالأغلاط والترهات.

والفريق الأول: ينكر أصل الألوهية كالشيوعيين والوجوديين وأضرابهم من الملحدين.

والفريق الثانى: يعترف بالألوهية ولكنه يتصورها تصورا مخالفا للواقع، وينسب إليها ما لا يليق بها، كجماهير المشركين على اختلاف مللهم، سواء فيهم عبدة الأصنام؟ أو الزائغون عن الحق من أهل الكتب الأولى.

والإيمان عندنا يجعل العلم الصحيح بالله روح التصديق المقبول.

وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التى تعرف الله لعباده تعريفا ينفى عن أذهانهم صور الضلال والانحراف، ويقر الحق فى نصابه.

خذ هذه الآية: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم).

هذه الآية تعرف بين المسلمين بآية الكرسى، وقد نوهت السنة النبوية بفضلها ومكانتها، وتتكون من عشر جمل متصلة المعنى فى الحديث عن ذات الله وصفاته:

1- (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ... )

ليس فى الوجود أحد يتجاوز مرتبة العبودية، فكل ما عدا الله عبد له، وهو وحده المتفرد بالألوهية فى السموات والأرض...

من قال عن نفسه إنه إله فهو كاذب، ومن قال عنه الناس ذلك فهم عليه كذبة، وقد تمر بالناس أعصار يتخذون فيها بعض الجمادات والدواب آلهة، وهذه أعصار الانحطاط الذهنى والنفسى التى نرجو أن يتم خلاص البشر جميعا منها.

ولكن الضلال الشائع إلى اليوم اتخاذ بعض البشر الطيبين آلهة مع الله بحجة أنهم انبثقوا منه أو أنه حال فيهم.

وقد حارب الإسلام هذه الضلة حربا شديدة، وأكد أن البشر مستحيل أن يرتفعوا إلى مصاف الآلهة، وأن الله العلى الكبير لا يمكن أن يهبط إلى منازل البشر.

إنه الإله الذى خلق غيره، ومنحه الحياة، وقام على أمره من المهد إلى اللحد

(واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا).

ورسول الإسلام ـ وهو قمة البشرية ـ عندما يدعو الله يؤكد هذه الحقيقة " اللهم أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك وفى قبضتك.

ناصيتى بيدك ماض فى حكمك، عدل فى قضاؤك... ".

2- (الحى القيوم ..)

والأحياء من الخلق ليس لهم من أنفسهم ما يوجب الحياة، إن الحياة عرض مفاض عليهم من خارج أنفسهم.

وهو عرض يفارقهم يوما ولا يعود إليهم إلا وفق مشيئة مفيضه جل شأنه، الحى الذى لا بداية لحياته ولا نهاية، فحياته وصف ملازم له أزلا وأبدا، وذلكم الفارق بين حياة الخالق والمخلوق.

ومن ثم يقول الله لنبيه: (إنك ميت وإنهم ميتون)

أما المتفرد بالحياة العظمى فهو الله.

ولما كانت هذه الحياة وضاحة نفاحة ناسب أن يجىء عقبها وصف القيوم أى الذى يمد الأكوان والخلائق كافة بحركاتها وسكناتها، ويشرف إشراف إحاطة وهيمنة على شئونها وأحوالها فهى أحوج ما تكون إليه وهو أغنى ما يكون عنها.

وقد ورد فى الآيات والآثار أن الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأنه القيم على السموات والأرض ومن فيهن.

والقائم على الشىء، والقيم عليه أو القوام عليه، ألفاظ تتفاوت فى الكشف عن هذه الإحاطة الشاملة لفنون التصريف وألوان السيطرة على العالم.

ولكن لفظ القيوم جاء على هذه الصيغة فى المبالغة، إشارة إلى أنه من المستحيل أن يفلت زمام الأمور من الخالق، أو أن تسير فى وجهة غير ما قضى، إذ كل شىء يستند فى وجوده وبقائه وتقلبه إلى هذا الوجود الأعلى (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا).

وهذه الجملة ـ الحى القيوم ـ أولى الجمل التسع التى ترادفت أشبه بالاستدلال على الوحدانية المتقررة فى الجملة الأولى من آية الكرسى.

إذ هذه الأوصاف تنفى الشركة نفيا حاسما، وتشهد للبارئ الفرد أنه لا إله غيره.

3- ( لا تأخذه سنة ولا نوم )

السنة ما يخالط الأجفان من أوائل النعاس، والنوم هو الاستغراق التام.

والمراد أننا نحن البشر تدركنا ساعات غفلة نفقد فيها الشعور بأنفسنا وما حولنا.

بل نحن فى إبان اليقظة يختلف انتباهنا ونشاطنا الذهنى نحو ما نفكر فيه وما يحيط بنا.

وعند الكلال يضعف هذا الانتباه، وتهن العزيمة، وتكثر الأخطاء.

لكن رب العالمين لا يشغله شأن عن شأن ولا يغفل عن أمر فى السماء لاهتمامه بأمر فى الأرض، ولا تلحقه عوارض الوهن والإعياء، ولا تنفك قبضته الواعية عن ذرة فى العرش أو الفرش لسهو أو إغفاء.

4- (له ما في السماوات وما في الأرض)

الله واسع الملك.

وما تقول فى غنى يشمل آفاق السموات وفجاج الأرض؟ إن العالم كله، علوه وسفله، ملك لله وحده.

والذين يظنهم الجاهلون شركاء لله، ليس لهم فى هذا العالم ذرة، إن كانوا أصناما فما هى الأصنام؟ تماثيل نحتها المصورون فهم فى الحقيقة يملكونها ولا تملكهم.

وإن كانوا بشرا، فهؤلاء البشر ملك لمن صورهم فى الأرحام، وجعل صدورهم تهبط وتعلو بالشهيق والزفير، ولو شاء أن يقف دقات قلوبهم فى أية لحظة من ليل أو نهار ما رده راد..

إن هناك ملاكا على المجاز يضعون أيديهم على بعض التراب ليرتفقوه حينا، وربما طغوا بما يملكون ظاهرا، ثم يجيئهم الموت فيدعون الحياة صفر الأيدى، يدعونها لمالكها الحق الذى له ميراث السموات والأرض.

(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم).

5- (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)

القاعدة العامة فى الإسلام أنه لا شفاعة لمشرك، أو ملحد.

وأنه لا حق لأحد من الملائكة أو المرسلين يذهب به إلى الله ليقول له أعف عن فلان، أو اترك فلانا.

وأن الأساس الأول للنجاة هو الإيمان والعمل الصالح، ولذلك قال!

الله تعالى قبل هذه الآية مباشرة : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون).

ويقول مخبرا عن مصاير المشركين والمجرمين (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).

ويقول أيضا: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى)

وقد يقع ـ لمن ينجون بأعمالهم ـ شىء من الفضل ترتفع به درجاتهم فوق ما يستحقون.

أو يقع ـ لمن قاربوا ولم يصلوا ـ شىء من العفو ينجحون به ولا يرسبون ويجعل الله السبب الظاهر فى ذلك شفاعة المرسلين أو الصالحين.

وهى شفاعة لا ترجع إلى أن هؤلاء المرسلين أو الصالحين يجيرون على الله، أو ينقذون منه من يريد عقوبته، كلا، فما يجرؤ ملك ولا نبى على أن يقف من الله هذا الموقف.

إنهم لا يشفعون إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى.

قال تعالى: (لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون).

(يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا).

وربما قال قائل: ولم هذه الشفاعة وما قيمتها؟ والجواب أنها لا تعدو لونا من إكرام الله فى الدار الآخرة لمن أهينوا بسببه فى الدنيا، فيريد الله أن يصلح بالهم وأن يعلى قدرهم، وأن يشعر عباده بما لهم عنده من مثوبة ومنزلة، وأن يطوى قلوب المقصرين والمتأخرين على محبتهم وإعزازهم لما سيق إليهم من فضل على أيديهم.

بيد أن الشفاعة المذكورة لا تهدم قواعد العدل، ولا تعطل موازين الحساب ولا يحتاج إليها سابق بالخير، ولا ينتفع بها مارق من الحق.

6- (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)

ليس يخفى على الله شىء فى الأرض ولا فى السماء، وعلم الأمس واليوم والغد عنده سواء.

كأن العالم منذ خلق، وإلى أن تبدل معالمه، صفحة واحدة يستوى فيها القريب والبعيد والأول والآخر.

وذلك ـ بداهة ـ لأن الخالق يعلم ما خلق، ولا يتصور أن أحدا صنع من ورائه شيئا فيكون هوـ سبحانه ـ جاهلا به.

إن الإبداع ـ وهو إبراز شىء من العدم ـ لا يقدر عليه إلا الله.

والتغييرات التى تحدث فى المادة ـ وهى محور الأعمال البشرية ـ لا تتم إلا بأقدار الله، ومن هنا كانت إحاطة العلم.

ومن هنا كان معنى قولنا: إن الله لا يعلم هذا الشىء، أن هذا الشىء لا وجود له، إذ لو كان موجودا لعلمه حتما، وهذا معنى الآيات الكريمة.

(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون).

ولقد تجول الفكرة فى خاطرى ـ وكم يحمل تيار الشعور السارى فى كيان المرء من خطرات، وسوانح ـ فأقول: إن الله يعلم هذه الخطرة المارة، كما تمر السحب بالآفاق .

ثم أقول : وعلمه بها منذ أجيال: وأستتلى القول: وهو يعلم من غيرى مثل ما يعلم منى!

ومن غيرى؟ ألوف مؤلفة تزحم أرجاء العالم.

وعلمه يسع هؤلاء فى عصرنا.

وما قبل عصرنا وما بعد عصرنا!!

وما يملك المرء وهو يتابع هذا التصور إلا أن يهتف بالآية: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم).

7- (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)

ينابيع المعرفة تنبجس ابتداء من مشيئة الخالق، حتى العلم بما يقع فى مجال السمع والبصر، إنه لولا ما ركب فى الإنسان من عقل مدر، لماح، ما استطاع أن يفقه مما حوله شيئا.

والاطلاع على ما هو أعمق من ذلك موكول إلى مراتب الذكاء الإنسانى، وأنصبتنا من هذا الذكاء مقسومة علينا ونحن أجنة فى بطون الأمهات.

ومن هنا كان فتح نوافذ قليلة يطل منها العقل البشرى على آفاق من العلم محدودا بما تهىء المشيئة العليا من أسباب عادية أو غير عادية.

ومصادر المعرفة المعتادة مبثوثة فى كتاب الكون المفتوح، وفى تجارب الناس مع الحياة العامة، ويمكن بالوعى والتأمل والتجربة أن نبلغ آمادا بعيدة فى هذا المضمار دون حرج ودون قيد.

أما المعارف الغيبية التى مصدرها الوحى الأعلى، فإن الله قد اصطفى لها رسله الأولين وقد انتهى هذا المصدر بالرسالة الخاتمة ولن يحيط أحد بشىء من هذا العلم عن طريق الاتصال بالله أو بملائكته، ومن زعم ذلك فهو كاذب.

وقريب من ذلك الإنباء بالغيوب، فإن هذا ليس من العلوم الميسرة للخلق حتى تتاح فرصها للبشر على سواء: ولا مكان لوحى ينزل به بعد انقضاء النبوات.

ومن ثم فلا يقبل من أحد القول بأنه داخل ضمن الإمكان العام فى قوله تعالى (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).

فإن هذه المشيئة مبينة بما أوضحناه لك آنفا.

8_ (وسع كرسيه السماوات والأرض)

المتبادر إلى الأذهان أن السماوات والأرض هما حدود الملك الإلهى، وهذا خطأ ، فإنهما بعض آثار القدرة العليا فحسب، ولذلك قال فى آية أخرى:

(ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة )

وقال : (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)

هما من آيات الله وآيات الله الشاهدة بجلاله لا يحاط بها، وكرسيه من الرحابة بحيث يسع السماوات والأرض وسائر ما لا نحصى من آيات.

ونحن لا ندرى ما الكرسى؟ ولا نكلف باكتناه ذلك.

وكل ما ندركه من هذه الجملة هو ما توحى به من الإشراف الإلهى العالى على سائر الخلق، ما نرى منه وما لا نرى، وأن السموات والأرض ما يستغرقان إلا جزءا من الملكوت الواسع الذى اشتمل عليه هذا الكرسى (و الله من ورائهم محيط).

9- (ولا يئوده حفظهما)

لا يتجشم أية مشقة فى ضبط السموات والأرض وتدبيره الأمر بينهما، كما أنه لم يتجشم أية مشقة فى الخلق الأول، وهذا ما ذكره فى قوله: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون).

أى أن ذلك البناء شىء هين إلى جانب ما فى وسعنا، كما ينفق صاحب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فلوسا قليلة، فلا يرى أنه أعطى شيئا طائلا كذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ بناء العالم وحفظه، ما يتعب الخالق المدبر، ولا يرهقه، لفرط عظمته.

والجملة السابقة فى وصف الكرسى تشير إلى علو الذات.

ولذلك جاءت الجملة الأخيرة.

10- (وهو العلى العظيم)

تذييلا يختم المعانى السابقة بذكر اسمين من أسماء الله الحسنى مناسبين للمقام ، مقام العلو والعظمة الواجبين لذى الجلال والإكرام.

العقيدة الصحيحة بين الإسلام والنصرانية: هذا الاعتقاد الشريف فى إله منزه عن كل عيب مستحق لكل كمال هو أساس الدين.

وإن وراء المادة وجودا أعلى يجب اليقين فيه والاستمداد منه.

والله جل شأنه لم يدع الخلق دون رعاية وهداية، بل تعهدهم بالوحى الذى ينير لهم الطريق ويعرفهم المبتدء والمنتهى.

وما الوحى؟ إنه ليس حديث نفس، ولا ارتقاء فكر، إنه تعاليم حملها ملك، وتضمنتها كتب، واصطفى لها بشر.

واستمعت إليها الأمم على مر العصور من أناس يعلمون عن ثقة وصدق أنهم مرسلون من لدن الله إلى عباده لإبلاغ كلماته.

ومن هنا كان من تمام الإيمان بالله، الإيمان برسله وكتبه وملائكته.

لابد لتمام الإيمان من أن يعترف البشر بما وراء المادة، وبالعلم الذى تمخض عنه الوحى السماوى.

إن الإيمان بعلوم الحياة الأرضية وحدها دلالة كفر برب العالمين.

ولا ينجاب هذا الكفر إلا بالاعتراف بالوحى وتصديق المرسلين، والشعور بأن ما جاءوا به حق وأنهم موفدون من قبل الله كى يعدوا الناس لحياة راشدة يحسن بعدها لقاؤهم لله فى اليوم الآخر.

تلك عرى الإيمان كما ذكر الله فى كتابه، وبينها رسوله الأخير فى سنته.

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

والمسلمون يرون الأنبياء جميعا اخوة.

ويرون الكتب النازلة من السماء كلها شارحة لأصول الدين شرحا يصدق بعضه بعضا.

ويرون الأجيال الأولى حفلت بالعديد من هؤلاء المرسلين الكرام، ولا ينتظرون نبوة جديدة فى الأجيال الأخيرة، لأن السماء ألقت كلمتها الأخيرة، فى القرآن الكريم الذى جاء به محمد خاتم النبيين.

(وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)

والخلاصة التى أكدها الإسلام لدين الله الذى بلغه المرسلون عامة تنحصر فى أنه:

1- لا إله إلا الله، ليس هناك إله ثان ولا ثالث.
2- استحقاق الله لكل كمال وتنزهه عن كل نقص.
3- نجاة البشر فى عبادتهم وانقيادهم لتعاليم هذا الإله الفرد كما نزلت من لدنه.
4- ليس هناك أحد يجير على الله، أو يملك التعقيب على حكمه؟ فلا شركاء ولا شفعاء.

والإسلام يأخذ على أتباع الديانات السماوية الأخرى انحرافهم عن الجادة فى تقرير هذه المعانى.

فالمسيحية مثلا ترى أن هناك إلها هو الأب وثانيا هو الابن، وثالثا هو الروح القدس!

ثم تلحق ذلك بأن الأب هو الابن؟ وأن الثلاثة مع ذلك إله واحد!!

وهذا الكلام شطر الإيمان فى المسيحية؟ أما الشطر الآخر الذى لا يتم الإيمان إلا به، فهو القول بأن الإله الابن صلب كى يرضى الإله الأب عن أولاد آدم بعد خطيئته الموروثة.

ولما كان الإله الأب هو نفسه الإله الابن، فمعنى هذا أن الله، قتل الله ليرضى الله.. !!

والحق أن العقل البشرى تبهظه هذه الأثقال، ولذلك فهو بين أمرين إما أن يهضم نفسه فيقبل هذه الأوهام ويعتنقها على ما بها.

وإما أن يطرحها ويسير وفق ما يراه.

وذاك سر البراكين التى تثور فى الكيان الصليبى، وتجعله يقذف العالم بين الحين والحين بأشتات من مذاهب المروق والفسوق والعصيان، كالشيوعية والوجودية والإباحية وغير ذلك من عوج فى الطبيعة الإنسانية بعد ما سارت فى الأرض من غير زمام.

وهاك ما يصور العقيدة المسيحية منقولا عن بعض الكراسات التى توزع اليوم ـ للدعاية ـ ومدعوما بالمصادر الشاهدة له من الكتاب المقدس.

" إن الثالوث الأقدس هو الله الأب السرمدى وهو كائن ذاتى قادر على كل شىء حاضر فى كل مكان عالم بكل شىء، لا حد لحكمته ومحبته، والرب يسوع المسيح ابن الله الأزلي الذى به خلقت كل الأشياء وبه أيضا يتم خلاص المفديين، والروح القدس الأقنوم الثالث فى الثالوث الأقدس، وهو القوة العظيمة المجددة فى عمل الفداء.

إن الرب يسوع المسيح هو الله نفسه إذ هو من طبيعة الله الأبدي نفسها وجوهره، الذى مع احتفاظه بطبيعته الإلهية اتخذ الطبيعة البشرية، وعاش على الأرض كإنسان، ومثل فى حياته، كمثال لنا، مبادئ البر، وأثبت ألوهيته بعجائب كثيرة عظيمة، ومات على الصليب من أجل خطايانا وقام من بين الأموات وصعد إلى الأب حيث الآن يشفع فينا.

[ يوحنا: ا،14، عبرانيين 9:2- 18، 8: 1 ، 2 ؛ 14:4- 16؛ 25:7.

لقد توج السيد المسيح إعلانه عن محبة الله، إذ سار أخيرا إلى الصليب، وهنالك، بوصفه الممثل الكامل الأوحد للجنس البشرى، امتزجت طبيعتاه الإلهية والبشرية امتزاجا لا انفصال له.

وهكذا بعد أن قضى سحابة حياته على الأرض فى طاعة تامة لناموس البر الأبدي الذى وضعه هو، بذل نفسه عن خطايا الناس ذبيحة كاملة تامة وافية بلا تلاعيب، "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرين خطاة هكذا أيضا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرين أبرارا.

[رومية 5: 19.]

وكتب الرسول بولس: " مخلصنا يسوع المسيح، الذى بذل لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم " تيطس 2: 13،14.

لقد صور الرسول بولس التضحية الإلهية الجلى بهذه الكلمات الخالدة: " إذ كان فى صورة الله لم يحسب (المسيح)

خلسة أن يكون معادلا لله.

لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا فى شبه الناس.

وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب " فيلبى 2: 6- 8.

أجل، تنازل السيد فانتقل من أسمى علو إلى أدنى مرتبة، من كرسى المجد إلى خشبة العار، من القدرة اللامحدودة إلى التسليم التام، من السلطان المطلق إلى التواضع العميق من تسبيح الملائكة وتعبدهم له إلى تجديف البشر عليه وهزئهم به.

يا لها تضحية عجيبة فائقة التصور!

أجل، لقد كان الله مستعدا أن يدفع هذا الثمن الذى لا يستقصى فى سبيل خلاصنا.

هكذا أراد أن يعلن محبته لنا ويتصل بنا عبر الهوة السحيقة التى أوجدتها الخطية، وعليه قال الرسول بولس : " فإن المسيح أيضا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا.

البار من أجل الأئمة لكى يقربنا الله " بطرس 3: 18 " أ. هـ.

هذا الكلام العجيب المشحون بالنقائض هو محور الإيمان عند القوم.

الله صلب الله، لكى يرضى الله… يرضى عن الخاطئين من بنى آدم، لو خبر الإنسان بأن قوما فى كوكب آخر يجمعون فى تدينهم هذه الغرائب لأنكر وجودهم، ومع ذلك فهم يعيشون معه على ظهر هذا الكوكب.

وليس لنا من تعليق على قصة الأبوة والنبوة والفداء وروح القدس التى تلتقى كلها فى ذات واحدة إلا قول الله فى كتابه الكريم (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير * قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ).

  • الإلحاد خرافة علمية: قلنا: إن الإيمان معرفة بالله بلغت حد اليقين، وإن المعرفة المقبولة هى المعرفة الصحيحة التى تطابق الحق.

وقلنا: إن هناك من يعرفون الله معرفة مشوبة بالخطأ، مقرونة بأوهام لا يساندها الواقع.

وقد ذكرنا نماذج لتفكير هؤلاء.

وبقى أن نتعرض لقوم آخرين لا يعرفون الله أصلا، بل ينكرون وجوده بقوة.

وهؤلاء الموغلون فى الجحود قد اشتدت سواعدهم فى العصر الأخير اشتدادا محزنا، وأسعفتهم حضارة الغرب المادية بقوى كثيرة.

ففلسفة الشيوعية القائمة على أنه، لا إله والحياة مادة، أمست لها دولة مسلحة مخوفة.

وفلسفة الوجودية، أو نزعات البعد عن الدين إجمالا، تنتظم مواكب ضخمة من المثقفين فى دول أوربا الغربية.

وهؤلاء يروجون لنظرية النشوء والارتقاء، ويدرسون الحياة على أنها بداية هزيلة مبهمة تدرجت فى سلم التطور حتى بلغت وجودها الحالى.

واستطاع الغزو الثقافى أن يقذف مجتمعنا بجملة من هذه الأفكار العليلة وهى أفكار ما تلبث ـ إذا نوقشت ـ أن تنهار.

وقد تجددت الحملة على الإيمان فى الآونة الأخيرة فرأينا أن ندفع ما فيها من باطل، تحت العنوان نفسه الذى اختاره المبطلون وهو: * لغز الحياة: ماذا ترى عندما تعبث الأيدى بأوراق اللعب، أو بأزهار النرد؟.

إنها تلقى ما بها أو تستقبل ما أمامها دون أن تدرى عنه شيئا، ثم تتأمله بعد أن يقع لتعرف ماذا يحتوى.

أترى الأطفال وهم يلهون بالألاعيب المهداة إليهم؟ إنهم يرمونها يمنة أو يسرة ويحركونها بضعف أو قوة، دون أن يكون لهم هدف أكثر من حب العبث وطلب المرح.

هذه الحركات التى تلمحها فى الصغار والكبار لا يمكن أن توصف بأنها مقرونة بحكمة أو محكومة بقانون، أو مصوغة فى إطار من سداد الفكر ودقة الغاية، إنها حركات وحسب.

ونحب أن نسأل: هل خلق العالم جاء على هذا الغرار؟ فركمت مواده بعضها فوق بعض دون قصد، وسيرت حركاته علوا وسفلا دون ضبط، كأن الخالق أراد من هذا الصنيع اللهو والتسلية!

والجواب السريع لا، فإن مبدع هذه العوالم قال فى وضوح: (و ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين).

وفى آية أخرى يبين أن كيان هذا العالم تضام وتماسك، أو تحرك وانطلق وفق نظام رائق، وسنن متسق، وغاية مرسومة، ومراحل معلومة.

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون).

ونريد أن نقف وقفة ذكية فاحصة عند كلمة (الحق ) هذه.

فإنها تكررت فى كتاب الله عشرات المرات.

وهى فى شتى مواضعها تعنى أن الحياة لا تسير خبط عشواء، وأن بناء الكون قائم على بصر نافذ وأوضاع اكتنفها من ألفها إلى يائها إعداد حكيم، وتنظيم مضبوط، يستحيل أن يتطرق إليه خلل أو ينتابه عوج.

فكل قطرة فى المحيطات الفسيحة أخذت سمتها والتقت مع سواها وتهيأت لحمل السفن الماخرة، أو صلحت لحياة الأسماك والحيتان، وثارت موجا عاتيا أو حالت جليدا باردا.

كل قطرة فى عالم الماء العميق الوسيع تكونت على هذا النحو وفق قانون عتيد وخطة مرسومة، وصل العلم البشرى إلى جزء منها، وربما وصل إلى أجزاء أخرى مع إدمان النظر والتفكير.

وكل ذرة فى القارات الراسية من أرض مخصبة أو مجدبة تماسكت مع غيرها وصلحت مهادا للناس يستخرجون دفائنها، ويرتفقون ظواهرها، ويجوبون أقطارها، ويعمرون فجاجها كل ذلك ما يتم إلا فى نطاق التخطيط الأزلى الذى وضعه البارئ الأعلى للكائنات كلها.

فهى مطبوعة به منساقة إليه لا تعرف غيره ولا تحيد عنه.

أجل، فالنظام الشامل يسود كل حركة وسكنة تتعرض لها الكائنات جملة وتفصيلا.

وعندما وجه فرعون إلى موسى وأخيه هذا السؤال: (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).

إن هداية كل شىء فى الحياة ليقوم بوظيفته المطبوع عليها، هو " التقدير " الذى سير الله به الحياة تسييرا متقنا..!

(سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * و الذي قدر فهدى)

وذلك هو معنى الحق الذى قامت به السموات والأرض.

فلا تحسبن نبتا ينبثق من ترابه كما يحلو له.

إن مقادير الأغذية التى يحملها أو الروائح التى يطلقها عبئت فيه وفق سنن بينة قائمة.

ولا تحسبن نجما يخترق هذا الفضاء متجولا فهو يسرع إذا أحب ويبطئ إذا أحب.

إنه يجرى تبعا لقوانين قيد بها، وقوى حبس فى حدود أذن الله بها، ولم يأذن بغيرها.

وقد وزعت هذه الإيحاءات من بدأ الخليقة توزيعا لا يلحقه اضطراب ولا ترقى إليه فوضى.

وإبرازاً لهذه الحقيقة قال الله جل شأنه: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم).

ذلكم هو الحق الذى انساب فى أوصال العالم كما تنساب الروح فى البدن، والذى تكرر كثيرًا فى سور القرآن الكريم.

(ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون).

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل).

(أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون).

وربما ظن القارئ أن هذا الكلام خيال شاعر سخيف، أو تصور طفل غرير!

لكننا نسارع إلى زيادة دهشته فنقول له...

بل هذا الكلام يوصف بأنه تفكير علمى لدى بعض الناس!.

هذا المنطق الصبيانى هو للأسف محاولة علمية لتفسير لغز الحياة!

وحل مشكلة الوجود!

وبيان أن العالم مادة وحسب، وأنه لا إله.

هذا المنطق يرثد أن ينقل خصائص الألوهية إلى المادة نفسها جاعلا السنن الكونية المنتظمة لها علامة تفكير واختيار لدى الأحياء والجمادات على سواء.

يقول الكاتب: " اسمعوا.

هذه ليست نكته.

إن الوردة فيها عقل.

وشجرة البلوط لها عقل.

وإن كان عقلا ثخينا مثل جذعها الثخين.

إن حركة زهرة عباد الشمس وهى تلوى عنقها لتتجه نحو الشمس لا تختلف كثيرا عن حركة النحلة وهى تطير إلى الحقل لتجمع العسل.

ولا عن حركة الإنسان الواعية العاقلة وهو يطير ليقتحم المخاطر مستهدفا رسالة سامية.

إن الحركات الثلاثة منظومة متصلة الحلقات، الفارق بينها فارق فى الدرجة فقط إن حركة زهرة عباد الشمس فى بساطتها. عقل.

فما هو العقل؟ إنه قدرة تصرف وتكيف بالبيئة.

إنه فى كلمات قليلة بسيطة.

القدرة على اتخاذ موقف انتقائى أكثر ملاءمة للحياة فى كل لحظة، والزهرة حينما تلوى أوراقها نحو الضوء تتخذ موقفا انتقائيا أكثر ملاءمة لحياتها.

إنها تتحرك عاقلة.

ومعنى هذا أن العقل ليس شيئا جديدا فى الإنسان.

إنه فى الطبيعة الحية كلها.

كل الفرق أن الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف بها ويحتال على بلوغ أهدافه، الإنسان بحكم كونه مخلوقا معقدا يملك يدين فيها عشرة أصابع.

ويملك لسانا ناطقا.

ويملك عينين مبصرتين.

وأذنين حادتين.

وبشرة حساسة.

وأنفا شماما.

وكل هذه الأجهزة فى خدمة عقله.

الإنسان حيوان إقطاعى عنده عشرة آلاف فدان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرهفة.

وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينها.

وهذه خرافة إقطاعية غير صحيحة.

العقل باطن كامن فى كل الطبيعة الحية.

ومنذ أن انبثت الحياة فى الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة.

وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر والتلصص والخبث والنية التى فى الإنسان: لا جديد فى الإنسان.

وإنما هناك تطور فقط ".

أقرأت هذا الكلام العجيب ووعيت مراميه؟ إن أرضنا هذه لم يصنعها أحد خارج عنها، فإن كل ذرة فيها تؤدى رسالتها وفق عقلها الخاص ورأيها المستقيم!.

فإذا خرجت بعرة من دبر بهيمة، فبرأيها خرجت، وبرغبتها وقعت حيث وقعت!

وإذا تحركت جرثومة بمرض فبعقلها سادت وبمشيئتها أصابت من أصابت.

وهذا الكلام ليس نكتة.

بل هذا هو التفكير العلمى كما استقر فى أذهان بعض الغافلين، وهو الحل الموفق للغز الحياة، كما يتخيل نفر من الحاقدين على الله الكارهين لاسمه المحاولين إطفاء نوره.

والجنون فنون.

الله. هو الحق المبين.

إن بعض الناس يتناول الحقائق العليا بعبارات ساخرة، فلا حرج علينا إذا دافعنا قضايا الإيمان بأسلوب يمزج بين الجد والتهكم.

وليعذرنا القراء إذا رأونا نسوق الأمثلة والشواهد جامعة بين هذه الأطراف الـبعيدة.

لو قيل لك إن إسكافا فى إحدى حارات القاهرة شارك ـ بعلمه ـ فى إرسال صواريخ الفضاء!

وبعث الأقمار المصنوعة!

فماذا تقول؟.

ستقول يقينا: هذه أضحوكة!

لماذا؟ لأن إطارة هذه الأقمار توفر عليها نفر من العلماء العمالقة أتقنوا من الدراسات الكونية ما يعجز أمثالهم عن مناله.

إن سبعين قنطارا تنطلق فى الفضاء وتعود وفق خطة مرسومة متحدية قوانين الجاذبية وعواصف المجهول عمل هائل، تراصت عقول كبيرة فى إتقان كل أنملة منه.

وليس ثم مجال للقاصرين والجاهلين لتحمل وجودهم بله مشاركتهم، فما للأساكفة وهذا الأفق؟ ولو قيل لك: أنظر هذا القصر الوسيق الأركان السامق البنيان!

إن أحد البغال التى تشد عربات النقل هو الذى شاده!!

إنك ـ بداهة ـ ستثق من أن القائل قد جن.

لماذا؟ لأنك تعلم أن أفكارا نيرة وأيديا قادرة هى التى خططت الشكل، ثم أقامت الأركان، وصاغت الأبواب والنوافذ، ونسجت شبكة الضوء والماء، ووزعت عليه، علوا وسفلا، أنواع الطلاء.

وأنى للبغالى كلها هذه القدرة؟ ولكن العقل الإنسانى الذى يستسخف هذه الفروض، لا يزال يهوى عند بعض الناس حتى يحول هذه الفروض الغبية إلى حقائق محترمة.

إطارة قمر صغير تحتاج إلى ذكاء لامع، وعلم واسع وتقدير دقيق، وبصر عميق.

أما إطارة الألوف المؤلفة من الكواكب الضخمة الرحبة فلا تحتاج إلى شىء من هذه الصفات؟ إن اسكاف أفندى بغبائه هو الذى يطيرها ويديرها!!

بناء بيت محدود يحتاج إلى هندسة وقدرة وفن وابداع، وهذه الصفات لابد أن تكون طبعا فى ذات لا فى فراغ.

أما بناء الكون الكبير الطويل العريض، فلا يحتاج إلى شىء من هذه الصفات.

إن بغل أفندى يستطيع ببهيمته أن يضع الرسم، ويبرز البناء.

إن الإيجاد والتدبير وظائف عالية، لا يمكن أن تتم إلا إذا تصورنا إرادة عليا، وقدرة عليا، وحكمة عليا وعلما أعلى.

وابداعا أعلى.

وهذه الصفات لا تتصور إلا فى ذات المريد القادر الحكيم العليم بديع السموات والأرض ذى الجلال والإكرام.

هذه بداهة لا تحتاج إلى كد الذهن، وإجهاد الفكر، ومع ذلك فإن أحد الكتاب أخذ يتناول لغز الحياة، لماذا؟ ليحل هذا اللغز على أساس أن اسكافا طير القمر الصناعى، وأن بغلا بنى أهرام الجيزة.

وأن شيئا باطنا فى تراب الأرض هو الذى أنبت سنابل القمح، ولف كل حبة فى غلالها، ونسقها صفوفا متراكبة، وأودع بها النشا والزلال والسكر...

الخ.

شىء باطن فى تراب الأرض لا عقل له، ولا إحساس، ولا مشيئة، ولا تدبير هو الذى صنع هذا.

هكذا يريد منا أن نفهم وأن نصدق.

إنها غرائز فى الطين ـ ليس لها مصدر إلا الطين ـ جعلت هذا الطين، ينبثق عن الحدائق الزاهرة والحقول العامرة.!!

فما تلمح على صدور الأغصان من ثمار، وما تشم رائحته من أزهار، وما تقيم به حياتك من عناصر طيبة كمنت فى هذه الحبوب المحصودة والفواكه الجنية، هذا كله، من صنع "العلامة طين أفندى" قام من تلقاء نفسه، فلا ألوهية هنالك، ولا وجود أعلى.

وطين أفندى هذا هو أخو إسكاف أفندى الذى شارك علماء الروس والأمريكان تطيير أقمارهم!!

لا إله والحياة مادة، هكذا يريد أن يعلمنا الكاتب البائس الباحث عن حل للغز الحياة!

اسمعه يقول: " ما الحياة؟ وما سرها؟ من الذى علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج...؟ ".

إنه طبعا اهتدى إلى ذلك بعقله الخاص!

" من الذى علم الطيور الهجرة عبر البحار والصحارى إلى حيث تجد الغذاء الأوفر والجو الأحسن، وإلى حيث تتلاقى وتتوالد؟ ومن الذى يسدد خطاها طول هذه الرحلة من ألوف الأميال فلا تضل ولا تتوه؟ ".

إنها طبعا عرفت ذلك بعبقريتها الملهمة!

" من الذى علم دودة القز أن تنسلخ من ثوبها مرة بعد أخرى، ثم تنزوى فى ركن لتبنى لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالى طويلة مثل أهل الكهف، ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة.

يقول الكاتب الألمعى: هذا الانتقال المنظم الدقيق من نمط فى الخلق إلى نمط آخر.

هذا التطور من دودة إلى حشرة، الذى تتعاون فيه الألوف المؤلفة من الخلايا، يحدث تلقائيا بلا معلم؟ ".

أى ليس هناك ملهم من الخارج تولى هذا الأمر وأشرف عليه، إذن كيف حدث؟ يقول : "إن المعلم هو الفطرة المرشدة المغروسة فى المادة الحية بطريقة لا يعرفها أحد...".

والطريقة التى لا يعرفها أحد هذه، هى الحل الموفق المحترم للغز الحياة..!!

قل أى شىء فى قطع صلة الموجودات ببارئها الأعلى يكن الكلام علما تقدميا مسموعا.

مهما كان الكلام سخيفا سمجا.

النطفة تحولت إلى إنسان سوى العضلات، مكتمل الحواس، ذكى العقل، لا لأن موجدا أعلى تولى ذلك وأشرف عليه، بل لأن النطفة من تلقاء نفسها مشت فى هذا الطريق، وبلغت تمامها كما يتحول الشخص المفلس إلى غنى مكثر بجده واجتهاده..!!

هذا هو منطق العلم، ولا بأس أن نتمشى مع هذا المنطق فى مراحل خلق الإنسان لنستقر على حقيقة واضحة فيه.

يبدأ وجود الإنسان عقيب التقاء الحيوان المنوى بالبويضة السابحة فى رحم الأنثى والحيوان المنوى كائن عجيب فهو مع ضآلته المتناهية يحتوى على خصائص الرجل المادية والمعنوية، وعنه تكون وراثة المشابه فى طول القامة وقصرها مثلا، فى سواد الشعر أو شقرته، فى لون الجلد، فى حدة المزاج والذكاء أو فى ضد ذلك... الخ.

ونسأل: من صنع هذا الكائن العجيب؟ أهو الرجل؟ أنا وأنت خلقنا هذا الحيوان وأودعنا فيه أسرار السلالة البشرية والمواهب الشخصية؟ لا بداهة، فما يذكر أحد منا أنه فعل شيئا من هذا!

أم أن لقمة الخبز التى أفلتت من بين الأسنان أخذت تكافح فى سبيل الترقى فتحولت من تلقاء نفسها إلى دم، ثم إلى منى؟ إنه شىء مضحك أن نتصور هذه اللقمة من الخبز قد رسمت لنفسها خطة كاملة لإيجاد بشر، أو للتحول إلى بشر يمشى على ظهر الأرض.

إذن من الذى خلق هذا الحيوان وجعل فى كيانه الدقيق مشروع بناء إنسان؟ ليس إلا الله !

(أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون).

إن هذا الخالق الكبير يحكم الأسباب ولا تحكمه الأسباب، وهو مستطيع أن يخلق البشر بوسائط أخرى غير ما يعرف فى النشأة الأولى للإنسان الآن.

ولذلك يقول بعد الآيات السابقة: (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشأكم فيما لا تعلمون).

ولنتابع النظر فى أطوار خلق الإنسان بعد النطفة المعلومة، إنه يتدرج فى أعماق الرحم آخذا طريقه إلى التمام.

ترى من يشرف على تكوينه وتصويره، الأب أم الأم؟ إن دور الأب انتهى فماذا تصنع الأم فى تطوير هذا الجنين؟ من الذى يشق الأجفان ليضع العين المبصرة، ومن الذى يصنع الآذان، ويضع فيها حاسة السمع، ومن ومن؟؟؟.. الخ.

إن الجنين فى بطن الأم تحت أمعاء مشحونة بالطعام والفضلات، ووسط أجهزة لا تعى إلا ما سخرت له من وظائف معينة فهل يراد منا أن نتصور الخالق للسمع والبصر والفؤاد هو الجهاز البولى أو الجهاز الدورى؟.

إننا نتصور بغلا يبنى الأهرام، ولا نتصور هذا الذى يفترضه الملحدون حين ينكرون الألوهية فى هذا المجال الناطق باسمها الدال على عظمتها...

إن الخلق يا أولى الألباب وظيفة لها مؤهلات، إن إيجاد شىء من عدم أو من غير عدم يقتضى أوصافا معينة لابد منها، إن تجميع آلات الراديو ووصلها بالتيار لتنطق عمل لا تطيقه دابة من الدواب، ففاقد الشىء لا يعطيه، إنما يستطيع هذا امرؤ له عقل وخبرة.

والذين يتصورون العالم المنسق الرتيب قد كونته مادة لا روح بها ولا وعى، قوم يريدون أن يشيعوا غفلتهم أو تغفيلهم بين الناس وهيهات..!!

قال لى أحد هؤلاء: أتنكر نظرية التطور؟ فقلت له: لنفرض جدلا أن نظرية التطور أضحت حقيقة علمية ثابتة، وليست نظرية يمكن أن يعدل العلماء عنها إلى تفسير أصدق لأصل الأنواع فماذا تفيده تلك النظرية؟ هب الإنسان كان أولا " أميبا " ثم ارتقى حتى أصبح كما هو الآن، أفمعنى ذلك أنه لا إله؟ كلا إن الزعم بأن هذا التطور يتم من تلقاء نفسه لأن بالأشياء خصائص تجعلها تتدحرج من فوق إلى تحت أو تتدرج من تحت إلى فوق، هكذا من غير مؤثر خارجى، زعم فارغ من العلم والمنطق!!

إنك تتصور فى تراب الحقول الذى تأنقت فوقه الأزهار والأثمار عبقرية مصورة خلاقة، وأنا لا أتصور فى تراب الحقول شيئا من هذا وأرجع وجود الأزهار والأثمار إلى كائن أعلى هو الجدير بأن يسمى الخالق المصور.

إنك تستقبل الوليد حين ينفتح عنه الرحم، زاعما أن فى جسم الأم المصانع التى نسجت اللحم، وأنشأت العظم، وأوجدت المخ قابلا للذكاء والتفكير.

وأنا لا أرى فى جسم الأم إلا مجالا لعمل المشرف الأعلى.

الذى يقول: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين).

إنك تنظر إلى القصر المشيد فتقول: بناه ما فى البلاط من خصائص.

وما فى الأخشاب من طبائع!

وأنا أقول: لا.

بل مهندس معه أدوات التفكير والتنفيذ.

إن ما تسمونه علما هو الجهل بعينه (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا).

ما الإسلام؟

إن الإيمان المجرد ينبت شعورا بالخضوع لله.

خضوعا تمتزج فيه الرغبة والرهبة.

وليس فى هذا عجب.

فإن الذى يعرف عظيما من البشر يحس نحوه بالإعزاز والانقياد.

فكيف بمن عرف الله وفقه صفاته العظمى وأسماءه الحسنى؟ إن الخضوع المطلق يفعم فؤاده، ويجعل مبدأ السمع والطاعة أساس صلته به.

وأيا ما كان الأمر فإن الدين ليس معرفة التمرد وشق عصا الطاعة، هو التسليم التام لله، والإنفاذ الكامل لما حكم به.

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)

وكلمة الإسلام فى مدلولها اللغوى، وفى مصطلحها الشرعى تعنى هذا.

إنها لا تعنى الخضوع الجزئى، أو الخضوع المشروط، أو الخضوع الكاره.

إنها خضوع لله، ينقل الإيمان المستكن فى القلب إلى عمل تصطبغ به الجوارح.

ويترجم اليقين الخفى إلى طاعة بارزة فى الحياة الخاصة والعامة.

وهذا الذى نقول يظهر فى أركان الإسلام التى ذكرها الحديث المشهور، كمأ يظهر فى سائر شرائعه المبينة فى الكتاب والسنة.

  • معنى الشهادتين: وأول شرائع الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

وهذه الكلمة العظيمة تعنى شيئا فوق الإخبار المعتاد، إنك حين تذهب إلى ساحة القضاء فتذكر ما تعرف فى قضية معروضة لا تقصد مجرد الإخبار.

إنك بما تقول تحق حقا كاد الباطل يغلبه، وتخذل باطلا كاد يروج وينتصر، إن الإخبار المجرد قد يكون قصصا مسليا، وقد يكون حكما جادا.

وشهادة التوحيد حين ترسلها فى ساحة الحياة فأنت بهذه الشهادة لا تطلق خبزا هو بعض ما يتداوله الناس من كلام أو يتناقلونه من حديث.

إنها شهادة تعنى إحقاق حق وإبطال باطل.

إنها شهادة تعنى أنك قررت المضى فى الحياة وفق خطة تنابذ الشركاء العداء وتقر لله بالوحدة.

إنك بهذه الكلمة أبديت وجهة نظرك فى قضايا كثيرة تشغل الناس ليلا ونهارا.

إن الناس فى الواقع يخضعون لآلهة شتى.

ويطوفون حول كعبة تحفها أصنام المال والجاه والسلطة.

وكم فى الدنيا من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم.

وذلك عدا من ساء فهمهم فى الألوهية.

ومن أنكروها بتة...

فى هذه الظروف العصيبة يكون معنى أشهد أن لا إله إلا الله.

أنك فى ساحة الحياة تدفع بعملك باطلهم وتجابه بحقك ضلالهم.

وتعلن أنك مستمسك بعرى هذا الحق، وأنك لا تخفيه فى سريرتك بل تشهد به ليظهر بين الملأ ويعرف ويتقرر.

إن الشهادة ليست فقط دلالة إيمان.

بل هى معالنة برأى.

وبداية لسلوك إنها شهادة تنتقل من ساحة القضاء إلى ساحة الحياة لتكون شارة مذهب معين.

وصبغة نفس عرفت الله.

وقررت أن تسير باسمه فى كل درب!

والشهادة بأن محمدا رسول الله لم تذكر فى الحديث اكتفاء بالشطر الأول.

فإن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بأنبيائه واحدا واحدا.

فمن آمن برجل منهم وكفر بالآخر فهو بهم جميعا كافر، وهو بالله كذلك كافر، لا فرق بين موسى وعيسى ومحمد وسائر المرسلين.

فالله عز وجل أبر بأنبيائه من أن يدعهم لعبث العابثين وتفريط المفرطين، سيما وهم لم يعيشوا على ظهر الأرض لأنفسهم، بل عاشوا لربهم يذكرون به، ويدفعون الجماهير إليه، فكيف يبعدهم الله عنه بعد ذلك؟ لقد قال: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا)

والشهادة بأن محمدا رسول الله شهادة لجميع المرسلين على اختلاف العصور بأنهم حق، وأن اتباعهم واجب.

ذلك، لأن محمدا جاء مصدقا لجميع من سبقوه من النبيين، ومجددا لتعاليمهم، ومنصفا لهم من الأتباع الغالين والجائرين، ورافعا لذكرهم فى الآخرين كما ارتفع فى الأولين.

ومعنى أشهد أن محمدا رسول الله: أتعهد بأن أتخذ من حياته الأسوة الحسنة وأن أستمسك بالسنة التى رسمها، وأستظل باللواء الذى نصبه.

ولك أن تسأل: من أين هذا التعهد؟ والجواب: أن سر العظمة فى حياة محمد يرجع إلى أنه إنسان كامل، بلغ ذروة الارتقاء البشرى عن طريق العبودية الصحيحة لله.

فهو لم يزعم يوما أن الله حل فيه، أو أن بينه وبين الله نسبا يخلع عنه وصفا من أوصاف البشرية المعتادة، كلا، إنه واحد من الناس تخيرته العناية العليا ليبلغ عن الله، وليكون رائدا يتقدم صفوف التائبين إلى ربهم.

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)

(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك)

كان رجلا سوى المشاعر قوى العضلات لم تضن بدنه عاهة أو علة.

تصله هذه العافية بأقطار الحياة الصحيحة دون عقد نفسية.

وكان زوجا وأبا وتاجرا وفارسا، وكان يتعرض للغنى والفقر، والنصر والهزيمة، والحزن والسرور، والرضا والغضب.

ومع هذه البشرية التى يشركه فيها سائر الخلق فقد انتظم سره وعلنه فى خشوع وجهاد وتفان فى ذات الله، جعله يتحدث عن نفسه صادقا مصدوقا فيقول: " أنا أتقاكم وأعلمكم بالله ".

من هنا تجىء الأسوة.

من بشر مثلنا أحرز الكمال الإنسانى على عنت الظروف وقوة البيئة يتعلم الناس ويتعظون، وفى هذا يقول الكتاب العزيز: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا).

أجل، لأن سكان الأرض بشر تعمل فى كيانهم غرائز البدن ورغائب النفس، ويتعرضون فى حياتهم لمشاعر الضيق والفرج، والشدة والرخاء، والكدح والراحة، والتجمع والشتات..

إلخ، ناسب أن يجيئهم نبى منهم يتعرض لمثل ما يتعرضون، ويواجه ما يعرض له بأحسن تصرف وأشرف سلوك.

من هنا تكون الأسوة، من خطوات هذا الرسول الإنسانى فى مرضاة الله والوقوف فى ساحته وابتغاء وجهه تكون السنة التى يجب أن تتبع " فمن رغب عن سنتى فليس منى".

وكلمة التوحيد تقتعد مكان القيادة فى حياة الرجل المسلم والمجتمع المسلم، وعليها المدار فى فنون الطاعات التى حفل بها الإسلام.

ولما كان الإسلام هو الخضوع التام لله فربما يظن لأول وهلة أن المسلم لا ينبغى أن يرتكب مخالفة، ولا أن يقع فى معصية.

إذا العصيان ينافى الخضوع.

الخطيئة فى حياة البشر: وهذا المعنى يحتاج إلى إيضاح ينفى التناقض بين منطق الخضوع الواجب لله، وما تنزلق إليه طباع الأناسى من أخطاء وخطايا...

هناك أغلاط تقع دون أن تتجه إليها الإرادة اتجاها بينا، بل تكاد تقع دون إرادة.

خذ مثلا عمل الطباع فى جمع الحروف والكلمات، إن الكتاب لا يتم طبعه إلا بعد أن تمر كل صفحة بعدة تجارب، ترى الأخطاء فى التجربة الأولى كثيرة، ثم تقل أو تنعدم فيما بعدها من تجارب.

إن العامل يود من أول مرة أن يكون جهده سليما من كل عيب، وهو بإرادته وبصره وأصابعه يجمع الحروف والكلمات على أساس تحرى الصواب، ومع ذلك يقع فى الخطأ برغمه، لأن قصور قواه يغلبه.

خذ مثلا عمل الخياط: إنك تذهب إليه بالقماش ليصنع لك بدلة ملائمة، وهو يجتهد أن يفصل أجزاء الثوب على بدنك بحيث يصنع منه حلة وسيمة، ومع ذلك فقد يقع من الطول والقصر والسعة والضيق ما يجعله يعيد التجربة على بدنك مرة حتى يصل إلى ما يبغى.

إن هذه الأخطاء أثر العجز البشرى فى بلوغ الكمال من أول سعى والخطأ هنا يتولد من تلقاء نفسه تقريبا، لا أثر فيه لرغبة أو تعمد.

والواقع أن المسلم لا يطيق عصيان الله، ولا يرضى به، ولا يبقى عليه إن وقع فيه؟ بل إن ما يعقب المعصية فى نفسه من غضاضة وندامة يجعل عروضها له شبه مصيبة، فهى تجىء غالبا، غفلة عقل، أو كلال عزم أو مباغتة شهوة وهو فى توقيره لله، وحرصه على طاعته يرى ما حدث منه منكرا يجب استئصاله.

إنه كالفلاح الذى يزرع الأرض فيرى " الدنيبة " ظهرت فيه، فهو يجتهد فى تنقية حقله قدر الاستطاعة من هذا الدخل الكريه.

ولو بقى المسلم طول حياته ينقى عمله من هذه الأخطاء التى تهاجمه، أو من هذه الخطايا الذى يقع فيها، ما خلعه ذلك من ربقة الإسلام، ولا حرمه من غفران الله.

ولعل ذلك هو المقصود من الحديث القدسى.

"يا ابن آدم إنك ما دعوتنى، ورجوتنى، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى.

يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك، ولا أبالى.

يا ابن آدم لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ".

وبعض السفهاء يأتى لهذا الحديث وأشباهه فيظنه إذنا عاما بالعصيان.

وهذا الظن من انطماس البصائر، وأهله أبعد الناس عن المغفرة.

إن المعصية شىء خطير، واتجاه الإرادة إليها زلزال يصيب الإيمان، أو ضباب يغطى معرفة المسلم لربه.

يصحب هذا العمى انفلات من قيد الخضوع ومن مبدأ السمع والطاعة.

من أجل ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " .

وهذا الانتقاء المؤقت للإيمان، أو لأثره ـ وهو طاعة الله وتقواه له عواقبه المخوفة، ترى أيعود كاملا أو يعود مثلوما؟.

فإذا استمرأ العاصى المرعى فهل لهذا الإيمان المنفى من عودة؟ مع أنه مطارد باستدامة العصيان!.

ونحن ـ بطول التأمل واستقراء التجارب ـ لا نستطيع فك المعصية عن الحالات النفسية المصاحبة لها، وعن الظروف الخارجية الواقعة فيها.

فى هذه الأحوال والظروف فيصل التفرقة بين ألوان الخروج على الدين، فهناك اللمم المرتجى له العفو، وهناك الإهمال الذى يستحق اللوم، وهناك التفريط أو الانحلال اللذان يستوجبان العقوبة.

وهناك أخيرا المروق الذى يحكم على صاحبه بالارتداد، والتفصى عن ربقة الإسلام.

فشرب الخمر مثلا جريمة، ولها حد تواضع المسلمون على إقامته.

وربما رأيت بعض واهنى العزيمة من المدمنين الذين ألفوا الخمر فى جاهليتهم لا يحسنون اجتنابها فيقعون فيها على خزى!

وكان الحد قديما يقام على أحدهم فيتحمله راضيا!!

مثل هذا المجرم لا نستطيع عده مرتدا عن الإسلام إنه مسلم مخطئ وحسب!.

ولكن هناك من يفتتح معصرة لتقطير الخمور، أو حانة لبيعها، وهو يعلن عن بضائعه؟ ويغرى بتناولها؟ ويجتهد فى ترويجها هنا وهناك؟ ويقيم حياته على مكاسبه من هذا الاتجار الخبيث.

هذا الصنف لا يمكننا بأية حال من عده مسلفا؟ لقد كفر بلا ريب؟ وأنبت رباطه بالإسلام!.

لماذا؟ لأن السكير الأول رجل وهت إرادته فى الخير؟ أما السكير الثانى فهو رجل قويت إرادته فى الشر.

فالبون بينهما بعيد؟ بعد الخضوع المضطرب عن التمرد العاتى.

ونية الخضوع لا تخرج صاحبها عن معنى الإسلام، أما نية التمرد؟ والإصرار على رفض الطاعة فلا يمكن بتة أن تسمى إسلاما، بل إن ذلك عادة يصحبه استباحة الحرام وجحد الواجب وهما كفر باتفاق المسلمين.

وفى أمثال هؤلاء المصرين المتمردين تساق آيات التخليد فى العذاب التى تهددت بعض العصاة: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا).

وهناك مثلا آخر: إن القاضى قد يميل عن الحق لشفاعة بعض ذوى الجاه وقد يميل عن الحق لهوى غلب عليه وجعله يحابى أحد الخصوم.

هذه معصية بلا ريب تستحق الويل والثبور؟ وهى حكم بغير ما أنزل الله يعرض صاحبه لأشد العذاب؟ ولكن هل ذلك كفر بالله وارتداد عن الملة؟ أو بتعبير آخر هل يسوى هذا الآثم بصنف آخر من الناس يرى الحكم بما أنزل الله بقية من مخلفات الماضى التى لا تستحق البقاء، ويستبدل بها قانونا آخر يبيح ما حرم الله ويقترح عقوبات أفضل فى نظره مما شرعت السماء من حدود وقصاص؟!

ويدرس ذلك ويدعو إليه ويوسع دائرته جهد الطاقة!!

إن العاصى الأول شخص طاش به نفع عاجل، أو غلبته شهوة جارفة فحادت به عن طريق الواجب الذى يعرفه ويعترف به.

أما الآخر فهو يدع أمر الله رغبة عنه واتهاما له، ويرى أن يتقدم بين يدى الله ورسوله بأحسن مما أوحى الله وبلغ الرسول.

هذا إن كان فى نفسه إقرار بأن النبوة حق؟ وأن الله قائم بين عباده بالقسط.

إن الفارق بعيد جدا بين معصية تتم فى الظلام؟ ومعصية تقع فى وضح النهار.

بين معصية يكون العقل فيها غافيا، ومعصية تتم مع يقظة الفكر وإعمال الرأى.

بين معصية تمشى فى الأرض على استحياء ومعصية تتبجح كأنها فضيلة.

إن عزيمة تتعثر فى طريق الخير غير عزيمة استحكمت فى طريق الشر.

ويستحيل أن ينسب إلى الإسلام فرد أو مجتمع من ذلك النوع الفاجر بعصيانه، السافر باعتداء على حدود الله، واطراح فرائضه، واستبقاء محارمه.

إن الدين ـ كما أوضحنا ـ إيمان بأن الله حق، وإقرار بأن شرائعه واجبة النفاذ، والسجود لها بالقلب والجوارح.

فمن استعلن بمسلك مضاد لما أمر الله به ونهى عنه، واجتهد كى يرسى قواعد الشر مشاقا لله ورسوله فهو فاسق كفور، ومن البلاهة وصفه بالإيمان.

(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون).

والضابط الذى يطرد حكمه فى كل شىء، والذى لا نقلق فى السير معه هو أنه حيث يرى أثر الخضوع لله، والانقياد لأمره فالإسلام موجود.

وإلا فلا إسلام.

أجل لا إسلام حيث تجحد الفرائض، وتموت الشرائع، ويسود الهوى ويضيع هدى السماء.

دائرة الخضوع لله: وقد شرع الله جملة فرائض تعد ـ مع شهادة التوحيد ـ أركان الإسلام.

والحكمة من إقامة هذه الأركان تدريب الناس على طاعة الله وإحسان الخضوع له والبعد عن الرذائل التى زجر عنها.

ولهذه الأركان آثار نفسية واجتماعية بعيدة المدى لا مجال هنا لشرحها.

وإنما الذى نسارع بتوضيحه أن من أداها ولم يستفد منها الخضوع الواجب لله فى كل شىء، فكأنه ما أدى شيئا، مهما استكثر من هذا الأداء.

ما قيمة صلاة أو صيام لا يعلمان الإنسان نظافة الضمير والجوارح؟ عن ثوبان ـ خادم رسول الله ـ عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بأعمال ـ أمثال جبال تهامة ـ بيضاء، فيجعلها الله هباء منثورا!!

قال ثوبان يا رسول الله، صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم.

قال: أما هم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " .

هؤلاء ـ كما ترى ـ يؤدون الأركان الظاهرة، غير أنهم لا يستفيدون منها الخشوع المطلوب، ولا تخلق فيهم الضمير الصاحى المراقب لله فى السر والعلن، ولا تكون فى نفوسهم روح الخضوع المطلق تجاه كل ما نهى الله عنه، وما أمر به.

لهذا لم تحسب لهم مع أنها تبلغ الجبال!.

وما نحب أن نرسل كلاما يغض ظاهره من شأن العبادات المفروضة من صلاة وصيام، فإن هذه العبادات حركة حقيقية فى صقل الإنسان وترويضه على الخضوع لله فى سلوكه كله.

ولكننا نلفت الأنظار إلى الفروق الطبيعية بين الحركات الحقيقية والحركات التمثيلية!

إذا قلت: إنك بنيت دارا فى فضاء ما من الأرض، فلكى تكون صادقا يجب أن يرى الراءون هذه الدار رأى العين، وإذا قلت إنك غسلت هذا الثوب من أوساخه فيجب لتكون صادقا أن ينشر هذا الثوب على الملأ، فلا يبين به أثر قذر.

وأركان الإسلام عمل حقيقى لبناء النفوس على الخير، وصياغتها على نحو مترفع يتنزه عن الدنايا ويبتعد عن الرذائل.

وقول الله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر).

خبر حق.

فإذا رأيت مصليا لا ينتهى عنها، فالسبب لا يعود إلى ريبة فى الخبر الإلهى، بل السبب أن الرجل يمثل حركات صلاة وليس مصليا حقيقيا.

وقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " خبر حق.

ومعناه أن الصيام يعفى على آثار الماضى السيئ، ويمسح أكداره عن مرآة القلب فتعود مجلوة نقية ثم يستأنف الصائم بعد خلاصه من أدران ماضيه حياة تكاد تلحقه بالملأ الأعلى...

فإذا رأيت صائما معتكر النفس غائم الصفحة، فاعلم أنه ممثل فحسب يتشبه بالصوام فى ترك الأكل حينا، ليغرق فيه بعد.

إن العبادات التى تكون أركان الإسلام، أو التى تصور جمهرة شرائعه رياضة جليلة الآثار فى تربية الأخلاق وتقويم الطباع.

وهذا بعض ما ينشأ عنها.

أما الأساس الأول لشرعها فهو أداء حق الله، والقيام بوظيفة العبودية واعتراف البشر بأن الله الذى خلقهم ورزقهم يجب أن يعبد ويشكر.

إن أغلب الناس فى هذا العصر المادى يحسبون الحياة لا تعدو الخمسين أو الستين سنة التى يقضونها على ظهر هذه الأرض يقضونها وهم فى عماية من أمرهم لا يدرون من أين جاءوا ولا إلى أين يصيرون، يقضونها وهم يصطرخون فى طلب القوت ورفع مستوى المعيشة، ظانين أن رسالة البشرية محبوسة داخل هذه الحدود وحسب.

والذين يعرفون الله لا ينظرون إلى الحياة هذه النظرة الصغيرة.

إنهم يرونها قنطرة لحياة أخرى عنده ويبنون سلوكهم فى هذه الحياة الأولى على تحرى رضاه، وإقامة هداه.

وهم لذلك يعدون " العبادة " شيئا يقصد لذاته، ويوثقون صلتهم بالله لأن الله أول من ينبغى توثيق الصلة به، إجلالا لألوهيته، وإقرارا بفضله، وابتغاءً لثوابه، واتقاء لعقابه...

إن شهادة التوحيد وهى الركن الأول فى الإسلام إسهام من البشر فى إعلان تنزيه الله، هذا الإعلان الذى تتجاوب به مواد الكون علوا وسفلا (و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم).

واسم الله أحق اسم بالهتاف والتقديس والدعاء والتمجيد.

فماذا زمت الشفاه دون النطق بهذه الشهادة الواجبة، وإذا صرف الناس عن الاعتراف بهذه العظمة السائدة، فأين يذهبون؟ وكيف يعيشون؟ (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا و كرها و إليه يرجعون).

إننا نطلب من الناس أن يهتموا بهذه الوظيفة التى خلقوا لها، وظيفة عبادة الله واستشعار نعمائه والاستعداد للقائه، والفزع إلى طوله، ومد اليد إلى عطائه.

ولن يبارك للعالم فى يومه وغده إلا إذا استقام على هذا المنهج..

والله جل وعز لن يمنع الناس فضله ما بقيت أكفهم ممدودة إليه، فإن أبو إلا النسيان فيسصرعهم القلق والعنت ولن يضروه شيئا، إنهم أحوج ما يكونون إليه وهو غنى عنهم أبدا.

عن أبى ذر رضى الله عنه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنه قال: يقول الله عز وجل: "يا بنى آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفرونى أغفر لكم.

وكلكم فقير إلا من أغنيت فاسألونى أعطكم.

وكلكم ضال إلا من هديت فاسألونى الهدى أهدكم.

ومن استغفرنى ـ وهو يعلم أنى ذو قدرة على أن أغفر له ـ غفرت له ولا أبالى.

ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطانى مثل جناح بعوضة.

ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زادوا فى سلطانى مثل جناح بعوضة.

ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألونى حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألونى ما نقص ذلك مما عندى كمغرز أبرة لو غمسها أحدكم فى البحر.

وذلك أنى جواد واجد ماجد، عطائى كلام وعذابى كلام.

إنما أمرى لشىء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون " .

وأركان الإسلام لم تشرع لشخص واحد يقيمها إذا شاء ويهملها إذا شاء.

بل شرعت لأمة من الناس تحيا عليها، وتتواصى بنصرتها، وتستبطن الولاء لها، وتغرس فى أرجاء الجماعة شاراتها وشعائرها، ويتوارث الأخلاف ذلك كله عن الأسلاف.

خذ مثلا الصلاة ـ وهى فى لبابها مناجاة عبد لربه ـ إن الإسلام لم يشرعها عملا فرديا، بل نظاما جماعيا تتراص الصفوف له وتشرف الدولة عليه!!

نعم فالتعبير المختار فى الكتاب والسنة لأداء الصلاة هو إقامة الصلاة.

ولم يقل: صلوا، أو إئتوا الصلاة، أو افعلوا الصلاة، بل أقيموا الصلاة!

وفى تفسير قوله تعالى: (هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)

قال العلماء: يؤدونها فى جماعة!

لماذا؟ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ".

والواقع أن التجمع للصلاة جزء من إقامتها، والإقامة الكاملة تكون بتنظيم الإقبال عليها، وإشعار البيئة كلها بالمبادرة إليها، والمحافظة على أوقاتها، واحترام ركوعها وسجودها وقراءاتها وتسابيحها واستحياء معانيها بعد انقضائها.

(فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا).

إن الدين ينشد أن يكون الخضوع لله ظاهرة اجتماعية عامة لا مسلكا فرديا خاصا.

وإقامة الصلاة من أبرز الأعمال لدعم هذه الغاية ودوام تحققها، وفى سبيل ذلك أعدت المساجد لاستقبال النساء والأولاد والرجال كى ينتظموا صفوفا وراء إمام يتلو القرآن ويكبر الرحمن.

وقبل كل صلاة يشق صوت المؤذن حجاب الصمت السائد، أو يعلو صخب الحياة المعتادة مهيبا بالناس أن يدعوا ما يباشرون من أعمال ويستعدوا للمثول بين يدى الله.

إن هذا الأذان العالى المتكرر المتصل مع اختلاف الليل والنهار، شعار أى شعار لكل مجتمع مسلم.

وعند اندلاع فتنة الردة أيام الخليفة الأول، كانت الوصاة للمجاهدين أن يتسمعوا الأذان فى أوقات الصلاة، فإذا حملت إليهم الريح أصداء التكبير عرفوا أنهم بإزاء جماعة مؤمنة، وإذا استمر الصمت، ولم يرتفع النداء بذكر الله، عرفوا أنهم أمام قوم مرتدين، فاستعدوا للقتال...

وإنى لأعجب أشد العجب لأقوام يضيقون اليوم بإذاعة أذان الفجر من مكبرات الصوت.

لقد جاءنى ـ وأنا مدير للمساجد ـ من يعلنون تأذيهم لذلك، محتجين بإزعاج المرضى أو التعكير على الهاجعين، لا أغمض اللهم لهم جفنا.

وترددت شكايات هؤلاء على ألسنة صحافيين ما يعرف أحدهم الفرق بين طهارة وجنابة، وصدرت الأوامر ألا يذاع من مكبرات الصوت أذان الفجر كى تبقى القاهرة نائمة لا يعكر صفوها ذكر الله!!

إن هذا بلا ريب أثر الجاهلية التى حملها الغرب إلينا، ولقن ألوفا مولفة من الناس تعاليمها...

والإسلام شىء غير هذا، إنه يضفى على أرجاء أمته روح الخضوع لله ويجعل من رسالتها الإنسانية الكبرى ـ إذا مكنت فى الأرض ـ أن تشرب الجماهير عاطفة الحب للمسجد وإلف النداء المنبعث منه.

(الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور).

أى إن من عمل الحكومة الإسلامية أن تحافظ على الأمن مثلا برجال الشرطة، وأن تحافظ على الإيمان بإقامة الصلاة، وأن ترفع المستوى الاقتصادى بشتى المشروعات والجهود، وأن ترفع المستوى الروحى مع ذلك، وقبله، وبعده، بمختلف وسائل الإعلام التى تملكها.

ولا يحسبن غافل أن الإسلام يتوسل بالحكم لإكراه مخالفيه على الدخول فيه وإقامة شعائره، كلا، فليس فى ديننا إكراه.

لقد قال العلماء: إن الزوج المسلم يرسل زوجته إلى الكنيسة يوم الأحد إذا كانت نصرانية، فلها دينها وله دينه!!

إنما المراد أن تقوم الدولة فى الإسلام بواجبها فى رعاية حقوق الله، كما فصلها الكتاب والسنة بوصفها ممثلة لجمهور المسلمين، وحارسة على مثلهم الأعلى.

إن شرائع الإسلام كثيرة، والأركان الخمسة المذكورة هنا هى بعض الإسلام لا كله.

والمهم أن الإسلام خضوع تام لكل صغيرة وكبيرة جاء بها الوحى.

ولن يتم إسلام المرء إلا إذا قال من أعماق قلبه بإزاء كل ما أوصى الله به (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

ما الإحسان؟

عند صدق الإيمان وتمام الإسلام يجىء الإحسان نتيجة لازمة لهما قال تبارك وتعالى: (إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا)

لقد علمت أن الإيمان حسن معرفة لله وثقة نامية فيه، وأن الإسلام استجابة مطلقة لتعاليمه، وتحر دقيق لرضاه، فإذا تجمعت هذه العناصر، وجرت فيها مشاعر اليقين، وأينعت فيها صوالح الأعمال، فإن المرء يكون لا محالة محسنا..

والحديث الذى بين أيدينا عرف الإحسان...

أن تعبد الله كأنك تراه.

فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

ورؤية وجه الله فى العمل هى الباعث على إجادته والحادى على إتقانه، وهى ليست تخيلا لقوة موهومة، بل هى شعور بالوجود القائم، وإدراك لحقه.

فإذا لم يبلغ المرء هذه المرتبة من الحس فلن ينزل عن المرتبة الأخرى، وهى الشعور بإشراف الله ورقابته عليه وعلى كل شىء حوله.

ونريد أن نقف عند هذه الكلمة " أن تعبد الله... ".

إن العبادة تشمل نوعين من الأعمال: الأول: الفروض العينية التى لا يخلو منها مكلف.

وهى فروض تنتظم الناس فردا فردا، ويعتبر كل أحد مسئولا برأسه عن أدائها.

الآخر: الفروض التى يسأل المجتمع بجملته عنها، ويكلف بتوفيرها فى نطاقه العام، ويعد أفراده قاطبة مقصرين ملومين إذا خلا المجتمع منها، وهذا ما يسمى فى اصطلاح الفقهاء بالفروض الكفائية.

والفروض العينية تتصل بالخصائص المادية والأدبية التى يتساوى البشر فى أصلها فما من إنسان على ظهر الأرض يمكن أن تسقط عنه الصلاة أو يمكن أن يباح له الزنى.

إن هذه الفروض تستهدف تزكية كل نفس، فما تصلح أى نفس إلا بها ومن هنا كان وجوبها عينيا.

أما الفروض الكفائية فهى تتصل ابتداء بالملكات والمواهب التى يتفاوت الأفراد فيها، وتختلف ميولهم إليها اختلافا بينا، ومع ذلك فإن المجتمع يقوم على أداء كل فرد لما يحسن منها...

لو أن الناس كلهم فلاحون فمن يتاجر؟ ولو كانوا جميعا صناعا فمن يزرع؟ إن إيجاب عمل بعينه على فرد بعينه شىء متعذر، وإنما تفرق الأعمال عليهم وفق رغباتهم ويرشحهم استعدادهم له.

وهذا التوزيع يقوم المجتمع به تلقائيا، لضمان مصالحه كلها، فإذا وقع خلل فى ذلك كان مسئولا عن تلافيه.

وربما سأل سائل.

وما علاقة هذه الأعمال العادية بالدين؟ والجواب أنها من صميم العبادات، وأنها حفا فروض كفايات، وأن الهندسة، والطب والفلاحة، والصناعة، ومختلف الحرف وأسباب العمران من أركان الإسلام، وأنها تدخل دخولا محتوما فى دائرة الإحسان التى تناولها الحديث الشريف بهذه العبارة الموجزة: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".

وذلك لأن الإنسان ـ وهو محور النشاط الدينى وموضع التكاليف السماوية ـ لا تستقر له حياة، ولا يستقيم له وجود إلا إذا كفلت له معايشه وتعاونت ظروف البيئة على ضمانها.

أى أنه يوجد ويستقر أولا ثم تلاحقه الواجبات بعد ذلك.

وهذا الوجود منوط بالكدح سحابة النهار والاستعداد له ـ بالراحة ـ أثناء الليل قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا)

وقال تعالى: (وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا).

إن تعاقب الليل والنهار مجال النشاط العمرانى الذى تقوم به الحياة الدنيا، وهو كذلك مجال النشاط الدينى الذي يعرف به الله، وتكفل به الحياة الأخرى قال تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا).

فلابد للإنسان من أن يعمل عملا ما، عملا ترشحه له ملكاته وخصائصه ويلزمه المجتمع الذى يعيش فيه بأن يقوم به.

وفى شبكة الأعمال المنثورة على هذا وذاك، يسرى تيار الحياة العامة قويا، ويتوزع على الأفراد ما يصون معاشهم، ولن يستطيع أحدهم صلاة وصياما إلا إذا تحقق هذا المعاش الحتم، ففروض العين لا توجد إلا بعد أن تتحقق فروض الكفاية!!

وربما استطاعت أمة من الأمم أن تحيا على نحو بدائى ييسر الكفاف لبنيها ويجعل ما يقيم أودهم شيئا ضئيلا لا يتطلب إلا أدنى الجهد، وبذلك يكون كفاحهم العمرانى ضيق الدائرة، ينصرفون بعده إلى الفروض العينية من صلاة وصيام.

وإذا كان ذلك عسير التصور فى حياة الجماعات فهو سهل التصوير فى حياة الأفراد.

  • الإحسان فريضة مكتوبة على كل شىء: وهذا كلام يحتاج إلى فضل بيان، نعم، يقدر أحد الناس على تناول أقراص من الخبز، وارتداء ألبسة من الخيش، والانزواء بعد ذلك فى مكان خرب أو عامر يعبد الله كما يرى.

والبيئة التى يوجد فيها هذا الصنف من الناس ربما لا تتطلب أكثر من رحى للطحن، ومغزل للنسيج، وعدد من الأشغال التافهة هى التى تمثل " فروض الكفاية " فى مجتمع ساذج.

لكن الإسلام لا يصلح فى هذه البيئة، ولا تعاونه أدواتها على السير، ولا على مجرد البقاء.

لو كان الإسلام رهبانية صوامع ربما أنزوى فى جانب منها واكتفى بأى لون من العيش، ولكنه دين يبغى الاستيلاء على الحياة، وإقامة عوجها ومحاربة طواغيها.

وعدة هذا الجهاد تتطلب أمدادا موصولة من النشاط والخبرة والتضلع فى علوم الحياة والتمكن من أشتات الحرف.

أى أن المجتمع الإسلامى لابد أن تزدهر فيه جميع الفنون والصناعات التى تشيع بين أجيال البشر فى أرجاء الأرض كافة.

وينبغى أن تبلغ براعة المسلمين فى هذه الميادين حد التفوق.

فإذا قورن بهم غيرهم فى النواحى المدنية والعسكرية كانوا أرجح كفة وأهدى سبيلا..

وإتقان هذه الأمور فى طليعة درجة الإحسان التى شرحها الحديث...

تصور مثلا أن المسلمين متخلفون فى صناعة الدواء، وأنهم فى هذا عالة على غيرهم من الأمم الشيوعية والصليبية!

أتظنهم بهذا التخلف يسدون إلى دينهم أو إلى أنفسهم جميلا؟ أم أنهم بهذا التخلف يهزمون مبادئهم ومثلهم العليا فى أول معركة مع عدوهم؟ تصور أنهم متخلفون فى فن الطباعة، أتراهم يستطيعون السيطرة على وسائل النشر وإبراز الحقائق وإغراء ألوف القراء بمطالعتها والإقبال عليها؟ إن مهنة صيدلى، أو مهنة طباع، فرائض على المجمتع الإسلامى كالصلاة والصيام سواء بسواء، غاية ما هناك من فرق أن الصلاة والصيام لا يتخلف عن أدائها أحد، أما فروض الكفاية فيختار لها من يصلح لها.

ومن لم يصلح لحرفة معينة صلح لغيرها، وكلف بالقيام بها.

وعندما يقع الاختيار على واحد بعينه للقيام بفريضة اجتماعية أصبح مسئولا عنها لفوره مسئوليته عن الركوع والسجود، وأصبح إحسانه لمهنته ـ أى مهنة ـ كإحسانه للصلاة.

إن عبادة الله فى الحقل كعبادته فى المحراب، وعبادته فى المصنع كعبادته بالسعى والطواف.

وتشبع المرء من الطعام ليقوى على الجهاد، كتقلله من الطعام فى عبادة الصيام، وصور الطاعات شتى، ومكان الإحسان فيها لا يتناهى.

إن إجادة الأعمال كلها غاية من وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض!

(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور).

ولما كان الإنسان خليفة لله فى أرضه، وكان تصرفه فى عناصرها أثرا من نفخة الروح الأعلى فيه، وكانت مرتبة الإحسان المنشودة له بعض ما يربطه بنسبه السماوى العريق، نسبة لله (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).

ومن هنا استحب الله له أن يتقن كل ما يصدر عنه، وألا يخرجه من بين يديه معيبا أو شائنا.

فلو ذبح حيوانا ليأكله فليكن ذلك بأدب ولطف.

رأى عمر بن الخطاب رجلا يقود شاة من رجلها ليذبحها فقال له: ويحك، قدها إلى الموت قودا جميلا .

وعن المسيب بن دار قال: رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمالا وقال: لم تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟ رواه ابن سعد فى الطبقات.

وعن عاصم بن عبيد القه بن عاصم بن عمر بن الخطاب أن رجلا حد شفرة وأخذ شاة ليذبحها فضربه عمر بالدرة وقال: أتعذب الروح؟ ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها ؟ وعن وهب بن كيسان أن ابن عمر رأى راعى غنم فى مكان قبيح، وقد رأى ابن عمر مكانا أمثل منه، فقال ابن عمر، ويحك يا راعى حولها فإنى سمعت رسول الله يقول: " كل راع مسئول عن رعيته ".

ولو أنفذ القصاص فى قاتل فليس القصد إزهاق روحه بأى وسيلة ـ وإن كان مجرما ـ بل يجب إقامة أمر الله بنزاهة وترفع.

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله كتب الإحسان على كل شىء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " .

وقال: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " .

والإتقان لا يتأتى بالادعاء والجهالة، فإن لكل عمل أرضى أو سماوى قواعد يصح بها، وتدرك بالتعلم والمران.

  • قوانين الإحسان وأخطاره: ولن يبلغ المرء درجة الإحسان حتى يستوعب هذه القواعد فقها وأداء وحتى يرقى من طور السلامة إلى طور الإجادة والتبريز للكلام قواعد نحوية وصرفية لا يقبل إلا مع توفرها فيه.

والكلام يكون صحيحا عندما يتفق مع هذه القواعد، ولكن لا يوصف بأنه بيان حسن إلا إذا كان عليه من رواء البلاغة طابع جميل.

للصلاة سنن وأركان ينبغى أن يستجمعها المصلى، فإذا تمت كانت صلاته صحيحة، ولكنها لا تبلغ درجة الإحسان إلا إذا تألق فى حركاتها وسكناتها روح الخشوع، واطمئنان البصيرة إلى الله، وخلوص القلب فى حضرته.

قيادة السيارات لها تعاليم وشروط، والقدرة على القيادة تشيع بين خلق كثير، ولكن البراعة التى تدفع صاحبها إلى الأمام فى ميادين السباق لا تتاح إلا لنفر قليل.

إن الإحسان ليس علما عاديا ولا عملا عاديا، إنما هو الشأو البعيد، الذى تبلغ الأشياء فيه تمامها، وتزهى فيه بجودتها ونقاؤها.

والمسلم مخاطب بنشدان هذه المنزلة فى كل ما يمس من عمل.

العادات، والعبادات فى ذوقه وفقهه سواء، إذ العادات بمجرد اقترانها بنية الخير تتحول إلى عبادات.

ولا يفرق بين الأمرين إلا أن لهذه صورا انفرد الشارع برسمها، أما تلك فهى متروكة لعلم الناس وتجربتهم على مر العصور.

حدد الشارع أعداد الصلوات وهيئاتها، ولم يحدد طرق الزراعة وأنواع المزروعات، وجعل هذه فرض عين وتلك فرض كفاية.

ولكن هذا الاختلاف فى الوصف والتحديد لا أثر له فى درجة الإحسان المفروضة على كل شىء.

وغاية ما يستفاد منه أن الشارع فتح باب الابتداع والانطلاق فى شئون الدنيا وأتاح للبشر أن يتصرفوا فيه كيف شاءوا.

أما شئون العبادات فهى مجمدة على صورها المأثورة لا مجال فيها لتحوير أو تطوير.

وذاك خير.

ومجموعة الأعمال التى يتحرك بها جهاز الأمة فى كل مجال، تختار لها المواهب الصالحة ويعد لها الأكفاء من كل بيئة، وذلك لضمان الإحسان المكتوب على كل شىء.

ويرى الإمام الشاطبى أن ذلك يتطلب مرحلتين: التعليم العام، ثم الإعداد الخاص.

قال : ".. وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة!

ألا ترى إلى قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا).

ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدى ومصه، وتارة بالعلم، فطلب من الناس أن يتعلموا جميع ما تستجلب به المصالح، وكافة ما تدرأ به المفاسد، إنهاضا لما جبل فيهم من غرائز فطرية ومطالب إلهامية.

لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح ـ الكافلة لحياتهم ـ سواء كانت من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم، أو الاعتقادات، أو الآداب الشرعية والعادية.

وفى أثناء العناية بالأجيال الناشئة، وتنمية مواهبها الفطرية يقوى فى كل واحد من الخلق ما امتاز به، ويبرز فيه على أقرانه الذين لم تهيئهم الأقدار على غراره، فلا يأتى زمان التعقل حتى ينضج فيه ما اختص به من ملكات، فهذا يطلب العلوم، وهذا يعشق الآداب، وهذا يتجه لبعض المهن، وهذا يهوى الرياضة والفروسية، وهذا يحب الكفاح والجلاد، وهذا ينشد التقدم والرياسة...

الخ.

وإذا كان كل واحد قد غرزت فيه القدرة على التصرف العام، والفهم لقدر مشترك من شتى المعارف إلا أن العادة جرت بغلبة بعض الميول الأدبية والمادية عليه، فتكون التربية الصحيحة تتبع هذه الميول بالإنماء والرعاية، ثم توزيع الأعمال على المكلفين بما يوائم طبائعهم، وعندئذ ينهض كل مكلف بأداء ما هو راغب فيه محسن له ".

وبعد أن شرح الشاطبى النظام الدراسى الذى يقترحه للطلاب وفق خصائصهم النفسية قال: " وهكذا يكون الترتيب مع من ظهرت عليه صفات الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فإنه يمال بهذا الصنف إلى ما يرغب، ويعلم آدابه المشتركة، ثم يختار له الأولى فالأولى من صنائع التدبير كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به، وما ظفرت له فيه نجابة ونهضة.

وبذلك يتربى لكل عمل ـ هو فرض كفاية ـ قوم يؤدونه.

وطريق المعرفة الطويل يبدأ بمرحلة مشتركة ـ حيث يقف السائر، ويعجز عن المسير ـ فقد وقف عند مرتبة من الثقافة تحتاج إليها الأمة فى الجملة، وإن كانت به قوة، ومضى فى السير حتى وصل إلى أقصى الغايات فإنه سيحرز من الكفاية ما يرشحه لأداء فروض كفائية أخرى رفيعة القدر فى شئون الدين والدنيا.

قال الشاطبى ـ ونلتزم هنا النص الحرفى ـ: فأنت ترى أن الترقى فى طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد، ولا هو على الكافة بإطلاق، أو على البعض بإطلاق، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل أو العكس، بل لا يصح أن ينظر فيه بنظر واحد...

حتى يفصل بنحو من التفصيل، ويوزع فى أهل الإسلام فى مثل هذا التوزيع، وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه، والله أعلم وأحكم.

وقريب من كلام الشاطبى فى توزيع الأعمال على من يحسنونها وفق استعداداهم النفسى والعقلى ما قاله ابن القيم فى تغاير التكاليف والواجبات بالنسبة إلى ميول الأشخاص ومواهبهم.

قال : " فالغنى الذى بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شىء منه، فصدقته وإيثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة.

والشجاع الشديد الذى يهاب العدو سطوته: وقوفه فى الصف ساعة، وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع.

والعالم الذى قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم فى دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح.

وولى الأمر الذى قد نصبه الله للحكم بين عباده، جلوسه ساعة للنظر فى المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، وإقامة الحدود، ونصر المحق، وقمع المبطل أفضل من عبادة سنين من غيره.

ومن غلبت عليه شهوة النساء، فصومه له أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته.

وتأمل تولية النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد، وغيرهما من أمرائه وعماله، وترك تولية أبى ذر، بل قال له: إنى أراك ضعيفا، وإنى أحب لك ما أحب لنفسى، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم.

وأمره وغيره بالصيام، وقال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له.

وأمر آخر بأن لا يغضب.

وأمر ثالثا بأن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله.

ومتى أراد الله بالعبد كمالا وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له قابل له قد هىء له، فإذا استفرغ وسعه بز على غيره وفاق الناس فيه كما قيل: مازال يسبق حتى قال حاسده هذا طريق إلى العلياء مختصر وهذا كالمريض الذى يشكو وجع البطن مثلا إذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به، وإذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف داءه.

فالشح المطاع مثلا من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها.

وكذلك داء اتباع الهوى والإعجاب بالنفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع فى العلم والذكر والزهد.

وإنما يزيله إخراجه من القلب بضده.

ولو قيل: أيهما أفضل، الخبز أو الماء؟ لكان الجواب: أن هذا فى موضعه أفضل، وهذا فى موضعه أفضل.

كذلك فنون العبادات...

الإحسان بين التأمل الذاتى والصلاح الاجتماعى: جمهرة الناس تغلبهم طبيعة العيش، وضرورات النفس والأولاد، وظواهر الحياة الدنيا، فتراهم منصرفين بأفكارهم ومشاعرهم إلى تأمين حاضرهم والاحتباس فى نطاقه الضيق.

ولو أنك تسمعت الضجة التى تسود أرجاء العالم، وحاولت استبانة معناها ما وجدت إلا بغام الغرائز المهتاجة تريد إثبات نفسها وتحقيق رغباتها.

أما منطق الإيمان خلال هذا الضجيج العالى فهو همس لا يكاد يبين.

إن كان ذلك بين الأمم الكافرة بالله ـ وهى اليوم ألوف مؤلفة ـ فالأمر ظاهر، كيف تذكر من تجهل؟ أو من تجحد؟ وإن كان بين جماهير المؤمنين، فإن معرفتهم لله كامنة فى طواياهم، قد تحركهم إلى رحبات المعابد حينا، وقد تحجزهم عن بعض المحارم حينا، ولكن هذه المعرفة قلما تبقى وضاحة مع الركض المجهد فى ساحة الحياة وراء مآرب أخرى...

من أجل ذلك حث الله عباده المؤمنين به أن يقاوموا هذا الذهول السائد، وأن يتخلصوا من هذه الغيبوبة العامة، وأن يذكروه برغم هذه المنسيات، وأن يحاولوا الاستضاءة بوجهه الكريم خلال غواشى الدنيا وكرباتها.

أجل، يجب أن ينقذوا أنفسهم من الغرق فى هذه اللجج المتتابعة، وليس من طريق إلا الإكثار من ذكر الله، والتشبث بأسمائه الحسنى، وشدة التعلق به فى كل حين وفى كل حال.

وهذا سر الوصايا المتكررة بإدمان الذكر وإطالته.

(واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين).

(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا)

(فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم).

والذكر ليس افتعالا نفسيا لشىء بعيد عن الإنسان، أو تخيلا لوهم مقطوع الصلة بالحياة الخارجية.

كلا.

إن الله لا يغيب عن الناس لحظة، وهو معهم حيثما كانوا.

ومن ذلك شأنه، فمن الحق أن يحس وجوده، وأن يدرك شهوده، وأن يتصرف الناس ـ ما شاءوا ـ لكن مع الاستيقان بأنهم فى حضرته، ما ينفكون عنه أبدا، وما يتركهم لحظة (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ).

وذكر الله من أشرف العبادات وأنفس ما يجرى على اللسان من كلمات، وأذكى ما يمر بالخاطر من صور، وما يثبت فى القلوب من معان.

وهو مفتاح الصلة المباشرة بالله الكبير المتعال، ما إن يشرق معناه فى نفسه وتتحرك به شفتاه حتى يذكره الله ببره ولطفه، ويصحبه بتأييده وعونه.

عن أبى هريرة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إن الله عز وجل يقول : أنا مع عبدى إذا هو ذكرنى وتحركت بى شفتاه " .

وفى الآية (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).

وعن ابن عباس أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة.

قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا فى نفسها وماله ".

وقد تنافس الصالحون فى ذكر الله، وربطوا أفئدتهم وأذهانهم به، لم يتوهوا عنه فى زحام الحياة، ولم يفتنهم عن ذكره نعمة، أو تشغلهم محنة.

وقد رأوه طريقا سريعة التوصيل إلى مقام الإحسان، والأنس بمشاهدة الله عما تزخر به الحياة من فتون ومجون.

وسعى وعبث، وعزلة واختلاط، وقصور وانطلاق!!

ونحن نريد أن نقف هنا وقفة قصيرة، لنكشف شبهة خدع بها الكثيرون فإن إلف الذكر والاستئناس بمعانيه الرقاق، والاعتزاز بما يتركه فى النفس من صفاء ووداعة، كل ذلك جعل لفيفا من الصالحين يحسبه الغاية المنشودة لا الوسيلة الباعثة، ونشأ عن ذلك أنهم استغنوا به عن غيره، وظنوا مقام الإحسان وليد حالاته وإشراقاته.

ولعل مما روج لهذه الخدعة ما روى عن أبى الدرداء قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق.

وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قال : بلى، قال : ذكر الله… قال معاذ بن جبل: ما شىء من عذاب الله من ذكر الله .. ".

ونحن لا نسارع إلى تكذيب حديث ما لأن ظاهره ـ لأول وهلة ـ يخالف المعروف من الدين.

والأمر يتطلب شيئا من الفقه والتدبر...

من الذى قال: إن المجاهدين فى سبيل الله طائفة أخرى تقابل الذاكرين لله، وتوضع فى كفة مغايرة يقال: هذه أرجح من تلك؟ إن الجهاد فى سبيل الله أرفع درجات الذكر، والمجاهد فى سبيل الله رجل يعرف ربه، ويريد أن يغرس هذه المعرفة فى الحياة، وأن يرويها بدمه حتى تزدهر وتنمو.

المجاهد فى سبيل الله رجل يذكر الآخرين بالله بعد أن امتلأ هو بهذا الذكر من إخمص قدمه إلى ذؤابة رأسه.

لقد ذكر ربه عند التقاء الجمعين استجابة لقول الله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)

وصاحبه هذا الذكر فى أدوار المعارك كلها خصوصا عند اشتداد البأس وتكالب العدو، وعند ابتعاد النصر وإثخان الجراحات واستحرار القتل فى إخوانه.

(وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين).

نعم، يحب المحسنين، وهذا الجهاد الصبور المحتسب هو الإحسان، وهو أحمق شىء يوصف بالعبارة المأثورة فى الحديث "أن تعبد الله كأنك تراه فمان لم تكن تراه فإنه يراك ".

ثم من قال: إن الإنفاق فى سبيل الله ليس ذكرا لله !

إنه ذكر عملى له مكانته.

وهو أشرف من ذكر اللسان ولو واطأه صحو القلب.

وذلك أن ألوف الناس يغريها حب المال فترتاد له الصعاب، وتهجر فى سبيله الأحباب.

وربما نسيت حق الله، وما وضع من حدود، وما شرع من معالم، بل لعلها فى سبيل الاستكثار من المال تهدم كثيرا من خلال الشرف وخصال الخير.

فإن وجد من أرباب المال من يذكر ربه عندما يجمعه، ومن يذكر ربه عندما يتخلى عنه ويصرفه إلى وجوه البر، فهل يكون ذلك فى طليعة الذاكرين؟ إن القرآن الكريم جعل الإنفاق هو الذكر، أو أثره المطلوب فى قوله جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين).

إن المعنى الوحيد الصحيح للحديث المذكور أن الذكر المجرد أفضل من الجهاد المشوب بحب الغنيمة وطلب الشهرة.

وكذلك أفضل من الإنفاق المصحوب بالمن والرياء.

أى أن الحديث يستهدف تزكية النفس بذكر الله وطلب ما عنده، ويرى النية الطاهرة أرجح من العمل الكدر.

وهذا معنى حق، فإن الآفات التى تسطو على الأعمال الصالحة تذهب قيمتها عند الله، وتمحق ثمرتها فى المجتمع.

حقيقة الذكر المطلوب: ولكن عددا كبيرا من المسلمين ـ فى قرون مضت ـ حسب الذكر آثر عند الله، وأدنى إلى إرضاءه من أى عمل آخر، أو ربما حسب أن درجة الإحسان لا تنال إلا بطول الذكر، سواء فى الصوامع المعزولة، أو المجالس الحافلة، فكان الاستكثار من الأوراد، وأنواع التلاوات، وانتشرت السبح فى الأيدى تعد الأصابع على حباتها ما يمكن عده من أسماء الله الحسنى!!

نحن نستعيذ بالله من تهوين عبادة كريمة، وندعوه جل شأنه كما علمنا على لسان نبيه فنقول: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ونحب أن ننبه المعجبين بمسالك القوم ـ وقد مضت أيامهم ـ أن مقام الإحسان ينال بمسلك أرشد من ذلك وأدنى إلى الصراط المستقيم.

إن ابن عطاء الله السكندرى ـ وهو من أكابر الصوفية الأولين ـ يغرى بالذكر، ويطمع رجاله فى مقام الإحسان فيقول : " لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك فى وجود ذكره.

فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة.

ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور.

ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع رغبة سوى المذكور، " وما ذلك على الله بعزيز ".

وهدف ابن عطاء الله واضح إن الإنسان قد يسأم تكرار ورد ما لانشغال ذهنه فى أثناء تلاوته.

ويرى ابن عطاء الله أنه لا ينبغى للمرء أن يترك الذكر ولو كان قلبه مشغولا فإن إصراره على الذكر سوف يترقى به إلى أعلى المراتب.

إنه قبيح بالإنسان أن ينسى ربه أو يسأم ذكره، وهو ملحوظ بعناية الله فى كل حين.

وقد تطغى صور الوجود الأدنى على الفؤاد، فيكون ذكر المرء لله حركة لسان لا يصحبها جنان، وربما شعر بأن هذا الذكر الشفهى قليل الجدوى فيتركه، والأولى به أن يصر عليه، فإن هذا الإصرار حميد العقبى.

ولو فرضنا أنه انتهى إليه فهو خير من السكوت، إنه انشغال عضو بطاعة الله، وهذه المشغلة ـ على تفاهتها ـ حاجز عن معصيته!

فكيف لو ترقى به هذا الإدمان لذكر الله ففض مغاليق الغفلة عن قلبه وجعله يقظان المشاعر فهو يذكر الله بلسانه وبقلبه جميعا؟ وابن عطاء الله يبغى تحصين المسلم ضد حالة الارتكاس لا تليق به فقد يزدرى اللسان لأنه وسيلة فاشلة..

فى تحريك القلب، فتكون النتيجة أن يهمد فمه وقلبه معا وتجرفه تيارات الحياة بعيدا بعيدا فقلما يخطر على باله ذكر ربه.

والقمة التى يحدونا إليها هذا الصوفى الذكى هى حالة الاستغراق!

وما حالة الاستغراق؟ إن أحوال الاستغراق فى شىء ما تزحم حياة الناس العادية.

قد تنادى بأعلى صوت رجلا يسير قريبا منك فى الطريق فلا يلتفت إليك لأنه غارق فى فكر سيطر عليه، فهو ينطلق فى الطريق ضعيف الإحساس بما حوله...

وقد جربت فى نفسى هذه الحالة اجلس إلى جوار المنبر فى الجامع الأزهر يوم الجمعة، ولما أعد ـ بعد ـ الخطبة التى حضرت الألوف لاستماعها.

فأعبئ قواى الذهنية، وأحضر مشاعرى كلها لتحديد الموضوع، وجمع نصوصه وشواهده، وأتابع فى نفسى ربط العناصر، وتسلسل المعانى ، وضبط بعض الجمل الدقيقة حتى لا يند زمام التعبير فى نقطة حساسة.

ثم أصحو من هذه السياحة العقلية وقارئ السورة فى المسجد يصرخ بالآيات فلا أدرى من أين بدأ؟ ولا أين وصل؟ وكأنى ما سمعت منه حرفا مع أن مكبرات الصوت تملأ به جو المكان!

إن حالات الاستغراق هذه شىء معتاد فى حياة الناس.

ومن أهل الصلاح من تصفو سرائرهم، وتزكو بواطنهم، وتتوطد مع الله علائقهم، ويمس حبه شغاف قلوبهم، وربما تضطرم مشاعر الذكرى فى أنفسهم إثر طائف يمر بها من الملأ الأعلى، كما تتقد الجذوة نفخت فيها الرياح، فتمر بهؤلاء لحظات ليست من حياة الناس، يذهلون فيها عن أنفسهم ويبقون مع ربهم فى استغراق يطول أو يقصر...!!!

أى عجب فى هذا؟ إن الإيمان يربو أحيانا كما تربو أمواج البحر، ثم يعود رهوا، ساكن الصفحة، كأن لم يعره شىء...

وهذه السويعات، فى حياة المؤمنين أمر معتاد!

وأنا أكره تسميتها فناء، كما أستنكر تسميتها جذبا.

وأحسب أن هذه الاطلاقات تنقصها الدقة والآدب.

ولنا أن نسأل : هل هذه اللحظات هدف يسعى إليه؟ والجواب: لا… إنها أحوال تعرض وليست غايات تقصد.

وذكر الله بالقلب، أو باللسان لا ينبغى أن يتوسل به لهذه اللحظات، وإنما ينبغى أن يتحول إلى الأعمال العظيمة التى رسمها الشارع، وناط بها كيان الفرد والمجتمع.

إن جيشان عاطفة ما أمر قد يعترض حياة العاملين، ولكنه لا يتجاوز هذه الحدود.

وقد كرهنا أن نسمى هذه الحالة فناء، لأن هذا التعبير كان مزلقة لانسلاخ البعض عن ذواتهم.

ورأينا البعض يسميها وحدة الشهود لينفى بها خرافة وحدة الوجود!

ومع ذلك فمان تعبير ابن عطاء الله ـ على استقامته ـ مهد الطريق لهذه المحظورات واسمع إلى ابن عجيبة يشرح عبارته التى ذكرناها آنفا.

قال: " فإن دمت على ذكر الحضور رفعك إلى ذكر مع الغيبة عما سوى المذكور، لما يغمر قلبك من النور.

وربما يعظم قرب نور المذكور فيغرق ـ الذاكر ـ فى النور، حتى يغيب عما سوى المذكور، وحتى يصير الذاكر مذكورا، والطالب مطلوبا والواصل موصولا، وما ذلك على الله بعزيز... ".

ثم يقول: " إن الذاكرين الله بالقلوب هم فى حال ذكرهم لله بلسانهم أشد غفلة من التاركين لذكره " لماذا؟ لأن ذكره باللسان يقتضى وجود النفس وهو شرك؟ والشرك أقبح من الغفلة ".

ونحن نرفض هذا الكلام جملة وتفصيلا، بل نرى ابن عطاء الله بريئا من قصده فإن الذاكر غير المذكور قطعا.

وشعور المخلوق بأنه غير الخالق توحيد لا شرك.

والواقع أن فى عبارات الصوفية من هذا القبيل تشويشا يجعلنا نستبعدها من ميدان التعليم والتربية مهما التمس لها من الشروح وقصد المجاز لا الحقيقة.

إن الإحسان ـ ورد فى الكتاب والسنة ـ شىء آخر غير هذا الاستغراق الذاتى وغير التأمل العميق الذى قد يغيب المرء فيه عن نفسه أحيانا...

والمسلم ـ إذا أطاع الله ورسوله ـ لم يحتبس داخل صومعة محدودة الأركان يفسح جنباتها بالخيال الجامع، هـانما صومعة المسلم هذه الأرض ذات الطول والعرض، يملأ جنباتها بالعمل المتقن والواجبات المطلوبة.

وليس الإحسان تجويد جزء من العبادات وإهمال أجزاء أخرى قد تكون أخطر وأجل، وإنما الإحسان أداء فروض العين وفروض الكفاية، وتناول شئون الدنيا وشئون الآخرة معا.

هو إشراب الحياة الإنسانية حقائق الأمر الإلهى، وإضفاء صبغة السماء على أحوال الأرض.

هو ترقية كل عمل بذكر الله فيه، لا الفرار من الأعمال بدعوى ذكر الله فى العراء.

روى عن معاذ بن جبل عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن رجلا سأل فقال: " أى المجاهدين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا.

قال: فأى الصالحين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة!

كل ذلك ورسول الله يقول: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا.

فقال أبو بكر لعمر: يا أبا حفص، ذهب الذاكرون بكل خير!

فقال رسول الله : أجل ".

هذا هو الذكر يقارن الأعمال، ويتحول الاستغراق فيه إلى خلوص قلب ومهارة يد، ونبالة غاية...

الإحسان مراقبة ومشاهدة، والرقابة الإلهية لا تتناول عملا، وتدع آخر، بل تتناول الأعمال كلها.

من اللقمة تضعها فى فم زوجتك كى تبنى البيوت على الحب، إلى الرصاصة تطلقها على عدوك فى ساحة الوغى كى يبنى العالم على العدل.

من الثوب تلبسه لتكتسى به وتتزين فيه، إلى الكفن تختار على نحو معين لتلف فيه الجثة وتوارى تحت الثرى...

الإحسان يشمل الأحوال والأعمال جميعا قال تعالى : (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه)

الذكر عبادة اجتماعية: كثيرا ما تختم آيات القرآن الكريم بعدد من أسماء الله الحسنى، يناسب ما يقارب معناها من أفعال العباد.

والسر فى ذلك إشعار الناس بأن رقابة الله لا تنفك عن تصرفاتهم مهما اختلف مجالها.

وإن إشراق المعرفة الإلهية لا ينحصر فى صومعة نائية أو محراب خاشع، بل يجب أن يصحب المؤمن فى عشرات الأعمال التى ينغمس فيها كل يوم.

يقول تعالى: (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب)

إن الجملة الأخيرة جىء بها مغنية عن جواب الشرط، وهو (يتعرض للعقوبة)

والاستغناء عن هذه الكلمة بذكر اسم الله مقرونا بإحدى صفاته، رجع بالمؤمنين وأعمالهم إلى ضرورة الإحساس بإشراف الله عليهم إشرافا غير منقطع، ولذلك يجب أن يحذروه.

ويقول تعالى: (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم)

والجملة الأخيرة جاءت مغنية عن جواب الشرط وهو (يظفر بالحماية والمنعة)

ومواجهة النفوس القلقة باسم الله مقرونا بأوصافه المثيرة للطمأنينة والثقة إشارة إلى أن المسلم فى شتى أحواله ينبغى أن يركن إلى من هذا شأنه.

الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه...

اعبده على هذا النحو وأنت تقيم حد السرقة شاعرا بأن الله يريد إشاعة الأمان فى الناس وأخذ المجرمين بالنكال فذلك مقتضى حكمته (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم).

ورؤية الله فى ساحة المحكمة حين يقام هذا الحد هى رؤية الله فى المسجد حين تقام له الصلاة...

تأمل فى الأسماء الحسنى التى ختمت بها هذه الآيات النازلة فى بعض مشكلات الأسرة (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم).

إن الرجل قد يضيق بامرأته، ويحمله السخط أن يحلف على اجتنابها، وتجد القرآن يعالج هذه الأزمة علاجا يبدأ بالرقة وينتهى بالحزم.

يقول للزوج إن عفوت عن زوجتك، واغتفرت ما ساءك منها فإن الله غفور رحيم.

وفى التذكير بهذين الاسمين من أسماء الله الحسنى ما يشيع جو الحنو والتسامح فى البيت المضطرب...

ثم يقول...

وإن كانت الأخرى، وتقرر الطلاق.

فإن الله سميع عليم، إنه غير بعيد عما يقع، عارف بما يصنع الزوج والزوجة.

وفى التذكير بهذين الاسمين من أسماء الله الحسنى شىء من إقامة السلوك على الحذر والروية...

والقرآن الكريم مشحون بمئات وآلاف من هذه الآيات التى تغرس جذور الإحسان فى القلوب، وهى تعالج كل ما يعرض لها فى الحياة من أعمال.

والخلاصة التى نريد توكيدها أن العبارة الواردة فى الحديث الشريف وهى " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ليست وصفا لشخص يصف قدميه للصلاة، أو يلهج لسانه بالذكر فحسب.

إنما هى وصف لإنسان يقيم أوامر الله كلها، فى شئون الحياة كافة.

ومجال الإحسان رحب الدائرة، حدوده وظيفة الإنسان فى الحياة من المهد إلى اللحد ...

أمتنا بين الإساءة والإحسان: إساءة المسلمين إلى دينهم وأنفسهم بالغة الشدة، وقد تتابعت هذه الإساءات فى الأعصار الأخيرة واتسع نطاقها، وفشت بين الخاصة والعامة جهالات غريبة بالدين، وجهالات أغرب بالحياة العامة، فإذا الأمة التى بقيت دهرا طليعة مرموقة ترجع القهقرى، وتلاحقها الهزائم، ويهون وجودها عليها وعلى الآخرين فهى كما قيل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود!!

إنها ما أحسنت العمل بحقائق دينها ولا أحسنت العمل بشئون دنياها، فلم يكن بد من مواجهة هذه العقبى.

إن الذى يجهل قواعد اللغة لا يحسن البيان، والذى يجهل أركان الصلاة لا يحسمن العبادة، وكذلك الذى يجهل شئون الحياة لا يحسن الإفادة منها ولا التبريز فيها.

والعلم ضربان : علم مصدره الوحى، وهو محصور الدائر، واضح الحدود.

وعلم مصدره النشاط الإنسانى ومكابدة الحياة نفسها، واستكشاف قواها وأسرارها، وهو علم واسع الدائرة رحب الآفاق.

وفى النوع الأول من المعرفة، حسب المرء أن يدرس ما جاء من السماء ليعمل به العمل الصحيح.

أما النوع الآخر، فإن السماء تركتنا له وتركته لنا، فلم يجئ وحى يعلمنا فنون الصناعات وألوان الحرف وإنما خلانا الله وشأننا نتكلف ذلك ثم نوجه ما نملك من أمور الحياة الوجهة الصالحة، ونسخره لدعم الرسالة التى اصطفانا لها.

ومن المؤسف أن أقدام المسلمين زلزلت فى كلا الميدانين، فوعيهم لكتاب الله وسنة رسوله ضعيف، وفقههم لظواهر الحياة وبواطنها أضعف، وتوجيه الحياة وخبراتها وملكاتها لخدمة دينهم أشد ضعفا.

وليس من العبادة انتظار نجدة من السماء لتغيير هذه الأحوال.

إننا ـ من الناحية العامة ـ بشر كسائر البشر.

لنا ما للناس من أسماع وأبصار وأفئدة.

فلماذا تتعطل حواسنا وأفكارنا، وتنطلق حواس الناس وأفكارهم فى كل مجال؟ لماذا تمس أصابعهم الأشياء فتجود، وتمسها أصابعنا فتضطرب؟ لقد كان الناس عالة على آبائنا فى النواحى الأدبية والمادية جميعا فما الذى عرانا حتى أصبحنا لا نحسن استخراج المعادن من أرضنا، ولا بناء السدود والجسور على أنهارنا، ولا تشكيل الآلات وتركيبها فى مصانعنا،.

ولا تطويع أدوات الحرب والسلم لحاجتنا...؟

الحق أن القدرة على الإحسان أعوزتنا، وأن أسباب هذه القدرة فى أيدينا لو أردنا.

إن الله أحيا المسلمين على هذه الأرض كما أحيا غيرهم من الأمم، وإذا كان قد اختص المسلمين بوحى سماوى جليل القدر، بعيد الأثر، فهو لم يختصهم بمعرفة أرضية ترجح كفتهم على سواهم.

وعليهم أن يعانوا فى ذلك ما يعانى غيرهم، وأن ينتفعوا بتجاربه.

وكل تفريط فى هذا الميدان معناه أولا انخفاض مستواهم الفكرى والمادى، ومعناه آخرا قصور الوسائل التى تنجح رسالتهم، وتحقق غايتهم.

وعندما ينضم إلى هذا العجز، عوج فى فهم الدين نفسه، واسترخاء في إجابة عزائمه فهنا الطامة.

إن للإحسان جزاءين، أحدهما آجل فى الدار الآخرة، ولا كلام لنا فيه الآن، والآخر عاجل تلقاه الأمم فى حاضر أمرها وتبلوه عيانا.

قال جل شأنه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

وقال جل شأنه: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها).

وقال : (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).

والإحسان ـ كما شرحنا ـ لا يتجزأ، كما أن الصدق مثلا لا يتجزأ.

فليس صادقا من يتعمد الكذب فى نصف أخباره، ويتحرى الصدق فى نصفها الآخر.

بل من الصعب تصور أن فضيلة الصدق تكونت لدى هذا الإنسان.

وليس محسنا من تراه فى نصف أعماله ردئ التصرف غبى السلوك، وفى نصفها الآخر مجيدا، مستحب السيرة.

بل، بعيد أن يوجد هذا الصنف المختلط، فإن الفضائل لا تتجزأ.

والإحسان عمل ما من الأعمال المعتادة صورة واحدة يعرفها المؤمن والكافر على سواء، إذ أساس الإحسان فى هذه الأعمال إيقاعها وفق القوانين المقررة لها فى دنيا الناس.

فالجراحة التى يجريها طبيب مسلم هى هى التى يجريها طبيب شيوعى أو وجودى، أو يهودى.

ويمكن الحكم عليها أو لها من الناحية العلمية الخالصة.

ووصفها بالحسن أو القبح لا مرجع له إلا هذه الأصول الفنية المتدارسة بين أجناس البشر، وليس يقبل من أحد مهما كانت نحلته أن يقصر فى هذه القواعد المتواضع عليها.

والفارق بين صدور هذه الجراحة من رجل مسلم، وبين صدورها من شخص آخر، أن المسلم لا تفوته فى أى عمل نية الخير، ولا تنفك عنه صلته بالله ، وقصد وجهه فيما يأتى ويترك...

أى أن صورة العمل المشتركة لا تفاوت فيها بين المسلمين ومخالفيهم فى العقائد والوجهات.

أما الصورة النفسية الباطنة فهى تختلف بين هذا وذاك.

والمسلم من الناحية الدينية لا يسمى محسنا إلا إذا استجمع الكمال الحسى فيما أدى من عمل، والصفاء النفسى ـ أعنى قصد الله ـ فيه.

وليس يقبل منه بتة ـ مهما صلحت نيته ـ أن يسئ أو يقصر، أو يترخص، أو يتجاوز، اتكالا على هذه النية الكاملة.

فإذا شرك المسلمون غيرهم فى أحوال الحياة وشئون الدنيا وفق هذه القواعد فيجب ألا تنسى شيئا آخر انفردت به الجماعة الإسلامية وهو العبادات المحض التى كتبت عليهم وطولبوا بأدائها.

إن الإحسان أن نقوم بها كافة على وجهها المشروع، كما أثرت عن صاحب الرسالة، متحرين فى صلاتنا وزكاتنا وصيامنا وحجنا أن نتأسى به، وأن نلتزم سنته.

وقد شرح القرآن الكريم أن الإحسان بهذا الشمول طريق التمكين فى الحياة، والاستيلاء على أزمتها، وملئها باليمن والبركة.

كان يوسف الصديق شابا بادى العفة، راسخ اليقين، متين الخلق، عظيم الثقة فى الله، اجتاز الأزمات التى مرت به من تشريد، وسجن، وتلويث سمعة وكآبة عيش، فلم يهن له عزم، ولم تزل له قدم، ولم يطش له هدف.

فماذا كانت عقبى هذا الإحسان؟ كانت العقبى أن الرجل المختطف المستضعف يلى أضخم المناصب، وتصير الجماهير طوع بنانه.

(وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين).

ذلك كله فى الدنيا أما بعد ذلك: (* ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون).

وليوسف مع إخوته آلذين أهانوه، ولم يتقوا الله فيه، موقف آخر: إن الإحسان بلغ به المدى، وجعله فى مصر مناط الآمال ومحط الرحال، لكن الدنيا تقلبت بهؤلاء الاخوة، وجزتهم بسوء أنفسهم سوءا فى معايشهم اضطرهم إلى النجعة يطلبون القوت من ولى الأمر فى مصر، ودار بينهم وبينه حوار عرفوا منه: أى رجل يخاطبون.

(فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). والجملة الأخيرة يجب أن تكون فى السلوك الاجتماعى قانونا علميا كالقوانين المقررة فى علوم الرياضة والإحياء.

إن الإحسان لا يضيع غرسه، ولن تتخلى العناية الإلهية عن أصحابه، مهما كبت بهم الحظوظ.

وتعثرت بهم فى المراحل الأولى.

وليس الإحسان جلودة ذهن طبيعته الغفلة، أو يقظة نفس طبيعتها الركود إنه خليقة مستقرة، وملكة تتكون من حب الإتقان وهواية الكمال، وإدمان الذكر لله، وطول الشعور بصحبته.

وإذا كانت الإجادة العلمية تتطلب مزيدا من الخبرة والدراسة ـ لأن شئون الحياة دائمة التطور والتغيرـ فإن الجو النفسى يتطلب صحوا دائما، وتعودا على الطاعات والفضائل، وولعا بما يرضى الله ويقرب غفرانه، قال تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون * وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ).

وطرق الإحسان كثيرة، ولكن من يطيقها؟ إنها تتطلب العزمات الشداد، والصبر الجميل، والهمم البعيدة، والجهاد الدءوب، وصاحب هذه الخصال أهل لأن يبسط الله عليه كنفه، ويلهمه رشده، وأن يكون أبدا معه ولذلك جاءت الآيات تؤكد عناية الله به وصحبته له.

(إن رحمة الله قريب من المحسنين).

(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).

(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

(والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون).

والآية الأخيرة تفيد أن المحسن ليس معصوفا من الخطأ، ربما كان له ماض تاب منه، وربما ساورته وساوس تجعله يلم بما ليس من طبعه، ولكن الإشراق الذى يغمر حياته بالنور لا يعتكر لغيمة عابرة، وفضل الله عليه أوسع وأجل.

ومن صور الإحسان التى استعرضناها آنفا ندرك أن أمتنا متخلفة ـ أفرادا وجماعات ـ فى ساح الحياة الدنيا والأخرى على سواء.

وأنها قد تزعم وتتمنى، بيد أن سنن الله فى كونه لا تغلبها المزاعم والأمانى.

ولا طريق لمجد الحياتين إلا أن تباشر كل عمل وهى تحس أن الله عليها شهيد، وأنها يجب أن تبلغ به مداه وفق ما شرع من وحى سماوى، أو وفق ما وضع من قوانين طبيعية.

ذاك معنى " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".

دعائم الكمال النفسى

نسبنا السماوى - الإلحاد خيانة عظمى - جهاد النفس - التعب الضائع - من خداع الشيطان - احذرك نفسك

* نسبنا السماوى: فى ضجيج المعركة التى تنتظم البشر كافة حول مطالب الجسد نريد أن نتريث قليلا كيلا نضل الطريق ونجهل الغاية.

لقد علا الصياح وراء وقود المعدة والفروج علوا اختلط فيه أنين الحرمان بسعار الجشع واتصلت نبرات هذا الصياح المهتاج حتى كادت أقطار الأرض لا تعرف غيره.

وفى بقاع شتى لا حديث إلا عن رفع المستوى الاقتصادي، وضمان مقادير موفورة من الرغبات والشهوات للكبار والصغار.

ونحن نعلم حاجة الناس إلى ما يصون ويدعم جانبهم المادى.

ونعلم أن هناك فلسفات ومذاهب جارت عليه ونالت منه، كما أن هناك مظالم وفتنا عرضت هذا الجانب وعرضت الحياة العامة معه لشر مستطير...

لكن العلاج العادل المستقيم لا يكون بالغلو فى التقدير أو الانحراف فى وزن الأمور.

العلاج الصحيح ليس فى الزعم بأن الحياة مادة صرف، كى نجابه من حاف على أثر الظروف المادية فى كيان الإنسان وقلبه ولبه...

إننا فى كتبنا الأخرى نوهنا أشد التنويه بقيمة المال ، وقدرة الأحوال المادية على عمل الكثير، بيد أننا لا نريد أن ننسى أبدا أن الأوضاع الاقتصادية التى نريد السيطرة عليها وسائل لا أهداف، وأن القصد من توجيهها هو خدمة غايات أعظم.

إن رسالة الإنسان فى هذه الحياة تتطلب مزيدا من الدرس والتمحيص.

ووظيفته العتيدة فى ذلكم العالم الرحب يجب أن تحدد وتبرز حتى يؤديها ببصر ووفاء، وقوة ومضاء.

إن بعض الناس جهل الحكمة العليا من وجوده، فعاش عاطلا فى زحام الحياة، وكان ينبغى أن يعمل ويكافح.

أو عاش شاردا عن الجادة تائها عن الهدف، وكان ينبغى أن يشق طريقه على هدى مستقيم.

والنظرة الأولى فى خلق آدم وبنيه كما ذكرها القرآن الكريم توضح كل شىء فى هذه الرسالة.

لقد بدأ هذا الخلق من تراب الأرض وحدها، والبشر جميعا فى هذه المرحلة من وجودهم ليس لهم فضل يمتازون به، أو يعلى مكانتهم على غيرهم من الكائنات.

كم تساوى حفنة من التراب؟ لا شىء.

بل إن القرآن الكريم وصفهم فى هذه المرحلة بما يدل على تفاهة الشأن قال جل شأنه: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين).

أجل، فتلك مرحلة فى تاريخ الوجود الإنسانى لا يستمد الإنسان منها أى كرامة، وإنما يستمد هذه الكرامة من الطور الآخر الذى يقول الله فيه لملائكته : (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).

فى هذه النفخة من روح الله سرت فى الكيان الإنسانى الخصائص التى استحق بها أن يسمو ويمجد، وأن تخضع له صنوف الخلق الأخرى.

نعم، قبل نفخ الروح فى آدم وذريته، وما استحقوا سجودا ولا تكريما فإن الملائكة ومن دونهم لا يكلفون بالسجود لسلالة من التراب تافهة القيمة.

إن هذا الغلاف المادى المجرد لا يستحق شيئا من ذلك...

ولكن بعد أن تألق فى هذا الغلاف المادى قبس من نور الله الأسنى، وبعد أن صار الإنسان يحمل آثارا من صفات الله جعلته حيا ومريدا وقادرا وعالما ومتكلما وسميعا وبصيرا، بعد ذلك، استحق الإنسان أن يكون خليفة الله فى أرضه، وأن تتهيأ أرجاء الكون لاستقباله، والانقياد لأمره.

إن الإنسان كائن عظيم حقا بيد أن عظمته ترجع إلى نسبه السماوى الروحى، لا إلى نسبه الأرضى المادى.

ومن الناس من يقدرون نسبهم الإلهى هذا فيجعلون الحياة تزدان بالمعرفة والكرامة والفضيلة، وتسخير الكون للإنسان.

ومنهم من تغلبهم نزعات الحمأ المسنون فيجعلون الحياة تسود بالشهوات والمظالم والأنانية وتسخير الإنسان لأتفه شىء فى الكون.

المادية تشد الناس إلى أسفل: والتزاع الأبدى بين الناس فى هذه الحياة، أساسه : أتكون الهيمنة للحيوان الرابض فى دم الإنسان يتحرك بنزعات القسوة والأثرة وحدها، أم تكون الهيمنة للقلب الإنساني المتطلع إلى الكمال والسلام، والحب والإيثار؟ ذاك ما يجب أن يعرف بجلاء، وأن ترتفع حناجر المصلحين به.

وقد حملنا نحن المسلمين حضارة أعلت قدر الإنسان، ولفتت نظره إلى أن ملكوت السموات والأرض ممهد له (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).

إن هذا التسخير لآفاق السماء وفجاج الأرض وجعلها فى خدمة الإنسان يتضمن إشارة بينة إلى أن الإنسان خلق ليكون سيدا لا ليكون مهانا.

وأن سجود الملأ الأعلى له فى السموات معناه أن يحيا على ظهر هذه الأرض سيدا موفور الحرمة مدعوم المكانة، إذ وظيفته أن يخلف الله فى أرضه.

ولكن لا يجوز عند انشغال الإنسان بأعباء العيش الأرضية أن ينسى حقوق ربه الذى أسندها إليه، والذى قواه عليها.

قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم).

وقد صالح الإسلام فى تعاليمه بين مطالب الجسد ومطالب الروح، وبين واجبات الدنيا وواجبات الآخرة، فكأن الإنسان ـ بعد هذا الصلح الذى عقده الإسلام ـ كيان واحد يستقبل به عالما ليست فيه فواصل بين الموت والحياة.

وتوضيحا لهذا المنهج الوسط قيل لكل إنسان : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).

ليس فى الإسلام إذن انفصال بين العمل للدنيا والعمل للأخرى فإن العمل للدنيا بطبيعته يتحول إلى عبادة ما دام مقرونا بشرف القصد وسمو الغاية.

وليس فى الإسلام تغليب للجسد على الروح، ولا للروح على الجسد، إنما فيه تنظيم دقيق يجعل معنويات الإنسان هى التى تتولى قياده وتمسك بزمامه، فلا هو براهب يقتل نداء الطبيعة، ويميت هواتف الفطرة، ولا هو مادى يتجاهل سناء الروح وأشواقها إلى الرفعة والخلود.

إن الإسلام يلح على كل إنسان فوق ظهر الأرض، ألا ينسى نسبه السماوى، وألا يتجاهل أصله المنبثق من روح الله.

وللجسد حقوق مقدرة، وقد قال الله فى وصف أنبيائه : (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين)

لكن توفير هذه الحقوق ليس إلا وسيلة لصيانة الفؤاد والفكر، وحماية القلب والعقل، ما أشبه هذا الجسم بزجاجة المصباح الكهربائى، إنها هى التى تصقل الضوء، وتمد الشعاع، فلو انكسرت ذهب النور واحتبس التيار.

ومع ذلك فالمحافظة على هذه الزجاجة وتلميعها وإزالة الغبار من فوقها شىء غير مقصود لذاته، بل مقصود لينطلق الضوء من خلالها صافيا نقيا.

وقد أمر الإسلام بتطهير البدن وتزكية الروح فقال: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)

وطهارة الروح أساسها حسن الصلة بالله.

وطهارة البدن بإزالة القذى الذى لا يليق بمكانة إنسان كريم على القه، له رسالة سماوية مجيدة.

إن عبادة الجسد، وعبادة المادة، والتمرد على الأساس الإلهى فى الحياة الإنسانية عوج لا يتمخض إلا عن الشر والبلاء.

وآفة الحضارة المادية أنها سخرت العقول للشهوات، وأخرست نداء الروح وأطلقت نداء الطين، وجحدت أن الإنسان نفخة من روح الله، ورأت أنه ـ كلا وجزءا ـ نشأ من الأرض فلا يجوز أن يرفع رأسه إلى أعلى يذكر الله ولى نعمته، وسر عظمته.

ونحن نؤكد أن شرف الإنسانية أولا وآخرا فى صلتها بالله، واستمدادها منه، وتقيدها بشرائعه ووصاياه، والحرية الحقيقية ليست فى حق الإنسان أن يتدنس إذا شاء ويرتفع إذا شاء بل الحرية أن يخضع لقيود الكمال وأن يتصرف داخل نطاقها وحده، (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).

وقال عليه الصلاة والسلام : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".

ما هى الحرية التى هفت إليها الشعوب، وتنادى بها كبار القلوب؟ إنها حق البشر فى تأمين الوسائل التى يحيون بها حياة زكية نقية، وليست حق امرئ ما فى أن ينسلخ عن طبيعته، أو يتمرد على فطرته.

إن الحرية ليست حق الإنسان أن يتحول حيوانا إذا شاء، أو يجحد نسبه الروحى إلى رب العالمين، أو يقترف من الأعمال ما يوهى صلته بالسماء ويقوى صلته بالتراب، فإن الحرية بهذا المعنى لا تعدو قلب الحقائق، وإبعاد الأمور عن مجراها العتيد. بل الواقع أنك لن تجد أعبد ولا أخنع من رجل يدعى أنه حر، فإذا فتشت فى نفسه وجدته ذليلا لشهواته كلها، ربما كان عبد بطنه أو فرجه، وربما كان عبدا لمظاهر يرائى بها الناس، أو لمراسم يظنها مناط وجاهة، فإذا فقد بعض هذه الرغائب رأيته أتفه شىء ولو كان يلى أكبر المناصب، بل لو كان ملكا تدين له الرقاب.

الحرية المطلقة لا تنبع إلا من العبودية الصحيحة لله وحده.

فإن القلب المرتبط بالله يعلو بصاحبه على كل شىء فما تذله رهبة ولا تدنيه رغبة.

وهو بمعالم الشريعة التى يلتزمها مصون من الدنايا، محصون من المزالق...

ولذلك فنحن نكذب كل دعوة للحرية تزين للناس اعتداء حدود الله أو تعطيل أحكامه أو تهوين فرائضه، أو الهبوط بالإنسان عن المكانة السماوية التى رشح لها بأصل الخلقة.

كم يكون الإنسان نازل المرتبة تافه القيمة إذا كانت وظيفته فى الحياة لا تتجاوز بضع عشرات من السنين يقضيها على ظهر الأرض ثم...

ثم يقضى دون عودة، وينتهى بذلك أمره كما تنتهى آجال الذئاب فى الغاب أو الشياه فى الحقول أو الخيول فى " الاصطبل ".

ألهذا خلق الإنسان؟ أو لهذا استخلفه الله فى العالم؟ قد رشحوك لأمر، لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل إن الله الذى امتن علي الإنسان بهذه المرتبة الرفيعة لم يدعه فى هذه الحياة وشأنه (أيحسب الإنسان أن يترك سدى).

كلا إن الله كما شرفه بالكثير من النعم كلفه بالخطير من الحقوق.

وهى حقوق تدور فى جملتها على رعاية مصالحه، وضمان الخير له فى عاجل أمره وآجله.

والإسلام كلمة الله الأخيرة فى هذا المجال، وهو دين يحترم طبائع الأشياء لأنه دين الفطرة.

ولذلك يستحيل أن يتضمن حكما علميا أو اجتماعيا يناقض الحقائق المقررة، (و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا).

وكذلك يستحيل أن يلحقه تعديل أو تبديل فإن اجتياز دائرة الحق إلا الدخول لا معنى له فى دائرة الباطل، ولذلك يقول جل شأنه (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).

وخير للناس أن يستبينوا رشدهم فى صفحات الكتاب الذى استوعب أصول هذا الدين القيم، واستوعب إلى جانب ذلك كل ما يضمن للعالم الخير والازدهار.

إنه الأثر السماوى الفذ، الذى بقى مستعليا على التحريف والتغيير، يصل الإنسان بنسبه السماوى العريق، ويرتفع به عن مستوى التراب، وآمال التراب!

لقد تألقت مواهب الإنسان العقلية فى عصور مضت، وازداد وهجها ازديادا عظيما فى هذا العصر، وخيل للإنسان أن مكاسبه من وراء هذا الارتقاء الفكرى البحت لا تقدر، بل خيل إليه أنه أصبح ـ بهذا الجانب العقلى المبتور ـ سيد الوجود حقا..

ولو أننا تأملنا فى حصاد هذا الطور التقدمى من حياة الإنسان لراعنا منه أن كفة الخسائر طافحة، وأن الإنسان خسر نفسه وبذل أنفس ما فيه كى يحصل على الحطام الفانى، ولم يرجع من وراء هذا الكفاح الخسيس إلا بالتضحيات والبلايا: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم).

إن الإنسان يكون وفيا لنسبه السماوى، يوم يكرس قلبه ولبه لله.

الإلحاد خيانة عظمى: الدين مدرسة لتعليم الكمالات، وغرسها فى النفوس، وأخذ الناس بها حتى تنضج فى أحوالهم وأعمالهم.

إنه يعرف الناس بربهم أولا، لكنه لا يصلهم بالله على ما بهم من أثرة وشراهة، وبغى واعتداء، بل يغسل عن قلوبهم هذه الأوضار ويشرع لهم من العقائد والعبادات، والأخلاق والمسالك ما يدربهم على فعل الخير وحب المعروف وتحسين الحسن وتقبيح القبيح.

وما نزعم أن كل منتم إلى الدين يحرز ما يراد له من أنصبة الكمال، وإنما نؤكد أن الدين يستهدف الكمال النفسى لأتباعه قاطبة، وأنه كالمستشفى يقبل كل بشر، ويتولى علاجه بشتى الأدوية حتى يبرأ من علله، وتتم له الصحة الروحية المنشودة.

والناس يتفاوتون فى حظوظهم من العافية يزودهم بها الدين بيد أن من رفض هذا العلاج الحتم، وأبى إلا البقاء بأدوائه طرد، وسدت فى وجهه أبواب الوصول إلى الله.

ذلك أن عبادة الله منزلة لا يرقى إليها المفسدون والمجرمون، وأحلاس الشهوات، وعشاق العلو فى الأرض والكبر على الخلق.

وهذا الصنف من الأشرار لا يؤذن له أن يجاور الله فى جنته، فإن ما التصق به من دنايا يسوقه سوقا إلى النار (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين).

أما الذين تكلفوا مشاق التهذيب والتنزيه، ونقوا أنفسهم من أدران الشر ونوازع الإثم فإنهم يأخذون طريقهم إلى الجنة ممهدا ويقال لهم: (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية).

الدين إذن صلة بالله رفعت أصحابها، وزكت أنفسهم وصفت معادنهم وتلك هى حقيقة الكمال الإنسانى.

ولسنا نتصور كمالا إنسانيا مع انقطاع الصلة بالله، وإضمار الكرة لشرائعه.

إن الجهل بالله، والوحشة من طريقه جذام يجتاح النفوس ويدعها لا تساوى شيئا.

إن كنود المنعم الأكبر وإنكار وجوده أو إنكار حقوقه هو الخيانة العظمى التى لا يقبل معها خير يقدم، أو يكترث معها بميزة قائمة.

ونحن نحب أن نعرف هذه الحقائق بجلاء، هناك من يظن الدين صلة بالله لا تورث النفوس أدبا ولا شرفا، وهؤلاء كذبة على الإسلام يجب إبعادهم عن حظيرته.

وهناك من يظن الاكتمال النفسى يتوصل إليه دون الإيمان بالله، وإقام للصلاة وإيتاء للزكاة، وهؤلاء أدعياء مغرورون لا يجوز أن تكون لهم حرمة، ولا أن تحفظ لهم مكانة فإن الدعامة الأولى لما تصبوا إليه الإنسانية من كرامة ومجد هى الاعتراف بالله والخضوع له والاستمداد منه والاحتكام إليه...

لقد شاعت فى أوساط كثيرة فكرة أن المرء يقاطع الدين، أو يجامله بكلمات باهتة، ثم يختط لنفسه طريقا فى الحياة لا تعرف المسجد؟ ولا تقيم وزنا لمواريث السماء جملة وتفصيلا.

وهو مع إقفار حياته من الدين؟ وفراغ قلبه من الله يزعم أنه استكمل أسباب الكرامة واستجمع خصال الخير...

أما مقاييس الخير والشر فقد انقلبت فى وعيه رأسا على عقب، وما تظن بامرئ لا يستهدى بوحى، ولا يستيقن بآخرة؟ إن حكمه على الأمور ينبع من نفسه وحدها.

وما نفسه؟ كائن إن ضبطه العقل الحصيف حينا اجترته الشهوات والأهواء أحيانا كثيرة فحسنت له ما يريد، وقبحت له ما يكره...

وقد رأينا الشيوعيين والوجوديين يرسلون أحكامهم على الأشخاص والأشياء فرأينا الأعاجيب.

بل سمعنا من إخوانهم الإباحيين أن هذه الأمة لن تنهض إلا إذا قلدت أوروبا فى "قاذوراتها" ونحن بعد ما بلونا القوم ما نظن أحدهم يتحرج عن إتيان أمه دون حياء، وتقديم زوجته للآخرين دون مبالاة.

والغريب بعد هذا الكفر والفسوق أن يزعم هؤلاء أن لهم نصيبا من الكمال الخلقى والسلامة النفسية، وأن يرجموا الدين وأهله بالإفك والبهتان.

ولنتجاوز هؤلاء وسيرهم الخاصة والعامة ولنتساءل: هل قضية الإيمان بالله من التفاهة والهوان بحيث يستوى فيها النفى والإثبات والشرك والتوحيد؟ هل هذه القضية من خفة الوزن بحيث لا يفترق فيها مؤمن وكافر ومصدق ومرتاب.

إننا لو عرفنا عن رجل ما أنه يتصور الأرض مربعا لا كرة، أو يتصور مياه المحيطات عذبة لا ملحا فإننا نزرى بعقله، ونسخر من علمه.

فإذا كان الخطأ فى فهم بعض الحقائق الدنيا له هذه القيمة، فيكف لا نكترث للخطأ الجسيم المتصل بالحقائق العليا؟ إننا إذا عرفنا عن رجل ما أنه جحد جميلا أسدى إليه أكننا له الضيق والاحتقار، فكيف بمن جحد نعماء الخلاق الرزاق وهو يتقلب فيها على أحيانه كلها من المهد إلى اللحد؟ والواقع أن القول ـ بكمال نفسى عند أى شخص ملحد أكذوبة كبيرة لا تعنى إلا واحدا من أمرين فى نفس هذا القائل!

إما أن الله غير موجود بالفعل، وبذلك لم يرتكب هذا الملحد شيئا يلام عليه.

وإما أنه موجود حقا ولكن الجهالة والجحود ليسا رذائل تسقط المكانة.

ونحن معشر المؤمنين نزدرى هذه الأفكار والأحكام، ونرى الإلحاد أس الدنايا، ونعد أهله شرار الخلق وجراثيم الفساد...

وهناك صنف ناعم مائع يبدو كأنه محايد بإزاء هذه القضية الخطيرة، إنه لا يجنح لا إلى السلب ولا إلى الإيجاب.

ربما قال لك ـ إذا سألته: هل الله حق ـ ولم هذا السؤال؟ وما جدوى الإجابة عليه؟ إن حياة الجماهير غير مرتبطة بهذه الإجابة.

وربما استتلى يقول: إن هناك قوة وراء المادة لها أثرها الكبير أو يقول: من الخير الاعتراف بألوهية قائمة فلو لم يكن هناك إله لوجب التصريح بأن الله موجود!!

هذا الصنف من الناس يشبه المنافقين بالنسبة إلى الكافرين، وان اختلف لون التكذيب حسب الطباع التى تسير أصحابها.

والملحدون والمحايدون سواء فى أنهم يريدون أن يحيوا على ظهر هذه الأرض وفق ما يشرعون لأنفسهم، دون التزام بأى توجيه سماوى.

ونحب أن نزيد الموضوع وضوحا، فليس الإيمان إقرارا بقوة غامضة أشبه بالصفات التى لا تمسكها ذات معينة.

كلا إن الإيمان اعتراف بالله المريد القادر المهيمن الذى أمر ونهى، وأعطى الناس فرصة محددة لتنفيذ أمره ونهيه، وهو رقيب عليهم، وسائلهم يوما عن كل صغيرة وكبيرة كلفوا بها.

فليس بمؤمن هذا الذى يقول: إن فى العالم أو وراءه قوة لا ندرى عنها شيئا، لا صلة لها بنا أو لا صلة لنا بها فى سلوكنا الخاص والعام.

ثم القول بأنه لو لم يكن هناك إله لوجب أن نشيع الإيمان به ـ لمصلحة الأمن العام طبعا ـ قول سخيف سمج.

فإن إشاعة الكذب جريمة، ولا معنى للإيمان بالوهم.

وهذا الكلام لا هدف له إلا أن الدين يمكن استغلاله فى تسكين الدهماء بقطع النظر عن قيمته الحقيقية.

وهذا كفر لا يقل عن الجحود الصريح.

الإيمان اعتراف بالله الذى تكلم فأبان عن نفسه وعن مراده من خلله، وبعث إلينا من يشرح لنا كيف نعيش وفق هذه التوصيات العليا ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير * إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير).

من أجل هذا كله نحن نحكم حكما بينا حاسما بأن الكفران بالله والتمرد عليه ورفض توجيهاته خيانة عظمى، وإن أبعد شىء عن الاحترام أناس من هذا القبيل، وأن الأساس الأول للتكمل النفسى اليقين فى الله والاستكانة لحكمه والاتباع التام لهداه.

وأداء العبادات ركن ركين فى بناء الكمال النفسى.

ومع أن الأثر الخلقى والاجتماعى لهذه العبادات بعيد المدى إلا أنه ثانوى فى تشريعها، والغاية الأولى من أدائها الوفاء بحق الله، والانقياد لأمره وإعلان التبعية المطلقة لذاته جل شأنه.

بل إن من صلى وصام دون أن تكون هذه المعانى مسطورة فى نفسه فلا صلاة له ولا صيام، ذلك أن النية المنظورة إليها فى هذا المجال الاستسلام لأمر الله تحرى مرضاته والفزع من سخطه والشعور بأن المرء ما خلق إلا ليمدح ربه ويثنى عليه بما هو أهله، وينفى عنه كل نقيصة، وينزهه من كل عيب.

وهو بهذا التمجيد يحقق الغاية من محياه قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)

، (فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار لعلك ترضى).

وقد جاء فى الحديث " ليس أحد أحب إليه أن يمدح من الله.

من أجل ذلك مدح نفسه ".

ومن حق الله الذى خلق أن يُعرف ويُعبد.

ومن حق الله الذى رزق أن يُذكر ويُشكر.

ومن حق الله الذى يعلم السر وأخفى أن يُراقب وأن يُستحى من مخالفته.

ومن حق الله الذى يرث الأرض ومن عليها أن يستعد الخلائق للقائه.

وكل تفريط فى هذه الحقوق رذيلة كبيرة، فمن عاش مقطوع الصلة بالله، فارغ القلب من شكره، خالى البال من مراقبته، عديم الاستعداد للقائه فهو مهما ارتقى من نواح أخرى حيوان غادر خبيث، وكفره هذا خيانة عظمى تزهد سوءتها بكل ما ينسب إليه من كمال.

مقلدو الحضارة المادية عندنا: رأيته لامع الشعر والنعل، حسن الهندام، يتأنق فى الحديث، ويتلطف مع الآخرين ويفرق البسمات والتحيات بأدب جم...

فقال لى صاحبى: ما رأيك فيه؟ إنه من أولئك الذين صنعتهم الحضارة الحديثة على نحو معين.

قلت: ما تعنى؟

قال: أعنى أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر!

قلت: إذن فهو حيوان مستأنس!

قال : أفبعد هذا الارتقاء تصفه بأنه حيوان مستأنس؟ قلت: إن الاستئناس هو الوصف الذى أضفته عليه الحضارة، وسيبقى حيوانا ما بقى كافرا بالله، فإذا آمن فهو عندئذ إنسان.

إنه لطيف الشمائل، حلو المنظر، ولذلك قلت: إنه مستأنس كهذه القطط والكلاب التى نألفها ونسمح لها بالتطواف علينا، ولا نلقاها بالرصاص، كما نلقى الذئاب والضباع...

واستتليت: أترى الخائن لوطنه عندما يجر إلى حبل المشنقة؟ إنه قد يكون وسيم التقاطيع، وربما كانت له أم يبرها، أو زوجة يحبها، أو رحم يصلها.

لكن شيئا من هذا لا يذكر أبدا عند اقتياده إلى ساحة الموت.

إن الجرم الذى ارتكبه أفظع، وأشنع من أن تذكر بجانبه حسنة!!

ألم يخن وطنه؟ إن خيانة قطعة من الأرض تسمى الوطن، جريمة أهون من خيانة رب الأرض كلها.

أهون من الكفر بالله رب العالمين.

إن الحضارة المادية التى صدعت اليقين فى القلوب هونت من شأن الإيمان وجعلت الناس ينحنون لأقوام حاربوا الله والمرسلين، وربما أعجبوا بهم.

بيد أننا لا نفقد عقلنا، ولا وزننا للأمور إذا اختلت موازين الناس وطاشت ألبابهم.

إن إنكار الألوهية جريمة كبرى، وإذا تلطخ بهذه الرذيلة أحد فهو فى نظرنا شخص نجس.

ونحن نعامل الأحياء والأموات على ضوء هذا الحكم الحاسم.

نعم نحن فى ميادين الدعوة إلى الله نعذر الجاهلين، ونتطلف مع غير المسلمين، بل إننا مأمورون أن نبر أهل الذمة، ونقسط إليهم لكن تقرير الحقائق شئ والنظر فى أحوال الجاهلين بها، والصادين عنها، والخارجين عليها شئ آخر.

فى ميدان التعليم والتربية لا خلط بين الإيمان والإلحاد، ولا بين الشرك والتوحيد.

يجب إحقاق الحق، وإبطال الباطل بصرامة.

يجب أن يقال: إن الصدق فضيلة، وإن الكذب رذيلة دون مواربة، ويجب أن يحترم الصادقون، ويزدرى الكاذبون.

وقد يحدث أن نلقى فى ساحات الحياة أقواما مرضى يحتاج علاجهم إلى أناة وسياسة وحكمة، حتى نسوق لهم الشفاء الذى حرموا منه.

بل قد نحتاج إلى أمد بعيد حتى نقنعهم بما فى أبدانهم من مرض وما فى كيانهم من جراثيم.

وإدارة الأمر مع هؤلاء لا يعنى بتاتا أن تنقلب الحقائق، وتعوج المقاييس فالمؤمن مؤمن والكافر كافر.

وعقبى هؤلاء الجنة وعقبى أولئك النار، ولا كلام.

وترسيخا لهذه المعانى فى النفوس أمر الله أن نذكر الضالين بعاقبتهم التى لا محيص عنها فقال : (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم).

وقال: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما).

ولهذا التبشير أحيانه ومناسباته التى يساق فيها، ولكن روى الطبرانى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: " حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ".

وقد صحح المحدث الكبير الأستاذ محمد ناصر الدين الألبانى هذا الحديث.

ويبدو أن فى عصرنا هذا ما يستدعى التذكير به، إنك ترى رجالا كبارا وصغارا يزورون أوربا مثلا فيقصدون أول ما يقصدون إلى قبر الجندى المجهول.

ونحن لا نعرف من هذا الجندى، ولا نجزم بمصيره فربما كان ممن لم تبلغهم الدعوة فمات جاهلا.

ولكنه على كل حال يمثل قومه الذين دفن بينهم، فإن كان فى شرق أوربا فهناك يقولون: لا إله، وإن كان فى غربها فالآلهة ثلاثة!!!

وهؤلاء الجنود ـ فى أغلب الظن معادين لنا ـ نحن المستضعفين فى الشرق ـ لولا أن شغل الله بعضهم ببعض.

ترى ما الذى يجعل رجالنا يقدسون هؤلاء؟ أهو تقديس للجحود أو للتثليث أو للاعتداء الذى لولا القدر لكنا ضحاياه؟.

لندع هذه الفروض، ولننقل هنا كلام الشيخ ناصر فى شرح الحديث السابق قال: " وفى هذا الحديث فائدة هامة أغفلتها كل كتب الفقه، ألا وهى مشروعية تبشير الكافر بالنار إذا مر بقبره، ولا يخفى ما فى هذا التشريع من إيقاظ المؤمن وتذكيره بخطورة جرم هذا الكافر حيث ارتكب ذنبا عظيما تهون ذنوب الدنيا كلها تجاهه ولو اجتمعت، وهو الكفر بالله عز وجل والإشراك به الذى أبان الله تعالى عن شدة مقته إياه حين استثناه من المغفرة فقال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وقد خلقك" متفق عليه.

إن الجهل بهذه الفائدة أودى ببعض المسلمين إلى الوقوع فى خلاف ما أراد الشارع الحكيم منهم، فإننا نعلم أن كثيرا من المسلمين يأتون بلاد الكفر لقضاء بعض المصالح الخاصة أو العامة، فلا يكتفون بذلك حتى يقصدوا زيارة بعض قبور من يسمونهم بعظماء الرجال من الكفار ويضعون على قبورهم الأزهار والأكاليل ويقفون أمامها خاشعين محزونين، مما يشعر برضاهم عنهم وعدم مقتهم إياهم، مع أن الأسوة الحسنة بالأنبياء عليهم السلام تقضى بخلاف ذلك كما ثبت فى هذا الحديث الصحيح، واسمع قول الله عز وجل : (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا).

هذا موقفهم منهم وهم أحياء، فكيف وهم أموات؟ عن ابن عمر أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لما مر بالحجر: " لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين.

فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم ".

جهاد النفس : السمة الملحوظة لأهل زماننا أنهم راضون عن أنفسهم مسارعون فى أهوائها، وهم يرون أن رغباتهم المادية والمعنوية ينبغى أن تجاب، وأن تزال من أمامها العوائق.

وعلى ضوء هذا الرأى يرسلون أحكامهم على الأشخاص والأشياء، وتتكون مذاهبهم الاجتماعية والسياسية.

وقد أسهمت بحوث علم النفس فى سوق الجماهير إلى هذا الاتجاه خشية ما يسمونه " بالعقد ".

فشاع تدليل الطفولة فى ميدان التربية، وشاع بعد ذلك ترك الغرائز المختلفة تتلمس طريقها فى الحياة دون حرج أو دون رهبة.

ولانت الشرائع أمام هذا السلوك المقتحم الماضى فى طريقه لا يلوى على شىء..!

وتغيرت مفاهيم الا"دب وضوابط الخلق فى أرجاء شتى كى تتجاوب مع لون هذه الحياة الجديدة.

ولسنا بصدد البحث عن أسباب هذا الاضطراب العام، وكل ما نبغى هنا أن نجدد حدود الحق التى درست ونقف الناس عندها.

نريد تحسين الحسن وتقبيح القبيح وفق منطق الدين وهدى الوحى، ثم نسوس النفوس لتألف ما هو حسن وتذر ما هو قبيح، وتعلم أن اكتمالها ومرضاة الله عنها فى التزام هذا وحده.

فى مقدمة ما يكفل للنفوس صلاحها أداء العبادات التى افترض الله عليها مهما شقت.

فالصلاة مثلا عمل رتيب موصول متجدد ما بقى الليل والنهار، وهو عمل ينبغى له قهر كل عذر، وترك كل شغل.

وهذا يثقل على أحلاس اللهو وعشاق الحياة، فإن الصلاة بين الحين والحين تنزعهم انتزاعا مما يأنسون إليه من متاع ومرح؟ أو مما يغرقون فيه من كدح واحتراف.

ولذلك قال الله فى وصفها: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون)

ومجاهدة النفس لأداء هذه الصلوات الموقوتة أساس متين للكمال المنشود وكذلك القيام بجميع الطاعات التى أمر الإسلام بها، فإن هذه الطاعات مدارج الكمال المنشود، ومراحل الطريق إلى سمو الروح، ورضوان الله.

حاجة النفس الإنسانية إلى التهذيب والتزكية مثل أو أشد من حاجة العقل إلى الصقل والتثقيف.

ونحن فى هذا العصر ننظم مراحل التعليم فنقدر سنى الدراسة من عشرة إلى عشرين سنة كى نحصل على عقل مستنير مزود بقدر محترم من المعارف التى تجعله يحسن الإدراك والحكم.

أفتظن النفس تفتقر إلى أقل من هذا الأمد كى تستقيم طباعها وتعتدل ميولها، وتنضبط شهواتها وتتكون لديها القدرة على التسامى ومحبة الفضيلة والشرف؟.

إن تغليب العفة على الشره يحتاج إلى جهاد طويل.

فإذا كان المراد أن تبلغ النفس درجة تحب فيها الخير وتستلذه، وتكره فيها الشر وتزدريه فالأمر بحاجة إلى مران أطول، مران يلتقى فيه كفاح الإنسان نحو الكمال، والتوفيق الإلهى لبلوغ الشأو المقصود.

وبذلك يكون الإنسان ممن عنتهم الآية الكريمة: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم).

ونحن نلحظ فى كثير من الأحيان أن بعض الناس تفسد نفسه فسادا لا تستطيع معه أن تستبين الحق، بله أن تتبعه، وربما استمرأت العيش فى الأباطيل والجهالات كما يستمرئ جامعو القمامة العيش بين الفضلات والأقذار ما تزكمهم روائحها ولا تؤذيهم مقابحها...!!

وهذا الانتكاس قاتل للضمائر والأخلاق، موغل بأصحابه فى ليل ليس له فجر.

وكم يدعوا المرء ـ وهو يرقب هؤلاء الشاردين فى بيداء الحياة ـ : اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...

والشهوات التى تحتاج إلى رقابة وضبط زمام كثيرة، وهى متفاوتة الحدة فى آحاد الناس، ولكن أصولها ناشبة فى حياتهم على العموم.

هناك حب النفس، وحب النساء، وحب المال، وحب الظهور، هذه مثلا غرائز ما يخلو البشر من مباديها.

وقد تجد البعض فى حبه لنفسه لا يبصر غيرها، ولا يتحرك إلا بهواجس الأثرة وحدها.

وقد تجد آخر مفتونا بالثراء، يدأب ليله ونهاره فى جمع المال، يعشقه لذاته دون رغبة فى بذله مهما تطلبت الحقوق.

وقد تجد امرءًا على حاجته إلى المال يبذله كى يذكر اسمه ويذيع صيته، أو هو فى سبيل سمعته يتسلق الوعر ويتوسد الجمر.

ومن الناس من يهيم وراء الغيد كأنه ظمآن لا يجد الرى أبدا.

وعلى مبادئ هذه الغرائز تعتمد الحياة الإنسانية فى بقائها ونشاطها، ومن طيش هذه الغرائز تفسد الأرض، وينتشر الهرج والمرج، وتصاب الأعراض، وتسفك الدماء.

ألا ترى القليل من الماء يتناوله الإنسان فيذهب الظمأ وتبتل العروق، فإذا صار لجة ووقع الإنسان فى مدها كتمت أنفاسه، وزحمت أمعاءه، وأزهقت روحه؟.

وعلى طول الخط الطويل الممتد من المهد إلى اللحد يواجه الإنسان أمورا شتى تحتاج إلى فؤاد صاح وبصيرة نيرة، فإن اشتباك النفس بهموم الرزق، وفتون الناس، وتلقيها ألوان الوساوس، وتأرجحها بين جواذب اليمين واليسار، وفقرها إلى استجماع قوى كثيرة كى تحقق الخير، وكى تصد الشر، ذلك كله يستدعى جهادا متصل الحلقات.

ولن ينجح الإنسان فى هذا الجهاد إلا إذا مرن على عصيان هواه ومضى قدما على الصراط المستقيم جلدا مثابرا لا يقعده إعياء ولا يرده استرخاء...

وقد حذر الله خيرة خلله من الهوى، وبين أن اتباعه حجاب عن الله، ومزلقة عن الحق.

انظر ما قال لداود عليه السلام: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).

ويقول الله لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير).

ويقول: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).

ويقول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق).

ويصف الكافرين بأن أهواءهم هى التى سولت لهم الزور وزينت لهم الجهل: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله).

بل يكشف أن كثيرا من الناس يرين على قلوبهم الهوى، ويكمن وراء أقوالهم وأعمالهم وأحكامهم، وينسج على حواسهم غشاوة محكمة فلا يرون ولا يسمعون إلا ما ينبع من طواياهم، أى أنهم لا يرون الحياة الخارجية على حقيقتها، بل يرونها من خلال تفكيرهم الخاص، كما ترى الجو أزرق من خلال زجاجة زرقاء.

(أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)

إن البهيمية مذهب معروف عند كثير من الخلق، وهو أقصر طريق إلى جزى الدنيا وعذاب الآخرة.

إنه لا يكلف أصحابه إلا حب الراحة، وطلب اللذة، والاحتفاء بالنزوات العابرة والاهتياج مع الشهوات الفائرة، وإبداء الرأى دون عقل، إرسال الحكم دون عدل، وتفضيل عاجل رخيص على آجل غال.

وقد حدد القرآن مصير هذا السلوك بجلاء (فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى).

وتقويم جهاد ما لا ينظر فيه إلى مقدار ما يبذل من تعب، وإنما ينظر فيه قبل كل شىء إلى نية المقارنة والغاية المقصودة.

فإن اللص يسهر الليل ليختل النائمين، والشرطى يسهر الليل يحرس الأمن لقاء راتب معهود، والمتهجد يهجر فراشه ويدع لذيذ الرقاد لا لشىء إلا ليعبد ربه فى هدوء وصفاء، ويتدبر آياته فى خشوع ورجاء، مرتقبا فى الآخرة ثمار ما يغرس في الدنيا: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).

إن سهر هؤلاء الثلاثة واحد والفرق بينهم شاسع.

فأما الأول فمجرم يستحق العقوبة بما بيت من إثم.

وأما الثانى فأجير يؤدى واجبه بثمن لو تأخر عنه قليلا لسخط وترك ما كلف به.

وأما الأخير فرجل مؤمن بالغيب والشهادة.

يعرف ما يعمل، ولمن يعمل؟.

ومن هنا فنحن لا نكترث لكل جهاد نفسى، ولا لكل عناء يتجشمه البشر، مالم يكن جهادا رشيدا محكوما بإطار من هدى السماء وصحة الأداء.

إنك تسمع عن فقراء الهنود، وعن ساستهم، قصص الصيام الطويل المضنى.

وهذا من غير شك إرهاق للبدن تسانده عزيمة شديدة، وإرادة غالبة.

ومع تقديرنا المجرد لقوة العزم وتماسك الإرادة لا نرى فى هذا المسلك ما يستحق التنويه والحمد.

ولو أن أحدهم دفن نفسه فى الرغام شهورا ـ كما يروون ـ ما أبهنا كثيرا ولا قليلا لهذه الحكايات.

وهى عندنا تساوى استعراض العضلات الذى يقوم به فتيان الرياضة البدنية غاية ما هنالك من فرق أن هذا بالزائد.

وذاك بالناقص.

هذا استعراض شبع، وذاك استعراض جوع، وفى كلا الفريقين استعداد طبيعى لما برع فيه.

وهذا وذاك ليسا الجهاد النفسى الذى أقره الإسلام.

ومن الرهبان من يحيا آمادا طويلة وهو محروم من طيبات الحياة، ومن يجاهد نفسه جهادا شاقا وهو يحملها على ما تكره.

ولكن ضلاله عن الحق، وجهله بالله الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، يجعل كل متاعبه تذهب سدى.

ولن يزيد فيما يعانى، عن فقراء الهنود الذين شرحنا حالتهم آنفا.

ولكى يكون الجهاد النفسى صادقا لابد أن يجىء تنفيذا لخطة رسمتها الشريعة، وبينت معالمها بوضوح.

ومن هنا فالجهاد المقبول لا موضع له إلا إذا كان انتهاء عن حرام أو انتهاضا إلى واجب.

الجهاد المقبول هو الذى يسبك النفس فى بوتقته لتصفو من درنها ثم تصاغ وفق القالب الذى أراده الله لها.

الجهاد المقبول هو الذى يستهدف وجه الله فى كل حركة ويتحرى حكمه فى كل وجه.

وكل جهاد ننهى صلته بالله فهو مردود على أصحابه...

إشباع الشهوات: لقد كان من أثر انتشار المذاهب المادية فى عصرنا الحاضر أن تغيرت القيم الخلقية تغيرا كبيرا وأصبحت الفضائل النفسية عند كثير من الناس عبثا لا ضرورة له، بل عبثا ينبغى الخلاص منه، وترك النفوس تسترسل مع هواها دون معاناة لكبته...

واستوعر الشباب ارتقاء المعالى وتسنم الكمال، وليتهم ـ لما أخلدت بهم أهواؤهم إلى الأرض ـ اعترفوا بالقصور، وتواروا بخزيهم.

لا، إنهم شرعوا يهونون من شأن الخلال الكريمة التى عجزوا عن تحصيلها، وراحوا يصفونها بأنها قيود على الطبيعة البشرية تورث الضر والاكتئاب...!!

ومن هنا كانت السمة البارزة فى عصرنا المسارعة فى إشباع الهوى، واسترضاء الغرائز الدنيا حتى تروى.

ورى هذه الغرائزـ عن طريق الحرام ـ لا يزيدها إلا ضراوة، فهى تطلب المزيد دون أن تدرك الشبع.

والمجتمع البشرى الذى تدور حركاته على هذا المحور مجتمع طافح الإثم سىء العقبى، تطيش به نوازع الشره والأثرة، وتتولد فيه مشاعر الحسد والبغضاء، وقلما ينجو من إثارة الفساد وسفك الدماء.

وتلك آفة الحضارة بعد ما زهدت فى الدين، وتبرمت بتعاليمه: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم).

والحق أن اتباع الهوى إن كان يطمس على حواس الأفراد، فهو على المجتمعات الضالة ـ يضرب ليلا طويل الظلام، بارد الأنفاس، بعيد الفجر… ونريد أن نسارع إلى نفى شبهة تروج عند الجاهلين بالإسلام، هى أنه يحرم الناس أمورا كثيرة، ما تطيب الحياة إلا بها، ويعترض رغبات شتى ما يستريح الخلق إلا بإشباعها...

وهذا خطأ فإن الإسلام ما حرم طيبا ولا حظر خيرا، وكل ما تعتدل به الطبيعة البشرية وتستقيم فهو مباح لها.

إن الله ما حرم على الناس إلا ما علم أنه يزيغ بهم عن الصراط، ويتسارع بهم إلى الشر.

والإسلام لم ينكر قط الطبيعة المادية للإنسان، ولا حقوق الفترة التى يقضيها على ظهر هذه الأرض.

غاية ما صنع أنه ذكر الإنسان بأنه مادة وروح، وأن صلته بالسماء أعرق من صلته بالأرض، ولذلك ينبغى أن يرعاها، وأن يلتزم مطالبها...!!

وفى أثناء وفائه بحقوق هذه الصلة العليا سوف تنازعه نفسه أن يتنكر لها، وأن يتمرد عليها، وهنا يجب أن يكبح جماحها، وأن يكرهها على قبول ما يضايقها.

ومجاهدة النفس فى هذا المضمار خلق لا ينفك عن مؤمن، ولا يسوغ استثقال أمره أو الترخص فيه.

وإنما ترتفع منازل المؤمنين ويتألق جبين أفل التقوى، بمقدار انتصارهم على شهواتهم وامتلاكهم لزمام رغباتهم...

إن العراك الباطنى لا ضجيج له، ولا سلاح فيه، ولكن هذا العراك أخطر فى نتائجه من المعارك التى تنتثر فيها الأشلاء، وتبذل فيها الدماء.

ذلك، لأن جهاد النفس هو الطريق الحقيقى لبلوغ القمم التى تجعل الإنسان يحتضن المثل العليا، ويبذل دونها النفس والنفيس، وقد جاء فى الأثر أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عقب العودة من إحدى غزواته: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ".

قال عمر بن الخطاب: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم قبل يوم القيامة، وتزينوا للعرض الأكبر (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ).

وعن الحسن قال: " إن المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم فى الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

إن المؤمن يفجؤه الشىء يعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك، وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بينى وبينك.

ويفرط منه الشىء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا، مالى ولهذا، والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله.

إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم.

إن المؤمن أسير فى الدنيا يسعى فى فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه فى سمعه وبصره، ولسانه وجوارحه ".

وعن الحسن، فى وصية لقمان لابنه: يا بنى إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حرون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت.

إن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت.

واحذر نفسك واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولابد له منها.

وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره، حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه فى الأخلاق، فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره ".

وحدثنا أبو عبيد الناجى أنه سمع الحسن يقول: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، وأقرعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنها تنازع إلى شر غاية.

وإنكم إن تقاربوها لم تبق لكم من أعمالكم شيئا، فتصبروا وتشددوا، فإنما هى ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف، ويوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم: إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله، ورجا عاقبته...

من تجارب المربين: فى تراثنا الثقافى القديم دراسات جيدة للنفس الإنسانية، وكيف تخلص من أدوائها، وكيف تمضى فى طريقها إلى الله منفاة مشرقة.

وعيب هذه الدراسات أنها كعروق الذهب فى باطن الصخور، لا تحصل عليها إلا بعد عناء، وتدبير، وإعمال حيلة!

وقد تراكم عليها فى عصور الضعف العلمى والسياسى ما جعل أمرها يزداد تعقيدا، حتى ليخيل للبعض أن النتائج التى يعود بها الباحث أقل قيمة من مخاطر الطلب، بل إن هذه النتائج نفسها قد تفهم على غير طبيعتها، ومن ثم فالزهد فيها أولى.

ونحن لا نريد إطراح ثقافتنا التقليدية، أو جزء منها للمتاعب والظنون المتوقعة.

ومن أجل ذلك رأينا أن ننظر فى كتب التصوف، وأن ننتقى من كلمات القوم ما نظنه مصدر نفع كريم.

وفى هذا الفصل نضع بين يدى القارئ كلمات لابن عطاء الله السكندرى مجردة من الشروح التى أحاطت بها، إذ أن هذه الشروح للأسف فيها باطل كثير.

وسأتولى شرحها بإيجاز، فى حدود ما توحى به الكلمات، وعلى ضوء المعروف من تعاليم الإسلام.

راجيا أن تكون هذه الكلمات الحكيمة إيناسا لمن يأخذون أنفسهم بضروب التربية، ووصفا لمعالم الطريق من أناس خبراء بها مهرة فيها.

التعب الضائع: " اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة".

لك حقوق وعليك واجبات، وكثير من الناس يطلب بإلحاح ماله من حقوق، بل يطلب بإلحاح ما يرى أنه حق له.

أما الواجبات التى عليه يقينا فهو يمارى فيها حينا، ويؤديها بكسل واسترخاء وبخس حينا آخر، وربما جحدها...

وهذا الطراز من الناس ـ وما أكثره بيننا ـ أدنى إلى الدواب التى لا تحس إلا ما تحتاج إليه، فأما ما تكلف به فهى لا تعرفه إلا من لذع السياط...

فإذا تجاوزت ما يتعامل به الناس من حقوق وواجبات إلى العلاقة بين الناس ورب الناس وجدت الأمر أنكى.

الناس وراء لقمة الخبز يكاد يصيبهم مس؟ مع أن الله لو وكل رزق الخلائق إلى قواها لبادت.

إنه ضمن الأرزاق لعباده، وأجرى مصادرها بين أيديهم رخاء.

ومع هذا فهم مكروبون فى طلب العيش الذى كفل لهم، أما إحسان الصلة بالله وتوجيه الفكرة إليه، والتعاون مع الآخرين على إقامة دينه والتزام حدوده فهو ما يقصرون فيه، أو ينصرفون عنه.

إن الله أراحهم من هموم الرزق، وكلفهم بشئون العبادة، فتكلفوا هم هموم الرزق واستراحوا من شئون العبادة.

الله يقول : (و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى).

وهؤلاء يصيحون، وأهلوهم معهم الخبز، الخبز...!!، ناسين الله وناسين وعده بالإغناء والتيسير، لا شغل لهم إلا طلب الدنيا.

وهذه الدنيا نفسها لا تجئ إلا من لدن الله الذى تركوه...!!

ما تقول فى امرئ يتقاعس عندما يحتاج الأمر إلى همة ونشاط، ويهتم وينشط عندما يكون الأمر قريبا من أصابعه؟.

إن هذا المسلك مع الله دليل انطماس فى البصيرة.

استعجال الشهرة: " ادفن وجودك فى أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه ".

هذه الكلمة أفضل توجيه لمن يريدون الظهور على عجل، ومن يتوهمون أن نصيبا قليلا من المعرفة والخبرة كاف فى الترشيح لقيادة الجماهير، والصدارة بين الناس، وهؤلاء فى الحياة لا حصر لهم.

إن منصب الإمامة فى آفاق الدنيا أو فى آفاق الدين يتطلب صبر السنين، وتغضين الجبين.

فليصنع المرء نفسه أولا فى عزلة وفى صمت وفى تؤدة، كالشجرة التى يختفى أصلها فى ظلمة التراب أمدا تتكون فيه التكون الصحيح، ثم تبدأ تشق طريقها إلى الهواء والضوء.

ما ضر الشباب أن يتواروا قليلا أو كثيرا فلا يطلعوا على الناس إلا بعد أن تكتمل ملكاتهم؟.

إنك ترى الواحد يكتب عدة مقالات فيحسب نفسه من قادة الفكر، أو يحسن بضعة أعمال فيزعم نفسه من ساسة العالم، ولو آثر " الخمول " فترة ينضج فيها لكان خيرا له.

ثم من الإيمان ـ إذا استويت ـ أن تقوم بما عليك لله ـ لا للظهور، فإن الذى يطلب وجوه الناس يسقط من عين الله.

فاحذر على نفسك أمرين: أن تنزع إلى البروز قبل استكمال المؤهلات المطلوبة، وأن تستكمل هذه المؤهلات لتلفت بها أنظار الناس إليك.

تسليم لله: "ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يحدث فى الوقت غير ما أظهره الله فيه".

لا تحسبن القدر يجرى وفق هواك: إن وراء الواقع الذى نهش له أو نضيق به حكما عليا تجعل الحوادث تسير، وهى لا صلة لها برضانا أو سخطنا...

فمن أراد تغيير قدر غالب، وأحب تقديم شئ أخره الله، أو تأخير شئ قدمه الله، فهو ينطح الصخر، ولن يستفيد من ذلك إلا تصديع رأسه.

والعاقل يرسم خطته على أن ما حدث حقيقة لا مناص من الاعتراف بها ثم يبنى سلوكه بعد ذلك وفق ما يشير به الحزم، ويوحى به السداد...

وخير للمرء أن يتهم هواه من أن يسخط على الزمن.

وأستطيع ـ على ضوء تجاربى ـ أن أؤكد لغيرى هذه الخلاصة، وهى أن أكثر ما نفعنى كان مما ضقت به بادى الرأى، وأن الآلام المزعجة والشدائد الباهظة هى التى فتقت العقل ونمت المواهب وأماطت النقاب عما نجهل من شئون وشجون وصدق الله العظيم ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

  • من خداع الشيطان: " إحالتك لتلك الأعمال على وجود الفراغ من رعونات النفس ".

التسويف خدعة النفس العاجزة والهمة القاعدة.

ومن عجز عن امتلاك يومه فهو عن امتلاك غده أعجز.

والتسويف يجىء غالبا من امتداد الأفكار البالية التى يجب الفكاك منها على عجل، ومن طغيان الشهوات التى لا يجوز لمسلم أن يستسلم لها، ويتراخى معها.

إن إرجاء المعركة مع الهوى الغالب، اعتراف بالعجز عن مقاومته.

ومن الرجولة أن يبدأ المرء ـ اليوم قبل الغد، والصباح قبل الأصيل ـ هجومه على المثبطات والعوائق، وأن يكتسحها من طريقه اكتساحا، دون إبطاء أو تهيب، وكل تسويف لا نتيجة له إلا إطالة عمر الشر وتقصير عمر الخير فى حياة الإنسان، فانظر المصير مع قول الله : (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا و يحذركم الله نفسه و الله رؤوف بالعباد).

(ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر)

وفى الحديث: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ".

ثق فى ربك: " ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك...".

عندما خاض المسلمون معركة بدر كانوا يحسون أن القتال فرض عليهم دون أن يأخذوا له أهبته الواجبة، فكان اعتمادهم على الله شديدا، والتماسهم عونه بالغا.

وتضاءل شعورهم بأنفسهم حتى استخفى، وتضاعف ذكرهم لله حتى لكأن الله هو الذى يدير المعركة، وكأن خيلهم ورجلهم أدوات المشيئة العليا.

من أجل ذلك جاءت نتيجة المعركة نصرا باهرا للذين خاضوها باسم الله، وجاء فى وصف أدوارها (فلم تقتلوهم و لكن الله قتلهم و ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)

والحق أن المرء يكون قوة غالبة عندما يعمل، وهو يستمد من الله العزم والجهد والتوفيق والنجاح.

وقد كان رسول الله يلقى الأعداء بهذا الروح المستظهر ببأس الله وحده، فكان يقول: " اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقاتل.

اللهم إنا نجعلك فى نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ".

أما إذا شمخ الإنسان بحوله وطوله، وأنس بما أعد، وذهل عن الله الذى تصير إليه الأمور، المهيمن على زمام الحياة، فإن النتائج تفجؤه بما لا يتوقع.

استراح المسلمون لكثرتهم فى معركة حنين وقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة ونظر بعضهم إلى بعض فلم يروا إلا كتائب معبأة لا يثبت لسطوتها أحد.

فتبخر اعتمادهم على السماء، ولم يرتقبوا النصر إلا من عند أنفسهم.

شتان بين هذا الشعور الذاهل الكليل وبين الشعور الذى غمر سرائرهم فى معركة بدر.

فماذا كانت النتيجة؟.

يقول الله فى كتابه: (.. و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين).

هذه عقبى الاغترار بالنفس والذهول عن الله.

وهى العقبى التى ذاق المسلمون مرارتها عند جبل أحد : (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)

إن التعويل على النفس مهما أحكمت الأمور واستكملت الأسباب لا يفتح أبواب الخير فما اكثر الثغرات فى جهد الإنسان ورأيه إذا أراد القدر خذلانه.

والواجب أن يستعين بالله فى كل شىء.

فإن عونه إذا تخلف لم يغن عنه شىء.

بل سيكون الأمر على حد قول القائل: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده...

ومعنى طلبك الشىء بالله أن تضم " سببه القوى " إلى ما بيديك من أسباب، لا أن تكسل أو تفرط، فإن الكسل والتفريط ليسا طلبا من الله، بل هما عصيان لله وخروج على سننه الكونية المقررة.

اليأس من الناس: " ما بسقت أغصان ذل إلا على بذور طمع ".

الإنسان يكون فى أشرف أحواله عندما يتبتل إلى الله، فلا يرجو إلا جداه ولا يؤمل فيما سواه.

هذه الحالة تقوم على إدراك عقلى سديد لطبائع الأمور.

فماذا يرجو الفقير من فقير مثله، وماذا يبغى العاجز من عاجز مثله.

إن المسلك الرشيد الوحيد ألا يقف المرء سائلا إلا بباب الله القوى الغنى، أما أن يتولد فى نفسه رجاء عند ذى جاه من الخلق، فهذا هو الحمق، وما أحسن قول الشاعر: ولى بالله إيمان وثيق فعن لكم بإيمان وثيق؟ قويت به فما أعيا بعبء ولا أشكو عثارا فى طريق ولا أخشى المضرة من عدو ولا أرجو المبرة من صديق وما طمعك فى بشر لو اعتدت عليه ذبابة لم يستطيع الانتصار منها؟.

إن جرثومة مرض ما ـ وهى أقل وأضأل من الذبابة ـ تسلب الجبار من الخلق صحته، فيحار كيف يستردها منها؟.

وصدق الله العظيم إذ يقول: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب).

والغريب أن الطمع فى العبيد خالط ألوف القلوب فأفسدها.

هذا عالم يتكلم بصوت خفيض وطرف كسير مع الحكام الجائرين.

ولو شاء لرفع صوته كالرعد، ولكنه يهمس حينا ويخرس أحيانا لأن بذور الطمع نمت فى نفسه فأذلته...

إن تطلعه إلى ما يملك فلان من مال، وإلى ما يهب فلان من جاه جعله يلين وينكسر وينكمش.

ولو أنه يئس من عطاء الخلق، وأنس بعطاء الخالق، لكان أعز نفسا وأعلى رأسا.

وكم من أناس أزرى بهم طمع فى هذا وأمل فى ذاك.

وكم من حقوق طمست، ومصالح عطلت؟ وأوضاع اعوجت بسبب أطماع نفسية محقورة.

واليأس من الناس يحتاج إلى تدريب النفس على العفة والأنفة، وعلى اكتفاء ذاتى يصدها عن التطلع إلى ما بأيدى الآخرين، والاستغناء بالقليل الموجود عن الكثير المشتهى.

قال محمد بن بشير:

لأن أُزَجِّىَ عند العُرْى بالخلَقِ وأجْتَزى من كثير الزَّاد بالعُلَق

خَيْرٌ وأَكْرَمُ لِى مِنْ أنْ أرَى مِننًا مَعْقُودَة للئامِ النَّاسِ فى عُنُقى

إنى وإن قصرت عن همتِى جِدَتِى وكان مالَى لا يقوى على خلق

لَتَارِكٌ كُلَّ أمر كان يلزِمُنى عَارا ويُشرِعُنِى فى المَنهلِ الرَّنِق

نقص القادرين على التمام: " ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك لمن هو أسوأ حالا منك ".

الأعور أحسن حالا من العميان، ولكن العور ليسى كمالا فى الأجسام أو صحة فى الحواس.

ومن الناس من يقارن جهده المحدود بأعمال أهل البلادة، أو علمه القليل بأفكار أهل الجهالة فيظن نفسه على شىء طائل، وهو فى الحقيقة فقير إلى ما يكمل مواهبه ولكنه مخدوع.

إن النظر إلى أدنى حجاب قاطع، أو هو عائق عن الرفعة المنشودة.

وإذا أحببت أن تقارن نفسك بغيرك فلا تنظر إلى الدهماء ثم تقول: أنا أفضل حالا، بل انظر إلى العلية ثم قل: لماذا أقصر عنهم؟ يجب أن أمضى في الطريق، ومن سار على الدرب وصل...

كثير من الأذكياء وقفهم فى منتصف الطريق أو فى مبادئه أنهم صحبوا نفرا من القاصرين والعجزة، فغرهم ذلك بأنفسهم وستر عنهم ما كمن فيهم من نقص أو أخفى عنهم ما يطيقونه من درجات الكمال لو نشطوا.

وهذه الصحبة وبال على الإنسان، لأنها قيدت الهمة وشلت الطموح.

ولذلك ينصح ابن عطاء الله قبل ذلك فيقول: " لا تصاحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله... ".

احذرك نفسك: " أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا عنها، لأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه فأى علم لعالم يرضى عن نفسه؟ وأى جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه "؟

لا يبحث عن الشفاء إلا من أحس المرض، أما من أصيب بعلة فلم يشعر بها ولم يستشف منها، فإن جراثيمها تستشرى فى أوصاله حتى تأتى عليه.

وكذلك النفس الإنسانية لا يطلب لها العافية إلا من أدرك ما بها من أدواء والشعور بالنقص أول مراحل الكمال.

وقد قال الله تعالى على لسان أحد أنبيائه المطهرين: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم)

فإذا وجدت امرأ راضيا عن نفسه فافقد فيه الأمل، لأنه ينطوى على ركام من العيوب والنقائص وهو لا يلتمس الخلاص منها بل إنه فاقد الشعور بوضاعتها.

وهيهات لمثل هذا اكتمال أو نجاة.

والعلم النظرى لا يرفع قدر أصحابه، فأى قيمة لشخص يختزن فى رأسه قدرا من المعلومات ولكن نفسه طافحة بآثام لم تعالج وخشونة لم تهذب، ثم هوـ مع ما يختزن من معرفة ـ لا يدرى أنه عليل.

مثل هؤلاء يكون علمهم آفة، لأنه يقوى جهالاتهم ولا يزيلها، ويغرهم بما أوتوا بدلا من أن يزيل من أنفسهم ما يسوءها.

وأفضل من هؤلاء رجل قليل المعرفة عميق الإخلاص كثير التفتيش عن عيوبه مجتهد فى تزكية نفسه وترقية أحواله، هـان هذا أرجى عاقبة وأرقى عاجلة من العلماء الكبار إذا رضوا عن أنفسهم، وغفلوا عن إصلاحها...

الاستكانة لله: "ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك الذنب فكان سبب الوصول.

معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا ".

قديما وحديثا ضاق العلماء الراسخون بنفر من أهل العبادة يحسنون الشكل ولا يحسنون الموضوع، يكثرون التصويب ولا يصيبون الهدف، يقيمون الظواهر بدقة ولا يدركون من الحقائق شيئا...

هؤلاء الناس كانوا قديما وحديثا حجة على الدين لا سنادا له وعوائق تصد عن العبادات لا شواهد تدعو لها وتغرى بها.

يصلون، افتدرى كيف خرجت صلاتهم منهم؟.

" خرجت ـ كما يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى وصف صاحبها ـ وهى سوداء مظلمة، تقول ضيعك الله كما ضيعتنى، حتى إذا كانت حيث شاء الله، لفت كما يلف الثوب الخلق، ثم ضرب بها وجهه " .

ويصومون، أفتدرى ما قيمة صيامهم؟.

هى كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر " .

إن العبادة جسم وروح، والقبول الإلهى يكون لمن قدمها حية لا ميتة.

ولذلك روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: " لا يقبل الله من عبد عملا حتى يشهد قلبه مع بدنه " .

وعن ابن عباس مرفوعا: " مثل الصلاة المكتوبة كمثل الميزان.

من أوفى استوفى" .

وإحسان الشكل قليل الغناء على صاحبه وعلى الناس.

أعرف بعض الفلاحين تصيبه الجنابة فيذهب إلى إحدى الترع فيغمر جسمه فى الماء ثم يخرج منه وقد طهر!.

فإذا ما اقترب منك شممت منه رائحة منفرة لما تراكم على جسمه من درن وعرق.

ما جدوى هذا الغسل الذى لم يذهب وسخا، ولم يضف على صاحبه وضاءة، ولم يمهد له بين الناس قبولا؟.

كذلك الطاعات التى يؤديها بعض الناس بهذا الأسلوب، ربما استكملت المراسيم الشكلية، ولكنها فقدت حقيقتها وثمرتها، ومن ثم لا تحظى بشىء طائل عند الله.

والأساس فى الطاعة أنها تجعل الإنسان يتحقق بأوصاف عبوديته بين يدى ربه، ومع صنوف الخلق.

والعبودية تنافى الصلف والغطرسة والجفوة، لأنها تواضع ولين جانب وسهولة خلق.

وقد تجد ناسا من الموسومين بالعبادة يتذرعون بما يؤدون من طاعات للاستعلاء على الخلق، والغض من الآخرين، على حين تجد ناسا ليسوا على غرارهم أسلس قيادا، وألين عريكة.

وربما ارتكب أحدهم الذنب فيفزع لارتكابه، وينكسر فؤاده مع الله لما فرط فى جنبه.

ولعل استشعاره الخزى على فعلته، وإكنانه الألم فى أوبته يجعلانه أدنى إلى الحق وأقرب إلى مثوبة الله ـ بهذا الذنب ـ من أولئك الذين لم يستفيدوا من طاعتهم إلا الجلافة والقسوة.

وغريب أن يقع فى السلوك الإنسانى هذا التفاوت ولكنه موقف الناس مما أمروا به ونهوا عنه!!.

إن الله شرع العبادات ليتواضع العباد بها لا ليستكبروا، وليستقبلوا بها رحمة، ثم يلقوا بها سائر الخلق وفى قلوبهم رقة، وفى نفوسهم وداعة، وفى سيرتهم طيبة.

فإذا وجدت من العابدين من ينقطع دون هذه الغاية، فهو لم يعبد حقا، ولم يدرك قبولا.

وقد كره الله المعاصى وحرمها على الناس، وسعر جهنم لمقترفيها.

ومع ذلك فإن بعض الناس تكون المعصية وخزًا لضميره النائم وحزنا ينقذف فى قلبه فإذا هو دامع العين متهيب لبطش الله به.

إن تهيب هذا العاصى أفضل من كبرياء ذلكم العابد.

وعلى ضوء هذا الكلام تفهم ما حدث به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان!

فقال الله عز وجل: من ذا الذى يتألى على ألا أغفر لفلان؟ إنى قد غفرت له وأحبطت عملك "!!!

ولا يذهبن أحد إلى أن هذا تهوين من شأن العبادة، كلا إنه حماية للعبادة الحقيقية، وزراية على العبادة المزيفة، وتعليم للعباد ألا يغتروا بأنفسهم وبما قدموا.

وتحريض لهم أن يتعلقوا بذات الله، وأن يكونوا كما وصف الصالحين من عباده: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون)

كما أن الذنوب لا يمكن أن تكون موضع رضا، بل هى سبب حقيقى لخزى الدنيا وعذاب الآخرة.

ولكن الذنوب التى تؤرق أصحابها، وتقض مضاجعهم، وتسرع بهم إلى المتاب، لا تعد ذنوبا بعد ما غسلها الندم، وتحولت إلى حاد يحث الركاب إلى رب الأرباب.

المحبوسون فى سجن المادة: " لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير والمكان الذى ارتحل إليه هو الذى ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون (وأن إلى ربك المنتهى)

، وانظر إلى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

فافهم قوله عليه الصلاة والسلام، وتأمل فى هذا الأمر إن كنت ذا فهم ".

قال الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون * ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين)

هذه آيات خمس، الثلاثة الأولى منها وصفت الأكوان عُلُوها وسُفلها وما انبث فيها من حياة وأحياء.

والاثنتان الأخريان انتقلتا من الأكوان إلى الملكوت فتحدثت عن وجوده ثم توحيده.

ولفت الناس هنا إلى الله، جاء بصيغة عجيبة " فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ... ".

وهذا الفرار إنما يكون مما يحذر ويعاب.

والحق أن الانحصار فى الكون والاحتباس بين مظاهره فواحش عقلية ونفسية لا يرضاها أريب.

إن من له أدنى مسكة يعرف ـ من العالمين ـ من رب العالمين، ويعرف ـ من الأكوان ـ صاحب هذه الأكوان!!.

إن هذا الملكوت الضخم الفخم من ودائع ذراته إلى روائع مجراته شاهد غير مكذوب على أن له خالقا أكبر وأجل...

إنها لجهالة أن يغمط هذا الإله العظيم حقه، وإنها لنذالة أن يوجد بشر ينكره ويسفه عليه.

ولكن.

(خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)

والعاقل ينظر فى الكون فيتعلم منه تسبيح الله وتحميده، ويستنتج من قوانين الحياة وأحوال الأحياء ما يستحقه المولى الأعلى من أسماء حسنى، وصفات عظمى...

والناس صنفان، صنف يعرف المادة وحدها ويجهل ما وراءها، ولا نتحدث الآن عن هؤلاء...

وصنف مؤمن بالله مصدق بلقائه، ولكنه هائم فى بيداء الحياة، ذاهل وراء مطالب العيش، مستغرق المشاعر بين شتى المظاهر، فهو لا يكاد يتصل بسر والوجود، أو يتمحض لرب العالمين.

ومع هذا الصنف المؤمن نقف لنرسل الحديث...

هناك قوم لا تخلص لله معاملاتهم، بل هى مشوبة بحظوظ النفس ورغبات العاجلة، وهؤلاء لن يتجاوزوا أماكنهم ما بقيت نياتهم مدخولة، حتى إذا شرعت أفئدتهم تصفو بدءوا المسير إلى الأمام.

وهناك قوم يعاملون الله وهم مشغولون بأجره عن وجهه أو بمطالبهم منه عن الذى ينبغى له منهم، وهؤلاء ينتقلون عن أنفسهم من طريق ليعودوا إليها عن طريق أخرى.

إنهم مقيدون بسلاسل متينة مع أنانيتهم فهم يسيرون ولكن حولها، لو حسنت معرفتهم لله ما حجبتهم عنه رغبات مادية ولا معنوية، بل لطغى عليهم الشعور به، وبما يجب له، وتخطوا كل شىء دونه، فلم يهدءوا إلا فى ساحته، ولم يطمئنوا إلا لما يرضيه هو جل شأنه، على حد قول أبى فراس: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذى بينى وبينك عامر وبينى وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب وابن عطاء الله يرى أن العامة يترددون بين مآربهم، كحركة بندول الساعة لا تتجاوز موضعها على طول السعى، أو هم على حد تعبيره كحمار الرحى ينتقل من كون إلى كون، والمكان الذى ارتحل إليه هو الذى ارتحل منه.

والواجب على المؤمن أن يقصد وجه الله قصدا، وأن يتقصى تقصيا عن ألوف الأربطة التى تشده إلى الدنيا، وتخلد إلى الأرض!!.

ومن خدع الحياة أن المرء قد يعمل لنفسه وهو يحسب أنه يعمل لله، ولو وضعت بواعثه الكامنة تحت مجهر مكبر لاستبان أن كثيرا من دواعى غضبه وسروره، وتعبه وراحته، يصلها بوجه الله خيط واه، على حين تصلها بحظوظ النفس حبال شداد.

وهنا الخطر المخوف، إن الهجرة إذا كانت لله فقد مضت وقبلت، وإلا فالأمر كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

والشعور بوجود الله ليس أمرا يتكلف له الإنسان شيئا، إنه شعور بالواقع؟.

قد يكون لك حبيب مسافر مثلا فأنت إذا اشتقت إليه تتخيل صورته، وتحاول الأنس بالوهم عن الحقيقة.

ولكن الشعور بالله ليس تقريبا لبعيد ولا تجسيدا لوهم، إنه شعور بالواقع الذى يعد تجاهله باطلا، كشعورك مثلا ـ وأنت فى البيت ـ بأنك فى البيت، أو شعورك ـ وأنت فى القطار ـ بأنك فى القطار… إنه الواقع الذى لا معدى عن الاعتراف به، وبناء كل تصرف على أساسه.

إن الألوهية لا تفارق العباد لحظة من ليل أو نهار، ومن ثم فإن الغفلة عن الله غفلة عن الحق المبين.

وإذا كان الأعمى يعجز عن رؤية الأشياء فإن الأشياء لم تزل من مكانها لأن عينا كليلة لم تتبينها.

وإذا كان الناس مذهولين عن الحق المصاحب لهم المحيط بهم، فذلك عمى تعود عليهم وحدهم معرته.

وقد كثر القرآن الكريم من إشعار الناس بهذه المعانى، وصاح بهم وهم يفرون عنها، إلى أين؟ ( فأين تذهبون )

أين المذهب (والله من ورائهم محيط).

قال تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم * هو الذي خلق السماوات والأرض في ستـة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير).

هو بصير بما نعمل، وهو معنا حيثما كنا !

ألا تعين هذه الحقائق على صدق المعرفة وحدة الشعور بوجوده وإشرافه؟.

ثم ألا يدل ذلك على أن ذكر الله ليس استحضارا لغائب؟ إنما هو حضورك أنت من غيبة، وإفاقتك أنت من غفلة!!

ولابد هنا من توكيد التفرقة بين وجود الله.

ووجود العالم، فإن بعض الناس يستغلون المعانى التى شرحناها للبس الحق بالباطل.

إن وجود الله مغاير لوجود سائر المخلوقات وهذا العالم منفصل عن ذاته جل شأنه انفصالا تاما.

قد تسمع بعض الفلاسفة أو بعض المتصوفين يقول: إنه يرى الله فى كل شىء.

وهذا التعبير صحيح إن كان يعنى أنه يرى آثاره وشواهده.

أما إن كان يعنى وحدة الخالق والمخلوق، أو وحدة الوجود كما يهرف الكذبة، فالتعبير باطل من ألفه إلى يائه، والقول بهذا كفر بالله والمرسلين...

ووصف الإحاطة الإلهية فى هذا المجال وسيلة لا غاية، وسيلة لتصحيح النية والجهد والهدف، وإهابة بالإنسان أن يدير نشاطه البدنى والعقلى على مرضاة الله وحده.

وليت الناس يسعون فى هذا الطريق بنصف قواهم!

لو أن امرءا حاول استرضاء الله بنصف الجهد الذى يبذله فى كسب المال، أو التمكين فى الأرض لقطع مرحلة رحبة فى طريق الارتقاء الروحى والخلقى، ولو أن امرءا كره الشيطان ووساوسه بنصف الشعور الذى يكره به الآلام، والخصوم لنال من طهر الملائكة حظا...

إن الله قد يقبل نصف الجهد فى سبيله، ولكنه لا يقبل نصف النية.

إما أن يخلص القلب له، وإما أن يرفضه كله.

وقد أسلفنا القول أن الإنسان قد تحتل قلبه مقاصد شتى هى التى تبعثه على الحركة والسكون، وعلى الرضا والسخط، وأن هذه المقاصد تنبعث عن أنانيته لا عن إيمانه بربه، وابتغائه ما عنده.

والعلماء المربون يطاردون هذه المقاصد المتسللة إلى القلب، ويمنعونها أن تئوى فيه، ولا يتوانون فى مطاردتها حتى تخفى ويطهر القلب منها.

ذلك أن الإسلام دقيق جدا فى تقويم العمل بالنية الباعثة عليه والغاية المصاحبة له، فمن لم يكن الله وجهته فى هجرته فلا عمل له ولا خير فيه.

وفى الحياة الآن ألوف من المدرسين والأطباء والمهندسين والضباط والعمال والتجار والموظفين...

إلى آخره يزحمون ظهر الأرض بحركة واسعة المدى، فأما ما كان للتكاثر والتظاهر فسوف يلصق بالتراب، وربما بقى لصاحبه طول حياته، وربما افتقده قبل أن يموت وأما ما كان لله فهو مبارك الثمر ممتد الأثر، إن البقاء لما قصد به رب السماء (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب).

ونعود إلى الصنف المسجون بين عناصر المادة لا يعرف غيرها، إنه ينتقل من"

عنصر إلى عنصر، وينسب مادة إلى مادة، ويجحد ما بعد ذلك.

وقد ناقشنا هؤلاء فى مكان آخر، ودحضنا ما ساقوا من شبه، ونريد هنا كشف الستر عن بعض دعاوى القوم.

إن وصف الإيمان بأنه حركة رجعية، والإلحاد بأنه حركة تقدمية وصف كاذب، فالكفر قديم قدم الغرائز الخسيسة، والأفكار السفيهة، وتاريخ الحياة يتجاور فيه الخير والشر، والصلاح والفساد، فمن قال: إن الإيمان طبيعة أيام مضت وانتهى دورها، وإن الكفر يجب أن يفسح له الطريق فهو دجال...

كذلك وصف الإيمان بأنه حركة فكر محدود، والإلحاد بأنه حركة عقل ذكى، أو وصف الإيمان بأنه منطق الدراسة النظرية، والإلحاد بأنه منطق الدراسة العلمية والبحوث الكونية، هذا كلام خرافى لا حرمة له، فإن جمهرة كبرى من قادة العلم الكونى والدراسات الحيوية يؤمنون بالله، ويرفضون الزعم بأن الكون خلق من غير شىء.

والواقع أن الإلحاد يعتمد على الظنون والشائعات، لا على اليقين والبراهين، وأنه لم يثبت فى معمل أو مختبر بأن الله غير موجود، وكل ما هنالك أن الماديين نسبوا لغير الله من النظام والإبداع ما لا تصح نسبته إلا لله.

كما وصف القرآن الكريم (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون).

أما الدلائل التى تغرس الإيمان فى القلوب، عن طريق التفكير السليم فى هذا الكون الكبير فهى قائمة ناهضة.

من؟ إلا الله..!!

ذكر الطيار الروسى " تيتوف " مشاهده وهو فى الفضاء يدور بسفينته العجيبة حول الأرض، لقد رأى مظاهر كونية شتى كلها ساحر رائع، ثم قال: "ولكن أروع من هذا كله منظر الأرض وهى معلقة فى الفضاء، إنه منظر لا يستطيع الإنسان أن ينساه ولا أن يضيعه من خياله، كرة تشبه الصور المرسومة لها فى الخرائط، معلقة فى الفضاء ليس هناك من يحملها، كل ما حولها فراغ...

فراغ...

فراغ.

وقد أصبت بالذهول مدة لحظات، وسألت نفسى فى دهشة: ترى ما الذى يبقيها معلقة هكذا هناك... "؟.

والجواب: من إلا الله؟ إن هذا السؤال الذى توحى به الفطرة البريئة، لا نرى أيسر ولا أصرح ولا أخصر من إجابة القرآن الكريم عليه (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده).

إنه هو الذى أبقاها معلقة هكذا فى مكانها، كما أبقى القمر والشمس اللذين نراهما ليلا ونهارا، لا ركيزة للأحد هذه الكواكب إلا أعمدة القدرة العليا.

قال تعالى: (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم).

إن سفينة الفضاء التى قبع فى داخلها تيتوف، لم تنطلق من تلقاء نفسها ولم تتجمع آلاتها، وأجهزتها خبط عشواء، ولم تقم برحلتها السماوية دون نظام محكم رسمه لها أذكى العلماء.

فهل يا ترى انطلقت الأرض فى فضائها من تلقاء نفسها، ودون مشرف على حركتها، ودون تقدير دقيق لصلتها بغيرها من شتى الكواكب، ودون رعاية لحاجات الألوف المؤلفة من الأحياء المحتشدة فوق سطحها...

إن هذا ما ينفيه العلم نفسه، وما تشهد بغيره سفينة الفضاء التى ركبها الرائد الروسى.

إننا نسأل مع الطيار الروسى: من الذى يستبقى الأرض، وجميع الكواكب القريبة والبعيدة فى مداراتها الرحبة، تسبح دون إعياء، ودون اضطراب فى فضاء الكون العظيم، ومن ينسق لها حركاتها، فلا تصطدم، ولا تنحرف!!

إننا لا نسأل نحن بل القرآن نفسه يسأل، (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم*

سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون)

إن الإيمان ليس حالة تنشأ من ركود النشاط الفكرى، وتأثر العقل بالأوهام والخرافات، وإيمان من هذا القبيل لا وزن له.

ولعلماء المسلمين كلام فى قيمة إيمان المقلد، لقد رفضه فريق منهم، ورأى أنه لا يفيد صاحبه!

لماذا؟ لأن الله يقول: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وإيمان المقلد ليس من سعيه، وإنما هو من سعى غيره له.

أجل إنه من سعى الأذكياء الذين فكروا ووصلوا، أما هو فلم تعتمل فى نفسه فكرة، ولم تتحرك فى كيانه همة، بل تتبع الآخرين دون وعى، وهذا لا يعد جهدا محترما حقيقا بالمثوبة.

ومن ثم فنحن نحب أن يسأل " تيتوف " وأن يسأل غيره من الناس عن مظاهر الكون كلها، وأن يبحثوا بحماسة عن الخالق الكبير، وأن يتحروا الحقيقة فى تقرير الإجابة، وألا يكتفوا بالتساؤل المبتور، أو ينطقوا بالسؤال ثم تغلبهم تيارات مجنونة دون انتظار الجواب...

إننا سمعنا من فهم الوحى ـ قبل أن نسمع من الطيار الروسى المبهورـ هذا السؤال عن الأرض ومن فيها، قال تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض).

وسمعنا الجواب الحتم عقب هذا السؤال الواجب (قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون).

إن الإسلام دين فجر الطاقة العقلية فى البشر، وجعل اليقين فى الله نتيجة لابد منها لتجوال الفكر الإنسانى المستيقظ النابه فى آفاق السموات والأرض.

ولذلك لا يوجل الإسلام من البحوث العلمية ولا الكشوف الكونية، بل على العكس يدفع إليها دفعا ويحض عليها حضا.

وكل خطوة يخطوها العلم الكونى تؤكد أن الله من وراء كل حركة وسكنة، وأن المادة يستحيل أن تتخلق من غير شىء، وأن هذا الاطراد والاتساق فى القوانين التى تربط بين أجزاء المادة يستحيل أن يتولد من الهباء (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون)

والعقل الإنسانى كفر بما ينبغى الكفر به على الإجمال!!

تقول: كيف هذا؟ والجواب: أن الناس مع إطباقهم على ضرورة الألوهية ونفرتهم من التعطيل، وإنكار رب العالمين، مع هذا فقد أبوا إلا تصور الألوهية على أنحاء منكرة، وارتسمت لها فى أذهانهم صور أغلبها باطل.

والعقل الذى يرفض عبادة حيوان أو جماد معذور فى كفره بهذه الآلهة.

والعقل الذى يأبى التسليم بآلهة شركاء، وأب وأبناء، معذور فى إبائه هذا ولأمر ما كانت كلمة " لا إله إلا الله " مكونة من شقين، أولهما نفى والآخر إثبات.

لا إله...

هذا الشق الأول من الكلمة يعنى نفى ما صنعه الخيال البشرى من آلهة أرضية وهى آلهة شاع الإيمان بها ـ ولا يزال ـ فى أقطار كثيرة، وبين جماهير غفيرة.

ونحن المسلمين نكفر بهذه الآلهة المختلفة، ونقول مقالة القرآن الكريم (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).

والشيوعيون اكتفوا بهذا الشق، ولو عقلوا لأدركوا أن بعد الكفر بالآلهة التى صنعها الناس لابد من الإيمان بالله الذى صنع كل شىء، وليس كمثله شىء، وهو السميع البصير.

لابد بعد كلمة لا إله ـ التى تنفى كل ألوهية باطلة أن يجىء بعدها الإثبات العظيم الحق، وهو...

إلا الله.

الله الذى أحس الطيار الشيوعى بعض آثاره عندما رأى الأرض معلقة فى الفضاء يكتنفها الفراغ من كل ناحية، فهتف دهشا من يحملها؟.

ونحن نجيب: من؟ إلا الله.

من حقيقة العبودية: " لو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبدا ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك لا بما منك إليه لولا جميل ستره لم يكن عمل أهلا للقبول ".

أدلة الشريعة متضافرة على أن العمل الصالح طريق الجنة، وأن العمل الطالح طريق النار، وقد وعد الله المؤمنين بالنعيم وتوعد الفجار بالجحيم، ورفض أن يسوى بينهما فى الجزاء، وعد ذلك سوء حكم، (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم * أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون).

وقد أخبر الله أن النعيم الذى يصير إليه أهل الإيمان والصلاح لا يتغير.

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم)

كما أخبر أن أهل الفسق والكفران لابد أن يذوقوا أليم العذاب (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد * قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد * قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد).

وفى هذه الآيات ـ وهى نماذج لمئات غيرها ـ ما يدل بوضوح على أن الإنسان صانع مصيره، وأنه يشق بيده طريق مستقبله، وأن القدر لا يسوق الناس إلى دار الجزاء خبط عشواء.

كلا، إنهم يجنون فى الدار الآخرة ثمار ما غرسوا فى الدار الدنيا...

وكل كلام غير هذا فهو إما جهل بالإسلام أو افتراء عليه.

بيد أن من تمام العمل الصالح أن نقدره قدره، وألا نتجاوز به حدوده.

فإن من ظن أن عبادة عدد سنين فى الأرض هى الثمن الحقيقى لخلود غير متناه فى السماء رجل مجازف.

ومن ظن أن الطاعات التى تقدم بها، سليمة الأداء نقية اللباب تثبت على النقد والتمحيص فهو رجل مخدوع.

ومن ظن أن ما نهض إليه من ـ واجبات وما تطوع به من نوافل أرجح من النعم التى عجلت إليه فى الدنيا فهو هازل.

الواقع أن الله جل شأنه ينظر إلى نيات الخير فى قلوب أهل الإيمان فيعفو عن كثير من زللهم، ويتجاوز عن كثير من تقصيرهم، ويكثر قليلا من الأعمال التى يقومون بها.

كما يكثر للفلاح حصاد زرعه، وان كان ما بذر يسيرا.

ولولا هذا ما شعر بلذة الفوز أحد (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا، ولكن الله يزكى من يشاء).

إن الاغترار بالعلم رذيلة تسقط قيمة العمل، ولو أن أحدا طالب الله أن يقربه إليه، أو أن يجزل له المثوبة، ناظرا فى ذلك إلى ما بذل من جهد ما استحق عند الله شيئا طائلا.

والواجب أن يتقدم الإنسان إلى الله وهو شاعر بتقصيره، موقن بأن حق الله عليه أربى من أن يقوم بذرة منه، وأنه إذا لم يتغمده الله برحمته هلك.

هبك بذلت نفسك، ومالك له...

أليس هو خالق هذه النفس؟ أليس هو واهب هذا المال…؟ فإذا أدخلك الجنة ـ بعد ـ ألا يكون متفضلا؟ وانظر إلى سلسلة الأعمال التى تؤديها خلال فترة المحيا على هذه الأرض، كم يكتنفها من علل النفس وآفات التقصير؟ إنها لو كانت أعمال غيرك فعرضت عليك أنت ما قبلتها إلا على إغماض طويل وتجاوز خطير!!

إن المؤمن يعمل، ولكنه لا يتطاول بعمله أبدا.

وهذا يفسر الحديث المشهور عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لن يدخل الجنة أحد بعمله!

": قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته "

والغريب أن ناسا فهموا من النهى عن الاغترار بالعمل أنه إسقاط لقيمة العمل جملة!

وسار الأمر فى أدمغتهم على هذا النحو، والعمل لا يدخل الجنة، فلا ينبغى أن تتعلق الهمم به، فلا ضرورة لبذل المجهود فيه!!!

ثم قرروا بعد ذلك أن العمل الصالح ليس طريق الجنة وأن الجنة هبة من الله يمنحها من يشاء ولو-لم يعمل خيرا قط.

بل ذهبت الغفلة ببعض المتكلمين إلى الزعم بأنه يجوز أن يدخل الأشرار الجنة وأن يدخل الأخيار النار.

وهذا لغو من القول، وغباء فى الفكر، وافتراء على الله والمرسلين.

وليت شعرى ما يكون موقف هؤلاء عندما يقول الله للمؤمنين يوم الحساب (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون * لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)...

ثم يستتلى الكلام الإلهى (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون * وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)

من أخطاء العابدين: " من علامة اتباع الهوى، المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات ".

الفروض التى يجب أداؤها كثيرة ومنوعة، وهى فى العبادات محدودة كما وكيفا ولكنها فى العادات مفتوحة الدائرة متطورة الأداء.

والمسلم مطالب بكل الواجبات التى ارتبطت بعنقه، ولا يجوز أن يوجه نشاطه إلى نافلة ما قبل أن يستكمل هذه الواجبات أولا.

إن الواجبات والنوافل أشبه بالضرورات والمرفهات، والمرء لا يشترى لنفسه عدة زجاجات من العطور وهو وأهله بحاجة إلى أرغفة من الخبز، سد الجوع أولى من هذه الزينات.

وقد رأيت ناسا من أهل الدين يذهلون عن هذه الحقيقة، وحكى لى أحدهم أنه حج عدة مرات وهو بسبيله إلى حجة جديدة، لن تكون الأخيرة...

وهذا خطأ.

فلو أنه بعد حجة الفريضة تأمل فيما عليه من فروض أخرى، ولو أنه تتبع الثغرات التى شاعت فى مجتمعنا وعمل على سدادها لكان أدنى إلى الصواب، وأقرب إلى مرضاة الله، وأبعد عن أهواء النفس...

إن نفقات حجة واحدة من هذه النوافل تكفى لدفع نفقات الدراسة لنفر من الطلاب الفقراء، وهم أولى، وتكفى لرفع الحجز عن أمتعة نفر من الغارمين المعسرين وهم أولى، وتكفى لطبع بعض الكتب الدينية وتوزيعها بالمجان وذاك أجدى... الخ.

إن إنقاذ أمتنا من الجهل والفقر أوجب من إشباع رغبة نفسية فى متابعة الحج والعمرة، هذه فريضة وتلك نافلة.

بل لو أن الحاج كان تاجرا، واستغل المال فى توسيع تجارته لدعم الاقتصاد الإمملامى، واغلاق الأبواب أمام الاقتصاد الأجنبى لكان ذلك أحق من بذل المال فى التطوع بحج أو عمرة.

ذلك أن الجهاد الاقتصادى صنو الجهاد الحربى، بل إن لقاء العدو فى ميدان الدم يجىء مرحلة أخيرة بعد كفاح طويل فى عالم المال والمعرفة والدعاية والبذل.

وتنظيما للعلاقة بين الفرائض والنوافل روى عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " حجة خير من أربعين غزوة وغزوة خير من أربعين حجة يقول إذا حج الرجل حجة الإسلام فغزوة خير له من أربعين حجة وحجة الإسلام خير من أربعين غزوة " .

وفى رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج " .

وقد أبنا فيما كتبنا أن الجهاد الحربى، حلقة من سلسلة بها حلقات أخرى من غزو اقتصادى وثقافى.

لا تقل خطرا عن نظائرها.

إن أصحاب البصر السديد من العلماء يضعون الحدود مكبرة بين الفروض والنوافل حتى لا يقع المسلم فى تقصير مخل وهو يحاول إرضاء الله بعمل لم يوجبه عليه.

وابن عطاء الله يعد من إتباع الهوى إيثار نافلة خير على واجب قائم.

وقد رأيت بعض الصالحين يصومون يومى الاثنين والخميس ويجتهدون فى التقرب إلى الله بهذا العمل الكريم.

والصيام قربة لا ريب فيها وجهاد نفس نبيل، ولكنى أحب أن أنظر إلى الموضوع على ضوء الموازنة بين الفرض والنفل.

فمن صام رمضان فقد أدى الفريضة، فإن كان صيام أيام أخرى سيوهن قواه عن العمل فى المدرسة، إن كان مدرسا، أو العمل فى الديوان إن كان موظفا، فالفطر أولى به.

لأن هذا التنفل سيعجزه عن القيام بفريضة تعليم التلامذة، أو يعجزه عن القيام برعاية مصالح الجمهور، وكلا العملين فريضة بالنسبة له.

ولماذا يجهل بعض الناس أن ما وكل إلى ذممهم من أعمال عامة أو خاصة هو مجال خصب لكسب رضوان الله وغفرانه؟.

لقد كنت ألحظ ـ بأسى ـ أن بعض الأطباء يحب أن يعظ الناس فى المساجد!

لماذا؟.

إن الكشف الدقيق على مريضه هو العبادة الأولى المطلوبة منه، ولا يغنى عن هذه العبادة أن يجيد بعض خطب أو يطيل بعض ركعات ـ عدا الصلوات المكتوبات.

إن صلاته بعد الأوقات الخمس هى علاجه المرضى واستكشاف عللهم، وتيسير الشفاء لهم بكل ما هنالك من وسائل...

لقد قلت: إن الفروض كثيرة، وإذا كانت محدودة فى ميدان العبادات فهى مطلقة فى الميادين الأخرى، وأمتنا فقيرة إلى الجد فى الميادين كلها وإلا جثت على ركبتيها أمام أعدائها.

ولذلك يجب أن تنظم جهود العابدين، حتى لا تقل فى ناحية وتكثر فى ناحية أخرى.

ويجب إبراز الفروض أولا حتى لا تضطرب الأوضاع وتختل الموازين وتتبدد الجهود هباء.

المنة لله وحده: " من أكرمك إنما اكرم فيك جميل ستره، فالحمد لمن سترك، ليس الحمد لمن كرمك وشكرك ".

الله ولى النعمة، وأهل الثناء أولا وآخرا، ظاهرا وباطنا.

قد تكون ذكى العقل بادى المواهب يثنى عليك الناس لما امتزت به من فكر ثاقب وعمل بارز.

فمن الذى صاغ معدنك وأنت جنين على هذا النحو المرموق؟.

إن المعدن الذى يصاغ منه الإنسان هو الذى يحدد رزقه وأجله، فإن كان معدنا هشا كان سريع الكسر، وإن كان معدنا رديئا كان رخيص القيمة.

من الذى خلق العباقرة ممتازين من طفولتهم؟ هو الله!!

(هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ).

فإذا رأيت الناس يعلون من قدرك، فالحمد لمن أنشأك جديرا بالرفعة.

وكم يخطئ المرء؟ وكم يقع منه ما لو عرف به لخدش مقداره وسقط شعاره؟.

أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح.

فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح.

لكن الله يصبر ويبقيك بين الناس كأن لم يبدر منك شىء ويظل لك ما تحب من كرامة ومنزلة.

فلمن الحمد؟ لمن يثنى عليك بلسانه؟ أم لله الذى أنعم أولا وستر أخرا؟.

لا تنخدع عن حقيقتك: " الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاما لنفسك لما تعلمه منها ".

هل أغش نفسى لأن الله سترنى فانطلقت ألسنة الناس تمدحنى؟ ما يفعل هذا عاقل.

واجب أن يكون موقفى من نفسى ثابتا، أفتش عن عيوبها لأنقيها منها وأستحضر باستمرار ما بها من أخطاء كى أصوبها، وما فيها من نقائص كى أكملها.

فإذا قال الناس: هو كامل، فلا أنخدع بمقالتهم عن حقيقة ما أعرف من نفسى "فأجهل الناس من ترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس ".

والعجب أن ناسا يكذبون ثم يصدقون هم أنفسهم ما اختلقوه على الناس، كما روى عن أشعب أن الأطفال تبعوه يوما بزياطهم، فأراد أن يصرفهم عنه فزعم لهم أن عرسا بمكان كذا توزع فيه الحلوى!!

فلما جروا إلى العرس المزعوم تبعهم أشعب هو الآخر يجرى!!

لقد صدق الأكذوبة التى ألفها...

إن ذلك مثل من يسمع المدائح فيه فيصدقها، وهو يدرى من باطن أمره أنه غير ما قيل فيه.

كان الرجل من الصالحين إذا مدح قال: " اللهم اغفر لى ما لا يعلمون، ولا تؤاخذنى بما يقولون، واجعلنى فوق ما يظنون ".

وهذا دعاء من ينصف نفسه ويخشى ربه.

اعرف حقوق سيدك: " تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه!

تحقق بذلك يمدك بعزه، تحقق بعجزك يمدك بقدرته، تحقق بضعفك يمدك بحوله وقوته ".

ماذا تكون عليه العلاقات بين المخلوق والخالق والمرزوق والرازق، والمخطئ المعثار، والتواب.

الغفور، والبائس الفقير والمنعم الكريم؟ إن الصورة الوحيدة المعقولة أن يعترف الأدنى بالأعلى اعترافا ماديا ومعنويا يظهر فى النفس وعلى الجوارح!!!

خصوصا إذا كانت هذه العلاقات ممتدة لا انقطاع لها، فقد يظن ظان أن الصلة بين العبد وربه يمكن أن تشبه الصلة بين الولد وأبويه، يحتاج الطفل إليهما صغيرا، فإذا كبر استغنى، وربما دفعه استغناؤه إلى العقوق، وجحد ما مضى!!

كلا، إن حاجة العبد إلى الله خالدة.

أمسى من حاجة الرضيع إلى أمه، مهما تراخت الأيام وأمسى فى حاجة النبت إلى الشعاع والماء كى يزدهر وينمو (قل من يكلؤكم بالليل و النهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون).

وربما توهم العبد أنه يزل ثم يستطيع الفرار من تبعات زلله، عند ذى منعة هنا أو هناك، لا، ليس فى الكون من تتحصن به أو يدخلك فى جواره، أو يبسط عليك منعته: الملجأ أوهى من الهارب (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا هم منا يصحبون).

إن فقر البشر إلى الله شديد، وما يستمتعون به من سمع وبصر وأفئدة مواهب معارة منه.

لو يشاء استردها فى أية لحظة، ووقف أعتى العتاة صفر اليدين لا يجد الهباء، بل تلفظه كل ذرة فى الأرض والسماء (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون).

العبادة الصحيحة أن تقوم بين يدى الله وأنت أنت وهو هو.

أنت أنت بحقيقتك العارية من غير دعوى ولا تزيد.

وهو هو بذاته القدس من غير انتقاص ولا إفك.

أنت أنت بحقيقتك التى يتمثل فيها الافتقار والنقص وهو هو بحقيقته التى ينبغى لها كل تنزيه وتمجيد.

ولكن النفس الإنسانية قد تلجأ إلى الخداع والتمويه، فترى الإنسان يؤثر الكبرياء على التواضع ويزعم أنه مستغن بنفسه عن عناية السماء، ويحاول إيهام الآخرين أنه ـ من ذاته لا من مصدر آخر ـ قد نشأ وتمول وساد.

ويوغل فى ادعائه فيرفض كل نصح يذكره بأنه أحد عبيد الله المنتشرين على ظهر هذه الغبراء، يتعرضون للسراء والضراء فتنة وتمحيصا، لا فضلا وتخصيصا...

إنه فى نظر نفسه ليس ثمرة المن الإلهى، إنه ابن نفسه فما لديه ثبت له لأنه حقه!!

(ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى).

لماذا تكون الحسنى لك إذا رجعت إليه وقد كنت به كفورا؟ إنه شعور غبى، إنه يظن نفسه هى التى سودته فى الدنيا، وستسوده كذلك فى الأخرى، لأنه أهل السيادة ورثها كابرا عن كابر.

أجل هو عريق النسب ـ ولو كان ابن الصعاليك ـ فهكذا يتصور الأغرار الأمور، وهكذا تفسد النفس فتفسد أحكامها على كل شىء...

والله عز وجل يمقت من عباده أولئك الصنف الذين يعمون عن أنفسهم وعن ربهم.

لقد خلق الناس ليعرفوه ويحمدوه لا ليجهلوه ويجحدوه.

فإذا شردت الأمم عن الجادة صب عليها سوط عذابه لتعترف بعبوديتها وتثوب إلى رشدها.

قال تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا).

فإذا أبت إلا المضى فى غوايتها ولم تعتبر مما مسها أمضى فيها عقوبته كاملة ورفض أن يذيقها رحمة: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون).

إن الله يقترب برحمته ممن يقفون عند منازلهم الإنسانية ويوقرون ربهم سرا وعلانية.

اعترف فى ساحته بعجزك يمنحك القوة .

اعترف فى ساحته بذلك ينضر وجهك بالكرامة.

إبرأ من حولك وطولك إلى حوله وطوله يهبك سلطانا فى الأرض ويكفل لك التوفيق والنصر والنجاح: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم).

والناس ـ فى العصر المغتر ـ زاهدون فى السماء عاكفون على الأرض، واثقون من عالم الشهادة ساخرون من عالم الغيب، مؤمنون بأنفسهم قليلو الاكتراث بربهم الذى خلقهم لغاية أشرف مما يألفون.

وهم محرمون حقا من أمداد الفضل الإلهى ما بقوا على هذا الزيغ، بل هم معرضون حتما لنكال فى أعقاب نكال، وحرب فى أعقاب حرب.

(ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد).

فضول العيش أشغال: " من تمام النعمة عليك أن يرزقك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك، ليقل ما تفرح به ويقل ما لمحزن عليه ".

إذا قرر المؤمن الجهاد فى سبيل الله، والاشتباك مع قوى الباطل فى حرب موصولة الكر والفر فيجب أن يحدد صلته بما فى الدنيا من متع وما تهواه النفس من لذات...

ذلك أن التمشى مع مغريات الحياة يفتح الشهية للمزيد، ويعلق القلب بمطامع تشغله عما يجب أن يخلص له.

وصدق المتنبى إذ يقول: ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ما قاته وفضول العيش أشغال وترضية النفس بمستوى من العيش يضمن الكفاية، وينفى الفضول، أعون شىء على رفع الجبهة، وتوفير العزة وإرضاء الله.

قيل يوما لأحد شيوخ الأزهر افعل كذا وإلا أصابك ما لا تحمد عقباه!

فقال: هل سأمنع من التردد بين بيتى والمسجد!

قيل: لا...

قال فافعلوا ما بدا لكم.

ولما سجن الشيخ عليش فى أعقاب الثورة العرابية قيل له: تملق الخديو ليعفو عنك.

فقال قصيدته التى مطلعها: الزم باب ربك وأترك كل دون واسأله السلامة من دار الفتون لا تكثر لهمك ما قدر يكون وأساس هذا السلوك توطين النفسى على أسلوب من العيش خفيف المؤنة قليل التكلفة والإنسان فى هذا المجال يمكن أن يمتد ويمكن أن ينكمش.

والنفس طامعة إذا أطعمتها وإذا ترد إلى قليل تقنع ونحن لا نحرم حلالا، ولا نحجر واسعا، وإنما نصف الطريق التى لابد من سلوكها لأصحاب الرسالات وحملة الدعوات.

فإنه لا يتفق طمع فى الدنيا وانتصار للمثل العليا.

ولا ينسجمان الحرص على إعلاء كلمة الله، والحرص على تكثير المغانم واسترضاء الخلائق، وفى الحديث: " يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " .

وضوابط الكفاية ليست لها خطوط معينة، بل هى تختلف باختلاف الطبائع والأحوال والبيئات.

ومن العبث تحديد مستوى معين من النفقات لرجل، أو لأسرة، يقال إن ما وراءه إسراف.

فرب ضرورة لشخص تعتبر ترفا لشخص آخر...

إن الحالة النفسية هى الحكم الفذ فى هذه الظروف، ولذلك يوصى ابن عطاء الله بتقليل ما نفرح به إجراء لمطالب المرء فى أضيق نطاق، جتى إذا مسته وعكات الجهاد لم يكن هناك ما يستدعى الأسى...

والواقع أن الفقر والغنى أخلاق نفسية قبل أن يكون أعراضا دنيوية.

فكم من ذى مال يبيت مؤرقا وراء المزيد، شاعرا بالفقر، لأن كل ما يطلب لم يتحقق له.

وكم من مقل بات قرير العين لأنه يرى ما لديه كافيا شافيا، ولذلك يقول الشاعر: غنى النفس ما يكفيك من سد خلة فان زدت شيئا عاد ذاك الغنى فقرا وفى تجاربنا مع الناس رأينا نقائض تستدعى التأمل...

هذا رجل له مال وبنون، طال أجله، وأدبر شبابه، وكان يجب أن يتهيأ للآخرة بزاد الحسن.

إنه لو قتل فى سبيل الله ما ترك وراءه شيئا يخاف عليه، لا الزوجة العجوز ولا الأولاد الكبار.

ومع هذا فإنه شيطان أخرس، يفرق من كلمة حق، ويوجل من موقف شرف، ويتشبث بأذيال الحياة طالبا المزيد!!

على حين رأينا شبابا لهم آمال وعليهم أعباء، ومثلهم لو توثقت علائقه بالدنيا ما كان فى سيرتهم عجب.

ومع هذا يذهلون عن الدنيا المقبلة، ويتركون الذرية الضعاف لكفالة الله، ويقبلون على مواقف الاستشهاد بنبل وجلال.

إن الأحوال النفسية، لا مستويات المعيشة، هى التى تصنع الناس.

وإذا كان لهذه المستويات عمل فهو أنها عنصر مساعد، أو لعل هذه المستويات هى التربة التى تنضج شتى البذور، فتبلغ بالورد تمامه، وبالشوك منتهاه من غير أن تخرج بعنصر عن طبيعته...

إننا نسمع صراخا طويلا لرفع مستوى المعيشة، وأنا بين الذين رفعوا عقائرهم بقوة لمحاربة البؤس والمسكنة.

ولكن يجب أن يفهم الماديون أن الحياة الإنسانية الآن أفقر إلى الأخلاق منها إلى الأرزاق، وأفقر إلى تقدير قيمها الروحية منها إلى تقدير قيمها المادية، وأفقر إلى ذكر الله منها إلى ذكر ما سواه.

فى محاسبة النفس: " متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فيك فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم " صلة المؤمن بالله هى أساس أمنه أو قلقه، وفرحه أو أساه، أما صلته بالناس فهى تجىء فى المرتبة الأخرى، وتجىء محكومة ببواعث الصلة الأولى وغايتها.

إن رأى الناس فى أمر ما ليس حكما مبرما بالتخطئة والتصويب، ورأيهم فى شخص ما ليسى حكما بالرفعة والضعة.

والذى يحدث غالبا أن آراء الناس هذه ترسل إرسالا يحتاج إلى الضبط والتمحيص، وقلما يكتنفها الرشد والسداد.

ولذلك يقول أبو تمام: إن شئت أن يسود ظنك كله فأجله فى هذا السواد الأعظم!

بل إنه فى الأزمات التى تحتاج إلى النجدة، والشدائد التى تحتاج إلى البطولة، تبحث فى الزحام الكثيف عن الرجال الذين يلقون هذه المواقف...

فتروعك ندرتهم...

ما أكثرالناس، لا، بل ما أقلهم الله يعلم أنى لم أقل فندا إنى لأفتح عينى حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا ومن ثم كان عزاء المصلحين حين يلقون الصدود والغمط، ويشعرون بالإنكار والعزلة قول الله جل شأنه: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

ولما كان انبعاث المؤمن من ضميره وحده، ومبتغاه أن يرضى الله عنه، فهو لا يكترث، أوقع الناس فيه، أم كانوا إلى جانبه...!!

بيد أن الإنسان شديد الروابط بالمجتمع الذى يعيش فيه، ونفسه ـ طوعا أو كرها ـ لابد أن تتأثر بتيارات المدح والذم التى تهب عليه.

ومن حق الرجل الفاضل ألا يعرضه فضله لهوان، إذا لم يكسب له ما يجب من احترام.

ومن حقه أن يدفع عن نفسه قالة السوء، وأن يتخذ من ضروب الحيطة ما يعقل ألسنة الشر عن مناله.

ومن حقه وهو مصدر إشعاع ألا يكسف نوره، وأن تؤخذ عنه الأسوة الحسنة وأن تأوى إليه عناصر الخير فى الدنيا لتحتمى به...

ومن ثم فصلته بالناس يجب أن تشرح بشىء من التفصيل.

إن ظهوره بالبر بينهم، ومعالنته بفرائض الإسلام وشعائره شىء طبيعى لا حرج فيه: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير)

وحرصه على صيانة سمعته من أى غبار شىء طبيعى، وقد استوقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفرا رأوه مع إحدى زوجاته، وأفهمهم أنه مع فلانة زوجته حتى لا يظنوا به السوء، مع أنه فوق التهم.

وسروره بما يعرف عنه من خير شىء طبيعى، بعد أن أدى هذا الخير بنية خالصة وقلب سليم.

وقد تحدث الصحابة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا الشعور الذى يخالج أنفسهم عندما يذكرهم الناس بخير على عمل قاموا به لله.

فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن " .

وتلا قوله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم).

إن التمكين فى الأرض من رحمة الله، ونباهة الشأن جزء من التمكين فى الأرض، ولذلك امتن الله على نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال: (و رفعنا لك ذكرك).

وطلب إبراهيم من ربه أن يخلد له حسن الثناء على امتداد الزمن فقال: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين * واجعل لي لسان صدق في الآخرين).

والمهم أن يصدر الإنسان فى عمله عن إخلاص لله، وألا يبتغى بأدائه عرض الدنيا ولا وجوه الخلق.

وأن تكون رغبته فى الله راجحة أى باعث آخر، فلو خاصم الناس طرا من أجل مولاه لم يجزع ولم يفزع.

وأن تكون علاقته بالناس ـ إن أحبهم ـ تعاونا على الحق، لا تناصرا على الأغراض، أو تجمعا على الشهوات والحظوظ النفسية...

فماذا أحس الإنسان بالتواء العامة عليه أو بنفرة الآخرين منه، فلينظر: كيف صلته بالله؟ فإن كان طيب النفس بها، قرير العين بتوطدها، فلا عليه لو مادت الدنيا تحت قدميه.

فما سخط العبيد بجنب رضا السيد؟ وما أحراه أن يتدبر جواب هود لقومه: (إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم)

أما إذا كانت علاقته بالله غامضة واهنة، فليست مصيبته فى اضطراب حبله مع العباد وانصراف قلوبهم عنه وحزنه على ذلك، بل مصيبته التى تجل عن العزاء فى أنه ليس له مع الله ما يهدئ حاله، ويقر باله...

وذلك أصل الداء.

شارات الطريق

التوبـة - الورع - العفة والقناعة - الصبر - الشكر - الخوف - الرجاء - التوكل - الحُبّ

لابد لكل مسلم من تأهيل عال يجعله حقيقا بالانتساب إلى الله، والخلود فى رحمته.

ونفسه التى بين جنبيه هى موضع التزكية والترقية وهو يستطيع رياضتها بما شرع الله من طاعات وحدود، وبما رسم من آداب ومعالم حتى تبلغ الشأو والمراد.

وليس لطريق الكمال نهاية يقف لديها المسلم، فهو ما بقى حيا مكلف بالأمر والنهى، مطالب بالنظر فى نفسه، فلعل فضلة شر بقيت يجب استئصالها، أو نشأت من جديد يجب أن يمحوها.

ولو أنه أمن تسرب الكبائر والصغائر إلى نفسه، ووثق من ارتداد الوساوس الآثمة عنه فإن حقوق الله عليه ـ من تعبد محض ـ تبقى فى عنقه ما بقى فيه نفس يتردد حتى يلقى الله، وهو ذاكر شاكر، مستسلم الفؤاد والجوارح، يتضح على روحه هذا التوجيه العالى : (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ).

والطريق إلى الله تعبير لطيف عن جهود المسلم فى تصفية نفسه، وترضية ربه، والتحول عن مواطن الغفلة والركود إلى مواطن الذكر والحركة.

ومراحل الطريق تتمثل فيما يحرزه المرء من نجاح، وهو يتخلص من خلة رديئة، أو مسلك عابث، ويتحلى بخلق كريم وسيرة جادة.

إن هذه النقلة النفسية خطوة متميزة فيما يخلفه المرء وراءه من أحوال لا تليق، وفيما يستقبله من صحو، واستحكام رأى، ودقة تصرف، على حد قول الشاعر: صحوت وزايلنى باطلى لعمر أبيك زيالا طويلا فأصبحت، لا نزقا للحاء ولا لحوم صديقى أكولا الطريق سير فى ميادين النفوس، وجهته الله، وعدته صالح الأخلاق والأعمال.

ومع هذه العدة التى يقوم المسلم بها، رجاء حار فى التوفيق الإلهى الذى يسدد الخطا ويبارك فى القليل.

ذلك أن الله وعد المقبلين عليه بإقبال أعظم (من جاء بالحسنة فله خير منها)

والسائر لو وكل إلى جهده وحده غلبته وعثاء الطريق فمشى ببطء أو انقطع بعد لأى، ومن ثم فإن تعويل السائرين ينبغى أن يكون على الإمداد الإلهى أضعاف ما يكون على الجهد المبذول.

ألا ترى الفلاح يبذر الحب ويروى الأرض، وينظر ـ بعد ذلك ـ إلى بركات السماء، وهو مدرك أن جهده المحدود لا قيمة له، ما لم يلحظه الله بعنايته.

إن هذه العناية قد تفاوت بين جهدين متساويين فتجعل نتاج هذا عشرة عشرة أضعاف ذاك.

التوبـة : وهى أول مراحل الطريق، بل هى المدخل المفضى إليه، والقرين المتنقل فى مدارجه من البداية إلى النهاية.

والتوبة كلمة شائعة على الألسنة، حتى لكأن شيوعها ابتذلها وأطفأ سناها الكريم، ومع أن دلالة الكلمة تجعلها أخطر من أن يجازف بها.

هل يلغو إنسان فيقول: بنيت قصرا، أو يلغو فيقول : ألفت كتابا!!.

إنا بناء قصر شاهق أهون من بناء نفس خربة، وإن تأليف كتاب ثمين أرخص من تأليف نفس فرق الهوى أقطارها.

والتوبة هى هذا البناء والتأليف، فمن الهزل العجاب أن تدور على الألسنة دون تيقظ وإدراك.

وجمهور البشر محتاج إلى التوبة، فقلما ينجون فى حياتهم من العثار والتخليط، وما أكثر الذين يرديهم طيش الغرائز، وضعف الرأى، وقلة التجربة، واضطراب اليقين.

وإذا استثنينا الأنبياء فأغلب بنى آدم تعرضوا لخطايا سيئة، وأخطار لا حصر لها.

أما الأنبياء فإنهم قيادات روحية وفكرية اصطفاها الله من النشأة الأولى وتخيرها من معادن أرقى، فهم ليسوا على غرارنا، وان كانوا من تراب الأرض مثلنا على حد قول الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال وقد قال الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك)

أى: أن الذين تبعوه جاءوا إليه تائبين.

والتوبة ـ فى نظر الإسلام ـ جهد لابد أن يقوم كل إنسان به، ولن يغنى عنك أحد أبدا فى أدائه.

إذا اتسخ ثوبك فلن ينظفه أن يغسل جيرانك ثيابهم.

وإذا زاغ فكرك، فلن يصلحه إلا أن يهتدى هو إلى الصواب.

واستحقاق الرضوان الأعلى لا يجئ إلا من هذه السبيل، فلا قرابين، ولا شفعاء.

(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى).

والخطأ فى حق الله لا يداويه إلا اعتذار المخطئ نفسه.

فلو اعتذر عنه أهل الأرض جميعا، وفى مقدمتهم النبيون، وبقى هو على عوج نفسه فلن يقبل عنه اعتذار، ولن ينفعه استغفار.

لابد أن يجثو المذنب فى ساحة الرحمن ثم يهتف من أعماق قلبه: (رب اغفر وارحم، وأنت خير الراحمين)

ليؤمل ـ بعد ـ فى مغفرة الله ورحمته.

وعلى كل إنسان ساء فعله، واضطربت حاله أن يسارع إلى ربه، متعهدا نفسه بالرعاية والتأديب، مقبلا على شأنه بالترتيب والتهذيب، حتى يستطيع النجاة مما وقع فيه.

وانتهاز اليوم أفضل من انتظار الغد، بل إن كنت فى الصباح فلا ترقب الأصيل.

" لا مكان لتريث، إن الزمن قد يفد بعون يشد به أعصاب السائرين فى طريق الحق، أما أن يهب للمقعد طاقة على الخطو أو الجرى فذاك مستحيل.

لا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير.

الحاضر القريب الماثل بين يديك، ونفسك هذه التى بين جنبيك، والظروف الباسمة أو الكالحة التى تلتفت حواليك، هى وحدها الدعائم التى يتمخض عنها مستقبلك، فلا مكان لإبطاء أو انتظار، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ".

ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك، وتصلح به أعمالك لا يعنى إلا إطالة الفترة الكابية التى تبغى الخلاص منها، وبقاءك مهزوما أمام نوازع الهوى والتفريط.

بل قد يكون ذلك طريقا إلى انحدار أشد، وهنا الطامة.

وفى ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله، وإنما الأعمال بالخواتيم.

والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة.

واحذروا التسويف، فإن الموت يأتى بغتة.

ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله ثم قرأ : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ).

ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة فى جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى، والطويلة المدى، ليتخلص من هذه الهنات التى تزرى به.

فى كل بضعة أيام أنظر إلى أدراج مكتبى لأذهب الفوضى التى حلت به من قصاصات متناثرة، وسجلات مبعثرة، وأوراق أدت الغرض منها.

يجب أن أرتب كل شىء فى وضعه الصحيح، وأن يستقر فى سلة المهملات ما لا معنى للاحتفاظ به!

وفى البيت: ان غرفه وصالاته تصبح مشعثة مرتبكة عقب أعمال يوم كامل، فإذا الأيدى الدائبة تجول هنا وهنا لتنظف الأثاث المغبر وتطرد القمامة الزائدة وتعيد إلى كل شىء رواءه ونظامه.

ألا تستحق حياة الإنسان مثل هذا الجهد؟ ألا تستحق نفسك أن تتعهد شئونها بين الحين والحين لترى ما عراها من اضطراب فتزيله، وما لحقها من إثم فتنفيه عنها مثلما تنفى القمامة من الساحات الطهور؟.

ألا تستحق النفس بعد كل مرحلة تقطعها من الحياة أن نعيد النظر فيما أصابها من غنم أو غرم؟ وأن نرجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجتها الأزمات، وهزها العراك الدائب على ظهر الأرض فى تلك الدنيا المائجة؟.

إن الإنسان أحوج الخلائق إلى التنقيب فى أرجاء نفسه، وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك.

ذلك أن الكيان العاطفى والعقلى للإنسان قلما يبقى متماسك اللبنات مع حدة الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات...

فإذا ترك لعوامل الهدم تنال منه فهى آتية عليه لا محالة، وعندئذ تنفرط المشاعر العاطفية والعقلية كما تنفرط حبات العقد إذا انقطع سلكه...

وهذا شأن (... من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا)

كما يقول الله عز وجل.

وكلمة " فرط " ينبغى أن نتأمل فيها، فالعامة عندنا يسمون حبات العنب الساقطة من عنقودها أو حبات البلح الساقطة من عرجونها "فرطا".

وانتزاع حبات الأذرة من كيزانها المتراصة تمهيدا لطحنها تشتق تسميته من المادة نفسها.

والنفس الإنسانية إذا تقطعت أواصرها ولم يربطها نظام ينسق شئونها، ويركز قواها أصبحت مشاعرها وأفكارها كهذه الحبات المنفرطة السائبة لا خير فيها ولا حركة لها.

ومن ثم نرى ضرورة العمل الدائم لتنظيم النفس وإحكام الرقابة عليها..

والله عز وجل يهيب بالبشرـ قبيل كل صباح ـ أن يجددوا حياتهم مع كل نهار مقبل.

فبعد أن يستريح الأنام من عناء الأمس الذاهب، وعندما يتحركون فى فراشهم ليواجهوا- مع تحرك الفلك- يومهم الجديد.

فى هذه الآونة الفاصلة تستطيع أن تسأل: كم تعثر العالم فى سيره؟ كم مال مع الأثرة؟ كم اقترف من دنية؟ كم أضلته حيرته فبات محتاجا إلى المحبة والحنان؟ فى هذه اللحظة يستطيع كل امرئ أن يجدد حياته، وأن يعيد بناء نفسه على أشعة من الأمل والتوفيق واليقظة.

رغبة إلى الله: إن صوت الحق يهتف فى كل مكان ليهتدى الحائرون ويتجدد البالون.

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الفجر " .

وفى رواية: " أقرب ما يكون العبد من الرب فى جوف الليل " فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله فى تلك الساعات فكن...!

إنها لحظة إدبار الليل وإقبال النهار، وعلى أطلال الماضى القريب أو البعيد يمكنك أن تنهض لتبنى مستقبلك.

تأمل فى هذه الأبيات التى أضعها بين يديك تهيب بالغافى أن يصحو، وأن يدع دفء الفراش، وأن يتخلص من استرخاء البدن، وأن يدلف إلى بيت الله ليقف فى محرابه مناجيا يؤمل الخير ويرجو الرشاد.

قال الشاعر: قم فى الدجى يا أيها المتعبد قم وادع مولاك الذى خلق الدجى واستغفر الله العظيم بذلة واندم على ما فات، واندب ما مضى واضرع، وقل: يارب عفوك إننى أسفا على عمرى الذى ضيعته يا رب لم أحسب مرارة مصدر يا رب قد ثقلت على كبائر يا رب إن أبعدت عنك فان لى يا رب مالى غير لطفك ملجأ يا رب هب لى توبة أقضى بها أنت الخبير بحال عبدك إنه أنت المجيب لكل داع يلتجى من أى بحر غير بحرك نستقى؟ حتى متى فوق الأسرة ترقد؟ والصبح، وامض فقد دعاك المسجد واطلب رضاه فإنه لا يحقد بالأمس، واذكر ما يجئ به الغد من دون عفوك ليس ما يعضد تحت الذنوب، وأنت فوقى ترصد!

عن زلة قد طاب منها المورد بإزاء عينى لم تزل تتردد!

طمعا برحمتك التى لا تبعد ولعلنى عن بابه لا أطرد!

دينا على، به جلالك يشهد ـ بسلاسل الوزر الثقيل ـ مقيد أنت المجير لكل من يستنجد ولأى باب غير بابك نقصد؟

ولا تؤودنك كثرة الخطايا، فلو كانت ركاما أسود كزبد البحر ما بالى الله عز وجل بالتعفية عليها إن أنت اتجهت إليه قصدا وانطلقت إليه ركضا.

" إن الكنود القديم لا يجوز أن يكون عائقا أمام أوبة صادقة (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له )

وفى حديث قدسى عن الله عز وجل: " يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى، يا ابن آدم إنك لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ".

وهذا الحديث وأمثاله جرعة تحيى الأمل فى الإرادة المخدرة، وتنهض العزيمة الغافية وهى خجلى لتستأنف السير إلى الله، ولتجدد حياتها بعد ماض ملتو مستكين.

لا أدرى لماذا لا يطير العباد إلى ربهم على أجنحة من الشوق بدل أن يساقوا إليه بسياط من الرهبة؟.

إن الجهل بالله، وبدينه، هو علة هذا الشعور البارد أو هذا الشعور النافر ـ بالتعبير الصحيح ـ مع أن البشر لن يجدوا أبر بهم ولا أحنى عليم من الله عز وجل.

وبره وحنوه غير مشوبين بغرض ما، بل هما آثار كماله الأعلى، وذاته المنزهة.

وقصة الإنسان تشير إلى أن الله خلله ليكرمه لا ليهينه، وليسوده فى العالمين لا ليؤخر منزلته أو يضع مقداره (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون * ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ).

ووظيفة الدين بين الناس أن يضبط مسالكهم وعلائقهم على أسس من الحق والقسط حتى يحيوا فى هذه الدنيا حياة لا جور فيها ولا جهل...

فالدين للإنسان ـ كالغذاء لبدنه ـ ضرورة لوجوده ومتعة لحواسه.

والله عز وجل ـ بشريعته ـ مع الوالد ضد عقوق الولد، ومع المظلوم ضد سطوة الظالم، ومع أى امرئ ضد أن يصاب فى عرضه أو ماله أو دمه!.

فهل فى هذه التعاليم قسوة على البشر ونكال بهم؟ أليست محض الرحمة والخير؟.

وإذا كلف الله أبناء آدم بعد ذلك ببعض العبادات اليسيرة، ليحمدوا فيها آلاءه ويذكروا له حقه، فهل هذه العبادات المفروضة هى التى يتألم الناس من أدائها، ويتبرمون من إيجابها؟.

الحق أن الله لم يرد للناس قاطبة إلا اليسر والسماحة والكرامة، ولكن الناس أبوا أن يستجيبوا لله وأن يسيروا وفق ما رسم لهم فزاغت بهم الأهواء فى كل فج وطفحت الأقطار بتظالمهم وتناكرهم.

ومع هذا الضلال الذى خبطوا فيه، فإن منادى الإيمان ما يزال يهتف بهم أن عودوا إلى بارئكم.

إن فرحته بعودتكم إليه فوق كل وصف.

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل فى أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته؟ فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكانى الذى كنت فيه فأنام حتى أموت..!!

فوضع رأسه على ساعده ليموت،.

فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته ".

ألا يبهرك هذا الترحاب الغامر؟ أترى سرورا يعدل هذه البهجة الخالصة؟.

إن أنبل الناس عرقا، وأطهرهم نفسا، قلما يجد فؤادا يتلهف على لقائه بمثل هذا الحنين، فكيف بخطاء أسرف على نفسه، وأساء إلى غيره؟ إنه لو وجد استقبالا يستر عليه ما مضى لكان بحسبه ذلك الأمان المبذول ليستريح ويشكر.

أما أن يفاجأ بهذه الفرحة، وذلك الاستبشار، فذاك ما يثير الدهشة.

لكن الله أبر بالناس وأسر بأوبة العائدين إليه مما يظن القاصرون!!.

وطبيعى أن تكون هذه التوبة نقلة كاملة من حياة إلى حياة، وفاصلا قائما بين عهدين متمايزين كما يفصل الصبح بين الظلام والضياء.

فليست هذه العودة زورة خاطفة، يرتد المرء بعدها إلى ما ألف من فوضى وإسفاف.

وليست محاولة فاشلة ينقصها صدق العزم، وقوة التحمل، وطول الجلد، كلا، كلا، إن هذه العودة الظافرة التى يفرح الله بها، هى انتصار الإنسان على أسباب الضعف والخمول، وسحقه لجراثيم الوضاعة والمعصية، وانطلاقه من قيود الهوى والجحود، ثم استقراره فى مرحلة أخرى من الإيمان والإحسان والنضج والاهتداء.

هذه هى العودة التى يقول الله فى صاحبها: (و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى).

إنها حياة تجددت بعد بلى، ونقلة حاسمة غيرت معالم النفس كما تتغير الأرض الموات بعد مقادير هائلة من المياه والمخصبات.

إن تجديد الحياة لا يعنى إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيات الحسنة وسط جملة ضخمة من العادات الذميمة، والأخلاق السيئة، فهذا الخلط لا ينشئ به المرء مستقبلا حميدا ولا مسلكا مجيداً.

بل إنه لا يدل على كمال أو قبول، فمان القلوب المتحجرة قد ترشح بالخير، والأصابع الكزة قد تتحرك بالعطاء.

والله عز وجل يصف بعض المطرودين من ساحته فيقول: (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين).

فالأشرار قد تمر بضمائرهم فترات صحو قليل، ثم تعود بعد ذلك إلى سباتها.

ولا يسمى ذلك اهتداء، إن الاهتداء هو الطور الأخير للتوبة النصوح!!

إن البعد عن الله لن يثمر إلا علقما، ومواهب الذكاء والقوة، والجمال والمعرفة تتحول كلها إلى نقم ومصائب عندما تعرى عن توفيق الله وتحرم من بركته.

ولذلك يخوف الله الناس عقبى هذا الاستيحاش منه، والذهول عنه.

قد تكون سائرا فى طريقك فتقبل عليك سيارة تنهب الأرض نهبا، وتشعر كأنها موشكة على حطم بدنك وإتلاف حياتك، فلا ترى بدا من التماس النجاة وسرعة الهرب...

إن الله يريد إشعار عباده تعرضهم لمثل هذه المعاطب والحتوف إذا هم صدفوا عنه، ويوصيهم أن يلتمسوا النجاة ـ على عجل ـ عنده وحده: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين).

وهى عودة تتطلب ـ كما رأيت ـ أن يجدد الإنسان نفسه، وأن يعيد تنظيم حياته، وأن يستأنف مع ربه علاقة أفضل وعملا أكمل وعهدا يجرى على فمه هذا الدعاء، " اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " أ. هـ.

قال الدكتور زكى مبارك ـ نقلا عن قوت القلوب ـ.

" ولا تنظر أيها التائب إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت.

فقد كانت الصغائر عند الخائفين كبائر، وكان من الصحابة من يقول: إنكم لتعملون أعمالا هى أدق فى أعينكم من الشعر كنا نعدها فى زمن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الموبقات.

وليس معنى ذلك أن الكبائر التى كانت على عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ صارت بعده صغائر، ولكن معناه أنهم كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى فى قلوبهم، ولم يكن ذلك الوجدان فى قلوب من بعدهم من المؤمنين.

واختلفت الصوفية فى نسيان ما سلف من الذنوب، فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك، وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وهذان طريقان لطائفتين، وحالان لأهل مقامين، فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين، وأما نسيان الذنوب فطريق العارفين وحال المحبين.

قال زكى مبارك ونحن نرجح الرأى الثانى ونريد الأخذ به فى جميع الأحوال فإن تذكر الذنوب الماضية يشل العزيمة ويفت فى عضد التائب، ويخلق جوا جديدا للتعرف على ما سلف من الذنوب، وهو فوق ذلك جهد ضائع وشغل للقلب بما لا يفيد.

وإقامة المناحات على الهفوات الماضية علالة سخيفة يتوهم فريق من الناس أنها تزيد فى طهر القلوب، وهى فى عالم الأخلاق تشبه بعض ما يقع فى عالم القضاء، فلو كان يصح للقضاة أن يتعقبوا ماضى الناس ليأخذوهم بهفوات قدم عليها العهد لاختل الميزان، وذهب جمال الحاضر، وزهد الناس فى فضل المتاب، فإن الأصل فى التوبة أن تكون حجازا بين عهدين، وأن يصبح التائب وكأنه مولود جديد، ولا تنسى أن اجترار الذكريات الماضية سىء الأثر فى نظام الأعصاب، وهو خليق بأن تنهب العافية ويضيع جمال الساعة الحاضرة، وهى العدة الخلقية فى نظام الأعمال " أ. هـ.

والدكتور زكى مبارك مخطئ فى تعصبه للرأى الثانى، ونحن لا نتعصب للرأى الأول بل نختار ما هو أصلح لدعم التوبة، وهجر الآثام، وإلف الطاعات والفضائل.

فإن كان استصحاب الماضى يحرس الإنسان من الانزلاق ويقيه العودة إلى مساخط الله فيجب استصحاب ذلك الماضى.

إنه يشبه التجربة التى تفيد صاحبها دربة على السير، وقدرة على تخطى العوائق.

والنسيان هنا ذريعة إلى الجهل والانحراف.

أما إذا كان الإنسان يكره استعادة صور انقضى عهدها، وامحى أثرها، ويشعر بأنه قد استأنف عهدا حافلا بثمار الخير، ويرى أن نقل الماضى للحاضر تعكير لصفوه وشل لامتداده، فالواجب أن ينسى ما كان، وأن يقبل على حاضره وحده لينميه ويقويه.

إن النفوس مختلفات فى هذا المضمار، وأحسب أن الذين تسوقهم سياد الرهبة أكثر من الذين يحدوهم نداء الرغبة: (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا).

مم يتوب الناس؟: أما من عدا المؤمنين بالله الأحد، من مشركين ومعطلين، فتوبتهم لا تصح إلا إذا آمنوا بالله جل شأنه، وتركوا المعاصى التى كان يؤزهم عليها جحدهم للألوهية، أو اعتقادهم فى شركاء مع الله.

روى أبو هريرة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " والذى نفس محمد بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة، يهودى ولا نصرانى، ثم يموت ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " .

قال العلماء: إنما خص اليهود والنصارى بالذكر ـ مع أن الدعوة عامة للملل كلها ـ لأن هؤلاء أحسن من غيرهم حالا فهم أصحاب كتب سماوية، وإذا ثبت هذا الحكم فيهم، فهو فى من دونهم أوجب.

ولا شك أن الشيوعيين والوجوديين وأحزابهم أنزل رتبة من أهل الكتاب على ما فى عقائدهم من دخل.

ونحن نصم بالكفر من عرض عليه الإيمان، واستمكن من الدخول فيه، ثم أبى، أما الذين ضلوا لعدم وجود المعلم الهادى، فوصفهم بالكفر مجاز وإلا فهم جهال.

وعلى كلتا الحالتين فصحة التوبة من هؤلاء أن يدعوا ما هم فيه، وأن يعتنقوا ما أنزل الله فى الرسالة الخاتمة.

وفى حض المثلثين على التوبة يقول الله جل وعلا: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم).

وكذلك توبة سائر الملل الأخرى، ما تصح إلا بعد الإيمان بالله الواحد، والاستعداد للقائه، ونبذ ما كانوا عليه من جاهلية، وإمضاء شرائع الإسلام جملة، تمشيا مع مبدأ السمع والطاعة.

قال تعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه …).

وتوبة المسلمين أنفسهم تكون من الذنوب التى لا يجمل بهم ارتكابها لأنها تنافى مقتضى الإيمان، فإذا أزلهم الشيطان إلى إثم فإن ذلك يحسب عليهم، ليؤاخذوا به وصلتهم بالله لا تحميهم من عدله إذا استحقوا العقوبة.

صحيح أن الله أعد النار للكافرين، ولكن المسلمين يدخلونها إذا أسفوا وتهاووا فى الذنوب ولذلك يقول لنا محذرا: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون * وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين).

فإذا لم يتقوا، ويطيعوا، ويسارعوا...

فما بد من أن يلقوا وبال أمرهم.

وفى حض المسلمين على التوبة، والبعد عن المعاصى يقول الله عز وجل: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).

ويقول: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم).

وهذه التوبة تستهدف أن يكون المسلمون عنوانا صحيحا لدينهم، ومجلى لفضائله وآدابه.

تدبر قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " المؤمن مرآة المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه ".

والجمل الثلاث التى يتكون منها الحديث تبرز مجتمعا متناصحا متعاونا، يعمل المؤمن فيه على تنقية أخيه من العيوب، وعلى ضمان معيشته وصدق حمايته، حاضرا كان أم غائبا.

فإذا تمزقت هذه العرى، ورأيت مجتمعا متناقضا تشيع فيه الأثرة والمظالم فأين يكون الإيمان؟.

وهل يترك الله أمة تصنع ذلك بنفسها ورسالتها من غير عقوبة؟.

والنصوص من الكتاب والسنة متضافرة "على أن ناسا من أهل التوحيد يدخلون النار لعدم وفائهم بحقوقه، ثم يخرجون منها بعد قضاء المدد المحكوم عليهم بها فى هذا السجن اللعين ويلقبون بالجهنميين.

عن أبى سعيد الخدرى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون فى نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل.

ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية " .

وهذا الحديث ـ وأمثاله كثير فى الصحاح ـ قاطع بأن من أهل الإيمان من يعذب فى النار لسوء عمله...

على أن سوء العمل يتفاوت، وللناس عامة موازين تضبط الخير والشر ضبطا دقيقا.

فمن كانت حسناته أرجح فهو على رجاء المغفرة: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم).

أما من عبث وغش وأفسد، ومرد على الشر، فلن يدخل الجنة بأقذاره النفسية هذه حتى يلتهب فيها عذاب جهنم.

ونحن نرى أن المسلم يعذب على ذنوبه لأمرين: أولهما أنه أساء فى خاصة نفسه، فالجزاء المرصد له عدل.

والآخر أنه أساء للإسلام نفسه إذا تعاون مع غيره من الرعاع على إظهار الأمة فى صورة تحقر دينها وتصرف الناس عن الثقة فيه والطمأنينة إليه.

وهل كفرت أكل م شتى بالإسلام إلا من سلوك هؤلاء؟.

مدارج التوبة: وأهل الطاعة محتاجون إلى التوبة كما يحتاج إليها أهل الذنوب.

ومن ظن منهم أنه ليس عنده ما يتوب منه، أو ظن أنه مستغن عن المتاب فقد زل.

والتوبة يتطلبها هؤلاء من عدة جهات.

(أ) من الخلل الذى يقع فى الطاعات نفسها، فإن أحدا قلما يأتى بالعبادات المطلوبة مبرأة من كل عيب.

وإن العبد لينظر فى صلاته، أو فى تلاوته كتاب الله مثلا، فيرى أن ضبابا من الغفلة اعترضه فى آونات كثيرة وهو يصلى أو يقرأ.

ومن الممكن أن ترفض له هذه القربات بتهمة ثابتة، وهى سوء الأدب ورداءة التقدم بها بين يدى الله.

ومن أجل ذلك التقصير المستمر شرع الاستغفار فى أعقاب الصلوات ثلاث مرات.

(ب) من ظن بأن هذه الطاعات هى منتهى حق الله عليه، وأنه بأدائها قد فرغت ذمته، ودفع لله ثمن نعمه، وثمن جنته!!.

وبقى على الله أن يبعث ملائكته لتسلم المغرور مفاتيح الجنة التى استحقها بعمله... !!!

وبعض ذوى الطاعات ينتابهم شىء من البلادة وتحجر القلب ارتكانا إلى أشكال العبادات التى فعلوها.

وربما نزلوا بهذه الأوهام والأدواء إلى درك لم ينزل إليه بعض المخطئين، كما شرحنا ذلك فى موضعه من حكم ابن عطاء الله...

(جـ) وصنوف العبادات التى طولب المؤمنون بها كثيرة.

ومن الناس من يفتح له فى ناحية لا يستطيعها غيره لاستعداد زودته الأقدار به من قبل، وليس فى هذا حرج.

إنما الحرج فى أن يستكثر الإنسان من عبادة ما على حين يجب عليه التوسع فى غيرها وتوجيه فضول نشاطه إليها.

فالغنى الذى يستكثر من الصلوات ويقتصد فى الصدقات والنفقات يجب أن يتوب من هذا المسلك.

والعالم البليغ الذى يصوم الاثنين والخميس، ويلوذ بالصمت أو بالإيجاز فى مواطن الزجر والنصح يجب أن يتوب من هذا المسلك.

إن بعض الناس يؤثر عبادة على أخرى لأنها أدنى إلى هواه، وأقرب إلى السلامة، والدين أحكم فى تعاليمه وأدق فى موازينه مما يتوهم هؤلاء.

(د) وحراسة الطاعة بعد أدائها من شتى الآفات ضرورة، كحراسة الزرع من الديدان والأعراض التى تجتاحه.

والرجل يعطى ثم يمتن ، أو يطلب بعطائه الصدارة بين الناس، رجل يحبط ـ بهذا المسلك ـ عمله، ويضيع أجره.

وقد رسم القرآن الكريم صورة هذا المحروم من أجره وهو أفقر الناس إليه فضرب له المثل بشيخ طاعن فى السن له أولاد ضعاف يرتزقون من حديقة لهم، قد تعلقت بها آمالهم.

وبغتة صوح نبتها إثر كارثة جوية أحرقتها...!!!

ذلك مثل العمل الصالح يهلك بسوء التعقيب عليه (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون)

توبة الصفوة، واستغفار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والصفوة الذين نعنيهم هم قوم رسخت فى مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة وشهود.

حياتهم يبرق عليها سنا من صدق المعرفة وتمام الاستسلام، فلا يكاد يدرك نوره غروب.

وتوبة هؤلاء تجىء من هبوطهم عن المستوى الذى يجب أن يبقوا محلقين فيه.

ونحن ـ لكى نستبين منازل الناس ـ يجب أن نعرف أن الاختلاف شديد جدا بين قيم البشر، وأن المسافة بين إنسان وإنسان تصل أحيانا إلى بعد ما بين الأرض والسماء...

تأمل قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصف درجات المؤمنين فى الجنة: " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرى الغابر فى الأفق من المشرق والمغرب ـ لتفاضل ما بينهم ـ!!

قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.

قال: بلى والذى نفسى بيده، هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ".

إن الفروق القائمة بين أفراد الجنس البشرى واسعة، والله عز وجل يكلف كل امرئ على مقدار ما أوتى من سعة روحية وعقلية.

وكما أن العطاء من صاحب القناطير المقنطرة يستقل إذا لم يكن غدقا، فكذلك يستقل الجهد المحدود من ذوى الهمم الضخام.

وهذا معنى قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أجل إن العمل الذى يعتبر حسنا من إنسان يعتبر تقصيرا من إنسان آخر.

وذلك ما جعل أحدهم يقول: ولو خطرت لى فى سواك إرادة على خاطرى يوما حكمت بردتى دوافع هذه المبالغة فى الحكم معروفة، وآفاق الكمال الدينى بعيدة المدى، (و في ذلك فليتنافس المتنافسون).

والإحسان عليا منازل المؤمنين، ولكنه أدنى درجات الأنبياء، إنهم لا يهبطون دونه مهما أخطئوا.

وصلتهم بالله الذى اصطفاهم لحمل رسالاته أزكى وأنقى من أن يلموا بسيئة على النحو الذى نعهد فى عامة المؤمنين.

إن الأخطاء التى يستغفرون منها أنماط من الكمال لا يطيقها أمثالنا ولا ساداتنا.

وإنى أقرأ سورة: (إذا جاء نصر الله و الفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)

فأتساءل: مم يستغفر الرسول ربه وهو يستعد للقائه؟.

إن الصحابة فهموا من السورة أن الله يخبر رسوله باقتراب أجله بعد أن نجح أروع نجاح فى أداء رسالته!!

لقد محا الجاهلية، وبنى الأمة التى صنعت أزهى حضارة فى التاريخ، وعليه أن يتهيأ للقاء ربه بعد ما أدى واجبه كاملا، وبم يتهيأ ؟ بالتسبيح والاستغفار.

إن المغفلين من الخلق هم الذين يتصورون هذا الاستغفار من أخطاء تشابه أخطاءنا.

ولا عجب فالحمالون فى محطة القاهرة عندما يسمعون بيت المعرى: تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد لا يتصورون التعب إلا حمل قفف وحقائب، وشد حبال وأحزمة، ذلك مبلغهم من العلم...

وذلك ما فهمه المستشرقون والمبشرون من أمر الله لرسوله أن يستغفره!!

زعم بعض أولئك المبشرين أن آيات القرآن تشهد بأن عيسى أفضل من محمد؟ قالوا: إن الله ذكر محمدا فى القرآن بما يفيد أنه رجل مذنب!.

ألم يقل له: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

أما عيسى فإن صفته فى القرآن أرفع: (اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين).

ونحن نعرف أن موسى وعيسى ومحمد رجال عظام، وأنهم من أصحاب العزمات الشداد فى إبلاغ رسالات الله، وهداية الخلق بأنوار الوحى الأعلى.

ونعلم أنهم جميعا متواضعون كرام الخلق لا يفكر أحدهم فى الاستعلاء على غيره وانتزاع الصدارة منه، وأن محمدا أبى على أمته أن تفضله على غيره من الأنبياء.

ونعلم أن ذنوب هؤلاء المنسوبة إليهم ـ وما منهم إلا نسب له ذنب ـ ليست بتة على غرار ما تقترف من سيئات، إنما هو ما ذكرنا آنفا من نزولهم أحيانا عن الأوج الذى يسبحون فيه مع الكواكب، أما هبوطهم إلى مستوانا الأرضى فمستحيل.

ولكن ما دام الأمر قد غمض فى بعض الأذهان حتى تطاولت على مقام النبى الخاتم صاحب الرسالة العظمى فيجب أن نلقى على الموضوع فضل بيان.

إن مكانة محمد بين إخوانه المرسلين تقررها الوظيفة التى وكلت إليه، وهى وظيفة تعرف ضخامتها عندما تعرف أن الله قسم تاريخ الحياة نصفين.

نصفا أول، وزع عشرات ومئات الأنبياء فى أرجائه.

ونصفا آخر اكتفى فيه بنبوة واحدة لا معقب عليها!!

ونصف الحياة الأول يمثل الجانب الناشىء، أما نصفها الآخرهو يمثل الجانب الذكى المستحكم الرأى.

إن محمدا وحسب هو الرسول الذى صاحب العالم فى الفترة اليقظة النابهة من تاريخه.

فعلام يدل هذا؟.

على أنه أخف كفة من أحد الأنبياء الذين زحموا العالم القديم!!

وشىء آخر، إن كتاب محمد هو السجل الباقى المستوعب لتعاليم الله دون نقص ولا زيادة، تلك التعاليم التى جمعت وصايا السماء من الأزل إلى الأبد، وكتبت لها صيانة لم تؤثر عن كتاب فى الأولين والآخرين، فهى محفوظة حرفا حرفا، ولا نقول كلمة كلمة.

فعلام يدل هذا؟.

على أن صاحب الكتاب الخالد أتفه حظا، وأضأل شأنا من أصحاب الكتب التى فقدت أصولها وعراها من التحريف ما عراها!

هل النبوات المحلية أنبه وأرقى من النبوة التى استطالت واستعرضت حتى وسعت الأمكنة والأزمنة؟.

إن مكانة محمد بالنسبة لغيره من الأنبياء قد عرفت وتوطدت بعد ما استبانت حدود رسالته، وعرف المستقدمون والمستأخرون: أى مهمة أعدتها له الأقدار، وزودته لاحتمالها بأنفس المواهب؟.

نعم، لقد استغنى بهذه الشهادة العلمية عن تزكية الكلام.

وأضحى فى المنصب الذى يمنح هو فيه الآخرين ما يدفع عنهم الشبه ويرد المفتريات.

ولذلك أجرى الله على لسانه الآيات التى تعلى قدر ابن مريم، وانساق الأسلوب فيها أقرب إلى الإطناب منه إلى الإيجاز.

لماذا؟ لأن النبى الكريم عيسى تعرض لاتهام ساقط، وقذفت أمه المحصنة بما هى منه براء، فكان هدف القرآن تبرئة الرجل الشريف، والإشادة بشخصه والثناء عليه بما هو أهله.

وكذلك كان موقف القرآن من موسى لما آذاه اليهود ونالوا منه: (فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها).

وبديهى أن موقف الدفاع عن شخص ما إنما يقوم على إعظامه وتكريمه وذلك هو السر فى التنويه بعيسى على النحو الذى حفل به القرآن...

ولا مجال لعقد مقارنة بين الرسولين عيسى ومحمد، لأن ذلك لا باعث عليه ولا محل له ولا فائدة فيه.

وإنه لمما يعلى قدر محمد أن يكون كتابه مقتضبا فى مدحه، مرسلا فى مدح غيره.

لقد تدبرت هذه وأنا أقرأ آيات من سورة الدخان، ووجدت أن الله جل شأنه أعظم محمدا بهذه المعاملة.

قال يصف موقف العرب من الرسالة وصاحبها: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون).

كل الذى وصف به محمد هنا هو الإبانة.

فلننظر ما جاء بعد فى موسى ورسالته: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين)

إن موسى هنا وصف بالكرم والأمانة وبأنه آت بسلطان مبين!!

هذا السياق المختلف هو الآية على عظمة محمد، وعلى أن الله جعله إمام الأنبياء طرا.

إن الله أجرى على لسان الأخ الأكبر ما يليق بمكانته من دفاع عن إخوته وتنويه بجهادهم وإبراز لما خفى منه...

أما هو فحسبه أصل الاصطفاء لإبلاغ أضخم رسالة سماوية.

رسالة أنقذت من العدم تراث من قبله، وردت إليه الحياة، ثم نهدت لقوى الشر التى هزمت الوحى وحملته فى الأعصار السالفة فدمرتها تدميرا.

إن إمامة محمد تشهد بها دلائل كثيرة، فإذا أنكرها البعض فلا ضير.

لقد قال عن نفسه ـ إخبارا بالواقع فقط ـ: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ".

إنه لا يذكر ذلك فخزا، بل كما يذكر ترتيب الناجحين فى امتحان أو مباراة.

لتقرير حقيقة علمية ينبغى أن تعرف ولا معنى لسترها.

الورع: ترك المعاصى واجب يقينا، ومن الخير ترك ما يقرب منها حذرا من الوقوع فيها، وهذه حيطة يتذرع بها أولو العزم من الناس، فإن الذى يكره الرذيلة.

يجعل بينه وبينها حجاب، ويختط منهجا لحياته بعيدا عن مظانها وعن أصحابها، وبذلك يؤمن الانزلاق إليها ويتحصن من أسباب الإغراء التى تكثر قريبًا منها.

والأصل فى ذلك ما رواه النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشابهات، لا يعلمها كثير من الناس.

فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فى الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه.

ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله فى أرضه محارمه.

ألا وان فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " .

والحديث يضرب المثل للبعد عن الشبهات بما نألفه فى حياتنا من أحوال الرؤساء.

فإن لكل منهم مقرا يتربع فيه وحول هذا المقر ساحة واسعة يحظر الاقتراب منها، وينتشر الحراس حولها.

هذه المساحة المجاورة للمقر هى الحمى، وكأنها استحكامات خارجية للمقر نفسه، ولذلك أعطيت حكمه، ومنع اعتداؤها.

وقد جرت العادة أن يمضى الناس لشأنهم بعيدا عن هذه الأسوار وما وراءها، إذ لا غرض لهم فى القرب منها.

ولماذا يتسكعون حولها فيتعرضون للعنت.

والله عز وجل ـ وله المثل الأعلى ـ بين أن له فى أرضه حمى يجب تهيبه، وهذا الحمى يتمثل فى المحرمات، التى نهى عنها، والكيس من باعد بين نفسه وبين هذه المحرمات، ضنا بشرفه عن التلوث، وسيرته عن الاعوجاج.

ثم إن الحلال المحض والحرام المحض قد بينت أدلتهما، واتضحت حكمة التحليل والتحريم فيهما: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، يعظكم لعلكم تذكرون.

بيد أن هناك أمورا أخذت من جانب الحلال شيئا ومن جانب الحرام شيئا، فإذا تأملها الناظر وجد لها الوجهين المتضاربين، وتساءل: أى الناحيتين يسلك؟.

والمؤمن الصالح يرجح هنا الحظر على الإباحة ضمانا لبراءة عرضه ودينه.

وسيره مع الحزم فى هذه الميادين يرسخ قدمه فى طريق الحق ويجعله قصيا عن أسباب الإغواء والإغراء.

أما التهاون فربما بدأ خفيف الأثر لكنه قد يجر بعد إلى ما لا يليق.

والروايات الأخرى لحديث الحلال والحرام تدل على ذلك.

فلأبى داود أن الرسول قال: " إنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالطه وإن من يخالط الريبة يوشك أن يجسر " وفى رواية النسائى " فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان " وفى رواية الطبرانى " الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك شبهات، فمن أوقع بهن، فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه... ".

فى الأمور المعتادة: ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وذلك جرى على منهج الإسلام فى التيسير لا التعسير، ولا عجب فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة".

أما فيما يتصل بالخير والشر والجمال والقبح، وما يرضى الله وما يسخطه، فإن مقتضى الحزم أن يحصن المرء نفسه بمزيد من الحيطة فيترك شيئا من الحلال القريب من الحرام كراهية للحرام وما يتصل به، وعن عطية السعدى "لا يبلغ العبد أن يكون في المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذرا لما به بأس ".

وعن حذيفة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع".

والورع ليس معناه التزمت أو العجز عن مواجهة المشكلات المتجددة بحكم الله فيها، كلا، فالمسلم يتحرى الحق جهده وينظر ما يلقاه من القضايا والأحكام ببصر نير، فإذا اطمأن قلبه إلى ما يقنعه استقر عليه.

دون وجل، وإن نفر قلبه من مسلك أو رأى هجره واستراح.

عن أبى ثعلبة الخشنى رضى الله عنه قلت يا رسول الله أخبرنى.

ما يحل فى وما يحرم على؟ قال: البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، !

وإن أفتاك المفتون " .

وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: اكثروا على عبد الله ذات يوم.

فقال عبد الله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا هنالك!!

ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون.

فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما فى كتاب الله.

فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله ولا قضى به نبيه فليقض بما قضى به الصالحون.

فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله ولا قضى به نبيه ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه.

لا يقل: إنى أخاف إنى أخاف!!

فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات.

فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

التورع عن الشبهات كما رأيت، سواء كانت هذه الشبهات رأى العين وحكم العلم، أم كانت قلق النفس وريبة الفؤاد.

ونحن فى عصر مادى مغرق يستمع إلى هذا الكلام وكأنه يستمع إلى لغة الجان أو سكان المريخ.

إنه يطلب ما يشتهى غير دار بحديث الحلال والحرام وما بينهما من شبهات، ولقد أعطى الرذائل اسما غير اسمها ليتناولها وهى حبيبة إليه شكلا و موضوعا.

والأجيال التى تخوض الحياة بهذه النية أقرب إلى طباع البهائم منها إلى خلائق الإنسان.

أما أهل التقوى فهم وقافون عند حدود الله، هيابون أن يلموا بشىء يسقط مروءتهم ويغضب عليهم مولاهم.

وقد ترقى بهم هذا الإيمان إلى ضرب آخر من الورع يستحق الإشارة.

قال أبو سليمان الدارانى: كل ما شغلك عن الله فهو شؤم عليك.

وقال سهل بن عبد الله حين سئل عن الحلال الصافى: الحلال هو الذى لا يعصى الله فيه.

والحلال الصافى الذى لا ينسى الله فيه.

فالورع الذى لا ينسى الله فيه، هو الذى سئل عنه الشبلى رحمه الله، فقيل له: يا أبا بكر ما الورع؟ قال أن تتورع ألا يتشتت قلبك عن الله عز وجل طرفة عين.

وهذا اللون من التفكير يقتضى نمطا حازما من السلوك لا يطيقه إلا الأقلون، منهم عمر بن الخطاب الذى كان ينظر إلى الرجلين المتساويين فمان كان أحدهما قريبا له أقصاه.

كأن قرابته من أمير المؤمنين عائق له عن الصدارة والوجاهة!!

ولم ذلك؟ لأن عمر شديد الحساسية بما تفعله الأسر الحاكمة فهو لا يريد أن تنتظم له أسرة فى هذا السلك، وهو يحتاط لذلك من أول الأمر.

ومنهم أبو حنيفة الذى كان يتاجر فى الملابس محددا لنفسه ربحا يكفل حاجاته فحسب، رافضا ما زاد على ذلك، وإن طابت نفوس المشترين بدفعه!.

وأساس هذه الخطة ـ التى لا تلزم بها الشريعة ـ أن هؤلاء الرجال شغلتهم فى حياتهم وظيفة أعلى، فهم يوجلون مما يصرفهم عنها، أو يوهى عزائمهم فيها.

إن الرجل الذى يرى فى الله عوضا عن كل فائت، ينظر إلى عرض الدنيا وشئون الأقربين والأبعدين نظرة خاصة، نظرة من يحكم عليها من أعلى، لا من تتحكم فيه وهو دونها أو وراءها...!!

العفة والقناعة: وهذا العنوان أحب إلى وأقرب إلى لسان الشريعة من عنوان " الزهد والفقر " الذى أجرى على لسان نفر من الكاتبين.

فالعفة مثلا تعنى قدرة الواجد على ضبط نفسه، أو قدرة المحروم على حكم إرادته، فهى فضيلة إيجابية حية، أما الزهد فربما اقترب فى مدلوله، وفى نتيجته من هذا المعنى، إلا أنه أدنى إلى السلبية والاستكانة.

وقد رأيت الشارع استعمل كلمة العفة فى نصوص كثيرة صحيحة، أما كلمة الزهد فترى أنها لم تجىء فى حديث صحيح.

عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة، وصدق الحديث، وحسن الخليقة، وعفة فى طعمة".

وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " من أكل طيبا، وعمل فى سنة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة، قالوا: يا رسول الله إن هذا فى أمتك اليوم كثير.

قال: وسيكون فى قرون بعدى قليلا " .

وفى الحديث " من يستعفف يعفه الله " .

وقد قال تعالى لأولياء اليتامى: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف).

وقال للعزاب: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله).

وفى الرضا بالواقع، وحسن استغلاله، ورد السخط على الأقدار يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " خير الذكر الخفى، وخير العيش ما يكفى ".

وفى الحديث " يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " .

وعن عبد الله بن الشخير: أتيت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر... )

قال: يقول ابن آدم " مالى مالى!!

وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنينت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " .

وظاهر من التأمل فى الآثار الأخيرة أنها تحارب رذائل الشره والطمع، والتبرم بالميسور، والبخل فى وجوه الحق.

إن اشتهاء الدنيا بجنون وطغيان يكاد يختلط بدماء الناس ولحومهم، ويخرج بهم عن جادة الاعتدال والحكمة.

والإنسان مجادل طويل اللسان فى تسويغ شهواته، وبسط حاجاته، وتحقير ما عنده، وإعلان التمرد عليه، ونعته بأقبح النعوت!!

وماذا يصنع الدين إن لم يهذب هذه الطباع، ويدرب البشر على فضائل العفة والقناعة؟

وبديهى أن العفاف لا ينافى الإثراء من وجوه الخير، وأن القناعة لا تنافى السعى إلى حالة أفضل، وسنشرح ذلك على ضوء ما نورد من نصوص.

وقبل أن نتناول الموضوع كله بالشرح نحب أن نثبت رأى العلماء الحفاظ فى بعض أحاديث الزهد المشهورة.

ذكر الحافظ المنذرى عن سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه قال: " جاء رجل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله دلنى على عمل إذا عملته أحبنى الله وأحبنى الناس!.

فقال: ازهد فى الدنيا يحبك الله، وازهد فيما فى أيدى الناس يحبك الناس..!!

قال: رواه ابن ماجه وقد حسن بعض مشايخنا إسناده.

وفيه بعد، لأنه من رواية خالد بن عمرو القرشى الأموى السعيدى عن سفيان الثورى عن أبى حازم عن سهل.

وخالد هذا قد ترك، واتهم، ولم أر من وثقه.

قال الحافظ المنذرى ـ بعد ما زيف سند الحديث : لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة، ولا يمنع كونه راويه ضعيفا أن يكون النبى قاله ـ أى بسند آخر!!

وقد تابعه ـ يعنى خالدا ـ محمد بن كثير الصنعائى عن سفيان.

ومحمد هذا وقد وثق على ضعفه وهو أصلح حالا من خالد، والله أعلم.

هذا وقد ذكر المنذرى جملة أحاديث أخرى فى الزهد، لم يبلغ أحدها مرتبة الصحيح، وإن كانت هذه الأحاديث مقبولة المعنى من حيث دلالتها على العفة والقناعة والرغبة فى الله والاكتراث بالدار الآخرة.

وذلك ما جعل المنذرى رحمه الله يشرح قيمتها العلمية بالحكم الصائب على أسانيدها، ثم يروج للمعانى النبيلة التى احتوتها، وهى معان تستحق الحفاوة.

بيد أننا ـ نحن المسلمين ـ الآن فى وضع دقيق يفرض علينا أن نسير بحذر فى تربية أمتنا، وعلاج العلل المتناقضة التى استشرت فى كيانها.

إن حب الدنيا وكراهية الموت من أسباب الانهيار العسكرى الذى أصاب المسلمين فى الأعصار الأخيرة.

والجهل بالدنيا، والعجز فى ساحاتها هما كذلك من أسباب الانهيار العام الذى استغله خصومنا فى النيل منا والإنحاء علينا.

وقادة الفكر الإسلامى مسئولون عن أمرين: أولهما: تعزيز عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وتذكير الإنسانية بمصيرها الخالد بعد أن ترحل عن أرجاء هذه الأرض.

والآخر: البراعة فى هذه الحياة وإحراز قصب السبق فى علوم الأرض، وتوجيه القوى المادية المختلفة ـ بعد فقهها وإجادتها ـ إلى خدمة المثل العليا للإيمان الصحيح.

وقد بلى المسلمون بمن جهلهم فى الحياة باسم الزهد فيها، ومن صرفهم عن العمل لها بزعم أن ذلك صارف عن عمل الآخرة!!

ونسى الغافلون الذين بلوا أمتنا بهذه المحنة أن أخصر الطرق لخسارة الآخرة، وضياع الحقيقة، وسيطرة الضلال، وانتشار الإثم، هو هذا التجهيل والتعطيل..

من أجل ذلك آثرنا ـ ونحن بصدد تربية النفوس ـ أن نؤثر عنوانا على عنوان، وإن كان هذا التغيير فى الشكل لا يغنى عن الإفاضة فى شرح الموضوع نفسه.

تتسع أقطار الأرض لأعداد كثيفة من الناس، فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، وفيهم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.

وكلا الفريقين يسعى وراء رزقه، يبغى أولا أن يوفر الضرورات التى لابد منها لنفسه ولأهله، فإذا اطمأن إلى تحصيلها اجتهد أن ينعم عيشه بالمرفهات، وأن يقطع مرحلة العمر، وهو طاعم كاس آمن مسرور...

يكاد البشر مؤمنهم وكافرهم يتفقون على هذا المنهج، بيد أن هناك خلافا عميق القرار فى تفكير الفريقين، ولون شعورهما.

فالكافر يعبد الحياة لذاتها، ويطلبها على أنها الهدف الفذ، والفرصة التى إن ضاعت ضاع كل شىء.

إنه لا يعرف الحياة إلا هذه الفترة المتاحة له على ظهر الأرض!

ولا يصدق أن وراء هذا العيش عيشا!

أو أن بعد هذه الدار الدنيا دارا أخرى...!!

أما المؤمن فإنسان على النقيض فى فهمه وحكمه، إنه واثق من أن هناك حياة آكد وأعظم، ينتقل البشر إليها ويخلدون فيها.

وأن المحيا على ظهر الأرض وسيلة لا غاية، أجل، هو وسيلة لما بعده، فهنا الغرس، وهناك الحصاد؟ هنا السباق، وهناك النتيجة.

والدنيا إذا لم تكن مطية للآخرة كانت دار غرور، وميدان باطل.

البون بعيد كما ترى بين الفريقين، وإن تجاورا فى المقام، وكدحا وراء الطعام.

هذا يأكل ليعيش، وذاك يعيش ليأكل...

إلا أن سحر الدنيا شديد الفتنة، ومعارك الأقوات تستنفد طاقات ضخمة وتقيد بازائها مشاعر وأفكارا كثيرة.

ثم هناك تعويل الألوف المؤلفة على النتائج العاجلة فى هذه الدنيا، وتأثرهم بها..

هذا كله جعل الدين يبرز فى تعاليمه ناحيتين خطيرتين.

الأولى: الإلحاح فى إفهام الناس أن الدنيا لا تطلب لذاتها، وأنها لا تستحق أن يتفانى الناس فيها، إنها إذا لم تكن وسيلة للآخرة، وإذا لم تصنع منها جسرا تعبر منه إلى رضوان الله فلا خير فيها...

أطلبها، وامتلكها كلها إن استطعت، لكن على هذا الأساس!

إن الله لم يقل لقارون صاحب الكنوز الهائلة: انخلع من مالك كى أرض عنك لا، ابق فيه ولكن (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ).

الإسلام يحتقر الدنيا أشد الاحتقار عندما تكون الأمل الذى لا أمل معه، وعندما يركض البشر فى طلابها لا لشىء إلا للحصول عليها، والاستكثار منها.

ثم الموت فى أطوائها، كما تموت دودة القز داخل ما تنسج، وليست تنسج لنفسها شيئا.

إنه يحتقرها هدفا، ولكنه يحتفى بها وسيلة!.

وفى الإزراء على الحياة الدنيا، عندما تكون غاية مجردة جاءت آيات كثيرة، وأحاديث شتى، نثبت هنا بعضها: قال الله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا).

والمثل واضح فى أن الدنيا تتبخر بين أيدى عبادها، كما يتبخر الماء من الهشيم، فإذا هم يقبضون أيديهم على وهم.

ماذا كسب خزان المال عن وجوه الخير؟ وماذا ربحوا من نسيان رازقه، ورفض وصاياه فيه؟.

ماذا نال عباد الأثرة والجاه والاستعلاء عندما يسلون من الحياة الدنيا سلا، مخلفين بعدهم أملاكا، ذهب اسمهم عنها، وآثار كحركة الريح فى صفحة الماء، لا استقرار لها ولا بقاء...

وماذا يكون موقفهم عندما يقول الله لهم: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم).

إن عبادة الحياة، واعتدادها كل شىء، خطأ شائع، ولذلك صوب الإسلام إليه سهامه وأوهن أركانه، وقد جاءت على لسان رسول الله نصائح عالية نوردها هنا بعدما رسمنا لها الإطار الذى يحدد المقصود منها، حتى لا يفهم غر أنها هجوم على الحياة مطلقا.

إنها هجوم على نشدان الحياة للحياة، دون فكر فى رب، أو ثقة فى جزاء.

عن ابن عباس: مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: والذى نفسى بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها .

وفى رواية عن أبى الدرداء: مر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدمنة قوم ـ كوم سبخ ـ فيها سخلة ميتة.

فقال: ما لأهلها فيها حاجة؟ قالوا: يا رسول الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها!

فقال : والله للدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها.

فلا ألفيتها أهلكت أحدا منكم .

وعن الضحاك بن سفيان أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: يا ضحاك ما طعامك؟ قال: يا رسول الله.

اللحم واللبن!

قال.

ثم يصير إلى ماذا...؟.

قال: إلى ما قد علمت...

قال: فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا .

وهذه الآثار جميعا تنعى على عشاق اللذة، وطلاب المتعة ما ينغمسون فيه إلى الأذقان، ذاهلين على الله، وعن الآخرة...

وإن كانت الدنيا إنما تطلب وتستحب، وسيلة لما بعدها، وقنطرة لمثوبة الله جل وعلا، فإن طالبها يجب أن يلتزم القوانين التى شرعها من تطلب الدنيا لأجله.

وقد روى عبد الله بن عمر وقال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار ".

إن هناك آدابا لامتلاك الحياة يجب أن تدرس بدقة...

وذاك سر حديثنا عن العفة والقناعة، والحل والحرمة...

إن الناس قد ترتكس أخلاقهم، فيرون أن ما تيسر أخذه، لا يصح أن يتركوه مهما كانت وسائله، وهذه بهيمية مقبوحة...!

فالرجل الشريف لا يبنى كيانه إلا بالطرق الشريفة.

وإذا أتته الدنيا عن طريق الختل، أو الغش، أو الجور أبى أن يقبلها، ورأى فراغ يده منها أرضى وأزكى لنفسه.

وفى عفة المؤمن عن الحرام يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ولأن يأخذ ترابا فيجعله فى فيه خير له من أن يجعل فى فيه ما حرم الله عليه " وعن كعب بن عجرة رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به.

يا كعب بن عجرة.

الناس غاديان فغاد فى فكاك نفسه فمعتقها، وغاد موبقها " .

وانظر كم ترى الفرق شاسعا بين رجل يصيره طعامه حطبا للنار، وآخر يتكسب الحلال، ويتملك الكثير منه والقليل، فإذا ما ينفقه منه على نفسه وولده يحتسب زكاة له، ويوزن فى عمله مع الباقيات الصالحات.

فعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أيما رجل كسب مالا من حلال، فأطعم نفسه، أو كساها، فمن دونه من خلق الله فإن له به زكاة " .

ونزول الإنسان على قانون الاكتفاء الذاتى هو العون الأكبر على ما يأمره به الإسلام من قنوع وعفاف، فإن أكثر متاعب الناس تأتيهم من السرف فوق ما يطيقون والتطلع إلى حياة لا يملكون أسبابها.

وربما لجأوا إلى الاستدانة والمطال، أو إلى المسألة والضراعة، أو إلى الرشوة والسرقة، أو إلى النهب والسطو، كى يسدوا أبوابا من النفقة فتحوها على أنفسهم تزيدا وطمعا.

ولو أنهم عاشوا فى حدود ما يملكون لاستراحوا وأراحوا.

والاكتفاء الذاتى يلزم الإنسان أن يعرف موارده جيدا، ثم يضغط شهواته ورغائبه حتى لا تعدو به حدود ما يملك.

وأن يغمض عينيه عن حياة الآخرين فلا يحاول المقارنة المثيرة.

وأن يوقن بأن سقوطه رهن بمد يديه إلى هذا وذاك.

وأنه كلما ترفع، واستعف ملك نفسه وثبت كرامته، وعاش وجيها فى الدنيا والآخرة.

روى جابر بن عبد الله أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إياكم والطمع فإنه هو الفقر وإياكم وما يعتذر منه " .

وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.

أتى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل فقال: يا رسول الله أوصنى وأوجز، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " عليك بالإياس مما فى أيدى الناس، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه " .

إن القناعة قدرة على ضبط النفس إذا تطلعت إلى ما يذلها فى العقبى، وإن حلا لها أول الأمر.

وفى الحديث: إن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس .

إنك لا تعدم أن ترى فى كل مجتمع أناسا يسفل على أنفسهم الوقوف بالأبواب وتعليق الآمال بذى جاه أو سلطان.

قد يرقبون العطاء لأن حبهم للمال عودهم التكفف.

وقد ينشدون الحظوة أو المنصب، لأن عوزهم النفسى زين لهم أن العزة فى المنصب الذى يملك فلان أمره، فهم يزدلفون إليه حتى ينالوا ما يشتهون.

وإنى لأعرف أناسا لهم ذكاء وباع يؤجرون مواهبهم إلى كل من يدفع لهم الثمن.

وما الثمن؟ شىء من حطام هذه الحياة الهالكة، أو من وجاهاتها الخادعة.

وقحط العقائد والأخلاق لا يجد بيئة يأوى إليها ويستقر فيها، مثل هذه النفوس المتعلقة الهابطة.

لذلك لا تعجب إذا كان سيد الرجال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأخذ أصحابه بدروس الكرامة التى تقصيهم عن هذه المواطن السوء، ويغرس فى لحمهم ودمهم معانى العفة والقناعة التى تجعلهم ملوكا فى أنفسهم، لأنه ليست لهم حاجة تدنيهم إلى بشر.

عن عوف بن مالك الأشجعى رضى الله عنه قال: كنا حديثى عهد ببيعة فقال لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا تبايعونى؟ فقلنا قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟.

قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، لا تسألوا الناس...

فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا أن يناوله إياه .

وعن ابن أبى مليكة قال: ربما سقط الخطام من يد أبى بكر الصديق رضى الله عنه فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه.

قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا فنناولكه؟.

قال: إن حبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرنى أن لا أسأل الناس شيئا .

وأنت ترى أن الراكب إذا طلب سوطا وقع منه على الأرض فإنه لم يسأل عسرا ولم يقترف جرما، ومع ذلك فإن التنزه عن طلب شئ من الناس وتعويد النفس الاستغناء المطلق، كان من وراء هذا السلوك الحازم.

والمسلم ما دام يطلب الدنيا ليستعين بها على آخرته، ويبتغى بها مرضاة ربه، فهو غير مستعد لأن يضحى فى سبيلها بمروءته، أويفقد شيئا من دينه.

إنها إن جاءته من طريق الحلال الطيب قبلها، وإلا رفضها، ولم يتبعها نفسه.

وهو كذلك إذا حازها لم يسمح لها أن تشغله عن القه، كيف، وهو إنما رغب فيها، لا لذاتها، بل لأنها وسيلة لما هو أعظم منها وأخلد...؟

والحق أنه فى إبان الذهول عن الله، والغفلة عن حقوقه تنطلق قوى البشر لاغتنام الحياة وانتهاب فرصها بقوى عارمة، ورغبات عنيفة، وتكاد معركة الخبز تنسى الناس أنهم بشر فيهم ودائع من السماء، وأنفاس من روح الله.

إن الجانب الحيوانى هو الذى يطن فى آذانهم، بل إن الأهداف التى تسعى إليها الدواب قريبة المرمى قليلة الكلفة، أما البشر فهم يسخرون عقولهم الذكية ومواهبهم العليا للاستكثار من هذا الحطام والاستئثار به عن الآخرين.

وكم يطوى الليل والنهار من جراحات وضحايا ومظالم فى أعقاب هذا العراك المادى السفيه.

ترى لو فكر الناس بأناة، وذكروا ربهم بدل نسيانه؟ وقدروا حقه بدل جحده ، وفرغوا له من أفكارهم وأفئدتهم قسطا يصلهم به، أما كان يحمل عنهم هذا العناء كله؟!.

إنه يستطيع أن يلهمهم رشدا يختصر لهم المتاعب؟ ويجنبهم الجرى وراء الأوهام.

وما أكثر الذين يجرون وراء الأوهام الباطلة فى الحياة وما أكثر الذين يبذلون الكثير ويجنون القليل، ولو أرادوا لكانوا أحسن ظنا..

تأمل ما رواه معقل بن يسار عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حديث قدسى يقول الله: "يا ابن آدم تفرغ لعبادتى أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقا، يا ابن آدم لا تباعد منى أملأ قلبك فقرا، وأملأ يديك شغلا ".

وهذا الحديث ليس دعوة للعطل، وكل دعوة للعطل فهى منقوضة من أساسها، إنما هو دعوة لتغليب الله على هموم الرزق ومتاعب العيش.

والكد فى الدنيا للاستعفاف والغنى من حقائق العبادة، ومن معانى الجهاد.

ولكن الملحوظ أن مطالب الدنيا قد تكتسح أحيانا الواجبات المفروضة، وتصرف الناس عن الله والصلاة له، والمآل إليه وذاك ما يعالجه الدين بشتى الأساليب.

ومن ترهيب الناس عن هذه الحال ما رواه زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.

ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره، وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة " .

وفى رواية " إنه من تكن الدنيا نيته يجعل الله فقره بين عينيه، ويشتت عليه ضيعته ولا يأته منها إلا ما كتب له.

ومن تكن الآخرة نيته يجعل الله غناه فى قلبه ويكفيه ضيعته وأتته الدنيا وهى راغمة " .

والموضوع يحتاج إلى زيادة إيضاح، وفى القرآن الكريم ما يجمع أطراف الحقيقة بإيجاز وحسم.

قال تعالى فى طلاب الدنيا الذين كرسوا أوقاتهم ونشاطهم لها دون سواها: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).

هذا الفريق من الناس لا يصدق بيوم آخر، ولا يستعد له بشىء، فطبيعى ألا يكون له فيه نصيب، إنه لم يزرع له عودا واحدا، فمن أين يأتى الجنى؟.

أما عمله فى الدنيا الذى توفر عليه وتفرغ له فهو محسوب له كله، لا ينقص ذرة من الجزاء المرصد له، ولابد أن يقتطف ثمرته دون بخس أو جور.

لكن تسعير هذا العمل بما يساوى قيمته الحقيقية، ثم الزيادة عليه بما يشاء الله من فضل، أمر موكول لله وحده.

فقد يؤدى رجلان متساويان المواهب والجهد عملا واحدا، فيعطى أحدهما حقه كاملا، ويمنح الآخر نصيبا اكبر من صدارة أو عافية، أو ثراء..

إنه لم يظلم الأول فليس له اعتراض.

ولما كان الله هو المريد المختار الماجد الذى لا يعوق قضاءه شىء، ولا يتحكم فى عطائه أحد، فقد أعلن هذا التفاوت منسوبا إلى مشيئته، حتى يشعر البشر طرا بأنه القاهر فوق عباده فلا يقهر، الغالب على أمره فلا يغلب.

قال جل شأنه: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا).

وهذه الآيات مبينة فى أن أثمان ومنح الكافرين على ما يعملون موكولة للقدر الأعلى الذى لا يظلم، وإن فاوت فى العطاء.

وأن هذه الدنيا يمرح فيها الكافرون والمؤمنون متمتعين بالإمداد الإلهى الرحب الغدق، ولكن الكافرين الذين ظفروا فى عاجل أمرهم بالرحمة الإلهية على ما يعملون، وعلى ما لا يعملون، يحرمون يقينا من الدار الآخرة...

فإن هذه الدار لا يكسبها إلا من أرادها، واستعد للحياة الباقية فيها، وكان المهاد الذى آثره لنيلها هو الإيمان الحق...

وفى معاملة طلاب الآخرة، وما يتنزل عليهم من رحمات الله وأفضاله يقول جل شأنه: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ..).

أساس المعاملة هنا ليس العوض المكافئ ، بل العطاء الواسع، وهو عطاء يشمل الدنيا والآخرة؟ وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء، إلا أن الابتلاء المفروض فى فترتها لا ينافى أن تورق للمؤمن أغصان من عمله يسير فى ظلها حينا إذا كان هناك من يلفحه الحر، ويئوده التعب.

وتوضيحا للمعاملة التى يلقاها المؤمن من ربه روى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: يقول الله عز وجل: " إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها.

فإن عملها فاكتبوها بمثلها.

وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة.

وإذا أراد عبدى أن يعمل حسنة فاكتبوها له حسنة.

فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة " .

وبعد هذا البيان يعالن الله عباده بما عنده فيقول: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا).

فى أرجاء الشرق والغرب نسمع صياحا بعيد المدى متجاوب الصدى حول رفع مستوى المعيشة!

ورفع مستوى المعيشة هدف إنسانى لا ريب فيه.

إن الفقر عاهة مؤذية، وعورة بادية، وما يرضى بالفقر للناس رجل له قلب وخلق...

ونحن نشد أزر المكافحين فى هذه السبيل، ولا نستكثر جهودنا التى بذلناها بالقلم واللسان والعمل كى نضع آصار البؤس عن البائسين.

إلا أننا نتساءل: ثم ماذا بعد أن يغتنى الناس من فقر، ويترفهوا من خشونة؟.

هل الغاية التى ينتهى إليها جهاد المصلحين، أن يعيش الناس فوق هذا الثرى يأكلون الطعام، ويسمعون الأغانى، ويطلبون المتع، ويستخدمون آخر ما أنتجت الحضارة من أدوات الترويح والتنعيم؟.

أما إعدادهم للدار الآخرة فصفر.

أو قليل لا يذكر، لأنهم بين مرتاب فيها أو مكذب لها، أو غافل عنها!!.

إن انتهاء العالم إلى هذا المصير فى تفكيره وشعوره، وإلى هذا الوضع فى يقظته ومنامه، معناه أن العالم صرعه الإلحاد وغطته غواشى الكفر والفسوق والعصيان.

وهذا ما لا يمكن أن يهادنه الدين أو يعيش بجواره هادئا.

وهذه السكرة الزائغة عن الحق وتبعاته، هذه الدنيا التى اشتهيت لذاتها ولم يحسب فيها حساب الآخرة ولم يعرف فيها حق الله، هى التى لعنها الإسلام وصب عليها جام غضبه، وحقرها وحقر أصحابها معها.

(ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)

والقرآن الكريم يتناول عشاق الحياة من هذا القبيل؟ فيقرر أن مصيرهم إلى سقر، ويندد بما كانوا عليه فى الدنيا من شبع وطيش… (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * و يصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا).

والإسلام إنما يستنكر السرور الجاحد المستغرق فى العاجلة دون سواها.

وهو إذا كان قد نعى فى الآية السابقة على الكافرين إذهابهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا فليس معنى هذا أنه حرم الطيبات على المؤمنين!!

كيف؟ وهو ما أحل لهم إلا هذه الطيبات!!

(يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات).

إن المأخذ على الكافرين أنهم لا يعرفون لله حقا فى هذه الحياة.

يطعمون رزقه ولا يشكرون فضله، ويحيون فى ملكه وينكرون وجوده ويظنون الحياة على الأرض هى الوجود الأول والآخر، ثم لا شىء بعد هذا إلا العدم المطلق...

وحياة تصطبغ بهذا اللون القاتم تخالف من كل ناحية حياة المؤمنين الذين يردون الفضل إلى صاحبه فى كل خير يعرض لهم نحو ما قال أبو الأنبياء إبراهيم وهو يتبرأ من الآلهة الباطلة: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين).

الحيوانية التى ينبعث عنها فريق كبير من الناس فى مبادئهم الاجتماعية والسياسية، بل فى سيرتهم النفسية والخلقية، والتى تجعل الحياة لا تعدو الوجود المادى وحده.

هى التى عناها الإسلام، وهو يصف الكافرين فيقول: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين).

وعندما يذيقيهم العذاب الأليم ثم يقول: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون).

إن دنيا المؤمنين محكومة بحدود واضحة.

وهى حدود تفطم الناس بصراحة عن كل محرم؟ وترسم لهم أسلوب انتفاعهم بهذه الدنيا إلى حين.

وتأخذهم بأدب واضح من التعفف والقنوع بحجزهم عن الأهواء والأطماع وبدفعهم فى طريق الاعتدال والقصد.

إن عظمة الإيمان ليست فى أنه يجرد أصحابه من الدنيا...

وما يظن ذلك إلا جاهل قاصر...

عظمة الإيمان أنه يتيح لأصحابه امتلاك ما يشاءون؟ على أن يكون ذلك فى أيديهم لا فى قلوبهم، ينزلون عنه جملة وتفصيلا فى ساعة فداء، ويحيون فى ظله ـ ما عاشوا ـ أعفاء سمحاء.

فى مجال الترقى قد تكون الحرب سجالا بين المرء وهواه، يستقيم حينا، ويتعثر حينا آخر، ولكن إصراره على المضى إلى هدفه يصل به على طول المدى.

والمرء فى المراحل الأولى من هذه المجاهدات يلقى نوازعه الدنيا وجها لوجه فإذا انتصر عليها أحس لذة الظفر نورا يشرق على روحه ويتخلل شعاب قلبه.

وفى هذه الحال يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " أحب الصدقات أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تحب الغنى وتخشى الفقر " .

ومدافعة شح النفس إذا حدثت بالبخل عمل حسن، وله أجره الكريم.

وهناك نفوس لا تزال تتعود العطاء حتى يكاد يكون لها طبعا.

فإذا وجدت دواعى الكرم انطلقت إليه كالسهم المارق، لا يعوقها حديث نفسى ولا يثبطها تعلق بدنيا...

كما يصف ذلك العربى نفسه وهو يستقبل الضيف الوافد، يقول: فقمت، ولم أجثم مكانى، ولم تقم مع النفس علامات البخل الفواضح إلى جذم ما قال قد نهكنا سوامه وأعراضنا فيه بواق صحائح كذلك موقف المؤمن مع الدنيا.

لقد حجبته عزائم الإيمان عن كل محرم فيها، وملأ يديه من أسبابها ليتوسل بها إلى إقامة الحق، وعبادة الله.

وربما أقبل على ما أباح الله منها، ولا عليه فى ذلك.

وربما سيطرت عليه المعانى الكبيرة التى يعيش فيها فصرفته صرفا عن أنواع المباهج التى يهش لها غيره.

ومن ثم ترى فريقا من الناس يمر بأفراح الدنيا كما يمر التلميذ الممتحن غدا، بضجة الناس فى الشوارع، لا يعلق بانتباهه منها إلا القليل.

عن ابن عباس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر فى جنبه.

فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشا أوثر من هذا.

فقال: مالى وللدنيا، ما مثلى ومثل الدنيا إلا كراكب سافر فى يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها.

وفى رواية أن أبا بكر وعمر قالا: يا رسول الله، ما يؤذيك خشونة ما نرى من فراشك وسريرك؟ وهذا كسرى وقيصر على فراش الحرير والديباج؟؟.

فقال: " لا تقولا هذا، فإن فراش كسرى وقيصر إلى النار، وإن فراشى وسريرى هذا عاقبته إلى الجنة ".

ونحن لا نقول بتحريم الطيبات، وإنما نصف درجة من الاستغراق العلوى تشغل عما دونها...

وإننا لنرى أحيانا بعض العلماء يشغله التفكير عن العناية بهندامه والاهتمام بمظهره، لا تعمدا لإهمال، ولكنها طبيعة هذا الصنف من الرجال.

الصبر:

سألت نفسى: هل يستغنى الأحياء عن الصبر؟ إنه لازم لكيانهم المعنوى لزوم الماء، أو الهواء لكيانهم المادى.

نعم، قد تستغنى الدواب، أليفة كانت أو متوحشة عن هذا الخلق، لأنها تحيا وفق هواها، وتسيرها طباعها وحدها.

أما الإنسان فهو كائن تتبعه التكاليف مذ يعقل، تأمره بفعل ما قد يكره وترك ما قد يحب.

بل هو بعد سنوات قلة من ميلاده يقاد إلى المدرسة برغمه، ويبدأ المربون يخرجونه من نطاق اللهو واللعب إلى استيعاب مبادئ القراءة والحساب وحفظ أشتات من النصوص والأناشيد.

فقبل أن يجئ مرحلة البلوغ، وتناط بعنقه التكاليف الجادة تمهد نفسه لحياة يهجر فيها رغباته، ويحترم فيها واجباته.

ولا أدرى إذا كان هناك فريق من البشر يستغنون عن هذا الخلق لظروف معينة تحيط بحياتهم، وتوفر لهم من المتاع والراحة ما يغنيهم عن مشقات الكفاح الأدبى والمادى!.

إننى أشك فى أن الدنيا تضم بين طياتها هذا النوع من الناس.

ذلك أن البشر الذين يقتربون من الأنعام فى سيرتهم تفرض عليهم الأقدار آلاما من طراز سافل، لا يرون محيصا من احتمالها وهم كارهون.

على أننا نوقن بأن طريق الإيمان، ومنهج الشرف والبطولة، لابد فيه من صبر طويل طويل.

وإن الرجل كل الرجل هو الذى يستسهل المتاعب بإلفها، والذى يعلم أنه ـ ما تردد فى صدره نفس ـ يجب أن يلقى الدنيا والناس بحزم وتحفظ، وبصيرة وتصون.

وأن الصبر عتاده فى هذا كله، فلن يزحزح عن النار ويدخل الجنة إلا بهذه اليقظة وهذا الدأب.

عن أبى هريرة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " لما خلق الله عز وجل الجنة والنار، أرسل جبريل ـ يعنى إلى الجنة ـ فقال: انظر إليها إلى ما أعددت لأهلها فيها.

فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله عز وجل لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحجبت بالمكاره، وقال: ارجع إليها فانظر إليها، فرجع فإذا هى قد حجبت بالمكاره، قال: لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: فانظر إلى النار وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاءها فنظر إليها، إلى ما أعد لأهلها فإذا هى يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، وقال له: ارجع إليها فانظر إليها فإذا هى قد حفت بالشهوات، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها ".

إن حياة الدعة والطراوة تقتل المواهب، وتطمر الملكات...

والإنسان يتحرك، ويتكشف معدنه، ويغزر إنتاجه كلما أحس خطر المعارضين، أو صدمات الشدائد، كأن أسرار الحياة الكامنة فيه يستثيرها التهديد فتتحفز للدفاع عن نفسها، فتندفع إلى الأمام ناشطة آملة. !

و معادن العظماء إنما تبرق وسط الأنواء التى تكتنفها، فكأن هذه الأنواء رياح تنفخ فى ضرامها، فيتوهج، ولو ترك وحده لكان وشيك الانطفاء.

ومن حكمة الله البالغة أنه لم يدع البشر يحيون فى بيئة تعطيهم خيرها منحا بل استحياهم فى بيئة تفرض الكفاح فرضا، ولا تعطى الثمار إلا بعد غراس.

وهذا الجهد المبذول من مصلحة الحياة نفسها لتبقى وتزدهر.

من مصلحة الأحياء أنفسهم ليبلغوا تمامهم.

وقد كتب الأستاذ عبد العزيز الإسلامبولى كلاما فى هذا المعنى يستحق التسجيل.

قال: حكى أحد العلماء المحدثين عن نفسه، فقال: كنت مغرما فى طفولتى بجمع شرانق الفراش، ومراقبة خروج الفراشة منها فى الربيع، وكان جهادها فى التخلص من سجنها يثير عطفى دائما.

وأتى والدى يوما ما بمقص وأعمله فى غلاف الحرير المطبق على الفراشة وساعدها على الخلاص، ولكنها ما لبثت قليلا حتى ماتت، وعندئذ قأل أبى: يا بنى إن الجهد الذى تبذله الفراشة لتخرج من الشرنقة يخرج السم من جسمها وإذا لم يخرج هذا السم ماتت الفراشة، وكذلك الناس إذا جهدوا فى سبيل ما يريدون زادوا قوة وعزما، ولكن إذا واتاهم ما يريدون سهلا طيعا، غلب عليهم الضعف ومات منهم شىء جليل الخطر.

وهكذا تعلم أن طبيعة الحياة عجيبة، لأنها لا تعطينا إلا لتأخذ منا، ولا تهب لنا شيئا إلا لتنال مقابلا، إنها تكيل لنا صاعا بصاع، فلا غرو إذا كانت آمالنا لا تتحقق إلا بين الأشواك فى الأرض الوعرة، وكأنما شاءت الدنيا أن تخفى مفاتنها تحت مصارع المطامع لتدفع الإنسان إلى مواجهتها والتغلب عليها.

ومن ثم نعرف قيمة الشدائد، بل نعرف الفرق بين الأبطال الصناديد، والجبناء الرعاديد، إذ الشدائد هى المحك الذى يكشف عن معدن الرجل: قوة وضعفا.

عقلا وهوى، والحياة ـ فى الأغلب الأعم ـ ليست إلا مزاجا من سعادة وتعاسة، وهناء وشقاء، وفرح وترح، ولا قيمة لها إذا كانت ذات لون واحد، وقديما قالوا: وبضدها تتميز الأشياء.

فلا طعم للحلو دون المر، ولا مذاق للماء الفرات دون الماء الأجاج.

ولعله من أنفع ما يساق فى هذا المطلب، ما قصه على أستاذ من جلة المعاصرين، وكان ـ يرحمه الله ـ معروفا بالهدوء، والعزوف عن الشهرة، وقد رقى أرفع المناصب العلمية قال: لقد أخذت نفسى بتلاوة القرآن الكريم كلما ادلهم خطب، وأهرع إلى تدبر كلام الفلاسفة الحكماء، أروح به عن نفسى، وقد وقفت على تشبيه رائع لما نلابس فى دنيانا، كلما تذكرته هدأت أعصابى واطمأن خاطرى.

ذلك بأن الحياة اليومية، ليست إلا كوبا، نصفه مملوء بالماء، ونصفه الآخر فارغ لا ماء فيه.

فلست بمستطيع أن تحكم بأنه مملوء كله ولا فارغ كله وهكذا الناس لن تجد فيهم ذا حياة مملوءة كلها ولا ذا حياة فارغة كلها، وإنما لكل منا نصيب من السعادة، ونصيب من الشقاء، ومن ثم يسعد أحدنا أو يشقى بنظرته إلى الكوب الذى يستقى منه، فإن رآه مملوءا إلى نصفه سعد بحياته، وان رآه فارغا إلى نصفه شقى بها.

وهكذا تعودت إذا ما نزعت نفسى إلى الجزع، أن أذكر أن الحياة ليست فارغة إلى نصفها، بل مملوءة إلى نصفها، ومن ثم تذهب متاعبى كفاء الغم، وتروح أحزانى بددا".

وتصبير النفس على لأواء العيش، وإرهاق الواجب، وإغراء الهوى يحتاج إلى عزم وقوة، وللعرب فى هذا الأفق آداب رفيعة، استوحوها من تجاربهم ومن أشواقهم إلى العزة، ورغبتهم فى وفرة العرض وصون الجانب، وهم يرون أن الركوع للشدائد لا جدوى منه إلا الذلة التى منها يأنفون، وأن هذه الشدائد لا تقيم بساحة إلا ريثما تتحول عنها، فعل المرء أن يواجه ما يكره بجلد، آملا أن تنقشع الغمة وهو ثابت الخلق نقى الصفحة قال عبد العزيز بن زرارة : وليلة من ليالى الدهر كالحة ونكبة باشرت من هولها مرأى ومصطرعا لو رمى الرامى بها حجرا أصم، من جندل الصوان- لانصدعا مرت على، فلم أطرح لها سلبى ولا اشتكيت لها وهنا ولا جزعا لا يملأ الأمر صدرى قبل موقعه ولا يضيق به صدرى إذا وقعا كلا لبست فلا النعماء تبطرنى ولا تخشعت من لأوائها جزعا وقال ابن الرومى: ولا تحسبن الشر يبقى فإنه شهاب حريق واقد ثم خامد ستألف فقدان الذى قد فقدته كإلفك وجدان الذى أنت واجد ومن لم يزل يرعى الشدائد فكره على مهل، هانت عليه الشدائد وللشر إقلاع، وللهم فرجة وللخير، بعد المؤيسات، عوايد وكم أعقبت بعد البلايا مواهب وكم أعقبت بعد الرزايا فوائد وكم سىء يوما سيقفوه صالح وكم شاءمت يوما سيقفوه حاسد والصبر الذى دعا إليه هؤلاء الشعراء، رياضة نفسية يعرفها ألو النهى من كل جنس وملة، وهى رياضة تحمد لطبيعتها ونتائجها، فإن العزم أشرف من الوهن والأمل أجدى من اليأس.

وهؤلاء أبانوا عما فى الصبر من محاسن ضبط النفس وطيب العقبى.

ونحن نزكى هذه الوجهة إلا أننا نتحدث عن صبر المؤمنين ابتغاء وجه الله.

وهو مسلك يجعل الصبر مشوبا بالذكر، ويجعل المؤمن بصيرا بأن القدر الأعلى من وراء الأحداث التى تنوبه، ومن ثم فهو فى شدته يظل قوى الصلة بربه، يدعوه ويرجوه، ويستسلم له ويعتمد عليه، ويتحمل ما يتحمل لأن الله شاء، ومشيئته موضع التسليم والإعزاز...

والكلمة التى تثلج فؤاده "إنا لله وإنا إليه راجعون " يستشعر معناها فيما يعرض له من بأساء وضراء، فيربو يقينه، ويكون أهلا لرحمات الله بعد ما استبان موقفه من بلائه.

والمرء فى هذه الحياة يختلف عليه العسر واليسر، والصحة والسقم، ومطلوب منه فى الأحوال التى يكرهها ألا تهتز علاقته بربه وألا يضعف أمله فى فرجه.

إنه فى اليسر يطمئن إلى ما فى يده من مال فلا يبالى بالوساوس، بل قد تبتعد عنه ابتعادا تاما!

أليس ماله فى يده؟

والمطلوب منه إذا أعسر ألا يستبد به القلق، وأن يكون إيمانه بالغيب مشيعا للسكينة في قلبه، فيعلم أن الله لن يخذله إذا قصده، وأن ما فى يده جل شأنه قريب منه (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم).

والصبر لله روح يدور على هذا المحور، عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الزهادة فى الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا ألا تكون بما فى يدك أوثق منك بما فى يد الله، وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك " .

والجملة الأخيرة فى الحديث تفند قول ابن الرومى لما مات ابنه.

وما سرنى أن بعته بثوابه ولو أنه التخليد فى جنة الخلد!!

هذا جزع ولدته ساعة طيش وجنون.

وخير منه، قول من واسى مؤمنا فى فقيدة له " رحمة الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها ".

الصبر لله روح الإيمان، ومناط الثواب الجزيل الذى يصبه الله صبا على من ابتلى، وسلم لله أمره (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).

وعن أبى بردة قال: كنت عند معاوية وطبيب يعالج قروحة فى ظهره وهو يتضرر، فقلت له: لو بعض شبابنا فعل هذا لعبنا عليه، فقال: ما سرنى أنى لا أجده، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " ما من مسلم يصيبه أذى فى جسده إلا كان كفارة لخطاياه " .

وعن أبى هريرة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قال الله تبارك وتعالى: إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشكنى إلى عواده، أطلقته من أسارى، ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، ثم يستأنف العمل " .

ومعنى الحديث: أن الصحة التى تعود للمريض تجدد له جسده، وأن صبره على ما نزل يمحو ماضيه السىء كله، ويفتح له صفحة جديدة لا سوء فيها...

وعن أميمة: أنها سألت عائشة رضى الله عنها عن قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)

وقوله: (من يعمل سوءا يجز به)، فقالت عائشة: ما سألنى أحد منذ سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لى: " يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها فى كمه، فيفقدها فيفزع لها، فيجدها فى ضبنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج الذهب الأحمر من الكير ".

الضبن: ما بين الإبط والكشح.

والأحاديث كثيرة فى أن المرض يمحص المؤمن، وينقى نفسه، ويغسل ذنوبه.

عن عبد الرحمن بن أبى بكر: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك والحمى كحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها ".

وذلك طبعا للصابر المحتسب، المستكين لقضاء الله الراجى عفو الله.

وقد بلغ من فضل الله على المؤمنين به أن فتح لهم باب الأمل فى واسع مغفرته، إذا صدقوا الصبر فى عناء ليلة واحدة.

فعن الحسن ـ يرفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ " إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة" .

وفى رواية: كانوا ـ يعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يرجون فى حمى ليلة كفارة لما مضى من الذنوب.

ونحن نعرف أن توبة نصوحا تغمر قلب امرئ فى ساعة من ليل أو نهار تطهر ماضيه كله، وأن رحمة الله وسعت كل شىء.

بيد أننا نحسب حديث الحسن وأمثاله إنما يصور السبب المباشر لنيل المغفرة، ولا يصور الأسباب كلها.

إن الحروب الكبرى قد تقع إثر حادث محدود أو اشتباك تافه.

فهل هذا أو ذاك هما أسباب الحرب؟ كلا، إن الخلافات الماضية، والعداوات الأصيلة، والقوى المعبأة، والرغبات الكامنة فى تسوية الموقف هى التى تشعل نار الحرب وتستبقيها سنين عددا.

وما الحادث الذى وصفوه بأنه سبب الحرب إلا الفرصة التى انتهزت لتفريغ ما فى النفوس، كذلك القول بأن صداعا يصيب المؤمن يكفر عنه ما مضى.

الحق أن أصل الصبر فى نفسه، واختلاط هذا الصبر بأحواله وأعماله كلها هو الذى رشحه لما رأينا.

وحال ليلة يعد من نظرنا أنموذجا لشمائل حياة، كما قيل لدريد: تقول: ألا تبكى أخاك؟ وقد أرى مكان البكا، لكن بنيت على الصبر!

وقد وصف الله المؤمنين بخلال طيبة كثيرة، فى مقدمتها الصبر، (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم)

ولماذا يكون التسليم عليهم مقرونا بما صبروا فقط مع أنهم أدخلوا الجنة بشمائل كثيرة؟.

الواقع أن الصبر عنصر أصيل فى بقية الأعمال الأخرى من صلاة ونفقة وإصلاح، إنه الخيط الذى جمعها، بل هو فى كيانها كالماء فى صنوف الأحياء...

قال ابن القيم: لما كان الصبر المحمود هو الصبر النفسانى الاختيارى عن إجابة داعى الهوى المذموم كانت مرتبته وأسماؤه بحسب متعلله.

فإنه إن كان صبرا عن شهوة الفرج المحرمة سمى عفة، وضدها الفجور والزنا والعهر.

وإن كان عن شهوة البطن، وعدم التسرع إلى الطعام، أو تناول ما لا يجمل منه سمى شرف نفس، وشبع نفس، وسمى ضده شرها ودناءة، ووضاعة نفسر.

وإن كان عن إظهاره ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمى كتمان سر، وضده إذاعة وإفشاء، أو تهمة أو فحشاء، أو سبا أو كذبا أو قذفا.

وان كان عن فضول العيش سمى زهدا، وضده حرصا.

وإن كان على قدر ما يكفى من الدنيا سمى قناعة وضدها الحرص أيضا.

وإن كان عن إجابة داعى الغضب سمى حلما، وضده تسرعا.

وإن كان عن إجابة داعى العجلة سمى وقارا وثباتا، وضده طيشا وخفة.

وإن كان عن إجابة داعى الفرار والهرب سمى شجاعة، وضده جبنا وخورا.

وإن كان عن إجابة داعى الانتقام سمى عفوا وصفحا، وضده انتقاما وعقوبة.

وإن كان عن إجابة داعى الإمساك والبخل سمى جودا، وضده بخلا.

وإن كان عن إجابة داعى الطعام والشراب فى وقت مخصوص سمى صوما.

وان كان عن إجابة داعى العجز والكسل سمى كيسا.

وإن كان عن إجابة داعى إلقاء الكل على الناس، وعدم حمل كلهم سمى مروءة.

فله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه.

والاسم الجامع لذلك كله (صبر)

وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها.

وهكذا يسمى عدلا إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين وضده الظلم ويسمى سماحة إذا تعلق ببذل الواجب والمستحب بالرضا والاختيار، وعلى هذا جميع منازل الدين أ. هـ.

والذى يتبادر إلى أذهان العامة أن الصبر يستحب لمواجهة المآسى والآلام، ولا ريب أن عمل الصبر فى هذه المواطن مطلوب.

بيد أن عمل الصبر فى النفس إبقاؤها فى مجال الاعتدال والتؤدة والبصر.

وإذا كانت الضراء تخرج الناس عن وعيهم حينا، فإن السراء تخرج الناس عن وعيهم أحيانا.

ولاتصال النعمة سكرة تستفز بعض الضعاف، وتدفعهم إلى ما لا يليق من بطر وجهل.

من أجل ذلك أوجب الإسلام الصبر على المسلم فى حاليه من خير وشر ونفع وضر، قال تعالى (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير).

والصبر بهذا الشمول امتلاك أزمة النفس كلها حتى لا تشرد بها الأهواء والأنواء يمنة أو يسرة.

ومن الحكم التى رواها ابن الجوزى: " إن لله عز وجل يوما لا ينجو من شره منقاد لهواه ".

وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوة.

وإن العقول لما جرت فى ميادين الطلب كان أوفرها حظا من يطالبها بقدر ما استصحبته من الصبر ـ يعنى أن الذكاء المجرد لا يكفى فى إحراز النجاح إن لم يصحبه دأب على العلم، وتحمل لأعبائه، ألا ترى الأرنب الذى اعتمد على سرعته الطبيعية، غلبته سلحفاة لأنه ركن إلى قدرته فلها وعرفت هى بطأها فثابرت؟ كذلك اللهو يخذل العقول!.

وإن العقول معدن والفكر معول ـ يعنى أن التفكير يتطلب جهدا وكدا وكم عرق الأذكياء من إعمال الفكر كما يعرق الفلاح وهو يضرب الأرض بفأسه غاية ما هنالك أن العامل بيديه أصح بدنا، وأن العامل بعقله أدنى إلى الإعياء..!!

الشكر:

هل معنى الكلام عن الصبر أن الإنسان يعيش فى حلقات متصلة من الآلام؟ لا يحتاج معها إلا إلى المواساة والتعزية!.

لا، فالحياة الإنسانية أضوأ من ذلك وأرحب، إن البشر لا يعيشون كما يعيش الأولاد فى كنف أب قاس القلب، أو كما تعيش الرعية فى سلطان أمير غليظ الرقبة.

وما أغزر النعم التى تنهمر على الناس ليلهم ونهارهم من المهد إلى اللحد، وهى نعم لو قدروها قدرها، أو أحسنوا استغلالها لملأت قلوبهم بالحمد، وأطلقت ألسنتهم بالثناء.

بل لو غلغلنا البصر فى التكاليف التى تستدعى الصبر لاستبان لنا أنها إلى النعمة أدنى منها إلى المحنة.

فالمحرمات المحظورة، والواجبات المطلوبة، والأعباء المفروضة، والآلام العارضة، تلك جميعا ليست ضرائب يقدمها الإنسان لمن يحتاج إليها أو يستكثر بها، كلا بل تلك مدارج للكمال الإنسانى، وحصانات للفطرة السماوية أن تتلوث أو تستمرئ الحضيض.!!

أما رب العالمين فهو يعطى ولا يأخذ، وهو يطعم ولا يطعم، وهو يجير ولا يجار عليه.

(قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين).

والقرآن الكريم فى شتى سوره أحصى أصول النعم، وذكر أمثلة شتى لما غمر الناس منها، وارتقب من أصحاب الضمائر الحية أن يشكروا صاحبها، وأن يعرفوا حقه فيها، بعد ما بسطها بأروع أسلوب.

وفى هذا القرآن سورة باسم الرحمن عدت جملة من نعم الدنيا والآخرة؟ وفى ثنايا هذا العد الموقظ المذكر توجه للإنس والجن بهذا السؤال.

(فبأي آلاء ربكما تكذبان).

توجه إليهم عشرات المرات، يحمل التقريع بقدر ما يحمل التعليم والتذكير إن شكر الله على أنعمه حق، ولكن ما اكثر النعم وأقل الشاكرين!!

والكلمة الشائعة فى الترجمة عن شكر الإنسان لربه هى الحمد.

والحمد كلمة تعنى ـ مع الشكر ـ الثناء على الله، وتمجيد ذاته، ومن ثم كانت أرجح وأذيع.

والمهم أن يرددها المسلم، وهو شاعر بالمنة والجميل، مقر من أعماقه بأن الله مصدر ما اندفق عليه من خير، وأهل ما صعد إليه من شكر...

فى كل طرفة عين، ونبضة قلب، يتعرف الله إلى عباده عن طريق ما يمنحهم من بركاته، وينزل عليهم من خيراته.

وهى بركات وخيرات متجددة على اختلاف الليل والنهار، فلا غرو إذا استقبلها الناس بمعرفة من أسداها.

وشكره!.

(وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا).

وقد أمر الله الناس أن يشكروه لأن قلة الشكر خسة يجب التنزه عنها، إنك لو أطعمت امرأ شهرا أو شهرين، أو قضيت عنه دينا أو دينين، أو رفعته درجة أو درجتين، ثم تجهم لك بعد هذه الأيادى وأعرض عنك لرأيت أن فراغ الحياة من مثله واجب.

وأن بقاءه على ظهر الأرض قذى يتحرك!.

فما ظنك بمن خلق من عدم، وأطعم وستر، وأغدق وأمد الأعوام بعد الأعوام؟ عندما يرى عبده قد حاز كل هذه النعم ثم عادى مسديها؟.

(خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين).

(قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون).

إن الله أمر الناس أن يشكروه لأن الكنود نذالة، ولأن الإصرار عليه يجعل حق صاحبه فى الحياة الكريمة صفرا، ولأنه ما يليق بإنسان أن يستقبل فضل مولاه بكرة وأصيلا ثم يدير له ظهره ويتولى عن إجابة أمره.

إن الأمر بالشكر ليس تكليف مشقة يصبر الناس على أدائه، بل هو طريق كمال ينبغى أن يسير الناس فيه بهمة وقدرة (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)

والإقرار بالجميل، وركون الفؤاد إلى صانعه يجعل المرء أهلا للمزيد، لأن النعمة تثمر فيه، كما يثمر الماء فى الأرض الخصبة، ولذلك لا يضن عليها بالقليل والكثير، أما الأرض السبخة فإن انعدام الأمل فى ريها يجعل إرسال الماء إليها عبثا، ولذلك يقطع عنها...

قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)

وشدة العذاب كفاء لخباثة الجحود!.

وماذا على الناس إذا مرحوا فى نعمة الله أن يطووا ضمائرهم على عرفان الجميل والاعتراف بالفضل، وأن يقولوا لله المنعم: نشكرك.

أهذا كثير أم هذا ثقيل؟؟.

إن الله قص علينا قصة سبأ لنعرف منها عقبى الكنود، وكيف أنها كانت زاهرة ثم صارت خرابا أتى على ما سبق من سعة ورفاهية.

(لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).

والشكر شعور فى النفس قبل أن يكون حركة لسان، وقد وضع الإسلام صورا ورسم طرقا للترجمة عن هذا الشعور المكنون...

ونحن واجدون فى سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مظاهر الشكر وآيات الحمد لله رب العالمين، ما يثير الدهشة، وما يسرى فى القلوب شوقا ورقة...

كان إذا استيقظ من النوم يقول: " الحمد لله الذى رد على روحى، وعافانى فى جسدى، وأذن لى بذكره ".

وكان إذا انتهى من الطعام يقول: " الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين".

وكان إذا عاد من الخلاء يقول: " الحمد لله الذى أذاقنى لذته، وأبقى فى قوته، وأذهب عنى أذاه " .

وكان إذا لبس ثوبا جديدا يقول: " الحمد لله الذى كسانى هذا ورزقنى إياه من غير حول منى ولا قوة ".

وكان إذا عاد من سفر يقول: " آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون ".

وفى الصحيح أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا فى الدعاء؟ قالوا: نعم يا رسول الله.

قال: قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك ".

وكان من دعاء النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " رب أعنى ولا تعن على، وانصرنى ولا تنصر على، وامكر لى ولا تمكر على، وأهدنى ويسر الهدى لى، انصرنى على من بغى على.

رب اجعلنى لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أواها منيبا.

رب تقبل توبتى، واغسل حوبتى وأجب دعوتى، وثبت حجتى، وسدد لسانى، واهد قلبى، واسلل سخيمة صدرى".

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم حتى ترم قدماه!

فقيل له أى رسول الله، أتصنع هذا، وقد جاءك من الله أن قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.

قال!: أفلا أكون عبدا شكورا " .

وفى رواية عن عائشة رضى الله عنها " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه.

فقلت له: لم تصنع هذا؟ وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.

قال!: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا " .

وعن أنس بن مالك عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " التأنى من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما شىء أحب إلى الله من الحمد " .

إن هذا الشعور العميق بفضل الله، والإحساس الواضح بنعمته والرغبة الحارة فى إكباره وإجلاله والاعتراف بخيره، إن هذا كله انتقل من فؤاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أفئدة صحبه، فهم يتبارون فى تحية ربهم وحمده وقدره حق قدره.

عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال أبى بن كعب: لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله بمحامد لم يحمده بها أحد.

فلما صلى وجلس ليحمد الله ويثنى عليه، فإذا هو بصوت عال من خلفه يقول : اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله.

علانيته وسره، لك الحمد، إنك على كل شىء قدير.

اغفر لى ما مضى من ذنوبى، واعصمنى فيما بقى من عمرى، وارزقنى أعمالا زاكية ترضى بها عنى، وتب على.

فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقص عليه، فقال: " ذاك جبريل عليه السلام " .

وعن ابن عمر رضى الله عنهما: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدثهم " أن عبدا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها.

فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندرى كيف نكتبها.

قال الله ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ: ماذا قال عبدى؟.

قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

فقال الله لهما.

اكتباها كما قال عبدى حتى يلقانى فأجزيه بها " .

وعن أبى أيوب رضى الله عنه قال: " قال رجل عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من صاحب الكلمة؟.

فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على شىء يكرهه.

فقال رسول الله: من هو، فإنه لم يقل إلا صوابا؟.

فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله أبغى بها الخير.

فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " والذى نفسى بيده، لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك: أيهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى ".

وعن على رضى الله عنه: " أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل عليه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، إذا سرك أن تعبد الله ليلة حق عبادته، أو يوما، فقل: " لك الحمد حمدا كثيرا خالدا مع خلودك.

ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون علمك.

ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون مشيئتك.

ولك الحمد حمدا لا أجر لقائله إلا رضاك " .

ماذا كان جهد أبليس بعد أن طرد من السماء؟ كان جهده أن يغرى أبناء آدم بالجحود، ونسيان ما أولاهم الله من نعم...

كان جهده أن يشغلهم بفنون من الغفلة تزين لهم أن يأكلوا من رزق الله، ولا يحمدوه، وأن يفتحوا عيونهم على آيات العظمة، ولا يمجدوه...

إن الدواب إذا وجدت أقواتها التهمتها، ما تعى شيئا غير هذا، وإذا فقدتها أحست لذع الجوع، ما تعى شيئا غير هذا، وإذا استمتعت بالعافية جرت ووثبت، وإذا قيدها المرض استكانت وهمدت، ما تعى شيئا غير هذا......

إنها لا تعرف صبرا على بأساء، ولا شكرا على نعماء...

وكذلك يريد الشيطان من أبناء آدم أن يعيشوا على هذا النمط المنحط، لا ذكر، ولا شكر.

وكذلك آلى إبليس على نفسه يوم أخرج من الجنة فقال: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين).

وأسوأ ما يكون الجحود عندما يكون جماعيا تنحدر إليه أمة بأسرها.

فترى كأن هناك تواصيا على ألا يذكر الله بخير!!

بل ترى كأن هناك اتفاقا مكتوبا أو غير مكتوب على أن تلتهم أفضال الله، وتنسب ذلك إلى أى شىء ما عداه...!!!

وهل هلكت عاد، وهلكت ثمود، إلا بهذا الخلق الدنىء؟.

قيل لعاد: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).

وقيل لثمود: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

لكن هؤلاء وأولئك لم يستشعروا فيض النعم الذى سال فى أرجاء بلادهم فحرموا ما جحدوا، وسلبوا ما غمطوا، وحقت عليهم كلمة العذاب.

وقد أهاب الله بخلقه ألا يردوا هذه الموارد الوبيئة فقال: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).

ومع ذلك، فما أقل الذين يعترفون بالفضل، ويشعرون بالجميل: (وقليل من عبادي الشكور).

وإنه ليسرنا أن نثبت هنا باقة من النصوص والآثار الحافزة على الشكر، المشيعة لعواطفه فى الأفئدة نقلا عن الإمام الجليل ابن القيم رضى الله عنه.

قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا المؤمل بن اسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا حميد الطويل، عن طلق بن حبيب، عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا فى نفسها ولا فى ماله ".

وذكر أيضا من حديث القاسم بن محمد عن عائشة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها " وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر الله له قبل أن يستغفره.

وإن الرجل يشترى الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله، فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له ".

وقد ثبت فى صحيح مسلم عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: " إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ".

فكأن هذا الجزء العظيم الذى هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى: (ورضوان من الله أكبر)

كان فى مقابلة نعمته بالحمد.

وذكر ابن أبى الدنيا من حديث عبد الله بن صالح.

حدثنا أبو زهير يحيى بن عطارد القرشى عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

"لا يرزق الله عبدا الشكر فيحرمه الزيادة، لأن الله تعالى يقول:(لئن شكرتم لأزيدنكم).

وقال الحسن البصرى: " إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا ".

ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب: لأنه يجلب النعم المفقودة.

وذكر ابن أبى الدنيا عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال لرجل من همذان.

" إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان فى قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد ".

وقال عمر بن عبد العزيز: " قيدوا نعم الله بشكر الله " وكان يقال: " الشكر قيد النعم ".

وقال مطرف بن عبد الله: " لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر".

وقال الحسن: " أكثروا من ذكر هذه النعم فمان ذكرها شكر ".

وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال: (و أما بنعمة ربك فحدث)

والله تعالى يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته، فإن ذلك شكرها بلسان الحال.

وقال الشعبى: " الشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله ".

وقال أبو قلابة: " لا تضركم دنيا شكرتموها ".

وقال الحسن: " إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر، فإذا شكروه كان قادرا على أن يزيدهم، وإذا كفروه كان قادرا على أن يبعث بدل نعمته عليهم عذابا ".

وقد ذم الله سبحانه وتعالى الكنود أى هو الذى لا يشكر نعمه، قال الحسن: (إن الإنسان لربه لكنود)

أى يعد المصائب وينسى النعم.

وقد أخبر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب، قال: لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط.

فماذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج، وهى فى الحقيقة من الله، فكيف بمن ترك شكر نعمة الله؟؟ يا أيها الظالم فى فعله والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت، وحتى متى تشكوا لمصيبات وتنسى النعم؟؟ وذكر ابن أبى الدنيا من حديث أبى عبد الرحمن السلمى عن الشعبى عن النعمان ابن بشير قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب ".

وقال مطرف بن عبد الله: " نظرت فى العافية والشكر، فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة، ولأن أعافى فاشكر أحب إلى من أن ابتلى فأصبر".

ورأى بكر بن عبد الله المزنى حمالا عليه حمل وهو يقول: الحمد لله أستغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا؟.

قال: بلى أحسن خيرا كثيرا، واقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة، واستغفره لذنوبى.

فقلت: الحمال أفقه من بكر...!!

وذكر الترمذى من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا.

فقال : قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم، كنت كلما أتيت على قوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان)، قالوا: لا بشىء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد".

وقال مشعر: لما قيل لآل داود: (عملوا آل داود شكرا)

لم يأت على القوم ساعة إلا وفيهم مصلى.

وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: " دعا رجل من الأنصار من أهل قبلة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلقنا معه.

فلما طعم وغسل يديه قال: الحمد لله الذى يُطعم ولا يطعَم، منَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا.

الحمد لله غير مودع ربى ولا مكافأ ولا مكفور، ولا مستغنى عنه.

الحمد لله الذى أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العرى وهدى من الضلال، وبصر من العمى، وفضل على كثير من خلقه تفضيلا، الحمد لله رب العالمين ".

وفى مسند الحسن بن الصلاح من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما أنعم الله على عبد نعمة فى أهل، ولا مال، أو ولد، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت ".

ويذكر عن عائشة رضى الله عنها أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليها فرأى كسرة ملقاة فمسحها، وقال: يا عائشة: " أحسنى جوار نعم الله فإنها قلما نفرت عن أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم" ذكره ابن أبى الدنيا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا بن القاسم حدثنا صالح عن أبى عمران الجونى عن أبى الخلد، قال: قرأت فى مسألة داود أنه قال: " يا رب كيف لى أن أشكر وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمك.

قال فأتاه الوحى يا داود أليس تعلم أن الذى بك من النعم منى؟.

قال بلى يا رب، قال فإنى أرضى بذلك منك شكرا ".

وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبو موسى الأنصارى حدثنا أبو الوليد عن سعيد بن عبد العزيز قال: كان من دعاء داود: سبحان مستخرج الشكر بالعطاء ومستخرج الدعاء بالبلاء.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنى الأعمش عن المنهال عن عبد الله بن الحارث قال: أوحى الله إلى داود (أحبنى وأحب عبادتى وحببنى إلى عبادى.

قال: يا رب هذا حبك وحب عبادتك فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: تذكرنى عندهم فإنهم لا يذكرون منى إلا الحسن).

فجل جلال ربنا وتبارك اسمه وتعالى جده وتقدست أسماؤه وجل ثناؤه ولا إله غيره..

ومن دقيق نعم الله على العبد التى لا يكاد يفطن لها أنه يغلق عليه بابا فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب يسأله شيئا من القوت ليعرفه نعمته عليه.

وقال سلام بن أبى مطيع دخلت على مريض أعوده فإذا هو يئن فقلت له: أذكرى المطروحين على الطريق، أذكرى الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم.

قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه: أذكرى المطروحين فى الطريق، اذكرى من لا مأوى له ولا له من يخدمه.

وقال عبد الله بن أبى نوح: قال لى رجل على بعض السواحل: كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟.

قلت: ما أحصى ذلك كثرة.

قال: فهل قصدت إليه فى أمر كربك فخذلك؟.

قلت: لا والله، ولكنه أحسن إلى وأعاننى.

قال: فهل سألته شيئا فلم يعطكه؟.

قلت: وهل منعنى شيئا سألته، ما سألته شيئا قط إلا أعطانى ولا استعنت به إلا أعاننى.

قال: أرأيت لو أن بعض بنى آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنت أقدر له على مكافأة ولا جزاء.

قال: فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له فى أداء شكره وهو المحسن قديما وحديثا إليك، والله لشكره أيسر من مكافأة عباده، إنه تبارك وتعالى رضى من العباد بالحمد شكرا.

وقال سفيان الثورى: ما كان الله لينعم على عبد فى الدنيا فيفضحه فى الآخرة، ويحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه.

وقال ابن أبى الحوارى: قلت لأبى معاوية: ما أعظم النعمة علينا فى التوحيد نسأل الله أن لا يسلبنا إياه، قال: يحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه، والله اكرم من أني ينعم بنعمة إلا أتمها، ويستعمل بعمل إلا قبله.

هناك ناس لهم طباع غبية كنود، تسدى إليهم الجميل بعد الجميل؟ فكأنما ترقم على ماء لا يبقى فى نفوسهم أثر منه، ولا اعتراف به.

وكثير ممن نلقى على هذا الغرار الردئ يجىء أحدهم بطلبه فتحس أنه محرج، وأنه محتبس فى دائرة هذه الحاجة التى يفتقدها.

فإذا قضيتها له ولى مدبرا ولم يعقب!

فإذا احتاج مرة أخرى أتى واللهفة بادية فى سؤاله وحالته حتى إذا تم له ما يريد انصرف على عجل أو بعد كلمات ميتة لا تترجم عن قلب حاضر، ولا فؤاد واع.

هؤلاء الناس يظنون أن الحياة مكلفة بتيسير مطالبهم، فحسبهم أن يمدوا أيديهم لتعود بما يبتغون، كما تمد الدواب أفواهها إلى الكلأ وورق الشجر لتطعم منه متى شاءت دون إحساس بفضل من غرس وصنيع من منح!.

كذلك هم حذوك النعل بالنعل يحتاجون فيجدون فيولون!!

فماذا منعتهم شيئا مما يريدون ارتفعت صيحاتهم بالسخط والسباب والاستنكار.

لماذا؟ إنه صراخ الحيوان المحروم.

فهلا إذا تألمتم من الحرمان أبديتم الرضا والشكر لدى العطاء.

كثير من الناس يعاملون الله بهذا الأسلوب السافل، يسألونه فيجيبهم فإذا رجع أحدهم بيده حافلة مر كأن لم يدع ربه إلى ضر مسه، مر دون شكر ودون حياء.

فإذا احتاج ـ وما أسرع الاحتياج ـ عاد بذات الشعور وذات الكنود، فلماذا يتألم إذا لدغته آلام الحرمان والطرد؟.

إن المنع أيسر ما يقابل به الشخص الجاحد فهو لا يذوق طعم العطاء، ولا يقدر صاحبه.

ونحن ـ جماهير البشر ـ نصبح ونمسى نخوض فى نعم الله خوضا، فلماذا لا نوقظ أفكارنا الغافية إلى معرفة تلك المنن؟ ولماذا لا نوقظ ضمائرنا لشكر مرسلها؟.

تلفت يوما إلى ما مضى من حياتى فرأيت صيبا من الخيرات قد غفرنى ظاهره وباطنه ومتونه وحواشيه، وأحسست أن ما يضايقنى أحيانا كان علاجا حكيما لعلل نفسية لو بقيت معى لكبت بى ونالت منى!.

وساءلت نفسى.

كيف شكرها على هذا الخير الغدق؟ فكان الجواب: لقد شكرت النعماء يوم قدمت، فلما استقرت بدأ الشعور الحار يبرد والاعتراف بالجميل يخف !

كذلك يفعل الناس، وتلك عادتهم مع المنعم الأعلى، فهل هذه سبيل الاستزادة من خيره وبره؟؟.

وتذكرت كلمة لابن عطاء الله " كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد "؟.

إن استصحاب الشعور بالعطاء السابق هو أخصر الطرق لاستدرار العطاء اللاحق، ولابن الجوزى فى هذا خاطر لطيف.

قال رضى الله عنه: " بلغنى عن بعض الكرماء أن رجلا سأله فقال: أنا الذى أحسنت إلى يوم كذا وكذا، فقال: مرحبا بمن يتوسل إلينا بنا، ثم قضى حاجته...!

فأخذت من ذلك إشارة فناجيت بها ربى فقلت: أنت الذى هديته من زمن الطفولة، وحفظته من الضلال!

، وعصمته من كثير من الذنوب.

وألهمته طلب العلم لا بفهم لشرف العلم ـ لموضع الصغر ـ ولا بحب والده ـ لموت الوالد.

ورزقته فهما لتفقهه وتصنيفه، وهيأت له أسباب جمعه.

وقمت برزقه من غير تعب منه، ولا ذل للخلق بالسؤال، وحاميت عنه الأعداء، فلم يقصده جبار إلا انهزم، وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم التى لا تكاد تجتمع فى شخص، وأضفت إليها تعلق القلب بمعرفتك ومحبتك وحسن العبارة ولطفها فى الدلالة عليك.

ووضعت له فى القلوب القبول، حتى إن الخلق يقبلون عليه ويقبلون ما يقوله، ولا يشكون فيه، ويشتاقون إلى كلامه، ولا يدركهم الملل منه، وصنته بالعزلة عن مخالطة من لا يصلح، وآنسته فى خلوته بالعلم تارة وبمناجاتك أخرى.

وإن ذهبتُ أعدُّ لم أقدر على إحصاء عُشير العشر (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

فيا محسنا إلى قبل أن أطلب، لا تخيب أملى فيك وأنا أطلب.

فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك ".

ويقول ابن الجوزى رضى الله عنه: " نازعتنى نفسى إلى أمر مكروه فى الشرع، وجعلت تنصب لى التأويلات وتدفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة.

فلجأت إلى الله تعالى فى دفع ذلك عن قلبى، وأقبلت على القراءة، وكان درسى قد بلغ سورة يوسف فافتتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبى حتى لا أدرى ما أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: (قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)

، انتبهت لها وكأنى خوطبت بها.

فأفقت من تلك السكرة، فقلت يا نفس أفهمت؟.

هذا حر بيع ظلما فراعى حق من أحسن إليه، وسماه مالكا، وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: إنه ربى.

ثم زاد فى بيان موجب كف كفه عما يؤذيه فقال: أحسن مثواى.

فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك وهداك أقوم طريق، ونجاك من كل كيد...؟.

وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن؟.

وسهل لك مدارك العلوم حتى نلت فى قصير الزمان ما لم ينله غيرك فى طويله.

وجلى فى عرصه لسانك عرائس العلوم فى حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن.

وساق رزقك بلا كلفة تكلف، ولا كدر من، رغدا غير نزر.

والله ما أدرى أى نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالى عن خساسة؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل؟ أم استحباب طريق النقل واتباع الأثر من غير جمود على تقليد لمعظم ولا انخراط فى سلك مبتدع؟.

(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

كم كائد نصب لك المكايد فوقاك؟.

كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟.

كم أعطش من شراب الأمانى خلقا وسقاك؟.

كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك؟.

فأنت يا نفس تصبحين وتمسين سليمة البدن؟ محروسة الدين، فى تزيد من العلم وبلوغ الأمل.

فإن منعك مراد فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة فى المنع فسلمى حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح.

ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره امتلات الطروس ولم تنقطع الكتابة.

وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر؟ وأن ما أومأت إلى ذكره ليم يشرح… فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه بعد ذلك كله؟ (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون).

الخوف: الخوف من الله عاطفة تنبع من حسن معرفته، وكمال العلم به، فهى ليست وجلا مبهما لا يدرى مأتاه أو نتائجه، بل الخوف شعور واضح بجلال الخلاق العليم، وما ينبغى إكنانه له من مهابة، وإعظام.

وكيف لا يخشى جبار السموات والأرض الذى بيده ملكوت كل شئ، والذى لا تماسك شىء إلا بإيجاده وإمداده، والذى لا يعترض غضبه شئ إذا أعلن غضبه على أحد (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير).

إن الإنسان عادة يشعر بانتفاء ذاته أمام من تبهره عظمتهم، وهذا ما يسميه علماء النفس: الشعور السلبى بالذات، وهو شعور يشتبك مع انفعالات نفسية أخرى، فيكون عواطف الإعجاب، والتهيب، وما أشبه ذلك.

وأحق من يقف البشر بساحته وهم مفعمون بالخضوع والاستكانة، والزلفى، والاستجداء هو الله جل شأنه الذى ترجع إليه أمورهم كلها فيبت فيها بتا لا معقب عليه (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور * أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور).

وليس أساس الشعور بالخوف من الله هذا وحده، نعم إن المرء يفرق من الهزيمة ومن الفقر، ويقف قلقا مضطربا أمام من يستطيع أن يوقع به شيئا من ذلك، لكن بناء الخشية على ذلك فقط لا يليق.

إن الخوف يرتبط بالمعرفة، فإذا رأيت امرءا يتعرض لتيار كهربائى صاعق، أو يتوقف أمام قطار حديدى منطلق فهو إما جاهل أو مجنون.

إن العلم بخصائص الأشياء يملى على صاحبه التصرفات المناسبة.

ومن عرف الله معرفة اليقين، انمحت من نفسه كل آثار الجرأة والبرود وساورته بين الحين والحين مشاعر الوجل والحذر.

وهى مشاعر لا يستغنى عنها حى فى حكم نفسه وضبط سلوكه.

ثم هى الباعث الدائم على استرضاء الله، وفعل ما أمر وترك ما نهى (إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه).

على أن الأفراد والجماعات لهم فى جنب الله زلات مخوفة، وكم يقترف البشر من الرذائل التى تجر عليهم الويل، لأنها محاداة لله واستهانة بحقه، وعمى عما يجب له.

ولو أن المعصية تلقى جزاءها العدل على عجل لخسف بآتيها، وذاق للفور عقبى جهله وغروره (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة).

ولكن الصبور جل شأنه يمنح الخطائين فرصا واسعة كى يثوبوا لرشدهم ويعتذروا لربهم.

(... ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى).

من الجائز أن تنفجر فى أجسادهم مراجل الغضب الإلهى بغتة، وهم سادرون فى غيهم فلا تبقى منهم أحدا، ولا تدع لهم وسما ولا رسما ...

وقد قص علينا المولى فى كتابه أخبار الأمم الأولى، وكيف هانت على الله لما أهانت أمره، وكيف نكل بها لما نكلت عن الصراط المستقيم (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون * أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون).

والخوف من الله عاطفة تدل على شرف النفس، ويقظة الحس، وامتلاك الزمام فى الساعات الحرجة، وإنه لرجل جدير بكل احترام ومثوبة هذا الذى يستمكن مما يشتهى، ثم يمتنع عنه وهو خال لا لشىء إلا لأن الله يراه.

علام يدل هذا المسلك؟.

إنه يدل على إيمان بالله عميق، وعلى أن ذلك الإيمان يقظان ليؤدى واجبه كالديدبان الحارس، وعلى أنه لما استثيرت النفس نهض إليها، وفرض وجوده وحده فحسم نوازع الشر.

ولذلك جاء فى حديث السبعة الذين يظلهم الله، يوم لا ظل إلا ظله!. "...

ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنى أخاف الله " .

وهناك من يبتعد عن مثل هذه الجريمة حرضا على سمعته، وقهرا لشهوته، وعلى لسانه قول القائل: ذكرت تعلة الفتيان يوما وإسناد الملامة للمليم وهذا السلوك ـ وإن كان شرف نفس ـ إلا أنه ليس أثر الإيمان الذى يجب أن يملأ أرجاء النفس، وأن يسيطر على بواعث الفعل والترك فيها.

نعم، هو شرف لأن الذى يدع رذيلة ما، حتى لا يقفه الناس موقف تثريب وتقريع، أفضل ممن يغلبه هواه، فلا يبالى ما يلقى من ذم.

إلا أن سيرة المؤمن الذى يخاف الله أشرف وأحق بالتنويه...

إذ أنه ترك الإثم هنا لسبب أجل هو الخوف من جلال الله.

ثم المؤمن الذى يعرف الخير والشر، والحسن والقبيح من لسان الشارع لن يضل فى معرفة العيب الذى يتركه، والخير الذى يفعله.

ولو أنه تلقى ذلك من أفواه الناس الذين يطلب ثناءهم ويخشى ملامهم لأمكنه فى عصرنا هذا أن يسكر وأن يزنى وهو مطمئن إلى أن مواهبه الأخرى ستجعله عظيما محبوبا...

إن مخافة الله بترك ما حرم هى الأساس الأعظم فى تكوين الشخص الشريف المأمون.

ومن الخطأ حسبان الخوف وحده هو الحاجز عن الشر، والدافع إلى الخير، إن الواقع فى حياة المؤمن غير هذا، والمفهوم من طبيعة الإيمان غير هذا...

فقد يترك المرء المعصية حياء من المنعم، أو رجاء ما عنده، أو شعورا نفسيا وعقليا بدمامتها، أو حبا غالبا لله الذى أمر ونهى.

والمؤمنون ليسوا سواء فى هذه البواعث، بل المؤمن الفذ تختلف أحواله فى استقبال ما يعرض له، فقد يفعل الشىء أو يتركه بدافع الرغبة حينا وبدافع الرهبة حينا، وبدوافع أخرى حينا آخر.

والخوف من الله دافع بارز فى حياته من غير شك، وهو دافع معقول، فمن ظن الخوف لا يعرض للبشر أصلا فهو مبطل، ومن ظن الخوف من أى شىء أنفس معدنا، وأرقى دلالة من خشية الله فهو كاذب.

ومن ثم كان الخوف من الله ركنا فى الإيمان به (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا).

ويكاد الخوف يكون وحده العامل الحاسم فى كثير من المواقف القلقة، والعاصم المنجى عن ثوران بعض الغرائز العنيفة وجماحها الشديد.

سيما وقد نبهنا إلى أن الخوف وليد المعرفة، فكلما اتسعت معرفة المرء لله ازداد مهابة له، وحذرا من مخالفته، وإكبارا لحقه.

عن عائشة رضى الله عنها قالت: " صنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرا فترخص فيه، فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه، وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فقام خطيبا فقال: ما بال رجال بلغهم عنى أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه، فوالله إنى لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " .

وفى خوف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ربه، وفي تخويف المسلمين عامة من بطش الله وعذابه نقرأ قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون).

وقد تضمنت سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نماذج إنسانية لأثر هذا الخوف العالى فى تطهير السلوك الإنسانى، وقيادته ـ إذا اضطرب ـ نحو الصراط المستقيم.

إن امرأة ضغطت عليها الحاجة حتى ألجأتها إلى التفكير فى تسليم نفسها لمن يملكون المال ولا يملكون الخلق وأولئك فى الحياة كثير!.

فلما واجهت المكروه ارتعد بدنها، وتلوى الشرف المكظوم فى نفسها فلم تملك إلا البكاء...

عن ابن عمر قال: " سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : كان الكفل من بنى إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله.

فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها.

فلما أرادها على نفسها ارتعدت وبكت.

فقال: ما يبكيك؟.

قالت: لأن هذا عمل ما عملته، وما حملنى عليه إلا الحاجة.

فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله!

فأنا أحرى.

اذهبى فلك ما أعطيتك، ووالله ما أعصيه بعدها أبدا.

فمات من ليلته، فأصبح مكتوبا على بابه.

إن الله قد غفر للكفل فعجب الناس من ذلك " .

إن المرأة الطهور سر هذا التحول فى نفس رجل قضى أغلب عمره فى الآثام، ثم سرت فى روحه عدوى الخير والعفاف والتقوى فأقلع عن غيه، واجتث أصول الشر من قلبه، وغيره الخوف من الله، فآلى على نفسه لا يعصيه أبدا.

فما أدركه الأجل وهو على هذه النية الجازمة كانت توبته قد غسلت خطاياه، فمات مغفورا له!!

إن خشية الله شىء عظيم...!!

وإن النذر لتتلاحق فى آيات الكتاب العزيز كى تشعل فى الضمير هذا الشعور الهادى فلا يتعثر المرء ولا يضطرب.

وإيقادا لهذه الشعلة، وارتقابا لما يعقبها من آثار سجلت السنة النبوية قصة غريبة لرجل طالت إساءته، فلما احتضر اختلط فى نفسه أمران: خوفه من عقبى ما فعل فى ماضيه الطويل، وجهله الذى حيره فى وسيلة للخلاص منه!.

فماذا يصنع؟ امتزج خوفه وجهله فى عاطفة ساذجة ووصاة جمع أولاده على تنفيذها بعد موته.

قال عليه الصلاة والسلام: " كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقونى، ثم اطحنونى، ثم ذرونى فى الريح، فوالله لئن قدر الله على ليعذبنى عذابا ما عذبه أحد.

فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعى ما فيك ففعلت، فإذا هو قائم.

فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له ".

الرجاء: الوجود الذى نحسه، وما يكمن فى تضاعيفه من لطف وبر، هو نعمة محض لا علة لها إلا محض الفضل الأعلى.

إن المرء ينام وتبقى فى عروقه وأعصابه عشرات القوى التى تضبط حياته لا تهن ولا تسكن.

من الذى استبقاها يقظة دائبة؟ بل من الذى أبدعها ابتداء من صميم العدم؟ إنه الله.

إنه لم يخلقك إثر سؤال منك، ولم يشرف عليك وأنت جنين، ثم وأنت رضيع لأنك طلبت منه ذلك، إنه فعل بك ذلك لأنه ـ من ذاته ـ منعم وهاب، واجد ماجد.

ولو كان يدير الأمور وفق الأسئلة والرغبات لاندكت الآفاق وسرت الفوضى فى كل ناحية.

إنه أرحم بالعباد من أنفسهم وأعرف بمصالحهم من منتهى تفكيرهم وعطفه السابق على مقدرات الخلائق هو الذى يسير الحياة، ويشيع فيها الخير، ويضمن لها البقاء.

وفى هذا يقول ابن عطاء: " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل عنايته فيك لا لشىء منك.

وأين كنت حين واجهتك عنايته وقابلتك رعايته؟.

لم يكن فى أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال، لم يكن إلا محض الإفضال وعظيم النوال ".

إن الفضل ينبثق من ذى الجلال والإكرام لأن ذلك وصفه ـ كما ينبثق الشعاع من الشمس ـ ولله المثل الأعلى ـ لأن طبيعتها الاتقاد.

إن الملك الجليل الشأن الذى انبسط سلطانه على كل شىء فهو فى السماء إله وفى الأرض إله، ويعطى ويغدق لأن الكمال نعته سواء عرف البشر ذلك أم أنكروا.

وعطاؤه على قدر عظمته، ومن ثم فهو أحق من يرجى ويقصد!!

إن البشر يتهافتون على من يأنسون فيه القوة والغنى التماس جداء وابتغاء نداء، ولو عقلوا لعلموا أن ما لديه قطرة معارة، وأن أحق من يشدون إليه الرحال ويربطون به الآمال، هو الكبير المتعال.

إن الأساس فى طبائع البشر طرا، مهما سمت مناصبهم وبدت قدراتهم، أنهم يأخذون لا يعطون.

أليسوا فقراء إلى الله، عالة على فضله؟ فالاتجاه بالرجاء إليهم طيش.

أما الرجاء فى الله فعمل وافق موضعه وأصاب هدفه.

ثم إن جمهرة البشر حين يسألون تتحرك فيهم صفاتهم الفطرية، فهم بين جاهل بحال السائل، أو عالم بها عاجز عن علاجها، أو قادر يمنعه شح نفسه عن الإجابة.

وتلك كلها آفات منفية عندما يتجه الرجاء إلى الله جل جلاله.

ولذلك ترى أولى الألباب يقصدونه بالمطالب الجسام وهم راجون ألا ينقلبوا عن ساحته إلا راضين...

قال ابن الجوزى : خلقت لى همة عالية تطلب الغايات.

بلغت السن وما بلغت ما أملت، فأخذت أسأل تطويل العمر، تقوية البدن، وبلوغ الآمال.

فأنكرت على العادات وقالت: ما جرت عادة بما تطلب.

فقلت: إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات.

وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: اطلبوا لها رجيلا.

وقيل لآخر جئناك فى حاجة لا نرزؤك.

فقال: هلا طلبتم لها سفساف الناس؟ فذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا فلم لا نطمع فى فضل كريم قادر"؟.

ترى ما هى العظائم التى نقف بباب الله راجين أن نثوب بها؟ ما هى الأعطية الجزلة التى نتمنى على الله قضاءها، ونراه جل شأنه أهلا للإفضال بها وبأضعافها.

إن كل أمرئ يحب ألا يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا امتلكه.

ولو أن الله منح العباد ما يشتهون من ذلك كله ما تعب، ولا نقصت خزائنه.

غاية ما يجب أن نتصارح به، أنه لا يجوز أن نطلب إثما ولا جهلا ولنضرب لذلك مثلا.

إن الحياة الدنيا دار اختبار، وهى ممر لا مستقر، والآخرة عند الله أزكى منها وأبقى، فإذا وفد بشر على الله بآماله التى يطلب تحقيقها، وكانت هذه الآمال مضادة لهذه الحقائق كلها، بأن كانت الدنيا فى وعيه أرجح من الآخرة وكانت رغبته لا تعدو إشباع نهمته منها وحسب!

أترى هذا الجاهل يعود إلا بخيبة الرجاء؟.

إن المشكلة التى يجب أن تنحل فى أذهان الناس أولا هى تصور حقائق الحياتين..!!

وشىء آخر: ماذا يجاب إليه طفل يحب أن يبقى طول عمره رضيعا؟ أيحقق له رجاؤه؟ إن أغلب الناس ينزلون فى أدعيتهم عند نداء طبائعهم، ولو أجيبوا لعاشوا أطفالا لا يحملون من أعباء التكاليف شيئا.

إن الله أهل لأن تنزل عليه بكل ما يجيش فى نفسك من آمال.

وإذا كان قد أعطى تفضلا من غير سؤال، فهل يرد سائلا جاءه راجيا؟ بيد أننا بحاجة إلى العقل والأناة والتبصر.

أعجبنى ما رواه ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهارى، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبت عنده فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله سبحان ربى، حتى أمل أو تغلبنى عيناى فأنام.

فقال يوما: يا ربيعة سلنى فأعطيك.

فقلت: انظرنى حتى انظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجينى من النار ويدخلنى الجنة.

فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: من أمرك بهذا؟.

قلت: ما أمرنى به أحد ولكنى علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذى أنت منه فأحببت أن تدعو الله لى.

قالى: إنى فاعل فأعنى على نفسك بكثرة السجود .

(وفى بيان ما يرجو العبد، وتتعلق به همته يقول ابن الجوزى: دعوت يوما فقلت: اللهم بلغنى آمالى من العلم والعمل، وأطل عمرى لأبلغ ما أحب من ذلك: فعارضنى وسواس من إبليس، فقال ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذى ينفع طول الحياة؟.

فقلت له: يا أبله.

لو فهمت ما تحت سؤالى علمت أنه ليس بعبث.

أليس فى كل يوم يزيد علمى ومعرفتى فتكثر ثمار غرسى.

فأشكر يوم حصادى؟.

أفيسرنى أنى مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأنى ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتى به اليوم.

وكان ذلك ثمرة طول الحياة التى فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت من حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها قدرى، وتجوهرت بها نفسى.

ثم زاد غرسى لآخرتى، وقويت تجاربى فى إنقاذ المباضعين من المتعلمين، وقد قال الله لسيد المرسلين: ( و قل رب زدني علما).

وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا.

وفى حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة ".

فياليتنى قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل رفع ونفع).

عندما قرأت كتاب " صيد الخاطر " لابن الجوزى أحسست أن الرجل عبر بكلمات بصيرة بليغة عن خوالج نفسية تحركت فى باطنى، وسجلت أطرافا منها قبل أن أطلع على كتابه هذا.

وربطنى بالرجل إلى جانب ذلك أنه مشغول بتعليم الإسلام ونصح الجماهير، وهى الوظيفة التى شرفنى القدر بها...

والناس يظنون فى رجال الدين ـ كما يسمونهم ـ جمود الحس، وسواد المزاج، وفقدان القدرة على تذوق الحياة.

وهذه أوصاف قد توجد فى نفر ممن نكبت به الأديان قديما وحديثا، وهى موجودة يقينا فى طوائف أخرى، ولكن سوء الحظ جعل النظرة العجلى تتناول خدام الإيمان وحدهم بهذا الاتهام...!!

وكثيرا ما أبتسم فى حرج ونفرة وأنا أرى كثيرا من المعلولين فى خلقهم الغموصين فى مواهبهم يستطيعون ـ بحكم مراكزهم القوية فى المجتمع ـ أن ينالوا منا، وأن يضربوا حولنا أسوارا من حديد لنحيا كما يريدون لا كما تتطلب ملكاتنا وقدراتنا و خبراتنا.

وكم يكظم الإنسان الآلام فى نفسه، وهو مفعم بالأشواق إلى الجمال والعزة والاستغناء، ثم يمد بصره فلا يرى حوله إلا الدمامة والهوان والعيلة.

وما أغرب الناس، إنهم يشتهون الدنيا، وينحنون لملاكها فى ضراعة ووضاعة، وفى الوقت نفسه يحرمونها على علماء الدين؟ ثم يحتقرونهم لفقرهم، ولكل ما يستتبعه الفقر من مسكنة وقلق.

وكم يشعر الإنسان أنه بين نارين، إن سكت عن حقه فى الحياة ضاع واستمكن الرعاع من زمامه، وإن طلبه ـ فى بيئة ضنينة به ـ قيل: طلب دنيا يزاحم عليها..

إن أمثالنا من الدعاة إلى الله ينقلون أقدامهم بوجل فى سبيل مزحومة بالأقذاء والإنكار، لا يعين على السلامة فيها إلا الله، والذى لا نسأم دعاءه ورجاءه.

وما أنكر من نفسى أنى أحب الدنيا، ولبئست هى إن كانت مهادنة لظالم أو إغضاء عن منكر.

أما أن تكون دعما للحق، وغنى عن الأدنياء فنعما هى...

إن وجه الرذيلة شائه فى بصرنا، وطعمها مر فى مذاقنا، ونحمد الله إذ أورثنا كرهها.

أما طيبات الحياة التى تلهج الألسنة بالثناء، وتبعث الجوارح على الشكر فنعما هى، وما نستحيى من استحلائها والإكثار منها...

وربما كان لبعض الناس جلادة على خشونة العيش، واصطبار على كآبة المنظر فى الأهل والمال، لكنى والله أضيق بهذا وأستعيذ بالله منه.

ولست أطلب من الله سعة تشغل عنه، بل أطلب سعة تدفع إليه، وكثيرا يحصن من زراية السفهاء، ولعب الكبراء...

فإن كان ذلك بابا إلى نقص العلم، أو هوان المنزلة يوم القيامة فنرجو أن يجعل الله بيننا وبينه حجابا غليظا وأمدا بعيدا...

جالت هذه الخطرة فى نفسى وأنا أقرأ لابن الجوزى هذه النفثة التى سطرها فى كتابه " صيد الخاطر " يصف بها حياته ورجاءه.

وقلت: ألا ما أقرب الشبه بين عيش وعيش، وأمل وأمل.

قال: ـ غفر الله لنا وله ـ: " ما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته، فإن من علت همته يختار المعالى.

وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى فى عذاب.

وإنى أعطيت من علو الهمة طرفا فأنا به فى عذاب، ولا أقول: ليته لم يكن، فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل.

ولقد رأيت أقواما يصفون علو هممهم.

فتأملتها فإذا هى فى فن واحد، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضى: ولكل جسم فى النحول بليلة وبلاء جسمى من تفاوت همتى فنظرت فإذا هذا غاية أمله الإمارة.

وكان أبو مسلم الخرسانى فى حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له فى ذلك، فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفسى تتوق إلى معالى الأمور مع عيش كعيش الهمج الرعاع.

قيل: فما الذى يبرد غليلك.

قال: الظفر بالملك.

قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال.

قيل: فاركب الأهوال، قال!: العقل مانع.

قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلى جهلا، وأحاول به خطرا لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.

فنظرت إلى حال هذا المسكين، فإذا هو قد ضيع أهم المهمات، وهو جانب الآخرة، وانتصب فى طلب الولايات، فكم فتك وقتل؟ حتى نالى بعض مراده من لذات الدنيا.

ثم لم يتنعم فى ذلك غير ثمان سنين.

ثم اغتيل، ونسى تدبر العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال.

وكان المتنبى يقول: وفى الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكن قلبا ـ بين جنبى ـ ماله مدى ينتهى بى فى مراد أحده يرى جسمه يكسى شفوفا تربه فيختار أن يكسى دروعا تهده فتأملت هذا الآخر، فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب.

ونظرت إلى علو همتى فرأيتها عجبا.

وذلك أننى أروم من العلم ما أتيقن أنى لا أصل إليه، لأنى أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها.

وأريد استقصاء كل فن، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه.

فإن عرض لى ذو همة فى فن بلغ منتهاه ورأيته ناقضا فى غيره، لم أعد همته تامة.

مثل المحدث الذى فاته الفقه، والفقيه الذى فاته علم الحديث، فلا أرى الرضى بنقصان شىء من العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة.

ثم إنى أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.

ثم إنى أروم الغنى عن الخلق، واستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم من الكسب وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.

ثم إنى أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عنى بعد التلف.

وفى طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.

ثم أرنى أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفى ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرق جمع الهمة.

وكذلك أطلب لبدنى ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه واللطف، وفى قلة المال مانع، كل ذلك جمع بين أضداد.

فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟.

وأنا لا أحب أن يخدش حصود شىء من الدنيا وجه دينى بسبب.

ولا أن يؤثر فى علمى، لا فى عملى.

فواقلقى من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف.

وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم.

وما أسفى على ما يفوتنى من المناجاة فى الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم.

ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة.

غير أنى قد استسلمت لتعذيبى، ولعل تهذيبى فى تعذيبى، لأن علو الهمة تطلب المعالى المقربة إلى الحق عز وجل.

وربما كانت الحيرة فى الطلب دليلا إلى المقصود.

وها أنا ذا أحفظ أنفاسى من أن يضيع منها نفس فى غير فائدة.

وإن بلغ همى مراده...

وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله ".

والرجاء فى الله تعالى، وحسن الظن به، إنما يقبلان إذا أقترنا بالعمل الواجب، وصحبهما الإسراع فى حق الله تعالى، والسهر على مرضاته.

أما مع البطالة والاسترخاء فلا مكان لرجاء ولا موضع لحسن الظن.

وتدبر قوله تعالى يصف من ترشحهم أعمالهم لرضاه: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم).

إيمان وهجرة وجهاد، تلك هى التى يرجو أصحابها فضل الله تعالى.

أما الريبة والقعود والراحة فلا تبلغ أملا، ولا تنتج إلا شرا.

وتدبر قوله تعالى يحصى أنواعا أخرى من البر، هى التى تؤهل لحسن القبول : (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور).

تلاوة القرآن ـ يعنى إحياء تعاليمه.

وإعزاز شرائعه ـ والنفقة التى تسد ثغرات المجتمع ما علن منها وما خفى، والإقبال على الصلوات الجامعة إقبالا يعلى ذكر الله تعالى فى الحياة، ويجعل الهتاف باسمه وحده شارة الأمة، تلك هى أسباب الرجاء الحق، وتأميل النصر، والتمكين، والنعماء.

وللناس ـ بطبيعتهم البشرية ـ أخطاء تبدر منهم ـ ويسيئون بها إلى أنفسهم وغيرهم، وربما جرت غضب الله عليهم، إلا أنهم إذا أحسوا سوءها، وضرعوا إلى الله تعالى أن يفك عنهم إصرهما، كان للرجاء فى غفران الله تعالى موضع.

إن هذا الرجاء الحار لا يجوز أن يفارق المؤمن فى أى لحظة من حياته، سواء كان قوى الساعد يضرب فى الأرض ببأس، أو وهو يولى ظهره للحياة، ويضع قدمه على عتبة الآخرة قادما إلى الله تعالى.

عن أنس رضى الله عنه أن النبى دخل على شاب وهو فى الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإنى أخاف ذنوبى.

فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " لا يجتمعان فى قلب عبد فى مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف " .

وعن حيان أبى النضر قال: خرجت عائدا ليزيد بن الأسود، فلقيت وائلة بن الأسقع وهو يريد عيادته، فدخلنا عليه، فلما رأى وائلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل وائلة حتى جلس، فأخذ يزيد بكفى وائلة فجعلها على وجهه.

فقال له وائلة: كيف ظنك بالله؟ قال : ظنى بالله ـ والله حسن.

قال: فأبشر، فإنى سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدى بى ، إن ظن بى خيرا فله ، وإن ظن بى شرا فله " وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أمر الله عز وجل بعبد إلى النار، فلما وقف على شفتها التفت!

فقال: أما والله يا رب إن كان ظنى بك لحسنا.

فقال الله عز وجل: ردوه، أنا عند حسن ظن عبدى بى ".

وهذا الحديث ضعيف السند، ومعناه يقبل فى حدود الدائرة التى رسمناها من صحيح الكتاب والسنة، وأقصى ما يشير إليه التنويه بقيمة حسن الظن إن الشخص الذى يحسن بك الظن يعرفك معرفة لا بأس بها، وإن كانت المعرفة فنا أوضح فى ناحية الرحمة والتجاوز.

وهو قد يخطى فى حقك لاختلال المقاييس التى يزن بها الأمور، لكنه ـ مع هذا الخطأ ـ لا يوصف بأنه لك عدو، إنه صديق، أو تابع، لم يحسن التصرف فقط.

وربما انضم إلى هذه الخلة ما يعرض صاحبها لمؤاخذات قاسية.

وحديث الرجل الذى التفت إلى الله ـ وهو على شفا الهاوية ـ وفى فؤاده رجاء لم يغرب شعاعه، جعله إلى الرمق الأخير يتلفت آملا الغوث، غير مصدق أن الله يسلمه إلى هذا المصير.

هذا الحديث ـ إن صح ـ لا يهون من قيمة العمل.

إنه يصور حالة امرئ مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وكان يجوز أن يقذف فى النار لتحرق بقايا السوء فى نفسه، كما سيقع ذلك لكثير من المؤمنين الذين بينت السنن الصحاح عقبى تخليطهم، وتفريطهم، غير أن الله جلت رحمته عفا عنه.

وكأن كفة الخير فى عمله كان ينقصها القليل لتميل جهة اليمين، فكان حسن ظنه بالله ـ وحسن الظن إيمان ـ المرجح الذى نجا به.

أما قلة الاكتراث بالواجب، وسرعة التهاوى على المحرم فلا يمكن أن يكونا فى نفس تحسن بالله تعالى الظن، بل هما فى نفس صدق عليها إبليس ظنه.

ومن التلاعب بالألفاظ أن ترى أمما جاهلة بالله تعالى، تمرق فى حدوده، وتهدر أحكامه، وتؤمل مع ذلك فى نعيمه ورضوانه بدعوى أنها تحسن الظن بالله تعالى.

ومن أدعياء التدين من يشغب على قواعد الدين، ومن يجرئ العامة والخاصة على الإفلات من ربقته باسم الأمل فى الرحمة، والتعويل على حسن الظن.

وذلك كله ضرب من الفوضى الفكرية والخلقية لا يجوز السكوت عليه، وقد حاربه الأئمة من قديم، وشددوا النكير على أصحابه، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالى: قال يحيى بن معاذ: من أعظم الاغترار عندى التمادى فى الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصى، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمنى على الله عز وجل مع الإفراط: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجرى على اليبس قال: وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض،.

والإيمان كالبذر فيه.

والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها.

والقلب المستهتر بالدنيا، المستغرق بها كالأرض السبخة التى ينمو فيها البذر.

ويوم القيامة يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه.

وكما لا ينمو بذر فى أرض سبخة، فينبغى أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس، ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه فى أوقاته، ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، سمى انتظاره رجاء.

وإن بث البذر فى أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلا، ثم انتظر الحصاد منه، سمى انتظاره حمقا وغرورا لا رجاء.

وإن بث البذر فى أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا، سمى انتظاره تمنيا لا رجاء.

فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلية تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع المفسدات.

فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات، وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره رجاء حقيقيا محمودا فى نفسه، باعثا له على المواظبة والقيام بمقتضى الإيمان فى إتمام أسباب المغفرة إلى الموت.

وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات، وترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق، وانهمك فى طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة، فانتظاره حق وغرور.

قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانى " .

وقال تعالى : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا).

وقال تعالى : (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا).

وذم الله تعالى صاحب البستان إذ دخل جنته وقال: (ما أظن أن تبيد هذه أبدا * و ما أظن الساعة قائمة و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا).

فإذن العبد المجتهد فى الطاعات، المتجنب للمعاصى، حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا دخول الجنة أ. هـ.

التوكل: التوكل شعور بهيمنة الله على الحياة، وبأن حركاتها وسكناتها محكومة بحوله وقوته لا يمكن أن تند منه أو تبعد عنه.

واستقرار هذا الشعور فى القلب يجعل صلة الإنسان بربه عميقة، وركونه إليه باديا.

ولكى ندرك الأساس العقلى لهذا الشعور يجب أن نلقى نظرة لا افتعال فيها على ما يدور حولنا من شئون، وعلى مسلكنا المعتاد بإزائه.

إن أحدنا يخرج من بيته إلى عمله فى الصباح، وهو مالك لأمره، يعتقد أنه ليس عليه اكثر من أن يحرك قدميه إلى حيث يصل، وتلك وسائل مقدورة له.

ولعل الماديين من الناس يقولون.

وما دامت تلك الوسائل فى حوزته فلا معنى للتفكير فيما وراءها.

ونريد نحن أن نتأمل فى هذا القول، ومدى صدقه.

هل صحيح أن الوسائل الموصلة فى أيدينا؟.

لننظر إلى الكيان البشرى نفسه.

إن الساعة التى فى معصمك، والمنبه الذى فى بيتك لا يدوران إلا بعد أن تملأهما يوميا، فإن غفلت عن ذلك توقفت العقارب وسكت الدق.

أفكذلك قلبك بين حناياك؟ إن دقاته لا تهدأ أبدا، إنه يخفق أردت أو لم ترد، إنه يواصل عمله ليلا ونهارا، وأنت نائم وأنت يقظان، فهل لك عليه من سلطان؟ فإذا خرجت من بيتك، وشاء مالك التصرف فيه أن يقفه فمن يمنعه؟.

ولنفرض أنك مالك أجهزتك الظاهرة والباطنة، وأن هيمنتك عليها شاملة كاملة، فماذا تملك من ظروف الحياة الخارجية؟ إن الحركة الواسعة التى تدور فى الشارع بعيدة عن نطاق حكمك، ولو تنبه حسك أشد التنبه ما أمكنك أن تسيطر على كل شىء، ويمكن على حين غرة أن تصاب بأذى شديد من قشرة برتقالة تحت قدمك، أو من سيارة مارقة لم يحسن قائدها الابتعاد عنك.

إن هناك أشياء كثيرة لا يتم مراد الإنسان إلا بتوفيرها جميعا، وهذا التجميع والتنسيق لا تحكمهما مشيئة بشر، ونحن المؤمنين لا نرد ذلك إلى حظوظ عمياء بل إلى مشيئة الخالق الكبير، المهيمن على كل شيء (وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون).

من أجل ذلك كثرت الأوامر فى الكتاب والسنة بالتوكل على الله جل وعلا، لأن التوكل دلالة علم بالله وصفاته وما ينبغى له...

وفيه بصيرة من العبد بالحدود التى تعمل فى نطاقها قدرته وإرادته، وبالمدى الواسع الذى تتصرف فيه الإرادة العليا والقدرة العليا.

والمتوكل بهذه اليقظة الفكرية والنفسية أهل لأن يظفر برعاية الله وتوفيقه ومحبته (إن الله يحب المتوكلين)، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا).

أى أن الله يكفى من لاذ به واعتمد عليه، وهو ـ سبحانه ـ يستحيل أن يفوته ما يريد، فهو بالغ أمره لا محالة، بيد أنه أدار الكون على قوانين مقدورة، وسنن معلومة (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم).

ومن الجهل بالله وصفاته ـ والجهل طريق الكفر إن لم يكنه ـ أن يتوقع أحد الخذلان والضياع مع ارتباطه بالله!!

وقد جاء فى نظم القرآن الكريم تساؤل غريب يكشف وجه الحق فى هذه القضية (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام )

والتوكل كلمة مظلومة، إنها تعنى ركون الإنسان إلى الله فيما لا طاقة له به لأنه لا يستطيع عمله.

أما ما يدخل فى حدود طاقته ويملك البت فى بدايته ونهايته فلا مكان للتوكل فيه.

إذا دخل الليل وهو فى حجرته نهض إلى المصباح فأوقده، هذا عمله الذى يقوم به ولا ينتظر من السماء أن تنوب عنه فيه.

إذا سار فى طريق التزم الجانب الأيمن، وتجنب مظان الخطر؟ وأجاب داعى الحذر، أما إيثار الفوضى والنزق وانتظار السلامة باسم التوكل فجهل...

إذا تقدم لمسابقة استكمل أهبة الفوز بما تفرض من كفاح ذهنى وعلمى وما تتطلبه من نشاط يقرب من الغاية...

إذا سكن بيتا غلق أبوابه ليلا، وتعهد ثغراته حتى لا يجد اللصوص لهم منفذا وهكذا.

من أجل ذلك أجاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأعرابى الذى سأله: أتركها وأتوكل أم أعقلها وأتوكل ـ يعنى ناقته ـ؟ فقال: أعقلها وتوكل.

ونبه الله المجاهدين ـ إذا ضمتهم جنبات الميدان ـ أن يكون انتباههم حادا وتيقظهم بالغا (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا).

وقبل أن يأمر الله نبيه بالتوكل عليه فى قوله: (فاعبده وتوكل عليه)

قبل ذلك مباشرة قال: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون).

فالأمر بالتوكل جاء بعد إعلان عن عمل موصول وصبر طويل.

ورأى أحد الأئمة فقيرا ينطلق إلى الحج دون زاد، فسأله أين زادك؟.

فقال: أنا متوكل على الله.

فقال له: أمسافر أنت وحدك؟ قال: بل مع القافلة.

فقال له: أنت متوكل على القافلة!!.

وصدق، فهذا متأكل لا متوكل، وهذا الصنف جاهل بالإسلام، ومعرفته بالله غامضة يشوبها حمق كثير.

والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد كل الوسائل المقررة فى عالم الشهادة، إيمان بالله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من واجبات.

والتوكل يجئ صدقا وسكينة فى موضعه الحق، ولنضرب لذلك الأمثال.

طلب الرزق غريزة لدى الأحياء كلهم ما إن تبدو تباشير الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار والصناع وأصحاب الحرف للدخول فى كفاح طويل أو قصير كى يحرز كل امرئ قوته وقوت أسرته.

وهذا الكفاح محك قاس للأخلاق والمسالك، فإن اللهفة على تأمين المعايش قد تلجىء أصحابها إلى الختل والتلون أو الكذب والحيف.

وربما وجدت الضعاف يتملقون الأقوياء، والصغار يذوبون فى الكبراء.

والإسلام يرفض أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة لهذه الآثام كلها، ومن ثم فهو يطلب بصرامة أن يكون الارتزاق من أبواب الحلال المحض، وألا يلجأ مسلم أبدا إلى غش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء: الوسائل التى حددها الشارع هى وحدها الأسباب الشريفة التى يقوم بها ثم يقف عندها مرتقبا فى ثقة ما تتمخض عنه من نتائج.

والتزام التقوى فى معالجة هذه الشئون وأمثالها هو منطق الإسلام، وهو منطق منتج لا عقيم قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه).

والتقوى هنا رعاية الشرف فى التكسب، والاستقامة فى الطلب، فإن إلحاح الرغبة فى طلب الكفاف أو فى طلب الثراء قد يدفع إلى اللؤم والعوج.

وحجزا للنفوس عن هذه المهاوى يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته " .

وغرسا لفضيلة التوكل عند طلب الرزق روى الغزالى فى الإحياء هذه الآثار.

قرأ الخواص قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا)

فقال: ما ينبغى للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى.

وقيل لبعض العلماء فى منامه: من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته، وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتبه الله لك.

وقال يحيى بن معاذ: فى وجود العبد الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد.

قال إبراهيم بن أدهم: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال لى: ليس هذا العلم عندى ولكن سل ربى من أين يطعمنى؟.

وقال هرم بن حيان لأويس القرنى: أين تأمرنى أن أكون؟ فأومأ إلى الشام.

وقال هرم: كيف المعيشة؟ قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.

وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا، نسأل الله تعالى حسن الأدب.

وهذه الآثار لا تعنى إلا رفع كبوات البؤس أو زجر نزوات الطمع، فإن البشر فى هذه الميادين يفتقرون إلى علاج شديد.

لقد رأينا ذل الفقراء وشره الأغنياء وراء المال يفعل الدواهى فلا جرم أن ترد الآثار تلطم هذا التطرف كيما ترده إلى سواء السبيل.

ولكن هذه التعابير التى يقصد بها إشاعة الثقة فى أرجاء النفس الإنسانية حتى لا تضرع وتجزع انقلبت دلالاتها فى بعض النفوس ففهمت منها ما لا يجوز أن يفهم، فهمت منها أن السعى باطل، وأن السكون دين، وفى ذلك يقول رجل مهزوم أطاش العجز لبه: والسعى للرزق ـ والأرزاق قد قسمت ـ بغى ألا إن بغى المرء يصرعه ويقول آخر: حرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق فى غشاوته الجنين

وهناك موطن آخر للتوكل يستحب فيه ذكر الله، والاطمئنان إليه، ويكون الإيمان بالغيب فيه مصدر أنس وقوة لأصحابه.

ذاك موطن الكفاح الذى يحمل عبئه أصحاب الرسالات، ويتعرضون فيه لمخاوف مزعجة، ولا يثبتون فيه على الروع والغبن إلا لأملهم فى الله واستنادهم إليه.

وإلا بالتوكل الذى ينير أمامهم ظلمات الحاضر، ويجرئهم على مواجهة الجبروت بعزم.

والقوى الشريرة التى يواجهها حملة الدعوات ليست عدوا سهلا، وإنقاذ الحقائق الكبيرة والحقوق الضائعة من بطش هذه القوى عمل يقترن بالمعجزات.

فإن الاستكانة المطلقة التى تغمر الأفئدة وتطويها على الخوف من هؤلاء الأقوياء الأشرار تجعل انتصاب المصلحين أمامهم، والدخول فى معركة مريرة لاستئصالهم ـ تجعل ذلك حلا فادح الثقل مرهوب العقبى.

وإننا ـ لطول ما بلونا ـ نقدر موقف موسى وأخيه عندما أمر بالذهاب إلى فرعون ونصحه، فقالا: ( ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى).

إن الشعور بصحبة الله هو المؤنس فى هذه الوحشة، وهو المشجع فى هذه الرهبة، وذاك معنى التوكل فى تلك المواقف.

وهو ما نزل به الوحى على قلب الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما طرقته الرسالة فقال الله له: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا).

ونحن نجد التوكل على الله هو المعنى الشريف الجليل الذى يلوذ به المكافحون، ويرقبون معه مستقبل رسالتهم، ومطلع الفجر وسط ما يخيم عليهم من إظلام.

إنه ليس فقط القوة المعنوية التى يتحاملون بها على جراحاتهم بل هو كذلك اللفظ المنغوم الذى يجرى على ألسنتهم ويسمعه منهم خصومهم وهم يناقشونهم: (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون).

عندما يطلب من أولئك المؤمنين الصابرين أن يشتروا حياتهم وراحتهم واستقرارهم بنبذ الإيمان، والعودة إلى الضلال القديم يأبون إلا الصمود على الحق، وتحمل الأذى فى سبيله فيقولون: (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين)

وأساس هذا الثبات والرجاء أن مرد الأمور على تطاول الزمن إلى الله، وأنه إذا وهب النصر فلن يعترضه أحد، وأنه ناصر جنده لا محالة، وأن الباطل يأخذ جولته ثم يتلاشى، وأن ليس أمام أهل الإيمان إلا التعويل على الله والتأميل فيه: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون)

والتوكل على غير الله قصير العمر، أو عديم الجدوى، أما التعلق بالله فهو ارتباط بالمصدر الدائم للخير، ولذلك قال: (وتوكل على الحى الذى لا يموت)!

الحُبّ: قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).

هذه الآية عرضت لمحبة الله جل وعز، ولبعض آثارها العملية، فى فترة من تاريخ الإسلام كان يحتاج فيها إلى أخلاق معينة.

والقوم الذين أحبهم الله وأحبوه، ذكروا فى سياق الآية على أنهم بدل من قوم آخرين نزلوا عن هذه المرتبة، لم ترشحهم خلالهم ومسالكهم لمحبة الله، بل ما زالوا يتدلون فى مهاوى السوء حتى عدوا مرتدين عن الإسلام.

والارتداد ـ الذى توعد الله أهله بالطرد ـ هو فى نظرى نتيجة سيرة طويلة يصحبها التفريط والالتواء، ولست أظنه جاء دفعة واحدة.

إنه يبدأ استثقالا للواجبات واستحلاء للآثام، ثم عكوفا على هذه وتمردا على تلك، ثم ميلا لأهل السوء وانحرافا عن أهل الخير.

وعندما يكون هوى الرجل مع المبطلين، وعندما يكون انتصاره لهم، فهو مرتد يقينا عن الإسلام!!

وما بقاء رجل على دين ينفر من تعاليمه ويخون أمته؟ (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).

وإذ يدبر هؤلاء عن الله وحقوقه، يجئ آخرون فى قلوبهم حياة ومودة، يحبون ربهم ويلقون أمره بالإعظام والحفاوة.

وولاؤهم لله يدنيهم من كل مؤمن به، ويكرههم فى كل فاسق عن أمره، ويطلقهم فى العالم سلما لأوليائه حربا على أعدائه، تنهض بهم رسالات الخير، وتنهزم أمامهم ألوان الشرور.

وإذا صحت محبة الله فى قلب امرئ فقد تبوأ قمة الكمال، وتهيأ لفضل من الله جزيل!

نعم، إن نشوء هذه العاطفة ونماءها يسبقها اصطفاء خاص، والشعور بحب الله ليس متاحا لكل إنسان إنه سمو يتخير الله له من يشاء، ولذلك ختمت الآية السابقة بهذا التذييل: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).

إنها منة تسيل من عين الجود قبل أن تكون كسبا تتجه إليه الإرادة!.

ومن حقك أن تسأل: كيف ذلك؟ أليس هذا الكلام مما يقعد الهمم ويبذر اليأس؟؟ ونجيب: كلا، والأمر يحتاج إلى زيادة إيضاح.

إن المواهب الإنسانية الرفيعة لا تنشأ أصلا من كسب الإنسان، بل لابد أن يسبقها استعداد فطرى يولد المرء به، ولا يد له فيه.

وجمهور العباقرة والممتازين ترجع عظمتهم ابتداء إلى أصالة فى معادنهم الفكرية والنفسية لا توجد فى غيرهم، ثم يتعهدون هذه الطبائع الفذة بما يبلغ بها الغاية.

ويمكن أن ينضاف إلى الغرائز الأولى تفاوت عناصر البيئة، فرب بيئة أخمدت ما فى النفوس من وقدات ملتهمة.

وأهالت عليها التراب، ورب بيئة نفخت فى هذه النفوس ما يهيج ضرامها ويرفع شعلتها.

وما ينغرس فى الجبلات من خلال، وما تضطرب به المجتمعات من أحداث شأن يعود إلى الأقدار العليا لا إلى إرادتنا المحدودة.

إن الإيمان نفسه يمكن عده فضلا ـ من هذه الزاوية ـ فقد كان من الجائز أن نولد، أنا وأنت، أرواما أو أعاجم لا ندرى ما الكتاب ولا الإيمان.

فإذا متنا على هذا الحال، وعاملنا الله بقانون العدل لم يعذبنا وحسب.

أما التأهيل للنعيم المقيم فلابد له من يقين وصلاح وجهاد، وذلك كله تلده بيئة دون أخرى ـ من أجل ذلك وصف الله التوفيق للإيمان بأنه فضل فقال: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).

إن صدقة الغنى عمل مشكور يدخر له يوم القيامة، بيد أن الفضل الأول لمن أغناه فأقدره على النفقة فى سبيله.

فكسب العبد بيده أو قصده بقلبه لا ينسيان منة الوهاب الكبير ولذلك ننسب لله الفضل فى كثير من الأعمال التى نقوم بها عن اختيار محض.

وعاطفة الحب الإلهى إذا انقذفت فى فؤاد مؤمن فإن الله هو الذى أولى هذا الشرف.

وأفاء تلك النعمة، وليس أحد يملك أن يفرض على الله صداقته.

حقا إنه ـ تبارك اسمه ـ لا يضيع زلفى متودد إليه؟ ولكنه يمنح وده من شاء صدقة منه على من اصطفى من عباده.

وبديهى أن الله يعطى من تعرض لعطائه؟ ويضع الخير فى الأيدى الممدودة إليه.

أما من أدبر وتولى؟ فلا شىء له إلا الطرد والهوان.

ومحبة الله تنغرس فى قلوب العارفين به.

والمعرفة كما تكون عن جهد الإنسان فى الفكر، والذكر، والتأمل، والتنزيه تكون فيما يكشفه الحق عن عظمة الذات وجمالها لبصائر المتعلقين به وعلى قدر هذا الانكشاف يكون الإعظام والحب والتفانى.

وجمهور البشر لهم أشياء يحبونها ويتعلقون بها، وتضع على سيرتهم طابعها وتكمن وراء كثير من أقوالهم وأفعالهم.

وانعطاف الإنسان نحو شئ معين بدافع الغريزة أو العادة لا شئ فيه ما دام فى إطار الحدود المشروعة.

ولكن لا يجوز أن يمتلك هذا الميل زمام الإنسان، ويتولى تصريفه، وينحى غيره من البواعث الأخرى.

أو بتعبير أوضح، من أحب الله لم يؤثر عليه شيئا.

وعندما تتنافس المشاعر المختلفة فى الاستيلاء على زمام المرء، وتحديد وجهته، فيجب أن تنهزم كل عاطفة أخرى، وأن يرجح جانب الله رجحانا حاسما.

ونحن فى الحياة العادية نشهد ناسئا كثيرين يتعلقون بمبادئ، وأشخاص وأشياء مختلفة، ويؤثر هذا التعلق فى طريقة إنفاقهم لأوقاتهم، وبنائهم لحياتهم، وإصدارهم للأحكام الخاصة والعامة.

وعاطفة المرء نحو ربه تتحدد فيمتها فى هذا المعترك النفسى البعيد المدى.

والمفروض أن حب المسلم لربه أربى من أى عاطفة أخرى عند أى إنسان آخر (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله).

ويظهر ذلك جليا عندما يصطدم فى نفس المرء شعوران متناقضان، فقد تجيش فى قلبه رغبة القعود فى بيته مع ولده وأهله، وقد يهتف به نداء الواجب أن يدع ذلك كله، وينطلق إلى ميدان الجهاد مضحيا بنفسه ورغباته.

ومصير الإيمان مرتبط بنتيجة هذا الصراع العاطفى، فإن غلبت محبة الله، ورجحت كفة أمره فبها ونعمت، وإلا فالهزيمة فسق عن أمر الله (قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين).

والواقع أن محبة الإنسان للكثير من الأشياء هى التى تصده عن الكثير من الواجبات خصوصا إذا غلبت الرغبة على فكره وغطت على بصيرته، فإنه يفقد اتزانه فيما يصدر من أحكام، وفيما يصدر عنه من أعمال، بل إنه قد يهبط إلى مراتب الطفولة ـ وهو المسن ـ لأن الطفل لا تسيطر على تصرفاته إلا شهواته...

وقديما قيل: حبك الشىء يعمى ويصم.

وكم من رجل أرداه حبه للمال، أو للثناء، أو للراحة بين أهله وعشيرته إذ يقصر هذا الحب خطوه إلى معالى الأمور، ويغريه بالقعود عن نصرة الحق بالنفس والمال.

ولذلك كانت نفس الإنسان ـ إذا آثر الحياة لها ـ عدوه المخوف.

وكان ولده وزوجه أعداء له كذلك، يوم يؤثر الحياة إلى جوارهم عن تلبية النداء وإجابة داعى الله، وهذا معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم)

، والواجب أن يتلطف الإنسان مع أهله وعشيرته حين يتعلقون به، ويبغون بقاءه معهم، تلطف من يرق لضعفهم، ولكن لا يمنعه إعذاره لهم من توديعهم إلى حيث ينبغى أن ينطلق، ومن هنا ختمت الآية بقوله تعالى: (...وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم).

ثم قال محذرا من الركون إلى القعود: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم).

ومقتضى حب الله عز وجل؟ أن يطيع الإنسان أمره؟ ويدع نهيه، ويحرص على رضاه.

وكلما ربت هذه العاطفة فعل الإنسان الكثير لله دون أن يحس تعبا، لأن ما غمر فؤاده من شعور يهون عليه المشاق.

ودعوى الحب مع التفريط فى الحقوق، ومع الاستهانة باتباع الرسول دعوى منكرة، فإن من أحب الله تأسى برسوله، واستظل بلوائه، واقتفى فى الدقيق والجليل أثره، قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم).

ولذلك قال الشاعر ـ فى لوازم المحبة: تعصى الإله وأنت تظهر حبه!!

هذا لعمرى فى الفعال بديع!

لو كان حبك صادقا لأطعته!

إن المحب لمن يحب مطيع.

وهذا صحيح، فإن المحب ينفذ ما يطلبه منه حبيبه، بل هو يتشهى أمرا منه ليسارع إلى تأديته بشوق ورغبة..

إلا أن المرء قد تعرض له حالات مرضية يختل معها سلوكه، ولا تبلغ به هذه العاطفة مداها، كما تنقطع الدائرة الكهربائية فى أحد المواضع، فلا يضاء المصباح لاحتباس التيار.

المعروف أن المرء يحب نفسه ويحرص على مصلحتها، ومع ذلك فقد يصاب بمرض يهدد حياته، ويأمره الطبيب بترك عادة له، حتى يستشفى مما ألم به فيعجز عن إجابة أمر الطبيب، ويقع فما حظر عليه!!

إنه لا يكره نفسه، ولكن شلل الإرادة تحت تأثير العادة أزله بعيدا عما يجب.

وبعض العصاة من المؤمنين لا يكرهون ربهم ولا أنفسهم، وإنما يقعون فى المخالفات تحت تأثير هذه الأحوال المعتلة.

ولا ريب أنهم ـ عند ارتكاب هذه المخالفات ـ لا يكونون فى صحو فكرى كامل، إنهم أشبه بالمسهد الذى جن عليه الليل، وتصارع عليه الكلال والأرق، فتفكيرهم أدنى إلى الأحلام الطائشة منه إلى المنطق المستحكم الحصيف!!

ولندع الآن الخوض فى نتائج المحبة، ولنتحدث أولا فى أسبابها.

لماذا نحب الله؟ أو لماذا ينبغى أن نحبه؟ ونحن واجدون ـ بعد التأمل الذى يجلى الضباب ويريح الغفلة ـ أن الله أهل.

لكل حب، وأنه أولى بتعلق القلب من حب المرء لوالده وولده ونفسه التى بين جنبيه !

ونبدأ بأسرع دواعى المحبة ورودا على الذهن، وأعنى به الإحساس الذى يستعبد الإنسان ويقيده بأواصر نفسية متينة نحو المحسن، ولا شك أن الله تبارك اسمه ولى النعم التى يخوض الناس فيها خوضا، ويمرحون فى بحبوحتها طولا وعرضا (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون).

والنعم الإلهية تكتنف الوجود الإنسانى من كل ناحية، إلا أن البشر يعاملون ربهم معاملة الولد المدلل العاق لأبيه، يضيق إذا حرم بعض رغائبه، ويتمادى به الضيق حتى ينسى المنن الجسام التى تطوق عنقه وتستبقى كيانه.

ولو أن الله يسارع إلى الإنسان بكل ما يهوى لهلك الإنسان.

إننى أشهد ـ على ضوء تجاربى التى حفرتها الأيام من حياتى ـ أن أنفس ما يعلى شأنى أنى وليد أمور كنت بها ضائقا، أو أتت بعيدا عن تفكيرى، وتقديرى.

ولو سارت أحوالى وفق ما أهوى ما كنت إلا أحد الهمل، ولو وكلت إلى نفسى، ورغباتها المجابة لهلكت.

وما أصدق قول الله فى كتابه: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

ولو عقل الإنسان لكان حبه لله سواء فى المحن والمنح لأن تقدير الله للإنسان أجدى عليه من تقديره لنفسه.

وتبقى بعد ذلك كله أصول النعم التى يحيا بها الإنسان ويقتعد بها مكانه فى الوجود الكبير، وهو مكان جد خطير، قال تعالى: (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)

وإسداء الجميل يورث الشكر، وهو شعور قد يطول وقد يقصر، ولكن تكرار الجميل على تراخى الأيام وتفاوت الأحوال يورث الحب، والحب عاطفة تلتصق بالشغاف، وتتشعب فى نواحى السلوك كلها.

وتكرار الجميل لمن يعترف به ظاهر، بيد أن الإنسان كثيرا ما يستقبل النعم الجزيلة بإحساس يبدأ براقا.

ثم سرعان ما يبهت.

ومع ذلك فإن رب العالمين لا يحبس فضله عندما يطلبه سائل الأمس الذى أخذ ونسى!!

وقد حفل القرآن بصور شتى لطبيعة الإنسان فى هذه المواقف، وبرز فى هذه الصور كيف أن الله أهل للحب كله، وأن الإنسان أهل للوم كله.

وتأمل هذه الصور لذهول البشر مع ترادف العطاء، واستحقاق الشكر والثناء، والحب والولاء، قال تعالى: (و إذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم و كان الإنسان كفورا).

والإنسان يجأر طالبا من مولاه النجدة عندما تحصره الأزمات، وتأخذ بخناقه، ويشعر بأنه سيهلك فى حومتها لا محالة.

فإذا أتته النجدة التى طلب، واسترد أنفاسه، عاد سيرته الأولى، ونأى عمن قربته منه الأزمات، واستأنف حياة الغفلة التى أراد الله إخراجه منها، بهذه المتاعب العارضة.

أجل، فالآلام ـ فى الأغلب ـ ترد على المرء دواء لعلل كامنة فيه، ومعاناة مرارتها سبيل الشفاء لمن يحسن الاستفادة والتذكر.

ولئن كانت السراء غذاء للكيان الإنسانى إن الضراء دواء لابد من تناوله.

وفى حياتنا العادية نحتاج إلى أنواع الأدوية التى نحتاج كما أنواع الأغذية.

لهذه وظيفتها وموضعها، ولتلك وظيفتها وموضعها، وربما كانت الآفات التى تعترض القلب الإنسانى وتعكر صلته بالله أكثر وأحوج إلى المعالجة من العلل التى تنتاب البدن وتعكر صفوه.

إلا أن موقف الإنسان من ربه عندما يدخله فى تجارب الألم غريب، إنه يثوب إلى الحق بسرعة، ويصرخ سائلا العفو والرحمة، ممن يملك هذا وضده.

فإذا نفس عنه كربته خفت الصوت العالى ثم احتبس، ثم ذهل، ثم انقلب صوت كنود وكبر!!

لماذا؟ هل أخذت أيها الإنسان ضمانا بانتهاء المتاعب إلى الأبد؟ هل اطمأننت إلى أنك لن تقع فى الفني مرة أخرى.

(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا)

وتمر بالبشر مآزق شتى، إذا استحكمت عليهم حلقاتها ناشدوا الله العفو والرحمة، وإذا احتوتهم سعة الحرية نسوا وجحدوا (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون).

والواقع أن الناس أمام هذا الإفضال المتكرر صنفان: صنف غافل القلب غليظ الرين، تمر به الأفراح والأتراح دون وعى، وكأنه لم يدع الله إلى ضر مسه، بل يظن أن ما يمر به من بؤس ونعمى طبيعة الحياة ويقول: (قد مس آباءنا الضراء والسراء).

أى تلك عادة الدنيا، وحالة الزمان!!.

وهذا صنف كفور لا خير فيه ولا دين له...

وصنف آخر يتأمل فى غزارة النعم التى تنهمر من المكثر الوهاب.

ويعرف حق صاحبها فى أن تحفظ وترعى، فيطوى فؤاده على تقديرها وإعزاز مرسلها، ولا يزال هذا الشعور يشرح صدره كلما جدت منة ـ ومنن الله تتجدد ولا تفنى ـ فيكسبه هذا الشعور الموصول حب الله، والرضا عنه والتعلق به.

وللحب داع آخر.

إن النفس الإنسانية تبهرها العظمة ويعجبها العظماء، ويسرها الإقبال عليهم، والتودد إليهم والتنويه بآثارهم.

وكم من عبقرى لم نر شخصه طوينا القلوب على محبته، والحماس له لأن أبصارنا تعلقت بمواهبه الجليلة، وامتيازه الرائع، ففعلت صورته الباطنة بنا، ما تفعله صور الجمال الحسى بألباب العشاق.

ولو أن الناس لفتتهم هذه الحقائق، وسيرهم منطقها باطراد لكان لهم مع الله شأن آخر...

أطلعنى أحد الناس على صورة رائقة للشمس، وهو تغرب، وأخذ يطرى الرسام العبقرى الذى خلقها بريشته.

وكانت الصورة رائعة حقا!

بدت فيها الشمس وهى تلم أشعتها من فوق السطوح والقمم، وتتأهب لوداع الأحياء إلى ملتقى آخر!!

ومن ورائها آفاق معصفرة احمرت فيها حواشى السحب، واستقرت فيها ـ إلى حين ـ فترة الانتقال بين إقبال الليل وإدبار النهار..!!

قلت: هذه صورة جميلة، خطتها يد ماهرة، تستحق الثناء.

لكن لماذا يعجب الناس براسم الصورة على الورق؟ ولا يتجهون بأبصارهم وبصائرهم إلى صانع الأصل الذى احتواه الفضاء الرحب، ودارت فيه أجرام ضخمة، وتأنقت فيه الطبيعة الحية، وتحركت فيه الأرض كثيرا حول نفسها وقليلا حول الشمس، وجرت فيه الشمس مدى لا ندرى كنهه ولا نسبر غوره!!.

إن الأصل نفسه فى الشروق الزاهى، أو فى الغروب الدامى، على اختلاف الليل والنهار يستحق التأمل الذكى، ويستحق بعد ذلك وقبله أن تتجه الأفئدة إلى بارئ السموات والأرض تسجد لجلاله وتسبح بحمده.

وإلى الأصل المنقوش فى صفحات الكون لا إلى الرسم المصغر على وجوه الأوراق.

نظر " محمد " عليه الصلاة والسلام إلى بدايات الليل، ونهايات النهار ثم رد الأشياء إلى مالكها الحق، ونسبها إلى صاحبها الأصيل قائلا: "اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لى ".

والعجب للناس: ينظر أحدهم إلى تمثال من حجر أتقن ناحته إضفاء بعض الملامح البشرية عليه، ثم يروحون وألسنتهم تلهج بمدحه.

أما مبدع هذا الجسم الحى فقلما يكترثون له، بل فيهم من يجحد وجوده، وينتهك حرماته.

وما أبعد البون بين صخرة هذب ظاهرها على نحو معين، وعضلات من لحم ودم وعظم وعصب، تمور خلاياها بالحياة أخذا وردا، فلو وضعت إصبعك على جزء ما من هذا الجسم ثم تأملت ما تحتها لعلمت أن ألوف الشعيرات تسرى فيها بالدماء ويتفاعل فيها الزفير والشهيق، وتتولد الطاقة من احتراق الأغذية وطرد نوع من الهواء ـ الكربون ـ واستقبال نوع آخر ـ الأوكسجين.

وشىء آخر، أطراف هذا الجهاز الحسى وذيوله التى لا آخر لها، والتى تجعل الجسم كله يهتز لوخزة شوكة تصيب أى ناحية فيه.

إن التأمل فى النفس الإنسانية يجعل المرء يمد بصره إلى أعلى قائلا مع الملائكة: نسبح بحمدك ونقدس لك، ومع هذا فإن صانع ذلكم الإعجاز يلقى من بعض عباده بل من أكثرهم الغمط والكنود.

وأما الذين استنارت سرائرهم بصدق المعرفة فهم يتلمحون ما فى الصفات العليا من عظمة وشمول، وما يصدر عنها من عجائب فى الأرض والسماء، فينعطفون نحو ربهم، وملء نفوسهم الإعجاب والإعزاز والود.

ونحن ندرى أنه ليس لبشر ما فعل حقيقى، يصحح وصفه بأنه خالق لتمثال، أو مبدع لآلة، فإن يده لم تصنع أكثر من أنها تصرفت فى مادة موجودة أو ألفت بين أشياء كائنة، وأن الإلهام الأعلى هو الذى هدى أصحاب المواهب إلى إبراز ما يحمدون عليه ويعظمون به، إلا أننا نجد فى هذا الإيجاد المجازى فرصة للمقارنة، وثغرة لتعريف الناس بربهم، وإزاحة الغطاء عن قلوبهم حتى يحسنوا فهمه ومودته.

وفى الأيام الأخيرة وفق أحد المخترعين إلى صنع آلة تحول الماء المالح إلى ماء عذب، وهذا ابتكار حسن وددت لو تابع العلماء تحسينه حتى يمكن الإفادة منه فى أرحب دائرة، إن استخدامه الآن ينفع بعض السفن التى تستغرق فى رحلاتها آمادا طويلة، أو بعض المحصورين الذين لا تتيسر لهم موارد الماء القراح لبعدهم عن منابعه.

لكن ما هى الآلات التى تروى الألوف من الخلائق، وما يتبعهم من حيوان وطير؟ ما هى الآلات التى تسوق نطاف الماء الصافى إلى مساحات هائلة من الأرض فتحيل جدبها خصبا ومواتها حياة؟ كيف يتلطف بديع السموات والأرض فيسقى أولئك الأحياء من عباده وهذه الحقول المنداحة فى بلاده دون أن يشعر بنصب أو يتكلف إدارة أجهزة وطنين آلات؟.

(الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون * وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين * فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير).

والحق أن إمداد البشر بالماء الحلو على هذا النطاق الواسع بوساطة جهاز منسوج من الهواء، مبسوط الأذرعة بين الأرض والسماء، يستاق الماء بخارا من البحر الملح ثم يكثفه سحابا يختلط كيانها بما يجعل ماءها عذبا، ثم تنطلق فى شتى الأشكال مخترقة الآفاق إلى حيث تهمى بالخير والبركة...!!

إن هذا لمما يملأ الفؤاد روعة، ويزيده إكراما وإعلاء لشأن الخالق المدبر تقدست أسماؤه، وتباركت آلاؤه، ولا إله غيره.

(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب).

فليستعرض الإنسان ما يعرف من مواهب وخلال، وليستعرض فى ذهنه ما يبهره، من عباقرة وأبطال، ثم ليقارن بين تلك القوى الكليلة والقوى المطلقة، وبين هذه العظمات الباهتة العاجزة والعظمة الساطعة الخالدة!!

إنه سوف يرى رب العالمين أولى بالتمجيد والإعجاب؟ وأحق بالمحبة والاقتراب...

والبشر ـ من الناحية العقلية ـ لا يمارون فى هذه الحقيقة، غير أنها لا تنتقل من ألبابهم إلى قلوبهم فتتحول من فكرة إلى شعور، ومن شعور إلى سلوك.

إن هذه الحقيقة تدخل نفوسهم كما يدخل الطعام فى بطن الممعود، لا تستقبلها أجهزة سليمة تحول إلى قوة ونماء وحرارة بل ربما كان فيه الحتف.

كذلك البشر يعلمون عن الله ما ينبغى أن يؤسس فى نفوسهم الحب المكين له، ومع ذلك قد يحبون غيره مثله أو أكثر: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله).

وندع للإمام الغزالى أن يقارن بين ما يستثير الإعجاب والحب فى شمائل الناس؟ وبين صفات الفرد الصمد جل جلاله؟ قال: " وأما العلم: فأين علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذى يحيط بالكل إحاطة خارجة عن النهاية حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض؟ وقد خاطب الخلق كلهم فقال عز وجل: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)

بل لو اجتمع أهل الأرض والسماء على أن يحيطوا بعلمه وحكمته فى تفصيل خلق نملة أو بعوضة ليم يطلعوا على عشر عشير ذلك: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).

والقدر اليسير الذى علمه الخلائق كلهم فبتعليمه علموه كما قال تعالى: (خلق الإنسان * علمه البيان)

فإن كان جمال العلم وشرفه أمرا محبوبا، وكان هو فى نفسه زينة وكمالا للموصوف به فلا ينبغى أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى، فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه، بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم، وإن كان الأجهل لا يخلوا عن علم ما تتقاضاه معيشته.

والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم أعلم الخلائق وأجهلهم، لأن الأعلم ما يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور فى الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد، وفضل علم الله تعالى على علوم الخلائق كلهم خارج عن النهاية إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية.

وأما صفة القدرة: فهى أيضا كمال والعجز نقص، فكل كمال وبهاء وعظمة ومجد واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ، حتى إن الإنسان ليسمع فى الحكاية شجاعة على وخالد رضى الله عنهما وغيرهما من الشجعان، وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران فيصادف فى قلبه اهتزازا وفرحا وارتياحا ضروريا بمجرد لذة السماع فضلا عن المشاهدة، ويورث ذلك حبا فى القلب ضروريا للمتصف به فإنه نوع كمال، فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى.

فأعظم الأشخاص قوة، أوسعهم ملكا، وأقواهم بطشا، وأقمعهم لخبائث النفس، وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ـ ما منتهى قدرته؟.

وإنما غايته أن يقدر على بعض صفات نفسه وعلى بعض أشخاص الإنس فى بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا ولا ضرا ولا نفعا.

بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولسانه من الخرس، وأذنه من الصمم، وبدنه من المرض، ولا يحتاج إلى عدما يعجز عنه فى نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته.

فضلا عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها، والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها، فلا قدرة له على ذرة منها، وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه، بل الله خالقه، خالق قدرته، وخالق أسبابه، والممكن له من ذلك.

ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال فى أعظم ملوك الأرض ذى القرنين إذ قال: (إنا مكنا له في الأرض)

، فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه فى جزء من الأرض.

والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم، وجميع الولايات التى يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة.

ثم تلك الغبرة أيضا من فضل الله تعالى وتمكينه.

فيستحيل أن يحب عبدا من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه، واستيلائه وكمال قوته، ولا يحب الله تعالى لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فهو الجبار القاهر والعليم القادر.

السموات مطويات بيمينه، والأرض وملكها وما عليها فى قبضته، وناصية جميع المخلوقات فى نطاق قدرته.

إن أهلكهم عن آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة.

وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعى بخلقهم، ولا يمسه لغوب ولا فتور فى اختراعهم، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته، فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء واللهر والاستيلاء، فإن كان يتصور أن يحب الإنسان قادرا لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلا.

وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص، والتقدس عن الرذائل والخبائث أفهو أحد موجبات الحب، ومقتضيات الحسن والجمال فى الصور الباطنة، والأنبياء والصديقون ـ وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث ـ فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك القدوس ذى الجلال والإكرام.

وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص أو عن نقائص، بل كونه عاجزا مخلوقا مسخرا مضطرا هو من العيب والنقص، فالكمال لله وحده، وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله، وليس فى المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره، فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبدا مسخرا لغيره قائما بغيره.

وذلك محال فى حق غيره، فهو المنفرد بالكمال، المنزه عن النقص، المقدس عن العيوب.

وشرح وجوه التقدس والتنزه فى حقه عن النقائص يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره.

فهذا الوصف أيضا.

إن كان كمالا وجمالا محبوبا فلا تتم حقيقته إلا له، وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقا، بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصانا، كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار، وللإنسان كمال بالإضافة إلى الفرس، وأصل النقص شامل للكل، وإنما يتفاوتون فى درجات النقصان.

فماذا الجميل محبوب، والجميل المطلق هو الأحد الذى لا ند له، والفرد الذى لا ضد له الصمد الذى لا منازع له، الغنى الذى لا حاجة له، القادر الذى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، العالم الذى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى السموات والأرض، القاهر الذى لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة، ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة، الأزلى الذى لا أول لوجوده الأبدى الذى لا آخر لبقائه الضرورى الموجود الذى لا يحوم إمكان العدم حول حضرته، القيوم الذى يقوم بنفسه؟ ويقوم كل موجود به، جبار السموات والأرض، خالق الجماد والحيوان والنبات المنفرد بالعزة والجبروت، المتوحد بالملك والملكوت ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال!

والقدرة والكمال، الذى تتحير فى معرفة جلاله العقول، وتخرس عن وصفه الألسنة، الذى كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، ومنتهى نبوءة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين: " لا أحصى ثناء عليك.

أنت كما أثنيت على نفسك ".

وقال سيد الصديقين رضى الله تعالى عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك، سبحان من لم يجعل للخلق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.

فليت شعرى من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقا ويجعله مجازا؟ أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال والمحامد، ونعوت الكمال والمحاسن، أو ينكر كون الله تعالى موصوفا بها، أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة أمرا محبوبا بالطبع عند من أدركه؟ فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيره على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى، الذين هم عن نار الحجاب مبعدون، وترك الخاسرين فى ظلمات العمى يتيهون، وفى مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.

شارات الطريق

التوبـة - الورع - العفة والقناعة - الصبر - الشكر - الخوف - الرجاء - التوكل - الحُبّ

لابد لكل مسلم من تأهيل عال يجعله حقيقا بالانتساب إلى الله، والخلود فى رحمته.

ونفسه التى بين جنبيه هى موضع التزكية والترقية وهو يستطيع رياضتها بما شرع الله من طاعات وحدود، وبما رسم من آداب ومعالم حتى تبلغ الشأو والمراد.

وليس لطريق الكمال نهاية يقف لديها المسلم، فهو ما بقى حيا مكلف بالأمر والنهى، مطالب بالنظر فى نفسه، فلعل فضلة شر بقيت يجب استئصالها، أو نشأت من جديد يجب أن يمحوها.

ولو أنه أمن تسرب الكبائر والصغائر إلى نفسه، ووثق من ارتداد الوساوس الآثمة عنه فإن حقوق الله عليه ـ من تعبد محض ـ تبقى فى عنقه ما بقى فيه نفس يتردد حتى يلقى الله، وهو ذاكر شاكر، مستسلم الفؤاد والجوارح، يتضح على روحه هذا التوجيه العالى : (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ).

والطريق إلى الله تعبير لطيف عن جهود المسلم فى تصفية نفسه، وترضية ربه، والتحول عن مواطن الغفلة والركود إلى مواطن الذكر والحركة.

ومراحل الطريق تتمثل فيما يحرزه المرء من نجاح، وهو يتخلص من خلة رديئة، أو مسلك عابث، ويتحلى بخلق كريم وسيرة جادة.

إن هذه النقلة النفسية خطوة متميزة فيما يخلفه المرء وراءه من أحوال لا تليق، وفيما يستقبله من صحو، واستحكام رأى، ودقة تصرف، على حد قول الشاعر: صحوت وزايلنى باطلى لعمر أبيك زيالا طويلا فأصبحت، لا نزقا للحاء ولا لحوم صديقى أكولا الطريق سير فى ميادين النفوس، وجهته الله، وعدته صالح الأخلاق والأعمال.

ومع هذه العدة التى يقوم المسلم بها، رجاء حار فى التوفيق الإلهى الذى يسدد الخطا ويبارك فى القليل.

ذلك أن الله وعد المقبلين عليه بإقبال أعظم (من جاء بالحسنة فله خير منها)

والسائر لو وكل إلى جهده وحده غلبته وعثاء الطريق فمشى ببطء أو انقطع بعد لأى، ومن ثم فإن تعويل السائرين ينبغى أن يكون على الإمداد الإلهى أضعاف ما يكون على الجهد المبذول.

ألا ترى الفلاح يبذر الحب ويروى الأرض، وينظر ـ بعد ذلك ـ إلى بركات السماء، وهو مدرك أن جهده المحدود لا قيمة له، ما لم يلحظه الله بعنايته.

إن هذه العناية قد تفاوت بين جهدين متساويين فتجعل نتاج هذا عشرة عشرة أضعاف ذاك.

التوبـة : وهى أول مراحل الطريق، بل هى المدخل المفضى إليه، والقرين المتنقل فى مدارجه من البداية إلى النهاية.

والتوبة كلمة شائعة على الألسنة، حتى لكأن شيوعها ابتذلها وأطفأ سناها الكريم، ومع أن دلالة الكلمة تجعلها أخطر من أن يجازف بها.

هل يلغو إنسان فيقول: بنيت قصرا، أو يلغو فيقول : ألفت كتابا!!.

إنا بناء قصر شاهق أهون من بناء نفس خربة، وإن تأليف كتاب ثمين أرخص من تأليف نفس فرق الهوى أقطارها.

والتوبة هى هذا البناء والتأليف، فمن الهزل العجاب أن تدور على الألسنة دون تيقظ وإدراك.

وجمهور البشر محتاج إلى التوبة، فقلما ينجون فى حياتهم من العثار والتخليط، وما أكثر الذين يرديهم طيش الغرائز، وضعف الرأى، وقلة التجربة، واضطراب اليقين.

وإذا استثنينا الأنبياء فأغلب بنى آدم تعرضوا لخطايا سيئة، وأخطار لا حصر لها.

أما الأنبياء فإنهم قيادات روحية وفكرية اصطفاها الله من النشأة الأولى وتخيرها من معادن أرقى، فهم ليسوا على غرارنا، وان كانوا من تراب الأرض مثلنا على حد قول الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال وقد قال الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك)

أى: أن الذين تبعوه جاءوا إليه تائبين.

والتوبة ـ فى نظر الإسلام ـ جهد لابد أن يقوم كل إنسان به، ولن يغنى عنك أحد أبدا فى أدائه.

إذا اتسخ ثوبك فلن ينظفه أن يغسل جيرانك ثيابهم.

وإذا زاغ فكرك، فلن يصلحه إلا أن يهتدى هو إلى الصواب.

واستحقاق الرضوان الأعلى لا يجئ إلا من هذه السبيل، فلا قرابين، ولا شفعاء.

(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى).

والخطأ فى حق الله لا يداويه إلا اعتذار المخطئ نفسه.

فلو اعتذر عنه أهل الأرض جميعا، وفى مقدمتهم النبيون، وبقى هو على عوج نفسه فلن يقبل عنه اعتذار، ولن ينفعه استغفار.

لابد أن يجثو المذنب فى ساحة الرحمن ثم يهتف من أعماق قلبه: (رب اغفر وارحم، وأنت خير الراحمين)

ليؤمل ـ بعد ـ فى مغفرة الله ورحمته.

وعلى كل إنسان ساء فعله، واضطربت حاله أن يسارع إلى ربه، متعهدا نفسه بالرعاية والتأديب، مقبلا على شأنه بالترتيب والتهذيب، حتى يستطيع النجاة مما وقع فيه.

وانتهاز اليوم أفضل من انتظار الغد، بل إن كنت فى الصباح فلا ترقب الأصيل.

" لا مكان لتريث، إن الزمن قد يفد بعون يشد به أعصاب السائرين فى طريق الحق، أما أن يهب للمقعد طاقة على الخطو أو الجرى فذاك مستحيل.

لا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير.

الحاضر القريب الماثل بين يديك، ونفسك هذه التى بين جنبيك، والظروف الباسمة أو الكالحة التى تلتفت حواليك، هى وحدها الدعائم التى يتمخض عنها مستقبلك، فلا مكان لإبطاء أو انتظار، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ".

ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك، وتصلح به أعمالك لا يعنى إلا إطالة الفترة الكابية التى تبغى الخلاص منها، وبقاءك مهزوما أمام نوازع الهوى والتفريط.

بل قد يكون ذلك طريقا إلى انحدار أشد، وهنا الطامة.

وفى ذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كل عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله وسوء عمله، وإنما الأعمال بالخواتيم.

والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة.

واحذروا التسويف، فإن الموت يأتى بغتة.

ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله ثم قرأ : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ).

ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة فى جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى، والطويلة المدى، ليتخلص من هذه الهنات التى تزرى به.

فى كل بضعة أيام أنظر إلى أدراج مكتبى لأذهب الفوضى التى حلت به من قصاصات متناثرة، وسجلات مبعثرة، وأوراق أدت الغرض منها.

يجب أن أرتب كل شىء فى وضعه الصحيح، وأن يستقر فى سلة المهملات ما لا معنى للاحتفاظ به!

وفى البيت: ان غرفه وصالاته تصبح مشعثة مرتبكة عقب أعمال يوم كامل، فإذا الأيدى الدائبة تجول هنا وهنا لتنظف الأثاث المغبر وتطرد القمامة الزائدة وتعيد إلى كل شىء رواءه ونظامه.

ألا تستحق حياة الإنسان مثل هذا الجهد؟ ألا تستحق نفسك أن تتعهد شئونها بين الحين والحين لترى ما عراها من اضطراب فتزيله، وما لحقها من إثم فتنفيه عنها مثلما تنفى القمامة من الساحات الطهور؟.

ألا تستحق النفس بعد كل مرحلة تقطعها من الحياة أن نعيد النظر فيما أصابها من غنم أو غرم؟ وأن نرجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجتها الأزمات، وهزها العراك الدائب على ظهر الأرض فى تلك الدنيا المائجة؟.

إن الإنسان أحوج الخلائق إلى التنقيب فى أرجاء نفسه، وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك.

ذلك أن الكيان العاطفى والعقلى للإنسان قلما يبقى متماسك اللبنات مع حدة الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات...

فإذا ترك لعوامل الهدم تنال منه فهى آتية عليه لا محالة، وعندئذ تنفرط المشاعر العاطفية والعقلية كما تنفرط حبات العقد إذا انقطع سلكه...

وهذا شأن (... من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا)

كما يقول الله عز وجل.

وكلمة " فرط " ينبغى أن نتأمل فيها، فالعامة عندنا يسمون حبات العنب الساقطة من عنقودها أو حبات البلح الساقطة من عرجونها "فرطا".

وانتزاع حبات الأذرة من كيزانها المتراصة تمهيدا لطحنها تشتق تسميته من المادة نفسها.

والنفس الإنسانية إذا تقطعت أواصرها ولم يربطها نظام ينسق شئونها، ويركز قواها أصبحت مشاعرها وأفكارها كهذه الحبات المنفرطة السائبة لا خير فيها ولا حركة لها.

ومن ثم نرى ضرورة العمل الدائم لتنظيم النفس وإحكام الرقابة عليها..

والله عز وجل يهيب بالبشرـ قبيل كل صباح ـ أن يجددوا حياتهم مع كل نهار مقبل.

فبعد أن يستريح الأنام من عناء الأمس الذاهب، وعندما يتحركون فى فراشهم ليواجهوا- مع تحرك الفلك- يومهم الجديد.

فى هذه الآونة الفاصلة تستطيع أن تسأل: كم تعثر العالم فى سيره؟ كم مال مع الأثرة؟ كم اقترف من دنية؟ كم أضلته حيرته فبات محتاجا إلى المحبة والحنان؟ فى هذه اللحظة يستطيع كل امرئ أن يجدد حياته، وأن يعيد بناء نفسه على أشعة من الأمل والتوفيق واليقظة.

رغبة إلى الله: إن صوت الحق يهتف فى كل مكان ليهتدى الحائرون ويتجدد البالون.

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الفجر " .

وفى رواية: " أقرب ما يكون العبد من الرب فى جوف الليل " فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله فى تلك الساعات فكن...!

إنها لحظة إدبار الليل وإقبال النهار، وعلى أطلال الماضى القريب أو البعيد يمكنك أن تنهض لتبنى مستقبلك.

تأمل فى هذه الأبيات التى أضعها بين يديك تهيب بالغافى أن يصحو، وأن يدع دفء الفراش، وأن يتخلص من استرخاء البدن، وأن يدلف إلى بيت الله ليقف فى محرابه مناجيا يؤمل الخير ويرجو الرشاد.

قال الشاعر: قم فى الدجى يا أيها المتعبد قم وادع مولاك الذى خلق الدجى واستغفر الله العظيم بذلة واندم على ما فات، واندب ما مضى واضرع، وقل: يارب عفوك إننى أسفا على عمرى الذى ضيعته يا رب لم أحسب مرارة مصدر يا رب قد ثقلت على كبائر يا رب إن أبعدت عنك فان لى يا رب مالى غير لطفك ملجأ يا رب هب لى توبة أقضى بها أنت الخبير بحال عبدك إنه أنت المجيب لكل داع يلتجى من أى بحر غير بحرك نستقى؟ حتى متى فوق الأسرة ترقد؟ والصبح، وامض فقد دعاك المسجد واطلب رضاه فإنه لا يحقد بالأمس، واذكر ما يجئ به الغد من دون عفوك ليس ما يعضد تحت الذنوب، وأنت فوقى ترصد!

عن زلة قد طاب منها المورد بإزاء عينى لم تزل تتردد!

طمعا برحمتك التى لا تبعد ولعلنى عن بابه لا أطرد!

دينا على، به جلالك يشهد ـ بسلاسل الوزر الثقيل ـ مقيد أنت المجير لكل من يستنجد ولأى باب غير بابك نقصد؟

ولا تؤودنك كثرة الخطايا، فلو كانت ركاما أسود كزبد البحر ما بالى الله عز وجل بالتعفية عليها إن أنت اتجهت إليه قصدا وانطلقت إليه ركضا.

" إن الكنود القديم لا يجوز أن يكون عائقا أمام أوبة صادقة (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له )

وفى حديث قدسى عن الله عز وجل: " يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى، يا ابن آدم إنك لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ".

وهذا الحديث وأمثاله جرعة تحيى الأمل فى الإرادة المخدرة، وتنهض العزيمة الغافية وهى خجلى لتستأنف السير إلى الله، ولتجدد حياتها بعد ماض ملتو مستكين.

لا أدرى لماذا لا يطير العباد إلى ربهم على أجنحة من الشوق بدل أن يساقوا إليه بسياط من الرهبة؟.

إن الجهل بالله، وبدينه، هو علة هذا الشعور البارد أو هذا الشعور النافر ـ بالتعبير الصحيح ـ مع أن البشر لن يجدوا أبر بهم ولا أحنى عليم من الله عز وجل.

وبره وحنوه غير مشوبين بغرض ما، بل هما آثار كماله الأعلى، وذاته المنزهة.

وقصة الإنسان تشير إلى أن الله خلله ليكرمه لا ليهينه، وليسوده فى العالمين لا ليؤخر منزلته أو يضع مقداره (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون * ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ).

ووظيفة الدين بين الناس أن يضبط مسالكهم وعلائقهم على أسس من الحق والقسط حتى يحيوا فى هذه الدنيا حياة لا جور فيها ولا جهل...

فالدين للإنسان ـ كالغذاء لبدنه ـ ضرورة لوجوده ومتعة لحواسه.

والله عز وجل ـ بشريعته ـ مع الوالد ضد عقوق الولد، ومع المظلوم ضد سطوة الظالم، ومع أى امرئ ضد أن يصاب فى عرضه أو ماله أو دمه!.

فهل فى هذه التعاليم قسوة على البشر ونكال بهم؟ أليست محض الرحمة والخير؟.

وإذا كلف الله أبناء آدم بعد ذلك ببعض العبادات اليسيرة، ليحمدوا فيها آلاءه ويذكروا له حقه، فهل هذه العبادات المفروضة هى التى يتألم الناس من أدائها، ويتبرمون من إيجابها؟.

الحق أن الله لم يرد للناس قاطبة إلا اليسر والسماحة والكرامة، ولكن الناس أبوا أن يستجيبوا لله وأن يسيروا وفق ما رسم لهم فزاغت بهم الأهواء فى كل فج وطفحت الأقطار بتظالمهم وتناكرهم.

ومع هذا الضلال الذى خبطوا فيه، فإن منادى الإيمان ما يزال يهتف بهم أن عودوا إلى بارئكم.

إن فرحته بعودتكم إليه فوق كل وصف.

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل فى أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته؟ فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكانى الذى كنت فيه فأنام حتى أموت..!!

فوضع رأسه على ساعده ليموت،.

فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته ".

ألا يبهرك هذا الترحاب الغامر؟ أترى سرورا يعدل هذه البهجة الخالصة؟.

إن أنبل الناس عرقا، وأطهرهم نفسا، قلما يجد فؤادا يتلهف على لقائه بمثل هذا الحنين، فكيف بخطاء أسرف على نفسه، وأساء إلى غيره؟ إنه لو وجد استقبالا يستر عليه ما مضى لكان بحسبه ذلك الأمان المبذول ليستريح ويشكر.

أما أن يفاجأ بهذه الفرحة، وذلك الاستبشار، فذاك ما يثير الدهشة.

لكن الله أبر بالناس وأسر بأوبة العائدين إليه مما يظن القاصرون!!.

وطبيعى أن تكون هذه التوبة نقلة كاملة من حياة إلى حياة، وفاصلا قائما بين عهدين متمايزين كما يفصل الصبح بين الظلام والضياء.

فليست هذه العودة زورة خاطفة، يرتد المرء بعدها إلى ما ألف من فوضى وإسفاف.

وليست محاولة فاشلة ينقصها صدق العزم، وقوة التحمل، وطول الجلد، كلا، كلا، إن هذه العودة الظافرة التى يفرح الله بها، هى انتصار الإنسان على أسباب الضعف والخمول، وسحقه لجراثيم الوضاعة والمعصية، وانطلاقه من قيود الهوى والجحود، ثم استقراره فى مرحلة أخرى من الإيمان والإحسان والنضج والاهتداء.

هذه هى العودة التى يقول الله فى صاحبها: (و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى).

إنها حياة تجددت بعد بلى، ونقلة حاسمة غيرت معالم النفس كما تتغير الأرض الموات بعد مقادير هائلة من المياه والمخصبات.

إن تجديد الحياة لا يعنى إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيات الحسنة وسط جملة ضخمة من العادات الذميمة، والأخلاق السيئة، فهذا الخلط لا ينشئ به المرء مستقبلا حميدا ولا مسلكا مجيداً.

بل إنه لا يدل على كمال أو قبول، فمان القلوب المتحجرة قد ترشح بالخير، والأصابع الكزة قد تتحرك بالعطاء.

والله عز وجل يصف بعض المطرودين من ساحته فيقول: (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين).

فالأشرار قد تمر بضمائرهم فترات صحو قليل، ثم تعود بعد ذلك إلى سباتها.

ولا يسمى ذلك اهتداء، إن الاهتداء هو الطور الأخير للتوبة النصوح!!

إن البعد عن الله لن يثمر إلا علقما، ومواهب الذكاء والقوة، والجمال والمعرفة تتحول كلها إلى نقم ومصائب عندما تعرى عن توفيق الله وتحرم من بركته.

ولذلك يخوف الله الناس عقبى هذا الاستيحاش منه، والذهول عنه.

قد تكون سائرا فى طريقك فتقبل عليك سيارة تنهب الأرض نهبا، وتشعر كأنها موشكة على حطم بدنك وإتلاف حياتك، فلا ترى بدا من التماس النجاة وسرعة الهرب...

إن الله يريد إشعار عباده تعرضهم لمثل هذه المعاطب والحتوف إذا هم صدفوا عنه، ويوصيهم أن يلتمسوا النجاة ـ على عجل ـ عنده وحده: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين).

وهى عودة تتطلب ـ كما رأيت ـ أن يجدد الإنسان نفسه، وأن يعيد تنظيم حياته، وأن يستأنف مع ربه علاقة أفضل وعملا أكمل وعهدا يجرى على فمه هذا الدعاء، " اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " أ. هـ.

قال الدكتور زكى مبارك ـ نقلا عن قوت القلوب ـ.

" ولا تنظر أيها التائب إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت.

فقد كانت الصغائر عند الخائفين كبائر، وكان من الصحابة من يقول: إنكم لتعملون أعمالا هى أدق فى أعينكم من الشعر كنا نعدها فى زمن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الموبقات.

وليس معنى ذلك أن الكبائر التى كانت على عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ صارت بعده صغائر، ولكن معناه أنهم كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى فى قلوبهم، ولم يكن ذلك الوجدان فى قلوب من بعدهم من المؤمنين.

واختلفت الصوفية فى نسيان ما سلف من الذنوب، فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك، وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وهذان طريقان لطائفتين، وحالان لأهل مقامين، فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين، وأما نسيان الذنوب فطريق العارفين وحال المحبين.

قال زكى مبارك ونحن نرجح الرأى الثانى ونريد الأخذ به فى جميع الأحوال فإن تذكر الذنوب الماضية يشل العزيمة ويفت فى عضد التائب، ويخلق جوا جديدا للتعرف على ما سلف من الذنوب، وهو فوق ذلك جهد ضائع وشغل للقلب بما لا يفيد.

وإقامة المناحات على الهفوات الماضية علالة سخيفة يتوهم فريق من الناس أنها تزيد فى طهر القلوب، وهى فى عالم الأخلاق تشبه بعض ما يقع فى عالم القضاء، فلو كان يصح للقضاة أن يتعقبوا ماضى الناس ليأخذوهم بهفوات قدم عليها العهد لاختل الميزان، وذهب جمال الحاضر، وزهد الناس فى فضل المتاب، فإن الأصل فى التوبة أن تكون حجازا بين عهدين، وأن يصبح التائب وكأنه مولود جديد، ولا تنسى أن اجترار الذكريات الماضية سىء الأثر فى نظام الأعصاب، وهو خليق بأن تنهب العافية ويضيع جمال الساعة الحاضرة، وهى العدة الخلقية فى نظام الأعمال " أ. هـ.

والدكتور زكى مبارك مخطئ فى تعصبه للرأى الثانى، ونحن لا نتعصب للرأى الأول بل نختار ما هو أصلح لدعم التوبة، وهجر الآثام، وإلف الطاعات والفضائل.

فإن كان استصحاب الماضى يحرس الإنسان من الانزلاق ويقيه العودة إلى مساخط الله فيجب استصحاب ذلك الماضى.

إنه يشبه التجربة التى تفيد صاحبها دربة على السير، وقدرة على تخطى العوائق.

والنسيان هنا ذريعة إلى الجهل والانحراف.

أما إذا كان الإنسان يكره استعادة صور انقضى عهدها، وامحى أثرها، ويشعر بأنه قد استأنف عهدا حافلا بثمار الخير، ويرى أن نقل الماضى للحاضر تعكير لصفوه وشل لامتداده، فالواجب أن ينسى ما كان، وأن يقبل على حاضره وحده لينميه ويقويه.

إن النفوس مختلفات فى هذا المضمار، وأحسب أن الذين تسوقهم سياد الرهبة أكثر من الذين يحدوهم نداء الرغبة: (قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا).

مم يتوب الناس؟: أما من عدا المؤمنين بالله الأحد، من مشركين ومعطلين، فتوبتهم لا تصح إلا إذا آمنوا بالله جل شأنه، وتركوا المعاصى التى كان يؤزهم عليها جحدهم للألوهية، أو اعتقادهم فى شركاء مع الله.

روى أبو هريرة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " والذى نفس محمد بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة، يهودى ولا نصرانى، ثم يموت ولم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " .

قال العلماء: إنما خص اليهود والنصارى بالذكر ـ مع أن الدعوة عامة للملل كلها ـ لأن هؤلاء أحسن من غيرهم حالا فهم أصحاب كتب سماوية، وإذا ثبت هذا الحكم فيهم، فهو فى من دونهم أوجب.

ولا شك أن الشيوعيين والوجوديين وأحزابهم أنزل رتبة من أهل الكتاب على ما فى عقائدهم من دخل.

ونحن نصم بالكفر من عرض عليه الإيمان، واستمكن من الدخول فيه، ثم أبى، أما الذين ضلوا لعدم وجود المعلم الهادى، فوصفهم بالكفر مجاز وإلا فهم جهال.

وعلى كلتا الحالتين فصحة التوبة من هؤلاء أن يدعوا ما هم فيه، وأن يعتنقوا ما أنزل الله فى الرسالة الخاتمة.

وفى حض المثلثين على التوبة يقول الله جل وعلا: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم).

وكذلك توبة سائر الملل الأخرى، ما تصح إلا بعد الإيمان بالله الواحد، والاستعداد للقائه، ونبذ ما كانوا عليه من جاهلية، وإمضاء شرائع الإسلام جملة، تمشيا مع مبدأ السمع والطاعة.

قال تعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه …).

وتوبة المسلمين أنفسهم تكون من الذنوب التى لا يجمل بهم ارتكابها لأنها تنافى مقتضى الإيمان، فإذا أزلهم الشيطان إلى إثم فإن ذلك يحسب عليهم، ليؤاخذوا به وصلتهم بالله لا تحميهم من عدله إذا استحقوا العقوبة.

صحيح أن الله أعد النار للكافرين، ولكن المسلمين يدخلونها إذا أسفوا وتهاووا فى الذنوب ولذلك يقول لنا محذرا: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون * وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين).

فإذا لم يتقوا، ويطيعوا، ويسارعوا...

فما بد من أن يلقوا وبال أمرهم.

وفى حض المسلمين على التوبة، والبعد عن المعاصى يقول الله عز وجل: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).

ويقول: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم).

وهذه التوبة تستهدف أن يكون المسلمون عنوانا صحيحا لدينهم، ومجلى لفضائله وآدابه.

تدبر قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " المؤمن مرآة المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه ".

والجمل الثلاث التى يتكون منها الحديث تبرز مجتمعا متناصحا متعاونا، يعمل المؤمن فيه على تنقية أخيه من العيوب، وعلى ضمان معيشته وصدق حمايته، حاضرا كان أم غائبا.

فإذا تمزقت هذه العرى، ورأيت مجتمعا متناقضا تشيع فيه الأثرة والمظالم فأين يكون الإيمان؟.

وهل يترك الله أمة تصنع ذلك بنفسها ورسالتها من غير عقوبة؟.

والنصوص من الكتاب والسنة متضافرة "على أن ناسا من أهل التوحيد يدخلون النار لعدم وفائهم بحقوقه، ثم يخرجون منها بعد قضاء المدد المحكوم عليهم بها فى هذا السجن اللعين ويلقبون بالجهنميين.

عن أبى سعيد الخدرى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون فى نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل.

ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية " .

وهذا الحديث ـ وأمثاله كثير فى الصحاح ـ قاطع بأن من أهل الإيمان من يعذب فى النار لسوء عمله...

على أن سوء العمل يتفاوت، وللناس عامة موازين تضبط الخير والشر ضبطا دقيقا.

فمن كانت حسناته أرجح فهو على رجاء المغفرة: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم).

أما من عبث وغش وأفسد، ومرد على الشر، فلن يدخل الجنة بأقذاره النفسية هذه حتى يلتهب فيها عذاب جهنم.

ونحن نرى أن المسلم يعذب على ذنوبه لأمرين: أولهما أنه أساء فى خاصة نفسه، فالجزاء المرصد له عدل.

والآخر أنه أساء للإسلام نفسه إذا تعاون مع غيره من الرعاع على إظهار الأمة فى صورة تحقر دينها وتصرف الناس عن الثقة فيه والطمأنينة إليه.

وهل كفرت أكل م شتى بالإسلام إلا من سلوك هؤلاء؟.

مدارج التوبة: وأهل الطاعة محتاجون إلى التوبة كما يحتاج إليها أهل الذنوب.

ومن ظن منهم أنه ليس عنده ما يتوب منه، أو ظن أنه مستغن عن المتاب فقد زل.

والتوبة يتطلبها هؤلاء من عدة جهات.

(أ) من الخلل الذى يقع فى الطاعات نفسها، فإن أحدا قلما يأتى بالعبادات المطلوبة مبرأة من كل عيب.

وإن العبد لينظر فى صلاته، أو فى تلاوته كتاب الله مثلا، فيرى أن ضبابا من الغفلة اعترضه فى آونات كثيرة وهو يصلى أو يقرأ.

ومن الممكن أن ترفض له هذه القربات بتهمة ثابتة، وهى سوء الأدب ورداءة التقدم بها بين يدى الله.

ومن أجل ذلك التقصير المستمر شرع الاستغفار فى أعقاب الصلوات ثلاث مرات.

(ب) من ظن بأن هذه الطاعات هى منتهى حق الله عليه، وأنه بأدائها قد فرغت ذمته، ودفع لله ثمن نعمه، وثمن جنته!!.

وبقى على الله أن يبعث ملائكته لتسلم المغرور مفاتيح الجنة التى استحقها بعمله... !!!

وبعض ذوى الطاعات ينتابهم شىء من البلادة وتحجر القلب ارتكانا إلى أشكال العبادات التى فعلوها.

وربما نزلوا بهذه الأوهام والأدواء إلى درك لم ينزل إليه بعض المخطئين، كما شرحنا ذلك فى موضعه من حكم ابن عطاء الله...

(جـ) وصنوف العبادات التى طولب المؤمنون بها كثيرة.

ومن الناس من يفتح له فى ناحية لا يستطيعها غيره لاستعداد زودته الأقدار به من قبل، وليس فى هذا حرج.

إنما الحرج فى أن يستكثر الإنسان من عبادة ما على حين يجب عليه التوسع فى غيرها وتوجيه فضول نشاطه إليها.

فالغنى الذى يستكثر من الصلوات ويقتصد فى الصدقات والنفقات يجب أن يتوب من هذا المسلك.

والعالم البليغ الذى يصوم الاثنين والخميس، ويلوذ بالصمت أو بالإيجاز فى مواطن الزجر والنصح يجب أن يتوب من هذا المسلك.

إن بعض الناس يؤثر عبادة على أخرى لأنها أدنى إلى هواه، وأقرب إلى السلامة، والدين أحكم فى تعاليمه وأدق فى موازينه مما يتوهم هؤلاء.

(د) وحراسة الطاعة بعد أدائها من شتى الآفات ضرورة، كحراسة الزرع من الديدان والأعراض التى تجتاحه.

والرجل يعطى ثم يمتن ، أو يطلب بعطائه الصدارة بين الناس، رجل يحبط ـ بهذا المسلك ـ عمله، ويضيع أجره.

وقد رسم القرآن الكريم صورة هذا المحروم من أجره وهو أفقر الناس إليه فضرب له المثل بشيخ طاعن فى السن له أولاد ضعاف يرتزقون من حديقة لهم، قد تعلقت بها آمالهم.

وبغتة صوح نبتها إثر كارثة جوية أحرقتها...!!!

ذلك مثل العمل الصالح يهلك بسوء التعقيب عليه (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون)

توبة الصفوة، واستغفار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والصفوة الذين نعنيهم هم قوم رسخت فى مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة وشهود.

حياتهم يبرق عليها سنا من صدق المعرفة وتمام الاستسلام، فلا يكاد يدرك نوره غروب.

وتوبة هؤلاء تجىء من هبوطهم عن المستوى الذى يجب أن يبقوا محلقين فيه.

ونحن ـ لكى نستبين منازل الناس ـ يجب أن نعرف أن الاختلاف شديد جدا بين قيم البشر، وأن المسافة بين إنسان وإنسان تصل أحيانا إلى بعد ما بين الأرض والسماء...

تأمل قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصف درجات المؤمنين فى الجنة: " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرى الغابر فى الأفق من المشرق والمغرب ـ لتفاضل ما بينهم ـ!!

قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.

قال: بلى والذى نفسى بيده، هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ".

إن الفروق القائمة بين أفراد الجنس البشرى واسعة، والله عز وجل يكلف كل امرئ على مقدار ما أوتى من سعة روحية وعقلية.

وكما أن العطاء من صاحب القناطير المقنطرة يستقل إذا لم يكن غدقا، فكذلك يستقل الجهد المحدود من ذوى الهمم الضخام.

وهذا معنى قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أجل إن العمل الذى يعتبر حسنا من إنسان يعتبر تقصيرا من إنسان آخر.

وذلك ما جعل أحدهم يقول: ولو خطرت لى فى سواك إرادة على خاطرى يوما حكمت بردتى دوافع هذه المبالغة فى الحكم معروفة، وآفاق الكمال الدينى بعيدة المدى، (و في ذلك فليتنافس المتنافسون).

والإحسان عليا منازل المؤمنين، ولكنه أدنى درجات الأنبياء، إنهم لا يهبطون دونه مهما أخطئوا.

وصلتهم بالله الذى اصطفاهم لحمل رسالاته أزكى وأنقى من أن يلموا بسيئة على النحو الذى نعهد فى عامة المؤمنين.

إن الأخطاء التى يستغفرون منها أنماط من الكمال لا يطيقها أمثالنا ولا ساداتنا.

وإنى أقرأ سورة: (إذا جاء نصر الله و الفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)

فأتساءل: مم يستغفر الرسول ربه وهو يستعد للقائه؟.

إن الصحابة فهموا من السورة أن الله يخبر رسوله باقتراب أجله بعد أن نجح أروع نجاح فى أداء رسالته!!

لقد محا الجاهلية، وبنى الأمة التى صنعت أزهى حضارة فى التاريخ، وعليه أن يتهيأ للقاء ربه بعد ما أدى واجبه كاملا، وبم يتهيأ ؟ بالتسبيح والاستغفار.

إن المغفلين من الخلق هم الذين يتصورون هذا الاستغفار من أخطاء تشابه أخطاءنا.

ولا عجب فالحمالون فى محطة القاهرة عندما يسمعون بيت المعرى: تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد لا يتصورون التعب إلا حمل قفف وحقائب، وشد حبال وأحزمة، ذلك مبلغهم من العلم...

وذلك ما فهمه المستشرقون والمبشرون من أمر الله لرسوله أن يستغفره!!

زعم بعض أولئك المبشرين أن آيات القرآن تشهد بأن عيسى أفضل من محمد؟ قالوا: إن الله ذكر محمدا فى القرآن بما يفيد أنه رجل مذنب!.

ألم يقل له: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

أما عيسى فإن صفته فى القرآن أرفع: (اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين).

ونحن نعرف أن موسى وعيسى ومحمد رجال عظام، وأنهم من أصحاب العزمات الشداد فى إبلاغ رسالات الله، وهداية الخلق بأنوار الوحى الأعلى.

ونعلم أنهم جميعا متواضعون كرام الخلق لا يفكر أحدهم فى الاستعلاء على غيره وانتزاع الصدارة منه، وأن محمدا أبى على أمته أن تفضله على غيره من الأنبياء.

ونعلم أن ذنوب هؤلاء المنسوبة إليهم ـ وما منهم إلا نسب له ذنب ـ ليست بتة على غرار ما تقترف من سيئات، إنما هو ما ذكرنا آنفا من نزولهم أحيانا عن الأوج الذى يسبحون فيه مع الكواكب، أما هبوطهم إلى مستوانا الأرضى فمستحيل.

ولكن ما دام الأمر قد غمض فى بعض الأذهان حتى تطاولت على مقام النبى الخاتم صاحب الرسالة العظمى فيجب أن نلقى على الموضوع فضل بيان.

إن مكانة محمد بين إخوانه المرسلين تقررها الوظيفة التى وكلت إليه، وهى وظيفة تعرف ضخامتها عندما تعرف أن الله قسم تاريخ الحياة نصفين.

نصفا أول، وزع عشرات ومئات الأنبياء فى أرجائه.

ونصفا آخر اكتفى فيه بنبوة واحدة لا معقب عليها!!

ونصف الحياة الأول يمثل الجانب الناشىء، أما نصفها الآخرهو يمثل الجانب الذكى المستحكم الرأى.

إن محمدا وحسب هو الرسول الذى صاحب العالم فى الفترة اليقظة النابهة من تاريخه.

فعلام يدل هذا؟.

على أنه أخف كفة من أحد الأنبياء الذين زحموا العالم القديم!!

وشىء آخر، إن كتاب محمد هو السجل الباقى المستوعب لتعاليم الله دون نقص ولا زيادة، تلك التعاليم التى جمعت وصايا السماء من الأزل إلى الأبد، وكتبت لها صيانة لم تؤثر عن كتاب فى الأولين والآخرين، فهى محفوظة حرفا حرفا، ولا نقول كلمة كلمة.

فعلام يدل هذا؟.

على أن صاحب الكتاب الخالد أتفه حظا، وأضأل شأنا من أصحاب الكتب التى فقدت أصولها وعراها من التحريف ما عراها!

هل النبوات المحلية أنبه وأرقى من النبوة التى استطالت واستعرضت حتى وسعت الأمكنة والأزمنة؟.

إن مكانة محمد بالنسبة لغيره من الأنبياء قد عرفت وتوطدت بعد ما استبانت حدود رسالته، وعرف المستقدمون والمستأخرون: أى مهمة أعدتها له الأقدار، وزودته لاحتمالها بأنفس المواهب؟.

نعم، لقد استغنى بهذه الشهادة العلمية عن تزكية الكلام.

وأضحى فى المنصب الذى يمنح هو فيه الآخرين ما يدفع عنهم الشبه ويرد المفتريات.

ولذلك أجرى الله على لسانه الآيات التى تعلى قدر ابن مريم، وانساق الأسلوب فيها أقرب إلى الإطناب منه إلى الإيجاز.

لماذا؟ لأن النبى الكريم عيسى تعرض لاتهام ساقط، وقذفت أمه المحصنة بما هى منه براء، فكان هدف القرآن تبرئة الرجل الشريف، والإشادة بشخصه والثناء عليه بما هو أهله.

وكذلك كان موقف القرآن من موسى لما آذاه اليهود ونالوا منه: (فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها).

وبديهى أن موقف الدفاع عن شخص ما إنما يقوم على إعظامه وتكريمه وذلك هو السر فى التنويه بعيسى على النحو الذى حفل به القرآن...

ولا مجال لعقد مقارنة بين الرسولين عيسى ومحمد، لأن ذلك لا باعث عليه ولا محل له ولا فائدة فيه.

وإنه لمما يعلى قدر محمد أن يكون كتابه مقتضبا فى مدحه، مرسلا فى مدح غيره.

لقد تدبرت هذه وأنا أقرأ آيات من سورة الدخان، ووجدت أن الله جل شأنه أعظم محمدا بهذه المعاملة.

قال يصف موقف العرب من الرسالة وصاحبها: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون).

كل الذى وصف به محمد هنا هو الإبانة.

فلننظر ما جاء بعد فى موسى ورسالته: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين)

إن موسى هنا وصف بالكرم والأمانة وبأنه آت بسلطان مبين!!

هذا السياق المختلف هو الآية على عظمة محمد، وعلى أن الله جعله إمام الأنبياء طرا.

إن الله أجرى على لسان الأخ الأكبر ما يليق بمكانته من دفاع عن إخوته وتنويه بجهادهم وإبراز لما خفى منه...

أما هو فحسبه أصل الاصطفاء لإبلاغ أضخم رسالة سماوية.

رسالة أنقذت من العدم تراث من قبله، وردت إليه الحياة، ثم نهدت لقوى الشر التى هزمت الوحى وحملته فى الأعصار السالفة فدمرتها تدميرا.

إن إمامة محمد تشهد بها دلائل كثيرة، فإذا أنكرها البعض فلا ضير.

لقد قال عن نفسه ـ إخبارا بالواقع فقط ـ: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ".

إنه لا يذكر ذلك فخزا، بل كما يذكر ترتيب الناجحين فى امتحان أو مباراة.

لتقرير حقيقة علمية ينبغى أن تعرف ولا معنى لسترها.

الورع: ترك المعاصى واجب يقينا، ومن الخير ترك ما يقرب منها حذرا من الوقوع فيها، وهذه حيطة يتذرع بها أولو العزم من الناس، فإن الذى يكره الرذيلة.

يجعل بينه وبينها حجاب، ويختط منهجا لحياته بعيدا عن مظانها وعن أصحابها، وبذلك يؤمن الانزلاق إليها ويتحصن من أسباب الإغراء التى تكثر قريبًا منها.

والأصل فى ذلك ما رواه النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشابهات، لا يعلمها كثير من الناس.

فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فى الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه.

ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله فى أرضه محارمه.

ألا وان فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " .

والحديث يضرب المثل للبعد عن الشبهات بما نألفه فى حياتنا من أحوال الرؤساء.

فإن لكل منهم مقرا يتربع فيه وحول هذا المقر ساحة واسعة يحظر الاقتراب منها، وينتشر الحراس حولها.

هذه المساحة المجاورة للمقر هى الحمى، وكأنها استحكامات خارجية للمقر نفسه، ولذلك أعطيت حكمه، ومنع اعتداؤها.

وقد جرت العادة أن يمضى الناس لشأنهم بعيدا عن هذه الأسوار وما وراءها، إذ لا غرض لهم فى القرب منها.

ولماذا يتسكعون حولها فيتعرضون للعنت.

والله عز وجل ـ وله المثل الأعلى ـ بين أن له فى أرضه حمى يجب تهيبه، وهذا الحمى يتمثل فى المحرمات، التى نهى عنها، والكيس من باعد بين نفسه وبين هذه المحرمات، ضنا بشرفه عن التلوث، وسيرته عن الاعوجاج.

ثم إن الحلال المحض والحرام المحض قد بينت أدلتهما، واتضحت حكمة التحليل والتحريم فيهما: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، يعظكم لعلكم تذكرون.

بيد أن هناك أمورا أخذت من جانب الحلال شيئا ومن جانب الحرام شيئا، فإذا تأملها الناظر وجد لها الوجهين المتضاربين، وتساءل: أى الناحيتين يسلك؟.

والمؤمن الصالح يرجح هنا الحظر على الإباحة ضمانا لبراءة عرضه ودينه.

وسيره مع الحزم فى هذه الميادين يرسخ قدمه فى طريق الحق ويجعله قصيا عن أسباب الإغواء والإغراء.

أما التهاون فربما بدأ خفيف الأثر لكنه قد يجر بعد إلى ما لا يليق.

والروايات الأخرى لحديث الحلال والحرام تدل على ذلك.

فلأبى داود أن الرسول قال: " إنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالطه وإن من يخالط الريبة يوشك أن يجسر " وفى رواية النسائى " فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان " وفى رواية الطبرانى " الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك شبهات، فمن أوقع بهن، فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه... ".

فى الأمور المعتادة: ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وذلك جرى على منهج الإسلام فى التيسير لا التعسير، ولا عجب فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة".

أما فيما يتصل بالخير والشر والجمال والقبح، وما يرضى الله وما يسخطه، فإن مقتضى الحزم أن يحصن المرء نفسه بمزيد من الحيطة فيترك شيئا من الحلال القريب من الحرام كراهية للحرام وما يتصل به، وعن عطية السعدى "لا يبلغ العبد أن يكون في المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذرا لما به بأس ".

وعن حذيفة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع".

والورع ليس معناه التزمت أو العجز عن مواجهة المشكلات المتجددة بحكم الله فيها، كلا، فالمسلم يتحرى الحق جهده وينظر ما يلقاه من القضايا والأحكام ببصر نير، فإذا اطمأن قلبه إلى ما يقنعه استقر عليه.

دون وجل، وإن نفر قلبه من مسلك أو رأى هجره واستراح.

عن أبى ثعلبة الخشنى رضى الله عنه قلت يا رسول الله أخبرنى.

ما يحل فى وما يحرم على؟ قال: البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، !

وإن أفتاك المفتون " .

وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: اكثروا على عبد الله ذات يوم.

فقال عبد الله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا هنالك!!

ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون.

فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما فى كتاب الله.

فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله ولا قضى به نبيه فليقض بما قضى به الصالحون.

فإن جاء أمر ليس فى كتاب الله ولا قضى به نبيه ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه.

لا يقل: إنى أخاف إنى أخاف!!

فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات.

فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

التورع عن الشبهات كما رأيت، سواء كانت هذه الشبهات رأى العين وحكم العلم، أم كانت قلق النفس وريبة الفؤاد.

ونحن فى عصر مادى مغرق يستمع إلى هذا الكلام وكأنه يستمع إلى لغة الجان أو سكان المريخ.

إنه يطلب ما يشتهى غير دار بحديث الحلال والحرام وما بينهما من شبهات، ولقد أعطى الرذائل اسما غير اسمها ليتناولها وهى حبيبة إليه شكلا و موضوعا.

والأجيال التى تخوض الحياة بهذه النية أقرب إلى طباع البهائم منها إلى خلائق الإنسان.

أما أهل التقوى فهم وقافون عند حدود الله، هيابون أن يلموا بشىء يسقط مروءتهم ويغضب عليهم مولاهم.

وقد ترقى بهم هذا الإيمان إلى ضرب آخر من الورع يستحق الإشارة.

قال أبو سليمان الدارانى: كل ما شغلك عن الله فهو شؤم عليك.

وقال سهل بن عبد الله حين سئل عن الحلال الصافى: الحلال هو الذى لا يعصى الله فيه.

والحلال الصافى الذى لا ينسى الله فيه.

فالورع الذى لا ينسى الله فيه، هو الذى سئل عنه الشبلى رحمه الله، فقيل له: يا أبا بكر ما الورع؟ قال أن تتورع ألا يتشتت قلبك عن الله عز وجل طرفة عين.

وهذا اللون من التفكير يقتضى نمطا حازما من السلوك لا يطيقه إلا الأقلون، منهم عمر بن الخطاب الذى كان ينظر إلى الرجلين المتساويين فمان كان أحدهما قريبا له أقصاه.

كأن قرابته من أمير المؤمنين عائق له عن الصدارة والوجاهة!!

ولم ذلك؟ لأن عمر شديد الحساسية بما تفعله الأسر الحاكمة فهو لا يريد أن تنتظم له أسرة فى هذا السلك، وهو يحتاط لذلك من أول الأمر.

ومنهم أبو حنيفة الذى كان يتاجر فى الملابس محددا لنفسه ربحا يكفل حاجاته فحسب، رافضا ما زاد على ذلك، وإن طابت نفوس المشترين بدفعه!.

وأساس هذه الخطة ـ التى لا تلزم بها الشريعة ـ أن هؤلاء الرجال شغلتهم فى حياتهم وظيفة أعلى، فهم يوجلون مما يصرفهم عنها، أو يوهى عزائمهم فيها.

إن الرجل الذى يرى فى الله عوضا عن كل فائت، ينظر إلى عرض الدنيا وشئون الأقربين والأبعدين نظرة خاصة، نظرة من يحكم عليها من أعلى، لا من تتحكم فيه وهو دونها أو وراءها...!!

العفة والقناعة: وهذا العنوان أحب إلى وأقرب إلى لسان الشريعة من عنوان " الزهد والفقر " الذى أجرى على لسان نفر من الكاتبين.

فالعفة مثلا تعنى قدرة الواجد على ضبط نفسه، أو قدرة المحروم على حكم إرادته، فهى فضيلة إيجابية حية، أما الزهد فربما اقترب فى مدلوله، وفى نتيجته من هذا المعنى، إلا أنه أدنى إلى السلبية والاستكانة.

وقد رأيت الشارع استعمل كلمة العفة فى نصوص كثيرة صحيحة، أما كلمة الزهد فترى أنها لم تجىء فى حديث صحيح.

عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة، وصدق الحديث، وحسن الخليقة، وعفة فى طعمة".

وعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " من أكل طيبا، وعمل فى سنة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة، قالوا: يا رسول الله إن هذا فى أمتك اليوم كثير.

قال: وسيكون فى قرون بعدى قليلا " .

وفى الحديث " من يستعفف يعفه الله " .

وقد قال تعالى لأولياء اليتامى: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف).

وقال للعزاب: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله).

وفى الرضا بالواقع، وحسن استغلاله، ورد السخط على الأقدار يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " خير الذكر الخفى، وخير العيش ما يكفى ".

وفى الحديث " يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " .

وعن عبد الله بن الشخير: أتيت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر... )

قال: يقول ابن آدم " مالى مالى!!

وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنينت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " .

وظاهر من التأمل فى الآثار الأخيرة أنها تحارب رذائل الشره والطمع، والتبرم بالميسور، والبخل فى وجوه الحق.

إن اشتهاء الدنيا بجنون وطغيان يكاد يختلط بدماء الناس ولحومهم، ويخرج بهم عن جادة الاعتدال والحكمة.

والإنسان مجادل طويل اللسان فى تسويغ شهواته، وبسط حاجاته، وتحقير ما عنده، وإعلان التمرد عليه، ونعته بأقبح النعوت!!

وماذا يصنع الدين إن لم يهذب هذه الطباع، ويدرب البشر على فضائل العفة والقناعة؟

وبديهى أن العفاف لا ينافى الإثراء من وجوه الخير، وأن القناعة لا تنافى السعى إلى حالة أفضل، وسنشرح ذلك على ضوء ما نورد من نصوص.

وقبل أن نتناول الموضوع كله بالشرح نحب أن نثبت رأى العلماء الحفاظ فى بعض أحاديث الزهد المشهورة.

ذكر الحافظ المنذرى عن سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه قال: " جاء رجل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله دلنى على عمل إذا عملته أحبنى الله وأحبنى الناس!.

فقال: ازهد فى الدنيا يحبك الله، وازهد فيما فى أيدى الناس يحبك الناس..!!

قال: رواه ابن ماجه وقد حسن بعض مشايخنا إسناده.

وفيه بعد، لأنه من رواية خالد بن عمرو القرشى الأموى السعيدى عن سفيان الثورى عن أبى حازم عن سهل.

وخالد هذا قد ترك، واتهم، ولم أر من وثقه.

قال الحافظ المنذرى ـ بعد ما زيف سند الحديث : لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة، ولا يمنع كونه راويه ضعيفا أن يكون النبى قاله ـ أى بسند آخر!!

وقد تابعه ـ يعنى خالدا ـ محمد بن كثير الصنعائى عن سفيان.

ومحمد هذا وقد وثق على ضعفه وهو أصلح حالا من خالد، والله أعلم.

هذا وقد ذكر المنذرى جملة أحاديث أخرى فى الزهد، لم يبلغ أحدها مرتبة الصحيح، وإن كانت هذه الأحاديث مقبولة المعنى من حيث دلالتها على العفة والقناعة والرغبة فى الله والاكتراث بالدار الآخرة.

وذلك ما جعل المنذرى رحمه الله يشرح قيمتها العلمية بالحكم الصائب على أسانيدها، ثم يروج للمعانى النبيلة التى احتوتها، وهى معان تستحق الحفاوة.

بيد أننا ـ نحن المسلمين ـ الآن فى وضع دقيق يفرض علينا أن نسير بحذر فى تربية أمتنا، وعلاج العلل المتناقضة التى استشرت فى كيانها.

إن حب الدنيا وكراهية الموت من أسباب الانهيار العسكرى الذى أصاب المسلمين فى الأعصار الأخيرة.

والجهل بالدنيا، والعجز فى ساحاتها هما كذلك من أسباب الانهيار العام الذى استغله خصومنا فى النيل منا والإنحاء علينا.

وقادة الفكر الإسلامى مسئولون عن أمرين: أولهما: تعزيز عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وتذكير الإنسانية بمصيرها الخالد بعد أن ترحل عن أرجاء هذه الأرض.

والآخر: البراعة فى هذه الحياة وإحراز قصب السبق فى علوم الأرض، وتوجيه القوى المادية المختلفة ـ بعد فقهها وإجادتها ـ إلى خدمة المثل العليا للإيمان الصحيح.

وقد بلى المسلمون بمن جهلهم فى الحياة باسم الزهد فيها، ومن صرفهم عن العمل لها بزعم أن ذلك صارف عن عمل الآخرة!!

ونسى الغافلون الذين بلوا أمتنا بهذه المحنة أن أخصر الطرق لخسارة الآخرة، وضياع الحقيقة، وسيطرة الضلال، وانتشار الإثم، هو هذا التجهيل والتعطيل..

من أجل ذلك آثرنا ـ ونحن بصدد تربية النفوس ـ أن نؤثر عنوانا على عنوان، وإن كان هذا التغيير فى الشكل لا يغنى عن الإفاضة فى شرح الموضوع نفسه.

تتسع أقطار الأرض لأعداد كثيفة من الناس، فيهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، وفيهم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.

وكلا الفريقين يسعى وراء رزقه، يبغى أولا أن يوفر الضرورات التى لابد منها لنفسه ولأهله، فإذا اطمأن إلى تحصيلها اجتهد أن ينعم عيشه بالمرفهات، وأن يقطع مرحلة العمر، وهو طاعم كاس آمن مسرور...

يكاد البشر مؤمنهم وكافرهم يتفقون على هذا المنهج، بيد أن هناك خلافا عميق القرار فى تفكير الفريقين، ولون شعورهما.

فالكافر يعبد الحياة لذاتها، ويطلبها على أنها الهدف الفذ، والفرصة التى إن ضاعت ضاع كل شىء.

إنه لا يعرف الحياة إلا هذه الفترة المتاحة له على ظهر الأرض!

ولا يصدق أن وراء هذا العيش عيشا!

أو أن بعد هذه الدار الدنيا دارا أخرى...!!

أما المؤمن فإنسان على النقيض فى فهمه وحكمه، إنه واثق من أن هناك حياة آكد وأعظم، ينتقل البشر إليها ويخلدون فيها.

وأن المحيا على ظهر الأرض وسيلة لا غاية، أجل، هو وسيلة لما بعده، فهنا الغرس، وهناك الحصاد؟ هنا السباق، وهناك النتيجة.

والدنيا إذا لم تكن مطية للآخرة كانت دار غرور، وميدان باطل.

البون بعيد كما ترى بين الفريقين، وإن تجاورا فى المقام، وكدحا وراء الطعام.

هذا يأكل ليعيش، وذاك يعيش ليأكل...

إلا أن سحر الدنيا شديد الفتنة، ومعارك الأقوات تستنفد طاقات ضخمة وتقيد بازائها مشاعر وأفكارا كثيرة.

ثم هناك تعويل الألوف المؤلفة على النتائج العاجلة فى هذه الدنيا، وتأثرهم بها..

هذا كله جعل الدين يبرز فى تعاليمه ناحيتين خطيرتين.

الأولى: الإلحاح فى إفهام الناس أن الدنيا لا تطلب لذاتها، وأنها لا تستحق أن يتفانى الناس فيها، إنها إذا لم تكن وسيلة للآخرة، وإذا لم تصنع منها جسرا تعبر منه إلى رضوان الله فلا خير فيها...

أطلبها، وامتلكها كلها إن استطعت، لكن على هذا الأساس!

إن الله لم يقل لقارون صاحب الكنوز الهائلة: انخلع من مالك كى أرض عنك لا، ابق فيه ولكن (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ).

الإسلام يحتقر الدنيا أشد الاحتقار عندما تكون الأمل الذى لا أمل معه، وعندما يركض البشر فى طلابها لا لشىء إلا للحصول عليها، والاستكثار منها.

ثم الموت فى أطوائها، كما تموت دودة القز داخل ما تنسج، وليست تنسج لنفسها شيئا.

إنه يحتقرها هدفا، ولكنه يحتفى بها وسيلة!.

وفى الإزراء على الحياة الدنيا، عندما تكون غاية مجردة جاءت آيات كثيرة، وأحاديث شتى، نثبت هنا بعضها: قال الله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا).

والمثل واضح فى أن الدنيا تتبخر بين أيدى عبادها، كما يتبخر الماء من الهشيم، فإذا هم يقبضون أيديهم على وهم.

ماذا كسب خزان المال عن وجوه الخير؟ وماذا ربحوا من نسيان رازقه، ورفض وصاياه فيه؟.

ماذا نال عباد الأثرة والجاه والاستعلاء عندما يسلون من الحياة الدنيا سلا، مخلفين بعدهم أملاكا، ذهب اسمهم عنها، وآثار كحركة الريح فى صفحة الماء، لا استقرار لها ولا بقاء...

وماذا يكون موقفهم عندما يقول الله لهم: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم).

إن عبادة الحياة، واعتدادها كل شىء، خطأ شائع، ولذلك صوب الإسلام إليه سهامه وأوهن أركانه، وقد جاءت على لسان رسول الله نصائح عالية نوردها هنا بعدما رسمنا لها الإطار الذى يحدد المقصود منها، حتى لا يفهم غر أنها هجوم على الحياة مطلقا.

إنها هجوم على نشدان الحياة للحياة، دون فكر فى رب، أو ثقة فى جزاء.

عن ابن عباس: مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشاة ميتة قد ألقاها أهلها، فقال: والذى نفسى بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها .

وفى رواية عن أبى الدرداء: مر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدمنة قوم ـ كوم سبخ ـ فيها سخلة ميتة.

فقال: ما لأهلها فيها حاجة؟ قالوا: يا رسول الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها!

فقال : والله للدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها.

فلا ألفيتها أهلكت أحدا منكم .

وعن الضحاك بن سفيان أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: يا ضحاك ما طعامك؟ قال: يا رسول الله.

اللحم واللبن!

قال.

ثم يصير إلى ماذا...؟.

قال: إلى ما قد علمت...

قال: فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا .

وهذه الآثار جميعا تنعى على عشاق اللذة، وطلاب المتعة ما ينغمسون فيه إلى الأذقان، ذاهلين على الله، وعن الآخرة...

وإن كانت الدنيا إنما تطلب وتستحب، وسيلة لما بعدها، وقنطرة لمثوبة الله جل وعلا، فإن طالبها يجب أن يلتزم القوانين التى شرعها من تطلب الدنيا لأجله.

وقد روى عبد الله بن عمر وقال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار ".

إن هناك آدابا لامتلاك الحياة يجب أن تدرس بدقة...

وذاك سر حديثنا عن العفة والقناعة، والحل والحرمة...

إن الناس قد ترتكس أخلاقهم، فيرون أن ما تيسر أخذه، لا يصح أن يتركوه مهما كانت وسائله، وهذه بهيمية مقبوحة...!

فالرجل الشريف لا يبنى كيانه إلا بالطرق الشريفة.

وإذا أتته الدنيا عن طريق الختل، أو الغش، أو الجور أبى أن يقبلها، ورأى فراغ يده منها أرضى وأزكى لنفسه.

وفى عفة المؤمن عن الحرام يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ولأن يأخذ ترابا فيجعله فى فيه خير له من أن يجعل فى فيه ما حرم الله عليه " وعن كعب بن عجرة رضى الله عنه قال: قال لى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به.

يا كعب بن عجرة.

الناس غاديان فغاد فى فكاك نفسه فمعتقها، وغاد موبقها " .

وانظر كم ترى الفرق شاسعا بين رجل يصيره طعامه حطبا للنار، وآخر يتكسب الحلال، ويتملك الكثير منه والقليل، فإذا ما ينفقه منه على نفسه وولده يحتسب زكاة له، ويوزن فى عمله مع الباقيات الصالحات.

فعن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أيما رجل كسب مالا من حلال، فأطعم نفسه، أو كساها، فمن دونه من خلق الله فإن له به زكاة " .

ونزول الإنسان على قانون الاكتفاء الذاتى هو العون الأكبر على ما يأمره به الإسلام من قنوع وعفاف، فإن أكثر متاعب الناس تأتيهم من السرف فوق ما يطيقون والتطلع إلى حياة لا يملكون أسبابها.

وربما لجأوا إلى الاستدانة والمطال، أو إلى المسألة والضراعة، أو إلى الرشوة والسرقة، أو إلى النهب والسطو، كى يسدوا أبوابا من النفقة فتحوها على أنفسهم تزيدا وطمعا.

ولو أنهم عاشوا فى حدود ما يملكون لاستراحوا وأراحوا.

والاكتفاء الذاتى يلزم الإنسان أن يعرف موارده جيدا، ثم يضغط شهواته ورغائبه حتى لا تعدو به حدود ما يملك.

وأن يغمض عينيه عن حياة الآخرين فلا يحاول المقارنة المثيرة.

وأن يوقن بأن سقوطه رهن بمد يديه إلى هذا وذاك.

وأنه كلما ترفع، واستعف ملك نفسه وثبت كرامته، وعاش وجيها فى الدنيا والآخرة.

روى جابر بن عبد الله أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إياكم والطمع فإنه هو الفقر وإياكم وما يعتذر منه " .

وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.

أتى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل فقال: يا رسول الله أوصنى وأوجز، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " عليك بالإياس مما فى أيدى الناس، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه " .

إن القناعة قدرة على ضبط النفس إذا تطلعت إلى ما يذلها فى العقبى، وإن حلا لها أول الأمر.

وفى الحديث: إن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس .

إنك لا تعدم أن ترى فى كل مجتمع أناسا يسفل على أنفسهم الوقوف بالأبواب وتعليق الآمال بذى جاه أو سلطان.

قد يرقبون العطاء لأن حبهم للمال عودهم التكفف.

وقد ينشدون الحظوة أو المنصب، لأن عوزهم النفسى زين لهم أن العزة فى المنصب الذى يملك فلان أمره، فهم يزدلفون إليه حتى ينالوا ما يشتهون.

وإنى لأعرف أناسا لهم ذكاء وباع يؤجرون مواهبهم إلى كل من يدفع لهم الثمن.

وما الثمن؟ شىء من حطام هذه الحياة الهالكة، أو من وجاهاتها الخادعة.

وقحط العقائد والأخلاق لا يجد بيئة يأوى إليها ويستقر فيها، مثل هذه النفوس المتعلقة الهابطة.

لذلك لا تعجب إذا كان سيد الرجال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأخذ أصحابه بدروس الكرامة التى تقصيهم عن هذه المواطن السوء، ويغرس فى لحمهم ودمهم معانى العفة والقناعة التى تجعلهم ملوكا فى أنفسهم، لأنه ليست لهم حاجة تدنيهم إلى بشر.

عن عوف بن مالك الأشجعى رضى الله عنه قال: كنا حديثى عهد ببيعة فقال لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا تبايعونى؟ فقلنا قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟.

قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، لا تسألوا الناس...

فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا أن يناوله إياه .

وعن ابن أبى مليكة قال: ربما سقط الخطام من يد أبى بكر الصديق رضى الله عنه فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه.

قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا فنناولكه؟.

قال: إن حبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرنى أن لا أسأل الناس شيئا .

وأنت ترى أن الراكب إذا طلب سوطا وقع منه على الأرض فإنه لم يسأل عسرا ولم يقترف جرما، ومع ذلك فإن التنزه عن طلب شئ من الناس وتعويد النفس الاستغناء المطلق، كان من وراء هذا السلوك الحازم.

والمسلم ما دام يطلب الدنيا ليستعين بها على آخرته، ويبتغى بها مرضاة ربه، فهو غير مستعد لأن يضحى فى سبيلها بمروءته، أويفقد شيئا من دينه.

إنها إن جاءته من طريق الحلال الطيب قبلها، وإلا رفضها، ولم يتبعها نفسه.

وهو كذلك إذا حازها لم يسمح لها أن تشغله عن القه، كيف، وهو إنما رغب فيها، لا لذاتها، بل لأنها وسيلة لما هو أعظم منها وأخلد...؟

والحق أنه فى إبان الذهول عن الله، والغفلة عن حقوقه تنطلق قوى البشر لاغتنام الحياة وانتهاب فرصها بقوى عارمة، ورغبات عنيفة، وتكاد معركة الخبز تنسى الناس أنهم بشر فيهم ودائع من السماء، وأنفاس من روح الله.

إن الجانب الحيوانى هو الذى يطن فى آذانهم، بل إن الأهداف التى تسعى إليها الدواب قريبة المرمى قليلة الكلفة، أما البشر فهم يسخرون عقولهم الذكية ومواهبهم العليا للاستكثار من هذا الحطام والاستئثار به عن الآخرين.

وكم يطوى الليل والنهار من جراحات وضحايا ومظالم فى أعقاب هذا العراك المادى السفيه.

ترى لو فكر الناس بأناة، وذكروا ربهم بدل نسيانه؟ وقدروا حقه بدل جحده ، وفرغوا له من أفكارهم وأفئدتهم قسطا يصلهم به، أما كان يحمل عنهم هذا العناء كله؟!.

إنه يستطيع أن يلهمهم رشدا يختصر لهم المتاعب؟ ويجنبهم الجرى وراء الأوهام.

وما أكثر الذين يجرون وراء الأوهام الباطلة فى الحياة وما أكثر الذين يبذلون الكثير ويجنون القليل، ولو أرادوا لكانوا أحسن ظنا..

تأمل ما رواه معقل بن يسار عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حديث قدسى يقول الله: "يا ابن آدم تفرغ لعبادتى أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقا، يا ابن آدم لا تباعد منى أملأ قلبك فقرا، وأملأ يديك شغلا ".

وهذا الحديث ليس دعوة للعطل، وكل دعوة للعطل فهى منقوضة من أساسها، إنما هو دعوة لتغليب الله على هموم الرزق ومتاعب العيش.

والكد فى الدنيا للاستعفاف والغنى من حقائق العبادة، ومن معانى الجهاد.

ولكن الملحوظ أن مطالب الدنيا قد تكتسح أحيانا الواجبات المفروضة، وتصرف الناس عن الله والصلاة له، والمآل إليه وذاك ما يعالجه الدين بشتى الأساليب.

ومن ترهيب الناس عن هذه الحال ما رواه زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.

ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره، وجعل غناه فى قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة " .

وفى رواية " إنه من تكن الدنيا نيته يجعل الله فقره بين عينيه، ويشتت عليه ضيعته ولا يأته منها إلا ما كتب له.

ومن تكن الآخرة نيته يجعل الله غناه فى قلبه ويكفيه ضيعته وأتته الدنيا وهى راغمة " .

والموضوع يحتاج إلى زيادة إيضاح، وفى القرآن الكريم ما يجمع أطراف الحقيقة بإيجاز وحسم.

قال تعالى فى طلاب الدنيا الذين كرسوا أوقاتهم ونشاطهم لها دون سواها: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون).

هذا الفريق من الناس لا يصدق بيوم آخر، ولا يستعد له بشىء، فطبيعى ألا يكون له فيه نصيب، إنه لم يزرع له عودا واحدا، فمن أين يأتى الجنى؟.

أما عمله فى الدنيا الذى توفر عليه وتفرغ له فهو محسوب له كله، لا ينقص ذرة من الجزاء المرصد له، ولابد أن يقتطف ثمرته دون بخس أو جور.

لكن تسعير هذا العمل بما يساوى قيمته الحقيقية، ثم الزيادة عليه بما يشاء الله من فضل، أمر موكول لله وحده.

فقد يؤدى رجلان متساويان المواهب والجهد عملا واحدا، فيعطى أحدهما حقه كاملا، ويمنح الآخر نصيبا اكبر من صدارة أو عافية، أو ثراء..

إنه لم يظلم الأول فليس له اعتراض.

ولما كان الله هو المريد المختار الماجد الذى لا يعوق قضاءه شىء، ولا يتحكم فى عطائه أحد، فقد أعلن هذا التفاوت منسوبا إلى مشيئته، حتى يشعر البشر طرا بأنه القاهر فوق عباده فلا يقهر، الغالب على أمره فلا يغلب.

قال جل شأنه: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا).

وهذه الآيات مبينة فى أن أثمان ومنح الكافرين على ما يعملون موكولة للقدر الأعلى الذى لا يظلم، وإن فاوت فى العطاء.

وأن هذه الدنيا يمرح فيها الكافرون والمؤمنون متمتعين بالإمداد الإلهى الرحب الغدق، ولكن الكافرين الذين ظفروا فى عاجل أمرهم بالرحمة الإلهية على ما يعملون، وعلى ما لا يعملون، يحرمون يقينا من الدار الآخرة...

فإن هذه الدار لا يكسبها إلا من أرادها، واستعد للحياة الباقية فيها، وكان المهاد الذى آثره لنيلها هو الإيمان الحق...

وفى معاملة طلاب الآخرة، وما يتنزل عليهم من رحمات الله وأفضاله يقول جل شأنه: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ..).

أساس المعاملة هنا ليس العوض المكافئ ، بل العطاء الواسع، وهو عطاء يشمل الدنيا والآخرة؟ وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء، إلا أن الابتلاء المفروض فى فترتها لا ينافى أن تورق للمؤمن أغصان من عمله يسير فى ظلها حينا إذا كان هناك من يلفحه الحر، ويئوده التعب.

وتوضيحا للمعاملة التى يلقاها المؤمن من ربه روى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: يقول الله عز وجل: " إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها.

فإن عملها فاكتبوها بمثلها.

وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة.

وإذا أراد عبدى أن يعمل حسنة فاكتبوها له حسنة.

فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة " .

وبعد هذا البيان يعالن الله عباده بما عنده فيقول: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا).

فى أرجاء الشرق والغرب نسمع صياحا بعيد المدى متجاوب الصدى حول رفع مستوى المعيشة!

ورفع مستوى المعيشة هدف إنسانى لا ريب فيه.

إن الفقر عاهة مؤذية، وعورة بادية، وما يرضى بالفقر للناس رجل له قلب وخلق...

ونحن نشد أزر المكافحين فى هذه السبيل، ولا نستكثر جهودنا التى بذلناها بالقلم واللسان والعمل كى نضع آصار البؤس عن البائسين.

إلا أننا نتساءل: ثم ماذا بعد أن يغتنى الناس من فقر، ويترفهوا من خشونة؟.

هل الغاية التى ينتهى إليها جهاد المصلحين، أن يعيش الناس فوق هذا الثرى يأكلون الطعام، ويسمعون الأغانى، ويطلبون المتع، ويستخدمون آخر ما أنتجت الحضارة من أدوات الترويح والتنعيم؟.

أما إعدادهم للدار الآخرة فصفر.

أو قليل لا يذكر، لأنهم بين مرتاب فيها أو مكذب لها، أو غافل عنها!!.

إن انتهاء العالم إلى هذا المصير فى تفكيره وشعوره، وإلى هذا الوضع فى يقظته ومنامه، معناه أن العالم صرعه الإلحاد وغطته غواشى الكفر والفسوق والعصيان.

وهذا ما لا يمكن أن يهادنه الدين أو يعيش بجواره هادئا.

وهذه السكرة الزائغة عن الحق وتبعاته، هذه الدنيا التى اشتهيت لذاتها ولم يحسب فيها حساب الآخرة ولم يعرف فيها حق الله، هى التى لعنها الإسلام وصب عليها جام غضبه، وحقرها وحقر أصحابها معها.

(ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)

والقرآن الكريم يتناول عشاق الحياة من هذا القبيل؟ فيقرر أن مصيرهم إلى سقر، ويندد بما كانوا عليه فى الدنيا من شبع وطيش… (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * و يصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا).

والإسلام إنما يستنكر السرور الجاحد المستغرق فى العاجلة دون سواها.

وهو إذا كان قد نعى فى الآية السابقة على الكافرين إذهابهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا فليس معنى هذا أنه حرم الطيبات على المؤمنين!!

كيف؟ وهو ما أحل لهم إلا هذه الطيبات!!

(يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات).

إن المأخذ على الكافرين أنهم لا يعرفون لله حقا فى هذه الحياة.

يطعمون رزقه ولا يشكرون فضله، ويحيون فى ملكه وينكرون وجوده ويظنون الحياة على الأرض هى الوجود الأول والآخر، ثم لا شىء بعد هذا إلا العدم المطلق...

وحياة تصطبغ بهذا اللون القاتم تخالف من كل ناحية حياة المؤمنين الذين يردون الفضل إلى صاحبه فى كل خير يعرض لهم نحو ما قال أبو الأنبياء إبراهيم وهو يتبرأ من الآلهة الباطلة: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين).

الحيوانية التى ينبعث عنها فريق كبير من الناس فى مبادئهم الاجتماعية والسياسية، بل فى سيرتهم النفسية والخلقية، والتى تجعل الحياة لا تعدو الوجود المادى وحده.

هى التى عناها الإسلام، وهو يصف الكافرين فيقول: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين).

وعندما يذيقيهم العذاب الأليم ثم يقول: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون).

إن دنيا المؤمنين محكومة بحدود واضحة.

وهى حدود تفطم الناس بصراحة عن كل محرم؟ وترسم لهم أسلوب انتفاعهم بهذه الدنيا إلى حين.

وتأخذهم بأدب واضح من التعفف والقنوع بحجزهم عن الأهواء والأطماع وبدفعهم فى طريق الاعتدال والقصد.

إن عظمة الإيمان ليست فى أنه يجرد أصحابه من الدنيا...

وما يظن ذلك إلا جاهل قاصر...

عظمة الإيمان أنه يتيح لأصحابه امتلاك ما يشاءون؟ على أن يكون ذلك فى أيديهم لا فى قلوبهم، ينزلون عنه جملة وتفصيلا فى ساعة فداء، ويحيون فى ظله ـ ما عاشوا ـ أعفاء سمحاء.

فى مجال الترقى قد تكون الحرب سجالا بين المرء وهواه، يستقيم حينا، ويتعثر حينا آخر، ولكن إصراره على المضى إلى هدفه يصل به على طول المدى.

والمرء فى المراحل الأولى من هذه المجاهدات يلقى نوازعه الدنيا وجها لوجه فإذا انتصر عليها أحس لذة الظفر نورا يشرق على روحه ويتخلل شعاب قلبه.

وفى هذه الحال يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " أحب الصدقات أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تحب الغنى وتخشى الفقر " .

ومدافعة شح النفس إذا حدثت بالبخل عمل حسن، وله أجره الكريم.

وهناك نفوس لا تزال تتعود العطاء حتى يكاد يكون لها طبعا.

فإذا وجدت دواعى الكرم انطلقت إليه كالسهم المارق، لا يعوقها حديث نفسى ولا يثبطها تعلق بدنيا...

كما يصف ذلك العربى نفسه وهو يستقبل الضيف الوافد، يقول: فقمت، ولم أجثم مكانى، ولم تقم مع النفس علامات البخل الفواضح إلى جذم ما قال قد نهكنا سوامه وأعراضنا فيه بواق صحائح كذلك موقف المؤمن مع الدنيا.

لقد حجبته عزائم الإيمان عن كل محرم فيها، وملأ يديه من أسبابها ليتوسل بها إلى إقامة الحق، وعبادة الله.

وربما أقبل على ما أباح الله منها، ولا عليه فى ذلك.

وربما سيطرت عليه المعانى الكبيرة التى يعيش فيها فصرفته صرفا عن أنواع المباهج التى يهش لها غيره.

ومن ثم ترى فريقا من الناس يمر بأفراح الدنيا كما يمر التلميذ الممتحن غدا، بضجة الناس فى الشوارع، لا يعلق بانتباهه منها إلا القليل.

عن ابن عباس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر فى جنبه.

فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشا أوثر من هذا.

فقال: مالى وللدنيا، ما مثلى ومثل الدنيا إلا كراكب سافر فى يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها.

وفى رواية أن أبا بكر وعمر قالا: يا رسول الله، ما يؤذيك خشونة ما نرى من فراشك وسريرك؟ وهذا كسرى وقيصر على فراش الحرير والديباج؟؟.

فقال: " لا تقولا هذا، فإن فراش كسرى وقيصر إلى النار، وإن فراشى وسريرى هذا عاقبته إلى الجنة ".

ونحن لا نقول بتحريم الطيبات، وإنما نصف درجة من الاستغراق العلوى تشغل عما دونها...

وإننا لنرى أحيانا بعض العلماء يشغله التفكير عن العناية بهندامه والاهتمام بمظهره، لا تعمدا لإهمال، ولكنها طبيعة هذا الصنف من الرجال.

الصبر:

سألت نفسى: هل يستغنى الأحياء عن الصبر؟ إنه لازم لكيانهم المعنوى لزوم الماء، أو الهواء لكيانهم المادى.

نعم، قد تستغنى الدواب، أليفة كانت أو متوحشة عن هذا الخلق، لأنها تحيا وفق هواها، وتسيرها طباعها وحدها.

أما الإنسان فهو كائن تتبعه التكاليف مذ يعقل، تأمره بفعل ما قد يكره وترك ما قد يحب.

بل هو بعد سنوات قلة من ميلاده يقاد إلى المدرسة برغمه، ويبدأ المربون يخرجونه من نطاق اللهو واللعب إلى استيعاب مبادئ القراءة والحساب وحفظ أشتات من النصوص والأناشيد.

فقبل أن يجئ مرحلة البلوغ، وتناط بعنقه التكاليف الجادة تمهد نفسه لحياة يهجر فيها رغباته، ويحترم فيها واجباته.

ولا أدرى إذا كان هناك فريق من البشر يستغنون عن هذا الخلق لظروف معينة تحيط بحياتهم، وتوفر لهم من المتاع والراحة ما يغنيهم عن مشقات الكفاح الأدبى والمادى!.

إننى أشك فى أن الدنيا تضم بين طياتها هذا النوع من الناس.

ذلك أن البشر الذين يقتربون من الأنعام فى سيرتهم تفرض عليهم الأقدار آلاما من طراز سافل، لا يرون محيصا من احتمالها وهم كارهون.

على أننا نوقن بأن طريق الإيمان، ومنهج الشرف والبطولة، لابد فيه من صبر طويل طويل.

وإن الرجل كل الرجل هو الذى يستسهل المتاعب بإلفها، والذى يعلم أنه ـ ما تردد فى صدره نفس ـ يجب أن يلقى الدنيا والناس بحزم وتحفظ، وبصيرة وتصون.

وأن الصبر عتاده فى هذا كله، فلن يزحزح عن النار ويدخل الجنة إلا بهذه اليقظة وهذا الدأب.

عن أبى هريرة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " لما خلق الله عز وجل الجنة والنار، أرسل جبريل ـ يعنى إلى الجنة ـ فقال: انظر إليها إلى ما أعددت لأهلها فيها.

فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله عز وجل لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحجبت بالمكاره، وقال: ارجع إليها فانظر إليها، فرجع فإذا هى قد حجبت بالمكاره، قال: لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: فانظر إلى النار وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاءها فنظر إليها، إلى ما أعد لأهلها فإذا هى يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، وقال له: ارجع إليها فانظر إليها فإذا هى قد حفت بالشهوات، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها ".

إن حياة الدعة والطراوة تقتل المواهب، وتطمر الملكات...

والإنسان يتحرك، ويتكشف معدنه، ويغزر إنتاجه كلما أحس خطر المعارضين، أو صدمات الشدائد، كأن أسرار الحياة الكامنة فيه يستثيرها التهديد فتتحفز للدفاع عن نفسها، فتندفع إلى الأمام ناشطة آملة. !

و معادن العظماء إنما تبرق وسط الأنواء التى تكتنفها، فكأن هذه الأنواء رياح تنفخ فى ضرامها، فيتوهج، ولو ترك وحده لكان وشيك الانطفاء.

ومن حكمة الله البالغة أنه لم يدع البشر يحيون فى بيئة تعطيهم خيرها منحا بل استحياهم فى بيئة تفرض الكفاح فرضا، ولا تعطى الثمار إلا بعد غراس.

وهذا الجهد المبذول من مصلحة الحياة نفسها لتبقى وتزدهر.

من مصلحة الأحياء أنفسهم ليبلغوا تمامهم.

وقد كتب الأستاذ عبد العزيز الإسلامبولى كلاما فى هذا المعنى يستحق التسجيل.

قال: حكى أحد العلماء المحدثين عن نفسه، فقال: كنت مغرما فى طفولتى بجمع شرانق الفراش، ومراقبة خروج الفراشة منها فى الربيع، وكان جهادها فى التخلص من سجنها يثير عطفى دائما.

وأتى والدى يوما ما بمقص وأعمله فى غلاف الحرير المطبق على الفراشة وساعدها على الخلاص، ولكنها ما لبثت قليلا حتى ماتت، وعندئذ قأل أبى: يا بنى إن الجهد الذى تبذله الفراشة لتخرج من الشرنقة يخرج السم من جسمها وإذا لم يخرج هذا السم ماتت الفراشة، وكذلك الناس إذا جهدوا فى سبيل ما يريدون زادوا قوة وعزما، ولكن إذا واتاهم ما يريدون سهلا طيعا، غلب عليهم الضعف ومات منهم شىء جليل الخطر.

وهكذا تعلم أن طبيعة الحياة عجيبة، لأنها لا تعطينا إلا لتأخذ منا، ولا تهب لنا شيئا إلا لتنال مقابلا، إنها تكيل لنا صاعا بصاع، فلا غرو إذا كانت آمالنا لا تتحقق إلا بين الأشواك فى الأرض الوعرة، وكأنما شاءت الدنيا أن تخفى مفاتنها تحت مصارع المطامع لتدفع الإنسان إلى مواجهتها والتغلب عليها.

ومن ثم نعرف قيمة الشدائد، بل نعرف الفرق بين الأبطال الصناديد، والجبناء الرعاديد، إذ الشدائد هى المحك الذى يكشف عن معدن الرجل: قوة وضعفا.

عقلا وهوى، والحياة ـ فى الأغلب الأعم ـ ليست إلا مزاجا من سعادة وتعاسة، وهناء وشقاء، وفرح وترح، ولا قيمة لها إذا كانت ذات لون واحد، وقديما قالوا: وبضدها تتميز الأشياء.

فلا طعم للحلو دون المر، ولا مذاق للماء الفرات دون الماء الأجاج.

ولعله من أنفع ما يساق فى هذا المطلب، ما قصه على أستاذ من جلة المعاصرين، وكان ـ يرحمه الله ـ معروفا بالهدوء، والعزوف عن الشهرة، وقد رقى أرفع المناصب العلمية قال: لقد أخذت نفسى بتلاوة القرآن الكريم كلما ادلهم خطب، وأهرع إلى تدبر كلام الفلاسفة الحكماء، أروح به عن نفسى، وقد وقفت على تشبيه رائع لما نلابس فى دنيانا، كلما تذكرته هدأت أعصابى واطمأن خاطرى.

ذلك بأن الحياة اليومية، ليست إلا كوبا، نصفه مملوء بالماء، ونصفه الآخر فارغ لا ماء فيه.

فلست بمستطيع أن تحكم بأنه مملوء كله ولا فارغ كله وهكذا الناس لن تجد فيهم ذا حياة مملوءة كلها ولا ذا حياة فارغة كلها، وإنما لكل منا نصيب من السعادة، ونصيب من الشقاء، ومن ثم يسعد أحدنا أو يشقى بنظرته إلى الكوب الذى يستقى منه، فإن رآه مملوءا إلى نصفه سعد بحياته، وان رآه فارغا إلى نصفه شقى بها.

وهكذا تعودت إذا ما نزعت نفسى إلى الجزع، أن أذكر أن الحياة ليست فارغة إلى نصفها، بل مملوءة إلى نصفها، ومن ثم تذهب متاعبى كفاء الغم، وتروح أحزانى بددا".

وتصبير النفس على لأواء العيش، وإرهاق الواجب، وإغراء الهوى يحتاج إلى عزم وقوة، وللعرب فى هذا الأفق آداب رفيعة، استوحوها من تجاربهم ومن أشواقهم إلى العزة، ورغبتهم فى وفرة العرض وصون الجانب، وهم يرون أن الركوع للشدائد لا جدوى منه إلا الذلة التى منها يأنفون، وأن هذه الشدائد لا تقيم بساحة إلا ريثما تتحول عنها، فعل المرء أن يواجه ما يكره بجلد، آملا أن تنقشع الغمة وهو ثابت الخلق نقى الصفحة قال عبد العزيز بن زرارة : وليلة من ليالى الدهر كالحة ونكبة باشرت من هولها مرأى ومصطرعا لو رمى الرامى بها حجرا أصم، من جندل الصوان- لانصدعا مرت على، فلم أطرح لها سلبى ولا اشتكيت لها وهنا ولا جزعا لا يملأ الأمر صدرى قبل موقعه ولا يضيق به صدرى إذا وقعا كلا لبست فلا النعماء تبطرنى ولا تخشعت من لأوائها جزعا وقال ابن الرومى: ولا تحسبن الشر يبقى فإنه شهاب حريق واقد ثم خامد ستألف فقدان الذى قد فقدته كإلفك وجدان الذى أنت واجد ومن لم يزل يرعى الشدائد فكره على مهل، هانت عليه الشدائد وللشر إقلاع، وللهم فرجة وللخير، بعد المؤيسات، عوايد وكم أعقبت بعد البلايا مواهب وكم أعقبت بعد الرزايا فوائد وكم سىء يوما سيقفوه صالح وكم شاءمت يوما سيقفوه حاسد والصبر الذى دعا إليه هؤلاء الشعراء، رياضة نفسية يعرفها ألو النهى من كل جنس وملة، وهى رياضة تحمد لطبيعتها ونتائجها، فإن العزم أشرف من الوهن والأمل أجدى من اليأس.

وهؤلاء أبانوا عما فى الصبر من محاسن ضبط النفس وطيب العقبى.

ونحن نزكى هذه الوجهة إلا أننا نتحدث عن صبر المؤمنين ابتغاء وجه الله.

وهو مسلك يجعل الصبر مشوبا بالذكر، ويجعل المؤمن بصيرا بأن القدر الأعلى من وراء الأحداث التى تنوبه، ومن ثم فهو فى شدته يظل قوى الصلة بربه، يدعوه ويرجوه، ويستسلم له ويعتمد عليه، ويتحمل ما يتحمل لأن الله شاء، ومشيئته موضع التسليم والإعزاز...

والكلمة التى تثلج فؤاده "إنا لله وإنا إليه راجعون " يستشعر معناها فيما يعرض له من بأساء وضراء، فيربو يقينه، ويكون أهلا لرحمات الله بعد ما استبان موقفه من بلائه.

والمرء فى هذه الحياة يختلف عليه العسر واليسر، والصحة والسقم، ومطلوب منه فى الأحوال التى يكرهها ألا تهتز علاقته بربه وألا يضعف أمله فى فرجه.

إنه فى اليسر يطمئن إلى ما فى يده من مال فلا يبالى بالوساوس، بل قد تبتعد عنه ابتعادا تاما!

أليس ماله فى يده؟

والمطلوب منه إذا أعسر ألا يستبد به القلق، وأن يكون إيمانه بالغيب مشيعا للسكينة في قلبه، فيعلم أن الله لن يخذله إذا قصده، وأن ما فى يده جل شأنه قريب منه (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم).

والصبر لله روح يدور على هذا المحور، عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الزهادة فى الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا ألا تكون بما فى يدك أوثق منك بما فى يد الله، وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك " .

والجملة الأخيرة فى الحديث تفند قول ابن الرومى لما مات ابنه.

وما سرنى أن بعته بثوابه ولو أنه التخليد فى جنة الخلد!!

هذا جزع ولدته ساعة طيش وجنون.

وخير منه، قول من واسى مؤمنا فى فقيدة له " رحمة الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها ".

الصبر لله روح الإيمان، ومناط الثواب الجزيل الذى يصبه الله صبا على من ابتلى، وسلم لله أمره (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).

وعن أبى بردة قال: كنت عند معاوية وطبيب يعالج قروحة فى ظهره وهو يتضرر، فقلت له: لو بعض شبابنا فعل هذا لعبنا عليه، فقال: ما سرنى أنى لا أجده، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " ما من مسلم يصيبه أذى فى جسده إلا كان كفارة لخطاياه " .

وعن أبى هريرة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قال الله تبارك وتعالى: إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشكنى إلى عواده، أطلقته من أسارى، ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خيرا من دمه، ثم يستأنف العمل " .

ومعنى الحديث: أن الصحة التى تعود للمريض تجدد له جسده، وأن صبره على ما نزل يمحو ماضيه السىء كله، ويفتح له صفحة جديدة لا سوء فيها...

وعن أميمة: أنها سألت عائشة رضى الله عنها عن قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)

وقوله: (من يعمل سوءا يجز به)، فقالت عائشة: ما سألنى أحد منذ سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لى: " يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة يضعها فى كمه، فيفقدها فيفزع لها، فيجدها فى ضبنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج الذهب الأحمر من الكير ".

الضبن: ما بين الإبط والكشح.

والأحاديث كثيرة فى أن المرض يمحص المؤمن، وينقى نفسه، ويغسل ذنوبه.

عن عبد الرحمن بن أبى بكر: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك والحمى كحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها ".

وذلك طبعا للصابر المحتسب، المستكين لقضاء الله الراجى عفو الله.

وقد بلغ من فضل الله على المؤمنين به أن فتح لهم باب الأمل فى واسع مغفرته، إذا صدقوا الصبر فى عناء ليلة واحدة.

فعن الحسن ـ يرفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ " إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة" .

وفى رواية: كانوا ـ يعنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يرجون فى حمى ليلة كفارة لما مضى من الذنوب.

ونحن نعرف أن توبة نصوحا تغمر قلب امرئ فى ساعة من ليل أو نهار تطهر ماضيه كله، وأن رحمة الله وسعت كل شىء.

بيد أننا نحسب حديث الحسن وأمثاله إنما يصور السبب المباشر لنيل المغفرة، ولا يصور الأسباب كلها.

إن الحروب الكبرى قد تقع إثر حادث محدود أو اشتباك تافه.

فهل هذا أو ذاك هما أسباب الحرب؟ كلا، إن الخلافات الماضية، والعداوات الأصيلة، والقوى المعبأة، والرغبات الكامنة فى تسوية الموقف هى التى تشعل نار الحرب وتستبقيها سنين عددا.

وما الحادث الذى وصفوه بأنه سبب الحرب إلا الفرصة التى انتهزت لتفريغ ما فى النفوس، كذلك القول بأن صداعا يصيب المؤمن يكفر عنه ما مضى.

الحق أن أصل الصبر فى نفسه، واختلاط هذا الصبر بأحواله وأعماله كلها هو الذى رشحه لما رأينا.

وحال ليلة يعد من نظرنا أنموذجا لشمائل حياة، كما قيل لدريد: تقول: ألا تبكى أخاك؟ وقد أرى مكان البكا، لكن بنيت على الصبر!

وقد وصف الله المؤمنين بخلال طيبة كثيرة، فى مقدمتها الصبر، (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم)

ولماذا يكون التسليم عليهم مقرونا بما صبروا فقط مع أنهم أدخلوا الجنة بشمائل كثيرة؟.

الواقع أن الصبر عنصر أصيل فى بقية الأعمال الأخرى من صلاة ونفقة وإصلاح، إنه الخيط الذى جمعها، بل هو فى كيانها كالماء فى صنوف الأحياء...

قال ابن القيم: لما كان الصبر المحمود هو الصبر النفسانى الاختيارى عن إجابة داعى الهوى المذموم كانت مرتبته وأسماؤه بحسب متعلله.

فإنه إن كان صبرا عن شهوة الفرج المحرمة سمى عفة، وضدها الفجور والزنا والعهر.

وإن كان عن شهوة البطن، وعدم التسرع إلى الطعام، أو تناول ما لا يجمل منه سمى شرف نفس، وشبع نفس، وسمى ضده شرها ودناءة، ووضاعة نفسر.

وإن كان عن إظهاره ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمى كتمان سر، وضده إذاعة وإفشاء، أو تهمة أو فحشاء، أو سبا أو كذبا أو قذفا.

وان كان عن فضول العيش سمى زهدا، وضده حرصا.

وإن كان على قدر ما يكفى من الدنيا سمى قناعة وضدها الحرص أيضا.

وإن كان عن إجابة داعى الغضب سمى حلما، وضده تسرعا.

وإن كان عن إجابة داعى العجلة سمى وقارا وثباتا، وضده طيشا وخفة.

وإن كان عن إجابة داعى الفرار والهرب سمى شجاعة، وضده جبنا وخورا.

وإن كان عن إجابة داعى الانتقام سمى عفوا وصفحا، وضده انتقاما وعقوبة.

وإن كان عن إجابة داعى الإمساك والبخل سمى جودا، وضده بخلا.

وإن كان عن إجابة داعى الطعام والشراب فى وقت مخصوص سمى صوما.

وان كان عن إجابة داعى العجز والكسل سمى كيسا.

وإن كان عن إجابة داعى إلقاء الكل على الناس، وعدم حمل كلهم سمى مروءة.

فله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه.

والاسم الجامع لذلك كله (صبر)

وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها.

وهكذا يسمى عدلا إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين وضده الظلم ويسمى سماحة إذا تعلق ببذل الواجب والمستحب بالرضا والاختيار، وعلى هذا جميع منازل الدين أ. هـ.

والذى يتبادر إلى أذهان العامة أن الصبر يستحب لمواجهة المآسى والآلام، ولا ريب أن عمل الصبر فى هذه المواطن مطلوب.

بيد أن عمل الصبر فى النفس إبقاؤها فى مجال الاعتدال والتؤدة والبصر.

وإذا كانت الضراء تخرج الناس عن وعيهم حينا، فإن السراء تخرج الناس عن وعيهم أحيانا.

ولاتصال النعمة سكرة تستفز بعض الضعاف، وتدفعهم إلى ما لا يليق من بطر وجهل.

من أجل ذلك أوجب الإسلام الصبر على المسلم فى حاليه من خير وشر ونفع وضر، قال تعالى (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير).

والصبر بهذا الشمول امتلاك أزمة النفس كلها حتى لا تشرد بها الأهواء والأنواء يمنة أو يسرة.

ومن الحكم التى رواها ابن الجوزى: " إن لله عز وجل يوما لا ينجو من شره منقاد لهواه ".

وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوة.

وإن العقول لما جرت فى ميادين الطلب كان أوفرها حظا من يطالبها بقدر ما استصحبته من الصبر ـ يعنى أن الذكاء المجرد لا يكفى فى إحراز النجاح إن لم يصحبه دأب على العلم، وتحمل لأعبائه، ألا ترى الأرنب الذى اعتمد على سرعته الطبيعية، غلبته سلحفاة لأنه ركن إلى قدرته فلها وعرفت هى بطأها فثابرت؟ كذلك اللهو يخذل العقول!.

وإن العقول معدن والفكر معول ـ يعنى أن التفكير يتطلب جهدا وكدا وكم عرق الأذكياء من إعمال الفكر كما يعرق الفلاح وهو يضرب الأرض بفأسه غاية ما هنالك أن العامل بيديه أصح بدنا، وأن العامل بعقله أدنى إلى الإعياء..!!

الشكر:

هل معنى الكلام عن الصبر أن الإنسان يعيش فى حلقات متصلة من الآلام؟ لا يحتاج معها إلا إلى المواساة والتعزية!.

لا، فالحياة الإنسانية أضوأ من ذلك وأرحب، إن البشر لا يعيشون كما يعيش الأولاد فى كنف أب قاس القلب، أو كما تعيش الرعية فى سلطان أمير غليظ الرقبة.

وما أغزر النعم التى تنهمر على الناس ليلهم ونهارهم من المهد إلى اللحد، وهى نعم لو قدروها قدرها، أو أحسنوا استغلالها لملأت قلوبهم بالحمد، وأطلقت ألسنتهم بالثناء.

بل لو غلغلنا البصر فى التكاليف التى تستدعى الصبر لاستبان لنا أنها إلى النعمة أدنى منها إلى المحنة.

فالمحرمات المحظورة، والواجبات المطلوبة، والأعباء المفروضة، والآلام العارضة، تلك جميعا ليست ضرائب يقدمها الإنسان لمن يحتاج إليها أو يستكثر بها، كلا بل تلك مدارج للكمال الإنسانى، وحصانات للفطرة السماوية أن تتلوث أو تستمرئ الحضيض.!!

أما رب العالمين فهو يعطى ولا يأخذ، وهو يطعم ولا يطعم، وهو يجير ولا يجار عليه.

(قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين).

والقرآن الكريم فى شتى سوره أحصى أصول النعم، وذكر أمثلة شتى لما غمر الناس منها، وارتقب من أصحاب الضمائر الحية أن يشكروا صاحبها، وأن يعرفوا حقه فيها، بعد ما بسطها بأروع أسلوب.

وفى هذا القرآن سورة باسم الرحمن عدت جملة من نعم الدنيا والآخرة؟ وفى ثنايا هذا العد الموقظ المذكر توجه للإنس والجن بهذا السؤال.

(فبأي آلاء ربكما تكذبان).

توجه إليهم عشرات المرات، يحمل التقريع بقدر ما يحمل التعليم والتذكير إن شكر الله على أنعمه حق، ولكن ما اكثر النعم وأقل الشاكرين!!

والكلمة الشائعة فى الترجمة عن شكر الإنسان لربه هى الحمد.

والحمد كلمة تعنى ـ مع الشكر ـ الثناء على الله، وتمجيد ذاته، ومن ثم كانت أرجح وأذيع.

والمهم أن يرددها المسلم، وهو شاعر بالمنة والجميل، مقر من أعماقه بأن الله مصدر ما اندفق عليه من خير، وأهل ما صعد إليه من شكر...

فى كل طرفة عين، ونبضة قلب، يتعرف الله إلى عباده عن طريق ما يمنحهم من بركاته، وينزل عليهم من خيراته.

وهى بركات وخيرات متجددة على اختلاف الليل والنهار، فلا غرو إذا استقبلها الناس بمعرفة من أسداها.

وشكره!.

(وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا).

وقد أمر الله الناس أن يشكروه لأن قلة الشكر خسة يجب التنزه عنها، إنك لو أطعمت امرأ شهرا أو شهرين، أو قضيت عنه دينا أو دينين، أو رفعته درجة أو درجتين، ثم تجهم لك بعد هذه الأيادى وأعرض عنك لرأيت أن فراغ الحياة من مثله واجب.

وأن بقاءه على ظهر الأرض قذى يتحرك!.

فما ظنك بمن خلق من عدم، وأطعم وستر، وأغدق وأمد الأعوام بعد الأعوام؟ عندما يرى عبده قد حاز كل هذه النعم ثم عادى مسديها؟.

(خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين).

(قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون).

إن الله أمر الناس أن يشكروه لأن الكنود نذالة، ولأن الإصرار عليه يجعل حق صاحبه فى الحياة الكريمة صفرا، ولأنه ما يليق بإنسان أن يستقبل فضل مولاه بكرة وأصيلا ثم يدير له ظهره ويتولى عن إجابة أمره.

إن الأمر بالشكر ليس تكليف مشقة يصبر الناس على أدائه، بل هو طريق كمال ينبغى أن يسير الناس فيه بهمة وقدرة (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)

والإقرار بالجميل، وركون الفؤاد إلى صانعه يجعل المرء أهلا للمزيد، لأن النعمة تثمر فيه، كما يثمر الماء فى الأرض الخصبة، ولذلك لا يضن عليها بالقليل والكثير، أما الأرض السبخة فإن انعدام الأمل فى ريها يجعل إرسال الماء إليها عبثا، ولذلك يقطع عنها...

قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)

وشدة العذاب كفاء لخباثة الجحود!.

وماذا على الناس إذا مرحوا فى نعمة الله أن يطووا ضمائرهم على عرفان الجميل والاعتراف بالفضل، وأن يقولوا لله المنعم: نشكرك.

أهذا كثير أم هذا ثقيل؟؟.

إن الله قص علينا قصة سبأ لنعرف منها عقبى الكنود، وكيف أنها كانت زاهرة ثم صارت خرابا أتى على ما سبق من سعة ورفاهية.

(لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).

والشكر شعور فى النفس قبل أن يكون حركة لسان، وقد وضع الإسلام صورا ورسم طرقا للترجمة عن هذا الشعور المكنون...

ونحن واجدون فى سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مظاهر الشكر وآيات الحمد لله رب العالمين، ما يثير الدهشة، وما يسرى فى القلوب شوقا ورقة...

كان إذا استيقظ من النوم يقول: " الحمد لله الذى رد على روحى، وعافانى فى جسدى، وأذن لى بذكره ".

وكان إذا انتهى من الطعام يقول: " الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين".

وكان إذا عاد من الخلاء يقول: " الحمد لله الذى أذاقنى لذته، وأبقى فى قوته، وأذهب عنى أذاه " .

وكان إذا لبس ثوبا جديدا يقول: " الحمد لله الذى كسانى هذا ورزقنى إياه من غير حول منى ولا قوة ".

وكان إذا عاد من سفر يقول: " آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون ".

وفى الصحيح أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا فى الدعاء؟ قالوا: نعم يا رسول الله.

قال: قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك ".

وكان من دعاء النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " رب أعنى ولا تعن على، وانصرنى ولا تنصر على، وامكر لى ولا تمكر على، وأهدنى ويسر الهدى لى، انصرنى على من بغى على.

رب اجعلنى لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أواها منيبا.

رب تقبل توبتى، واغسل حوبتى وأجب دعوتى، وثبت حجتى، وسدد لسانى، واهد قلبى، واسلل سخيمة صدرى".

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم حتى ترم قدماه!

فقيل له أى رسول الله، أتصنع هذا، وقد جاءك من الله أن قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.

قال!: أفلا أكون عبدا شكورا " .

وفى رواية عن عائشة رضى الله عنها " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه.

فقلت له: لم تصنع هذا؟ وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.

قال!: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا " .

وعن أنس بن مالك عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " التأنى من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما شىء أحب إلى الله من الحمد " .

إن هذا الشعور العميق بفضل الله، والإحساس الواضح بنعمته والرغبة الحارة فى إكباره وإجلاله والاعتراف بخيره، إن هذا كله انتقل من فؤاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أفئدة صحبه، فهم يتبارون فى تحية ربهم وحمده وقدره حق قدره.

عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال أبى بن كعب: لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله بمحامد لم يحمده بها أحد.

فلما صلى وجلس ليحمد الله ويثنى عليه، فإذا هو بصوت عال من خلفه يقول : اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله.

علانيته وسره، لك الحمد، إنك على كل شىء قدير.

اغفر لى ما مضى من ذنوبى، واعصمنى فيما بقى من عمرى، وارزقنى أعمالا زاكية ترضى بها عنى، وتب على.

فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقص عليه، فقال: " ذاك جبريل عليه السلام " .

وعن ابن عمر رضى الله عنهما: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدثهم " أن عبدا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها.

فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندرى كيف نكتبها.

قال الله ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ: ماذا قال عبدى؟.

قالا: يا رب إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

فقال الله لهما.

اكتباها كما قال عبدى حتى يلقانى فأجزيه بها " .

وعن أبى أيوب رضى الله عنه قال: " قال رجل عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من صاحب الكلمة؟.

فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على شىء يكرهه.

فقال رسول الله: من هو، فإنه لم يقل إلا صوابا؟.

فقال الرجل: أنا قلتها يا رسول الله أبغى بها الخير.

فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " والذى نفسى بيده، لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك: أيهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى ".

وعن على رضى الله عنه: " أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل عليه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، إذا سرك أن تعبد الله ليلة حق عبادته، أو يوما، فقل: " لك الحمد حمدا كثيرا خالدا مع خلودك.

ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون علمك.

ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون مشيئتك.

ولك الحمد حمدا لا أجر لقائله إلا رضاك " .

ماذا كان جهد أبليس بعد أن طرد من السماء؟ كان جهده أن يغرى أبناء آدم بالجحود، ونسيان ما أولاهم الله من نعم...

كان جهده أن يشغلهم بفنون من الغفلة تزين لهم أن يأكلوا من رزق الله، ولا يحمدوه، وأن يفتحوا عيونهم على آيات العظمة، ولا يمجدوه...

إن الدواب إذا وجدت أقواتها التهمتها، ما تعى شيئا غير هذا، وإذا فقدتها أحست لذع الجوع، ما تعى شيئا غير هذا، وإذا استمتعت بالعافية جرت ووثبت، وإذا قيدها المرض استكانت وهمدت، ما تعى شيئا غير هذا......

إنها لا تعرف صبرا على بأساء، ولا شكرا على نعماء...

وكذلك يريد الشيطان من أبناء آدم أن يعيشوا على هذا النمط المنحط، لا ذكر، ولا شكر.

وكذلك آلى إبليس على نفسه يوم أخرج من الجنة فقال: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين).

وأسوأ ما يكون الجحود عندما يكون جماعيا تنحدر إليه أمة بأسرها.

فترى كأن هناك تواصيا على ألا يذكر الله بخير!!

بل ترى كأن هناك اتفاقا مكتوبا أو غير مكتوب على أن تلتهم أفضال الله، وتنسب ذلك إلى أى شىء ما عداه...!!!

وهل هلكت عاد، وهلكت ثمود، إلا بهذا الخلق الدنىء؟.

قيل لعاد: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).

وقيل لثمود: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

لكن هؤلاء وأولئك لم يستشعروا فيض النعم الذى سال فى أرجاء بلادهم فحرموا ما جحدوا، وسلبوا ما غمطوا، وحقت عليهم كلمة العذاب.

وقد أهاب الله بخلقه ألا يردوا هذه الموارد الوبيئة فقال: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).

ومع ذلك، فما أقل الذين يعترفون بالفضل، ويشعرون بالجميل: (وقليل من عبادي الشكور).

وإنه ليسرنا أن نثبت هنا باقة من النصوص والآثار الحافزة على الشكر، المشيعة لعواطفه فى الأفئدة نقلا عن الإمام الجليل ابن القيم رضى الله عنه.

قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا المؤمل بن اسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا حميد الطويل، عن طلق بن حبيب، عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا فى نفسها ولا فى ماله ".

وذكر أيضا من حديث القاسم بن محمد عن عائشة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها " وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر الله له قبل أن يستغفره.

وإن الرجل يشترى الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله، فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له ".

وقد ثبت فى صحيح مسلم عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: " إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ".

فكأن هذا الجزء العظيم الذى هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى: (ورضوان من الله أكبر)

كان فى مقابلة نعمته بالحمد.

وذكر ابن أبى الدنيا من حديث عبد الله بن صالح.

حدثنا أبو زهير يحيى بن عطارد القرشى عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

"لا يرزق الله عبدا الشكر فيحرمه الزيادة، لأن الله تعالى يقول:(لئن شكرتم لأزيدنكم).

وقال الحسن البصرى: " إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا ".

ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب: لأنه يجلب النعم المفقودة.

وذكر ابن أبى الدنيا عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال لرجل من همذان.

" إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان فى قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد ".

وقال عمر بن عبد العزيز: " قيدوا نعم الله بشكر الله " وكان يقال: " الشكر قيد النعم ".

وقال مطرف بن عبد الله: " لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر".

وقال الحسن: " أكثروا من ذكر هذه النعم فمان ذكرها شكر ".

وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال: (و أما بنعمة ربك فحدث)

والله تعالى يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته، فإن ذلك شكرها بلسان الحال.

وقال الشعبى: " الشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله ".

وقال أبو قلابة: " لا تضركم دنيا شكرتموها ".

وقال الحسن: " إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر، فإذا شكروه كان قادرا على أن يزيدهم، وإذا كفروه كان قادرا على أن يبعث بدل نعمته عليهم عذابا ".

وقد ذم الله سبحانه وتعالى الكنود أى هو الذى لا يشكر نعمه، قال الحسن: (إن الإنسان لربه لكنود)

أى يعد المصائب وينسى النعم.

وقد أخبر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب، قال: لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط.

فماذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج، وهى فى الحقيقة من الله، فكيف بمن ترك شكر نعمة الله؟؟ يا أيها الظالم فى فعله والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت، وحتى متى تشكوا لمصيبات وتنسى النعم؟؟ وذكر ابن أبى الدنيا من حديث أبى عبد الرحمن السلمى عن الشعبى عن النعمان ابن بشير قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب ".

وقال مطرف بن عبد الله: " نظرت فى العافية والشكر، فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة، ولأن أعافى فاشكر أحب إلى من أن ابتلى فأصبر".

ورأى بكر بن عبد الله المزنى حمالا عليه حمل وهو يقول: الحمد لله أستغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا؟.

قال: بلى أحسن خيرا كثيرا، واقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة، واستغفره لذنوبى.

فقلت: الحمال أفقه من بكر...!!

وذكر الترمذى من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا.

فقال : قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم، كنت كلما أتيت على قوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان)، قالوا: لا بشىء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد".

وقال مشعر: لما قيل لآل داود: (عملوا آل داود شكرا)

لم يأت على القوم ساعة إلا وفيهم مصلى.

وروى سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: " دعا رجل من الأنصار من أهل قبلة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلقنا معه.

فلما طعم وغسل يديه قال: الحمد لله الذى يُطعم ولا يطعَم، منَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا.

الحمد لله غير مودع ربى ولا مكافأ ولا مكفور، ولا مستغنى عنه.

الحمد لله الذى أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العرى وهدى من الضلال، وبصر من العمى، وفضل على كثير من خلقه تفضيلا، الحمد لله رب العالمين ".

وفى مسند الحسن بن الصلاح من حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما أنعم الله على عبد نعمة فى أهل، ولا مال، أو ولد، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت ".

ويذكر عن عائشة رضى الله عنها أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليها فرأى كسرة ملقاة فمسحها، وقال: يا عائشة: " أحسنى جوار نعم الله فإنها قلما نفرت عن أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم" ذكره ابن أبى الدنيا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا بن القاسم حدثنا صالح عن أبى عمران الجونى عن أبى الخلد، قال: قرأت فى مسألة داود أنه قال: " يا رب كيف لى أن أشكر وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمك.

قال فأتاه الوحى يا داود أليس تعلم أن الذى بك من النعم منى؟.

قال بلى يا رب، قال فإنى أرضى بذلك منك شكرا ".

وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبو موسى الأنصارى حدثنا أبو الوليد عن سعيد بن عبد العزيز قال: كان من دعاء داود: سبحان مستخرج الشكر بالعطاء ومستخرج الدعاء بالبلاء.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنى الأعمش عن المنهال عن عبد الله بن الحارث قال: أوحى الله إلى داود (أحبنى وأحب عبادتى وحببنى إلى عبادى.

قال: يا رب هذا حبك وحب عبادتك فكيف أحببك إلى عبادك؟ قال: تذكرنى عندهم فإنهم لا يذكرون منى إلا الحسن).

فجل جلال ربنا وتبارك اسمه وتعالى جده وتقدست أسماؤه وجل ثناؤه ولا إله غيره..

ومن دقيق نعم الله على العبد التى لا يكاد يفطن لها أنه يغلق عليه بابا فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب يسأله شيئا من القوت ليعرفه نعمته عليه.

وقال سلام بن أبى مطيع دخلت على مريض أعوده فإذا هو يئن فقلت له: أذكرى المطروحين على الطريق، أذكرى الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم.

قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه: أذكرى المطروحين فى الطريق، اذكرى من لا مأوى له ولا له من يخدمه.

وقال عبد الله بن أبى نوح: قال لى رجل على بعض السواحل: كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟.

قلت: ما أحصى ذلك كثرة.

قال: فهل قصدت إليه فى أمر كربك فخذلك؟.

قلت: لا والله، ولكنه أحسن إلى وأعاننى.

قال: فهل سألته شيئا فلم يعطكه؟.

قلت: وهل منعنى شيئا سألته، ما سألته شيئا قط إلا أعطانى ولا استعنت به إلا أعاننى.

قال: أرأيت لو أن بعض بنى آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنت أقدر له على مكافأة ولا جزاء.

قال: فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له فى أداء شكره وهو المحسن قديما وحديثا إليك، والله لشكره أيسر من مكافأة عباده، إنه تبارك وتعالى رضى من العباد بالحمد شكرا.

وقال سفيان الثورى: ما كان الله لينعم على عبد فى الدنيا فيفضحه فى الآخرة، ويحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه.

وقال ابن أبى الحوارى: قلت لأبى معاوية: ما أعظم النعمة علينا فى التوحيد نسأل الله أن لا يسلبنا إياه، قال: يحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه، والله اكرم من أني ينعم بنعمة إلا أتمها، ويستعمل بعمل إلا قبله.

هناك ناس لهم طباع غبية كنود، تسدى إليهم الجميل بعد الجميل؟ فكأنما ترقم على ماء لا يبقى فى نفوسهم أثر منه، ولا اعتراف به.

وكثير ممن نلقى على هذا الغرار الردئ يجىء أحدهم بطلبه فتحس أنه محرج، وأنه محتبس فى دائرة هذه الحاجة التى يفتقدها.

فإذا قضيتها له ولى مدبرا ولم يعقب!

فإذا احتاج مرة أخرى أتى واللهفة بادية فى سؤاله وحالته حتى إذا تم له ما يريد انصرف على عجل أو بعد كلمات ميتة لا تترجم عن قلب حاضر، ولا فؤاد واع.

هؤلاء الناس يظنون أن الحياة مكلفة بتيسير مطالبهم، فحسبهم أن يمدوا أيديهم لتعود بما يبتغون، كما تمد الدواب أفواهها إلى الكلأ وورق الشجر لتطعم منه متى شاءت دون إحساس بفضل من غرس وصنيع من منح!.

كذلك هم حذوك النعل بالنعل يحتاجون فيجدون فيولون!!

فماذا منعتهم شيئا مما يريدون ارتفعت صيحاتهم بالسخط والسباب والاستنكار.

لماذا؟ إنه صراخ الحيوان المحروم.

فهلا إذا تألمتم من الحرمان أبديتم الرضا والشكر لدى العطاء.

كثير من الناس يعاملون الله بهذا الأسلوب السافل، يسألونه فيجيبهم فإذا رجع أحدهم بيده حافلة مر كأن لم يدع ربه إلى ضر مسه، مر دون شكر ودون حياء.

فإذا احتاج ـ وما أسرع الاحتياج ـ عاد بذات الشعور وذات الكنود، فلماذا يتألم إذا لدغته آلام الحرمان والطرد؟.

إن المنع أيسر ما يقابل به الشخص الجاحد فهو لا يذوق طعم العطاء، ولا يقدر صاحبه.

ونحن ـ جماهير البشر ـ نصبح ونمسى نخوض فى نعم الله خوضا، فلماذا لا نوقظ أفكارنا الغافية إلى معرفة تلك المنن؟ ولماذا لا نوقظ ضمائرنا لشكر مرسلها؟.

تلفت يوما إلى ما مضى من حياتى فرأيت صيبا من الخيرات قد غفرنى ظاهره وباطنه ومتونه وحواشيه، وأحسست أن ما يضايقنى أحيانا كان علاجا حكيما لعلل نفسية لو بقيت معى لكبت بى ونالت منى!.

وساءلت نفسى.

كيف شكرها على هذا الخير الغدق؟ فكان الجواب: لقد شكرت النعماء يوم قدمت، فلما استقرت بدأ الشعور الحار يبرد والاعتراف بالجميل يخف !

كذلك يفعل الناس، وتلك عادتهم مع المنعم الأعلى، فهل هذه سبيل الاستزادة من خيره وبره؟؟.

وتذكرت كلمة لابن عطاء الله " كيف يخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد "؟.

إن استصحاب الشعور بالعطاء السابق هو أخصر الطرق لاستدرار العطاء اللاحق، ولابن الجوزى فى هذا خاطر لطيف.

قال رضى الله عنه: " بلغنى عن بعض الكرماء أن رجلا سأله فقال: أنا الذى أحسنت إلى يوم كذا وكذا، فقال: مرحبا بمن يتوسل إلينا بنا، ثم قضى حاجته...!

فأخذت من ذلك إشارة فناجيت بها ربى فقلت: أنت الذى هديته من زمن الطفولة، وحفظته من الضلال!

، وعصمته من كثير من الذنوب.

وألهمته طلب العلم لا بفهم لشرف العلم ـ لموضع الصغر ـ ولا بحب والده ـ لموت الوالد.

ورزقته فهما لتفقهه وتصنيفه، وهيأت له أسباب جمعه.

وقمت برزقه من غير تعب منه، ولا ذل للخلق بالسؤال، وحاميت عنه الأعداء، فلم يقصده جبار إلا انهزم، وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم التى لا تكاد تجتمع فى شخص، وأضفت إليها تعلق القلب بمعرفتك ومحبتك وحسن العبارة ولطفها فى الدلالة عليك.

ووضعت له فى القلوب القبول، حتى إن الخلق يقبلون عليه ويقبلون ما يقوله، ولا يشكون فيه، ويشتاقون إلى كلامه، ولا يدركهم الملل منه، وصنته بالعزلة عن مخالطة من لا يصلح، وآنسته فى خلوته بالعلم تارة وبمناجاتك أخرى.

وإن ذهبتُ أعدُّ لم أقدر على إحصاء عُشير العشر (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

فيا محسنا إلى قبل أن أطلب، لا تخيب أملى فيك وأنا أطلب.

فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك ".

ويقول ابن الجوزى رضى الله عنه: " نازعتنى نفسى إلى أمر مكروه فى الشرع، وجعلت تنصب لى التأويلات وتدفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة.

فلجأت إلى الله تعالى فى دفع ذلك عن قلبى، وأقبلت على القراءة، وكان درسى قد بلغ سورة يوسف فافتتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبى حتى لا أدرى ما أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: (قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)

، انتبهت لها وكأنى خوطبت بها.

فأفقت من تلك السكرة، فقلت يا نفس أفهمت؟.

هذا حر بيع ظلما فراعى حق من أحسن إليه، وسماه مالكا، وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: إنه ربى.

ثم زاد فى بيان موجب كف كفه عما يؤذيه فقال: أحسن مثواى.

فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك وهداك أقوم طريق، ونجاك من كل كيد...؟.

وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن؟.

وسهل لك مدارك العلوم حتى نلت فى قصير الزمان ما لم ينله غيرك فى طويله.

وجلى فى عرصه لسانك عرائس العلوم فى حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن.

وساق رزقك بلا كلفة تكلف، ولا كدر من، رغدا غير نزر.

والله ما أدرى أى نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالى عن خساسة؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل؟ أم استحباب طريق النقل واتباع الأثر من غير جمود على تقليد لمعظم ولا انخراط فى سلك مبتدع؟.

(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).

كم كائد نصب لك المكايد فوقاك؟.

كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟.

كم أعطش من شراب الأمانى خلقا وسقاك؟.

كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك؟.

فأنت يا نفس تصبحين وتمسين سليمة البدن؟ محروسة الدين، فى تزيد من العلم وبلوغ الأمل.

فإن منعك مراد فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة فى المنع فسلمى حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح.

ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره امتلات الطروس ولم تنقطع الكتابة.

وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر؟ وأن ما أومأت إلى ذكره ليم يشرح… فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه بعد ذلك كله؟ (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون).

الخوف: الخوف من الله عاطفة تنبع من حسن معرفته، وكمال العلم به، فهى ليست وجلا مبهما لا يدرى مأتاه أو نتائجه، بل الخوف شعور واضح بجلال الخلاق العليم، وما ينبغى إكنانه له من مهابة، وإعظام.

وكيف لا يخشى جبار السموات والأرض الذى بيده ملكوت كل شئ، والذى لا تماسك شىء إلا بإيجاده وإمداده، والذى لا يعترض غضبه شئ إذا أعلن غضبه على أحد (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير).

إن الإنسان عادة يشعر بانتفاء ذاته أمام من تبهره عظمتهم، وهذا ما يسميه علماء النفس: الشعور السلبى بالذات، وهو شعور يشتبك مع انفعالات نفسية أخرى، فيكون عواطف الإعجاب، والتهيب، وما أشبه ذلك.

وأحق من يقف البشر بساحته وهم مفعمون بالخضوع والاستكانة، والزلفى، والاستجداء هو الله جل شأنه الذى ترجع إليه أمورهم كلها فيبت فيها بتا لا معقب عليه (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور * أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور).

وليس أساس الشعور بالخوف من الله هذا وحده، نعم إن المرء يفرق من الهزيمة ومن الفقر، ويقف قلقا مضطربا أمام من يستطيع أن يوقع به شيئا من ذلك، لكن بناء الخشية على ذلك فقط لا يليق.

إن الخوف يرتبط بالمعرفة، فإذا رأيت امرءا يتعرض لتيار كهربائى صاعق، أو يتوقف أمام قطار حديدى منطلق فهو إما جاهل أو مجنون.

إن العلم بخصائص الأشياء يملى على صاحبه التصرفات المناسبة.

ومن عرف الله معرفة اليقين، انمحت من نفسه كل آثار الجرأة والبرود وساورته بين الحين والحين مشاعر الوجل والحذر.

وهى مشاعر لا يستغنى عنها حى فى حكم نفسه وضبط سلوكه.

ثم هى الباعث الدائم على استرضاء الله، وفعل ما أمر وترك ما نهى (إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه).

على أن الأفراد والجماعات لهم فى جنب الله زلات مخوفة، وكم يقترف البشر من الرذائل التى تجر عليهم الويل، لأنها محاداة لله واستهانة بحقه، وعمى عما يجب له.

ولو أن المعصية تلقى جزاءها العدل على عجل لخسف بآتيها، وذاق للفور عقبى جهله وغروره (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة).

ولكن الصبور جل شأنه يمنح الخطائين فرصا واسعة كى يثوبوا لرشدهم ويعتذروا لربهم.

(... ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى).

من الجائز أن تنفجر فى أجسادهم مراجل الغضب الإلهى بغتة، وهم سادرون فى غيهم فلا تبقى منهم أحدا، ولا تدع لهم وسما ولا رسما ...

وقد قص علينا المولى فى كتابه أخبار الأمم الأولى، وكيف هانت على الله لما أهانت أمره، وكيف نكل بها لما نكلت عن الصراط المستقيم (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون * أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون).

والخوف من الله عاطفة تدل على شرف النفس، ويقظة الحس، وامتلاك الزمام فى الساعات الحرجة، وإنه لرجل جدير بكل احترام ومثوبة هذا الذى يستمكن مما يشتهى، ثم يمتنع عنه وهو خال لا لشىء إلا لأن الله يراه.

علام يدل هذا المسلك؟.

إنه يدل على إيمان بالله عميق، وعلى أن ذلك الإيمان يقظان ليؤدى واجبه كالديدبان الحارس، وعلى أنه لما استثيرت النفس نهض إليها، وفرض وجوده وحده فحسم نوازع الشر.

ولذلك جاء فى حديث السبعة الذين يظلهم الله، يوم لا ظل إلا ظله!. "...

ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنى أخاف الله " .

وهناك من يبتعد عن مثل هذه الجريمة حرضا على سمعته، وقهرا لشهوته، وعلى لسانه قول القائل: ذكرت تعلة الفتيان يوما وإسناد الملامة للمليم وهذا السلوك ـ وإن كان شرف نفس ـ إلا أنه ليس أثر الإيمان الذى يجب أن يملأ أرجاء النفس، وأن يسيطر على بواعث الفعل والترك فيها.

نعم، هو شرف لأن الذى يدع رذيلة ما، حتى لا يقفه الناس موقف تثريب وتقريع، أفضل ممن يغلبه هواه، فلا يبالى ما يلقى من ذم.

إلا أن سيرة المؤمن الذى يخاف الله أشرف وأحق بالتنويه...

إذ أنه ترك الإثم هنا لسبب أجل هو الخوف من جلال الله.

ثم المؤمن الذى يعرف الخير والشر، والحسن والقبيح من لسان الشارع لن يضل فى معرفة العيب الذى يتركه، والخير الذى يفعله.

ولو أنه تلقى ذلك من أفواه الناس الذين يطلب ثناءهم ويخشى ملامهم لأمكنه فى عصرنا هذا أن يسكر وأن يزنى وهو مطمئن إلى أن مواهبه الأخرى ستجعله عظيما محبوبا...

إن مخافة الله بترك ما حرم هى الأساس الأعظم فى تكوين الشخص الشريف المأمون.

ومن الخطأ حسبان الخوف وحده هو الحاجز عن الشر، والدافع إلى الخير، إن الواقع فى حياة المؤمن غير هذا، والمفهوم من طبيعة الإيمان غير هذا...

فقد يترك المرء المعصية حياء من المنعم، أو رجاء ما عنده، أو شعورا نفسيا وعقليا بدمامتها، أو حبا غالبا لله الذى أمر ونهى.

والمؤمنون ليسوا سواء فى هذه البواعث، بل المؤمن الفذ تختلف أحواله فى استقبال ما يعرض له، فقد يفعل الشىء أو يتركه بدافع الرغبة حينا وبدافع الرهبة حينا، وبدوافع أخرى حينا آخر.

والخوف من الله دافع بارز فى حياته من غير شك، وهو دافع معقول، فمن ظن الخوف لا يعرض للبشر أصلا فهو مبطل، ومن ظن الخوف من أى شىء أنفس معدنا، وأرقى دلالة من خشية الله فهو كاذب.

ومن ثم كان الخوف من الله ركنا فى الإيمان به (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا).

ويكاد الخوف يكون وحده العامل الحاسم فى كثير من المواقف القلقة، والعاصم المنجى عن ثوران بعض الغرائز العنيفة وجماحها الشديد.

سيما وقد نبهنا إلى أن الخوف وليد المعرفة، فكلما اتسعت معرفة المرء لله ازداد مهابة له، وحذرا من مخالفته، وإكبارا لحقه.

عن عائشة رضى الله عنها قالت: " صنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرا فترخص فيه، فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه، وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك فقام خطيبا فقال: ما بال رجال بلغهم عنى أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه، فوالله إنى لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " .

وفى خوف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ربه، وفي تخويف المسلمين عامة من بطش الله وعذابه نقرأ قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون).

وقد تضمنت سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نماذج إنسانية لأثر هذا الخوف العالى فى تطهير السلوك الإنسانى، وقيادته ـ إذا اضطرب ـ نحو الصراط المستقيم.

إن امرأة ضغطت عليها الحاجة حتى ألجأتها إلى التفكير فى تسليم نفسها لمن يملكون المال ولا يملكون الخلق وأولئك فى الحياة كثير!.

فلما واجهت المكروه ارتعد بدنها، وتلوى الشرف المكظوم فى نفسها فلم تملك إلا البكاء...

عن ابن عمر قال: " سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : كان الكفل من بنى إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله.

فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها.

فلما أرادها على نفسها ارتعدت وبكت.

فقال: ما يبكيك؟.

قالت: لأن هذا عمل ما عملته، وما حملنى عليه إلا الحاجة.

فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله!

فأنا أحرى.

اذهبى فلك ما أعطيتك، ووالله ما أعصيه بعدها أبدا.

فمات من ليلته، فأصبح مكتوبا على بابه.

إن الله قد غفر للكفل فعجب الناس من ذلك " .

إن المرأة الطهور سر هذا التحول فى نفس رجل قضى أغلب عمره فى الآثام، ثم سرت فى روحه عدوى الخير والعفاف والتقوى فأقلع عن غيه، واجتث أصول الشر من قلبه، وغيره الخوف من الله، فآلى على نفسه لا يعصيه أبدا.

فما أدركه الأجل وهو على هذه النية الجازمة كانت توبته قد غسلت خطاياه، فمات مغفورا له!!

إن خشية الله شىء عظيم...!!

وإن النذر لتتلاحق فى آيات الكتاب العزيز كى تشعل فى الضمير هذا الشعور الهادى فلا يتعثر المرء ولا يضطرب.

وإيقادا لهذه الشعلة، وارتقابا لما يعقبها من آثار سجلت السنة النبوية قصة غريبة لرجل طالت إساءته، فلما احتضر اختلط فى نفسه أمران: خوفه من عقبى ما فعل فى ماضيه الطويل، وجهله الذى حيره فى وسيلة للخلاص منه!.

فماذا يصنع؟ امتزج خوفه وجهله فى عاطفة ساذجة ووصاة جمع أولاده على تنفيذها بعد موته.

قال عليه الصلاة والسلام: " كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقونى، ثم اطحنونى، ثم ذرونى فى الريح، فوالله لئن قدر الله على ليعذبنى عذابا ما عذبه أحد.

فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعى ما فيك ففعلت، فإذا هو قائم.

فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له ".

الرجاء: الوجود الذى نحسه، وما يكمن فى تضاعيفه من لطف وبر، هو نعمة محض لا علة لها إلا محض الفضل الأعلى.

إن المرء ينام وتبقى فى عروقه وأعصابه عشرات القوى التى تضبط حياته لا تهن ولا تسكن.

من الذى استبقاها يقظة دائبة؟ بل من الذى أبدعها ابتداء من صميم العدم؟ إنه الله.

إنه لم يخلقك إثر سؤال منك، ولم يشرف عليك وأنت جنين، ثم وأنت رضيع لأنك طلبت منه ذلك، إنه فعل بك ذلك لأنه ـ من ذاته ـ منعم وهاب، واجد ماجد.

ولو كان يدير الأمور وفق الأسئلة والرغبات لاندكت الآفاق وسرت الفوضى فى كل ناحية.

إنه أرحم بالعباد من أنفسهم وأعرف بمصالحهم من منتهى تفكيرهم وعطفه السابق على مقدرات الخلائق هو الذى يسير الحياة، ويشيع فيها الخير، ويضمن لها البقاء.

وفى هذا يقول ابن عطاء: " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل عنايته فيك لا لشىء منك.

وأين كنت حين واجهتك عنايته وقابلتك رعايته؟.

لم يكن فى أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال، لم يكن إلا محض الإفضال وعظيم النوال ".

إن الفضل ينبثق من ذى الجلال والإكرام لأن ذلك وصفه ـ كما ينبثق الشعاع من الشمس ـ ولله المثل الأعلى ـ لأن طبيعتها الاتقاد.

إن الملك الجليل الشأن الذى انبسط سلطانه على كل شىء فهو فى السماء إله وفى الأرض إله، ويعطى ويغدق لأن الكمال نعته سواء عرف البشر ذلك أم أنكروا.

وعطاؤه على قدر عظمته، ومن ثم فهو أحق من يرجى ويقصد!!

إن البشر يتهافتون على من يأنسون فيه القوة والغنى التماس جداء وابتغاء نداء، ولو عقلوا لعلموا أن ما لديه قطرة معارة، وأن أحق من يشدون إليه الرحال ويربطون به الآمال، هو الكبير المتعال.

إن الأساس فى طبائع البشر طرا، مهما سمت مناصبهم وبدت قدراتهم، أنهم يأخذون لا يعطون.

أليسوا فقراء إلى الله، عالة على فضله؟ فالاتجاه بالرجاء إليهم طيش.

أما الرجاء فى الله فعمل وافق موضعه وأصاب هدفه.

ثم إن جمهرة البشر حين يسألون تتحرك فيهم صفاتهم الفطرية، فهم بين جاهل بحال السائل، أو عالم بها عاجز عن علاجها، أو قادر يمنعه شح نفسه عن الإجابة.

وتلك كلها آفات منفية عندما يتجه الرجاء إلى الله جل جلاله.

ولذلك ترى أولى الألباب يقصدونه بالمطالب الجسام وهم راجون ألا ينقلبوا عن ساحته إلا راضين...

قال ابن الجوزى : خلقت لى همة عالية تطلب الغايات.

بلغت السن وما بلغت ما أملت، فأخذت أسأل تطويل العمر، تقوية البدن، وبلوغ الآمال.

فأنكرت على العادات وقالت: ما جرت عادة بما تطلب.

فقلت: إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات.

وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: اطلبوا لها رجيلا.

وقيل لآخر جئناك فى حاجة لا نرزؤك.

فقال: هلا طلبتم لها سفساف الناس؟ فذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا فلم لا نطمع فى فضل كريم قادر"؟.

ترى ما هى العظائم التى نقف بباب الله راجين أن نثوب بها؟ ما هى الأعطية الجزلة التى نتمنى على الله قضاءها، ونراه جل شأنه أهلا للإفضال بها وبأضعافها.

إن كل أمرئ يحب ألا يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا امتلكه.

ولو أن الله منح العباد ما يشتهون من ذلك كله ما تعب، ولا نقصت خزائنه.

غاية ما يجب أن نتصارح به، أنه لا يجوز أن نطلب إثما ولا جهلا ولنضرب لذلك مثلا.

إن الحياة الدنيا دار اختبار، وهى ممر لا مستقر، والآخرة عند الله أزكى منها وأبقى، فإذا وفد بشر على الله بآماله التى يطلب تحقيقها، وكانت هذه الآمال مضادة لهذه الحقائق كلها، بأن كانت الدنيا فى وعيه أرجح من الآخرة وكانت رغبته لا تعدو إشباع نهمته منها وحسب!

أترى هذا الجاهل يعود إلا بخيبة الرجاء؟.

إن المشكلة التى يجب أن تنحل فى أذهان الناس أولا هى تصور حقائق الحياتين..!!

وشىء آخر: ماذا يجاب إليه طفل يحب أن يبقى طول عمره رضيعا؟ أيحقق له رجاؤه؟ إن أغلب الناس ينزلون فى أدعيتهم عند نداء طبائعهم، ولو أجيبوا لعاشوا أطفالا لا يحملون من أعباء التكاليف شيئا.

إن الله أهل لأن تنزل عليه بكل ما يجيش فى نفسك من آمال.

وإذا كان قد أعطى تفضلا من غير سؤال، فهل يرد سائلا جاءه راجيا؟ بيد أننا بحاجة إلى العقل والأناة والتبصر.

أعجبنى ما رواه ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهارى، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبت عنده فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله سبحان ربى، حتى أمل أو تغلبنى عيناى فأنام.

فقال يوما: يا ربيعة سلنى فأعطيك.

فقلت: انظرنى حتى انظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجينى من النار ويدخلنى الجنة.

فسكت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: من أمرك بهذا؟.

قلت: ما أمرنى به أحد ولكنى علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذى أنت منه فأحببت أن تدعو الله لى.

قالى: إنى فاعل فأعنى على نفسك بكثرة السجود .

(وفى بيان ما يرجو العبد، وتتعلق به همته يقول ابن الجوزى: دعوت يوما فقلت: اللهم بلغنى آمالى من العلم والعمل، وأطل عمرى لأبلغ ما أحب من ذلك: فعارضنى وسواس من إبليس، فقال ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذى ينفع طول الحياة؟.

فقلت له: يا أبله.

لو فهمت ما تحت سؤالى علمت أنه ليس بعبث.

أليس فى كل يوم يزيد علمى ومعرفتى فتكثر ثمار غرسى.

فأشكر يوم حصادى؟.

أفيسرنى أنى مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأنى ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتى به اليوم.

وكان ذلك ثمرة طول الحياة التى فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت من حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها قدرى، وتجوهرت بها نفسى.

ثم زاد غرسى لآخرتى، وقويت تجاربى فى إنقاذ المباضعين من المتعلمين، وقد قال الله لسيد المرسلين: ( و قل رب زدني علما).

وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا.

وفى حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة ".

فياليتنى قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل رفع ونفع).

عندما قرأت كتاب " صيد الخاطر " لابن الجوزى أحسست أن الرجل عبر بكلمات بصيرة بليغة عن خوالج نفسية تحركت فى باطنى، وسجلت أطرافا منها قبل أن أطلع على كتابه هذا.

وربطنى بالرجل إلى جانب ذلك أنه مشغول بتعليم الإسلام ونصح الجماهير، وهى الوظيفة التى شرفنى القدر بها...

والناس يظنون فى رجال الدين ـ كما يسمونهم ـ جمود الحس، وسواد المزاج، وفقدان القدرة على تذوق الحياة.

وهذه أوصاف قد توجد فى نفر ممن نكبت به الأديان قديما وحديثا، وهى موجودة يقينا فى طوائف أخرى، ولكن سوء الحظ جعل النظرة العجلى تتناول خدام الإيمان وحدهم بهذا الاتهام...!!

وكثيرا ما أبتسم فى حرج ونفرة وأنا أرى كثيرا من المعلولين فى خلقهم الغموصين فى مواهبهم يستطيعون ـ بحكم مراكزهم القوية فى المجتمع ـ أن ينالوا منا، وأن يضربوا حولنا أسوارا من حديد لنحيا كما يريدون لا كما تتطلب ملكاتنا وقدراتنا و خبراتنا.

وكم يكظم الإنسان الآلام فى نفسه، وهو مفعم بالأشواق إلى الجمال والعزة والاستغناء، ثم يمد بصره فلا يرى حوله إلا الدمامة والهوان والعيلة.

وما أغرب الناس، إنهم يشتهون الدنيا، وينحنون لملاكها فى ضراعة ووضاعة، وفى الوقت نفسه يحرمونها على علماء الدين؟ ثم يحتقرونهم لفقرهم، ولكل ما يستتبعه الفقر من مسكنة وقلق.

وكم يشعر الإنسان أنه بين نارين، إن سكت عن حقه فى الحياة ضاع واستمكن الرعاع من زمامه، وإن طلبه ـ فى بيئة ضنينة به ـ قيل: طلب دنيا يزاحم عليها..

إن أمثالنا من الدعاة إلى الله ينقلون أقدامهم بوجل فى سبيل مزحومة بالأقذاء والإنكار، لا يعين على السلامة فيها إلا الله، والذى لا نسأم دعاءه ورجاءه.

وما أنكر من نفسى أنى أحب الدنيا، ولبئست هى إن كانت مهادنة لظالم أو إغضاء عن منكر.

أما أن تكون دعما للحق، وغنى عن الأدنياء فنعما هى...

إن وجه الرذيلة شائه فى بصرنا، وطعمها مر فى مذاقنا، ونحمد الله إذ أورثنا كرهها.

أما طيبات الحياة التى تلهج الألسنة بالثناء، وتبعث الجوارح على الشكر فنعما هى، وما نستحيى من استحلائها والإكثار منها...

وربما كان لبعض الناس جلادة على خشونة العيش، واصطبار على كآبة المنظر فى الأهل والمال، لكنى والله أضيق بهذا وأستعيذ بالله منه.

ولست أطلب من الله سعة تشغل عنه، بل أطلب سعة تدفع إليه، وكثيرا يحصن من زراية السفهاء، ولعب الكبراء...

فإن كان ذلك بابا إلى نقص العلم، أو هوان المنزلة يوم القيامة فنرجو أن يجعل الله بيننا وبينه حجابا غليظا وأمدا بعيدا...

جالت هذه الخطرة فى نفسى وأنا أقرأ لابن الجوزى هذه النفثة التى سطرها فى كتابه " صيد الخاطر " يصف بها حياته ورجاءه.

وقلت: ألا ما أقرب الشبه بين عيش وعيش، وأمل وأمل.

قال: ـ غفر الله لنا وله ـ: " ما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته، فإن من علت همته يختار المعالى.

وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى فى عذاب.

وإنى أعطيت من علو الهمة طرفا فأنا به فى عذاب، ولا أقول: ليته لم يكن، فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل.

ولقد رأيت أقواما يصفون علو هممهم.

فتأملتها فإذا هى فى فن واحد، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضى: ولكل جسم فى النحول بليلة وبلاء جسمى من تفاوت همتى فنظرت فإذا هذا غاية أمله الإمارة.

وكان أبو مسلم الخرسانى فى حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له فى ذلك، فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفسى تتوق إلى معالى الأمور مع عيش كعيش الهمج الرعاع.

قيل: فما الذى يبرد غليلك.

قال: الظفر بالملك.

قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال.

قيل: فاركب الأهوال، قال!: العقل مانع.

قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلى جهلا، وأحاول به خطرا لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.

فنظرت إلى حال هذا المسكين، فإذا هو قد ضيع أهم المهمات، وهو جانب الآخرة، وانتصب فى طلب الولايات، فكم فتك وقتل؟ حتى نالى بعض مراده من لذات الدنيا.

ثم لم يتنعم فى ذلك غير ثمان سنين.

ثم اغتيل، ونسى تدبر العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال.

وكان المتنبى يقول: وفى الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكن قلبا ـ بين جنبى ـ ماله مدى ينتهى بى فى مراد أحده يرى جسمه يكسى شفوفا تربه فيختار أن يكسى دروعا تهده فتأملت هذا الآخر، فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب.

ونظرت إلى علو همتى فرأيتها عجبا.

وذلك أننى أروم من العلم ما أتيقن أنى لا أصل إليه، لأنى أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها.

وأريد استقصاء كل فن، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه.

فإن عرض لى ذو همة فى فن بلغ منتهاه ورأيته ناقضا فى غيره، لم أعد همته تامة.

مثل المحدث الذى فاته الفقه، والفقيه الذى فاته علم الحديث، فلا أرى الرضى بنقصان شىء من العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة.

ثم إنى أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.

ثم إنى أروم الغنى عن الخلق، واستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم من الكسب وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.

ثم إنى أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عنى بعد التلف.

وفى طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.

ثم أرنى أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفى ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل فرق جمع الهمة.

وكذلك أطلب لبدنى ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه واللطف، وفى قلة المال مانع، كل ذلك جمع بين أضداد.

فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟.

وأنا لا أحب أن يخدش حصود شىء من الدنيا وجه دينى بسبب.

ولا أن يؤثر فى علمى، لا فى عملى.

فواقلقى من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف.

وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم.

وما أسفى على ما يفوتنى من المناجاة فى الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم.

ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة.

غير أنى قد استسلمت لتعذيبى، ولعل تهذيبى فى تعذيبى، لأن علو الهمة تطلب المعالى المقربة إلى الحق عز وجل.

وربما كانت الحيرة فى الطلب دليلا إلى المقصود.

وها أنا ذا أحفظ أنفاسى من أن يضيع منها نفس فى غير فائدة.

وإن بلغ همى مراده...

وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله ".

والرجاء فى الله تعالى، وحسن الظن به، إنما يقبلان إذا أقترنا بالعمل الواجب، وصحبهما الإسراع فى حق الله تعالى، والسهر على مرضاته.

أما مع البطالة والاسترخاء فلا مكان لرجاء ولا موضع لحسن الظن.

وتدبر قوله تعالى يصف من ترشحهم أعمالهم لرضاه: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم).

إيمان وهجرة وجهاد، تلك هى التى يرجو أصحابها فضل الله تعالى.

أما الريبة والقعود والراحة فلا تبلغ أملا، ولا تنتج إلا شرا.

وتدبر قوله تعالى يحصى أنواعا أخرى من البر، هى التى تؤهل لحسن القبول : (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور).

تلاوة القرآن ـ يعنى إحياء تعاليمه.

وإعزاز شرائعه ـ والنفقة التى تسد ثغرات المجتمع ما علن منها وما خفى، والإقبال على الصلوات الجامعة إقبالا يعلى ذكر الله تعالى فى الحياة، ويجعل الهتاف باسمه وحده شارة الأمة، تلك هى أسباب الرجاء الحق، وتأميل النصر، والتمكين، والنعماء.

وللناس ـ بطبيعتهم البشرية ـ أخطاء تبدر منهم ـ ويسيئون بها إلى أنفسهم وغيرهم، وربما جرت غضب الله عليهم، إلا أنهم إذا أحسوا سوءها، وضرعوا إلى الله تعالى أن يفك عنهم إصرهما، كان للرجاء فى غفران الله تعالى موضع.

إن هذا الرجاء الحار لا يجوز أن يفارق المؤمن فى أى لحظة من حياته، سواء كان قوى الساعد يضرب فى الأرض ببأس، أو وهو يولى ظهره للحياة، ويضع قدمه على عتبة الآخرة قادما إلى الله تعالى.

عن أنس رضى الله عنه أن النبى دخل على شاب وهو فى الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإنى أخاف ذنوبى.

فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " لا يجتمعان فى قلب عبد فى مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف " .

وعن حيان أبى النضر قال: خرجت عائدا ليزيد بن الأسود، فلقيت وائلة بن الأسقع وهو يريد عيادته، فدخلنا عليه، فلما رأى وائلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل وائلة حتى جلس، فأخذ يزيد بكفى وائلة فجعلها على وجهه.

فقال له وائلة: كيف ظنك بالله؟ قال : ظنى بالله ـ والله حسن.

قال: فأبشر، فإنى سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدى بى ، إن ظن بى خيرا فله ، وإن ظن بى شرا فله " وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أمر الله عز وجل بعبد إلى النار، فلما وقف على شفتها التفت!

فقال: أما والله يا رب إن كان ظنى بك لحسنا.

فقال الله عز وجل: ردوه، أنا عند حسن ظن عبدى بى ".

وهذا الحديث ضعيف السند، ومعناه يقبل فى حدود الدائرة التى رسمناها من صحيح الكتاب والسنة، وأقصى ما يشير إليه التنويه بقيمة حسن الظن إن الشخص الذى يحسن بك الظن يعرفك معرفة لا بأس بها، وإن كانت المعرفة فنا أوضح فى ناحية الرحمة والتجاوز.

وهو قد يخطى فى حقك لاختلال المقاييس التى يزن بها الأمور، لكنه ـ مع هذا الخطأ ـ لا يوصف بأنه لك عدو، إنه صديق، أو تابع، لم يحسن التصرف فقط.

وربما انضم إلى هذه الخلة ما يعرض صاحبها لمؤاخذات قاسية.

وحديث الرجل الذى التفت إلى الله ـ وهو على شفا الهاوية ـ وفى فؤاده رجاء لم يغرب شعاعه، جعله إلى الرمق الأخير يتلفت آملا الغوث، غير مصدق أن الله يسلمه إلى هذا المصير.

هذا الحديث ـ إن صح ـ لا يهون من قيمة العمل.

إنه يصور حالة امرئ مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وكان يجوز أن يقذف فى النار لتحرق بقايا السوء فى نفسه، كما سيقع ذلك لكثير من المؤمنين الذين بينت السنن الصحاح عقبى تخليطهم، وتفريطهم، غير أن الله جلت رحمته عفا عنه.

وكأن كفة الخير فى عمله كان ينقصها القليل لتميل جهة اليمين، فكان حسن ظنه بالله ـ وحسن الظن إيمان ـ المرجح الذى نجا به.

أما قلة الاكتراث بالواجب، وسرعة التهاوى على المحرم فلا يمكن أن يكونا فى نفس تحسن بالله تعالى الظن، بل هما فى نفس صدق عليها إبليس ظنه.

ومن التلاعب بالألفاظ أن ترى أمما جاهلة بالله تعالى، تمرق فى حدوده، وتهدر أحكامه، وتؤمل مع ذلك فى نعيمه ورضوانه بدعوى أنها تحسن الظن بالله تعالى.

ومن أدعياء التدين من يشغب على قواعد الدين، ومن يجرئ العامة والخاصة على الإفلات من ربقته باسم الأمل فى الرحمة، والتعويل على حسن الظن.

وذلك كله ضرب من الفوضى الفكرية والخلقية لا يجوز السكوت عليه، وقد حاربه الأئمة من قديم، وشددوا النكير على أصحابه، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالى: قال يحيى بن معاذ: من أعظم الاغترار عندى التمادى فى الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصى، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمنى على الله عز وجل مع الإفراط: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجرى على اليبس قال: وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض،.

والإيمان كالبذر فيه.

والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها.

والقلب المستهتر بالدنيا، المستغرق بها كالأرض السبخة التى ينمو فيها البذر.

ويوم القيامة يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه.

وكما لا ينمو بذر فى أرض سبخة، فينبغى أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس، ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه فى أوقاته، ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، سمى انتظاره رجاء.

وإن بث البذر فى أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلا، ثم انتظر الحصاد منه، سمى انتظاره حمقا وغرورا لا رجاء.

وإن بث البذر فى أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا، سمى انتظاره تمنيا لا رجاء.

فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلية تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع المفسدات.

فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات، وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره رجاء حقيقيا محمودا فى نفسه، باعثا له على المواظبة والقيام بمقتضى الإيمان فى إتمام أسباب المغفرة إلى الموت.

وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات، وترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق، وانهمك فى طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة، فانتظاره حق وغرور.

قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانى " .

وقال تعالى : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا).

وقال تعالى : (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا).

وذم الله تعالى صاحب البستان إذ دخل جنته وقال: (ما أظن أن تبيد هذه أبدا * و ما أظن الساعة قائمة و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا).

فإذن العبد المجتهد فى الطاعات، المتجنب للمعاصى، حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا دخول الجنة أ. هـ.

التوكل: التوكل شعور بهيمنة الله على الحياة، وبأن حركاتها وسكناتها محكومة بحوله وقوته لا يمكن أن تند منه أو تبعد عنه.

واستقرار هذا الشعور فى القلب يجعل صلة الإنسان بربه عميقة، وركونه إليه باديا.

ولكى ندرك الأساس العقلى لهذا الشعور يجب أن نلقى نظرة لا افتعال فيها على ما يدور حولنا من شئون، وعلى مسلكنا المعتاد بإزائه.

إن أحدنا يخرج من بيته إلى عمله فى الصباح، وهو مالك لأمره، يعتقد أنه ليس عليه اكثر من أن يحرك قدميه إلى حيث يصل، وتلك وسائل مقدورة له.

ولعل الماديين من الناس يقولون.

وما دامت تلك الوسائل فى حوزته فلا معنى للتفكير فيما وراءها.

ونريد نحن أن نتأمل فى هذا القول، ومدى صدقه.

هل صحيح أن الوسائل الموصلة فى أيدينا؟.

لننظر إلى الكيان البشرى نفسه.

إن الساعة التى فى معصمك، والمنبه الذى فى بيتك لا يدوران إلا بعد أن تملأهما يوميا، فإن غفلت عن ذلك توقفت العقارب وسكت الدق.

أفكذلك قلبك بين حناياك؟ إن دقاته لا تهدأ أبدا، إنه يخفق أردت أو لم ترد، إنه يواصل عمله ليلا ونهارا، وأنت نائم وأنت يقظان، فهل لك عليه من سلطان؟ فإذا خرجت من بيتك، وشاء مالك التصرف فيه أن يقفه فمن يمنعه؟.

ولنفرض أنك مالك أجهزتك الظاهرة والباطنة، وأن هيمنتك عليها شاملة كاملة، فماذا تملك من ظروف الحياة الخارجية؟ إن الحركة الواسعة التى تدور فى الشارع بعيدة عن نطاق حكمك، ولو تنبه حسك أشد التنبه ما أمكنك أن تسيطر على كل شىء، ويمكن على حين غرة أن تصاب بأذى شديد من قشرة برتقالة تحت قدمك، أو من سيارة مارقة لم يحسن قائدها الابتعاد عنك.

إن هناك أشياء كثيرة لا يتم مراد الإنسان إلا بتوفيرها جميعا، وهذا التجميع والتنسيق لا تحكمهما مشيئة بشر، ونحن المؤمنين لا نرد ذلك إلى حظوظ عمياء بل إلى مشيئة الخالق الكبير، المهيمن على كل شيء (وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون).

من أجل ذلك كثرت الأوامر فى الكتاب والسنة بالتوكل على الله جل وعلا، لأن التوكل دلالة علم بالله وصفاته وما ينبغى له...

وفيه بصيرة من العبد بالحدود التى تعمل فى نطاقها قدرته وإرادته، وبالمدى الواسع الذى تتصرف فيه الإرادة العليا والقدرة العليا.

والمتوكل بهذه اليقظة الفكرية والنفسية أهل لأن يظفر برعاية الله وتوفيقه ومحبته (إن الله يحب المتوكلين)، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا).

أى أن الله يكفى من لاذ به واعتمد عليه، وهو ـ سبحانه ـ يستحيل أن يفوته ما يريد، فهو بالغ أمره لا محالة، بيد أنه أدار الكون على قوانين مقدورة، وسنن معلومة (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم).

ومن الجهل بالله وصفاته ـ والجهل طريق الكفر إن لم يكنه ـ أن يتوقع أحد الخذلان والضياع مع ارتباطه بالله!!

وقد جاء فى نظم القرآن الكريم تساؤل غريب يكشف وجه الحق فى هذه القضية (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام )

والتوكل كلمة مظلومة، إنها تعنى ركون الإنسان إلى الله فيما لا طاقة له به لأنه لا يستطيع عمله.

أما ما يدخل فى حدود طاقته ويملك البت فى بدايته ونهايته فلا مكان للتوكل فيه.

إذا دخل الليل وهو فى حجرته نهض إلى المصباح فأوقده، هذا عمله الذى يقوم به ولا ينتظر من السماء أن تنوب عنه فيه.

إذا سار فى طريق التزم الجانب الأيمن، وتجنب مظان الخطر؟ وأجاب داعى الحذر، أما إيثار الفوضى والنزق وانتظار السلامة باسم التوكل فجهل...

إذا تقدم لمسابقة استكمل أهبة الفوز بما تفرض من كفاح ذهنى وعلمى وما تتطلبه من نشاط يقرب من الغاية...

إذا سكن بيتا غلق أبوابه ليلا، وتعهد ثغراته حتى لا يجد اللصوص لهم منفذا وهكذا.

من أجل ذلك أجاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأعرابى الذى سأله: أتركها وأتوكل أم أعقلها وأتوكل ـ يعنى ناقته ـ؟ فقال: أعقلها وتوكل.

ونبه الله المجاهدين ـ إذا ضمتهم جنبات الميدان ـ أن يكون انتباههم حادا وتيقظهم بالغا (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا).

وقبل أن يأمر الله نبيه بالتوكل عليه فى قوله: (فاعبده وتوكل عليه)

قبل ذلك مباشرة قال: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون).

فالأمر بالتوكل جاء بعد إعلان عن عمل موصول وصبر طويل.

ورأى أحد الأئمة فقيرا ينطلق إلى الحج دون زاد، فسأله أين زادك؟.

فقال: أنا متوكل على الله.

فقال له: أمسافر أنت وحدك؟ قال: بل مع القافلة.

فقال له: أنت متوكل على القافلة!!.

وصدق، فهذا متأكل لا متوكل، وهذا الصنف جاهل بالإسلام، ومعرفته بالله غامضة يشوبها حمق كثير.

والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد كل الوسائل المقررة فى عالم الشهادة، إيمان بالله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من واجبات.

والتوكل يجئ صدقا وسكينة فى موضعه الحق، ولنضرب لذلك الأمثال.

طلب الرزق غريزة لدى الأحياء كلهم ما إن تبدو تباشير الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار والصناع وأصحاب الحرف للدخول فى كفاح طويل أو قصير كى يحرز كل امرئ قوته وقوت أسرته.

وهذا الكفاح محك قاس للأخلاق والمسالك، فإن اللهفة على تأمين المعايش قد تلجىء أصحابها إلى الختل والتلون أو الكذب والحيف.

وربما وجدت الضعاف يتملقون الأقوياء، والصغار يذوبون فى الكبراء.

والإسلام يرفض أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة لهذه الآثام كلها، ومن ثم فهو يطلب بصرامة أن يكون الارتزاق من أبواب الحلال المحض، وألا يلجأ مسلم أبدا إلى غش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء: الوسائل التى حددها الشارع هى وحدها الأسباب الشريفة التى يقوم بها ثم يقف عندها مرتقبا فى ثقة ما تتمخض عنه من نتائج.

والتزام التقوى فى معالجة هذه الشئون وأمثالها هو منطق الإسلام، وهو منطق منتج لا عقيم قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه).

والتقوى هنا رعاية الشرف فى التكسب، والاستقامة فى الطلب، فإن إلحاح الرغبة فى طلب الكفاف أو فى طلب الثراء قد يدفع إلى اللؤم والعوج.

وحجزا للنفوس عن هذه المهاوى يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته " .

وغرسا لفضيلة التوكل عند طلب الرزق روى الغزالى فى الإحياء هذه الآثار.

قرأ الخواص قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا)

فقال: ما ينبغى للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى.

وقيل لبعض العلماء فى منامه: من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته، وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتبه الله لك.

وقال يحيى بن معاذ: فى وجود العبد الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد.

قال إبراهيم بن أدهم: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال لى: ليس هذا العلم عندى ولكن سل ربى من أين يطعمنى؟.

وقال هرم بن حيان لأويس القرنى: أين تأمرنى أن أكون؟ فأومأ إلى الشام.

وقال هرم: كيف المعيشة؟ قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.

وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا، نسأل الله تعالى حسن الأدب.

وهذه الآثار لا تعنى إلا رفع كبوات البؤس أو زجر نزوات الطمع، فإن البشر فى هذه الميادين يفتقرون إلى علاج شديد.

لقد رأينا ذل الفقراء وشره الأغنياء وراء المال يفعل الدواهى فلا جرم أن ترد الآثار تلطم هذا التطرف كيما ترده إلى سواء السبيل.

ولكن هذه التعابير التى يقصد بها إشاعة الثقة فى أرجاء النفس الإنسانية حتى لا تضرع وتجزع انقلبت دلالاتها فى بعض النفوس ففهمت منها ما لا يجوز أن يفهم، فهمت منها أن السعى باطل، وأن السكون دين، وفى ذلك يقول رجل مهزوم أطاش العجز لبه: والسعى للرزق ـ والأرزاق قد قسمت ـ بغى ألا إن بغى المرء يصرعه ويقول آخر: حرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق فى غشاوته الجنين

وهناك موطن آخر للتوكل يستحب فيه ذكر الله، والاطمئنان إليه، ويكون الإيمان بالغيب فيه مصدر أنس وقوة لأصحابه.

ذاك موطن الكفاح الذى يحمل عبئه أصحاب الرسالات، ويتعرضون فيه لمخاوف مزعجة، ولا يثبتون فيه على الروع والغبن إلا لأملهم فى الله واستنادهم إليه.

وإلا بالتوكل الذى ينير أمامهم ظلمات الحاضر، ويجرئهم على مواجهة الجبروت بعزم.

والقوى الشريرة التى يواجهها حملة الدعوات ليست عدوا سهلا، وإنقاذ الحقائق الكبيرة والحقوق الضائعة من بطش هذه القوى عمل يقترن بالمعجزات.

فإن الاستكانة المطلقة التى تغمر الأفئدة وتطويها على الخوف من هؤلاء الأقوياء الأشرار تجعل انتصاب المصلحين أمامهم، والدخول فى معركة مريرة لاستئصالهم ـ تجعل ذلك حلا فادح الثقل مرهوب العقبى.

وإننا ـ لطول ما بلونا ـ نقدر موقف موسى وأخيه عندما أمر بالذهاب إلى فرعون ونصحه، فقالا: ( ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى).

إن الشعور بصحبة الله هو المؤنس فى هذه الوحشة، وهو المشجع فى هذه الرهبة، وذاك معنى التوكل فى تلك المواقف.

وهو ما نزل به الوحى على قلب الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما طرقته الرسالة فقال الله له: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا).

ونحن نجد التوكل على الله هو المعنى الشريف الجليل الذى يلوذ به المكافحون، ويرقبون معه مستقبل رسالتهم، ومطلع الفجر وسط ما يخيم عليهم من إظلام.

إنه ليس فقط القوة المعنوية التى يتحاملون بها على جراحاتهم بل هو كذلك اللفظ المنغوم الذى يجرى على ألسنتهم ويسمعه منهم خصومهم وهم يناقشونهم: (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون).

عندما يطلب من أولئك المؤمنين الصابرين أن يشتروا حياتهم وراحتهم واستقرارهم بنبذ الإيمان، والعودة إلى الضلال القديم يأبون إلا الصمود على الحق، وتحمل الأذى فى سبيله فيقولون: (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين)

وأساس هذا الثبات والرجاء أن مرد الأمور على تطاول الزمن إلى الله، وأنه إذا وهب النصر فلن يعترضه أحد، وأنه ناصر جنده لا محالة، وأن الباطل يأخذ جولته ثم يتلاشى، وأن ليس أمام أهل الإيمان إلا التعويل على الله والتأميل فيه: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون)

والتوكل على غير الله قصير العمر، أو عديم الجدوى، أما التعلق بالله فهو ارتباط بالمصدر الدائم للخير، ولذلك قال: (وتوكل على الحى الذى لا يموت)!

الحُبّ: قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).

هذه الآية عرضت لمحبة الله جل وعز، ولبعض آثارها العملية، فى فترة من تاريخ الإسلام كان يحتاج فيها إلى أخلاق معينة.

والقوم الذين أحبهم الله وأحبوه، ذكروا فى سياق الآية على أنهم بدل من قوم آخرين نزلوا عن هذه المرتبة، لم ترشحهم خلالهم ومسالكهم لمحبة الله، بل ما زالوا يتدلون فى مهاوى السوء حتى عدوا مرتدين عن الإسلام.

والارتداد ـ الذى توعد الله أهله بالطرد ـ هو فى نظرى نتيجة سيرة طويلة يصحبها التفريط والالتواء، ولست أظنه جاء دفعة واحدة.

إنه يبدأ استثقالا للواجبات واستحلاء للآثام، ثم عكوفا على هذه وتمردا على تلك، ثم ميلا لأهل السوء وانحرافا عن أهل الخير.

وعندما يكون هوى الرجل مع المبطلين، وعندما يكون انتصاره لهم، فهو مرتد يقينا عن الإسلام!!

وما بقاء رجل على دين ينفر من تعاليمه ويخون أمته؟ (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).

وإذ يدبر هؤلاء عن الله وحقوقه، يجئ آخرون فى قلوبهم حياة ومودة، يحبون ربهم ويلقون أمره بالإعظام والحفاوة.

وولاؤهم لله يدنيهم من كل مؤمن به، ويكرههم فى كل فاسق عن أمره، ويطلقهم فى العالم سلما لأوليائه حربا على أعدائه، تنهض بهم رسالات الخير، وتنهزم أمامهم ألوان الشرور.

وإذا صحت محبة الله فى قلب امرئ فقد تبوأ قمة الكمال، وتهيأ لفضل من الله جزيل!

نعم، إن نشوء هذه العاطفة ونماءها يسبقها اصطفاء خاص، والشعور بحب الله ليس متاحا لكل إنسان إنه سمو يتخير الله له من يشاء، ولذلك ختمت الآية السابقة بهذا التذييل: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).

إنها منة تسيل من عين الجود قبل أن تكون كسبا تتجه إليه الإرادة!.

ومن حقك أن تسأل: كيف ذلك؟ أليس هذا الكلام مما يقعد الهمم ويبذر اليأس؟؟ ونجيب: كلا، والأمر يحتاج إلى زيادة إيضاح.

إن المواهب الإنسانية الرفيعة لا تنشأ أصلا من كسب الإنسان، بل لابد أن يسبقها استعداد فطرى يولد المرء به، ولا يد له فيه.

وجمهور العباقرة والممتازين ترجع عظمتهم ابتداء إلى أصالة فى معادنهم الفكرية والنفسية لا توجد فى غيرهم، ثم يتعهدون هذه الطبائع الفذة بما يبلغ بها الغاية.

ويمكن أن ينضاف إلى الغرائز الأولى تفاوت عناصر البيئة، فرب بيئة أخمدت ما فى النفوس من وقدات ملتهمة.

وأهالت عليها التراب، ورب بيئة نفخت فى هذه النفوس ما يهيج ضرامها ويرفع شعلتها.

وما ينغرس فى الجبلات من خلال، وما تضطرب به المجتمعات من أحداث شأن يعود إلى الأقدار العليا لا إلى إرادتنا المحدودة.

إن الإيمان نفسه يمكن عده فضلا ـ من هذه الزاوية ـ فقد كان من الجائز أن نولد، أنا وأنت، أرواما أو أعاجم لا ندرى ما الكتاب ولا الإيمان.

فإذا متنا على هذا الحال، وعاملنا الله بقانون العدل لم يعذبنا وحسب.

أما التأهيل للنعيم المقيم فلابد له من يقين وصلاح وجهاد، وذلك كله تلده بيئة دون أخرى ـ من أجل ذلك وصف الله التوفيق للإيمان بأنه فضل فقال: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).

إن صدقة الغنى عمل مشكور يدخر له يوم القيامة، بيد أن الفضل الأول لمن أغناه فأقدره على النفقة فى سبيله.

فكسب العبد بيده أو قصده بقلبه لا ينسيان منة الوهاب الكبير ولذلك ننسب لله الفضل فى كثير من الأعمال التى نقوم بها عن اختيار محض.

وعاطفة الحب الإلهى إذا انقذفت فى فؤاد مؤمن فإن الله هو الذى أولى هذا الشرف.

وأفاء تلك النعمة، وليس أحد يملك أن يفرض على الله صداقته.

حقا إنه ـ تبارك اسمه ـ لا يضيع زلفى متودد إليه؟ ولكنه يمنح وده من شاء صدقة منه على من اصطفى من عباده.

وبديهى أن الله يعطى من تعرض لعطائه؟ ويضع الخير فى الأيدى الممدودة إليه.

أما من أدبر وتولى؟ فلا شىء له إلا الطرد والهوان.

ومحبة الله تنغرس فى قلوب العارفين به.

والمعرفة كما تكون عن جهد الإنسان فى الفكر، والذكر، والتأمل، والتنزيه تكون فيما يكشفه الحق عن عظمة الذات وجمالها لبصائر المتعلقين به وعلى قدر هذا الانكشاف يكون الإعظام والحب والتفانى.

وجمهور البشر لهم أشياء يحبونها ويتعلقون بها، وتضع على سيرتهم طابعها وتكمن وراء كثير من أقوالهم وأفعالهم.

وانعطاف الإنسان نحو شئ معين بدافع الغريزة أو العادة لا شئ فيه ما دام فى إطار الحدود المشروعة.

ولكن لا يجوز أن يمتلك هذا الميل زمام الإنسان، ويتولى تصريفه، وينحى غيره من البواعث الأخرى.

أو بتعبير أوضح، من أحب الله لم يؤثر عليه شيئا.

وعندما تتنافس المشاعر المختلفة فى الاستيلاء على زمام المرء، وتحديد وجهته، فيجب أن تنهزم كل عاطفة أخرى، وأن يرجح جانب الله رجحانا حاسما.

ونحن فى الحياة العادية نشهد ناسئا كثيرين يتعلقون بمبادئ، وأشخاص وأشياء مختلفة، ويؤثر هذا التعلق فى طريقة إنفاقهم لأوقاتهم، وبنائهم لحياتهم، وإصدارهم للأحكام الخاصة والعامة.

وعاطفة المرء نحو ربه تتحدد فيمتها فى هذا المعترك النفسى البعيد المدى.

والمفروض أن حب المسلم لربه أربى من أى عاطفة أخرى عند أى إنسان آخر (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله).

ويظهر ذلك جليا عندما يصطدم فى نفس المرء شعوران متناقضان، فقد تجيش فى قلبه رغبة القعود فى بيته مع ولده وأهله، وقد يهتف به نداء الواجب أن يدع ذلك كله، وينطلق إلى ميدان الجهاد مضحيا بنفسه ورغباته.

ومصير الإيمان مرتبط بنتيجة هذا الصراع العاطفى، فإن غلبت محبة الله، ورجحت كفة أمره فبها ونعمت، وإلا فالهزيمة فسق عن أمر الله (قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين).

والواقع أن محبة الإنسان للكثير من الأشياء هى التى تصده عن الكثير من الواجبات خصوصا إذا غلبت الرغبة على فكره وغطت على بصيرته، فإنه يفقد اتزانه فيما يصدر من أحكام، وفيما يصدر عنه من أعمال، بل إنه قد يهبط إلى مراتب الطفولة ـ وهو المسن ـ لأن الطفل لا تسيطر على تصرفاته إلا شهواته...

وقديما قيل: حبك الشىء يعمى ويصم.

وكم من رجل أرداه حبه للمال، أو للثناء، أو للراحة بين أهله وعشيرته إذ يقصر هذا الحب خطوه إلى معالى الأمور، ويغريه بالقعود عن نصرة الحق بالنفس والمال.

ولذلك كانت نفس الإنسان ـ إذا آثر الحياة لها ـ عدوه المخوف.

وكان ولده وزوجه أعداء له كذلك، يوم يؤثر الحياة إلى جوارهم عن تلبية النداء وإجابة داعى الله، وهذا معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم)

، والواجب أن يتلطف الإنسان مع أهله وعشيرته حين يتعلقون به، ويبغون بقاءه معهم، تلطف من يرق لضعفهم، ولكن لا يمنعه إعذاره لهم من توديعهم إلى حيث ينبغى أن ينطلق، ومن هنا ختمت الآية بقوله تعالى: (...وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم).

ثم قال محذرا من الركون إلى القعود: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم).

ومقتضى حب الله عز وجل؟ أن يطيع الإنسان أمره؟ ويدع نهيه، ويحرص على رضاه.

وكلما ربت هذه العاطفة فعل الإنسان الكثير لله دون أن يحس تعبا، لأن ما غمر فؤاده من شعور يهون عليه المشاق.

ودعوى الحب مع التفريط فى الحقوق، ومع الاستهانة باتباع الرسول دعوى منكرة، فإن من أحب الله تأسى برسوله، واستظل بلوائه، واقتفى فى الدقيق والجليل أثره، قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم).

ولذلك قال الشاعر ـ فى لوازم المحبة: تعصى الإله وأنت تظهر حبه!!

هذا لعمرى فى الفعال بديع!

لو كان حبك صادقا لأطعته!

إن المحب لمن يحب مطيع.

وهذا صحيح، فإن المحب ينفذ ما يطلبه منه حبيبه، بل هو يتشهى أمرا منه ليسارع إلى تأديته بشوق ورغبة..

إلا أن المرء قد تعرض له حالات مرضية يختل معها سلوكه، ولا تبلغ به هذه العاطفة مداها، كما تنقطع الدائرة الكهربائية فى أحد المواضع، فلا يضاء المصباح لاحتباس التيار.

المعروف أن المرء يحب نفسه ويحرص على مصلحتها، ومع ذلك فقد يصاب بمرض يهدد حياته، ويأمره الطبيب بترك عادة له، حتى يستشفى مما ألم به فيعجز عن إجابة أمر الطبيب، ويقع فما حظر عليه!!

إنه لا يكره نفسه، ولكن شلل الإرادة تحت تأثير العادة أزله بعيدا عما يجب.

وبعض العصاة من المؤمنين لا يكرهون ربهم ولا أنفسهم، وإنما يقعون فى المخالفات تحت تأثير هذه الأحوال المعتلة.

ولا ريب أنهم ـ عند ارتكاب هذه المخالفات ـ لا يكونون فى صحو فكرى كامل، إنهم أشبه بالمسهد الذى جن عليه الليل، وتصارع عليه الكلال والأرق، فتفكيرهم أدنى إلى الأحلام الطائشة منه إلى المنطق المستحكم الحصيف!!

ولندع الآن الخوض فى نتائج المحبة، ولنتحدث أولا فى أسبابها.

لماذا نحب الله؟ أو لماذا ينبغى أن نحبه؟ ونحن واجدون ـ بعد التأمل الذى يجلى الضباب ويريح الغفلة ـ أن الله أهل.

لكل حب، وأنه أولى بتعلق القلب من حب المرء لوالده وولده ونفسه التى بين جنبيه !

ونبدأ بأسرع دواعى المحبة ورودا على الذهن، وأعنى به الإحساس الذى يستعبد الإنسان ويقيده بأواصر نفسية متينة نحو المحسن، ولا شك أن الله تبارك اسمه ولى النعم التى يخوض الناس فيها خوضا، ويمرحون فى بحبوحتها طولا وعرضا (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون).

والنعم الإلهية تكتنف الوجود الإنسانى من كل ناحية، إلا أن البشر يعاملون ربهم معاملة الولد المدلل العاق لأبيه، يضيق إذا حرم بعض رغائبه، ويتمادى به الضيق حتى ينسى المنن الجسام التى تطوق عنقه وتستبقى كيانه.

ولو أن الله يسارع إلى الإنسان بكل ما يهوى لهلك الإنسان.

إننى أشهد ـ على ضوء تجاربى التى حفرتها الأيام من حياتى ـ أن أنفس ما يعلى شأنى أنى وليد أمور كنت بها ضائقا، أو أتت بعيدا عن تفكيرى، وتقديرى.

ولو سارت أحوالى وفق ما أهوى ما كنت إلا أحد الهمل، ولو وكلت إلى نفسى، ورغباتها المجابة لهلكت.

وما أصدق قول الله فى كتابه: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

ولو عقل الإنسان لكان حبه لله سواء فى المحن والمنح لأن تقدير الله للإنسان أجدى عليه من تقديره لنفسه.

وتبقى بعد ذلك كله أصول النعم التى يحيا بها الإنسان ويقتعد بها مكانه فى الوجود الكبير، وهو مكان جد خطير، قال تعالى: (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)

وإسداء الجميل يورث الشكر، وهو شعور قد يطول وقد يقصر، ولكن تكرار الجميل على تراخى الأيام وتفاوت الأحوال يورث الحب، والحب عاطفة تلتصق بالشغاف، وتتشعب فى نواحى السلوك كلها.

وتكرار الجميل لمن يعترف به ظاهر، بيد أن الإنسان كثيرا ما يستقبل النعم الجزيلة بإحساس يبدأ براقا.

ثم سرعان ما يبهت.

ومع ذلك فإن رب العالمين لا يحبس فضله عندما يطلبه سائل الأمس الذى أخذ ونسى!!

وقد حفل القرآن بصور شتى لطبيعة الإنسان فى هذه المواقف، وبرز فى هذه الصور كيف أن الله أهل للحب كله، وأن الإنسان أهل للوم كله.

وتأمل هذه الصور لذهول البشر مع ترادف العطاء، واستحقاق الشكر والثناء، والحب والولاء، قال تعالى: (و إذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم و كان الإنسان كفورا).

والإنسان يجأر طالبا من مولاه النجدة عندما تحصره الأزمات، وتأخذ بخناقه، ويشعر بأنه سيهلك فى حومتها لا محالة.

فإذا أتته النجدة التى طلب، واسترد أنفاسه، عاد سيرته الأولى، ونأى عمن قربته منه الأزمات، واستأنف حياة الغفلة التى أراد الله إخراجه منها، بهذه المتاعب العارضة.

أجل، فالآلام ـ فى الأغلب ـ ترد على المرء دواء لعلل كامنة فيه، ومعاناة مرارتها سبيل الشفاء لمن يحسن الاستفادة والتذكر.

ولئن كانت السراء غذاء للكيان الإنسانى إن الضراء دواء لابد من تناوله.

وفى حياتنا العادية نحتاج إلى أنواع الأدوية التى نحتاج كما أنواع الأغذية.

لهذه وظيفتها وموضعها، ولتلك وظيفتها وموضعها، وربما كانت الآفات التى تعترض القلب الإنسانى وتعكر صلته بالله أكثر وأحوج إلى المعالجة من العلل التى تنتاب البدن وتعكر صفوه.

إلا أن موقف الإنسان من ربه عندما يدخله فى تجارب الألم غريب، إنه يثوب إلى الحق بسرعة، ويصرخ سائلا العفو والرحمة، ممن يملك هذا وضده.

فإذا نفس عنه كربته خفت الصوت العالى ثم احتبس، ثم ذهل، ثم انقلب صوت كنود وكبر!!

لماذا؟ هل أخذت أيها الإنسان ضمانا بانتهاء المتاعب إلى الأبد؟ هل اطمأننت إلى أنك لن تقع فى الفني مرة أخرى.

(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا)

وتمر بالبشر مآزق شتى، إذا استحكمت عليهم حلقاتها ناشدوا الله العفو والرحمة، وإذا احتوتهم سعة الحرية نسوا وجحدوا (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون).

والواقع أن الناس أمام هذا الإفضال المتكرر صنفان: صنف غافل القلب غليظ الرين، تمر به الأفراح والأتراح دون وعى، وكأنه لم يدع الله إلى ضر مسه، بل يظن أن ما يمر به من بؤس ونعمى طبيعة الحياة ويقول: (قد مس آباءنا الضراء والسراء).

أى تلك عادة الدنيا، وحالة الزمان!!.

وهذا صنف كفور لا خير فيه ولا دين له...

وصنف آخر يتأمل فى غزارة النعم التى تنهمر من المكثر الوهاب.

ويعرف حق صاحبها فى أن تحفظ وترعى، فيطوى فؤاده على تقديرها وإعزاز مرسلها، ولا يزال هذا الشعور يشرح صدره كلما جدت منة ـ ومنن الله تتجدد ولا تفنى ـ فيكسبه هذا الشعور الموصول حب الله، والرضا عنه والتعلق به.

وللحب داع آخر.

إن النفس الإنسانية تبهرها العظمة ويعجبها العظماء، ويسرها الإقبال عليهم، والتودد إليهم والتنويه بآثارهم.

وكم من عبقرى لم نر شخصه طوينا القلوب على محبته، والحماس له لأن أبصارنا تعلقت بمواهبه الجليلة، وامتيازه الرائع، ففعلت صورته الباطنة بنا، ما تفعله صور الجمال الحسى بألباب العشاق.

ولو أن الناس لفتتهم هذه الحقائق، وسيرهم منطقها باطراد لكان لهم مع الله شأن آخر...

أطلعنى أحد الناس على صورة رائقة للشمس، وهو تغرب، وأخذ يطرى الرسام العبقرى الذى خلقها بريشته.

وكانت الصورة رائعة حقا!

بدت فيها الشمس وهى تلم أشعتها من فوق السطوح والقمم، وتتأهب لوداع الأحياء إلى ملتقى آخر!!

ومن ورائها آفاق معصفرة احمرت فيها حواشى السحب، واستقرت فيها ـ إلى حين ـ فترة الانتقال بين إقبال الليل وإدبار النهار..!!

قلت: هذه صورة جميلة، خطتها يد ماهرة، تستحق الثناء.

لكن لماذا يعجب الناس براسم الصورة على الورق؟ ولا يتجهون بأبصارهم وبصائرهم إلى صانع الأصل الذى احتواه الفضاء الرحب، ودارت فيه أجرام ضخمة، وتأنقت فيه الطبيعة الحية، وتحركت فيه الأرض كثيرا حول نفسها وقليلا حول الشمس، وجرت فيه الشمس مدى لا ندرى كنهه ولا نسبر غوره!!.

إن الأصل نفسه فى الشروق الزاهى، أو فى الغروب الدامى، على اختلاف الليل والنهار يستحق التأمل الذكى، ويستحق بعد ذلك وقبله أن تتجه الأفئدة إلى بارئ السموات والأرض تسجد لجلاله وتسبح بحمده.

وإلى الأصل المنقوش فى صفحات الكون لا إلى الرسم المصغر على وجوه الأوراق.

نظر " محمد " عليه الصلاة والسلام إلى بدايات الليل، ونهايات النهار ثم رد الأشياء إلى مالكها الحق، ونسبها إلى صاحبها الأصيل قائلا: "اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لى ".

والعجب للناس: ينظر أحدهم إلى تمثال من حجر أتقن ناحته إضفاء بعض الملامح البشرية عليه، ثم يروحون وألسنتهم تلهج بمدحه.

أما مبدع هذا الجسم الحى فقلما يكترثون له، بل فيهم من يجحد وجوده، وينتهك حرماته.

وما أبعد البون بين صخرة هذب ظاهرها على نحو معين، وعضلات من لحم ودم وعظم وعصب، تمور خلاياها بالحياة أخذا وردا، فلو وضعت إصبعك على جزء ما من هذا الجسم ثم تأملت ما تحتها لعلمت أن ألوف الشعيرات تسرى فيها بالدماء ويتفاعل فيها الزفير والشهيق، وتتولد الطاقة من احتراق الأغذية وطرد نوع من الهواء ـ الكربون ـ واستقبال نوع آخر ـ الأوكسجين.

وشىء آخر، أطراف هذا الجهاز الحسى وذيوله التى لا آخر لها، والتى تجعل الجسم كله يهتز لوخزة شوكة تصيب أى ناحية فيه.

إن التأمل فى النفس الإنسانية يجعل المرء يمد بصره إلى أعلى قائلا مع الملائكة: نسبح بحمدك ونقدس لك، ومع هذا فإن صانع ذلكم الإعجاز يلقى من بعض عباده بل من أكثرهم الغمط والكنود.

وأما الذين استنارت سرائرهم بصدق المعرفة فهم يتلمحون ما فى الصفات العليا من عظمة وشمول، وما يصدر عنها من عجائب فى الأرض والسماء، فينعطفون نحو ربهم، وملء نفوسهم الإعجاب والإعزاز والود.

ونحن ندرى أنه ليس لبشر ما فعل حقيقى، يصحح وصفه بأنه خالق لتمثال، أو مبدع لآلة، فإن يده لم تصنع أكثر من أنها تصرفت فى مادة موجودة أو ألفت بين أشياء كائنة، وأن الإلهام الأعلى هو الذى هدى أصحاب المواهب إلى إبراز ما يحمدون عليه ويعظمون به، إلا أننا نجد فى هذا الإيجاد المجازى فرصة للمقارنة، وثغرة لتعريف الناس بربهم، وإزاحة الغطاء عن قلوبهم حتى يحسنوا فهمه ومودته.

وفى الأيام الأخيرة وفق أحد المخترعين إلى صنع آلة تحول الماء المالح إلى ماء عذب، وهذا ابتكار حسن وددت لو تابع العلماء تحسينه حتى يمكن الإفادة منه فى أرحب دائرة، إن استخدامه الآن ينفع بعض السفن التى تستغرق فى رحلاتها آمادا طويلة، أو بعض المحصورين الذين لا تتيسر لهم موارد الماء القراح لبعدهم عن منابعه.

لكن ما هى الآلات التى تروى الألوف من الخلائق، وما يتبعهم من حيوان وطير؟ ما هى الآلات التى تسوق نطاف الماء الصافى إلى مساحات هائلة من الأرض فتحيل جدبها خصبا ومواتها حياة؟ كيف يتلطف بديع السموات والأرض فيسقى أولئك الأحياء من عباده وهذه الحقول المنداحة فى بلاده دون أن يشعر بنصب أو يتكلف إدارة أجهزة وطنين آلات؟.

(الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون * وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين * فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير).

والحق أن إمداد البشر بالماء الحلو على هذا النطاق الواسع بوساطة جهاز منسوج من الهواء، مبسوط الأذرعة بين الأرض والسماء، يستاق الماء بخارا من البحر الملح ثم يكثفه سحابا يختلط كيانها بما يجعل ماءها عذبا، ثم تنطلق فى شتى الأشكال مخترقة الآفاق إلى حيث تهمى بالخير والبركة...!!

إن هذا لمما يملأ الفؤاد روعة، ويزيده إكراما وإعلاء لشأن الخالق المدبر تقدست أسماؤه، وتباركت آلاؤه، ولا إله غيره.

(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب).

فليستعرض الإنسان ما يعرف من مواهب وخلال، وليستعرض فى ذهنه ما يبهره، من عباقرة وأبطال، ثم ليقارن بين تلك القوى الكليلة والقوى المطلقة، وبين هذه العظمات الباهتة العاجزة والعظمة الساطعة الخالدة!!

إنه سوف يرى رب العالمين أولى بالتمجيد والإعجاب؟ وأحق بالمحبة والاقتراب...

والبشر ـ من الناحية العقلية ـ لا يمارون فى هذه الحقيقة، غير أنها لا تنتقل من ألبابهم إلى قلوبهم فتتحول من فكرة إلى شعور، ومن شعور إلى سلوك.

إن هذه الحقيقة تدخل نفوسهم كما يدخل الطعام فى بطن الممعود، لا تستقبلها أجهزة سليمة تحول إلى قوة ونماء وحرارة بل ربما كان فيه الحتف.

كذلك البشر يعلمون عن الله ما ينبغى أن يؤسس فى نفوسهم الحب المكين له، ومع ذلك قد يحبون غيره مثله أو أكثر: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله).

وندع للإمام الغزالى أن يقارن بين ما يستثير الإعجاب والحب فى شمائل الناس؟ وبين صفات الفرد الصمد جل جلاله؟ قال: " وأما العلم: فأين علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذى يحيط بالكل إحاطة خارجة عن النهاية حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض؟ وقد خاطب الخلق كلهم فقال عز وجل: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)

بل لو اجتمع أهل الأرض والسماء على أن يحيطوا بعلمه وحكمته فى تفصيل خلق نملة أو بعوضة ليم يطلعوا على عشر عشير ذلك: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).

والقدر اليسير الذى علمه الخلائق كلهم فبتعليمه علموه كما قال تعالى: (خلق الإنسان * علمه البيان)

فإن كان جمال العلم وشرفه أمرا محبوبا، وكان هو فى نفسه زينة وكمالا للموصوف به فلا ينبغى أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى، فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه، بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم، وإن كان الأجهل لا يخلوا عن علم ما تتقاضاه معيشته.

والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم أعلم الخلائق وأجهلهم، لأن الأعلم ما يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور فى الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد، وفضل علم الله تعالى على علوم الخلائق كلهم خارج عن النهاية إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية.

وأما صفة القدرة: فهى أيضا كمال والعجز نقص، فكل كمال وبهاء وعظمة ومجد واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ، حتى إن الإنسان ليسمع فى الحكاية شجاعة على وخالد رضى الله عنهما وغيرهما من الشجعان، وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران فيصادف فى قلبه اهتزازا وفرحا وارتياحا ضروريا بمجرد لذة السماع فضلا عن المشاهدة، ويورث ذلك حبا فى القلب ضروريا للمتصف به فإنه نوع كمال، فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى.

فأعظم الأشخاص قوة، أوسعهم ملكا، وأقواهم بطشا، وأقمعهم لخبائث النفس، وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ـ ما منتهى قدرته؟.

وإنما غايته أن يقدر على بعض صفات نفسه وعلى بعض أشخاص الإنس فى بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا ولا ضرا ولا نفعا.

بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولسانه من الخرس، وأذنه من الصمم، وبدنه من المرض، ولا يحتاج إلى عدما يعجز عنه فى نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته.

فضلا عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها، والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها، فلا قدرة له على ذرة منها، وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه، بل الله خالقه، خالق قدرته، وخالق أسبابه، والممكن له من ذلك.

ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال فى أعظم ملوك الأرض ذى القرنين إذ قال: (إنا مكنا له في الأرض)

، فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه فى جزء من الأرض.

والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم، وجميع الولايات التى يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة.

ثم تلك الغبرة أيضا من فضل الله تعالى وتمكينه.

فيستحيل أن يحب عبدا من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه، واستيلائه وكمال قوته، ولا يحب الله تعالى لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فهو الجبار القاهر والعليم القادر.

السموات مطويات بيمينه، والأرض وملكها وما عليها فى قبضته، وناصية جميع المخلوقات فى نطاق قدرته.

إن أهلكهم عن آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة.

وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعى بخلقهم، ولا يمسه لغوب ولا فتور فى اختراعهم، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته، فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء واللهر والاستيلاء، فإن كان يتصور أن يحب الإنسان قادرا لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلا.

وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص، والتقدس عن الرذائل والخبائث أفهو أحد موجبات الحب، ومقتضيات الحسن والجمال فى الصور الباطنة، والأنبياء والصديقون ـ وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث ـ فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك القدوس ذى الجلال والإكرام.

وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص أو عن نقائص، بل كونه عاجزا مخلوقا مسخرا مضطرا هو من العيب والنقص، فالكمال لله وحده، وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله، وليس فى المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره، فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبدا مسخرا لغيره قائما بغيره.

وذلك محال فى حق غيره، فهو المنفرد بالكمال، المنزه عن النقص، المقدس عن العيوب.

وشرح وجوه التقدس والتنزه فى حقه عن النقائص يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره.

فهذا الوصف أيضا.

إن كان كمالا وجمالا محبوبا فلا تتم حقيقته إلا له، وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقا، بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصانا، كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار، وللإنسان كمال بالإضافة إلى الفرس، وأصل النقص شامل للكل، وإنما يتفاوتون فى درجات النقصان.

فماذا الجميل محبوب، والجميل المطلق هو الأحد الذى لا ند له، والفرد الذى لا ضد له الصمد الذى لا منازع له، الغنى الذى لا حاجة له، القادر الذى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، العالم الذى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى السموات والأرض، القاهر الذى لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة، ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة، الأزلى الذى لا أول لوجوده الأبدى الذى لا آخر لبقائه الضرورى الموجود الذى لا يحوم إمكان العدم حول حضرته، القيوم الذى يقوم بنفسه؟ ويقوم كل موجود به، جبار السموات والأرض، خالق الجماد والحيوان والنبات المنفرد بالعزة والجبروت، المتوحد بالملك والملكوت ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال!

والقدرة والكمال، الذى تتحير فى معرفة جلاله العقول، وتخرس عن وصفه الألسنة، الذى كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته، ومنتهى نبوءة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين: " لا أحصى ثناء عليك.

أنت كما أثنيت على نفسك ".

وقال سيد الصديقين رضى الله تعالى عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك، سبحان من لم يجعل للخلق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.

فليت شعرى من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقا ويجعله مجازا؟ أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال والمحامد، ونعوت الكمال والمحاسن، أو ينكر كون الله تعالى موصوفا بها، أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة أمرا محبوبا بالطبع عند من أدركه؟ فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيره على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى، الذين هم عن نار الحجاب مبعدون، وترك الخاسرين فى ظلمات العمى يتيهون، وفى مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.

خاتمـة

أحمد الله على عونه الكريم فى إتمام هذه الفصول، مع كثرة الأعباء، وثقل الواجبات التى ارتبطنا بها فى ميدان الحياة العامة.

لقد كان حبيبا إلى نفسى أن أخلص للعلم، وأن أعكف على الدراسة، لكن دون هذه الرغبة عوائق جمة ما يسهل التغلب عليها.

والرجل الذى يشغل وظيفة إدارية قد تكون مسلاته فيها أن ييسر لأمته نفعا، أو يدفع عنها ضرا، وإنه ليحزننى أن يكون تقريب النفع للناس، وإبعاد الضر عنهم عملا يحرج فيه الفؤاد وترهق الأعصاب، ويكاد يجر الملال بعد الكلال!!.

قد يقول القارئ لهذا البحث: ما لى ولهذه الشكاة؟ إن مجال القول لا يزال ذا سعة، وكان ينبغى أن يأخذ الكلام حقه فى الاتصال والامتداد حتى نعرف: ما عرا هذا الجانب العاطفى المغبون من تحريف وعوج جعلاه كثير المزالق والخسائر؟.

وهذا تساؤل كنت أعددت الجواب عليه عندما شرعت أملأ الصحائف الأولى من كتابى هذا، ثم سرعان ما دخلت فى تفاصيل لم يكن من الوفاء بها بد.

فلما انتهيت منها ـ وها هى ذى بين يدى القارئ العزيز ـ أحسست أن نقد هذا الجانب العاطفى، ومتابعة سيره فى حياة المسلمين، وتاريخهم يحتاج إلى جهد جديد، ودراسة متوفرة، وذاك ما لا أملك إليه سبيلا الآن...

بيد أنى مدرك ضرورة إكمال هذا البحث، كى تتم الصورة العلمية للموضوع، وكى يعرف المسلمون مسارب الخطأ فى جزء كبير من ثقافتهم...