الجامع الأموي في دمشق

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الجامع الأموي في دمشق


بقلم : الشيخ علي الطنطاوي

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الجامع الأموي

في دمشق

وصف وتأريخ

بقلم

علي الطنطاوي

دار المنارة

للنشر والتوزيع

جدة - السعودية

مقدمة هذه الطبعة

كتبت مقدمة الطبعة الأولى في دمشق سنة 1960، ومكتبتي أمامي وأوراقي تحت يدي. وأكتب هذه المقدمة في مكة المكرمة سنة 1989 وقد بَعُدت المكتبة عني، وضاعت الأوراق مني، والدرج الذي أودعته أخبار الأموي لم أعد أعرف ما فعل الله به، ولا بما كان فيه من أوراق، ولم أعد أستطع أن أعوضه. ومن أين لي أن أن أعود إلى الكتب التي طالعتها، والسنين الطويلة التي أمضيتها أتتبع أخبار الأموي من صفحات الكتب ومن أفواه العلماء، وكلما وجدت خبراً نقلته وذكرت من أين أخذته، أو ممن سمعته. ولعلها موعظة جاءتني من الله، إذ آثرتُ مصلحتي على مصلحة المسلمين، وضننتُ بما اهتديت إليه على الناس، وخفت أن يأخذوا المصادر التي جمعتها ولا ينسبوها إليّ... وكنت أؤمل أن أجعل منها كتاباً كبيراً عن الأموي، فضاع الأمل. ولم يبقَ إلا هذا المختصر.

أسأل الله أن ينفع به، وأن يثيب كاتبه وناشره عليه.

مكة المكرمة

03/05/1409 هـ

01/01/1989 م

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى سائر رسل الله وأنبيائه. اللهم منك العون، وعليك الاتكال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وبعد، فإن من دأبي كلما ازدحمت عليّ المتاعب، وركبتني الهموم، وضياق صدري، وانقبض قلبي، أن أمشي حتى أجد مسجداً خالياً، فأدخله فأصلي ركعتين، وأقعد، أشعر بسكون المسجد من حولي، وبجلال الحق من فوقي، حتى أجد الطمأنينة والرضا، كأني نجوت من البحر الهائج إلى الجزيرة الآمنة، وتركت الصحراء المحرقة إلى الواحة الظليلة، وكأن ما كنت فيه من المشكلات، وما كان في صدري من الهموم، قد ذهب كله، لما دخلت حمى الله وصرت في بيته واعتصمت به من الناس وشرورهم، ومن نفسي وسوئها، ومن الشيطان ووسواسه. وإذا كان العرف الدولي على أن بيوت سفراء الدول الأجنبية قِطَع من بلادهم ولو كانت في بلاد الناس، فإن بيوت الله رياض من رياض الجنة، وإن كانت في هذه الدنيا، فمن دخلها كان ضيف الله، وكان جاره. فهي أبواب السماء المفتحة دائماً إن سُدّت في وجه البائسين اليائسين أبواب الأرض، وهي منار الهدى إن ضل بالسالكين الطريق، وإن كان في الدنيا الخير والشر، فهاهنا الخير الذي لا شر معه، وإن كان فيها الحق والباطل، فهاهنا الحق الذي لا باطل فيه. ومن هنا تخرج الكلمة من حلوق المؤذنين، وأفواه الخطباء والمدرسّين فتمشي في الفضاء، من فوق رؤوس الملوك والكبراء، والأغنياء والأقوياء، كلٌّ يخضع لها ويصغي إليها، لأنها كلمة الخالق، وإن جاءت على ألسنة ناس من المخلوقين.

هذه قلاع الإيمان في وجه الإلحاد.

هذه حصون الفضيلة أمام الرذائل والشهوات.

والمسجد هو المعبد في الإسلام، وهو البرلمان، وهو المدرسة، وهو النادي، وهو المحكمة.

هو (المعبد): يدع المسلمين أحقادهم ومطامعهم وشرورهم وفسادهم على الباب، ويدخلون إليه بقلوب متفّتحة للإيمان، متطلّعة إلى السماء، متحلّية بالخشوع، ثم يقومون صفّاً واحداً، يستوي فيه الكبير والصغير، والأمير والحقير، والغني والفقير، أقدامهم متراصّة، وأكتافهم متزاحمة، وجباههم جميعاً على الأرض، يستوون في شرف العبودية، وفي شرعة العبادة.

وهو (البرلمان): ما دهى المسلمين أمر، ولا عرض لهم عارض، إلا نودي: "الصلاة جامعة" فاجتمع الشباب في المسجد. ففي المسجد يكون انتخاب الخليفة، وفيه تكون البيعة، وفيه تُبحث القوانين، تستمدّ من الشرع ثم تعلن فيه على الناس.

وهو (النادي): إن قدم أمير بلداً كان أول ما يدخله من البلد المسجد، على منبره يعلن سياسته، ويذيع منهاجه، وإن كانت حرب، عُقدت الرايات في المسجد، وليس في الإسلام حروب هجومية لمجرد الفتح والاستعمار والكسب، بل فيه الحرب الدفاعية فقط، حرب الدفاع عن العقيدة: أن يمنع أحد مسيرها، وعن أصحابها: أن يحول أحد بينهم وبين قيامهم بفرض الدعوة إليها. إنهم مكلّفون بحمل المصباح الذي أضيء من غار حراء، لينوّروا به الدنيا، ويبددوا به الظلام عن أهلها فإذا انبرى لهم من يحاول إطفاء المصباح، ومن يريد منع نور الله أن يصل إلى عباده، حاربوه حتى يفيء ويرجع، فإن فاء ورَجَع إلى الحق كان واحداً منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى إلا عناداً فحارب فغُلب على أمره لم يُكرهوه على الإسلام، ولم يكلفوه شططاً، ولم يحمّلوه إلا ضريبة محدودة، هي تكاليف الدفاع الذي يتولّونه هم وحدهم. ضريبة هي أشبه بـ (البدل العسكري)، يدفعه المغلوبون من أموالهم، ويدفع المسلمون الغالبون ضريبة الجهاد من أرواحهم.

والمسجد هو (المدرسة): وفي المساجد وُضعت أسس الثقافة الإسلامية، وفيها ارتفعت ذراها، وشُيّدت صروحها. وكان يدرّس في المسجد كل علم ينفع الناس: من علوم القرآن، وعلوم السنة، وعلوم الشريعة، وعلوم اللسان، وعلوم سنن الله في الأكوان. وكل علم تحتاج إليه الأمة الإسلامية يكون تعلمه فرض كفاية في نظر الإسلام، حتى الكيمياء والفيزياء والرياضيات. ونجد بعد ذلك مَنْ تبلغ به الجهالة أن يَصِم بالجمود ديناً يجعل تعلّم الكيمياء فرضاً كفرض العبادات.

والمسجد هو (المحكمة): وعلى بُسُط المساجد وأمام أعمدتها وأساطينها أُصدرت أعدل الأحكام وأجرؤها، وفيها سُطرت أروع صفحات القضاء البشري، ولطالما أقام القضاة فا الجَمّال والحَمّال مع أمير المؤمنين[1]، والأجير والفقير مع الأمير الكبير[2]، ثم حكموا له عليه، لا يبالون مع الحق صغيراً ولا كبيراً. وقد تشرّفتُ فزرتُ آلافاً من المساجد، في الداني من بلاد الإسلام، عامرها ودائرها، فرأيت المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، والأزهر المعمور، ومسجد أبي حنيفة والجيلاني في بغداد، وابن طولون والمتوكل في القاهرة، سرّ مَنْ رأى، وآثار مسجدّي الكوفة والبصرة، والمسجدين العظيمين: المسجد الجامع في دهلي، وآثار مسجد قوة الإسلام في دهلي القديمة، ومساجد الملايا وجاوه، فما رأيت فيها كلّها بعد المساجد الثلاثة التي ميزّها الله وجعل الصلاة فيها أفضل بدرجات، مسجداً هو أقدم قدماً، وأفخم مظهراً، وأجمل عمارة، وأحلى في العين منظراً، من الجامع الأموي في دمشق. كان مدرسة دمشق، في الحلقات يدرّس فيها فيها كل علم، وكان النادي يجتمع فيه الناس كلما دهم البلدَ خطب، وكان الأموي في عهد نشأتنا الأولى لبّ دمشق، فكانت الدار القريبة هي القريبة من الأموي، والبعيدة هي البعيدة عن الأموي، وكانت الأرض الغالية هي التي جاورت الأموي، وكان الأموي ملعبنا ونحن أطفال، ثم كان مدرستنا الثانية ونحن طلاب، ندخله إذا انصرفنا من المدرسة فنصلي فيه، ونقف على حلقاته، وما كان يخلو وقت فيه من حلقتين أو أكثر، وكنا نتبوأ مقاعدنا من بعضها، نأخذ الفقه والحديث واللغة والنحو، وكنا نؤمُّه في عشايا الصيف مع آبائنا، نتخذ من صحنه متنزّهاً وأُنساً، وكنا نؤمّه في ليالي الشتاء نتخذ من حرمه ملجأ وأمناً، وكان الأموي مثابة النضال الوطني على عهد الانتداب، فيه تُلقى الخطب، وفيه تُعدّ المظاهرات، ومنه تسري روح النضال في الناس، فكان للدين والدنيا، وللعبادة والعلم، ولكل ما فيه رضا الله ونفع الناس، وكذلك يكون المسجد في الإسلام. وأكثر ما كثر عليه تَردادي، واتصل به حبلي، لما كنت في المدرسة الجَقمَقية، ثم لما صرت من بعد في مكتب عنبر، وأُولعت من أيام الجقمقية (سنة 1919 م) بأن أنقل كل خبر أجده عن الأموي، واستمرذلك أكثر من أربعين سنة، من تلك الأيام إلى الآن[3]، فاجتمع لي من الأوراق والجذاذات والمذكرات ما يملأ درجاً كبيراً. وكنت كلما عزمت على تصفيته، وإخراجه في كتاب، تعاظمني الأمر فتهيّبته، وقد جمعتُ كل ما وجدته عنه في ابن عساكر، و"الدارس"، و "محاسن الشام"، و "مسالك الأبصار"، و"البداية والنهاية"، و"الروضتين" وذيله، و "شذرات الذهب"، و"معجم البلدان"، و"النجوم الزاهرة"، وتاريخ ابن القلانسي، و"السلوك" للمقريزي، وكتب ابن طولون، وما كتبه القاسمي وبدران. ورأيت بعض الرسائل المخطوطة، وكتباً أخرى لا أريد الآن إحصاءها. وكنت كلما تقادم العهد، ازدادت هذه الأوراق كثرة، وازددت لها تهيباً، حتى إذا صح مني العزم قليلاً، استخرجت سلسلة الأحاديث التي كنت حدّثت بها من إذاعة دمشق عن الأموي من سنين ثم تركتُها، فلما طلبتْ مني المديرية العامة للأوقاف أن أكتب شيئاً عن الأموي، يكون كالدليل للسائح، استخرجتُ منها هذه الخلاصة التي أقدمها اليوم، ولم أغزّ كلَّ خبر فيه اعتماداً على أني سأُخرج إن شاء الله الكتاب الكبير عن الأموي وكلَّ خبر فيه معزوّ إلى مصدره، ولأني جربت في كتابي عن أبي بكر وعمر أن أذكر كل مصدر، وأعيّن الطبعة من الكتاب والجزء والصفحة، فأخذ ناسٌ من (أكبر) كُتّابنا ومؤلفينا ما فيهما ولم يُشيرا إليهما، وادّعيا أنهما أخذا من الأصول التي نقلت منها.

وأنا أسأل الله التوفيق، وأن يجعلنا من المخلصين.

دمشق: 4 رمضان 1379 هـ

1 آذار 1960 م

علي الطنطاوي

[1] منها دعوى الجمّال على أمير المؤمنين المنصور أمام قاضي مكة.

[2] ومنها دعوى المرأة على عيسى بن موسى أكبر أمراء البيت العباسي ووالي العراق أمام القاضي شَريك.

[3] أي إلى وقت كتابة هذه الفصول.

حياة الأموي

لكل موجود إن حقّقتَ حياة: الجبال والأنهار، والمدن والعمارات، كلها حية تولد وتموت، وتشبّ وتهرم، وتصحُّ وتمرض. هذا الأموي الذي جئتُ أعرض عليكم خطوطاً من صورته، وملامح من تاريخه، له حياة طويلة، ولحياته تاريخ طويل. تاريخ لا يدري إلا ببعضه التاريخ، لأن الأموي وُلد قبل أن يُكتب التاريخ. لا نعرف ولا يعرف أحد مَنْ الذي وضع الحجر الأول فيه، ولا متى شُيّد. صارع النار والدمار، وثبت على الأدهار والأعصار، تكسّرت على جدرانه موجات القرون كما تتكسّر الأمواج على صخرة الشاطئ، ثم ترتد عنه ميتة وهو حي قائم. ذهب أمية بمالها وسلطانها، ولبث وحده يخلد في الدنيا اسم أمية، فكان أبقى من كل ما نالت أمية من مال ومن سلطان. كان معبداً من أكثر من ثلاثة آلاف سنة، تداولته أيدي اليونان والرومان وأقوام كانوا قبلهم، ثم صار للمسيح، ثم انتهى لمحمد.

كنيسة صارت إلى مسجد

هدية السيد للسيد[1]

صلى الله على سيدنا المسيح وعلى سيدنا محمد خاتم الأنبياء الذي نسخت شريعتهُ الشرائعَ وعلى كل نبي أرسله الله بالهدى والتوحيد والدين القيّم، لا نفرّق بين أحدٍ من رسله، نؤمن بكل نبي بعثه الله على ما بُعث عليه، وكل كتاب أنزله الله على ما نزل عليه، ونقول: كلٌّ من عند ربنا ونحن له مسلمون.

وُلد المسجد ليلةَ الفتح، حين شرّف الله الشام وأراد لها الخير، فاستظلّت براية القرآن، واتّبعت داعي الله وسلكت طريق الموصل (إن شاء الله) إلى الجنة، ثم شبّ واكتهل، ونما واكتمل، على عهد الوليد، يوم كانت دمشق تمرح في جنة غَرس محمد، وتنعم هانئةً بالأم والرخاء في فَيْئ الصرحِ الذي شاده محمد صلى الله عليه وسلم على محمد حين كانت الليالي أعراساً، والأيام أفراحاً، والدنيا ترقص ابتهاجاً وتميس من السرور. هنالك كان الأموي يتبوأ في دمشق سُدّة ملك، قد لبس الفسيفساء، وتحلّى بالذهب، وتسربل بستر الوشي والديباج، وتاه على كل بناء في الأرض. ثم أراه الزمان من حلوه ومرّه، ومن نعيمه ما يُري كلّ (حي) في الوجود. ولست أستطيع أن أعرض عليكم تاريخ الأموي، يوماً بيوم، فلقد كانت تتعاوره الأيدي دائماً: أيدي المصائب و البغاة، بالخراب والدمار، وأيدي المصلحين بالعمارة والإصلاح، حتى غدا وفي كل شبر منه تاريخ، وصار كفسيفسائه، كل قطعة منه من طبيعة ومن لون، ولكل يوم من حياته الطويلة قصة!. ومن كانت له دار يسكنها هو، وسكنها أبوه من قبله خمسين سنة، يتعهّدها فيها بالإصلاح وبالتجديد، لم يستطع أن يحدّد تاريخ كل باب فيها وكل جدار، فكيف بالأموي وهو من ألف وثلاثمئة سنة عرضة للإصلاح والتجديد. بقي الأموي على صفته الأولى (التي ستقرؤونها بعد صفحات) أو على قريب منها نحواً من أربعمئة سنة، أي إلى سنة 461 حين نشب فيه الحريق العظيم، فنسخ آياتِ حُسنه، وطمس وجه جماله، وصيّره تلالاً من التراب، وبقي على ذلك أربع عشرة سنة إلى سنة 475 حين جُدّد بأمر ملكشاه السلجوقي. ثم تتالت عليه الزلازل والحرائق على ما سيأتي تفصيله، ولم يكن عمل البشر في صحن المسجد أقل من عمل الطبيعة[2]، فلقد انتابه الإهمال مرة حتى صار كأنه خان أو فندق، وامتلأ صحنه باللاجئين والمقيمين، وصار الرجل يجد لنفسه موضعاً فيه يضع فيه حاجاته وصندوقه، ويقيم لنفسه مقصورةً أو كوخاً، ويستقر فيه، وبلغ ما فيه من هذه المقاصير أكثر من ثلاثمئة، واتخذ فيه الأمراء حواصل ومستودعات، وبقي ذلك مدة لا يُعرف مقدارها حتى جاء الملك الظاهر، فكان من بداية إصلاحاته أن طرد هؤلاء الناس، ونظّفه وغَسَل رخامه، وفرشه وأعاده مسجداً للعبادة والعلم. وعبث به التتر والمغول مرتين، مرة في أواخر القرن السابع الهجري، إذ عطّلوه واتخذوه معسكراً لهم، ونصبوا فه المنجنيقات لرمي القلعة، وارتكبوا فيه أنواع الإثم والفجور. ومرة على عهد تيمورلنك الذي أساء إلى دمشق إساءة لم يأت مثلها أحد. ثم كان الحريق الأخير سنة 1311 الذي ذهب بالمسجد كله (أي الحرم)، وجدّده أهل الشام. وفيما يلي من الفصول بعضُ التفصيل لهذا الإجمال.

[1] البيت لشوقي.

[2] الطبيعة (فعيلة) بمعنى مفعولة، والذي طبعها وأجراها على سننها والله خالق كل شيء.

جولة في الأموي

تعالوا، أولاً، نلم بالمسجد كله بنظرة واحدة، أكون أنا فيها دليلكم، أصفه لكم بإجمال وإيجاز، ثم أعود في الفصول التالية، فأفصّل ما أجملته، وأسهب فيما أوجزته.

السور والدهاليز:

نحن الآن في باب البريد، أترون هذه القنطرة وهذه الأعمدة الكبار؟ هذه بقايا أعمدة السور الخارجي للمعبد، والكتابات التي تبدو عليها كتابات محدثة من عهد المماليك. أما قناطر السور الداخلي، فترون بقايا ركائزها لاصقات بالجدران على طرفي باب المسجد. وكان لكل باب من الأبواب الأربعة دهليز، وأعظمها دهليز الباب الشرقي، ثم الباب الغربي (وهو هذا)، ثم الباب الشمالي، ولا تزال آثار ذلك كله واضحة، ولا تزال بقايا أعمدة الدهليز الشرقي وأعمدته الكبار مائلة قد غطّتها الدكاكين. وقد بقيت هذه الدهاليز إلى القرن السادس، وترون وصفها فيما كتبه ابن جبير وأثبتناه في آخر هذا البحث.

مداخل الأموي:

وهذه الدكاكين التي تشوّه منظر الجامع في السوق الضيّق من هنا[1]، وفي القباقبية من هناك، كان الأمراء يمنعون أمثالها حرمة للأموي، وقد صدر الأمر سنة 647 هـ بهدمها كلها. وكانت عنايتهم بمداخل الأموي وما حوله كعنايتهم به نفسه، ففي سنة 610 أمر الملك العادل بوضع سلاسل في أيام الجُمع على الطريق المؤدية إلى الجامع كيلا تصل الدواب إليه، كالسلسلة الممدودة الآن على مدخل سوق الحميدية، في موضع باب النصر الذي كان أحد أبواب دمشق[2]. وفي سنة 663 بلّط الطريق من باب الجامع إلى القناة التي كانت عند درجات المسكية التي أُزيلت من أكثر من خمسين سنة ونحن نعرفها، وعُمل إلى جانبها القبلي بركة واشذروان (الشاذروان معناه عندهم لسان من البناء يتدفق منه الماء أو نحو ذلك، ولا يزال يُستعمل بهذا المعنى في الحجاز. والكلمة فارسية الأصل)، وغُطّيت الساقية التي كانت هناك، وجُعل للبركة أنابيب يجري فيها الماء إلى الجهة المقابلة، وسُحب ماؤها من نهر قنوات لينتفع بها الناس عند انقطاع ماء نهر نابلس (بانياس). ولقد خبّرني ناظر الجامع الشيخ حمدي الحلبي أن تلك الساقية لا تزال موجودة ولكنها مغطّاة وهي تمرّ تحت بيت الخطابة.

النوفرة:

وكان من عنايتهم بتجميل مداخل الأموي، أن أُقيمت الفوّارة (النوفرة) أسفل درج المسجد عند باب جيرون. وقد أنشئت سنة 416 وجُرّ إليها الماء من نهر قنوات ظاهر قصر حجاج (نسبة للحجاج بن الوليد بن عبد الملك)، فوصل إليها الماء ليلة الجمعة 7 ربيع الأول 417، وكان القائم بإنشائها القاضي حمزة الحسيني ناظر الجامع. وسقطت سنة 457 من جِمال احتكّت بها فأُعيد إنشاؤها. ثم سقطت عمدُها وما عليها في حريق اللبادين (النوفرة) وباب الساعات في سنة 516، وكان حريقاً عظيماً. وأعيد بناؤها. وفي سنة 514 أُقيم عليها شاذروان. وفي سنة 607 تخرّبت فأصلحت، وجُدّد الشاذروان والبركة، وبُني أمامها المسجد وجُعل له إمام راتب. وفي سنة 814 بيض شاذروان الفوارة، وأُعيد جريُ الماء فيها بعدما انقطع أمداً.

أبواب الأموي:

وللمسجد ستة أبواب:

هذا الباب الذي تقف عليه الآن وهو باب البريد، وهو كما ترون ثلاثة أبواب، باب كبير في الوسط، وبابان على جنبيه، وكان ثاني البابين الرئيسين للمعبد.

أما الباب الرئيسي الأول فهو باب جيرون المقابل له، وعُرف بعد القرن الخامس بباب الساعات وباب اللبادين، وهو مثله في ثلاثة أبواب ويسمى الآن باب النوفرة، وقوسه لا يزال كما كان من القديم. وقد بقي باب المعبد الأصلي وهو من خشب الصنوبر البالغ المتانة، وكان مصفحاً بالنحاس، له مامير كبار بارزة إلى حريق سنة 753 فتشوّه وأثّر فيه الحريق فنقل إلى خزانة الحاصل (إي إلى المستودع) ثم فُقد. وقَدّر المؤرخون عمر هذا الباب حين الحريق بأكثر من ألف سنة.

ثم الباب المسدود الآن وهو وراء المحراب وله باب كبير في الوسط وصغيران على الجانبين وكان يدخل معاوية والخلفاء من الأوسط، فلما بنى الوليد وأزال الكنيسة صار الخلفاء يدخلون من الباب الأصغر على يسار المحراب.

والباب القبلي هو الذي كان يُعرف بباب الزيادة، وكان يسمى باب الساعات، ثم انتقل هذا الإسم إلى باب جيرون لأن الساعات نُقلت إليه، ويسمى الآن باب القوافين.

وباب الناطفانيين وهو باب الفراديس ويسمى الآن باب العمارة.

والباب المحدث إلى مدرسة الكلاسة.

وفي سنة 607 جُدّد باب البريد (أي الأبواب الثلاثة) وركّبت عليها صفائح النحاس الأصفر. وجدّده الملك الظاهر كذلك سنة 673. وفي سنة 719 حلّيت الأبواب وحسّنت، كان قد سُدّ البابان الصغيران من الباب الشرقي (باب جيرون) بعد حادثة تيمورلنك، وبُنيت دكاكين في رحبة الجامع فهُدّمت أول سنة 820، ورُكّب البابان الصغيران الغربيان سنة 819، والبابان الشرقيان سنة 820، وقد جُدّدت صفائح النحاس على الأبواب حديثاً[3].

خلع النعال:

ولنخلع الآن النعال ولندخل. وكان الدخول إلى المساجد في أول الإسلام بالنعال، لأن الأرض في الحجاز جافة والمساجد غير مفروشة، وكذلك كان يُدخل إلى صحن الأموي، كما يظهر، وفي ربيع الآن سنة 827 فُوّض النظر على الجامع إلى إمامه الحنفي، وهو رجل مصري يقال له تقي الدين العمادي، فألزم الناس ألا يمشوا في الصحن إلا حفاة، فشقّ ذلك عليهم، ولكنه أصرّ وعمل على الأبواب درابزينات[4] وحواجز لخلع النعال وبقي ذلك إلى شوال من تلك السنة، ثم عُزل العمادي، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه. وفي سنة 722 لما جُدّد المسجد بعد حادثة التتار، منع ناظر الجامع ابن المرحل (وهو محد بن عمر العثماني) الدخول بالنعال، بأمر نائب الشام تنكز. وفي شعبان سنة 816 سُمح بالمشي فيه بالنعال، ثم مُنع ذلك في وقت من الأوقات، واستمر المنع إلى الآن.

[1] سمعت (وأنا مقيم في مكة من ست وعشرين سنة) أنها أزيلت، وكشفت جدران المسجد.

[2] (رآه ابن جبير وذكره في رحلته واندثر من عهد بعيد). ومن المصادفات غير المقصودة أن سُمّي الشارع المقابل له بشارع النصر وهو أول شارع حديث في دمشق فتحه جمال باشا سنة 1916 وكان يسمى باسمه.

[3] انظر الفصل الملحق بهذا الكتاب.

[4] كلمة (درابزين) معرّبة من قديم، ولا تزال مستعملة عند أهل الشام إلى الآن.

في صحن الأموي

لقد دخلنا من باب البريد، نحن بين بابين على اليمين وعلى اليسار، لندخل من اليسار، هذه القاعة الكبيرة التي اتخذتها دائرة الأوقاف للاستقبال هي مشهد عثمان. والمشاهد مساجد صغيرة ملحقة بالجامع، كان لكل منها إمام خاص. فإذا خرجنا منه، وجدنا بعده باباً لغرفة واسعة، وكانت تسمى قديماً بيت الزيت الغربي، وكانت (كما هي اليوم) مستودعاً للمسجد. فإذا صرنا في زاوية الرواق، وجدنا آثار غرفة، كانت هناك قديماً هي زاوية الغزالي لأنه نزل بها، وهي في الأصل أساس الصومعة الغربية التي أُزليت هي والشرقية المقابلة لها قبل الفتح الإسلامي. وهذا الباب الصغير المفتوح في شمال المسجد، هو باب مدرسة الكلاّسة التي أنشأها نور الدين سنة 555، ثم احترقت هي ومنارة العروس بعد إنشائها بأمد يسير، فجدّدها صلاح الدين هي والمنارة، وهذه هي المنارة الرئيسية اليوم، وفيها أذان الجماعة الذي أُحدث في عصور متأخرة. ذلك لأنها تطل على صحن المسجد، وفيها الآلة الفلكية التي تسمى البسيط، والبسيط الذي كان فيها من صنع ابن الشاطر رئيس المؤذنين بالجامع في القرن الثامن، ثم انكسر بيد جدنا الشيخ محمد الطنطاوي المتوفى سنة 1304، فصنع البسيط الموضوع الآن، ويقول الشيخ الخاني في كتابه "الحدائق": إنه جاء أكمل من الأول إذ زاد فيه قوس الباقي للفجر[1]. وبعد المنارة باب الفراديس، ثم الخانقاه (وأصلها خانه قاه أي دار العبادة) السميساطية، بناها السميساطي المتوفى سنة 453 وكانت في الأصل دار عمر بن عبد العزيز، ثم نوافذ التربة الكاملية التي دُفن فيها الملك الكامل الأيوبي، ثم مشهد زين العابدين المعروف اليوم بمشهد الحسين، في شرقي الصحن، وفيه الآن القبر المشهور أن في رأس الحسين، وفي المسجد الملاصق للأزهر في مصر قبر آخر لرأس الحسين. ولابن تيمية رسالة في تحقيق مدفن الرأس مطبوعة معروفة، ينفي بها أن يكون الرأس في مصر. ثم باب جيرون.

القباب:

وفي الصحن ثلاث قباب.

أولاها: القبة الغربية (قبة المال)، أنشأها الفضل بن صالح بن علي العباسي (ابن عم المنصور)، لما كان أميرَ دمشق سنة 171 أيام المهدي، ويظهر أنها كانت مغلقة، والناس يتوهمون أن فيها مالاً، ولم أجد خبراً لفتحها إلا ما كان سنة 922 هـ إذ فتحها (سيباي) فلم يجد فيها إلا أوراقاً ومصاحف بالخط الكوفي، وقد فُتحت في سنة 1306 فوُجدت فيها مصاحف ومخطوطات نُقلت إلى إسطنبول.

ثانيتهما: القبة الشرقية، بُنيت كذلك أيام المهدي سنة 160، وتُعرف بقبة زين العابدين، وكانت تُسمى قبة يزيد، وتُسمى الآن قبة الساعات إذ كانت فيها ساعات المسجد.

والثالثة: القبة التي على بركة الماء، وقد كانت من الرخام، وأُقيمت سنة 369 [2]، وكان لها أنابيب من نحاس قيل في وصفها:

فوارة كلما فارت فرت كبدي

وماؤها فاض بالأنفاس فاندفعا

كأنها الكعبة العظمى فكل فتى

من حيث قابل أنبوباً لها ركعا

وسمعت أنها أزيلت الآن.

البلاط:

كانت أرض الصحن كلها مغطاة بفصوص الفسيفساء، لم يكن فيه بلاط، وبقي ذلك إلى حريق سنة 461، فذهب كله وصارت أرضه طيناً في الشتاء وغباراً في الصيف مهجورة، وبقيت كذلك إلى شعبان سنة 602، فهُدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي، ونُشرت حجارتها، وبدئ بتبليط صحن الجامع الأموي على عهد الوزير صفي الدين وزير العادل، وكمل تبليطه سنة 604، وذلك أنهم لما أرادوا فتح نوافذ للتربة الكامية المحدثة على الجامع، لم يمكّنوهم من ذلك إلا بشرط تبليطه. وفي سنة 611 جُدّد بلاط أرض الجيامع من الداخل، بعدما صارت حفراً و (جُوَراً)، وتم سنة 614، ووضع متولّي دمشق مبارز الدين إبراهيم (المتوفّى سنة 623) آخر بلاطة بيده، وكانت عند باب الزيادة، وكان ذلك على عهد الملك العادل. وكان الملك الظاهر قد أصلح في الجامع إصلاحات كثيرة، منها أنه فرش باب البريد بالبلاط نحو سنة 670 هـ، أما البلاط الحالي فقد رصف نحو سنة 1300، على عهد الناظر الشيخ أحمد الحلبي، وقد تكسّر من إلقاء الأعمدة عليه عند عمارة المسجد بعد الحريق الأخير. ومستوى أرض الجامع اليوم أعلى من أرضه على عهد الوليد. وتبيّن من حفريات مهندس الأوقاف[3] من أمد قريب، حول قبة المال، أن قواعد الأعمدة على عمق ثلاثة أمتار[4]، والقبة بُنيت أيام المهدي العباسي، وأخبرني جار الجامع الشيخ عبد القادر العاني أنه رأى عند الحفر لتجديد الحائط قطعة من أرض الجامع الأصلية مغطاة بفصوص على شكل الفسيفساء على عمق مترين ونصف، ولكن هذه الفصوص أكبر من فصوص فسيفساء الجدران. وأقدم قطعة من البلاط اليوم هي التي أمام العمود الرابع من الرواق الغربي، وفيها حجران كبيران يظهر أنهما من القنطرة التي هدمت لرصف الجامع بالبلاط سنة 602.

[1] وقال في "منادمة الأطلال":

وقد بقي البسيط الذي صنعه ابن الشاطر إلى سنة 1290 هـ وكان شيخنا الشيخ محمد الشهير بالطنطاوي إماماً في فن الهيئة والميقات في دمشق، فرآه قد اختل لمرور السنين فجاء يحرّره فانكسر فصنع غيره ولكنه رسمه على الأفق الحقيقي، وقد حصل له معاكسات من أهل دمشق وهجاه بعض ذوي الخلاعة والعقل المنحرف. ثم إنه رسم آخر على الأفق المرئي ووضعه في جامع الدقاق في الميدان.

[2] وفي "منادمة الأطلال" 396.

[3] إيكوشار.

[4] أما أرض الجامع فالغالب أنها كانت تحت الأرض الحالية بنحو نصف متر فقط.

في الحرم

فلندخل الآن إلى الحرم[1]. إن هذه الأبواب المتصلة المفضية إلى الحرم، لم يكن لها في الأصل في الأصل مصاريع، وإنما كانت عليها الستر إلى حريق سنة 461. فإذا دخلنا، وجدنا إلى اليسار مشهد أبي بكر، المعروف الآن بمشهد السفرجلاني، ثم مدخل المنارة الشرقية، ثم المحراب المالكي، وهو المحراب الأصلي للمسجد قبل أن يبنيه الوليد، وكان يسمى محراب الصحابة[2]، وأنشئ المحراب الكبير عند عمارة الوليد وجُعل للخطيب. في سنة 617 نُصب محراب الحنابلة بالرواق الثالث الغربي (قرب البئر) أي وراء الصف الثالث من الأعمدة، وقد عارض في نصبه بعضُ الناس، ولكن ركن الدين المعظمي قام بنصرة الحنابلة، وصلى فيه الموفق ابن قدامة المقدسي، ثم رفع في حدود سنة 730، وعوّضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيادة، وهو باقٍ إلى اليوم. وعمل محراب الشافعي الآن سنة 728 بأمر تنكز، وخص بالحنفية، وصارت المحاريب أربعة: محراب الخطيب، ومحراب الحنفي (وهو الشافعي الآن)، والمالكي، والحنبلي. وكانوا قبل سنة 694 يصلون في وقت واحد، ثم رُسم للحنابلة أن يصلوا قبل الإمام الكبير، وفي سنة 819 انتقل الإمام الأول من محراب المالكية إلى محراب الحنفية (وهو الشافعي الآن). ثم استقرت الحال على أن أول من يصلي إمام الكلاسة، ثم إمام مشهد الحسين، ثم الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، ثم إمام مشهد أبي بكر، ثم إمام مشهد عروة، ثم إمام مشهد عثمان. ثم اقتصر الأمر على أئمة المسجد الأربعة. والعمل على ذلك إلى الآن بهذا الترتيب، أي الشافعي فالحنفي فالمالكي فالحنبلي[3]

القبر:

أما القبر فقد نقل ابن عساكر أنهم رأوا عند عمارة المسجد مغارة، فخبروا بها الوليد، فنزل إليها والشموع بين يديه فوجد كنيسة صغيرة، ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع، فيها صندوق فيه سفط (قفّة) فيه رأس، سليم الجلدة والشعر، مكتوب عليه أنه رأس يحيى بن زكريا، فأمر بتركه على حاله، وجعل للعمود القائم على المغارة علامة تميّزه، وبقي كذلك فترة ثم وُضع فوقه تابوت عليه اسم يحيى، رآه ووصفه (كما سيأتي) ابن جبير في أواخر القرن السادس الهجري، وبقي ذلك إلى تاريخ رحلة ابن بطوطة، ثم أقيمت هذه القبة في وقت لم أقف على تحديده إلى الآن. ولم يتخذ الوليد عليه قبراً، لأنه لم يثبت عنده أن الرأس ليحيى، ولأن إقامة القبور في المساجد أو بناء المساجد عليها ممنوع في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم حذّر منه ولعن فاعله، وكان ذلك من آخر ما نطق به صلى الله عليه وسلم قبل وفاته[4]. ولا يُحتج لجواز اتخاذ القبور مساجد بقبره صلى الله عليه وسلم، فإن قبره لم يكن في المسجد، بل كان في داره، فلما دخلت الدار في المسجد عند التوسعة[5]، صار فيه. وقد نص الحنفية أن من آداب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ألا يستقبل الزائر القبر بل يقف بحذاء رأسه الشريف ويصلي عليه ويدعو له، وهو مستقبل القبلة[6]. مع أن الثابت من تاريخ سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام، وهو الذي يسميه النصارى (يوحنا المعمدان) أنه كان على عهد المسيح عليه السلام، وأن الإمبراطور الروماني أمر بقتله وسلّم رأسه إلى (تلك) الراقصة الفاجرة، فعَبَثت به ولم يُعلم مصيره، فهو قد قُتل في الأردن، قبل عمارة الأموي بنحو ستمئة سنة، فمن أين وصل الرأس إلى هذه المغارة؟ وكيف قطع هذه المسافة على الأرض، وهذه المسافة في الزمان، ثم استقر سليماً في هذا السفط؟. أما تسمية الكنيسة بمار يوحنا فلا يدل على شيء، لأن عند المسيحيين أكثر من عشرين كنيسة، في كل منها قبر ليحيى عليه السلام[7]. هذا وعندهم أكثر من عشرين قديساً باسم (مار يوحنا). فمن قال بأن الاسم المقصود هنا هو ليوحنا المعمدان؟. وعلى فرض صحة الخبر الذي رواه ابن عساكر، فإنه لا يثبت إلا أنهم وجدوا رأساً عليه اسم يحيى لا يُعرف من كتبه ولا تاريخ كتابته، وليس لدينا أي دليل على أن هذا القبر هو ليحيى، وليس لدينا دليل كذلك على نفي أن فيه رأس يحيى عليه السلام. فالله أعلم بحقيقة الحال. ووراء المحراب والمنبر، الباب الذي سُدّ من قديم، ويبدو أعلاه الآن للمار من القباقبية، ظاهراً من وراء الدكاكين.

وكان يعد المنبر مقصورة الخطابة، ثم بيت الخطابة، وهي موجودة، ثم محراب الشافعي، ثم باب الزيادة، ثم محراب الحنبلي في موضع المقصورة المسماة بمقصورة الخضر، ثم قاعة الحنابلة، ثم المئذنة الغربية، ثم مشهد عروة (أو ابن عروة) على جانب باب البريد الأيمن للداخل.

[1] نحن نسمّي المسقوف من المسجد حَرَماً، أما الحرم بمعناه بمعناه الشرعي فلا يطلق إلا على حرمَيْ مكة والمدينة.

[2] والمحاريب لم تكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مما أحدث.

[3] الصحيح من السنة أنه لا يجوز تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب. وعلى ذلك مذهب الحنفية ("الحاشية": 1/265 – 1/371).

[4] وفي كتب الحنفية المنع من ذلك ("الحاشية": 1/601 – و "الهندية" 5/166).

[5] انظر كتابي "من نفحات الحرم".

[6] "الهندية" عازياً إلى "الاختيار شرح المختار".

[7] وفي قرية سبسطيا قرب نابلس حيث قُتل، قبرٌ له يقدّسه النصارى.

عمارة الأموي

عمارة المسجد من هدي الأنبياء وسنن المؤمنين، وقد بنى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام الكعبة، البيت الحرام، وكان أول ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، هو ببناء مسجد المدينة. وإن كانت عمارة المساجد بالعبادة والعلم والإيمان مقدّمة على تثبيت الأركان، وتعلية الجدران، والإكثار من الزخارف والألوان، بل إن زخرفة المساجد والزيادة في عمارتها على حد الضرورة مما كرهه الإسلام ورغب عنه السلف الصالح. وقد نص الحنفية على أن الكتابة على جدرانها، ولا سيما في القبلة، لا تستحسن[1]. وكان هذا المسجد في الأصل معبداً وثنياً، فأخذه النصارى فصيّروه كنيسة، فلما كان الفتح الإسلامي ودخل خالد عنوة من جهة الباب الشرقي، ودخل أبو عبيدة صلحاً من جهة باب الجابية، تم الاتفاق على أن تقسم الكنيسة قسمين، ما كان منها في الأرض التي وصل إليها أبو عبيدة صلحاً بقيت كنيسة، وما كان منها فيما فُتح عنوة صار مسجداً. وكانت هذه قوانين الحرب المتعارفة، وكان للظافر أن يمتلك المرافق العامة فيما فتحه بالسيف، وبذلك القانون أخذ النصارى هذا المعبد الوثني من قَبلُ وصيّروه كنيسة. وكان المسجد في أقل من نصف مساحته الآن (أي من باب النوفرة إلى ما قبل القبة)، وكان له محراب واحد هو محراب المالكية اليوم. واستمرت الحال على ذلك إلى أيام الوليد، فكان النصارى يصلون فيؤذّن المسلمون فيزعجونهم، ويصلي المسلمون فيضرب النصارى النواقيس. وضاق المسجد بأهله، وأراد الوليد أن يضم الكنيسة إلى المسجد، وكان الوليد هو الحاكم المطلق في نحو عشرين دولة من دول اليوم، هي: الجمهورية العربية المتحدة والعراق والأردن وفلسطين والحجاز واليمن وتركيا وليبيا وتونس ومراكش والجزائر وإسبانيا والحبشة وإيران والأفغان وجمهوريات أرمينية وبخاري وتركستان وقسم من باكستان. ولكنه كان مع هذا السلطان مقيداً بقيد القرآن، والقرآن والسنة يحرّمان ظلم المواطن الذمي، أي المواطن المسيحي بعرف الناس اليوم، ولا يجوز التعدّي عليه ما لم ينقض هوالعهد، لذلك لم يقدر أن يُصدر أمراً بأخذ الكنيسة جبراً، فدعا رؤوس النصارى وعرض عليهم أن يعطوه بقية الكنيسة ويبني لهم بدلاً منها كنيسةً أعظم منها، فأبوا، فعرض عليهم أن يبني لهم أربع كنائس ويعطيهم مبالغ ضخمة من المال، فأبوا وقالوا: إننا نتمسك بالعهد الذي كان بيننا وبينكم. فقال لهم: أنتم خالفتم العهد وأحدثتم كنائس جديدة لم يكن في المعاهدة بناؤها فأنا أهدمها. وعزم على ذلك، ودخل عليه أخوه المغيرة فوجده مهموماً فقال: مالك يا أمير المؤمنين؟. فخبره، فقال: أخرج العهد فأنظره. فأخرجه فنظر فيه، فإذا القسم المفتوح عنوة، يمتد إلى آخر الكنيسة وبذلك تكون كلها حقاً للمسلمين، فألف لجنة مشتركة (إسلامية ونصرانية) فقامت بمسح ذلك، فظهر بالمساحة أن الكنيسة كلها من حق المسلمين، وأنها تدخل المسجد. فقالوا: يا أمير المؤمنين، كنت أقطعتنا أربع كنائس، وعرضت علينا من المال كذا وكذا، فإن رأيتي أن تتفضل به علينا. فامتنع أولاً، ثم أعطاهم الكنائس الأربع، وبنى لهم كنيسة مار يوحنا الكبرى. أي إن الدولة الإسلامية، في أقوى عصورها، تبني للنصارى الكنائس من مالها، ثم يتذرع المستعمرون بالخوف على النصارى في بلادنا من حكم الإسلام!.. وقالوا: إن من يهدم الكنيسة يجنّ. فأخذ الوليد المعول وقال: أنا أحب أن أجن في سبيل الله، وضرب به وتبعه الناس، ثم دعوا باليهود فأكملوا هدمها[2]، ولم يبق في المسجد من الكنيسة إلا الجدران وأساس الصومعتين الأماميتين. على أن صاحب "معجم البلدان" يروي أنه نقض الحيطان وأعاد بناءها على أساس جديد حفر له حتى بلغ الماء. وسمع إمبراطور القسطنطينية بذلك، فأراد أن يصرفه عن عمارة المسجد، فكتب إليه: إن كان هدم الكنيسة حقاً وصلاحاً، ولم يفعله أبوك، إنه لوصمة عليك. ولما ورد الكتاب على الوليد، قعد يفكّر في جوابه، فدخل عليه الفرزدق الشاعر فقال له: جوابه حاضر، وهو قوله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً}.

وحشد لبنائه العمال من كل مكان وأراد أن يقيم السقف على أسطوانات (أعمدة)، فاقترح عليه بنّاء شامي أن يقصر الأعمدة، ويعقد بعضها بأقواس، ويقيم فوقها أعمدة صغاراً، لها قناطر تحمل السقف، فصنع ذلك وبقي إلى يومنا هذا.

هندسة الأموي:

وكانت هندسته مبتكرة، شهد بذلك كل من رآه من قديم وحديث من المسلمين وغير المسلمين. من ذلك أن المهدي لما قدم الشام في طريقه إلى بيت المقدس، دخل مسجد دمشق، ومعه كاتبه أبو عبيد الله الأشعري، فقال له: يا أبا عبيد الله، سبقنا بنو أمية بثلاث.

قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟.

قال: هذا البيت (يعني المسجد)، ونبل الموالي، فإن لهم موالي ليس لنا مثلهم، وعمر بن عبد العزيز لا يكون فينا مثله أبداً.

ولما وصل إلى بيت المقدس ورأى قبة الصخرة، قال: يا أبا عبيد الله، وهذه رابعة. ولما دخل المأمون مسجد دمشق، ومعه المعتصم ويحيى بن أكثم، قال لهما:

  • - ما أعجب ما في هذا المسجد؟.
  • - قال المعتصم: ذهبه وبقاؤه فإنا نجعله في قصورنا فلا تمضي عليه العشرون سنة حتى يتغير.
  • - قا: ما ذاك الذي أعجبني فيه.
  • - قال يحيى: تأليف رخامه، فإني رأيت شيئاً ما رأيت مثله.
  • - قال: ما ذاك الذي أعجبني فيه.
  • - قالا: وما الذي أعجبك؟.
  • - قال: بنيانه على غير مثال متقدم.

ووصفه أحد الكُتّاب، وكان قدم دمشق سنة 432 هـ، بأنه بكر الدهر، ونادرة الوقت، وأن أمية أبقت به ذكراً لا ينقطع. وقال صديقنا الدكتور صلاح المنجد[3] بأن المستشرقين العارفين بالآثار مُقِرّون بأن تخطيط المسجد وهندسته شيء مبتكر، لا يشبه هندسة الكنائس البيزنطية، وأن كثيراً منها يخرج عن طريقة العمارة السورية النصرانية المتوارثة.

بناء القبة:

ولما أُقيم هيكل البناء عمد الوليد إلى رفع القبة، وأرادها سامقة باسقة، فلما تمت سقطت، فشق ذلك على الوليد فجاءه بنّاء شامي، فقال: أنا أرفعها بشرط. قال: وما هو؟ قال: أن تُعطوني عهد الله ألا يمد أحد غيري يده إلى بنائها. قال: لك ذلك. فحفر حتى بلغ الماء. ثم وضع الأساس وغطاه بالحصر، واختفى، وطلبوه سنة كاملة فلم يصلوا إليه، فلما كان بعد السنة جاء، فقال له الوليد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ فقال: تخرج معي حتى أُريك. فخرج والناس معه، حتى كشف الحصر، فوجد البنيان قد انحط ونزل قليلاً. وقال: من هنا كان سقوطها، فابنِ الآن فإنها لا تهوي إن شاء الله. وبنى واستقرت القبة.

هدية اليهودية:

وعزم على أن يغطي القبة بالذهب، فنهاه العقلاء وأرَوْه أن ذلك يستفرغ خزائن من المال، ولا ينفع شيئاً فأمر أن تُغطّى بالرصاص. وجمع الرصاص من كل مكان، وبقيت قطعة من السقف لم يجدوا لها رصاصاً إلا عند امرأة أبيت أن تبيعه إلا بوزنه ذهباً، فكتب بذلك العاملُ إلى الوليد، فقال له: اشتره منها بوزنه ذهباً، فلما قال لها ذلك قالت: هو هدية مني إلى المسجد. فقال لها: كيف ضئنتِ به أولاً إلا بوزنه ذهباً ثم سمحت به هدية؟ قالت: أنا لا أريد الذهب ولكن أردتُ أن أختبر عدل الإسلام. قالوا: وكانت يهودية. فكُتب على صفحائه كلمة (الله).

الأروقة والفسيفساء:

فتم المسجد صحناً مكشوفاً، حوله ثلاثة صفوف من الأعمدة من غرب وشمال وشرق، وحَرَم مسقوف في وسطه رواق عالٍ من الشمال إلى الجنوب تتوّجه قبة النسر، وثلاثة أروقة من الشرق إلى الغرب، كانوا يسمّونها البلاطات وكلّه من المرمر، وقد أُسدت على أبواب الحرم وعلى الثلث الأدنى من جدرانه الستور المزدوجة، كما يكون اليوم في دور الموسرين المترفين، ولكنها من الديباج والوشي، وغُطّي باقي الجدار وجدران الصحن بالفسيفساء. والفسيفساء (والكلمة يونانية أصلها بسيفوسيس) فصوص صغيرة، تكون من الزجاج والحجر، ومن الرخام ومن الصدف، مختلفة الألوان والأشكال، فمنها المثلث والمربع والمستدير والمستطيل، ترصف على طبقة من الجص المصمغ أو نحوه، وربما صُنعت فصوصها من مواد مختلفة، تُخلط وتُطبخ على طريقة كانت معروفة، وربما حُلّيت بالذهب وغُطّيت بطبقة من الزجاج أو ما يشبهه. وقد توصلت وزارة أوقاف الشام إلى صنع مثلها في هذه الأيام. وكانت أرض المسجد وجدرانه وسقوفه مغطاةً بهذه الفصوص المذهبة[4]، التي جمعت صور بلاد الدنيا (كما قال المؤرخون)، فما يريد المرء إقليماً إلا وجده في الجامع، مصوّراً كهيئته، فيراه من غير أن يتعب بالسفر إليه وصّور كل شجرة، مثمرة وغير مثمرة، ومكة والكعبة فوق المحراب، وإلى جنبها صورة كرمة، حسبوا ما أُنفق عليها فقالوا: إنه بلغ سبعين ألف دينار. والله أعلم. ويظهر من خبر المأمون (وقد تقدم) أن هذه النقوش بقيت على رونقها وزينتها إلى عصره. وفي خبر أبي الليث الذي رواه ابن عساكر أنها بقيت إلى سنة 432 هـ، بل لقد بقيت على حالها إلى حريق سنة 461 كما نقل ابن كثير.

القناديل:

وعُلّق في المسجد قناديل البلور، في السلاسل المذهبة، وجُعل فيها المسك، فكان الناس إذا أُطفئت يأخذون بأنوفهم من ريح المسك، وكان فيها ثريا ثمينة نادرة تسمى (القليلة) فبقيت إلى أيام الأمين، وكان يحب البلور، فكتب إلى والي دمشق أن يوجّه بها إليه، فلما قُتل ردها المأمون إلى مكانها، وكانت في محراب الصحابة (محراب المالكي الآن)، ثم ذهبت فجعل مكانها برنية من زجاج، ثم انكسرت فلم يُجعل في مكانها شيء.

نفقات البناء:

وهال الناس ما أنفق الوليد على المسجد، وتكلّموا فيه، وكانت للشعب رقابة فعلية على الخليفة، وإن لم تكن يومئذ صحف ولا برلمان، وأتاه حاجبه وقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس يتحدثون أنك أنفقت الأموال في غير حقها فنادى: "الصلاة جامعة". وكان هذا النداء بمثابة دعوة للناس إلى اجتماع شعبي طارئ، فاجتمعوا في المسجد، فقال لهم، لقد أبلغني حرسي أنكم تقولون: إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، ألا يا عمر بن مهاجر (وكان أمين الخزانة) قم فأحضر ما لديك من الأموال في بيت المال. فأتت البغال تدخل بالمال ويصب على الأقطاع، حتى إن من كان في جهة الشمال لم يُبصر مَن كان في جهة القبلة. قال: الموازين! فأتت الموازين، فوُزن المال وأحصي فوجدوا أن في بيت المال من المدّخر ما يقوم بنفقات الدولة سنين.

صفائح التاريخ:

وكُتب تاريخ المسجد على صفائح مذهبة فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم. لا تأخذه سنة ولا نوم. له ما في السموات وما في الأرض. منذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وسع كُرسيه السموات والأرض ولا يَؤوده حفظهما وهو العلي العظيم. لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، لا نعبد إلا إياه، ربنا الله وحده وديننا الإسلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أمر ببنيان هذا المسجد وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبدالله الوليد أمير المؤمنين في ذي القعدة من سنة ست وثمانين".

النصارى والأموي:

ولما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز، ورأى النصارى عدله وسيرته، وحكمه يرد مدينة سمرقند إلى أهلها لما جاؤوا ببيّنةٍ على أنها فُتحت غدراً[5]، طمعوا في استرجاع الكنيسة، ورفعوا دعواهم إليه وأدلوا بالمعاهدة الى شرطت لهم ألا تهدم كنائسهم، ولا تسكن، فكلمهم وحاول إرضاءهم ودفع لهم مئة ألف دينار أي نحو مليوني درهم. فأبوا. فأمر بأن تُعاد إليهم الكنيسة. وكلف محمد بن سويد القهري بهذه المهمة فأكبر ذلك محمد وأكبره الناس، وقالوا: كيف تدفع إليهم مسجدنا بعدما صلينا فيه وقرأنا فيُهدم فيعاد كنيسة؟.

فقال رجل منهم: ارفعوا دعوى (مقابلة) إلى أمير المؤمنين، بأننا نتمسك بالمعاهدة، والمعاهدة تحمي كنائسهم التي كانت حين الفتح، ولكنها تمنعهم أن يُحدثوا غيرها، وقد أحدثوا بعد الفتح سبع كنائس ما لهم فيها حق، وعليهم بحكم المعاهدة أن يهدموها. فإن أحبّوا فإنا نعطيهم الكنيسة التي صارت مسجداً، ونهدم كل ما أحدثوا من كنائس، وإن شاؤوا تُركت لهم كل كنيسة أحدثوها، ونجعل للمعاهدة ملحقاً نعترف لهم بها، فاستمهلوا، ثم قبلوا بذلك، وتنازلوا عن دعواهم.

عمر وزخارف الأموي:

ثم نظر عمر إلى هذه الزينة وهذه الزخارف، فعزم على إبطالها، لأن كل ذلك مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء المساجد، والإسلام يكره زخرفة المساجد، والسرف في بنائها، لئلا تشغل المصلين بروعة بنائها عن مراقبة ربهم، وحسن التوجّه إليه، وكل ما نرى في المساجد الآن من الزخرف والفن والنقوش والتعالي في البنيان والتزيُّد من الفرش، كل ذلك مما رغب الإسلام عنه وكرهه، كما كره إقامة القبور فيها والكتابة على جدرانها. ثم إن عمر بن عبد العزيز قال: لقد هممت أن أعمد إلى تلك الفسيفساء وذلك الرخام فأقلعه، وأجعل مكانه طوباً، وأنزع تلك السلاسل وأجعل مكانها حبالاً، وأنزع تلك البطائن (أي الستائر) فأبيع جميع ذلك، وأدخله بيت المال، فبلغ ذلك أهل دمشق، فاشتد ذلك عليهم، فخرج إليه أشرافهم، وفيهم رجل يقال له خالدن فقال: ائذنوا لي حتى أكون أنا المتكلم. فأذنوا له. فلما أتوا دير سمعان استأذنوا على عمر، فأذن لهم، فلما دخلوا سلّموا عليه، فقال خالد: يا أمير المؤمنين بلغنا أنك هممت أن تفعل كذا وكذا في مسجدنا، فقال لهم: رأيت أموالاً أُنفقت في غير حقها وأنا مستدرك ما أدركت فأجعل قرارها في بيت المال، فقال له خالد: والله ما ذلك لك يا أمير المؤمنين. فقال له: لمن هو؟ ألأمك الكافرة؟ وغضب عمر، وكانت أمر خالد نصرانية[6]. فقال له: إن تكن كافرة، فقد ولدت مؤمناً. فاستحيا عمر، وقال: صدقت. ثم قال: ما معنى قولك، ما ذلك لي؟ فقال: لأنا كنا معشر أهل الشام وإخواننا من أهل مصر وإخواننا من أهل العراق، نغزو فيُفرض على الرجل منا أن يحمل من أرض الروم قسماً من الفسيفساء، وذراعاً في ذراع من رخام، فيحمله أهل العراق وأهل حلب إلى حلب ويستأجرون من يحمله إلى دمشق، ويحمله أهل حمص إلى حمص ويستأجرون من يحمله إلى دمشق، ويحمل أهل دمشق ومن وراءهم حصتهم إلى دمشق. فذلك قولي، ما ذلك لك. فسكت عمر، ثم جاء كتاب من يزيد بن معمر يخبره أن قارباً ورد عليه من رومية في عشرة من الروم، عليهم رجل منهم، يريدون الوفود على أمير المؤمنين، فكتب إليه أن وجّههم إليّ، ووجّه معهم عشرة من المسلمين واجعل عليهم رجلاً منهم وليكن يحسن التكلم بالرومية ولكن لا يُعلموهم بأنهم يعرفون لغتهم. وذلك لأجل أن يحملوا كلامهم، ففعل ما أمره به وساروا حتى أتوا دمشق، فنزلوا خارج باب البريد، فسأل الروم رئيس العشرة من المسلمين أن يستأذن لهم الوالي في دخول المسجد، فأذن لهم فمروا في الصحن حتى دخلوا من الباب الذي يواجه القبة، فكان أول ما استقبلوه المنبر، ثم رفعوا رؤوسهم إلى القبة فخر رئيسهم مغشيّاً عليه، فحُمل إلى منزله فأقام ما شاء الله أن يقيم ثم أفاق فقالوا له بالرومية: ما قصتك؟ عهدنا بك من رومية وما أنكرنا منك شيئاً، وصحبتنا في طريقنا فما أنكرناك، فما الذي عرض لك حين دخلت هذا المسجد؟ فقال: إنا معشر أهل رومية نتحدت أن بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدّة سيبقونها، فلذلك أصابني ما أصابني. فلما قدموا على عمر أخبروه بما سمعوا منه، فقال: لا أرى مسجد دمشق إلا غيظاً على الكفار فنزل عما كان همّ به من أمره.

[1] "البزازية" – على هامش "الهندية" - : 6/370.

[2] لا حباً بالمسلمين، بل كرهاً للنصارى.

[3] في "مسجد دمشق" وهو نص ثمين في ذكر شيء مما استقر عليه المسجد إلى سنة 730 هـ. وكل ما في هذا النص موجود بعبارته أو بأكثر تفصيلاً في ذيل "الدارس".

[4] ثم رصفت أرضه بالبلاط بعد ذلك (كما تقدم).

[5] انظر (قضية سمرقند) في كتابي "قصص من التاريخ".

[6] هو إذن خالد بن عبدالله القسري.

أطوار الأموي وأحداثه

مرت بالمسجد أحداث جسام، لا أستطيع أن أستقصيها في هذه العجالة، إنما أعرض إليها عرضاً، وموعدنا بتفصيل أمرها كتابي الكبير عن الجامع، إن وفّق الله إليه وأذن بإتمامه.

الحرائق والزلازل:

فمن أكبر الأحداث التي أصابته الحرائق. وكان بقي سليماً، جدرانه كلها وسقوفه مغطاة بفصوص الفسيفساء المذهبة، ونقوشه بادية، وستره مسدلة، إلى سنة 461، حين انقسمت الدولة دولتين، وصارت الخلافة خلافتين، وادعى العبيديون أنهم من نسل فاطمة رضي الله عنها، وأقاموا حكومة باسمها، اتخذت لها غير مذهب جمهور المسلمين مذهباً، وأحدثت منكرات وبدعاً. وكان الخلاف قد استحكم في دمشق بين غلمان العباسيين وغلمان الفاطميين، ووصل إلى سَلّ السيوف وإراقة الدماء، والترامي بالنار، فأصابت النار دار الإمارة وهي الدار الخضراء (التي لم يبق منها الآن إلا مصبغة صغيرة في زقاق ضيّق، اسمها المصبغة الخضراء) فاحترقت الدار وامتد الحريق إلى المسجد، فأكلته النار أكلاً ومحت محاسنه، وأذهبت كل ما كان فيه، فلم يبق منه إلا الجدران الأربعة. وصارت أرضه بعد الفسيفساء التي تأخذ العقول تلالاً من التراب، طيناً في الشتاء، وغباراً في الصيف. وجُمعت فصوص الفسيفساء فأُودعت في المشاهد، إلى أن أخرجها ناظر المسجد القاضي الشهرزوري أيام السلطان نور الدين. وبقي المسجد مخرباً أربع عشرة سنة حتى جُدّدت عمارة السقف والقبة أيام ملكشاه السلجوقي على يد الوزير نظام الملك (مؤسس المدرسة النظامية). أما الصحن فبقي تراباً وطيناً، حتى بلط أيام الملك العادل بعد الستمئة. كما مرّ في الكلام على بلاط الجامع. وفي سنة 562 كان حريق حي اللبادين (النوفرة) فسَرَتْ النار إلى الأموي، فأحرقت قسماً منه من جهة باب جيرون. وفي سنة 570 أصابه حريق جزئي آخر، حين احترقت مدرسة الكلاسة وامتدت النار إلى مئذنة العروس فاحترقت. وفي سنة 646 احترقت سلالم المنارة الشرقية والبيوت التي في أسفلها وتضعضعت. وفي سنة 681 كان حريق جزئي آخر، إذ احترق سوق اللبادين وسوق جيرون فامتدت النار إلى حيطان الجامع ووصلت إلى قسم من السقف. وفي سنة 740 كان الحريق الكبير في دمشق، فأكلت النار أسواقاً برمّتها وكانت خسائر فادحة في الأموال، ووصلت النار إلى الجامع فاحترقت المئذنة الشرقية وقسم من الجانب الشرقي. وأصابه حريقان جزئيان سنة 1064 وسنة 1131. وكان الحريق الثاني الذي شمل المسجد كله هو الحريق الأخير سنة 1311 وسيأتي حديثه. أما الزلازل التي تتابعت على المسجد فمنها:

زلزال سنة 131 الذي انشق منه سقف المسجد على طوله.

وفي سنة 233 كان زلزال شديد أسقط المنارة فانهالت حجارتها على المسجد وخرّبت رُبُعَه، وتراكمت فيه كأنها جبل.

وفي سنة 552 كانت زلزلة عظيمة أسقطت كثيراً مما كان قد بقي من فصوص الفسيفساء.

وفي سنة 597 كانت أشد زلزلة على الأموي، إذ أسقطت قسماً من المنارة الشرقية وتشقّقت منها قبة النسر، وقيل إنها سقطت بعد ذلك على الناس.

وزلزال سنة 702 الذي تشققت منه بعض جدران الجامع.

وزلزال سنة 1173 الذي سقطت منه قبة عائشة، وتخرّب بعض المسجد.

إصلاحات في الأموي:

أما الإصلاحات الكبرى فيه فمنها:

أنها جُدّدت عمارة الحائط الشمالي سنة 503، أيام المستظهر العباسي بأمر الوالي طغتكين. وسنة 827 نُزع الرخام عن الجدار القبلي من الجهة الغربية، فوُجد في خلل، فحضر تنكز نفسه ومعه القضاة والخبراء وتقرر هدمه وإصلاحه واستأذن السلطان فأذن له، فعمره واستنفر له الناس، فتطوّعوا للعمل، وأخذوا له حجارة وجدوها في أصل المنارة الغربية المزالة عند الغزالية، فتمت العمارة في أقل من ستة أشهر. وفي سنة 729 كمل ترميم الحائط القبلي.

وفي سنة 730 رمم الجانب الشرقي حتى صار كالغربي.

القبة:

قبة النسر جُدّدت سنة 475 وسُقفت المقصورة والطاقات والأركان الأربعة في عهد نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي. وفي سنة 575 جدّد صلاح الدين ركنين من القبة. وفي شوال سنة 602 أُصلحت عدة من دعائم القبة من جهة الشمال. وفي سنة 611 أُسندت قبة النسر بأربعة أوتاد من الخشب، طول كل منها 32 ذراعاً بذراع العمال، جيء بها من بساتين الغوطة. وفي سنة 678 جدّدت أربعة دعائم في قبة النسر من ناحية الغرب. أما القبة القائمة الآن فهي والحرم كله من بناء أهل الشام بعد الحريق الأخير، كما سيأتي.

المآذن:

أما المآذن فقد كان في الزوايا الأربع قبل أن يصير جامعاً أربع صوامع، فتهدّمت الصومعتان الشماليّتان من القديم ولم تجدّدا وبقي أساسهما، وأُخذ من حجارة الأساس في الصومعة الشمالية الغربية لبناء الجدار القبلي سنة 728. ولما بنى الوليد المسجد رفع فوق الصومعتين الأماميتين المئذنتين (الغربية والشرقية) وبنى مئذنة وسط الجدار الشمالي، هي مئذنة العروس، وجعلها مذهبة كلها من أعلاها إلى أسفلها. واحترقت المئذنة الشمالية (العروس) في حريق مدرسة الكلاسة في المحرم سنة 570، فجددها السلطان صلاح الدين. وفي سنة 646 احترق القسم الأعلى من المنارة الشرقية وسلالمها والغرف التي في أسفلها، وأعادها الملك الصالح الأيوبي. وفي أسفل المنارة الشرقية بيت طهارة وغرفتان. أما الغربية فبأسفلها قاعة بلا ماء جددها السلطان قاتيباي المتوفّى سنة 901 بعد خرابها في حرب تيمورلنك، وكان أول يوم أُذّن فيها بعد تعطيلها وتجديدها 2 رمضان 814. وأُقيم في ذي القعدة 814 داربزين مئذنة العروس. وسنة 816 فرغ من بناء الغربية، وكان قد تخرب رأسها في حرب تميورلنك. وقد جُدّد النصف الأعلى من مئذنة العروس من عهد قريب. ونُقض في أيامنا النصف الأعلى من المئذنة الشرقية لخللٍ ظهر فيه وأُعيد كما كان.

المشاهد:

وفي سنة 596 جُدّد مشهد عروة وفُتح بعد ما أُغلق مدة (وربما سمي مشهد ابن عروة وكان يسمى قديماً مشهد علي ويدعى اليوم مشهد اليافي وهو مُعَدّ اليوم للوضوء). وفي سنة 668 جدد الملك الظاهر مشهد زين العابدين (مشهد الحسين)، بعدما استولى عليه الخراب، وطرد من كانوا يتخذونه ملجأ إلا واحداً منهم رأى فيه الصلاح والعبادة، وأُغلق مدة في أيام العثمانيين وأُهمل، فجدّده الوالي سليمان باشا وفتحه. وفي سنة 698 جُدّد مشهد عثمان (المتّخذ الآن بهواً للاستقبال)، بإشراف ناظر الجامع الناصر بن عبد السلام، وجُعل له إمام راتب.

الرخام والفسيفساء:

في سنة 630 جُدّد ترخيم باب الجامع الشرقي.

جَدّد الظاهر[1] نحو سنة 668 كثيراً من الرخام في الحائط الشمالي، وكثيراً من الفسيفساء في الجدار الغربي، وأصلح رخامه ورمّمه وجلب له الرخام من كل جهة، فكان أحسن مما عمل قديماً، وأنفق في ذلك عشرين ألف دينار. وفي سنة 727 كمل ترخيم الحائط الشمالي، بأمر تنكز وعهد الناظر ابن المرحل. وفي سنة 730 جمعت فصوص الفسيفساء الباقية لتجعل في الجدار القبلي للصحن، في عهد ابن المرحل ناظر الجامع وبإذن نائب السلطنة تنكز والقاضي الإخنائي الشافعي. ولكن ذلك لم ينفّذ كما يظهر. وفي سنة 740 جدد الناصر بن قلاوون ترخيم مشهد أبي بكر.

[1] وسيأتي نصٌّ في تفصيل ذلك.

من أخبار الأموي

وفي رمضان سنة 411 أقيم في الصحن عمودان من الشرق والغرب جُعلاً لتنوير المسجد، وذلك بإذن قاضي البلدة وهما موجودان إلى الآن. وفي سنة 736 وُجد حائط دار الخطابة متشقّقاً فخرب، ووُجد فيه حجارة كبار، وظهر باب كبير مليح له (أسكفّة) وجوانب، والجميع مخرب، فنُقلت الحجارة الكبار إلى باب الفرج فاستُعين بها في بنائه، وفي سنة 699 نظر الملك الظاهر في أوقاف الجامع وما يُصرف منها لأرباب الرواتب، فمن كان منهم مستغنياً وليس به انتفاع في علمٍ أبطله، ومن كان منهم ذا حاجة ولم يكن لديه علم رَتّب له على بيت المال ما يقوم به، وصرف ما كان مقرّراً لمن أبطله في مصالح الجامع، وفيمن للمسلمين الانتفاع بعلمه، ورتّب فيه مصحفاً يُقرأ فيه بعد صلاة الصبح تحت قبه النسر، وأجرى على القارئ فيه كل شهر شيئاً معلوماً. وكان بصحن الجامع الأموي حواصل للمنجنيقات وحواصل للأمراء، فيها أشياء من خيم وغيرها فأمر بإزالتها، فاتسع الجامع وازداد رونقه، وتطلّب كتب الوقف، وكانت قد أُهمل النظر فيها، وأجرى الوقوف على شروطها من واقفيها، وإنما كان المتولّي للنظر فيها يعمل بمقتضى رأيه في منعه وإعطائه، فحُملت إليه بعدما شقّ على الباحث عنها وجودّها، فوجدها قد تمزّق القديم منها، وما كان وقفه الملك العادل نور الدين محمود ومَن بعده من الملوك قد كادت كتبها تتلف، فأمر بإحياء خطوطها وإثباتها عند سائر القضاة، واجتهد فيها حسب ما اقتضته آراؤه السعيدة وأفعاله الرشيدة، وكذلك فعل في وقف البيمارستان الكبير، وليس ذلك بمستنكر من خلائقه في إقامة منار الإسلام، ورفع من خفضه البخوت على التخوت من العلماء الأعلام، وكانت سائر الوقوف المرسلة على ما وُقفت عليه مضافة إلى وقف الجامع الأموي، وكانت لا تُصرف في أربابها، وإنما تُصرف في مرتّب الجامع، فأفردها منه، وولاّها من يصرفها على شروط من وقفها، وأثبت كتبها كما فعل فيما عداها من الأوقاف الجامعية والبيمارستانية. وفي سنة 830 كشفوا عن رؤوس الجسور في الجامع فوجدوا بضعة عشر جسراً تآكلت، فأُصلحت. وفي أيام الملك الناصر الأيوبي فرض من ماء قنوات زيادة على ماء باناس (بانياس) للأموي مقدار 17 إصبعاً.

الأموي في أواخر القرن السادس الهجري

زار ابن جبير الجامع الأموي في أواخر القرن السادس، ووصفه في رحلته وصفاً دقيقاً صادقاً، رأيت أن أُثبته بحروفه في هذه الرسالة، وأثبت بعده حديثه عن صعوده إلى قبة المسجد. قال ابن جبير: إن ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب: مائتا مساحته خطوة، وهي ثلاثمائة ذراع، وذرعه في السعة من القبلة إلى الجوف مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مائتا ذراع، فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرون مرجعاً، وهو تكسير مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن الطول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبلة إلى الشمال، وبلاطاته[1] المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من الشرق إلى الغرب، سعة كل بلاطة منها ثمان عشرة خطوة، والخطوة ذراع ونصف، وقد قامت على ثمانية وستين عموداً، منها أربع وخمسون سارية، وثماني أرجل جصية تتخلّلها، واثنتان مرخّمتان مُلْصَقَتان معها في الجدار الذي يلي الصحن، وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصّعة بفصوص من الرخام أعمدته ملوّنة قد نُظمت خواتيم وصُوّرت محاريب وأشكالاً غريبة قائمة في البلاط الأوسط تقلّ قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب، سعة كل رجل منها ستة عشر شبراً، وطولها عشرون شبراً، وبين كل رجل ورجل في الطول سبع عشرة خطوة وفي العرض ثلاث عشرة خطوة، فيكون دور كل رجل منها اثنين وسبعين شبراً ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته، الشرقية والغربية والشمالية، سعته عشر خطا وعدد قوائمه سبع وأربعون منها أربع عشرة رجلاً من الجص، وسائرها سوار، فكيون سعة أروقة (أروقة الصحن) الصحن حاشا المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع وسقف الجامع كله من الخارج ألواح رصاص. وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب، سامية في الهواء، عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن، وتحته ثلاث (قبابه) قباب[2]، قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما، والقبة الرصاصية قد أغصت الهواء، فإذا استقبلتها أبصرتَ منظراً رائعاً ومرأى هائلاً يشبّهه الناس بنسر طائر، كأن القبة رأسه، والغارب صدره، ونصفُ جدار البلاط عن يمين ونصفٌ عن شمال جناحاه، ووسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، (صورة النسر) فهم يعرفون هذا الموضع من الجامع بالنسر، لهذا التشبيه الواقع عليه. ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلّقة من الجو.

والجامع المكرّم مائل إلى الجهة الشمالية من البلد. (شمسياته) وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر، وفي القبة المتصلة بالمحراب وما يليها من الجدار أربع عشر شمسية، وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع وأربعون، وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست، وفي ظهر الجدار إلى الصحن سبع وأربعون شمسية. وفي الجامع المكرّم ثلاث مقصورات، مقصورة الصحابة رضي الله عنهم، وهي أول مقصورة وُضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، (المقاصير) وبإزاء محرابها المقاصير، عن يمين مستقبِل القبلة باب حديد كان يدخل معاوية رضي الله عنه إلى المقصورة منه إلى المحراب، وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلّى أبي الدرداء رضي الله عنه، وخلفها دار معاوية رضي الله عنه، وهي اليوم سماط عظيم للصفارين يتصل بطول جار الجامع القبلي، ولا سماط أحسن منظراً منه ولا أكبر طولاً وعرضاً، وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخيل برسمه، وهي اليوم مسكونة، وفيها مواضع للكمادين، وطول المقصورة الصحابية المذكورة أربعة وأربعون شبراً، وعرضها نصف الطول، ويليها لجهة الغرب في وسط الجامع المقصورة التي أُحدثت عند إضافة النصف المتخذ كنيسةً إلى الجامع حسبما تقدم ذكره، وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة، وكانت مقصورة الصحابة أولاً، في نصف الخط الإسلامي من الكنيسة، وكان الجدار حيث أُعيد المحراب في المقصورة المحدثة، فلما أُعيدت الكنيسة كلها مسجداً صارت مقصورة الصحابة طرفاً في الجانب الشرقي، وأُحدثت المقصورة الأخرى وسطاً، حيث كان جدار الجامع قبل الاتصال. وهذه المقصورة المحدثة أكبر من الصحابية، وبالجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة أخرى، هي برسم الحنفية، يجتمعون فيها للتدريس، وبها يصلّون، وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد، كأنها مقصورة صغيرة، وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة، هي كالمقصورة، كان وضَعَها للصلاة فيها أحد أمراء الدولة التركية، وهي لاصقة بالجدار الشرقي. وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب، يتخذها الطلبة الزوايا للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس، وهي من جملة مرافق الطلبة. وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون باباً متصلة بطول الجدار قد علتها أقواس جصية مخرمة كلها على هيئة الشمسيات، فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه (أبواب الصحن) والبلاط المتصل بالصحن المحيط، والبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة، وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوّسة، تقلّها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، وهو متفرّجهم ومنتزههم، كلّ عشيةٍ تراهم فيه ذاهبين وراجعين، من شرق إلى غرب، من باب جيرون إلى باب البريد، فمنهم من يتحدث مع صاحبه، ومنهم من يقرأ، لا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة، ثم ينصرفون ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، (الشاميون والجامع) وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشي، فيخيّل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم، لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم، لا يزالون على ذلك كل يوم، وأهل البطالة من الناس يسمونهم (الحرائين). (المآذن) وللجامع ثلاث صوامع، واحدة من الجانب الشرقي، وهي كالبرج المشيّد تحتوي على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها إلى إغلاق، يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير، والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي رحمه الله، وثانية بالجانب الغربي على هذه الصفة، وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين (باب العمارة). (قباب الصحن) وفي الصحن ثلاث قباب، إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها، وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام، مستطيلة كالبرج، مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة، يقال إنها كانت مخزناً لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلاّت تنيف (على ما ذُكر لنا) على الثمانية آلاف دينار في السنة وهي خمسة عشر ألف درهم.

وقبّة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوّفة مثّمتة من الرخام قد أُلصق أبدع إلصاق، قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام، وتحتها شباك حديد مستدير وفي وسطه أنبوب من النحاس يمجّ بالماء إلى علو فيرتفع وينثني، كأنه قضيب لُجَين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافاً واستحساناً، ويسمونه قفص الماء، والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة، لكن أصغر منها، وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي إلى مسجد كبير، في وسطه صحن قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير، (المشاهد) يجري الماء فيه دائماً من صفحة رخام أبيض مثمّنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمود مثقوب يصعد الماء منه إليها. وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يُفضي إلى مسجد من أحسن المساجد وأبدعها وضعاً، وأجملها بناءً، ويزعمون أنه مشهد لعلي بن أبي طالب. يقابله في الجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي مجلّل بستر في أعلاه، وأمامه ستر أيضاً منسدل، يزعم أكثر الناس أنه موضع لعائشة رضي الله عنها، وأنها كانت تسمع الحديث فيه. وذلك كله لا أصل له، وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع. وكان هذا الجامع المبارك ظاهراً وباطناً منزلاً كله بالفصوص المذهبة، (زخارف الجامع) مزخرفاً بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين، فتهدّم وجُدّد، وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه، فأسلَمُ ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها، ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية، حُسناً وغرابةً صنعةٍ، يتّقد ذهباً كله وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفّها سويريات مفتولات فتل الأسورة كأنها مخروطة لم يُرَ شيء أجمل منها، وبعضها حمر كأنها مرجان، (القبلة والمحراب) فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث وإشراق شمسياته المذهّبة الملوّنة عليه واتصال شعاع الشمس بها وانعكاسه إلى كل لون منها حتى ترتمي الأبصار منه أشعة ملونة يتصل ذلك بجداره القبلي كلّه عظيم لا يُلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه، والله يعمره بشهادة الإسلام وكلمته بمنّه. وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان رضي الله عنه وهو المصحف الذي وجّه به إلى الشام، وتُفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرّك الناس بملمسه وتقبيله ويكثر الازدحام عليه. (أبواب الجامع) وله أربعة أبواب: (باب) قبلي ويُعرف بباب الزيادة وله دهليز كبير متسع له أعمدة عظام وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم، وله مرأى رائع ومنه يُفضي إلى داخل الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي كانت دار معاوية رضي الله عنه وتُعرف بالخضراء.

(وباب) شرقي هو أعظم الأبواب، ويعرف بباب جيرون. و (باب) غربي ويُعرف بباب البريد. و(باب) شمالي ويعرف بباب الناطفيين. وللشرقي والغربي والشمالي أيضاً من هذه الأبواب دهاليز متسعة، ويفضي كل دهليز منها إلى باب عظيم كانت كلها مداخل الكنيسة فبقيت على حالها، (الدهليز الشرقي) وأعظمها منظراً الدهليز المتصل بباب جيرون يخرج من هذا الباب إلى بلاط طويل عريض، قد قامت أمامه خمسة أبواب مقوّسة لها ستة أعمدة طوال، وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل، كان فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما، ثم نُقل إلى القاهرة، وبإزائه مسجد صغير يُنسب لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وبذلك المشهد ماء جار، وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها الدهليز، وهو كالخندق العظيم يتصل إلى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سموّاً، وقد حفّته أعمدة كالجذوع طولاً، وكالأطواد ضخامةً، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة، فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم، وعليها شوارع أخرى مستطيلة فيها الحجر والبيوت للكراء، مشرفة على الدهليز، وفوقها سطح يبيت به سكان الحجر والبيوت. وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام، عليه قبة تقلها أعمدة من الرخام، ويستدير بأعلاها طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء، وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع إلى الهواء أزيد من القامة، (الفوارة) وحوله أنابيب صغار ترمي الماء إلى علو فيخرج عنها كقضبان اللّجَين، فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف. وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة، ولها هيئة طاق كبير مستدير، فيه طيقان صفر فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، وقد دبرت تدبيراً هندسياً، (الساعة) فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فم بازيين مصوّرين من صُفر، قائمين على طاستين من صفر، تحت كل واحد منهما طاستان، إحداهما تحت أول باب من تلك الأبواب، والثانية تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين، ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيّله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يُسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين يلوح من الصفر، لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار، حتى تتغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات. ثم تعود إلى حالها الأول ولها بالليل تدبير آخر، وذلك فيّ أن في القوس المتعطف على الطيقان المذكورة اثنتا عشرة دائرة من النحاس، مخرومة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مدبّر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها، فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى، حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكّل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها، يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي يسميها الناس المنجانة.

(الدهليز الغربي) ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين، وفيه سماط لبيع الفواكه، وفي أعلاه باب عظيم يُصعد إليه على أبراج، وله أعمدة سامية في الهواء، وتحت ابراج سقايتان مستديرتان، سقاية يميناً وسقاية يساراً، لكل سقاية خمسة أنابيب ترمي الماء في حوض رخام مستطيل. (الدهليز الشمالي) ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على مساطب محدقة بالأعواد هي محاضر لمعلمي الصبيان، وعن يمين الخارج في الدهليز خانقة مبنية للصوفية، في وسطها صهريج يقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ولها خبر سيأتي ذكره بعد هذا، والصهريج الذي في وسطها يجري الماء فيه ولها مطاهر يجري الماء في بيوتها، وعن يمين الخارج أيضاً من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه، ولها مطاهر على الصفة المذكورة، وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان لهما رأسان من الصفر مستطيلان قد خرما أحسن تخريم، يُسرَجن ليلة النصف من شعبان فيلُوحان كأنهما ثريتان مشتعلتان. واحتفال أهل هذه البلدة بهذه الليلة المذكورة أكثر من احتفالهم ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم. وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم كل يوم إثر صلاة الصبح لقراءة سبع من القرآن دائماً، (القراء) ومثله إثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرؤون فيها من سورة الكوثر إلى الخاتمة، ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يُجيد حفظ القرآن، وللمجتمعين على ذلك إجراء كلّ يوم يعيش منه أزيد من خمسمائة إنسان، وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم، فلا تخلو القراءة منه صباحاً ولا مساءً.

(الحلقات والدروس) وفيه حلقات للتدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراء واسع، وللمالكية زاوية للتدريس على الجانب الغربي يجتمع فيه المغاربة ولهم إجراء معلوم، ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة، وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه هي بين المقصورتين القديمة والحديثة لها وقف معلوم يأخذه المستند إليه للمذاكرة والتدريس، أبصرنا بها فقيهاً من أهل إشبيلية يُعرف بالمرادي، وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحاً يستند كل إنسان منهم إلى سارية، ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن، وللصبيان أيضاً على قراءتهم جراية معلومة، فأهل الجدة من الآباء ينزّهون أبناءهم عن أخذها، وسائرهم يأخذونها، وهذا من المفاخر الإسلامية، وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم له ما يقوم به، وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم، وهذا أيضاً من أغرب ما يحدث به من مفاخر هذه البلاد.

وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها إنما هو تلقين، ويعلمون الخط في الأشعار وغيرها تنزيهاً لكتاب الله عزّ وجلّ عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو، وقد يكون في أكثر البلاد الملقّن على حدة والمكتب على حدة، فينفصل من التلقين إلى التكتيب لهم في سيرة حسنة، ولذلك ما يتأتى لهم حسن الخط لأن المعلم له لا يشتغل بغيره، فهو يستفرغ جهده في التعليم، والصبي في التعلم، كذلك ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه. (مظاهر الجامع) ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات، في كل جامع سقاية، كل واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية، والماء يجري في كل بيت منها، وبطول صحنها حوض من الحجر مستطيل، تُصبّ فيه عدة أنابيب منتظمة بطوله، وإحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون وهي أكبرها، وفيها من البيوت نيّف عن الثلاثين، وفيها زائداً على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يُمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على هذه السقاية، والواحد بعيد عن الآخر، ودور كل واحد منهما نحو الأربعين شبراً والماء نابع فيهما. والثانية[3] في دهليز باب الناطفيين بإزاء المعلمين. والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد. والرابعة عن يمين الخارج من باب الزيادة. (قبر يحيى) وفيه مشهد رأس يحيى بن زكريا عليه السلام وهو مدفون بالجامع المكرم في البلاد القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابية، رضي الله عنهم. وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة، وفوقه قنديل كأنه من بلّور مجوّف، كأنه القدح الكبير، لا يُدرى أمن زجاج عراقي أم صوري هو أم غير ذلك؟.

صعوده إلى القبة:

ومن أعظم ما شاهدناه من مناظر الدنيا الغريبة الشأن، وهياكلها الغريبة البنيان المعجزة الصنعة والإتقان، والمعترف بوصفها بالتقصير لسان كل بيان، الصعود إلى أعلى قبة الرصاص المذكورة في هذا التقييد القائمة وسط الجامع المكرم، والدخول في جوفها، وإجالة لحظ الاعتبار في بديع وضعها مع القبة التي في وسطها، كأنها كرة مجوّفة داخلة في وسط كرة أخرى أعظم منها. صعدنا إليه في جملة من الأصحاب المغاربة، ضحوة يوم الاثنين الثامن عشر لجمادي الأولى سنة 580 من مرقى في الجانب الغربي من بلاط الصحن، كان صومعة في القديم، وتمشّينا على سطح الجامع المكرم وكله ألواح رصاص منتظمة، كما تقدم الذكر لذلك، وطول كل لوح أربعة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار، وربما اعترض في الألواح نقص أو زيادة، حتى انتهينا إلى القبة المذكورة، فصعدنا إليها على سلّم منصوب، والريح تكاد تطير بنا، فحَبونا في الممشى المطيف بها وهو من رصاص، وسعته ستة أشبار، فلم نستطع القيام عليه لهول الموقف فيه، فأسرعنا الولوج إلى جوف القبة، على أحد شراجيبها، المفتّحة في الرصاص، فأبصرنا مرأى تحار فيه العقول، وتقف دون إدراكه هيبة وصف الأفهام، وجلنا على فرش من الخشب العظام، حول القبة الصغيرة الداخلة في جوف الرصاصية على الصفة التي ذكرناها، ولها طبقان يبصر منها الجامع ومن فيه، فكنا نبصر الرجال فيه كأنهم الصبيان. وهذه القبة مستديرة كالكرة، ظاهرها من خشب، قد شُدّ بأضلاع من الخشب الضخام، موثّقة بمناطق من الحديد، ينعطف كل ضلع عليها كالدائرة، وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها، وداخل هذه القبة – وهو ما يلي الجامع المكرم – خواتيم من الخشب منظم بعضها ببعض قد اتصلت اتصالاً عجيباً، وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب، مزخرفة التلوين، بديعة القرنصة، يَرتمي الأبصار شعاع ذهبها، وتتحير الألباب في كيفية عقدها ووضعها لإفراط سموّها. أبصرنا من تلك الخواتيم الخشبية خاتماً مطرحاً جوف القبة، لم يكن طوله أقل من ستة أشبار في عرض أربعة، وهي تلوم في انتظامها للعين كأن دورة كل واحد منها شبر أو شبران الغاية، لعظم سموّها. والقبة محتوية على هذه القبة المذكورة، وقد شُدّت أيضاً بأضلاع عظيمة من الخشب الضخام، موثّقة الأوساط بمناطق الحديد، وعددها ثمان وأربعون ضلعاً، بين كل ضلع وضلع أربعة أشبار، قد انعطفت انعطافاً عجيباً، واجتمعت أطرافها في مركز دائرة من الخشب، أعلاها، ودور هذه القبة الرصاصية ثمانون خطوة، وهي مائتا شبر وستون شبراً، والحال فيها أعظم من أن يبلغ وصفها. إنما هذا الذي ذكرناه ندبة يستدل بها على ما وراءها، وتحت الغارب المستطيل المسمى النسر الذي تحت هاتين القبتين مدخل عظيم، هو سقف للمقصورة، بينه وبينها سماء خاص مزيّنة، وقد انتظمت فيه من الخشب ما لا يُحصى عدده، وانعقد بعضها ببعض، وتقوّس بعضها على بعض، وتركّبت تركيباً هائلاً منظره، وقد أُدخلت في الجدار كله دعائم القبتين المذكورتين، وفي ذلك الجدار حجارة كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة، لا تنقلها الفيلة، فضلاً عن غيرها، فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضع المفرط السمو، وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك، فسبحان من ألهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة، ومعينهم على الثاني لما ليس موجوداً في طبائعهم البشرية، ومظهر آياته على أيدي من يشاء من خلقه، لا إله إلا سواه. والقبتان على قاعدة مستديرة من الحجارة العظيمة، قد قامت فوقها أرجل قصار ضخام من الحجارة الصمّ الكبار، وقد فتح بين كل رجل ورجل شمسية، واستدارت الشمسيات باستدارتها، والقبتان في رأي العين واحدة. وكنّينا عنها باثنتين لكون الواحدة جوف الأخرى والظاهر منها قبة الرصاص. ومن جملة عجائب ما عاينّاه في هاتين القبتين أننا لم نجد فيهما عنكبوتاً ناسجاً، على بعد العهد من التفقّد لهما من أحد، والتعهد لتنظيف مساحتهما. والعنكبوت في أمثالهما موجود كثير، وقد كان حقق عندنا أن الجامع المكرم لا تُنسج فيه العنكبوت ولا يدخله الطير المعروف بالخطاف. وقد تقدم ذكرنا لذلك في هذا التقييد، فانصرفنا منحدرين، وقد قضينا عجباً عجاباً من هذا المنظر العظيم.

الأموي في القرن الثامن:

وقد زار المسجد الرحالة ابن بطوطة، في أوائل القرن الثامن، ووصف المسجد، وليس في وصفه اختلاف كبير عن وصف ابن جبير.

[1] ما بين كل صفين من الأعمدة كانوا يسمّونه بلاطة. وتسمى اليوم (معزبة).

[2] وهي غير موجودة اليوم.

[3] هذه قد اندثرت والثلاث الأخرو باقيات.

الحريق الأخير

أجدادنا الأولون كانوا أهل حزم وعزم، وكانوا أصحاب فكر وبيان، فكتبوا تاريخهم كله، وسجلوا أمجادهم ومعايبهم، وأخبار جِدّهم وهزلهم. فنحن نعرف عن القرون الأولى التي مرّ عليها أكثر من ألف سنة كل شيء، كأننا نعيش فيها، ونجهل من أخبار القرون الأخيرة كل شيء، لا سيما القرن الماضي. وهذا أمير عجيب ولكنه الواقع. وأنت إذا أردت أن تعرف قصة حريق الأموي مثلاً، لم تجدها في تاريخ من التواريخ، مع أن في دمشق مئات ممن شهدها بعينه. لذلك اعتمدت في هذا الحديث على ما حدثني به أستاذنا الأكبر الشيخ المعمِّر الجليل عبد المحسن أفندي الأسطواني، وهو – حفظه الله – أعجوبة العجائب، جاوز المئة[1] من السنين ولا يزال في جدّة ذهنه وقوّة ذاكرته، وكثرة علمه، وسرعة بادرته، وحضور نُكتته كما كان في شبابه، وعلى ما حدثني به الشيخ حمدي الحلبي حفيد علامة الشام الشيخ سعيد الحلبي، وهو متولِّي الجامع الآن ومن أعلم الناس بتاريخه وأحواله. كما اعتمدت على ما كتب العلامة الأستاذ الشيخ جمال الدين القاسمي، ومختار بك العظم رحمهم الله، وهي وصف مختصر جداً نشره الدكتور صلاح الدين المنجد، أحسن الله إليه بمقدار ما أحسن إلى تاريخ دمشق وآثارها ومخطوطاتها. وبعد فهذه هي القصة:

كانت ضحوة يوم السبت رابع ربيع الثاني سنة 1311 هـ (أي من نحو سبعين سنة قمرية)، وكانت دمشق آمنة مطمئنة، والناس منصرفون إلى أعمالهم في الأسواق المطيفة بالأموي، والنساء في بيوتهن الحافة بالجامع، فما راعهم إلا صريخ يصرخ، كأنه النذير العريان: أن لقد احترق الأموي، فترك التجار مخازنهم مفتوحة ووثبوا ينظرون، وصعد النساء على السطوح، وتراكض الناس من كل جهة، وإذا الدخان ينبعث من سقف الجامع، ولم يكن في دمشق مصحلة إطفاء (وقد أُنشئت على أثر الحادث) وحار الناس ماذا يصنعون، فاستَبَقوا إلى سجاد المسجد ومصاحفه يُخرجون ما يصلون إليه منها، وعمد بعضهم إلى الماء يصبّونه، وإلى المعاول علّهم يحصرون النار، ولكن النار كانت أسرع منهم، إذ كان خشب السقف قديماً جافاً، وعليه من الأصبغة والأدهان طبقات، فما شمّ رائحة النار حتى التهب كله دفعة واحدة، كأنما قد صب عليه البنزين، وكانت الرياح في ذلك اليوم غربية شديدة، فما مرت نصف ساعة حتى صار السقف كله شعلة واحدة، وجعلت قطع النيران تتساقط من كل مكان، فالتهب المسجد كله، ولم يعد أحد يستطيع أن يقترب منه، فوقفوا ينظرون وكأن النار التي تأكل مسجدهم تأكل قلوبهم، ولكن العجز أمسكهم وقيّدهم، وكانت عمد المسجد قديمة أكثرها مكسور ومربوط بأطواق الحديد، فتشقّقت من النار، ثم هوى البناء كله، وزلزلت الأرض، وكانت ساعة من ساعات الهول، وامتدت النار تسوقها الرياح الغربية إلى سوق القباقبية والقوافين وزقاق الحمراوي، وانجلى الدخان عن الخراب الشامل، لم يبق من الأموي إلا المشهدان عند باب البريد ورواق الصحن، عدا الرواق المتدّ بين باب النوفرة إلى مشهد الحسين، فقد ناله الحريق فتضعضع، وأصاب الحريق المنارة الغربية. وأمامي الآن صورة نشرها الدكتور المنجد للأموي بعد الحريق، ما فيها إلا جدار الحرم الشمالي (من جهة الصحن) والواجهة المثلثة العالية، أما السقف كله والقبة فلم يبق منه أثر، ذهب المسجد كله في ساعتين ونصف الساعة، المسجد الذي أُنفقت فيه الأموال والأعمار، وعملت في بنائه الأفكار والأيدي ألفاً وثلاثمئة سنة، ذهب كله في مئة وخمسين دقيقة فقط، ذهب في سبيل نارجيلة. ذلك أن عاملاً من العمال كان يصلح رصاص السقف، في المعزبة الوسطى من الجهة الغربية، فأعجبه المنظر، وهاج في نفسه الشوق إلى نفس دخان، فجاء بنارجيلة وأوقد ناراً ليشعلها، فأشعل النار في الأموي. خلت دمشق من مسجدها، ولكن ما خلت النفوس من إيمانها، وحطّ سقفه وجدرانه ولكن ما حطّ فرض الصلاة عن الناس، وماذا يضر المصلي إن هوت قبة المسجد وأمّحت روائعه وطمست نقوشه، ومسجد محمد الذي بُني على التقوى والذي كان مشرقَ النور على الدنيا ما كانت له قبة ولا كانت فيه نقوش، إنما هو سقيفة من اللَّبِن، والخشب، وماذا إن بقي بلا مسجد والأرض كلها للمسلم مسجد ومصلى. لذلك كانت الفاجعة في الأموي الضحى، وأقيمت الصلاة في الأموي الظهر، أقيمت الصلاة، أقامها العالم الورع الشيخ عبد الحكيم الأفغاني، في الصحن وراء البحرة والناس وراءه، فكانت النار لا تزال بقاياها في أرجاء المسجد، وهم يركعون ويقولون: الله أكبر، الله أكبر من الجامع، فإذا ذهب الجامع فالله باق، والصلاة باقية، لا يشغل المؤمن عن صلاته شيء في الدنيا مهما كبر، لأن الصلاة لله، والله أكبر.

صلوا في الصحن، ثم عمدوا إلى المشهد الغربي الذي بقي سالماً، فنقلوا إليه بعض مفروشات الجامع، وأقاموا له منبراً صغيراً للخطابة، وعمروا سدة صغيرة للمؤذّنين، وصارت تُقام الجمعة فيه، وكان المشهد الثاني (المعروف اليوم بمشهد الغزي) وهو الآن بهو الاستقبال، مستودعاً للوازم الجامع، ففُرّغ ودُفّف وفُرش وفُتح بابه القبلي، فصار المشهدان (القائمان على طرفي باب البريد) معدّيَّن للصلاة، وكان المشهد الشرقي قد احترق كله، ومشهد الحسين قد احترق بعضه، فبذل الناس لإصلاحهما، فجُدّدا وأُعدّا للصلاة قبل حلول شهر رمضان. ثم انصرف الناس إلى تنظيف الجامع، وكان من الأنقاض المتراكمة كأنه تل عظيم، وتناوبوا على تنظيفه، يشتغل أهل كل محلة يوماً، يجيئون جميعهم كهولهم وشبابهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، يعملون بأيديهم إيماناً واحتساباً، ينقلون التراب والحجارة، ويتسابق الأغنياء إلى إطعامهم، فيتكفل أغنياء الحي بإعداد الطعام للعاملين، فيتغذون في المسجد، فكان ذلك مظهراً رائعاً للأخوّة والبذل، وغدا الناس كأنهم أسرة واحدة، يعملون جميعاً في بيت الله، وينزلون ضيوفاً عليه، حتى إذا نُظّف المسجد من الأنقاض، أُلّفت في كل حي لجنة لجمع المال لعمارة المسجد، وهبّت دمشق إحدى هباتها المؤمنة العجيبة، وتزاحم الناس على البذل، فمنهم من خرج عن ماله كله، منهم من أعطى نصف ماله، وكلّ ساعد بعقله وبفنّه وبصناعته، والفقير عمل مجاناً بيده، وأنتم تذكرون ما صنعت دمشق في أسبوع التسلح القريب، فكبِّروا ذلك عشر مرات تروا ما صنعت دمشق لبناء الجامع. وكان الكشف وقدِّرت نفقات البناء بسبعين ألف ليرة ذهبية، وإذا نظرنا إلى القوة الشرائية لكل ليرة وجعلنا الخبز مقياساً وحسبنا سعره يومئذ وسعره اليوم، رأينا المبلغ يعادل عشرين مليون ليرة من نقد هذه الأيام. ونظروا فإذا الأعمدة التي كان يقوم عليها سقف الحرم قد تكسّرت، وفكّروا في أعمدة جديدة، واختلف الرأي فيها، من أين يُؤتى بها وكيف تُنقل، ثم أخذوا برأي السيد عبد الله الحموي، فقرروا أن تُقطع الأعمدة من جبال المزّة، ولكن يكف يؤتى بها؟. هنا تظهر عظمة هذا الرجل الذي لم يكن مهندساً ولم يكن متعلماً. لقد عرض عليهم أن يعمل عربة مستطيلة واطية تجرّها الثيران، لها ملاقيط من تحتها فهي تلتقط العمود، وتحمله من المزة إلى المسجد، وشكّوا في ذلك، فخبرّهم أنه رأى مثلها في مقاطع الحجارة في إيطاليا، فأقرّوه على صنعها، فصُنعت بإرشاده، وصارت تحمل العمود الهائل من الأعمدة القائمة اليوم في الأموي وتأتي به يحف بها الناس والشباب بالعراضات والأهازيج. ولما وصل العمود الأول وشكرت اللجنة للسيد الحموي ما صنع، ضحك وقال لهم: أخبركم الآن بالحقيقة، أنا لم أر مثل هذه العربة في إيطاليا، ولا ذهبتُ إليها ولا إلى غيرها، ولكني خفتُ أن أقول لكم: إنها من اختراعي، فلا تقبلوها مني فزعمت أني رأيتها في إيطاليا. وهذه العربة لا تزال موجودة، أرجو أن تُوضع في المتحف لتُعرض دليلاً على العبقرية الشامية.

وشُرع في البناء سنة 1314 هـ ولم يبق في دمشق صاحب فنّ إلا وضع فنه في عمارة المسجد، ولا عامل إلا قصر عمله على المسجد، وكان يشتغل فيه كل يوم أكثر من خمسمئة عامل، فما مرت سنتان حتى أُنجز بناء النصف الشرقي من المسجد وفُرش بالسجاد وعُلقت فيه الثريّات والمصابيح وأُقيم حاجز من الخشب من غربيّه ووُضع المنبر إلى جنب محراب المالكية، وافتُتح في رمضان سنة 1316 هـ في حفلة ضخمة حضرها الوالي والعلماء والوجهاء. ثم بُدئ بالقسم الآخر، وكان أول ما بُني منه محراب الحنفية، وزخرفوه هذه الزخرفة التي تُرى الآن وبلغت نفقات بناء المحراب كما خبّرني الأستاذ الأسطواني ألف ليرة ذهبية، وقد لام الناس اللجنة على البداءة به، فاحتجت بأنه لو لم يُبدأ به لما بُني. وتم بناء القسم الأوسط من المسجد في منتصف شعبان سنة 1318، واكتمل البناء كله واحتفل بافتتاحه في 28 جمادى الأولى 1320، بعد الحريق بتسع سنين فقط.

وبعد، يا أيها القراء، فإن هذا المسجد العظيم الذي يقطع السياح نصف كرة الأرض ليشاهدوه ويعجبوا من عظمته وجلاله، وهذه القبة السامقة التي لا يطاولها بناء في دمشق، بل تبدو العمارات معها كالصبية الصغار مع الرجل الطُّوال، وهذا الزخرف وهذا الجمال، كله من صنع أهل دمشق، أنفقوا عليه من أموالهم، وعملوه بأيديهم، وإن الذين هندسوه وعمروه كانوا جماعة من النجّارين الشاميين الذين لم يدرسوا في مدرسة ولم ينالوا شهادة في الهندسة، الحموي ومعاونوه والتوام وملص وإخوانهم، وإن الذين نقشوه هذا النقش البارع الذي جاء على مثال النقش القديم وأربى عليه هم أولاد أبي نجيب الدهان الشامي العامي، وأنهم هم الذين صنعوا هذه الشبابيك العجيبة الثلاثة التي هي فوق المحراب، والثلاثة المقابلة لها. لقد بنت دمشق هذا المسجد العظيم على قلة العلم يومئذ، وضعف الأدوات، وفقد الآلات، ليقوم دليلاً على أن الإيمان والإخلاص يصنعان كل شيء. فإذا شككتم في أن الإيمان يعمل العجائب ويأتي بالخوارق، فهاكم قبة الأموي قائمة تنطق، شاهدة بأن الإيمان قوة تدحر القوي، وكنز يزري بالكنوز. ورحمة الله وتحياته وبركاته على كل من شارك بسلطانه أو بيده أو بفكره في إقامة هذا الصرح المبارك، من لدن معاوية والوليد إلى يوم الناس هذا، وعلى كل من سيعمل فيه في الأيام القادمات، وجزاهم الله جميعاً خير الجزاء.

[1] جاوز الآن المئة والعشر ولا يزال ذهنه حاضراً، وذاكرته قوية، ولا يزال يُرجع إليه ويُستفتى مدّ الله في عمره. قلت: توفي حمه الله عن مائة وثماني عشرة سنة، ولم يضعف له فكر، ولا ذاكرة.

الإصلاحات الجديدة

تقرير من مهندس الأوقاف

السيد مكين المؤيد

إن الفترة التي نؤرخ لها الآن تنحصر فيما بين عام 1919 ميلادية وعام 1959[1]، أي ابتداءً من انتهاء الحرب العالمية الأولى. ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى وتبتدئ من عام 1919 لغاية عام 1940، والمرحلة الثانية وتبتدئ من عام 1941 لغاية عام 1949، والمرحلة الثالثة وتبتدئ من عام 1950 لغاية عام 1959.

المرحلة الأولى:

حرت إصلاحات المرحلة الأولى بمعرفة دائرة الأوقاف وإشراف القائم – بالنظارة على الجامع، وقد بلغت تكاليف هذه الإصلاحات نحواً من ألفي ليرة عثمانية ذهبية، ومن أهم الأعمال التي تمت خلال هذه المدة: تبليط باحَتْي مدخل بابَي البريد والنوفرة الداخليّيْن بالرخام وترخيم جدران باب البريد، وتركيب البلاط القاشاني، وتبديل العمود الكبير في باحة الأموي في الجهة الشرقية الشمالية، وإصلاح المنارة الغربية، إذ رمِّمت الدرابزينات وجدّد الهلال النحاسي، وتركيب سطرين من القاشاني المنقول من قبة الوزير (أقوش النجيبي) في السويقة، فوق محرب الحرم الكبير، يتضمّنان آيات قرآنية من سورة الرحمن، ونزع الكلسة عن الفسيفساء، وإكمال النواقص في مدخل باب البريد، والرواق الغربي، وعمل مجاري الماء في الجملونات (سطح الحرم) من (بيتون) مسلح، بدلاً عن مجاري الرصاص التي كانت ترشح منها المياه إلى خشب السقف، وإصلاح الرخام المشقف في محراب الشافعي، وتبليط القسم الشرقي من أرض باحة الصحن ببلاط أحمر مزي.

المرحلة الثانية:

اشتركت في الإصلاحات في هذه الفترة دائرة الأوقاف ومديرية الآثار، وقد بلغت تكاليفها مئة ألف ليرة سورية تقريباً، وهذه أهم الأعمال التي تمّت خلال هذه الفترة:

في عام 1941 تم فكّ القسم العلوي من المثمن المتصدع من منارة سيدنا عيسى (أي الشرقية)، وإعادته مجدداً كالسابق، وتم ترميم وتصليح وتكحيل القسم السفلي من بقية المنارة، وجدّدت الداربزينات الخشبية، وفي عام 1942 تم إصلاح الفسيفساء الآيل للسقوط في قوس الزاوية الشمالية الغربية، ومن عام 1943 لغاية عام 1947 تمت الأعمال الآتية:

أ‌- بعد تدعيم الجدران وتأمين الأخطار وتعليق الأقواس العلوية والسفلية في الباحة، من جدار الرواق الشمالي لجهة الشرق، فُكّ القسم الأول المتداعي المائل.
ب‌- فُكّت العضادة الحجرية المتصدّعة، والأقواس في الزاوية الشرقية، وكشف سقف الرواق الخشبي، وفكّت الأحجار العاطلة من أساسات الجدران.
ت‌- أعيد البناء كما كان بعد إزالة الأحجار المفتّتة والمتصدعة والعاطلة، وأعيدت العضادة والأقواس، وجرى تركيب العمود السفلي الكبير مجدداً بدلاً عن القديم البالي. كما جرى تبديل العمود العلوي الصغير مجدداً بدلاً عن القديم. ثم فكّ القسم الثاني المتصدع من الجدار الشمالي المذكور، ثم أعيد بناؤه من جديد.

وأخيراً فكّ القسم الثالث من الجدار المذكور الواقع خلف الرواق عند بيت المؤذّنين، وأزيل القسم العاطل منه، وأعيد مجدّداً بعد ترميم وتصليح الأساسات.

ومن 1948 إلى 1949 تمت الإصلاحات الآتية:

كشف قسم من الممرّ الذي عثر عليه تحت باحة باب النوفرة الخارجية، وتحرّر من الردم وأصلحت جدرانه وسقفه، وتم هدم الجدار الخارجي الواقع جنوبي مدخل النوفرة، نظراً لتصدعه وأعيد بناؤه مجدداً، ثم جرى إصلاح الجدار المقابل الواقع شمالي مدخل النوفرة خلف مشهد الحسين وتم تكحيله، ورممت الواجهة الخارجية لمدخل النوفرة وكُحّلت بالإسمنت، وأخيراً جدّدت الأعمدة الأربعة المتصدّعة في الزاوية الشمالية الغربية للرواق مع قواعدها.

المرحلة الثالثة:

وتبتدئ من 1950 إلى نهاية 1959، وأعمال هذه الفترة جرت بمعرفة مديرية الأوقاف في دمشق، وتحت إشراف مديرية الآثار، وقد بلغت تكاليفها 365 ألف ليرة تقريباً، ومن أهم الأعمال التي تمت خلال هذه الفترة الأعمال الآتية:

في عام 1950 هدم جدار المشهد الشرقي للحرم (الشهير بالسفرجلاني) المتصدع من جراء الحريق وأُعيد بناؤه مجدّداً مع تجديد أساساته، ثم جرى تبليط أرض المشهد المذكور، وأُصلح محرابه، وأنشئ به موضّأ وخزان للمياه. وفي عام 1951 فكّت الأقواس الثلاثة العاطلة في الرواق الشمالي القسم الشرقي منه، وأبدل العمودان الحجريان العاطلان بعمودين كبيرين وتم تجديد الأساسات، ثم أعيدت الأقواس وما فوقها، وجرى تجديد البابين الخشبين في مدخل النوفرة، وأُعيدت الزخارف النحاسية وأُكملت نواقصها، وجرى تصليح الباب الكبير الوسطاني. وفي عام 1952 عملت تروس خشبية مزخرفة مع البلوُّر الملون في قوس باب النوفرة، وباب المسكية الكبيرين، وأعيد سقف القسم المنتهي إصلاحه من الرواق الشمالي، وذلك من خشب مجدد، ورصاص أعيد صبّه مجدّداً مع الدهان الزياتي كالأصل، وأُعيد الفسيفساء إلى الأقواس الثلاثة، وأُعيد محراب مشهد الدخولية (الغزي) المتهدم من خيوط عربية رخامية كالسابق، وأُعيد إصلاح المشقف في محراب المالكي ضمن الحرم.

وفي عام 1953 فكت الأقواس المزدوجة الثلاثة في الرواق الشرقي، وجرى تبديل العمودين الصغيرين العاطلين، ثم أُعيدت الأقواس كالسابق تماماً، ثم نُزعت كلسة الجدران في رواق مشهد الحسين من جهة الباحة، وأُصلحت أماكن العطل المتعددة، وصُبّت عتبات النوافذ بالإسمنت وجُدّد منجورها، وجرى تبليط أرض مشهد الوضوء. وفي عام 1954 أكمل نزع جدران الرواق والأقواس وأُلغيت نهائياً، وأُظهر الحجر الطبيعي بعد لقطه وتكحيل فواصله، ودّهنت أسقف الأروقة بالدهان الزياتي، وجُدّد باب العمارة الخشبي العاطل وأُعيد إليه زخرفة النحاس وأُكملت نواقصه. أُصلحت عضادات الرواق الشمالي المنقوشة كالأصل، وتم إصلاح مئذنة التوقيت بجانب منارة العروس، وتم تبليط الباحة الخارجية أمام مدخل النوفرة من رخام وحجر أسود وشعيرة حجرية، وجُدّدت نوازل المطرية من الجهة الشرقية من بواري حديد عوضاً عن قساطل الفخار البالية، وجرى تبديل عمود (الغرانيت) الكبير المتصدّع والمقيّد بطوق حديدي بعمود آخر نقل من جامع تنكز.

وفي عام 1955 تم تبديل عمودين كبيرين عاطلين في الرواق الغربي بعمودين (غرانيت)، كالذي تم في عام 1954 سابقاً، أحدهما أُخذ من أرض الصحن، والثاني جلب من اللاذقية، وجُدّدت القواعد الحجرية لهذه الأعمدة بعد تجديد الأساسات، وتم إصلاح فسيفساء بعض أقواس الرواق الغربي وأُكملت نواقصه. وأُكمل بناء القسم العلوي من الزاوية الشمالية الغربية من الرواق. وجدّد السقف الخشبي العاطل من مشهد الوضوء وصُبّ البيتون المسلح بظهر السطح، ودُهن السقف الخشبي المذكور بدهان زياتي. وجُدّدت ستة أعمدة صغيرة في القسم العلوي من الرواق. وفي عام 1956 تم إصلاح الرخام المشقف والمزخرف الكائن في العضادة الشمالية من باب البريد وأُكملت نواقصه، وتم تجديد نوازل المطرية في القسم الغربي عوضاً عن السيالات الفخارية البالية، وتم تكليس واجهة باب البريد الخارجية، وتم تكحيل القسم الحجري بالإسمنت، وتم تطبيق جفت الحرم جهة الصحن، مع صب بيتون مسلح ودهان زياتي للجفت المذكور، مع متابعة تصليح الفسيفساء العاطل.

وفي عام 1957 فك الرخام المزخرف المشرف على السقوط والمشوّه في جدران مدخل باب النوفرة الداخلية، وأُعيد بصورة منسقة بعد إبعاد العاطل منه والاستعاضة بالرخام المجدد، وتم فتح الباب الذي وُجد مخفياً تحت الرخام القديم، وهو باب صغير لجهة مقام الحسين، وتم تجديد البابين الجانبيين لمدخل باب البريد من خشب مجدد، وأُعيدت الزخارف النحاسية والنقوش الأثرية وأُكملت النواقص مجدداً، وتم إصلاح وترميم السلالم الحجرية في المناور الثلاثة، وفكّت الآيات القرآنية المنقوشة في الحجر في جدار الرواق الغربي، وأُعيد تركيبها وأُكملت نواقصها مع المحافظة على وضعها الأثري، وأُصلحت قبة (الخزنة) الغربية مع تكحيلها بالإسمنت، وتزريقها بالكلس والمونة وصُبّت ألواح رصاصية مجددة لسطوحها الخارجية. وفي عام 1958 تم متابعة إصلاح الفسيفساء العاطل في أقواس الرواق الغربي، وتم إصلاح الباب الخشبي الأثري الكبير في مدخل باب البريد، وبعد حذف العاطل منه من (خشب أو نحاس) أعيد كما كان في السابق، حيث أُعيدت إليه الزخارف والنقوش والخيوط النحاسية، وتم إصلاح مدخل الكلاسة، وتم نصب السقايل في مدخل باب البريد، وبوشر بإصلاح الدهان الزياتي العربي المزخرف في سقف المدخل، حيث قد عفى عليه الزمن، وغُطّي بطبقة كثيفة، أحالت لونه حتى أصبح مكمداً من جراء رشح مياه الأمطار، وتم متابعة فك أقسام الفسيفساء الآيل للسقوط، في منطقة باب البريد القسم العلوي، وإعادتها بعد إكمال نواقصها كما كانت، وتم إصلاح خشب سقف منطقة مدخل باب البريد، وجدّد صب رصاص السطح، وصبت مجاري مسلحة من إسمنت، وعملت زريقة داخلية لسقف المدخل (زلحقة) سلحفاة لمنع دلف المياه نهائياً، وقد أُبدل العمودان الصغيران في القسم العلوي في مدخل باب البريد.

وفي عام 1959 متابعة في الدهان الزياتي لسقف باب البريد، وأكثرها ضرورةً الموجود في باب السنجق، وإصلاح محاريب الحرم، حيث تضررت من الرطوبة، والسدة ودهانها الزياتي العجمي، وتبليط أرض الصحن، والأروقة، وخلافها من الأعمال التكميلية، كالزخارف الرخامية والخشبية والجصية. وتقدّر تكاليف هذه الأعمال بمبلغ مليون ونصف المليون ليرة سورية، هذا عدا عن تكاليف مشروع تحرير حول الأموي، الذي هو قيد الدراسة لدى أمانة العاصمة.


[1] وفي سنة طبع هذا الكتاب، أما ما جدّ بعدها فلا أعرف عنه إلا القليل، لأنني أقيم في مكة المكرمة من أكثر من ربع قرن.

خاتمة

تبين أن حرائق الأموي كلها (إلا الأخير منها) إنما امتدت إليه من البيوت الملاصقة له، التي تستر جماله، وتخفي عظمته، وتشوّه منظره، وتعرّضه للخطر، مع أنه لا يتصل به الآن من جهة الحرم إلا دكاكين واطية من الخشب واللَّبِن، لا تكلّف إزالتها إلا القليل، هي دكاكين الحذائين في السوق الضيق[1]، ودكاكين (القباقبية) التي توقد فيها النار طول النهار، فإذا أُزيلت انكشف سور الحرم كله، وظهر الباب القبلي القديم، وهذا الاقتراح الأول.

الثاني – أن لكل باب من الأبواب دهليزاً، وأكبرها ما كان من جهة النوفرة، وقد كشف من سنين بالمصادفة أن درج النوفرة لم يُبّن على أرض حرة، بل إن تحته قاعة مبنية، فلو حول الطريق بعد إزالة دكاكين القباقبية، حتى امتد موازياً للجدار القبلي، وأُزيلت أدراج النوفرة وأُظهرت هذه القاعة، وجُعل لها باب ليزورها السياح والناس، لكان منها منفعة للدارس ومورد للدولة.

ولقد كان من الشائع أن تحت الأموي معبداً للصابئة، ذكر ذلك ابن تيمية في بعض كتبه، والصابئة قد تُطلق على طوائف من الوثنيين كأصحاب المعبد الأول، فإذا امتد الحفر من تحت الدرج، ظهر المعبد، كما ظهر بالمصادفة، من سنين، أن تحت جامع بيروت جامعاً آخر وأن تحت كل عمود عموداً آخر.

الثالث – وهذا طلب بعيد الإجابة، هو أن دمشق أقدم المدن المسكونة اليوم على ظهر الأرض، لا خلاف في هذا، وكلما حفر أرضها للبناء أو للمجاري ظهرت آثار مطمورة، من أحدث ما ظهر منها الأعمدة التي كشف عنها في طريق الباب الشرقي، وأخطأت دائرة الآثار فرفعتها فجعلتها فوق الأرض، مع أن الواجب تركها على العمق الذي ظهرت فيه ليتبيّن ما طرأ على أرض المدينة من ارتفاع.

إذا كانت الحفريات قد أظهرت في مدينة بابل ثلاث مدن بعضها فوق بعض (رأيت ذلك بعيني)، فإن دمشق إن اقتطعت منطقة منها كالمنطقة التي بين نهاية ما فتح من شارع معاوية والباب الشرقي والسور الجنوبي وأُخليت وأُجريت فيها حفريات لظهرت ست مدن بعضها فوق بعض، ولتغيّرت دراسة التاريخ القديم، ولكان من ذلك أعظم منطقة أثرية في العالم، وكان لنا منه مورد مالي لا ينقطع، ولوجدنا تُحَفاً وكنوزاً لا تقدّر قيمتها.

وليبدأ الحفر من الخراب، ومعلوم أن هذه البقعة سميت بـ (الخراب) لأنها تخرّبت على عهد تيمورلنك لا جزاه الله خيراً، وأنها تظهر صحون الدور القديمة وبركها بأقل حفر يكون فيها. وتحت ذلك طبقات إسلامية، ثم طبقة رومانية، ثم طبقات، الله أعلم بها.

والرابعة – أن يُفتح من باب الأموي شارع مستقيم إلى ظاهر البلد، وأقرب وسيلة إلى ذلك هي شق الطريق من باب العمارة إلى شارع بغداد، وأكثره مفتوح، والبيوت الباقية في طريقه من البيوت الرخيصة، وفي فتحه نفع لتلك الأحياء، وما يؤخذ من المالكين من (رسم الشرفية) يقوم بنفقات الفتح ويُعطى أرباب البيوت المهدومة بدلاً منها في المساكن الشعبية، كما كان عند فتح شارع البحصة.

وأنا أشكر الأستاذ عبد الرحمن الطباع الأمين العام لوزارة الأوقاف أن أشار بتأليف هذا الكتاب، وللأستاذ ظهير الكزبري مفتشها العام أن أشرف على إخراجه.

وأشكر الأستاذين عبد القادر العاني وحمدي الحلبي على ما أمداني به من أخبار المسجد في عهده الأخير التي لم يدوّنها التاريخ.

وأشكر الأستاذين صلاح الدين المنجد ومحمد أحمد دهمان على ما استفدته من مباحثهما ومنشوراتهما.

وأشكر الأستاذين عبد القادر الريحاوي مفتش الآثار، وأبا الفرج العش على نظرهما في الكتاب، وعلى ما أبدياه من ملاحظات.

وأشكر كل من يتفضل فيدلّني على نقص فيه، أو يرشدني إلى خطأ لا سيما في الأرقام التي لا آمن عليها التحريف عند الطبع.

والحمد لله من قبل ومن بعد.

      • [2]

[1] كلمة السوق مؤنثة ويجوز تذكيرها، والدرج جمع درجة فهي مؤنثة ولكني اتبعت الاستعمال الشائع.

[2] حاشية: وقف الدكتور صلاح الدين المنجد على (ضبط التحقيق) في حريق الأموي سنة 740 محفوظ في جامعة لبدن، قدم لها مقدمة قيّمة ونشرها في مجلة المجمع العلمي الجزء (1) المجلد (31) ثم أفردها برسالة على حدة فليطلع عليها من شاء الوقوف على أسرارها.

من آثار المؤلف

1- رسائل الإصلاح 1348 هـ

2- بشار بن برد 1348 هـ

3- رسائل سيف الإسلام 1349هـ

4- الهيثميات 1349 هـ

5- في التحليل الأدبي 1353هـ

6- عمر بن الخطاب – جزآن 1352 هـ (تحقيق وتعليق)

7- كتاب المحفوظات 1355هـ

8- في بلاد العرب 1939م

9- من التاريخ الإسلامي 1939م

10- أبو بكر الصديق 1986م

11- قصص من التاريخ 1983م

12- رجال من التاريخ 1986م

13- صور وخواطر 1982م

14- قصص من الحياة 1980م

15- في سبيل الإصلاح 1959م

16- دمشق 1959م

17- أخبار عمر 1983م

18- مقالات في كلمات 1959م

19- من نفحات الحرم 1980م

20- سلسلة حكايات من التاريخ 1960م

21- هتاف المجد 1960م

22- من حديث النفس 1981م

23- الجامع الأموي 1960م

24- في أندونيسيا 1960م

25- فصول إسلامية 1960م

26- صيد الخاطر لابن الجوزي 1978م

27- فكر ومباحث 1960م

28- مع الناس 1960م

29- بغداد 1960م

30- سلسلة أعلام التاريخ 1979م

31- فتاوى علي الطنطاوي 1986م

32- ذكريات علي الطنطاوي ج1 1985م

33- ذكريات علي الطنطاوي ج2 1985م

34- ذكريات علي الطنطاوي ج3 1986م

35- ذكريات علي الطنطاوي ج4 1986م

36- ذكريات علي الطنطاوي ج5 1987م

37- ذكريات علي الطنطاوي ج6 1988م

38- ذكريات علي الطنطاوي ج7 1989م

39- ذكريات علي الطنطاوي ج8 1989م

40- تعريف عام بدين الإسلام 1974م

وله مئات من البحوث والمقالات في عشرات من الصحف والمجلات.