التحالف السياسي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٢:٣٨، ٣ أغسطس ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
التحالف السياسي

إهداء

إلى السائرين بقلوبهم في طريق الإسلام

من شهيد، نعيش على ومضات جهاده، ونستلهم منه ما نشاء

وجريح، رافع الهامة، صابر لتحيا القلوب بالإباء

وأسير، شامخ، طأطأ له الجمع، خجلاً وحياء

ومجاهد، راح يغدو، وبيمينه يرفع اللواء

إلى هذا وذاك، رواحل دون الخوالف، كالقمم الشماء

إلى الزاحفين لرفع رايات الإسلام، يمتطون صهوة المجد إلى العلياء

إلى من انتظرا ثمرة غرسهما، والدي الغالي وأمي الحنون، رمزي البذل والعطاء

إلى زوجتي، التي حملت معي آمال المستقبل، وشاركتني المشقة والعناء

إلى ابنيَّ اللذين زاحمهما هذا البحث شيئاً من حقوقهما، بكر وبراء

إلى إخواني جميعاً، الذين أحاطوني بالعون والحب والدعاء

أهدي هذا البحث، إلى أولئك وهؤلاء

تقريظ

بقلم الأستاذ: إسماعيل هنية

الأخ الحبيب / مشير ( أبو بكر ) حفظه الله ورعاه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يطيب لي أن أعبر لكم عن عظيم شكري وتقديري لهديتكم القيمة وهي عبارة عن نسخة من رسالة الماجستير التي حصلت عليها من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية تحت عنوان " المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة "، وقد قرأت الرسالة كاملة وتنقلت بين رياضها فوجدت فيها ما تطمئن له النفس السوية، وتنعم به الروح الوثابة، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ومن عظيم ما اشتملت عليه الرسالة أنها تضمنت مباحث عدة، في مواضع قيمة، تصلح أن يكون كل منها بحث مستقل، وقد حصلت الفائدة منها بتفصيل غير ممل، وإيجاز غير مخل، فأبحرت الرسالة في بحر العلم الزاخر منه نصيباً وافراً ولله الفضل والمنة.

لقد وجدت فيها لقضايا الساعة تأصيلاً شرعياً ودراسة وافيه، ما يعتبر تنويراً للسالكين في طريق العمل الإسلامي، بل ويفتح الآفاق الرحبة أمام عمل سياسي، بعيداً عن حرج الأعراف التي توارثتها العامة وربما الخاصة أيضاً من غير دليل أو برهان.

وكما ذكرت فإن أهمية الرسالة في أنها تناولت قضايا هامة تعايشها الحركة الإسلامية، وحاولت وبشكل علمي ومنطقي أن تتلمس حلولاً لبعض المعضلات التي تبدو متناقضة في اعتباراتها، كواجب الحركة الإسلامية في إصلاح السلطة السياسية الفاسدة وضرورة التعايش معها في آن، أخذاً بالمصلحة وفق فقه موزون، وفكر استراتيجي قادر على التعامل مع الواقع دون إفراط وتفريط.

ومما يسهم في حرية الرأي والاجتهاد أن الرسالة قد أوضحت أن القضايا المختلف عليها في العمل الإسلامي هي شرع ودين سواء لمن يؤيد أو يعارض، فكلا الفريقين يستند في اجتهاده إلى الكتاب والسنة والمعقول، مما يعلم اتباع الإسلام سعه الصدر.

والبعد عن الاتهام أو التجريح، واحترام الرأي والاجتهاد، طالما أن ذلك لا يتعارض مع النص القرآني أو النبوي، غير أن سعة الدعوة وتشعب العمل فيها، والحكمة في تقدير المصلحة من المفسدة، هي التي ترجح الأخذ بالرأي من عدمه،

وذلك يحتاج إلى أن يصدر عن هيئات قيادية تلتزم بالشورى وتقود الناس إلى الخير والصلاح، وهذا بفضل الله ما رسخته الرسالة، فصار من يأخذ بالرأي في القضايا الواردة فيها، مطمئن أنه على دين ، بل ويأوي إلى ركن شديد، عماده الضوابط الشرعية والأدلة النقلية، وهذا خلق ينبغي أن يترسخ لدي العاملين في حقل الدعوة الإسلامية،

بل ويزدادوا تجمّلاً به، خاصة في ظل هذا الواقع المركّب والمتشابك، والتحديات الجسيمة التي تعترض المسير، مما يستوجب أن تتسع الصدور للآراء والاجتهادات، مهما بدت في ظاهرها متباينة، ما التزمت بشرع الله ومقصده، وانطلقت من تقدير المصلحة، ورفع الحرج، ودفع الضرر، وكل ذلك إنما يتم حسمه في المؤسسات المقرّرة، وهذا ما يشي بافتراق الآراء وقت النقاش، يعقبه تلاق على ما فيه مصلحة العباد والبلاد.

وأؤكد هنا أن من حقنا أن نزهوا ونفتخر بهذا الإرث العظيم، في علم السياسة الإسلامي، والذي أبرزته هذه الرسالة وليس من موقع النقل فقط، بل وبتصرف كان فيه برهان على حيوية الفكر الإسلامي، وقدرته على المعايشة مع القضايا المستجدة،

مهما بلغت تعقيداتها، بذلك في إطار الموازنة بين ثوابت الشريعة ومتغيرات العصر، وما يزيد من رسوخ أقدامنا في هذا المجال، إن إسلامنا وفقهنا الحركي فيه تبيان لك شئ، لأنه ينهل من كتاب الله غز وجل الذي ذكر فيه قوله سبحانه: } مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ {([1]).

إن ما حملته الرسالة من مواضيع وعناوين، هي بمثابة بضاعة السياسي المسلم، التي يمكنه أن يحملها ويعرضها دون تردد في ميادين السياسة ومحافلها المختلفة، خاصة في دوائر العمل الفلسطيني المشترك، والتي يتصور شركاؤنا فيها، أنهم أكثر منا خبرة، وأنجع تجربة، وأوضح فكراً، بل تصوراٌ خطأ أن المندوب الإسلامي ما لدى مفاهيم عامة وكلية،

وعن أقضية الحكم، وعلم السياسة والمجتمع، ولكنه غير قادر على تطبيقها في واقع الناس، وربما ذهب بعضهم إلى أن أفكارنا وطروحاتنا بعيدة عن الواقع، ولا تلبي طموح الجمهور، وما علموا ـ كما عملينا من هذه الرسالة

ـ أن سعة الحكم الإسلامي ورحابته، وكفالته للحرية السياسية، والتعددية السياسية، فضلاً عن التفاصيل الممتعة والمعلقة بحق الترشيح وحق الانتخابات، وحق تولى الوظائف العامة، والحق في غزل الحكام ومراقبته ـ ما علموا حينئذ ـ أن بضاعتنا هي خير وأبقى.

وصحيح أن جماعة الإخوان المسلمين التي نعتز بالانتماء إليها، من هذا الفقه السياسي في المشاركة في البرلمانات، والتحالف مع بعض الأحزاب، والدخول في بعض الوزارات، وهذا ميّز الجماعة عن غيرها، غير أن أهمية رسالتكم أنها بمثابة المادة الشرعية والعملية،

التي تشكل زاداً لأبناء الحركة، وموئلاً يرجعون إليه، كلما أرادوا أن يدللوا على صواب مواقفهم وحجيتها، أقول كذلك صحيح أن الكتب التي تناولت هذه القضايا عديدة والمكتبات غنية بها، غير أن اعتزازنا بهذه الرسالة كونها نتاج واحد من إخواننا وشباب حركتنا الميامين.

ومن لطائف الرسالة أن هذا العرض الشافي للفكر السياسي الإسلامي، فيه أمان للمتخوفين من تسلم الحركة الإسلامية الحكم يوما ما، أن تسطوا على أفكارهم، وتقمع حرياتهم، أو تفرض عليهم ما يكرهون، فتبين هنا أن لهم حرية الرأي، والتحزب، والمشاركة، والتداول على السلطة، وكل ذلك سمت من سمات دعوتنا الربانيه، وهذا ما يؤكد أن الأزمة هي أزمة الأنظمة الحاكمة التي قامت على أساس القمع، والإرهاب الفكري، والإقصاء السياسي للحركة الإسلامية، وليست أزمة الحركة الإسلامية التي يمكن أن تحكم يوماً ما ويتفيؤ حينها الناس ظلال الإسلام وقسطه وبره وعدله.

ومما يزيد من سعادتي بهذه الرسالة، أن المشرف عليها هو الأخ الدكتور مازن هنية عميد كلية الشريعة سابقاً ورئيس لجنة الإفتاء حالياً، وموضع اعتزازي الشخصي والعائلي لعلمه وعظيم جهده وحسن استدلالاته، وشكرت الله سبحانه أن قيّض لطلبة العلم من أمثال الأخ الدكتور وإخوانه المناقشين الأفاضل، كي يسلكوا هذه الدروب الرحبة والممتعة، من دروب الشرع والفكر الإسلامي، ويظهروا لنا من فضائل وجواهر الأعمال والأقوال.

وأسال الله سبحانه أن يجزيهم عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يرزق الدكتور " أبا إسماعيل " الذرية الصالحة الطيبة لقاء هذا الجهد المبارك فهو على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.

ولقد ذكرت ـ أخي ـ في ختام رسالتك القول ( إن هذا هو جهد المقل) وهو من قبيل عدم تزكية النفس امتثالاً لقوله سبحانه } فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ {([2]).

ولكنا نشهد أن هذه الرسالة هي ثمرة المجتهد وفرحة المقتصد، ونتاج الابن البار لدعوة السماء الذين نفتخر بهم، ولكل مجتهد نصيب.

وإن كان لي من توصية في ختام رسالتي هذه فأقول والله المستعان:

أولاً: على الأخوة العاملين في الحقل السياسي الإسلامي، الإطلاع على هذه الرسالة، والعلم بها والعمل بمقتضاها، بل ودوام المطالعة والتفحص في هذه الأمورالمأصّلة، وذلك أراه ضرورة حركية وفريضة علمية.

ثانياً: سوف أوصى إخواني ضرورة طباعة هذه الرسالة، وأن نجعل منها كتاباً تحفل به المكتبات، ويرجع إليه طلبة العلم، ويستنير به ذو الرأي، ونحاجج بما ورد فيها من لا يرى في دعوتنا إلاًّ ما يرغب أن يراه، وذلك جهلاً منه بالدين أو عداءً له وللعاملين من أجل نصرته.

ثالثاً: العمل على تعميمها على أبناء الحركة، واعتبارها منهجاً لازماً، من أجل إشاعة الوعي والتثقيف السياسي، المعتمد شرعاً، وهذا الأمر بات ضرورياً للمنتسبين إلى الحركة الإسلامية، وهو يتأهلون أن يكونوا في موقع الريادة والصدارة، بل والقيادة إن شاء الله تعالى.

والله أسال أن يجعل ذلك في ميزان أعمالكم، ومضلة لكم يوم الزحام، وأن يجرى لك ثوابه وأجره إلى يوم القيامة فإذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث ....

منها علم ينتفع به، وذلك بعد طول عمر وحسن عمل، ولقد صدقت فيك حكمة عمرو ابن العاص وأنت ترجّح بين الآراء في الرسالة.

" ليس العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف الخير بين الشرين "

وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخوكم إسماعيل هنية (أبو العبد)

الأربعاء 12 محرم 1425هـ الموافق 3/3/ 2004م

تقريظ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، رب السماوات والأرض، ورب العرش العظيم، والصلاة والسلام على نبي الهدي والرحمة، سيدنا محمد r، وآله، وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين، وبعد:

إن الإسلام هو دين الرحمة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه؛ حيث قال:

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ([3]).

فالإسلام يدعو إلى الحق والخير والعدل ومكارم الأخلاق، وينهي عن الظلم، والفحشاء، ومساوئ الأخلاق.

وقد جاء الإسلام باحترام الإنسان، وإثبات حقه، وكرامته، حيث قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ([4]).

وتظهر ملامح هذا التكريم في أمور شتى، كاحترام إنسانيته وحريته، وإلغاء الفوارق بين الناس على أساس الجنس أو العرق أو اللون، واحترام الإنسان في عقله، وفكره، ودينه، وعقيدته؛ فتفتحت لهذا الدين العقول، وانشرحت له الصدور، ودخله الناس أفواجاً.

وواجب المسلمين أن يقدموا الإسلام إلى الإنسانية جمعاء كما ارتضاه رب العالمين لهم، وذلك بتدبره بحكمة، ووعي، ودقة، تجعلهم قادرين على فهم روحه وجوهره، ومقاصده، فيقدموه بمحاسنه، وسماحته، يسره.

وهذا ما تمكن السلف الصالح من تحقيقه والقيام به.

بالرغم من كل التحديات، والمصاعب التي واجهتهم؛ فالنجاح الذي حققه المسلمون الأوائل لم يكن بسبب ضعف التحديات، وقله العقبات والصعوبات التي كانت تواجههم، بل إن سبب النجاح الذي حققوه هو بعد توفيق الله تعالى ما امتلكوه من عزم وإرادة قويه، استندت إلى فهم صحيح، ودقيق وعميق لشريعة الله، وحكمة بالغة؛ فتمكنوا من خلال كل ذلك من تجسيد الإسلام في واقع الحياة كما أنزل من السماء بيسره، وسماحته، ورحمته.

ومن هنا فإن الواجب على المسلمين في عصرنا هذا هو إدراك أن العقبة أمام تحقيق آمالهم، وأحلامهم، واستعادة عزتهم وكرامتهم ليست في حجم التحديات، وكثرة الصعوبات والعقبات التي تواجههم، بل في مدى الخلل في فهمهم لدينهم، وإدراكهم لروحه ومقاصده، ومن ثم الانطلاق في الواقع استنادا إلى هذا الفهم.

وما نراه من تخبط في واقع الأمة، وشطط في الفكر والرأي، والانحراف من الطرف إلى الطرف النقيض له، يرجع إلى تصدى من يعلم ومن لا يعلم للقول في دين الله افتياتاً وافتراء عليه، وظلما له، بما يسيء إليه، فيُظهر الإسلام على غير حقيقته، من السماحة، واليسر، والعزة، والكرامة.

من هنا فإن واجب الأمة وهي تتحرك حركة دءوبة نحو استعادة عزتها وكرامتها، هو أن تكون على درجة عالية من الفهم الدقيق والعميق لدين الله، لتكون قادرة على ترجمته في واقع الحياة ترجمة صادقة تُعبير عن طبيعته وحقيقته.

وهذا يحمل علماء الأمة، والباحثين من أبنائها مسئولية كبيرة للنظر في كل المستجدات الفقهية، والتي تتعلق بكافة شئون الحياة، واستنباط التشريعات الملائمة لها، وما تعلق بالحياة العامة وتنظيم شئون الدولة يجب أن يوجه له مزيد من الاهتمام والعناية، لما له من الخطر، والأثر على الأمة في أصل مصالحها، كل أولئك لتبصير الأمة بأمر رشدها، وفلاحها، لتمضي على بصيرة من أمرها.

والسياسة الشرعية واحدة من اخطر الميادين لما فيها من تنظيم للعلاقات الداخلية والخارجية، وتوجيه للدولة توجيها سديدا يحقق لها المصلحة، ويدرء عنها المفسدة، وإذا كان رسم المنهج الدقيق للنظام السياسي الإسلامي الخارجي من

الأهمية بمكان، فإن تنظيم العلاقة الداخلية لا تقل أهمية، بل هي الأهم.

وانطلاقاً من ذلك، فقد جاء بحث الأخ مشير عمر المصري؛ الموسوم بـ (المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة؛ دراسة فقهية مقارنة) والذي تقدم به استكمالا لمتطلبات الحصول على درجة الماجستير من قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بغزة،

ليعالج مسائل ذات أهمية قصوى في مرحلة دقيقة في حياة الأمة؛ إذ تفتقر الأمة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها إلى كل دراسة علمية تتصف بالموضوعية، والحكمة، والدقة، والشفافية، والجرأة؛ لتكون مصباحا يبدد الظلام، وينير للأمة دربها، ينقذها من تيه الظلم.

فجاءت الرسالة تعالج مسائل كثر الجدل حولها، وخاض فيها الخائضون بغير علم تارة، أو بعواطف ومشاعر تارة أخرى؛ بعيدا عن الموضوعية والحكمة، وانحرافاً عن مقاصد التشريع.

وغايته، وأهدافه، وتعصبا لآراء ظنية محتملة، يجوز العدول عنها لغيرها، فجعلوها في حكم الأصول والقواطع، أو من المعلوم من الدين بالضرورة، والتي لا يجوز تركها أو الخروج عنها؛ إذ إن الخروج عنها انحراف عن الحق إلى الضلال.

فكان من الموضوعات الهامة التي عالجها الأخ مشير هي التعددية السياسية، والمشاركة في المجالس النيابية، والوزارة، والتحالفات السياسية في الواقع العاصر؛

فجاءت معالجته لهذه الموضوعات متصفة بالموضوعية، والشفافية، والحكمة ملتزمة بمنهج علمي أصيل، فتحرى في كل مسألة بحثها، ما للعلماء من أراء، فذكرها، وأتبعها بما ينصفها من أدلة؛ تظهر ما فيها من وجاهة.

ثم انتهي إلى بيان الراجح من الأقوال معتمدا قوة الدليل، ووجاهته، إضافة إلى حرصه على أن يكون ترجيحه منسجما ومقاصد الشريعة وروحها، ملاحظا الواقع بكل حيثياته، ودقائقه، بما يساهم مساهمة واضحة في إظهار الدقة والمرونة والقيم الأخلاقية العالية التي يستند إليها النظام السياسي الإسلامي.

يضاف إلى ذلك ما تضمنته ترجيحاته من إعطاء المسلمين المرونة والسعة في اتخاذ القرار المناسب الذي يتحرى مصلحة المسلمين، ويبتعد عما يلحق بهم الفساد.

وبكل أولئك خرجت هذه الرسالة المتخصصة في ثوبها العلمي، الأصيل، موضوعا ومنهجا، مما يجعلها إضافة متميزة للمكتبة الإسلامية.

فأسأل الله تعالى أن ينفع بها المسلمين، وأن يجعلها في ميزان حسناته، وأن يرقى الله به إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة.

والله ولى التوفيق

د. مازن إسماعيل هنية

عميد الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية

تقريظ

الحمد لله الذي كفل لهذه الأمة أن يبعث لها على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها، فهو الذي نزَّل الذكر، وهو الحافظ له، إذ يهيئ من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين، فينفوا عنه انتحال المبطلين، وغلو الجاهلين، ومُجون العابثين.

وبعد:

فقد اطلعت على رسالة الشاب الباحث / مشير عمر المصري في فقه السياسة الشرعية حول المشاركة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة مؤصلة من الفقه الإسلامي، حيث مهَّد لهذا الموضوع الحيوي بتناول أسس النظام السياسي في الإسلام، فأكد أن الحاكمية لله، وأن العدل والمساواة، والطاعة، والشورى،

هي أساس الملك، ثم أصَّل للتعددية السياسية في الإسلام منطلقاً من الحرية السياسية التي ينبثق عنها حرية الحزبية بضوابطها الشرعية التي تنطوي على وجوب الإيمان بالله، والرضا بالإسلام، واتباع الرسول r، مع السمع والطاعة للخليفة الشرعي، والعمل على وحدة الأمة المسلمة وأن يكون الدافع لذلك مصلحتها الكلية، والتنافس الشريف القائم على النصح والحوار الأخوي، ونبذ الخلاف والفرقة، وغير ذلك.

ثم تناول في الفصل الثاني المشاركة في المجالس النيابية والوزارة بضوابطها كذلك من الحرص على خدمة الإسلام بجلب المصالح للأمة، ودرء المفاسد عنها، مع اشتراط أن يكون المرشحون لهذه الأمة من أكفأ المتخصصين الموثوق في دينهم وقوتهم في المنافحة عن الإسلام.

ومصلحة الأمة، مع ضرورة إخضاع التجربة للتقييم والتقويم؛ حتى لا تكون تورطاً مهيناً، فإن القوم يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل، بل أن تميلوا ميلاً عظيماً.

وقد خصَّصَ الفصل الثالث والأخير للتحالف السياسي في الإسلام واضعاً له طائفة من الضوابط كذلك من المصلحة الحقيقية للأمة، وانتفاء الاحتواء، مع وجوب متانة الصف الإسلامي بالانضباط والسمع والطاعة، وغير ذلك.

وقد لخَّص الأستاذ الباحث في خاتمة بحثه أهم النتائج التي توصل إليها، ونقل طائفة من الملاحق حول الآراء والفتاوى الصادرة عن كثير من رموز الفكر والفقه المعاصرين، بما يشهد بصحة ما انتهى إليه من الاجتهاد المحمود إن شاء الله.

وقد امتازت رسالته بحسن الصناعة، فالتبويب والترتيب، وسلاسة الأسلوب، ووضوح الفكرة، واستقامة اللسان، كلها تشي بما يتمتع به هذا الباحث من الثقافة وسعة الأفق، وهو ما يبشر بمستقبله الواعد على طريق الدراسة والتأصيل للمزيد من قضايا الفقه، لاسيما الفقه السياسي، وإنني لأتمنى له التوفيق والسداد، والرضوان والمثوبة.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم

د. يونس الأسطل

عميد كلية الشريعة في

الجامعة الإسلامية سابقاً

مقدمة

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنار قلوبنا بالقرآن، والصلاة والسلام على أشرف خلق الأنام، سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه الكرام، ومن استنَّ بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين ... وبعد:

فقد وصلت الأمة الإسلامية إلى منحدر خطير ـ لم يسبق أن وصلت إليه ـ بعد سقوط الخلافة الراشدة، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم، وعاشت واقعاً مريراً مهترئاً في ظل ليل دامس مظلم، مما دفع بعض الغيورين المخلصين لأمتهم أن يسعوا جاهدين لتكثيف الجهود من أجل إعادة الأستاذية للأمة الإسلامية من جديد، فقامت الجماعات، ونشأت الأحزاب السياسية الإسلامية، لتذود عن حياض هذه الأمة، وتقوم بواجبها الدعوى، عملاً بقوله تعالى:

{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }([5]).

وفي ظل هذا الواقع السياسي المؤلم، وتَرَبُّع الأنظمة الحاكمة على سدة الحكم، وقد غُيِّبَت الشريعة الإسلامية عن سياستها، وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد، من المجالس النيابية والوزارية، والتحالفات السياسية وغيرها، رأى العاملون للإسلام أن دورهم في طريق التغيير والإصلاح سيظل ضعيفاً،

طالما أنهم قد حصروا أنفسهم في الوسائل التقليدية، ولم يواكبوا المرحلة، وأن لا بد من خوض غمار الحياة السياسية، فشارك أبناء الصحوة الإسلامية في أكثر من بلد عربي وإسلامي في المجالس النيابية، وأبرموا التحالفات السياسية مع غيرهم من الأحزاب ليقووا شوكتهم، ومنهم من تقلد مناصب وزارية، فثار الجدل والخلاف بين أوساط العاملين في حقل الدعوة.

ومن هنا جاءت هذه الرسالة، لتطرق باب المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة، لتؤصل القضايا تأصيلاً فقهياً، و لتسد ثغرة، وتبني لبنة في واقع الفقه السياسي، حتى تتضح هذه المعالم، وتستجلي أنظار الإسلاميين في تحديد مواقفهم السياسية، على أسسٍ وقواعدَ شرعية.

أهمية الموضوع:

إن السياسة دين، تعبَّدنا الله سبحانه وتعالى بها، كما العبادات وغيرها، وإن توضيح معالم هذه السياسة جدُّ مهم، بخاصة في ظل الواقع المعاصر الذي نعيش، فالمجالس النيابية والوزارية، والتحالفات السياسية، وغيرها لا بد أن يكون للمسلمين فيها وقفة سياسية شرعية.

ويمكن إجمال أهمية الموضوع في النقاط التالية:

1. يعتبر هذا الموضوع من القضايا الفقهية المعاصرة التي أضحت تسري كالدم في الجسد، والتي لا بد من إماطة اللثام عنها، والتأصيل الشرعي لها، وبيان فلسفتها، لمواكبة التطور العالمي الجديد.

2. إن الجماعة المسلمة

ـ وهي تعيش ظلال هذا الصحوة العظيمة

ـ يجب أن تعرف دورها المطلوب، وعملها المرتجى لخدمة هذا الدين من كل بؤرة.

3. تجلية أنظار الدعاة في تحديد مواقفهم السياسية على أسس شرعية، وإبراز مدى إمكانية التعامل مع أنظمة الحكم المعاصرة.

4. دراسة هذه القضايا المستجدة دراسة فقهية متأنية، تستهدف ترشيد الصحوة الإسلامية، فإن الدراسة التي تعالج واقع الأمة أكثر رجاءً من الدراسات الأبعد عن واقعها.

أسباب اختيار الموضوع:

بالإضافة إلى ما للموضوع من أهمية، فقد اخترته للأسباب التالية:

1. رغبة في أن يأخذ الموضوع حقه من البحث كدراسة علمية منهجية شاملة، فهو على أهميته لم يأخذ حقه ـ فيما اطلعت ـ من اهتمام علمائنا الكرام.

2. لمعرفة موقف الإسلام من التعددية السياسية، والمشاركة في المجالس النيابية، والوزارة، وكذلك التحالف السياسي.

3. إبراز معالم الشريعة، واستجلاء مواقفها في هذه القضايا المستجدة، على أسس يرتكز عليها أبناء الصحوة، لينبذوا بذور الفرقة والنزاع والاتهام.

4. إظهار الضوابط الشرعية في المشاركة السياسية في الحكم، حتى لا يتمادى المشاركون بإطلاق، لاسيما وأن الأنظمة الحاكمة أقصت الشريعة كلياً أو جزئياً عن سياستها.

5. المساهمة في إثراء المكتبة الإسلامية، ليفيد العامة والخاصة، وليكون علماً ينتفع به، في قضايا أضحت تشكل حساسية عظيمة بين أبناء الدعوة الإسلامية.

خطة البحث:

وصولاً إلى أهداف البحث وغاياته، قسمت الخطة إلى ثلاثة فصول، يسبقها فصل تمهيدي، وتعقبها خاتمة

الفصل التمهيدي

أسس النظام السياسي في الإسلام

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول الحاكمية:

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الحاكمية.

المطلب الثاني: موقف المؤمنين والكفار من الحاكمية.

المطلب الثالث: الحاكمية وأنظمة الحكم المعاصرة.

المبحث الثاني العدل والمساواة:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: مفهوم العدل والمساواة.

المطلب الثاني: موقف غير المسلمين من العدل والمساواة.

المبحث الثالث: الطاعة:

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الطاعة.

المطلب الثاني: حكم الطاعة.

المطلب الثالث: حدود طاعة الأمراء والحكام.

المبحث الرابع الشورى:

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الشورى.

المطلب الثاني: حكم الشورى وفوائدها.

لمطلب الثالث: الشورى والديمقراطية المعاصرة.

الفصل الأول

التعددية السياسية في الإسلام

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: السياسة والحرية السياسية في الإسلام

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف السياسة.

المطلب الثاني: الحرية السياسية في الإسلام.

المبحث الثاني: التعددية الحزبية السياسية في ظل الدولة الإسلامية، وأنظمة الحكم المعاصرة

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الحزبية، ووظائفها.

المطلب الثاني: الأحزابالسياسية في التاريخ الإسلامي.

المطلب الثالث: حكم التعددية السياسية في الدولة الإسلامية.

المطلب الرابع: حكم التعددية السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة.

المطلب الخامس: الموقف من الأحزاب غير الإسلامية.

المبحث الثالث: ضوابط التعددية السياسية

الفصل الثاني

لمشاركة في المجالس النيابية والوزارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: المشاركة في المجالس النيابية

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول:ـ مفهوم المجالس النيابية.

المطلب الثاني:ـ حكم المشاركة في المجالس النيابية.

المطلب الثالث:ـ ضوابط المشاركة في المجالس النيابية.

المبحث الثاني: المشاركة في الوزارة

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول:ـ مفهوم الوزارة.

المطلب الثاني:ـ حكم المشاركة في الوزارة.

المطلب الثالث:ـ ضوابط المشاركة في الوزارة.

الفصل الثالث

التحالف السياسي في الإسلام

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: مفهوم التحالف.

المبحث الثاني: حكم التحالف السياسي.

المبحث الثالث: ضوابط التحالف السياسي.

الخاتمة:

وتتضمن أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.

([1]) سورة الأنعام: من الآية (38).

([2]) سورة النجم: من الآية (32).

([3]) سورة الأنبياء: الآية (107).

([4]) سورة الإسراء: الآية (70).

([5]) سورة آل عمران: الآية (104).

الفصل التمهيدي أسس النظام السياسي في الإسلام

وفيه أربعة مباحث:

  • المبحث الأول: الحاكمية.
  • المبحث الثاني: العدل والمساواة.
  • المبحث الثالث: الطاعة.
  • المبحث الرابع: الشورى.

المبحث الأول الحاكمية لله

ويتكون من ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الحاكمية

المطلب الثاني: موقف المؤمنين والكفار من الحاكمية

المطلب الثالث: الحاكمية وأنظمة الحكم المعاصرة

المطلب الأول مفهوم الحاكمية

الحاكمية في اللغة:

مشتقة من الحُكْمِ: وهو القضاء، وأصله المنع، يقال: حَكَمْتُ عليه بكذا، إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك؛ وحَكَمْتُ بين القوم:

إذا فَصَلْتُ بينهم، فأنا حاكم وحَكَمٌ، والجمع: حُكَّام؛ وحَكَمْتُ: بمعنى منعت ورددت، ولهذا قيل للحاكم بين الناس حاكم؛ لأنه يمنع الظالم عن الظلم([1]).

والحُكْمُ: العلم، والفقه، قال الله تعالى عن سيدنا يحيى u: } وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً {([2])، أي علماً وفقهاً، وهو مصدر حكم يحكم، وجمعه أحكام([3]).

ومادة الحُكْمِ: من الإتقان، يقال:

أحكمت الشيء، إذا أتقنته، فاستحكم هو: صار كذلك([4]).

الحاكمية في الاصطلاح:

تعني: " أن مصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله تعالى وحده "([5]).

ومفهوم الحاكمية يجد جذوره في كتب أصول الفقه([6]) التي قرر أصحابها كلهم أن الحاكم هو الله تعالى، كما دل القرآن الكريم على ذلك في كثير من المواضع؛ كما في قوله تعالى: }إِن الحُكْمُ إِلا للهِ{([7])، فقد ورد في كتب الأصول في مبحث الحاكم:

" لا حاكم سوى الله تعالى، ولا حكم إلا ما حكم به "([8]).

" الحاكم هو الشرع دون العقل "([9]).

" الحاكم لا خلاف في أنه الله ربُّ العالمين "([10]).

ويقول الشاطبي ـ رحمه الله ـ: " فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق، وعلى العموم، أي على الرسول r، وعلى جميع المكلفين، والكتاب هو الهادي، والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع "([11]).

يظهر جلياً أن اعتبار الحاكم هو الله تعالى أمر لا ينكره أحد.

يقول شارح مسلَّم الثبوت في أصول الفقه ـ رحمه الله ـ: " إن اعتبار الحاكم هو الله، أمر متفق عليه بين أهل السنة والمعتزلة "([12]).

الحاكمية في الكتاب والسنة:

تضافرت آيات القرآن الكريم في تقرير: أن كل ما في السماوات والأرض مخلوقات انفرد الله سبحانه وتعالى بخلقها، لا ينازعه فيها أحد، فهو الخالق المالك، له مقاليد السماوات والأرض، وبيده ملكوت كل شيء، فقال سبحانه وتعالى: } أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض {([13])، وهو الله المحيي المميت الرزاق، قال عز وجل: } اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ{([14])، وهو الله الواحد الذي لا يشاركه في ملكه أحد، قال سبحانه: } وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ {([15]).

وبمنطق العقل السليم، فإن خالق الشيء هو الذي يقدر خلقه، وأن مالكه هو الذي يتصرف في ملكه كيف شاء، وعلى هذا فإن الله الخالق المالك الرازق هو المتصرف فيما خلق بالموت والحياة، وبتدبير شئونهم، وتسيير أحوالهم؛ وبذلك تقررت الحاكمية لله تعالى، والأدلة على كثيرة أكتفي منها بآيتين كريمتين، وحديث:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال سبحانه: } إِنِ الحُكْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلا إِيَّاهُ {([16]).

وجه الدلالة: قرر الله تعالى اختصاصه وتفرده بالحكم، فبين أن لا حكم لسواه من الخلق، وليس لأحد أن ينازعه في الحكم والتشريع.

2. وقال تعالى: } فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {([17]).

وجه الدلالة: يقسم الله تعالى بنفسه المقدسة، أنهم لا يدخلون في الإيمان حتى يُحَكِّموا رسوله r في أقضيتهم، ثم يطيعوا حكمه، وينفذوا قضاءه، طاعة الرضى، الذي هو التسليم([18]).

فالقرآن الكريم قد اعتنى عناية فائقة بالحاكمية، ويرجع هذا الاهتمام إلى أن مصير الأمة متعلق بهذه القضية، فإن كانت الحاكمية لله عز وجل في جميع نواحي الحياة وجزئياتها سعد الناس، فاطمأنت أنفسهم؛ لأن النظام الرباني الذي شرعه الله تعالى، والذي ينظم حياتهم قد جاء موافقاً لفطرتهم([19]).

ثانياً: السنة:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي r: " يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ: خِصَالٌ خَمْسٌ إِن ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَنَزَلْنَ بِكُمْ، أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ..." وذكر منها: " وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ إِلا جَعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ "([20]).

وجه الدلالة: يفيد هذا الحديث أن تنحية ولاة الأمور شرع الله تعالى عن الحكم، يعد ابتلاء عظيماً، نتيجته البأس والفرقة، والعداوة بينهم.

المطلب الثاني موقف المؤمنين والكفار من الحاكمية

أولاً: موقف المؤمنين من الحاكمية:

إن موقف المؤمنين من الحاكمية يتمثل في إقرارهم بها، والتزامهم بتطبيقها في واقع حياتهم، واعتبارها غاية تهفو إليها قلوبهم.

1. الإقرار بالحاكمية:

إنَّ الحكم بما أنزل الله هو إفراد له عز وجل بالطاعة والعبادة: } إِنِ الحُكْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُواْ إِلا إِيَّاهُ {([21])، وإن الكفر بالطاغوت هو تحقيق لوحدة العبادة، القائم على نفي الألوهية عما سوى الله تعالى: } فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا {([22]).

2. الالتزام بحكم الله:

ومن هنا لما خاطب الله تعالى المؤمنين بوجوب الالتزام بتعاليم هذا الدين، والانقياد له، واجتناب ما دونه بقوله سبحانه: } اتَبِعُواْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُواْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا ًمَا تَذَكَّرُونَ {([23])، انقاد المؤمنون لنداء ربهم، وسارعوا لتطبيق أوامره سبحانه وتعالى، حتى سجل القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى: } إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ {([24]).

3. تحقيق العدل، ونشر الخير:

إن غاية المؤمنين أن يقيموا القانون الإلهي، ويحققوا العدل، وينشروا الخير:

} الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ {([25]).

فصفات من يستحقون تأييد الله وعونه ونصرته، أنهم إذا ما أُعطوا السلطة والحكم نهجوا على إقامة الصلاة، وأنفقوا أموالهم في إيتاء الزكاة، وكرَّسوا حكومتهم لخدمة وإعلاء ألوية الخير، واستخدموا سلطتهم في كف الشر وبتره والقضاء عليه، لا في نشره وإزكائه([26]).

ثانياً: موقف الكفار من الحاكمية:

إن موقف الكفار من الحاكمية يتمثل في:

1. صدهم لرسل الله:

أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل عليهم السلام مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب؛ ليتخذها الناس منهج حياة، يحكمونها في كل شؤونهم: } كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِييِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ{([27]).

ولكن سرعان ما وقف الطواغيت بقوة ليصدوها، ويحدوا من انتشار هذه الدعوة التي من شأنها أن تزعزع مضاجعهم، وتغير مجرى حياتهم.

2. رفض الشريعة، وجحود الحاكمية مع إقرار لله بالخلق والرزق والتصرف في الكون:

وحقيقة الصراع الذي دفع الطواغيت على مر التاريخ للوقوف في وجه الرسل ودعوتهم، ليس لكونهم لا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق والرازق، بل إنَّ محور الصراع كان يدور حول الحاكمية.

فقد كان المشركون قبل الإسلام، وفي عهد النبي r، يؤمنون أن الله هو خالقهم وخالق السماوات والأرض، حيث قال سبحانه وتعالى: } وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ {([28]).

وكانوا على يقين أن الله هو الرازق، وأنه المتصرف في هذا الكون، تحدث عنهم القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: } قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {([29]).

فإيمانهم بهذه الحقائق، وتنكرهم لمبدأ الحاكمية الذي يتناقض وأطماعهم الشخصية من حب الزعامة والرياسة، دفعتهم لعبادة الأصنام؛ ليتقربوا بها إلى الله } مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللهِ زُلْفَى {([30]).

وكانوا يظنون أنها تشفع لهم يوم القيامة } هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ {([31]).

لأجل ذلك اعتبرهم الإسلام كفاراً؛ لأنهم وإن كانوا يؤمنون بالله تعالى ويعتقدون أنه الخالق الرازق المتصرف في هذا الكون، إلا أنهم لم يقروا بالحاكمية له عز وجل، فرفضوا شريعته التي وضعها للبشرية لتنظم حياتهم، وآثروا أن يبقوا على دين آبائهم وأجدادهم؛ ليتحرروا من كل قيد } وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْا كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ {([32]).

المطلب الثالث الحاكمية وأنظمة الحكم المعاصرة

1. الحاكمية من العقيدة:

يُعَدُّ الحكم في الإسلام من صميم الإيمان، وهو جزء من التوحيد؛ ذلك أنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته؛ لذا عَدَّ القرآن الكريم المتبوعين من دون الله تعالى أرباباً لمتبوعيهم، فقال سبحانه عن أهل الكتاب: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ اْبْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلا لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{([33]).

فالشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق الحكم والتشريع لغير الله من عباده؛ ذلك لأنه يُخِلُّ بجزء من العقيدة. يقول الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ: " والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر "([34]).

فمن أنكر الحاكمية بإعطاء حق الحكم والتشريع للبشر، أو ادعاها لنفسه، فقد جعل من نفسه نداً لله تعالى، ونازعه في أخص خصائص الألوهية.

يقول الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله ـ: " إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية، سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية، ومن نازع الله سبحانه أهم خصائص الألوهية، وادعاها، فقد كفر بالله كفراً بواحاً، ويصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة "([35]).

2. واقع أنظمة الحكم المعاصرة:

إن تشريع الأحكام، وسن القوانين من حقه سبحانه وتعالى، وما دونه لم يأذن به الله } أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ {([36]).

وعلى هذا من ادعى الحاكمية لنفسه، أو أنكرها عنه سبحانه، واتبع أو حكم بغير ما أنزل الله، فقد كفر، وأصبح مرتداً خارجاً عن ملة الإسلام، وقد جاءت نصوص القرآن الكريم لتؤكد على أن من لم يحكم بما أنزل الله يعد كافراً وظالماً وفاسقاً.

يقول عز وجل: } وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ {([37]).

ويقول سبحانه: } وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {([38]).

ويقول تعالى: } وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ {([39]).

فقد أكد الله تعالى هذا التأكيد، وكرر هذا التقرير في موضع واحد؛ لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله، وعموم مضرته، وبلية الأمة به([40]).

والناظر لواقع أنظمة الحكم المعاصرة يراها أقصت الشريعة الإسلامية عن الحكم كلياً أو جزئياً، وعطلت أحكامها في شؤون الحياة، وآثرت المبادئ العلمانية، والقوانين الوضعية لتتربع على سدة الحكم بدلاً من شريعة الله، وهذا يعد ابتلاء عظيماً يوقع أصحابه في طريق الانحراف عن المنهج الرباني.

هذا هو واقع أنظمة الحكم المعاصرة، فهي تؤمن بالإسلام عقيدة، وتنكره نظاماً، ومنهج حياة.

يقول الأستاذ عبد القادر عودة ـ رحمه الله ـ: " ولست أدري كيف يؤمن

هؤلاء بالإسلام عقيدة، ولا يؤمنون به نظاماً! أتراه عقيدة من عند الله ونظاماً من عند غير الله ؟! }قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا{([41])"([42]).

كما بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: القول الفصل فيمن رغب عن شرع الله، وآثر غيره قائلاً: " والإنسان متى أحلَّ الحرام المجمع عليه، أو حرَّم الحلال المجمع عليه، أو بدَّل الشرع المجمع عليه، كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء"([43]).

([1])ابن منظور:لسان العرب (2/143 – 144).

الرازي:مختار الصحاح (1/61).

الفيومي:المصباح المنير ، مادة: حكم.

([2]) سورة مريم: من الآية (12).

([3]) ابن منظور: لسان العرب (2/142).

([4]) الفيومي: المصباح المنير .

([5]) زيدان: الوجيز في أصول الفقه .

([6]) الآمدي: الأحكام (1/119)، السبكي: الإبهاج (1/135)، الشاطبي: الاعتصام (2/338)، الشوكاني:

إرشاد الفحول (1/25)، الغزالي: المستصفى (1/66)، ابن أمير حاج: التقرير والتحبير (2/119).

([7]) سورة الأنعام: من الآية (57).

([8]) الآمدي: الأحكام (1/119).

([9]) السبكي: الإبهاج (1/135)، الشوكاني: إرشاد الفحول (1/25).

([10]) ابن أمير حاج: التقرير والتحبيير (2/119).

([11]) الشاطبي: الاعتصام (2/338).

([12]) الأنصاري: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (1/25).

([13]) سورة المائدة: من الآية (40).

([14]) سورة الروم: من الآية (40).

([15]) سورة الإسراء: من الآية (111).

([16]) سورة يوسف: من الآية (40).

([17]) سورة النساء: الآية (65).

([18]) قطب : في ظلال القرآن (2/693).

([19]) أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام .

([20]) البيهقي: شعب الإيمان (3/197)، الطبراني: المعجم الأوسط (5/62)، المنذري: الترغيب والترهيب (1/309)، والحديث صحيح، الألباني: السلسلة الصحيحة (1/206 ح 106).

([21]) سورة يوسف: من الآية (40).

([22]) سورة البقرة: من الآية (256).

([23]) سورة الأعراف: الآية (3).

([24]) سورة النور: الآية (51).

([25]) سورة الحج: الآية (41).

([26]) المودودي: الحكومة الإسلامية.

([27]) سورة البقرة: من الآية (213).

([28]) سورة لقمان: من الآية (25).

([29]) سورة يونس: الآية (31).

([30]) سورة الزمر: من الآية (3).

([31]) سورة يونس: من الآية (18).

([32]) سورة البقرة: الآية (170).

([33]) سورة التوبة: الآية (31).

([34]) البنا: مجموع الرسائل.

([35]) قطب: في ظلال القرآن (4/1990).

([36]) سورة الشورى: من الآية (21).

([37]) سورة المائدة: من الآية (44).

([38]) سورة المائدة: من الآية (45).

([39]) سورة المائدة: من الآية (47).

([40]) ابن القيم: إعلام الموقعين (2/280).

([41]) سورة النساء: من الآية (78).

([42]) عودة: المال والحكم في الإسلام.

([43]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (3/267).

المبحث الثاني :العدل والمساواة

ويتكون من مطلبين

المطلب الأول: مفهوم العدل والمساوة

المطلب الثاني: موقف غير المسلمين من العدل والمساواة

المطلب الأول مفهوم العدل والمساوة

الفرع الأول: مفهوم العدل

العدل في اللغة:

العَدْلُ: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور، ويقال: عَدَلَ عن الطريق عُدُولاً، مال عنه وانحرف.

والعَدْلُ: الحكم بالحق، يقال: هو يقضي بالحق، ويعدل، والعَدْلُ والعِدْلُ والعَدِيلُ سواء، أي النظير والمثيل، فعِدل الشيء مثله من ضده، أو مقداره.

والتعادل:

التساوي، وعدَّلته تعديلاً فاعتدل: سوَّيته فاستوى، وعَدَلْتُ فلاناً بفلان، إذا سوَّيت بينهما، وتعديل الشيء، تقويمه، يقال: عدَّلته تعديلاً، فاعتدل، إذا قومته فاستقام([1]).

العدل في الاصطلاح:

عرفه الجرجاني ـ رحمه الله ـ بقوله: " هو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط "([2]).

ويقول في موضع آخر: " والعدل مصدر بمعنى العدالة، وهو عبارة عن الاستقامة على طريق الحق، بالاجتناب عما هو محظور ديناً "([3]).

العدل في الكتاب والسنة:

إن الشريعة الإسلامية جاءت لإحقاق الحق، وإقامة العدل، وإرساء قواعده، وإخراج الإنسان عن الظلم وداعية الهوى؛ فالعدل يمثل دعامة وطيدة وميزة حقيقية للشريعة الإسلامية، ويشهد لذلك ما جاء في كتاب ربنا، وسنة نبينا r.

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله سبحانه: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً{([4]).

وجه الدلالة: في هذه الآية أمر الله تعالى عباده أن يكونوا مبالغين في تحري العدل، ودعاهم أن يكونوا شهداء بالحق والعدل، دون التأثر بهوى النفس من قرابة أو مودة، فقط أن يقيموا الشهادة خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، والتزاماً لتعاليمه، حتى ولو على أنفسهم، أو أقرب الناس إليهم.

2. قال الله عز وجل: } إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ {([5]).

وجه الدلالة: يخاطب الله تعالى ولاة أمور المسلمين أن أدوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم، وحقوقهم، وأموالهم، وصدقاتهم إليهم على ما أمركم الله تعالى بأداء كل شيء من ذلك إلى من هو له، وإذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بالعدل والإنصاف، ذلك حكم الله الذي أنزله في كتابه، وبينه على لسان رسوله r([6]).

ثانياً: السنة:

قال النبي r: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ " أولهم " الإِِمَامُ العَادِلُ"([7])، وقال: " إِذَا حَكَمْتُمْ، فَاعْدِلُواْ، وَإِذَا قَتَلْتُمْ، فَأَحْسِنُواْ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مُحْسِنٌ، يُحِبُّ الإِحْسَانَ"([8]).

وجه الدلالة: يدل الحديثان على أن الحاكم مأمور بالعدل في حكمه، واختصاصه بمنزلة عظيمة، حيث يكون من الذين يستظلون بظل الله يوم القيامة.

الفرع الثاني: مفهوم المساواة:

المساواة في اللغة:

السَّوَاءُ: العدل، قال الله تعالى: } فَاْنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ {([9]) يقال: سَاوى الشيءُ الشيءَ، إذا عادله؛ ويقال:

فلان وفلان سَواء، أي متساويان؛ وقوم سَواء؛ لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع؛ وهما على سَوِيَّةٍ من هذا الأمر، أي على سواء؛ والسَّوِيَّةُ وَالسَّوَاءُ: العدل والنصفة؛ وسَوَاءُ الشَّيْءِ: وسطه، قال الله تعالى: } فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ {([10]) ، يقال: مكان سواء، أي متوسط بين المكانين.

وسَوَاءُ الشيء: مثله، والجمع أسواء، ومنه: استوى الشيئان وتساويا: تماثلا.

وَسَوَاءُ الشيء: غيره، تقول: مررت برجل سُواك وسِواك وسَوائِك، أي غيرك، وقصد القوم سوى زيد، أي غيره([11]).

المساواة في الاصطلاح:

يمكن تعريف المساواة بأنها: " تَمَاثُلٌ كَامِلٌ أَمَامَ القَانُونِ، وَتَكَافُؤٌ كَامِلٌ إِزَاءَ الفُرَصِ، وَتَوَازُنٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَفَاوَتَتْ حُظُوظُهُمْ مِن الفُرَصِ المُتَاحَةِ لِلجَمِيعِ "([12]).

فالمساواة خضوع لسلطان قانون الإسلام الذي لا يفرق بين واحد وآخر، وليس لأحد أن يدعي الرقي والتمتع بالحقوق، فلم يجعل منزلة أو ميزة حقاً لأفراد أسرة معينة لا يستمتع بها سواهم، فكل مناصب الدولة من إمارة المؤمنين إلى أصغر منصب فيها، حق مشاع بين أفراد الأمة([13]).

المساواة في الكتاب والسنة:

المساواة سمة من سمات الإسلام، وأصل من أصوله، فالإسلام يقرر أن الناس سواسية، وفي ظله تذوب فوارق الجنس واللون، وتتحطم صفة الحسب والجاه والسلطان، فلا تفاضل بينهم في إنسانيتهم، وإنما التفاضل يرجع إلى أسس أخرى.

فالله تعالى خلق الناس بحسب فطرتهم متماثلين، وكذلك ولدتهم أمهاتهم أحراراً متكافئين، ولكن دخولهم في ملاحم الحياة الاجتماعية ينزع عنهم لباس التماثل والتساوي، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات([14]).

والأدلة في الشريعة الإسلامية تترى في تقرير هذا المبدأ:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم {([15]).

وقال سبحانه: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً {([16]).

وجه الدلالة: في هاتين الآيتين ينادي الله تعالى الناس قاطبةً، ويردهم إلى الأصل الذي انبثقوا منه، ليقرر أن هذه البشرية جنسها واحد، ونسبها يتصل في رحم واحد، ومن اجتمعت فيهم هذه الأصول، فلا مجال لأن يدعي أحدهم العلو بالفروق الطارئة على الإنسانية، فربهم واحد، وأبوهم واحد، وهم متساوون في جميع الحقوق.

2. قال عز وجل: } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً {([17]).

وجه الدلالة: إن الله تعالى أرسل نبيه r للناس جميعاً، ولم يختص به فئة دون

فئة، أو أمة دون أخرى، وكذلك أرسله رحمة للعالمين } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ {([18]).

ثانياً: السنة:

1. أكد النبي r على مبدأ المساواة الذي قرره القرآن الكريم في حجة الوداع فقال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلا إِنَّ رَبَّكُم وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُم وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ عَلَى أَعْجَمِي، وَلا لعْجَمِي عَلَى عَرَبِي، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلا بِالتَّقْوَى "([19]).

وجه الدلالة: يفيد الحديث أن الناس كلهم سواء، وأن الفوارق الطارئة بين البشر ليس لها قيمة في ميزان الإسلام؛ بل القيمة والفضل فقط بالتقوى.

2. قال r " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عَيْبَةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ "([20]).

وجه الدلالة: بين النبي r أن الإسلام قد ألغى الجاهلية وما فيها من عنصرية، ووضع معياراً واحداً فقط للتفاضل بين الناس، ألا وهو تقوى الله تعالى.

ثالثاً: في حياة الصحابة :

تجلى إرساء المساواة في حياة الصحابة y بالمواقف العظيمة التي وقفوها يوم أن تبوؤوا الخلافة والإمارة، فلم يستعلوا على الناس، ولكن نادوا بتواضع:

أن لا فرق بين حاكم ومحكوم، فهذا أبو بكر الصديق t حينما تولى الخلافة يقول: " أما بعد أيها الناس! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن الصدق أمانة والكذب خيانة، الضعيف منكم قوي عندي، حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله "([21]).

وهذا عمر بن الخطاب t يقول لسعد بن أبي وقاص t ـ لما ولاه إمارة الجيش ـ: " يا سعد سعد بني وهيب! لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله، وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة "([22]).

والإسلام قرر الحماية القانونية، والمساواة أمام القضاء حتى لغير المسلمين، فها هو عمر t يقول لعمرو بن العاص t ـ يوم أن استكبر ابنه على شاب قبطي ـ: " متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهامتهم أحراراً؟! "([23]).

المطلب الثاني موقف غير المسلمين من العدل والمساواة

لم يَرُقْ للذين تربعت الدنيا بزخرفها على قلوبهم، وقد تشبثوا بالوسائط المادية، أن يذعنوا للإسلام، وهو ينادي بأن الناس سواسية كأسنان المشط، وأنهم كلهم متساوون في الحقوق السياسية وغيرها، ولا فرق بين غني وفقير، ولا وجيه وصعلوك، ولا حاكم ومحكوم، كيف وهم الأغنياء أصحاب الحسب والجاه والسلطان، يرون أنفسهم سادة فوق الناس، ويتفاخرون بآبائهم وأجدادهم؟!

فقد جاء الإسلام ليحطم كل هذه النعرات، ويذيب الفوارق، فالله سبحانه وتعالى يضع الأنساب يوم القيامة، ولا يرفع إلا من انتسب إليه: } فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ {([24]).

والرسول r يبين أن التكبر والتفاخر بالأنساب يوصل صاحبه إلى النار، فقال: " أَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى: أَنَّ هَذَيْنِ المُنْتَسِبَيْنِ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا المُنْتَمِي، أَو المُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ، فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا المُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الجَنَّةِ، فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الجَنَّةِ "([25]).

وها هو r يحذر من أمور الجاهلية، فيقول: " أَرْبَع فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنجوم، وَالنِّيَاحَةُ "([26]).

وقد ترجم النبي r المساواة منذ إشراقة الدعوة الإسلامية، حيث كان يجمع في مجلسه الأغنياء، كأبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، والفقراء،

كبلال، وصهيب رضي الله عنهما، فأبى مشركو قريش أن يجتمعوا والضعفاء في مجلس واحد، وقالوا لرسول الله r: نريد أن تجعل لنا منا مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك، فأقمهم عنا،

فإذا نحن فرغنا، فاقعد معهم إن شئت، فنزل قوله تعالى: } وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ{([27])"([28]).

والأمم قبل الإسلام كانت تعرف معنى العدل والظلم، ولكنها ما كانت تعرف حدود كل منهما، فكانت تلك الحدود متداخلة، شأنها في ذلك شأن أكثر المعاني المجردة إذ ذاك، فإذا نظرنا إلى الشعب اليوناني نراه قد فَرَّق بين من ينتسب إلى أصل يوناني.

وبين من لم يَمُتَّ إليه بسبب، فجعل للأولين جميع الحقوق الوطنية، وخولهم حق السيادة على الآخرين؛ وجاراه في ذلك الشعب الروماني مضيفاً إلى ذلك شيئاً من الغلو، فلم يفرق بين من هو من أصل روماني وبين غيره فحسب، بل فرق بين الخاصة والعامة أيضاً، فجعل للأولين الزعامة والقيادة والحماية، وفرض على الآخرين الخضوع والانقياد والطاعة([29]).

واليهود كانوا ولا يزالون يعتقدون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وهم الذين قالوا عن طالوت القائد المختار من الله: } أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ {([30])، يعني أنه ليس من نسل الملوك، إنما هو من سبط وضيع ليس أهلاً للقيادة.

والعرب في الجاهلية كانوا يتألفون من طبقتين: الطبقة العليا، وتضم الملوك والأشراف يتربعون على العرش، ويحكمون وفق هواهم، والطبقة الدنيا، وتضم

العبيد والإماء والرعاة والخدم وغيرهم([31]).

والأمم الديمقراطية التي تدعي أن العالم الإنساني مدين لها بمبادئ العدل والمساواة، لا تزال تسير في سياستها بما يخالف هذا المبدأ، وإن طبقته وأرست معالمه في حياتها، إلا أن نظرتها تظل قاصرة تنبع من عقل دنيوي.

من خلال هذا، وتتبع موقف غير المسلمين من العدل والمساواة، ونظرة الإسلام إلى هذه القضية يشعر الإنسان بسمو مبادئ الإسلام، وهي تدعو إلى العدل والمساواة بين الناس قاطبة، في الوقت الذي يرى دعوة الطواغيت إلى الفرقة والاختلاف والتشرذم.

أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم([32])

([1]) ابن منظور: لسان العرب (11/430 – 432).

الرازي: مختار الصحاح (1/176).

الفيومي: المصباح المنير (2/44 – 45)، مادة: عدل.

([2]) الجرجاني: التعريفات (1/191).

([3]) السابق (1/191- 192).

([4]) سورة النساء: الآية (135).

([5]) سورة النساء: من الآية (58).

([6]) الطبري: التفسير (5/146).

([7]) البخاري: الصحيح (كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد 1/234 ح 629)، من حديث أبي هريرة

([8]) الطبراني: المعجم الأوسط (6/40 ح 5735)، والحديث صحيح، الألباني: السلسلة الصحيحة (1/840ح469).

([9]) سورة الأنفال: من الآية (58).

([10]) سورة الصافات: من الآية (55).

([11]) ابن منظور: لسان العرب (1/318 – 319)، الرازي: مختار الصحاح (1/136).

([12]) عمارة: الإسلام والأمن الاجتماعي (ص: 95).

([13]) خلاف: السياسة الشرعية (ص: 42 – 43).

([14]) حسين: الحرية في الإسلام (ص: 27).

([15]) سورة الحجرات: من الآية (13).

([16]) سورة النساء: من الآية (1).

([17]) سورة سبأ: من الآية (28).

([18]) سورة الأنبياء: الآية (107).

([19]) أحمد: المسند (حديث رجل من أصحاب النبي r 5/411 ح 23536)، والحديث صحيح، الألباني: السلسلة الصحيحة (6/449 ح 2700).

([20]) أحمد: المسند (مسند أبي هريرة t 16/456 ح 10791)، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق المسند.

([21]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/301)، السيوطي: تاريخ الخلفاء (ص: 56)، الطبري: التاريخ (2/237- 238).

([22]) ابن كثير: البداية والنهاية (7/35)، الطبري: التاريخ (2/382).

([23]) ابن الجوزي: مناقب عمر (ص: 98 – 99).

([24]) سورة المؤمنون: الآية (101).

([25]) أخرجه أحمد: المسند (مسند أبي بن كعب 5/128 ح 21216)، والحديث صحيح، الألباني: السلسلة الصحيحة (3/265 ح 1270).

([26]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة 2/644 ح 934).

([27]) سورة الأنعام: جزء الآية (52).

([28]) أخرجه ابن ماجه: السنن (كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء 2/1382 ح 4127)، والحديث صحيح، الألباني: صحيح ابن ماجه (2/1382 ح 4127).

([29]) طبارة: روح الدين الإسلامي (ص: 299 – 300).

([30]) سورة البقرة: من الآية (247).

([31]) عالية: نظام الدولة والقضاء والعرف في الإسلام (ص: 102 – 103).

([32]) ابن القيم: مدارج السالكين (3/174).

المبحث الثالث الطاعة ويتكون من ثلاثة مطالب

المطلب الأول: مفهوم الطاعة

المطلب الثاني: حكم الطاعة

المطلب الثالث: حدود طاعة الأمراء والحكام

المطلب الأول مفهوم الطاعة

الطاعة في اللغة:

الطَّوْعُ: نقيض الكره، يقال: طاعه يطوعه، وطاوعه، والاسم: الطَّواعة، والطَّواعية، والجمع: طُوَّع([1]). ويقال: طَاعَ له إذا انقاد، وأَطَاعَ: اتبع الأمر ولم يخالفه، والاستطاعة: القدرة على الشيء([2]). والمُطَاوَعَةُ: الموافقة؛ يقال: فلان حسن الطواعية لك، أي حسن الطاعة لك([3]).

والخلاصة: الطاعة الانقياد، والموافقة.

الطاعة في الاصطلاح:

" هي موافقة الأمر طوعاً "([4])، أو " هي موافقة ولي الأمر والانقياد له، بقدر انصياعه لشرع الله تعالى "([5]).

الطاعة في الكتاب والسنة:

وردت كلمة الطاعة في الكتاب والسنة بمعانٍ عدة:

فقد جاءت بمعنى: طاعة الله تعالى بالخضوع لسلطانه، والانقياد لأمره، وطاعة رسوله r مطلقاً.

وكذلك وردت بمعنى: طاعة ولي الأمر، ما لم يأمر بمعصية الله تعالى.

أولاً: القرآن الكريم:

قال الله تعالى: } قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُ الكَافِرِينَ {([6]).

وجه الدلالة: خاطب الله سبحانه وتعالى نبيه r بأن يأمر الناس بطاعة ربهم، والانقياد لأوامره، وأن يطيعوا رسوله الموحى إليه من ربه في كل ما جاءهم به، ويخبرهم أن من لم يفعل ذلك يعد كافراً، والله تعالى لا يحب الكافرين.

وقد جاء المعنى للطاعة ـ وهو الخضوع والانقياد لله ورسوله r ـ على صيغة الأمر في عدد من آيات القرآن الكريم([7]).

وذلك ما دأب عليه الأنبياء عليهم السلام من قبل: نوح، وهود، وعيسى، وغيرهم، إذ طلبوا من قومهم أن يطيعوهم؛ لأنهم رسل الله إليهم([8]).

ثانياً: السنة:

1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول: " مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ مَاتَ وَلا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَقَدْ نَزَعَ يَدَهُ مِنْ بَيْعَةٍ كَانَتْ مِيتَتُهُ مِيتَةَ ضَلالَةٍ"([9]).

وجه الدلالة: إن الطاعة هنا ـ بصريح النص ـ طاعة الله سبحانه، والبيعة هنا

ـبحكم السياق

ـ بيعة الرسول ؛ لأنها كانت تعني بيعة الله، فهي المحققة لطاعة الله: } إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ {([10])، } مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ{([11])([12]).


2. عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي "([13]).

وجه الدلالة: إن الله سبحانه وتعالى أمر بطاعة رسوله r، والرسول r أمر بطاعة الأمير، فتلازمت الطاعة([14]).

المطلب الثاني حكم الطاعة

إن تنصيب الخليفة الذي يتولى الحكم وإدارة شئون الناس، يعد من فرائض الإسلام، التي دل عليها القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وطبيعة أحكام الإسلام([15]).

وقد ذهب الفقهاء ـ رحمهم الله ـ إلى أن تنصيب الخليفة واجب بالإجماع([16])، يقول الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:

" يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس "([17]).

ولهذا جاء عنه r: " إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ "([18]).

علق الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على هذا الحديث بقوله: " فإذا كان الإسلام قد أوجب في أقل الجماعات، وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم! كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك "([19]).

وعلى هذا اعتبر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ لزاماً على الأمة التي اختارت إماماً وخليفة بإرادتها، أن تطيعه طاعة كاملة، ذلك أن طاعة الأمة للسلطة والحاكم ضرورية؛ لتمكين الدولة من تنفيذ أهدافها، وتحقيق أغراضها، وقد بنوا رأيهم هذا

على نصوص القرآن الكريم، والسنة([20]).

فقد جاء في المغني: " من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته، ثبتت إمامته، ووجبت معونته "([21]).

أولاً: القرآن الكريم:

قال الله تعالى: } يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ{([22]).

قال العلماء y: المراد بأولي الأمر: من أوجب الله طاعته من الولاة، والأمراء، هذا قول جماهير السلف، والخلف من المفسرين، والفقهاء، وغيرهم([23]).

وجه الدلالة: أمر الله تعالى عباده بطاعته فيما أمرهم به، وفيما نهاهم عنه، وطاعة رسوله محمد r فإن في طاعتهم إياه طاعة لربهم، وذلك لأنهم يطيعونه لأمر الله إياهم بطاعته، وكذلك يأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة، وللمسلمين مصلحة([24]).

ثانياً: السنة:

1. عن أبي ذر t قال: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدَاً مُجَدَّعَ الأَطْرَافِ([25]). وجه الدلالة: أفاد الحديث وجوب السمع والطاعة للأمير، وإن كان دنيء النسب، وأخس العبيد، ولو كان عبداً أسودَ مقطع الأطراف، فطاعته واجبة([26]).

2. قال r: " اسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ، وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ "([27]). وجه الدلالة: أفاد الحديث وجوب الطاعة للأمير دون النظر لهيئته، ووصفه حتى لو كان عبداً حبشياً تجتمع فيه الحقارة، وبشاعة الصورة([28]).

هذا وقد يضرب المثل بما لا يكاد يوجد، تحقيراً لشأن الممثل، لما هو معلوم أن العبد لا تجوز توليته للإمامة، وهذا ما أجمع عليه العلماء؛ لكن لو تغلب عبد بالشوكة وجبت طاعته خوف الفتنة([29]).

3. عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: " مَنْ خَرَجَ مِن الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّة "([30]).

وجه الدلالة: دل الحديث على وجوب الطاعة، وملازمة الجماعة المؤمنة، وإلا فمن تركها، وفارق الجماعة ومات، مات على صفة موت الجاهلية، من حيث هم في فوضى لا إمام لهم([31]).

فالإسلام يعتبر أنه لا يمكن تماسك بنيان الأمة، وتعاضد قلوب أفرادها، والمحافظة على وحدتها ومكانتها، دون السلطة السياسية للحاكم المسلم، التي تقابل بالطاعة، والخضوع، والانقياد.

المطلب الثالث حدود طاعة الأمراء والحكام

يُعِدُّ الإسلام طاعة الحكام فريضة دينية، ودعامة من دعائم الحكم؛ لذا أوجبها على الرعية حتى يستقيم حال الأمة، وتتماسك قوية في بنيانها، وقد شدد الإسلام على وجوب الطاعة، وتوعد من خالفها.

بَيْدَ أن تلك الطاعة ليست مطلقة، فليس ثمة طاعة مطلقة إلا لله سبحانه وتعالى؛ لأنه الخالق الرازق صاحب الحكم والتشريع.

أما طاعة الحكام فهي مقيدة بمدى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهى ليست طاعة عمياء، إنما طاعة في المعروف، وفي حدود الاستطاعة.

" لا تكون الطاعة إلا في المعروف، فهي ليست طاعة عمياء ترتكز على الجهل والعصبية ومعصية الله والرسول ، بل هي طاعة مبصرة راشدة واعية، ترتكز على ما يأمر به الشرع، ويحقق مصلحة الدعوة والإسلام "([32]).

وعلى هذا فإن طاعة الرعية للحكام منوطة ومقيدة بثلاثة شروط:

1. تطبيق منهج الله سبحانه وتعالى: وذلك بالتزام أوامره، وإرساء تعاليمه، والحكم بين الناس بالعدل، وأداء الأمانات إلى أهلها، فإذا ما تنكروا لذلك، ونكصوا عن تنفيذه، فلا طاعة لهم؛ لقوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ{([33]).

وجه الدلالة: أمر الله تعالى الناس بطاعة الحكام، بعدما أمرهم بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل([34])؛ تنبيهاً على وجوب طاعتهم، ما داموا على الحق([35]).

وقال علي بن أبي طالب t: " حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحق على الناس أن يسمعوا، وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا"([36]).

2. ألا يأمروا الناس بمعصية: فمن مهام الحاكم المسلم تبليغ الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحراسة الرأي العام في كل بقعة من المجتمع الإسلامي.

قال الله تعالى: } وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ {([37]).

فإذا ما تجرأ الحاكم، فأمر الرعية بمعصية الله تعالى كالربا، وشرب الخمر، وإصدار أوامر تتناقض والشريعة الإسلامية، فلا طاعة له؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن أدلة ذلك:

أ . قال النبي r: " السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ "([38]).

وجه الدلالة: قيد هذا الحديث ما أطلق في الأحاديث السابقة ـ التي تأمر بالسمع والطاعة ولو لحبشي، ومن الصبر على ما يقع من الأمير مما يكره، والوعيد على مفارقة الجماعة

ـ وقد قرر النبي r وجوب الطاعة على المرء المسلم فيما وافق غرضه، أو خالفه، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا ما أُمر، فلا سمع ولا طاعة، أي لا يجب ذلك، بل يحرم على من كان قادراً على الامتناع([39]).

ب . وعن علي بن أبي طالب t قال: بعث النبي r سرية، وأمَّر عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي r أن تطيعوني؟ قالوا: بلى.

قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطباً، وأوقدتم ناراً، ثم دخلتم فيها.

فجمعوا حطباً، فأوقدوا، فلما هموا بالدخول، قام ينظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي r فراراً من النار أفندخلها؟!

فبينما هم كذلك إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذُكر ذلك للنبي r فقال: " لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُواْ مِنْهَا أَبَداً، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ "([40]).

وجه الدلالة: أرشد النبي r أن لا طاعة في تلك الأحوال، ولا ينبغي تنفيذ أمر كهذا؛ لأن الطاعة إنما تكون في الخير والمعروف.

قال بعض العلماء: ليس المراد بالنار نار جهنم، ولا أنهم مخلدون فيها؛ لأنه قد ثبت في حديث الشفاعة أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، وقوله: " لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُواْ مِنْهَا " يريد تلك النار؛ لأنهم يموتون بتحريقها، فلا يخرجون منها أحياء، فأراد النبي r بذكر هذا الزجر والتخويف([41]).

3. أن تكون الطاعة في حدود استطاعتهم: حتى يتسنى للرعية الإيفاء بالواجبات المترتبة على البيعة، ذلك أن القاعدة العامة في التكاليف قوله تعالى: }

لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا {([42])، وقوله: } فَاتَّقُواْ اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {([43])، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة يقول لنا: " فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ "([44]).

وجه الدلالة: دل هذا الحديث على أن الطاعة لا تكون إلا في حدود الاستطاعة، فقد كان النبي r يلقن صحابته y ذلك، من كمال شفقته ورأفته بأمته، يلقنهم أن يقول أحدهم:

فيما استطعت؛ لئلا يدخل في عموم بيعته ما لا يطيقه، وفيه أنه إذا رأى الإنسان من يلتزم ما لا يطيقه ينبغي أن يقول له: لا تلتزم ما لا تطيق، فيترك بعضه، وهو نحو قوله r : " عَلَيْكُمْ مِن الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ"([45]).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قوله عن النبي r: " وَمَنْ بَايَعَ إِمَاماً فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِن اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ "([46]).

وجه الدلالة: يدل الحديث على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، بالإخلاص في العهد والالتزام، ولكن في حدود المقدرة والاستطاعة؛ لئلا يكلف المرء فوق طاقته، ومن وجه آخر يؤكد الحديث على المنع من الخروج على الإمام.

([1]) ابن منظور: لسان العرب (8/240)، مادة: طوع.

([2]) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/142)، الرازي: مختار الصحاح (1/168).

([3]) ابن منظور: لسان العرب (8/241).

([4]) الجرجاني: التعريفات، المناوي: التعاريف (1/477).

([5]) السوسي، وشويدح، ومقداد: النظم الإسلامية ، نقلاً عن السوسي: حقوق الحاكم بين الشريعة والقوانين الدستورية، بحث غير منشور.

([6]) سورة آل عمران: الآية (32).

([7]) وذلك في تسعة عشر موضعاً وهي: سور آل عمران الآية (32، 132)، النساء الآية (95 مرتين)، المائدة الآية (92 مرتين)، الأنفال الآية (1، 20، 46)، طه الآية (90)، النور الآية (54 مرتين، 56)، محمد الآية (33)، المجادلة الآية (13)، التغابن الآية (12 مرتين، 16).

([8]) فقد قال سيدنا نوح عليه السلام: } إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ { (سورة الشعراء: الآيات (108 – 110).

وقال سيدنا هود عليه والسلام: } إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ { (سورة الشعراء: الآيتان (125، 126).

وقال سيدنا عيسى عليه السلام:} وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ { (سورة آل عمران: من الآية (50).

([9]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 3/1478 ح 1851).

([10]) سورة الفتح: من الآية (10).

([11]) سورة النساء: من الآية (80).

([12]) عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان.

([13]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الجهاد، باب يقاتل من وراء الإمام ويتقي به 4/60 ح 2797)، مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية 3/1466 ح 1835).

([14]) النووي: شرح صحيح مسلم (12/224).

([15]) زيدان: أصول الدعوة.

([16]) فمن الأقوال التي نقلت الإجماع: ما قاله الماوردي وأبو يعلى: " عقد الإمامة لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع " الماوردي: الأحكام السلطانية (ص: 3)، أبو يعلى:

الأحكام السلطانية، ويقول ابن خلدون: " إن نصب الإمام واجب، فقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين " ابن خلدون: المقدمة.

([17]) ابن تيمية: السياسة الشرعية.

([18]) أخرجه أبو داود: السنن (كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم 3/36 ح 2608)، والحديث حسن صحيح، الألباني: صحيح سنن أبي داود (3/36 ح 2608).

([19]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/65).

([20]) أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام ، ابن تيمية: مجموع الفتاوى (35/9)، ابن قدامة:

المغني (9/5)، أحمد: النظرية السياسية الإسلامية في العصر الحديث، أسد: منهاج الإسلام في الحكم السوسي، وشويدح، ومقداد: النظم الإسلامية ، عجيله: طاعة الرؤساء وحدودها في الوضعية العامة ، الماوردي:

الأحكام السلطانية، المبارك: نظام الإسلام الحكم والدولة، الهلالي: ركائز الدعوة.

([21]) ابن قدامة: المغني (9/5).

([22]) سورة النساء: من الآية (59).

([23]) النووي: شرح صحيح مسلم (12/223).

([24]) الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن (5/147 – 150).

([25]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام 1/448 ح 648).

([26]) النووي: شرح صحيح مسلم (12/225).

([27]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الجماعة والإمامة، باب إمامة العبد والمولى1/246ح 661).

([28]) ابن حجر: فتح الباري (13/122).

([29]) المناوي: فيض القدير (1/513).

([30]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين 3/1476 ح 1848).

([31]) النووي: شرح صحيح مسلم (12/238).

([32]) علوان: عقبات في طريق الدعاة (2/485، 486).

([33]) سورة النساء: من الآية (59).

([34]) وذلك في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: } إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالعَدْلِ { (سورة النساء: من الآية (58).

([35]) البيضاوي: التفسير (2/205- 206).

([36]) الطبري: جامع البيان (5/145).

([37]) سورة آل عمران: الآية (104).

([38]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الأحكام، باب الطاعة للإمام ما لم تكن معصية 6/2612 ح 6725).

([39]) ابن حجر: فتح الباري (13/123)، المباركفوري: تحفة الأحوذي (5/298).

([40]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب المغازي، باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي 4/1577 ح 4085)، مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية 3/1469 ح 1840).

([41]) ابن حجر: فتح الباري (13/123).

([42]) سورة البقرة: من الآية (286).

([43]) سورة التغابن: من الآية (16).

([44]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 6/2633 ح 6776).

([45]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 1/540 ح 782).

([46]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول 3/1472 ح 1844).

المبحث الرابع الشورى

ويتكون من ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الشورى، وأهميتها

المطلب الثاني: حكم الشورى وفوائدها

المطلب الثالث: الشورى والديمقراطية المعاصرة

المطلب الأول مفهوم الشورى ، وأهميتها

أولاً: مفهوم الشورى:

الشورى في اللغة:

الشُّورَى: المشورة، والمشاورة: استخراج الرأي، يقال: شَاوَرْتُهُ في الأمر، استشرته، وطلبت منه المشورة([1]).

والشُّورَة، والشَّارة: الحُسن والهيئة، يقال: شَارَ الرجل، إذا حسن وجهه،([2])، وشَارَ العسل: استخرجه واجتناه من مواضعه، وشَارَ الدابة: عرضها للبيع([3])، كأنه من الشَّور، وهو عرض الشيء وإظهاره([4]). والخلاصة: فالشورى الإظهار، والاستخراج.

الشورى في الاصطلاح:

قال الراغب الأصفهاني ـ رحمه الله ـ: " هي استخراج الرأي، بمراجعة البعض إلى البعض "([5]). ويقول ابن العربي ـ رحمه الله ـ: " هي الاجتماع على الأمر، ليستشير كل واحد منهم صاحبه، ويستخرج ما عنده "([6]).

وقال الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ: " هي أن قاصد عمل يطلب ممن يظن فيه صواب الرأي والتدبير، أن يشير عليه بما يراه في حصول الفائدة المرجوة من عمله "([7]).

وعرفها الدكتور جابر الأنصاري ـ من المعاصرين ـ بقوله: " هي استطلاع رأي الأمة، أو من ينوب عنها في الأمور العامة المتعلقة بها "([8]).

فالتعاريف تتفق على معنى واحد للشورى، فتفيد أنها قائمة على تبادل الآراء؛ للتوصل إلى الرأي الأصوب.

الشورى في الكتاب والسنة:

أولاً: القرآن الكريم:

وردت كلمة الشورى في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:

أولها: في خطاب موجه لولي الأمر.

وثانيها: في خطاب موجه للأمة الإسلامية.

وثالثها: في أمر اجتماعي.

1. قال الله تعالى: } وَشَاوِرْهُم فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُ المُتَوَكِّلِينَ {([9]).

وجه الدلالة: أمر الله نبيه r أن يشاور المسلمين؛ تطييباً لنفوسهم، ورفعاً من أقدارهم، ولتصير سُنة، فإذا عزمت على ما تريد إمضاءه من الشورى، فتوكل على الله لا على المشاورة([10]).

2. قال الله تعالى: } وَالذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِم وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنْفِقُونَ {([11]).

وجه الدلالة: إن طابع الشورى في الجماعة كان مبكراً، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة، وشئون الحكم فيها، إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة

مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية([12]).

3. قال الله تعالى: } فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا {([13]).

وجه الدلالة: في الآية دليل على إباحة الله تعالى للوالدين التشاور في الرضاعة، فيما يؤدي إلى إصلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين([14]).

ثانياً: السنة:

عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ "([15]).

وجه الدلالة: أفاد الحديث أن من أفضى إلى أخيه بسره، وأمنه على نفسه، فقد جعله بمحلها، فيجب عليه ألا يخون المستشير بكتمان مصلحته، وألا يشير عليه إلا بما يراه صواباً، فهو أمين على ما استشير فيه([16]).

ثانياً: أهمية الشورى في حياة الأمة:

تعد الشورى ركيزة أساسية في بناء الدولة الإسلامية، بل هي من أُسس الحكم في الإسلام، ومن أبرز خصائصه؛ فالشورى تحتل مكان الصدارة في عداد المبادئ التي جاء بها الإسلام، وأرسى دعائم دولته([17]).

ولأهمية الشورى في حياة الأمة، سمى الله تعالى سورة في القرآن الكريم باسم

الشورى، ومدح أهل الشورى في معرض حديثه عن فرائض كلية في الإسلام؛ ليدلل على عظيم شأنها ومكانتها، فالأمة تعيش على وجه الأرض بالخيرية من السعادة في تطبيقها؛ لهذا المبدأ قال رسول الله r: " إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارُكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاؤُكُمْ، وَأُمُورُكُم شُورَى بَيْنَكُمْ، فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا "([18]).

والشورى في الأمة مبدأ أصيل، وصفة لازمة، بدونها تفقد الأمة صلاحها كما لو تركت الصلاة أو الصيام([19])، حيث ترتكز عليها كل دولة راقية تنشد لرعاياها الأمن والاستقرار، والفلاح والنجاح؛ ذلك لأنها الطريق السليم التي يتوصل بها إلى إجراء الآراء والحلول، لتحقيق مصالح الأفراد، والجماعات، والدول([20]).

وما تمسك المسلمون بالكتاب والسنة، فإنهم لن يضلوا بقرار يصدرونه بالشورى، ولا يجمعون على باطل، كما روي عن رسول الله ([21])، وتلك العصمة النسبية من الباطل لنتيجة الشورى العامة، تؤكد جليل شأنها في الحياة الإسلامية، والسياسية([22]).

والشورى في الإسلام أصل مشروعية الولاية العامة على الأمة، وهي الشورى السياسية، قال عمر t: " فَمَنْ بَايَعَ امْرَأً مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ المُسْلِمينَ، فَإِنَّهُ لا بَيْعَةَ لَهُ وَلا للذِي بَايَعَهُ "([23])...([24]).

وقد تفرد الإسلام بهذا المبدأ الأصيل، وأقره سلوكاً عاماً في المجتمع، وأسلوباً في إدارة الشئون العامة، حتى ربط العالم ابن عطية ـ رحمه الله ـ به شرعية الحكم فقال :

"إن من لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب لا خلاف فيه "([25]).([26]).

والشورى تحتاج إليها كل جماعة ترغب في إصلاح شأنها وتقدم بلادها؛ لأنها من أهم أسباب صلاح المجتمع، ومن أهم أسس الحضارة الإسلامية الإنسانية، وتشتد حاجة الأمة إلى الشورى حرصاً على استمرار حضارتها واضطراد تقدمها، ... ويكفي أن الشورى مطلب الأمم الواعية المتنورة يكفي هذا دليلاً على عظمة نظام الشورى أساساً من أسس الشريعة الإسلامية الخالدة([27]).

المطلب الثاني حكم الشورى وفوائدها

أولاً: حك الشورى:

لمكان الشورى في الإسلام، واعتبارها دعامة وركيزة أساسية في بناء الدولة الإسلامية، ولعظيم شأنها في وحدة الأمة، وإعداد قيادتها، ولتعلقها بمصالح الأمة المختلفة، والمصيرية من السلم والحرب، والمعاهدات وغيرها، ... اعتنى علماؤنا ـ رحمهم الله ـ في إظهار حكمها.

وقد اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في حكم الشورى بالنسبة للحكام على قولين:

القول الأول: الشورى واجبة على الحاكم، وإلى هذا ذهب كثير من السلف، وعامة المعاصرين([28]).

القول الثاني: الشورى مندوبة للحاكم، وإلى هذا ذهب الشافعي، وقتادة، والربيع، وابن إسحاق([29]).

فإذا كانت الشورى واجبة كان الحاكم ملزماً بالأخذ بها، وإلا ترتب على عدم الأخذ بها إثم وعقاب. وإذا كانت مندوبة، فلا ضير بتركها من قِبَل الحاكم.

الأدلة:

أدلة القول الأول:

استدل القائلون بأن الشورى واجبة على الحاكم بالقرآن الكريم والسنة كما يلي:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّواْ مِن حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ {([30]).

وجه الدلالة: هذا النص صريح في وجوب المشاورة؛ لأن ظاهر الأمر للوجوب، إلا إذا صرفته قرينة عن ذلك، ولا قرينة صارفة عن الوجوب هنا([31]).

قال الفخر الرازي ـ رحمه الله ـ: " ظاهر الأمر للوجوب فقوله: } وَشَاوِرْهُمْ{ يقتضي الوجوب "([32]).

2. قال الله تعالى: } وَالذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {([33]).

وجه الدلالة: قرنت الآية الكريمة الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة المعبر عنها بالإنفاق، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة والزكاة، وهما واجبتان شرعاً، فكذلك الشورى واجبة شرعاً([34]).

ودل هذا على أنه إذا كانت الصلاة فريضة عبادية، والزكاة فريضة اجتماعية، فإن الشورى فريضة سياسية([35]).

قال الجصاص ـ رحمه الله ـ بعد شرحه لهذه الآية: " يدل على جلالة موقع الشورى ذكره لها مع الإيمان، وإقامة الصلاة، ويدل على أننا مأمورون بها "([36]).

ثانياً: السنة:

استدل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على وجوب الشورى بمواظبته r عليها، وكتب التاريخ، والحديث، والتفسير مليئة بالنماذج، والتي منها:

1. مشاورة النبي r لأصحابه y في غزوة بدر لخوض المعركة([37])، وفي قبوله مشورة الحباب في النزول عند ماء بدر([38])، واستشارته في شأن الأسرى([39]).

2. استشارة النبي r لأصحابه في غزوة أحد في مكان ملاقاة العدو، أفي المدينة أم يخرجون خارجها لقتاله؟

وقد رأت الأغلبية الخروج؛ حتى لا يقال عنهم إنهم جبنوا عن لقاء العدو([40]).

أدلة القول الثاني:

استدل القائلون بأن الشورى مندوبة للحاكم بالقرآن الكريم والسنة، كما يلي:

أولاً: القرآن الكريم:

إن الأمر في قول الله تعالى: } وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ{([41]). للندب وليس للوجوب؛ فقد نُقل عن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ قوله: " نظير هذا قوله r: " البِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا"([42])، إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن

يزوجها؛ وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه "([43]).

ثانياً: السنة:

إن الشورى لو كانت واجبة لفعلها النبي r في كل الأمور، وواظب عليها، ولكن ثبت أنه ترك المشاورة في المسائل الكبيرة؛ مثل صلح الحديبية، وقتال بني قريظة([44]).

المناقشة:

نوقشت أدلة القائلين بأن الشورى مندوبة بما يلي:

1. إن الاستدلال بآية سورة آل عمران باعتبار الأمر للندب: لا نسلم؛ به إذ إن القول المنسوب إلى الشافعي ـ رحمه الله ـ أن الأمر في } وَشَاوِرْهُمْ { صرف عن الوجوب إلى الندب قياساً على قوله:

" البِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا " يعتبر قياساً مع الفارق؛ لأن الشورى أمر عام، والمقيس عليه أمر خاص، ثم إن حكم المقيس عليه ليس محل اتفاق([45]).

ويرد كذلك القياس بالندب على استشارة سيدنا إبراهيم عليه السلام لابنه، أنه قياس غير سليم، فرؤيا سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يذبح ولده بكره إسماعيل عليه السلام، تكليف لإبراهيم عليه السلام، وابتلاء له، وهو كذلك وحي إلهي، والأمر الإلهي الموحى به لا يشاور فيه أصلاً، فقول إبراهيم عليه السلام لابنه من قبيل الإخبار بالأمر، والتكليف بالذبح، فهو على سبيل الإعلام ليس إلا([46]).

2. بالنسبة للاستدلال بالسنة على أن الشورى لو كانت واجبة لفعلها النبي r في كل الأمور، حيث ثبت تركه لها في صلح الحديبية وبني قريظة:

فيرد عليه أن النبي r لم يشاور أحداً من المسلمين في صلح الحديبية حين أبرمه؛ لأن الصلح أمر رباني، والأمر أصبح فيه وحياً؛ يدل على ذلك قوله r حين اعترض عمر بن الخطاب t على الصلح: " إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهُ، وَهُوَ نَاصِري "([47]).

أما في قتال بني قريظة، فأمر النبي r بالمسير إلى بني قريظة دون أن يستشير أحداً؛ لأنه كذلك أمر رباني؛ إذ إن جبريل عليه السلام جاء النبي r قائلاً له: " وَضَعْتَ السِّلاحَ؟! وَاللهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ r: " فَأَيْنَ؟ " فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله r، فنزلوا على حكمه "([48]).

الترجيح:

إن الناظر في أقوال الفريقين، وأدلتهم يتيقن جازماً رجحان الرأي القائل: إن الشورى واجبة، وذلك لما يلي:

1. قوة أدلتهم الثابتة من القرآن والسنة، وسلامتها من أي اعتراضات حقيقية.

2. إن القول بأن الشورى مندوبة، يؤدي إلى استبداد الحاكم، وانفراده في تقرير مصير الأمة، فتصبح الشورى خاضعة لمزاجه، مما يفقد الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويبعث العُجب والغرور في نفس الحاكم([49]).

3. إن ترك الشورى يفقد الأمة كفاءاتٍ كان بإمكانها أن تستفيد منها.

ثانياً: من فوائد الشورى:

بعد بيان أهمية الشورى، واعتبارها دعامة في حياة الأمة، وبعد استجلاء حكمها، يجدر بنا أن نتحدث عن فوائدها، ومن أهمها:

1. إن الشورى طريق إلى وحدة الأمة الإسلامية، ووحدة المشاعر الجماعية، من خلال عرض المشكلات العامة، وتبادل الرأي والحوار([50]).

2. الشورى خير وسيلة للكشف عن الكفاءات والقدرات، وتحقيق الأفراد لذاتياتهم، وما أوتوا من مواهب وملكات؛ كي تستفيد الدولة والأمة من كافة طاقات أبنائها، ولاسيما في شئون الحكم والسياسة([51]).

3. الشورى آلية للتوصل إلى توافق بخصوص اختيار البديل الأمثل من بين عدة خيارات مطروحة، فَلُبُّ الشورى هو المشاركة في القرار السياسي وغيره، وهي آلية المشاركة مع الإبقاء على التعددية والتمايز([52]).

4. إنها خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، وتدريبها على تحمل التبعات، كما أنها تُعَوِّد الأفراد على العطاء، وعلى الانتماء لجماعتهم ووطنهم، وتحمل مسؤولياتهم تجاه هذه الجماعة([53]).

5. تدرب الشورى المستشار على المساهمة في الحكم والإدارة، وتثريه بالتجربة وجودة الرأي والتفكير من خلال ممارسته للشورى([54]).

6. إن ممارسة الشورى في كل جوانب الحياة يمثل للأمة المسلمة مدرسة تستطيع من خلالها تحقيق آراء قوية وسديدة توصلها إلى طريق النصر والتمكين، كما نال بها المسلمون الأوائل، الظفر والأمن.

المطلب الثالث الشورى والديمقراطية المعاصرة

أولاً: تعريف الديمقراطية:

الديمقراطيةـ Democracyـ كلمة مشتقة من لفظتين لاتينيتين (Demos ) الشعب و ( Kvatos ) سلطة، ومعناها: الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب، وهي كلمة إغريقية الأصل([55]).

وقد اتسع مفهوم الديمقراطية في العصر الحديث، وتبنتها أنظمة حكم متباينة، ومن ثم صار لها تعاريف كثيرة بحسب الزاوية التي ينظر إليها، ولكن لا يزال تعريف الرئيس الأمريكي ( لنكولن ) للديمقراطية بأنها: " حكم الشعب بالشعب وللشعب " وهو الأكثر شيوعاً([56]).

ثانياً: الديمقراطية بين التحفظ والرفض:

تعددت كتابات العلماء والمفكرين المسلمين في الموقف من الديمقراطية المعاصرة، والمتتبع لهذه الكتابات يرى ثمة ثلاثة اتجاهات متباينة.

فمن الكتابات من حاولت إبراز مصطلح ديمقراطية الإسلام مقابل الديمقراطية المعاصرة، متجاوزة ما إذا كان الإسلام يتعارض والديمقراطية([57]).

وبعضها حاولت أن تبرز نظرية الشورى في الإسلام في مقابل الديمقراطية المعاصرة، وأن الشورى أوسع وأعمق من الديمقراطية المعاصرة([58]).

وثالثها هاجمت الديمقراطية المعاصرة، ورفضتها جملة، واعتبرت أن لا سبيل

إلى مزج الإسلام بالديمقراطية، ولا سبيل إلى القول بأن الإسلام نظام ديمقراطي([59]).

وعلى ضوء ذلك يمكن القول على صعيد المصطلح: إنه لا بأس من الاستعانة بكل كلمة رائجة تعبر عن معنى، وإدراجها في سياق الدعوة للإسلام، ولفها بأطر التصورات الإسلامية([60]).

ويمكن القول: إنه من حقنا اقتباس ميزات الديمقراطية، فالإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال المسلمين([61]).

حتى هذه الأمور الجزئية إذا اقتبست من غير المسلمين، تعد في هذا الوقت جزءاً من الحل الإسلامي؛ لأنها إنما اقتبست باسم الإسلام، وعن طريقه، وبعد إذنه، ووفقاً لقواعده في استنباط الأحكام الشرعية لما لا نص فيه من الوقائع والتصرفات، ولا يضيرنا أن هذه الجزئية بالذات قد أخذت من نظام غير إسلامي، فإنها باندماجها في النظام الإسلامي تفقد جنسيتها الأولى، وتأخذ طابع الإسلام وصبغته([62]).

ولا يوجد شرعاً ما يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسلمين، فقد أخذ النبي r في غزوة الأحزاب بفكرة حفر الخندق، وهو من أساليب الفرس([63]).

ولكن لا يعني ذلك أن نحتكم إلى الديمقراطية في حياتنا على إطلاقها، وندع إسلامنا، أو نترك الشورى التي تمثل قيمة إسلامية عليا في حياة الأمة: } أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَن أَحْسَنُ مِن اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {([64]).

ثالثاً: أوجه الاختلاف بين الشورى والديمقراطية المعاصرة:

يمكن تلخيص الفروق ووجوه الاختلاف بين الشورى والديمقراطية في النقاط التالية:

1. إن الديمقراطية المعاصرة تمثل نظاماً للحكم فقط، يهدف إلى إقامة سلطة يكون الشعب هو الممارس لها، ودون أن يأخذ بالاعتبار أي أسس دينية، ولا مجال بالطبع في الإسلام لحكم شعبي منقطع عن معاني الإيمان؛ لأن الدين الإسلامي دين توحيدي يحيط بالحياة، ويضفي عليها جميعاً معنى العبادة، وينظمها بشريعة شاملة([65]).

2. إن الشورى نظام إيماني قائم على قواعد المنهاج الرباني، وهي رسالة إلى الناس جميعاً تحمل صفة الشمول، وتعد منهجاً صالحاً للتطبيق في كل عصر وزمان، أما الديمقراطية فهي تجربة بشرية محصورة بمدى استيعابها، ومحدودة بمدى إيفائها لمتطلبات الحياة، ومواءمتها لمتغيرات العصر.

3. إن سلطة الأمة في الديمقراطية المعاصرة مطلقة، فالأمة هي صاحبة السيادة المطلقة، وهي أو المجلس الذي تنتخبه التي تضع القانون، أو تلغيه، ولكن في الشورى ليست سلطة الأمة مطلقة هكذا، وإنما هي مقيدة بالشريعة، ولا تستطيع أن تتصرف إلا في حدود هذا القانون([66]).

إن الشورى الإسلامية مرتبطة بقيم أخلاقية نابعة من الدين نفسه، ولذلك فهي ثابتة غير خاضعة لتقلبات الميول والرغبات، ومن ثم فهي تضبط تصرفات الأمة ورغباتها، بينما لا تستند الديمقراطية المعاصرة إلى مثل هذه القيم الثابتة، بل هي قيم نسبية تتحكم فيها رغبات وميول الأكثرية([67]).

([1]) ابن منظور: لسان العرب (4/437).

الرازي: مختار الصحاح (1/147).

البيضاوي: تفسير البيضاوي (1/526).

القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (3/172).

([2]) ابن منظور: لسان العرب (6/310)، مادة: شور.

([3]) ابن قتيبة: الغريب (1/558)، ابن منظور: لسان العرب (2/434، 435).

([4]) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثير (2/508)، ابن منظور: لسان العرب (4/434).

([5]) الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن (مادة شَوَر ص: 273).

([6]) ابن العربي: أحكام القرآن (1/297).

([7]) ابن عاشور: التحرير والتنوير (25/112).

([8]) الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية .

([9]) سورة آل عمران: من الآية (159).

([10]) الواحدي: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/240).

([11]) سورة الشورى: الآية (38).

([12]) قطب: في ظلال القرآن (5/3165).

([13]) سورة البقرة: من الآية (232).

([14]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (3/172).

([15]) أخرجه الترمذي: السنن (كتاب الأدب، باب إن المستشار مؤتمن 5/125 ح 2822)، والحديث صحيح، الألباني: صحيح وضعيف الترمذي.

([16]) المباركفوري: تحفة الأحوذي (8/88)، المناوي: فيض القدير (6/268).

([17]) أبو جيب: الوجيز في المبادئ السياسية في الإسلام ، أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام ، الدريني: خصائص التشريع الإسلامي ، السدلان: أسس الحكم في الشريعة الإسلامية، السوسي، وشويدح، ومقداد: النظم الإسلامية، طباره: روح الدين الإسلامي، عالية:

نظام الدولة والقضاء والعرف في الإسلام .

الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية .

المبارك: نظام الإسلام والحكم والدولة.

([18]) الترمذي: السنن (كتاب الفتن، باب 4/529 ح 2266)، وقال: " حسن غريب "، المنذري: الترغيب والترهيب (3/259 ح 3949).

([19]) جابر: الطريق إلى جماعة المسلمين، حوى:دروس في العمل الإسلامي.

([20]) أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام.

([21]) قال r: " إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُم مَا إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَداً، كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ r "، الحاكم: المستدرك (1/171)، وذكر صحته.

([22]) الترابي: الشورى والديمقراطية مشكلات المصطلح والمفهوم، بحث منشور ضمن مجلة المستقبل العربي السنة الثامنة العدد (754).

([23]) ابن حبان: الصحيح (ذكر الزجر عن أن يرغب المرء عن آبائه إذ استعمال ذلك ضرب من الكفر 2/148 ح 413)، والأثر صحيح، الأرناؤوط: تحقيق ترتيب ابن بلبان على صحيح ابن حبان (2/148 ح 413).

([24]) الدريني: خصائص التشريع الإسلامي .

([25]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (4/249).

([26]) الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية .

([27]) عتر: الشورى في ضوء القرآن والسنة.

([28]) الجصاص: أحكام القرآن (3/386)، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (4/250)، النووي: شرح صحيح مسلم (4/76)، ابن تيمية: السياسة الشرعية، أبو فارس: حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها، الأنصاري:

الشورى وأثرها في الديمقراطية ، البنا: مجموع الرسائل، السوسي، وشويدح، ومقداد: النظم الإسلامية ، عتر: الشورى في ضوء القرآن والسنة ، عبد الخالق: الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي ، عودة: الإسلام وأوضاعنا السياسية.

([29]) ابن الجوزي: زادا لمسير (1/488)، الرازي: التفسير الكبير (9/67)، ابن حجر: فتح الباري (13/342) الشافعي: الأم (5/168).

([30]) سورة آل عمران: من الآية (159).

([31]) أبو فارس: حكم الشورى في الإسلام ، الدريني: خصائص التشريع الإسلامي ، زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية.

([32]) الرازي: التفسير الكبير (9/67).

([33]) سورة الشورى: الآية (38).

([34]) أبو فارس: حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها.

([35]) الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية، نقلاً عن: جريشة: المشروعية الإسلامية العليا.

([36]) الجصاص: أحكام القرآن (3/386).

([37]) مسلم:الصحيح (كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر 3/1403 ح 1179)، من حديث أنس . ([38]) الطبري: التاريخ (2/29).

([39]) مسلم: الصحيح (كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/1385 ح 1763)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

([40]) ابن هشام: السيرة النبوية (4/9)، الطبري: التاريخ (2/59).

([41]) سورة آل عمران: من الآية (159).

([42]) الأصبهاني: المسند المستخرج على صحيح مسلم (كتاب النكاح، باب الثيب أحق بنفسها من وليها 4/86 ح 3309)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

([43]) ابن الجوزي: زاد المسير (1/488)، الرازي: التفسير الكبير (9/67)، القرطبي:الجامع لأحكام القرآن (4/250).

([44]) أبو فارس: الشورى، الأنصاري: الشورى وأثرها.

([45]) الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية.

([46]) أبو فارس: حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها.

([47]) البخاري: الصحيح (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب 2/978 ح 2581).

([48]) البخاري: الصحيح (كتاب المغازي، باب مرجع النبي r من الأحزاب يخرجه إلى بني قريظة 4/1511 ح 3896).

([49]) أبو فارس: حكم الشورى .

([50]) الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية، نقلاً عن الخطيب: مجلة الوعي الإسلامي، العدد (69، أكتوبر 1970).

([51]) أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام ، الدريني: خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم ، النحوي: ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية.

([52]) السيد عمر: نواة الشورى والديمقراطية ، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر السنة (23) العدد( 9).

([53]) السدلان: أسس الحكم في الشريعة الإسلامية، السوسي، وشويدح، ومقداد: النظم الإسلامية النحوي: ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية.

([54]) أبو فارس: النظام السياسي.

([55]) قطب: مذاهب فكرية معاصرة.

([56]) الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية.

([57]) من هذه الكتابات:العقاد: الديمقراطية في الإسلام ، الفنجري: الحرية السياسية في الإسلام

([58]) من هذه الكتاباب: الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية، الترابي: إشكالات المصطلح والديمقراطية والمفهوم .

([59]) الرقب: حاضر العالم الإسلامي ، قطب: مذاهب فكرية معاصرة ، النحوي: الشورى لا الديمقراطية

([60]) الترابي: إشكالات المصطلح والديمقراطية والمفهوم.

([61]) القرضاوي: فتاوى معاصرة (2/643).

([62]) القرضاوي: الحل الإسلامي فريضة وضرورة.

([63]) القرضاوي: فتاوى معاصرة (2/643).

([64]) سورة المائدة: الآية (50).

([65]) الترابي: الشورى والديمقراطية إشكالات المصطلح والمفهوم، عالية: نظام الدولة والقضاء والعرف في الإسلام.

([66]) علي: التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية، هويدي: الإسلام والديمقراطية، بحث منشور في مجلة المستقبل العربي، السنة (15) العدد (166).

([67]) الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية.

الفصل الأول التعددية السياسية في الإسلام

وفيه ثلاثة مباحث:

  • المبحث الثاني : الحزبية السياسية في ظل الدولة

الإسلامية، وأنظمة الحكم المعاصرة.

  • المبحث الثالث: ضوابط التعددية السياسية.

المبحث الأول السياسة والحرية السياسية في الإسلام

ويتكون من مطلبين:

المطلب الأول: تعريف السياسة

المطلب الثاني: الحرية السياسية في الإسلام

المطلب الأول تعريف السياسة، والفرق بين الشرعية منها والوضعية

السياسة في اللغة:

السِّيَاسَةُ ـ بالكسر ـ مصدر سَاسَ الأمر سِيَاسَةً: إذا قام به؛ وهي القيام على الشيء بما يصلحه؛ وسَوَّسَهُ القوم: إذا جعلوه يسوسهم؛ قال الجوهري: سُسْتُ الرعية سياسة، وسَوَّس الرجل أمور الناس، إذا ملك أمرهم، وروى قول الحطيئة:

لقد سَوَّسْتَ أمرَ بنِيكَ حتى تركتَهُمُ أدقَّ من الطحين

وفي الحديث: " كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسُوسُهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ "([1])، أي تتولى أمورهم، كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية([2]).

والسِّيَاسَةُ كذلك بمعنى الأمر والنهي، ومنه قولهم: سست الرعية سياسة، إذا أمرتها ونهيتها؛ وهي بمعنى التأديب والتجربة، يقال: فلان مجرب، قد ساس وسيس عليه، أي: أدب وتأدب([3]).

وجميع هذه المعاني في أصل الوضع اللغوي تدور حول تدبير الأمر، والقيام بإصلاحه؛ والقائم بذلك سمي سائساً، والجمع ساسة وسواس([4]).

فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، ثم وُسمت بأنها: القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح، وانتظام الأموال([5]).

السياسة في الاصطلاح:

استعملت كلمة السياسة بمعنى الأحكام التي تُساس بها الرعية، فقد جاء في قوانين الوزارة عبارة " قانون السياسة "([6])؛ كما سمَّى ابن قتيبة كتابه: " الإمامة والسياسة "([7])؛ واستعملها فقهاء الفكر السياسي الإسلامي بمعنى الأحكام السلطانية([8])؛ وهاك تعاريف فقهاء المسلمين وعلمائهم للسياسة:

1. قال ابن نجيم ـ رحمه الله ـ: " هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يُرَدْ بذلك الفعل دليل جزئي "([9]).

2. وعرفها ابن عقيل ـ رحمه الله ـ بأنها: " ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول r، ولا نزل به وحي"([10]).

3. وقال ابن خلدون ـ رحمه الله ـ: " هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها "([11]).

4. وعرفها عبد الرحمن تاج بأنها: " الأحكام التي تنظم بها مرافق الدولة، وتدبر شئون الأمة، مع مراعاة أن تكون متفقة مع روح الشريعة، نازلة على أصولها الكلية، محققة أغراضها الاجتماعية، ولو لم يدل عليها شيء من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة في الكتاب والسنة "([12]).

ويتضح من التعاريف: أن السياسة في نظر علمائنا لا بد أن تكون مندرجة تحت أصول الشريعة العامة، وقواعدها الكلية، وموافقة لمقاصدها المعتبرة، غير

مخالفة لنص، أو إجماع، أو قياس، ومحققة لمصلحة تقرها الشريعة، وأن تصدر عن ولي أمر مختص، لتدبير شئون المسلمين تحت مظلة سيادة الشرع([13]).

فالسياسة جزء لا يتجزأ من الإسلام، ولا فرق في الإسلام بين السياسة والدين.

ويعد العمل السياسي اليوم فرض عين، قال تعالى: } الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {([14]).

يقول الشيخ سعيد حوى ـ رحمه الله ـ: " فما دام حكم الإسلام غير قائم الآن، فالعمل السياسي فرض عين على كل مسلم، وإذا كانت الفوضى لا تقيم حكماً، فالنظام فريضة، وكل ما يحتاجه المسلمون لإقامة الحكم الإسلامي فهو فريضة، وهذا كله يطلق عليه اسم العمل السياسي "([15]).

تعريف السياسة عند الوضعيين:

1. تعريف رايموند جيتل الأمريكي يقول: " إن علم السياسة هو علم الدولة؛ لأنه يبحث في التنظيمات البشرية التي تُكَوِّنُ وحداتٍ سياسيةً، وتنظيم حكوماتها وفعاليات هذه الحكومات، التي لها صلة بتشريع القوانين وتنفيذها، وفي علاقاتها بالدول الأخرى ".

2. أما ريمون آرون الفرنسي فيعرفها على أنها: " دراسة كل ما يتصل بحكومة الجماعات؛ أي العلاقة القائمة بين الحاكمين والمحكومين؛ وبعبارة أخرى: كل ما يتصل بتدرج السلطة داخل الجماعات ".

3. ويرى الكاتب الهندي أبادوراي أنها: " دراسة تنظيم الجماعة، وأن الجماعة يجب أن تفهم بمعناها الواسع الذي يشمل الأسرة والقبيلة، والنقابة العمالية أو المهنية، وهو يرى أن الجماعة كبرت أو صغرت لا بد لها من سلطة كي تنتظم، فالسياسة هي ممارسة السلطة"([16]).

وعلى ذلك نجد أن هذه التعريفات تعكس توجهات متفاوتة في النظر إلى علم السياسة، وإن كانت جميعها تلتقي على أن هذا العلم يركز على موضعين أساسيين هما: الدولة، والسلطة([17]).

وهذه السياسة لا تسمى شرعية([18])؛ إذ أن الإنسان دنيوي فقط، والحضارة دنيوية ـ علمانية ـ فقط، ومن ثم فالسياسة فيها هي: فن الممكن الدنيوي، من الواقع الدنيوي، دونما علاقة بين هذه الدنيا وبين الآخرة، ولا علاقة بين تدبير المعاش وسياسة العمران، وبين الاستقامة الدينية([19]).

الفرق بين السياسة الشرعية والسياسة الوضعية:

بعد عرض تعاريف كل من الفريقين الإسلامي والوضعي، يتضح جلياً أن هناك ثمة فوارق جوهرية بينهما، ومن أهم هذه الفوارق:

1. أن السياسة الشرعية تسعى لتصريف شئون الأمة، وتحقيق مصالحها في العاجل والآجل، بما يتوافق ونظم الإسلام وتعاليمه.

أما السياسة الوضعية فتوجهاتها متعددة، تختلف باختلاف قاداتها وأصحابها، وتقف عند تدبير الإنسان لحياته الدنيا وحدها.

ولقد ميَّزَ ابن خلدون ـ رحمه الله ـ السياسة الإسلامية عن السياسة الدنيوية، فالأولى سياستها شرعية، تربط صلاح الدنيا بصلاح الآخرة، بينما لا تربط الثانية بين الصلاحين:

" فالسياسة الدنيوية هي المفروضة من العقلاء، وأكابر الدولة وبصرائها، وهي لا تطلع إلا على مصالح الدنيا فقط، بينما السياسة الإسلامية مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها، وهي نافعة في الحياة الدنيا والآخرة "([20]).

يقول الدكتور محمد عمارة: " ذلك هو جوهر ومنطلق الخلاف بين مضمون السياسة في الحضارة الإسلامية، ومضمونها في الحضارة الغربية، يبدأ الخلاف حول مصدر كل حضارة للإنسان، أخليفة هو عن الله سبحانه وتعالى، فتكون دنياه معبراً إلى الآخرة، التي هي خير وأبقى،

فيسوس عمران الدنيا بشريعة الدين، قياماً بتكاليف عقد وعهد الاستخلاف على النحو الذي يجعل هذه السياسة سياسة شرعية؟؟ أم أن هذا الإنسان هو سيد الكون الذي تقف معارفه وعلومه عند ظاهر الحياة الدنيا.. والذي تهدف سياسته للعمران تحقيق المقاصد الدنيوية، ولا شيء وراءها، حتى ليفصل الدين عن العمران كله، وليس فقط عن الدولة كسلطة تنفيذية؟؟([21]).

2. وتُميَّزُ السياسة الشرعية عن السياسة الوضعية باعتماد الأولى على مصادر التشريع الإسلامي، وارتباطها بالوحي، واعتماد الثانية على الأعراف والتجارب الموروثة أو غيرها، دون ربطها بمصدر سماوي([22]).

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: " من الواضح الذي لا يكاد يحتاج إلى شرح: أن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على قواعد الشرع، وأحكامه، وتوجيهاته، فليست كل سياسة شرعية، فكثير من السياسات تعادي الشرع، وكثير من السياسات لا تبالي بالشرع،

رضي أم سخط، قبل أو رفض، إنما تمضي في طريقها وفقاً لتصورات أصحابها وأهوائهم، فمنهم من يحكم فلسفات وأفكاراً معينة " أيديولوجيات " يستند إليها، ويعدل عليها، كما يفعل العلمانيون المعاصرون سواء كانوا عينيين " ليبراليين "، أم سياسيين ماركسيين،

ومنهم من يحكم تقاليد ورثها عمن سبقوه من أباء أو زعماء، لا يسأل نفسه أهي موافقة لشرع أم مخالفة؟ ومنهم من يحكم هواه ومصلحته، وبقاءه على الكرسي، ولا يعبأ بمصلحه الأمة، ولا بمبادئها وطموحاتها، ولا بقيمها ومعتقداتها، ومثل هذه السياسات لا يمكن أن تعتبر سياسة شرعية، إنما السياسة الشرعية المنشودة: شرعية المنطلقات، شرعية الغايات، شرعية المناهج"([23]).

المطلب الثاني الحرية السياسية في الإسلام

يقصد بالحرية السياسية: أن تكون الأمة صاحبة السيادة العليا في شئون الحكم، سواء عن طريق اختيار الحاكم ومراقبته ومشاركته، أو في عزله([24]).

والحرية السياسية ليست منحة من أحد، بل هي جزء أصيل من صميم هذا الدين، وقد كفلها الإسلام بكل معانيها، بل وحثَّ ولاة الأمر على ممارستها ممارسة جادة في واقع الحياةالسياسية.

وسوف نتحدث عن هذه الحريات السياسيةالأربع، وهي: حرية اختيار الحاكم، ومشاركته، ومراقبته، وكذلك عزله، ثم أختم حديثي بالحديث عن حريتين أخريين؛ لما لهما من ارتباط مباشر، وعلاقة وثيقة بالحرية السياسية؛ إذ لا قيمة للحرية السياسية بدونهما،

وهما:

حرية الرأي، وحرية التمتع بالأمن.

الفرع الأول: حق الأمة في اختيار رئيس الدولة:

إن الأمة هي صاحبة الشأن في اختيار رئيس الدولة، فمن اختارته لهذا المنصب كان له الحق بالقيام بمهام رئاسة الدولة الإسلامية، ويتولى أمرها.

وأساس هذا الحق أن الأمة مسئولة عن تنفيذ أحكام الشرع، فقد خاطبها الإسلام بوجوب إدارة شئونها وفق الأحكام الشرعية وإليك أدلة الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء

أولاً: القرآن الكريم:

1.قال الله تعالى: } وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن المُنْكَرِ {([25]).

2. قال الله سبحانه: } يَا أَيُّهَا الذَِّينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكِمْ أَو الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ {([26]).

3. وقال: } وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا {([27]).

وجه الدلالة: هذه النصوص وأمثالها تدل على أن الأمة بمجموعها هي المسئولة عن تنفيذ القانون الإلهي، وتسيير شئون الناس جميعاً.

وبما أنه يتعذر على الأمة مباشرة جميع سلطاتها، وقيامها بواجب التنفيذ بصورتها الجماعية، فقد تحتم عليها الإنابة فيه، بأن تختار الإمام أو الحاكم، ليزاول ما تملكه من سلطة نيابية عنها، وينفذ ما هي مكلفة به شرعاً([28]).

ثانياً: السنة:

1. قال رسول الله r: "إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُواْ أَحَدَهُمْ "([29]).

2. قال رسول الله r: "مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"([30]).

وجه الدلالة: إن هذين الحديثين وأمثالهما يوجبان على الأمة تنصيب إمام عليها، يدير شئونها، ومبايعته على ذلك.

ثالثاً: أقوال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في تقريرهم لهذا الحق:

ونقدم ثلة من أقوال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أكدوا على أن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار إمامها:

قال البغدادي ـ رحمه الله ـ: " قال الجمهور الأعظم من أصحابنا ـ يقصد أهل السنة ـ ومن المعتزلة، والخوارج، والنجارية: إن طريق ثبوتها ـ أي الإمامة ـ الاختيار من الأمة"([31]).

وإلى مثل هذا ذهب الماوردي ـ رحمه الله ـ فقال: " استخلف رسول الله r على جيش مؤتة زيد بن حارثة t وقال: " إِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ فَعَبْدُ اللهِ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَلْيَرْتَضِ المُسْلِمُونَ رَجُلاً "([32]) فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد t فإذا فعل النبي r ذلك في الإمارة جاز مثله في الخلافة"([33])، ففي هذا الحديث تشريع للأمة يمنحها حق اختيار الحاكم.

وبين ابن قدامة ـ رحمه الله ـ هذا الحق بقوله: " من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته، ثبتت إمامته، ووجبت معونته "([34]).

فأقوال العلماء هذه وغيرها، تؤكد على حق الأمة في اختيار الحاكم ومبايعته، وأنها الموكلة بهذا الجانب لوحدها.

الفرع الثاني: حق الأمة في المشاركة في الحياة السياسية:

ويقصد بذلك: أن للفرد حقاً في أن يشارك سلطة الحكم أعمالها، توجيهاً وإدارة وتنفيذاً، وكل ما يتعلق بأمور الدولة وشؤونها([35]).

والمشاركة في الحياة السياسية ليست حكراً على أحد، وليس لفرد، أو فئة، أو طبقة أن تستأثر بها دون الآخرين.

ويتضمن هذا الحق الاشتراك في الانتخابات المختلفة، والاستفتاءات المتنوعة، وكذلك حق الترشيح للهيئات والمجالس المنتخبة، وأخيراً حق التوظف، وبصفة عامة المشاركة في اتخاذ القرارات التي تصدرها الأجهزة والسلطات الحكومية([36]).

وسنتحدث عن هذه الحقوق الثلاثة: حق الترشيح، والانتخاب، وتولي الوظائف العامة.

حق الترشيح:

ويقصد به: حق الفرد في ترشيح نفسه لمنصب من مناصب الدولة، أو وظيفة من وظائفها العامة.

وقد اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: عدم جواز ترشيح الفرد نفسه لوظيفة عامة، أو لمنصب رئاسي أو نيابي في الدولة، وممن ذهب إلى هذا الرأي الأستاذ محمد أسد، والإمام المودودي([37]).

القول الثاني: جواز ذلك، لمن توفرت فيه الشروط والمواصفات الشرعية، وممن ذهب إلى ذلك الدكتور عادل الشويخ، الدكتور عبد الكريم زيدان، والدكتور منير البياتي([38]). الأدلة:

أدلة القول الأول:

1. عن أبي ذر t قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: " يَا أَبَا ذَرٍ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الذِي عَلَيْهِ فِيهَا "([39]).

2. قال r لعبد الرحمن بن سمرة t: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ! لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا "([40]).

وجه الدلالة: يبين هذان الحديثان عدم جواز سعي الفرد المسلم للوظيفة العامة، وترشيح نفسه لها، أو طلبه إياها.

يقول الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في تعليقه على حديث أبي ذر t ـ: " هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية "([41]).

أما ترشيح الإنسان غيره فجائز؛ لأنه لا يتضمن طلب الإمارة، وإنما يتضمن دعوة الأمة إلى انتخاب المرشح الكفء، ومثل هذه الدعوة أمر جائز مستساغ([42]).

أدلة القول الثاني:

استدلوا بقوله تعالى:} قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {([43]).

يقول الألوسي ـ رحمه الله ـ: " وفيه دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة "([44]).

وجه الدلالة: إن ترشيح الكفء نفسه يعتبر من قبيل الدلالة على الخير، وإرشاد الأمة، وإعانتها على انتخاب الأصلح، فهذا يوسف u قد رشح نفسه لتولي منصب رفيع في الدولة.

القول الراجح:

بعد النظر في كلا القولين وأدلة كل منهما، يتبين لي رجحان القول الثاني، القائل بجواز الترشيح؛ للتعليل الذي ذكروه.

أما الأحاديث الواردة بمنع طلب الولاية، فيمكن حملها على طلب الولاية ممن يطلب بها دنيا ورياسة واستعلاء، لا القيام بفرضيتها، أو من ضعيف لا تتوفر فيه شروطها بدليل القرآن الكريم، فقد دل على طلب يوسف u الولاية، كما أن السنة الناهية عن طلب الولاية، ورد فيها تعليل ذلك النهي بأنه:

التطلع المذموم إلى المسؤولية للاستعلاء بها، واتباع هوى النفس، لا القيام بفرضيتها([45])، يدل على ذلك قوله r: " إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ "([46]).

وقد أجاز الماوردي ـ رحمه الله ـ ذلك بقوله: " فحق الترشيح في الإسلام مكفول لمن توافرت فيه الأهلية المطلوبة لمتولي الوظيفة، فله أن يتقدم بنفسه لطلبها، أو أن يقدمه غيره"([47]).

حكم الدعاية للترشيح:

إذا جاز الترشيح ضمن المعايير التي ذُكرت، فليس لمن رشح نفسه أن يقوم بالدعاية الانتخابية التي يقوم بها المرشحون عادة في الوقت الحاضر، من مديح

لأشخاصهم، وتنقيص في حق غيرهم، وإنما يجوز للمرشح أن يعرف نفسه للناخبين، ويبين لهم فكرته ومنهاجه في العمل، ولا يزيد على ذلك([48]).

يقول الإمام الألوسي ـ رحمه الله ـ: " يجوز للإنسان مدح نفسه بالحق، إذا جُهل أمره "([49]).

ويقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: " إذا خلا مدح الإنسان لنفسه من بغي وتكبر، وكان مراده به الوصول إلى حق يقيمه، وعدل يحييه، وجور يبطله، كان ذلك جميلاً جائزاً "([50]).

ويتضح من هذه النصوص ترجيح مدح النفس، عندما يرى الإنسان نفسه صالحاً لولاية دينية، لا يجد غيره أصلح منه لها، وهذا دليل الإيجابية، وعلى هذا فعلى الداعية أن لا يبرر سلبيته أحياناً بالتقوى، أو التواضع، وعليه بالتصدي لإظهار نفسه للمهمات الإسلامية([51]).

حق الانتخاب:

ويقصد به: السلطة القانونية المقررة للناخب، لا لمصلحته الشخصية، ولكن لمصلحة المجموع([52]).

فمن حق كل فرد في المجتمع الإسلامي سواء كان ذكراً أو أنثى ـ إذا كان بالغاً عاقلاً ـ أن يكون له رأي في مصير الدولة؛ لأنه منعم عليه بنصيبه من الخلافة العمومية، ولم يخص الله تعالى تلك الخلافة بشروط خاصة، من الكفاءة والثروة، بل هي مشروطة بالإيمان والعمل الصالح، فالمسلمون سواسية في حق التصويت وإبداء الرأي([53]).

وحق الانتخاب يجد سنده في الكتاب والسنة:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ {([54]).

2. قال الله تعالى: } وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ {([55]).

وجه الدلالة: أمر الله تعالى بالشورى، وحث عليها، ومن أهم الأمور التي تجري فيها الشورى، مشاورة الأمة فيمن يحكمها أو يمثلها، والوسيلة التي من خلالها يُتَعرف على رأي أفراد الأمة هو الانتخاب.

ثانياً: السنة:

قال رسول الله r في بيعة العقبة الثانية، وبعد أن تمت البيعة لثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين من الأوس والخزرج، قال لهم عليه الصلاة والسلام: " أَخْرِجُواْ إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ "([56]).

وجه الدلالة: أرسى النبي r في هذا الحديث مبدأ الانتخاب، بل وشرع أول سابقة دستورية في ذلك.

حق تولي الوظائف العامة:

الوظيفة العامة أمانة استرعانا الله عز وجل إياها، وهي تكليف، وليست حقاً للفرد على الدولة المسلمة، بل طلب الفرد لها وحرصه عليها يحول بينه وبين هذه الوظيفة، روى أبو موسى الأشعري t قال: " دخلت على النبي r أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال r: " إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ "([57]).

ميزان الاختيار:

يقوم ميزان الاختيار والتقنين لإسناد الوظيفة إلى أهلها على دعامتين أساسيتين هما: القوة والأمانة، قال الله تعالى: } إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ {([58]).

والقوة: هي القدرة والكفاءة على القيام بمهام الوظيفة، وهي تختلف باختلاف الوظائف.

أما الأمانة: فترجع إلى إدارة شئون الوظيفة، حسب ما يقضي به الشرع الإسلامي، مع خشية الله ومراقبته، لا خشية الناس وطلب مرضاتهم([59]).

إن عدم التزام رئيس الدولة وولاة الأمر بضوابط التعيين، في إسناد الوظيفة العامة إلى من يستحقها، يعد خيانة للأمانة، وتضييعاً لها، فعن أبي هريرة t قال: قال النبي r: " إِذَا ضُيِّعَت الأَمَانَةُ فَانْتَظِر السَّاعَةَ "، قيل: كيف إضاعتها؟

قال: " إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِر السَّاعَةَ "([60]).

ومن هنا تقع المسئولية والأمانة على ولاة الأمور، في اختيار الأحق والأصلح للوظيفة العامة، واصطفائه.

الفرع الثالث: حق الأمة في مراقبة الحاكم:

من حق الأمة مراقبة الحاكم في تصرفاته وحكمه، ومدى تنفيذه لأحكام الشرع، لاسيما وأن العلاقة بين الأمة والحاكم هي علاقة وكالة، ومن حق الموكِّل أن يراقب وكيله؛ ليطمئن على حسن تصرفه فيما وكل به.

ومستند هذا الحق: أن الحاكم وكيل عن الأمة في تطبيق منهج الله، فإن التزم ذلك أعانته، وإن انحرف وزاغ قوَّمته، إذ أن الأمة مكلفة شرعاً بتغيير المنكر، ويدل على ذلك:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ {([61]).

2. قال الله تعالى: } الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَن المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ {([62]).

وجه الدلالة: يدل هذان النصان على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الأمة، إذ أنها ما نالت ومُنحت صفة الخيرية إلا بهما، وأن الذين مكنهم الله في الأرض يحملون رسالة الإصلاح والتغيير.

ثانياً: السنة:

قال النبي r: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُواْ عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعِقَابٍ مِنْهُ "([63]).

وجه الدلالة: يدل هذا الحديث على أن الأمة مطالبة بتغيير المنكر، ودفع الظلم،

وظلم ذوي السلطان أعظم من ظلم غيرهم، فالنهي عنه أولى، وحيث أن الأمة هي من أنابت الحاكم عنها لإقامة العدل بين الناس، فهي المسئولة عن محاسبته على ظلمه.

ثالثاً: أقوال الحكام وهم يدعون الأمة إلى مراقبتهم:

لقد رُعِي حق الأمة في مراقبة حكامها، واعتني به عناية تامة، تجسد ذلك في تطبيق الخلفاء الراشدين لهذا الحق، وتمسكهم به بل وحرصهم عليه، وهم يدعون الأمة إلى مراقبتهم وتقويمهم إن ظهر في سيرتهم ما يخالف الشرع، أو انحرفوا عن الجادة.

فهذا أبو بكر الصديق t قد خاطب الأمة عند توليه قائلاً: " فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي "([64]).

وهذا رجل يقول لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب t: " اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟ فقال له عمر t: دعه فليقلها لي، نِعم ما قال؛ ثم قال عمر t: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم "([65]).

وبهذا فإن الأمة تملك حقاً في مراقبة الحاكم وتقويمه، فإن أبى التقويم، فقد منحها الإسلام سلطة عزله، وهذا ما بينته في النقطة القادمة.

الفرع الرابع: حق الأمة في عزل الحاكم:

إن الأمة هي التي تختار الحاكم لتنفيذ شرع الله، وتصريف شئونها، ومن يملك حق الاختيار والتعيين، يملك حق العزل.

وأساس هذا الحق يستند إلى أن الحاكم وكيل عن الأمة، وقد اختارته ليمارس السلطة نيابة عنها، فإذا خرج عن حدود وكالته، أو قَصَّرَ، حُقَّ للأمة عزله واختيار سواه([66]).

ويمكن أن تمارس الأمة حقها في عزل الحاكم بواسطة ممثليها، وهم أهل الحل والعقد، وذلك بسحب الثقة عنه، فاستعمال هذا الحق يقتضي وجود المبرر الشرعي، وهو كما ذكرنا خروج عن حدود الوكالة، أو عجز عن القيام بمهامها([67]).

وهذا ما صرح به الفقهاء، قال الغزالي ـ رحمه الله ـ: " إن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول، أو واجب العزل ... وهو على التحقيق ليس بسلطان "([68]).

طرق العزل:

قد لا يستجيب الحاكم لقرار عزله الصادر عن ممثلي الأمة، وفي هذه الحالة يجوز للأمة استعمال السبل المشروعة لتنحيته من منصبه إذا وجد المبرر الشرعي لذلك، مثل خروجه السافر عن نهج الإسلام وأحكامه، مما يعد كفراً في نظر الإسلام([69]).

يؤيد ذلك ما روى عبادة بن الصامت t قال: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ r فَبَايَعْنَاهُ فكان مما أخذ علينا أن بايعنا على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنِا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لا ننازع الأَمْرَ أَهْلَهُ، قال: إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ

مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ([70]).

بيد أن حق الأمة في عزل الحاكم الذي خولها الشرع به ليس مطلقاً في كل الأحوال، ولكنه مقيد بتحقيق المصلحة العامة، وأن لا يترتب عليه نتائج تشكل خطراً على الأمة المسلمة.

فعزل الخليفة بسبب يوجبه، نوع من النهي عن المنكر، فيخضع لقواعده، ومن قواعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: أن لا يكون العمل على إزالة المنكر مستلزماً، أو مفضياً إلى وقوع منكر أعظم منه([71]).

الفرع الخامس: حرية الرأي:

يقصد بحرية الرأي: أن يكون لدى الإنسان القدرة على تكوين الرأي وإعلانه، دون تأثير من أحد([72]).

وإذا كانت الديمقراطية قد أعطت هذه الحرية أهمية كبيرة، وتحاول أن توفر لها الضمانات لحمايتها، وتهيئ لها وسائل التعبير، وطرق الممارسة، وبخاصة فيما يتعلق بتكوين الرأي الآخر وحرية المعارضة([73])، فقد نادى الإسلام بحرية الرأي وكفلها، ولم يجعلها مجرد حق للإنسان يطالب به، أو يتنازل عنه، بل هي واجب عليه وفريضة وأمانة، ونوع من الجهاد والعبادة([74]).

وحرية الرأي تجد أساسها في القرآن الكريم، والسنة النبوية، فقد اعتبر القرآن الكريم من يتصدى لهذا الواجب من المفلحين، قال الله تعالى: } وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَن المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ {([75]).

وبهذا يثبت أن حرية الرأي السياسي مشروعة في الإسلام في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والإسلام وهو يجعل إبداء الرأي والتعبير من أوجب واجبات المسلم، عليه أن يمارسه كلما كان لذلك مقتضى، حذَّر من سلبية الإنسان، وانعزاليته، وعدم مساهمته بالرأي في شئون المجتمع([76])، يقول النبي r: "

وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَقاباً مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتجَيبُ لَكُمْ "([77]).

وقد دعا الإسلام إلى الصدع بكلمة الحق، والتضحية في سبيلها، والاستشهاد دونها، واعتبرها من أفضل أنواع الجهاد، فقال r: " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ، فَأَمَرَهُ أو نَهَاهُ فَقَتَلَهُ "([78]).

ويدعو النبي r المسلم إلى تكوين شخصيته المستقلة، وذلك في إبدائه للرأي، فيقول:

" لا تَكُونُواْ إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُواْ ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُواْ أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُواْ، وَإِنْ أَسَاؤُواْ، فَلا تَظْلِمُواْ "([79]).

هذا وقد ضرب النبي r المثل الأعلى في حرية الرأي، وسار على نهجه الصحابة الكرام، وسلفنا الصالح y حتى أضحت حرية الرأي سمة من سمات المجتمع الإسلامي.

فهذا سلمان الفارسي t يعلن في غزوة الأحزاب عن رأيه بحفر الخندق حول المدينة، ويأخذ برأيه النبي r، وينتصر المسلمون([80]).

بيد أن حرية الرأي التي منحها الإسلام للإنسان لا تكون مطلقة لا حدود لها، ولكنها مقيدة بضوابط الشرع.

ضوابط حرية الرأي، وقيودها:

قيد الإسلام حرية الرأي، بحيث لا تخرج عن الإطار العام للشريعة الإسلامية، ولا تتعدى أهدافها، ومن هذه الضوابط والقيود:

1. الاعتماد ـ في إعلان الرأي ـ على الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والإعراض عن الجاهلين:

} ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتِي هِي أَحْسَنُ {([81]).

2. أن لا تصل حرية الرأي إلى نشر الأهواء والضلالة والبدع:بل يتعين على الفرد مراعاة المبادئ الإسلامية والعقيدة الإسلامية، فلا يجوز له الطعن في الإسلام، أو برسوله r، أو بعقيدته بحجة الرأي، فإن هذا الصنيع يجعل المسلم مرتداً يستحق العقاب، ولا تشفع له حرية الرأي([82]).

3. إبداء الرأي دون سب أو فتنة، وعدم الجهر بالسوء: وذلك بالخوض في حق الناس بما يتنافى وسمعة المسلم، إلا من أصابه ظلم: } لا يُحِبُ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ {([83]).

4. ترك المراء والمجادلة: لما فيهما من إيذاء الآخرين، قال r: " أَنَا زَعِيمُ بَيْتٍ فِي رَبَضِ الجّنَّةِ، لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كان مُحِقاً، وَبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ، لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحاً، وَبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ "([84])، ويقول r: " مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدَى كَانُواْ عَلَيْهِ، إِلا أُوتُواْ الجَدَلَ "([85]).

5. عدم الخوض في أعراض الناس، وإذاعة أسرارهم: لما يؤدي إليه ذلك من استهتار بالقيم الأخلاقية، وتزيين الرذيلة والانحلال الخلقي بين أفراد المجتمع([86]).

الفرع السادس: حرية التمتع بالأمن:

ويقصد بها: أن يعيش الإنسان شاعراً بالطمأنينة على نفسه وماله، وعرضه وأهله، ويمنع الاعتداء عليه، أو التحقير من شأنه، أو تعذيبه واضطهاده، سواء كان ذلك من الدولة، أم من أفراد المجتمع([87]).

والأمن من أَجَلِّ النعم الإلهية على البشرية، ومن أعظمها في حياة الإنسان، وبها يمكن له ممارسة حياته، وأداء أعماله وشئون عباداته، وقوة عطائه([88]).

والمتأمل في منهج الإسلام، يجده يولي هذه الحرية اهتماماً عظيماً، حتى أن القرآن الكريم جعله بمنزلة الطعام الذي تتوقف عليه حياة الإنسان، فقال الله تعالى ـ ممتناً على قريش ـ: } فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا البَيْتِ ~ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ {([89]).

وإذا كان الطعام حياة مادية للإنسان، فإن الأمن حياة معنوية له([90]).

وعندما تحدث النبي r عن ضروريات الحياة، اعتبر الأمن أحد أعمدتها، ومن ألزم ضرورياتها، فقال في الحديث: " مَنْ أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافَىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا "([91]).

ونعمة الأمن تمناها الأنبياء([92])، ولمكانتها بشر الله تعالى بها نبيه محمداً

بدخول المسجد الحرام آمنين([93])، وهي نعمة يحظى بها أهل الجنة([94]).

والإسلام يعتمد في منهجه لإقرار الأمن على صدق الانتماء والولاء، فالله تعالى وعد بالأمن، والسيادة، والتمكين في الأرض من يلتزمون ذلك، فقال سبحانه: } وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُم الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً {([95]).

أما إذا انحرفت الجماعات الآمنة المطمئنة عن هدى الله تعالى، وكفرت بأَنعُمِ الله سبحانه، فقد توعدها الله عز وجل بأشد العقوبات القدرية، فقال سبحانه: } وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {([96]).

فالخوف عقوبة بليغة لا تكاد تعدله عقوبة، والأمن نعمة عظيمة لا تكاد تعدلها نعمة([97]).

وقد أوجب الإسلام على الدولة حماية الفرد من الاعتداء والأذى، وقيامها بتوقيع العقوبات الزاجرة على كل من يقع منه عدوان أو تجاوز أو تَعَدٍّ([98])، وهذا الحق يجد سنده في القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ{([99]).

2. قال سبحانه: } وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ {([100]).

وجه الدلالة: يؤكد هذان النصان حق الإنسان في الأمن، فلا اعتداء عليه إلا بمقدار ما اقترف من الظلم.

ويقرر القرآن الكريم العقوبة التي تتناسب مع الاعتداء، وفي هذا ضمان لحرية الإنسان في التمتع بالأمن.

ولا يعتبر واجب الدولة في كفالتها للحرية بالنسبة لمواطنيها المسلمين فقط، بل يمتد إلى كل من يعيش فوق أرضها من أقليات، ما داموا يلتزمون بما تعاهدوا عليه، أما إذا ما خرجوا عن العهد، فالذنب ذنبهم([101]).

ولهذا يكون شر الأنظمة هو الذي يسلب الناس نعمة الأمن، أو سعادة الطمأنينة، فيصبح فيه الإنسان وهو لا يدري أين يمسي؟ ويمسي وهو لا يدري أين يصبح؟ ([102]).

([1]) أخرجه ابن ماجه: السنن (كتاب الجهاد، باب الوفاء بالبيعة ، والحديث صحيح، الألباني:

صحيح ابن ماجه (2/958 ح 2871).

([2]) ابن منظور: لسان العرب (6/108)، مادة: سوس.

([3]) الفيروزأبادي: القاموس المحيط .

([4]) مجموعة علماء: المعجم الوسيط (1/462).

([5]) ابن نجيم: البحر الرائق (5/76).

([6]) الماوردي: قوانين الوزارة.

([7]) ابن العربي: العواصم من القواصم .

([8]) الماوردي: الأحكام السلطانية.

([9]) ابن عابدين: منحة الخالق على البحر الرائق (5/76).

([10]) ابن القيم: الطرق الحكمية.

([11]) ابن خلدون: المقدمة.

([12]) الدريني: خصائص التشريع الإسلامي.

([13]) عمرو: السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية .

([14]) سورة الحج: الآية (41).

([15]) حوى: جند الله ثقافة وأخلاقاً.

([16]) عدوان: جذور علم السياسة.

([17]) السابق نفسه.

([18]) عمرو: السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية.

([19]) عمارة: الإسلام والسياسة .

([20]) ابن خلدون: المقدمة.

([21]) عمارة: الإسلام والسياسة .

([22]) عمرو: السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية.

([23]) القرضاوي: السياسة الشرعية.

([24]) الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، وافي: حقوق الإنسان في الإسلام.

([25]) سورة التوبة: من الآية (71).

([26]) سورة النساء: من الآية (135).

([27]) سورة المائدة: من الآية (38).

([28]) البياتي: النظام السياسي في الإسلام ، زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية .

([29]) سبق تخريجه (ص: 32)، وهو حسن صحيح.

([30]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين .

([31]) البغدادي: أصول الدين.

([32]) أخرجه ابن عبد البر: التمهيد (8/388)، والحديث صحيح، الألباني: إرواء الغليل (6/101 ح 1662). وزيادة فليرتض المسلمون رجلاً لم أعثر عليها، ولكن ومع افتراض عدم صحة الزيادة، فإن النبي r قد أقر الصحابة y على اختيارهم لخالد بن الوليد .

([33]) الماوردي: الأحكام السلطانية.

([34]) ابن قدامة: المغني (9/5).

([35]) سعيد: الإسلام وحقوق الإنسان.

([36]) عبد الله: النظم السياسية والقانون الدستوري .

([37]) أسد: منهاج الإسلام في الحكم، المودودي: نظرية الإسلام السياسية .

([38]) البياتي: النظام السياسي في الإسلام ، زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية، الشويخ: تقويم الذات .

([39]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة ح 1825).

([40]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الأحكام، باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها 6/2613 ح 6727)، مسلم: الصحيح (كتاب الأيمان، باب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها 3/1273 ح 1652).

([41]) النووي: شرح صحيح مسلم (12/210).

([42]) زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية .

([43]) سورة يوسف: الآية (55).

([44]) الألوسي: روح المعاني (13/5).

([45]) البياتي: النظام السياسي في الإسلام .

([46]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة.

([47]) الماوردي: الأحكام السلطانية.

([48]) البياتي: النظام السياسي الإسلامي ، زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية.

([49]) الألوسي: روح المعاني (13/5).

([50]) ابن الجوزي: زاد المسير (4/245).

([51]) الشويخ: تقويم الذات (ص: 22).

([52]) عبد الله: النظم السياسية والقانون الدستوري.

([53]) المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور .

([54]) سورة آل عمران: من الآية (159).

([55]) سورة الشورى: جزء لآية (38).

([56]) أحمد: المسند (مسند كعب بن مالك ، والحديث حسنه الأرناؤوط في تحقيق المسند.

([57]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة.

([58]) سورة القصص: من الآية (26).

([59]) الأسطل: حقوق الإنسان في الشريعة والقانون، زيدان:الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية

([60]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب العلم، باب فضل العلم 1/33 ح 59).

([61]) سورة آل عمران: من الآية (110).

([62]) سورة الحج: الآية (41).

([63]) أخرجه الترمذي: السنن (كتاب الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر ، والحديث صحيح، الألباني: صحيح وضعيف الترمذي .

([64]) ابن كثير: البداية والنهاية (6/301)، الطبري: الرياض النضرة (2/213).

([65]) ابن الجوزي: سيرة ومناقب عمر، ابن المبرد: محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/601).

([66]) البياني: النظام السياسي الإسلامي .

([67]) زيدان: أصول الدعوة .

([68]) الغزالي: إحياء علوم الدين (2/154).

([69]) زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية.

([70]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء 3/1470 ح 1709).

([71]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/129- 130).

([72]) الأسطل: حقوق الإنسان في الشريعة والقانون، الوحيدي: الفقه السياسي والدستوري في الإسلام.

([73]) عبد الله: النظم السياسية والنظام الدستوري.

([74]) الألفي: حقوق الإنسان وواجباته في الإسلام ، عبد الله: النظم السياسية والنظام الدستوري ، الفنجري: الحرية السياسية في الإسلام، النجار: دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين .

([75]) سورة آل عمران الآية (104).

([76]) سعيد: الإسلام وحقوق الإنسان .

([77]) أخرجه أحمد: المسند (مسند حذيفة بن اليمان ، والحديث حسن، الألباني: صحيح الجامع .

([78]) أخرجه ابن عبد البر: (13/55)، السيوطي: الجامع الصغير (4/121)، والحديث صحيح، الألباني: السلسلة الصحيحة (1/716 ح 374).

([79]) أخرجه الترمذي: السنن (كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو 4/364 ح 2007)، وقال: " هذا حديث حسن غريب ".

([80]) المقدسي: البدء والتاريخ (4/217).

([81]) سورة النحل: من الآية (125).

([82]) زيدان: الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية .

([83]) سورة النساء: من الآية (148).

([84]) أخرجه أبو داود: السن (كتاب الأدب، باب في حسن الخلق 4/253 ح 4800)، والحديث حسن، الألباني: صحيح سنن أبي داود (4/358 ح 1993).

([85]) أخرجه أحمد: المسند (مسند أبي أمامة 5/252 ح 22218)، والحديث حسن، الألباني: صحيح سنن الترمذي (5/378 ح 3253)، والزعيم هو الكفيل، والبيت هو القصر، الخطابي: معالم السنن.

([86]) الأسطل: حقوق الإنسان في الشريعة والقانون ، حماد: حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية، سعيد: الإسلام وحقوق الإنسان، الوحيدي: الفقه السياسي والدستوري في الإسلام .

([87]) سعيد: الإسلام وحقوق الإنسان،عبد الفتاح: القيم السياسية في الإسلام ، القرضاوي: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا.

([88]) عبد الفتاح: القيم السياسية في الإسلام ، محفوظ:دعائم الأمن في توجيهات الإسلام ، بحث منشور في مجلة منبر الإسلام العدد (10).

([89]) سورة قريش: الآيتان (3، 4).

([90]) عبد الرحيم: نعمة الأمن في الإسلام ، بحث منشور في مجلة الأزهر العدد (4).

([91]) أخرجه البيهقي: السنن الكبرى (كتاب الزهد الكبير 2/89 ح 105)، والحديث حسن، الألباني: صحيح سنن الترمذي (4/475 ح 2346).

([92]) قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: } رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً{ (سورة إبراهيم: من الآية (35)، وقال سبحانه على لسان يوسف عليه السلام: } وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ { (سورة يوسف: من الآية 99).

([93]) قال الله تعالى: } لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهَ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ { (سورة الفتح: من الآية (27).

([94]) قال الله تعالى: } ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ { (سورة الحجر: الآية (46).

([95]) سورة النور: من الآية (55).

([96]) سورة النحل: الآية (112).

([97]) القرضاوي: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا.

([98])عبد الله: النظم السياسية والقانون الدستوري ، سعيد: الإسلام وحقوق الإنسان .

([99]) سورة البقرة: من الآية (194).

([100]) سورة النحل: من الآية (126).

([101]) حوى: الإسلام (3/289).

([102]) القرضاوي: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا.

المبحث الثاني التعددية الحزبية السياسية في ظل الدولة الإسلامية، وأنظمة الحكم المعاصرة

ويتكون من خمسة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الحزبية

المطلب الثاني: الأحزاب السياسية في التاريخ الإسلامي

المطلب الثالث: حكم التعددية السياسية في الدولة الإسلامية

المطلب الرابع: حكم التعددية السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة

المطلب الخامس: الموقف من الأحزاب غير الإسلامية

المطلب الأول مفهوم الحزبية، ووظائفها

أولاً: مفهوم الحزبية:

الحزب في اللغة:

الحِزْبُ: جماعة الناس؛ وحِزْبُ الرجل: أصحابه وجنده الذين مع رأيه؛ والجمع: أحزاب؛ والأحزاب: جنود الكفار، تألبوا وتظاهرا على حزب النبي r، وفي الحديث: " اللَّهُمَّ اهْزِم الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِم الأَحْزَابَ، وَزَلْزِلْهُمْ "([1]).

والحِزْبُ: الصنف من الناس، قال ابن الأعرابي: الحزب الجماعة، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم، فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضاً([2]).

والحِزْبُ أيضا: الطائفة من الناس، وتَحَزَّبُوا: تجمعوا وصاروا أحزاباً، وفي حديث ابن الزبير رضي الله عنهما: " يُرِيدُ أَنْ يُحَزِّبَهُمْ "([3])، أي يقويهم ويشد منهم، ويجعلهم في حزبه، أو يجعلهم أحزاباً([4]).

الحزب السياسي في الاصطلاح:

تعددت تعريفات الحزب السياسي بين المفكرين، وكان من أهمها ما يلي:

1. ما عرفه فرنسوا غوغيل وهو: " مجموعة منظمة للمشاركة في الحياة السياسية، بهدف السيطرة كلياً أو جزئياً على السلطة، دفاعاً عن أفكار ومصالح محازبيها "([5]).

2. ويرى أندريه هوريد أنه: " تنظيم دائم يتحرك على مستوى وطني، ومحلي، من أجل الحصول على الدعم الشعبي، ويبغي الوصول إلى ممارسة السلطة، بغية تحقيق سياسة معينة "([6]).

3. وعرفه سليمان الطماوي: " بأنه مجموعة متحدة من الأفراد، تعمل بمختلف الوسائل الديمقراطية للفوز بالحكم، بقصد تنفيذ برنامج سياسي معين "([7]).

ويتضح من التعريفات السابقة أن الحزب السياسي يقوم على ثلاثة عناصر أساسية:

1. تنظيم سياسي له هيكل معين.

2. أعضاء من الشعب ينتمون إلى هذا التنظيم، والدفاع عن مبادئه.

3. هدف يتمثل في الوصول إلى الحكم، وممارسة السلطة، لتحقيق مبادئ الحزب، وتنفيذ برنامجه السياسي([8]).

ونحن لا نختلف مع هذه التعاريف في حقيقة الحزب وتكوينه، إلا أنه لا يمكن استصحاب هذه التعاريف إلى الفكر السياسي الإسلامي، وذلك لاشتمالها على بعض الحقائق التي تتنافى مع الشريعة الإسلامية الغراء، ومنها:

1. إن الحزب في المفهوم الإسلامي له أهداف، وتطلعات شرعية وسياسية مغايرة لما تبغيها الأحزاب الديمقراطية، فهو يسعى لتحكيم شريعة الله، وإرساء معالم الإسلام.

2. إن الوصول إلى الحكم، وممارسة السلطة لا يمثل هدفاً لقيام الحزب في الإسلام، وإنما هو وسيلة ضرورية من وسائل تحقيق أهدافه.

3. إن الحزب في الإسلام يعتمد وسائل مشروعة في طريق تنفيذ برنامجه السياسي، بخلاف غيره من الأحزاب التي تسلك الوسائل الديمقراطية، حيث يخالف بعضها منهج الإسلام، والغاية لا تبرر الوسيلة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " وأما رأس الحزب، فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله r من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم"([9]).

وفي ضوء ما تقدم بات واضحاً مفهوم الحزب السياسي إلا أنه يحتاج إلى تقييده بقيود تضبط مقاصده ووسائله بضوابط الإسلام.

وعليه فالحزب السياسي في الإسلام هو: " مجموعة منظمة اجتمعت على ما أمر الله به ورسوله، للمشاركة في الحياة السياسية، بهدف إقامة الحق والعدل، ورعاية مصالح الأمة".

وهناك عدة وظائف وأغراض يهدف إليها نظام الأحزاب، أحاول إبرازها فيما يلي:

ثانياً: وظائف الأحزاب السياسية:

إن تعدد الأحزاب السياسية أمر ضروري، وأساسي لأداء عدة وظائف ومهام سياسية، يصعب تحقيقها في غياب تعدد الأحزاب، بخاصة في ظل ظروف العصر الحديث([10])، ومن أهم هذه الوظائف:

1. إلقاء الضوء على المسائل الهامة التي تواجه المجتمع، والقيام بدور تنويري وترشيدي للمجتمع، لإعانته على تحديد موقفه من القضايا المطروحة عليه، وهي بذلك تأخذ بيد الجماهير نحو دمجها في العملية السياسية، وزيادة مشاركتها فيها.

2. تقوم الأحزاب عادة بمراقبة أعمال الحكومة، ومحاسبتها بالوسائل القانونية المشروعة، وتسعى لفضح مساوئ سياسات الحكومة أمام المجتمع، للضغط عليها

كي تتراجع عنها، فتدرأ عن المجتمع كثيراً من المشكلات.

3. تنظيم وسائل التعبير، وتوفير منابر للأفراد والفئات، وضبطها حتى لا تتحول الاختلافات إلى صدامات عنيفة تودي بوحدة المجتمع.

4. إعداد القادة، وتقديم الأشخاص المرشحين للانتخابات، وكذلك البرامج السياسية التي تحدد سياسات الأحزاب والحكومات المقبلة، التي تشكلها هذه الأحزاب في حالة النجاح، وباختيار الأحزاب للمرشحين، يخرج المرشح من دائرة الحرج إذا قام بطلب الولاية وتزكية نفسه بذلك.

5. ويعد مبدأ تعدد الأحزاب السياسية من أهم الضمانات والوسائل الحديثة في خدمة أي نظام سياسي حر حسن النية، في سعيه لتحقيق الديمقراطية الشرعية، وحرصه على منع الاستبداد([11]).

6. إيجاد مناخ صالح لنمو نظريات متنوعة في السياسة والاجتماع وازدهارها، وتقوم بدورها بعرض هذه النظريات على المجتمع لمناقشتها، حتى يتم الوصول إلى ما هو أصلح، وتفتح باباً لتبادل الآراء، لاتخاذ المواقف الصحيحة حول الأوضاع الراهنة، والحوادث المستجدة([12]).

7. تنظيم الاحتجاجات ضد الهيئة الحاكمة، وكفها عن العدوان والطغيان في ممارسة السلطة، وإعطاء الشعب فرصة اختيار البديل، وفي نفس الوقت توفير الفرصة لمن يتطلعون إلى الحكم والسلطة أن يرشحوا أنفسهم أو ممثلهم([13]).

المطلب الثاني الأحزاب السياسية في التاريخ الإسلامي

كان للأحداث الأليمة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وما عقبها من حادثة التحكيم، دورٌ بارزٌ في نشوء التعددية الحزبية ببن أوساط المجتمع الإسلامي، فقد أضحى كل حزب يتبنى رأياً، ويتفانى في سبيله.

ونحن إذا نظرنا إلى نشأة هذه الأحزاب بالمفهوم الحديث للحزبية، لقلنا: إنها مسألة سياسية خالصة، فالصراع بين المسلمين كان صراعاً سياسياً حول منصب الخلافة، وحول أحقية كل طرف من أطراف النزاع في هذا المنصب، ولكن الأمر لم يكن على هذا النحو في ذلك العصر،

بل إن هذه الأحزاب السياسية قد اصطبغت بصبغة دينية قوية، نظراً لما كان للدين من أثر ومكانة في النفوس في ذلك العصر.

وهكذا كان الخلاف السياسي سبباً من أسباب الخلاف الديني، وسبباً في نشوء العقائد والفرق من الأحزاب([14]).

وأشهر هذه الأحزاب الشيعة، والخوارج، وأهل السنة:

الفرع الأول: الشيعة:

الشيعة: هم الذين شايعوا علياً t، وهم يقدمونه على سائر أصحاب رسول الله و([15])، وهم أيضاً القائلون بإمامته نصاً ووصية، إما جلياً، وإما خفياً([16]).

وترجع نشأة هذا الحزب إلى الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي r أن أهل بيته أولى أن يخلفوه، وأولى أهل البيت علي بن أبي طالب ([17]).

وكان الاختلاف في الإمامة أول اختلاف بين المسلمين بعد نبيهم r لما قبضه الله U، إذ اجتمعت الأنصار y في سقيفة بني ساعدة، وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عبادة t، وقد بلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فأعلمهم أبو بكر t أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم بقوله r: " الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشَ "([18])، فأذعنوا لذلك منقادين، ورجعوا y إلى الحق طائعين،

بعد أن قالت الأنصار y: " مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ "([19])، ثم بايعوا أبا بكر t، واجتمعوا على إمامته([20]).

واستمر الأمر على ذلك، ولم يحدث خلاف غيره في حياة أبي بكر t وأيام عمر t، إلى أن ولي عثمان بن عفان t، وفي خلافته ظهر المذهب الشيعي([21]).

وتعتبر الشيعة من أقدم الفرق الإسلامية، حيث ظهروا بمذهبهم السياسي في آخر عصر عثمان t، ونما وترعرع في عهد علي t؛ إذ إنه كلما اختلط بالناس ازدادوا إعجاباً بمواهبه وقوة دينه وعلمه، فاستغل دعاة فكرة التشيع هذا الإعجاب، وأخذوا ينشرون نحلتهم بين الناس.

ولما جاء العصر الأموي، ووقعت المظالم على آل البيت، واشتد نزول أذى الأمويين بهم، ظهرت دفائن المحبة لهم، والشفقة عليهم، ورأى الناس في علي وأولاده y شهداء هذا الظلم، فاتسع نطاق المذهب الشيعي، وكثر أنصاره([22]).

والتاريخ السياسي للشيعة كان عبارة عن ثورات متعددة، فقد جسدت الشيعة الرفض السياسي لبقاء السلطة خارج أهل البيت([23]).

آراؤهم:

اختلف أصحاب المذهب الشيعي إلى فرق عدة، وأساس اختلافهم يرجع إلى الاختلاف في المبادئ والآراء، ومن أهم

آرائهم:

1. أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، بل هي ركن الدين، وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها، ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر([24]).

فالإمامة أهم مسألة يدور فيها الخلاف بين أهل السنة الذين يقولون: إن الإمامة طريقها الشورى والاختيار، والبيعة من الأمة، وليست شأناً دينياً سماوياً، سبيلها النص والوصية، والتعيين كما تقول الشيعة([25]).

2. الإمام عند الإمامية في عصمته، وصفاته، وعلمه منذ صغره، وفي كبره هو معصوم من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، عمداً أو سهواً، لذا يجب أن يكون أفضل الناس وأحلمهم، وأشجعهم وأعلمهم([26]).

يقول الخميني في ذلك: " ونحن نعتقد أن المنصب الذي منحه الأئمة للفقهاء، لا يزال محفوظاً؛ لأن الأئمة لا يتصور فيهم السهو أو الغفلة، نعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين "([27]).

بل وتَعتبِر الإمامية أن منزلة الأئمة لا تدانيها منزلة الملائكة والنبيين، يقول الخميني: " وإن من ضروريات مذهبنا: أن لأئمتنا مكاناً لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل "([28]).

3. إن الإمامية يجوزون أن تجري خوارق العادة على يد الإمام لتثبيت إمامته، ويسمون الخارق للعادة الذي يجري على يديه معجزة، كما يسمى الخارق الذي يجري على أيدي أنبياء الله معجزة([29]).

4. من الشيعة من غالوا في تقدير علي وبنيه y، حتى رفعوا علياً t إلى مرتبة الألوهية، ومنهم المعتدلون المقتصدون الذين اقتصروا على تفضيله على كل الصحابة y من غير تكفير أحد، ولا تقديس له([30]).

فرق الشيعة:

1. السبئية: وهم أتباع عبد الله بن سبأ، كان يهودياً من أهل الحيرة أظهر الإسلام، وكانت تنادي هذه الفرقة بألوهية علي ([31]).

2. الغرابية: وهذه الفرقة أوجبت النبوة بعد النبي r، وسميت بذلك لقولهم: إن محمداً r كان أشبه بعلي t من الغراب بالغراب، وقالوا: إن الله بعث جبريل u بالوحي إلى علي t، فغلط جبريل بمحمد ([32]).

3. الكيسانية: وكانت تعتقد في إمامة محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، المعروف بابن الحنفية، وتنسب هذه الفرقة إلى كيسان مولى أمير المؤمنين علي t، وكان على رأس الفرقة المختار بن أبي عبيدة الثقفي([33]).

4. الزيدية: وهم أصحاب زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي y، وهم أقرب الفرق الشيعية إلى جماعة المسلمين؛ لميلهم إلى القصد والاعتدال في الإمامة، وهي أهم نقطة خلافية بين السنة والشيعة([34]).

5. الإمامية (الإثنا عشرية): وهذه الفرقة يدخل في عمومها أكثر مذاهب الشيعة القائمة الآن في العالم الإسلامي، في إيران والعراق ولبنان والهند، وغيرها من البلاد الإسلامية، وعقيدتهم هي إيمانهم المطلق بإمامة علي بن أبي طالب t إيماناً ظاهراً كاملاً، ووصفه بالوصي، وانتقال الوصايا إلى أبنائه من بعده([35]).

6. الإمامية (الإسماعيلية): وهم ينتسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وهؤلاء كان لهم دولة، فالفاطميون في مصر والشام منهم، والقرامطة الذين سيطروا وقتاً على عدة أقاليم إسلامية منهم([36]).

7. الحاكمية والدروز: الدروز فرقة إسماعيلية اتسمت بطابع الباطنية، حيث أخفوا عقيدتهم عن غيرهم من الفرق الإسلامية، وقد نشأوا في إبان العصر الفاطمي، وظلوا منطوين على أنفسهم وقتاً، وقد كانت هذه السرية ـ التي تعد طريقة هذه الفرقة ـ سبباً في أن وجد الحاكمية، وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله الفاطمي، الذي ادعى أن الإله قد حل فيه، ودعا إلى عبادته([37]).

8. النصيرية: وهؤلاء كانوا مع الإثنا عشرية، أو هم يدعون الانتساب إليهم، ويعتقدون أن آل البيت أوتوا المعرفة المطلقة، وأن علياً t لم يمت، وأنه إله قريب من الإله([38]).

تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

الفرع الثاني: الخوارج:

الخوارج: جمع خارجة، أي طائفة، وهم قوم مبتدعون، سموا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم عن خيار المسلمين([39]).

ويعتبر الخوارج أول حزب سياسي نشأ في الإسلام، وظهر كقوة سياسية معارضة على الأرض، وتزامن ذلك مع ظهور الشيعة، إلا أن الشيعة أسبق في فكرتها.

ومبدأ نشأة هذا الحزب فور إعلان نتيجة التحكيم بين أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، بعد موقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، إذ تعالت الهتافات من معسكر علي t: كَفَر الحكمان، لا حكم إلا لله، وانقلب المؤيدون أعداء، وأصبحوا أكثر خطراً على علي t من جيش معاوية ([40]).

وكان موقف علي t منهم أول الأمر ألا يحاربهم حتى يبدأوه بالحرب، فلما عمدوا إلى استعمال العنف، وقتلوا عبد الله بن خباب وفي عنقه المصحف، ومعه امرأته، ولما ركبوا رؤوسهم، ولم يحاولوا أن يستجيبوا لدعوة علي t، خرج إليهم في يوم النهروان، وأوقع بهم، وقتل منهم عدداً كبيراً،

وقتل زعيمهم ابن وهب، وقد كان يمكن لعلي t أن يقضي على الخوارج قضاء مبرماً، ولكنهم ما لبثوا أن تربصوا به، وأرسلوا إليه واحداً منهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي، فقتله في المسجد، وبعد مقتل علي t اتسع نشاط الخوارج، وخاضوا كثيراً من المعامع في عهد معاوية ([41]).

وفي زمن العباسيين حاربوهم في قوة وصلابة وجَلَدٍ، كالذي في العصر الأموي، وكثرت ثوراتهم في كثير من البلدان، إلا أن العباسيين انتصروا عليهم، وكانت هذه الهزائم المتوالية سبباً في ضعف أمرهم، وقلة شأنهم، فلم يعد لهم من القوة والقتال أثر في التاريخ كبير([42]).

وتعد فرقة الخوارج أشد الفرق الإسلامية دفاعاً عن مذهبها، وحماسة لآرائها، وأشدها تهوراً واندفاعاً، وقد استرعت ألبابها كلمة لا حكم إلا لله، فاتخذوها ديناً ينادون به، وقد استهوتهم أيضاً فكرة البراءة من سيدنا عثمان t، والإمام علي t، والحكام الظالمين من بني أمية، وكانوا يمتازون بالتمسك بظواهر الألفاظ، وحب الفداء، والحماسة، والرغبة في الموت والاستهداف للمخاطر([43]).

آراؤهم:

هناك آراء ومبادئ عامة قررها الخوارج، والتقوا حولها، ومن أهم الآراء التي اعتنقها معظم الخوارج ما

يلي:

1. إن الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حر صحيح يقوم به عامة المسلمين لا فريق منهم، ويستمر خليفة ما دام قائماً بالعدل، مقيماً للشرع، مبتعداً عن الخطأ والزيغ، فإن حاد وجب عزله وقتله([44]).

2. إن الإمامة تجوز في غير قريش، وكل مَن ينصبونه برأيهم، وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور، كان إماماً([45]).

3. إن النجدات من الخوارج يرون أن لا حاجة إلى إمام إذا أمكن الناس أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن التناصف لا يتم إلا بإمام يحملهم على الحق فأقاموه جاز، فإقامة الإمام في نظرهم ليست واجبة بإيجاب الشرع، بل جائزة، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة([46]).

4. أجمع الخوارج على أن كل كبيرة كفر، إلا النجدات فلم يقولوا بذلك، وأجمعوا على أن الله يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً([47]).

فرق الخوارج:

كان الاختلاف في الرأي بين الخوارج سبباً قوياً لاختلافهم وتفرقهم إلى فرق عديدة، بلغت عشرين فرقة، ومن أشهرها:

1. الأزارقة: هم أتباع نافع بن الأزرق الحنفي، المكنى بأبي راشد، وهم أكثر فرق الخوارج عدداً، وأشدهم شوكة([48]).

2. النجدات: وهم أتباع نجدة بن عويمر من بني حذيفة، وقد خالفوا الأزارقة في تكفير قعدة الخوارج، واستحلال قتل الأطفال، ويرون أن إقامة الإمام واجب وجوباً مصلحياً وليس شرعياً، ويقولون بمبدأ التقية([49]).

3. الصفرية: وهم أتباع زياد بن الأصفر، وكانوا أميل إلى المسالمة من الأزارقة، كما كانوا أقرب إلى الاعتدال، وأبعد عن التطرف في أحكامهم([50]).

4. العجاردة: هم أتباع عبد الكريم بن عجرد أحد أتباع عطية بن الأسود الحنفي الذي خرج على نجدة([51]).

5. الإباضية: وهم أتباع عبد الله بن أباض، وهم أكثر الخوارج اعتدالاً، وأقربهم

إلى الجماعة الإسلامية تفكيراً، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو، وهم أشهر فرق الخوارج على الإطلاق؛ لأنهم لا يزالون إلى يومنا هذا في عُمَان، وزنجبار، وشمال أفريقيا([52]).

الفرع الثالث: أهل السنة:

وبعد هذا الاستعراض السريع لحزبين أساسيين في تاريخ الأمة الإسلامية، كان لهما شوكة وتأثير عظيم على مجريات الأحداث، يتساءل المرء: أين الدور السياسي لأهل السنة في كل هذه المراحل الخطيرة التي عاشتها الجماعة المسلمة؟.

يمكن القول: إن أهل السنة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين تركهم رسول الله r وهو عنهم راض، ولا نستطيع أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع باقي الفرق، فأهل السنة هم الأصل الذي انشق عنه كل المخالفين، والأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه([53]).

وقد سأل رجل الإمام مالكاً ـ رحمه الله ـ عن تعريف أهل السنة؟، فقال: " الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري "([54]).

وأهل السنة على العكس من الجماعات التي انشقت عنهم، ظلوا على عهدهم محافظين، وبعرى الجماعة موثقين، وذلك منذ وفاة الرسول r، وفي ظل خلافة الشيخين رضي الله عنهما، فلا نسمع أصواتاً معارضة ذات بال، فالإجماع منعقد وتام، ثم انفرط عقد الجمع، واهتز في السنوات الأخيرة من سني عثمان ([55])، حيث ظهرت بعض الأفكار المتطرفة، أو الاعتقادات المذهبية الغالية([56]).

وقتها كان أهل السنة ـ والذين كانوا يعرفون باسم أهل الحديث، أو التابعين، أو العلماء، أو القراء ـ مشتغلين بعلوم الحديث والفقه، وكانت عنايتهم موجهة إلى البحث في مسائل الفقه، أو يتجهون إلى مسائل العقائد والكلام.

ولم يكن لأهل السنة آراء سياسية رغم تفرقهم، ويستنتج من ذلك أنهم كانوا راضين تماماً عن سياسة الحكم التي كانت تساس بها الأمة من قِبل الأمويين والعباسيين، لا بل إنهم اجتنبوا المسائل السياسية بعدم الخوض فيها، لتجنب الفتن والوقوع في سفك الدماء.

ومن علماء السنة المتفرقين الذين اشتهروا: الإمام الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير في عصر بني أمية، وأبو حنيفة ومالك وأحمد في عهد بني العباس، وهؤلاء كانوا معارضين لسياسة الحكام والأمراء في عصورهم المختلفة، بل غير مقرين لنظم الحكم أنفسها التي بمقتضاها وصل هؤلاء إلى مرتبة الأمر والنهي، وما سكتوا إلا حرصاً على وحدة الجماعة([57]).

إلا أن علماءنا ـ رحمهم الله ـ سجلوا مواقف سياسية بطولية في مقاومة الحكام الظلمة، فهذا سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ امتنع عن الخوض في حق الصحابة y كما كانت الشيعة، وقد جاهر برأيه أمام الحجاج الثقفي دون خوف أو وجل، عندما سأله الحجاج ما تقول في عثمان وعلي رضي الله عنهما؟

فأجابه: قول من هو خير مني عند من هو شر منك، قال فرعون: ما بال القرون الأولى؟ قال علمها عند ربي، فلم يعجب الحجاج، ولكن الرد ألجمه، فلم يجد مفراً من الاعتراف: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد([58]).

وهذا أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ تتعاقب فتاويه ضد الحكم القائم، فيحبسه أبو جعفر المنصور، ويعذبه عذاباً قاسياً حتى أشرف على الهلاك، فأخرجه، ومات بعدها بقليل كما يموت الصديقون والشهداء([59]).

وهذا ابن تيمية ـ رحمه الله ـ امتشق السيف للجهاد ضد التتار، وهو يوجه المسلمين إلى عزتهم، وبعدها نزل به البلاء بسبب آرائه الجريئة، فمات t في الحبس([60]).

المطلب الثالث حكم التعددية السياسية في الدولة الإسلامية

توطئة:

لم يتعرض فقهاؤنا القدامى ـ رحمهم الله ـ([61]) لموضوع التعددية السياسية بالمفهوم الواسع، وبالشكل المطروح حالياً؛ إذ لم تكن الصورة المعاصرة للتعددية السياسية مطروحة على بساط الفقه قديماً، فهي صورة وحالة مستحدثة، فقد تطورت الحزبية بشكلها ومضمونها عما كان عليه الأمر قديماً، فهي تجد سندها في الحرية السياسية التي كان يحظى بها المؤمنون في زمن النبي r، ومن بعده، من جواز إبداء الرأي المخالف، ولو كان يتعلق بالحاكم.

فهذا الحباب بن المنذر t يسأل النبي r في غزوة بدر ـ وقد نزل r بعسكره قريباً من ماء بدر ـ: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟! فأجابه رسول الله r بأنه الرأي والحرب والمكيدة([62]). وهذا يمثل رأياً سياسياً، مخالفاً للقائد الأعلى.

وفي غزوة الأحزاب عندما وضع النبي r حلاً سياسياً لتفكيك وحدة الأحزاب، ففاوض على ثلث ثمار المدينة مقابل خروج غطفان وأهل نجد من حلف قريش، واستشار السعدين سعد بن معاذ t سيد الأوس، وسعد بن عبادة t سيد الخزرج، ولما علما أنه ما هو إلا شيء صنعه النبي r لهم، وليس من أمر الله قالا: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم([63])؛ وما ذلك إلا رأي سياسي.

وهكذا مضى المسلمون يبدون آراءهم في حرية تامة، ويعيشون قاعدة الشورى التي تمثل أساساً وسنداً للتعددية السياسية.

وفي وقتنا المعاصر مَسَّت الحاجة إلى تطور مفهوم الحزبية، بعد سقوط الخلافة الراشدة في أوائل القرن العشرين، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم، مما حدا بالعلماء والقادة والمخلصين إلى تشكيل الأحزاب السياسية؛ للعمل على إعادة صرح الخلافة الراشدة، واستئناف الحياة الإسلامية، وانتشال الأمة من براثن الاستبداد.

فكان من أبرز الجماعات الإسلامية التي اهتمت بالبعد السياسي جماعة الإخوان المسلمين، التي أسسها الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله ـ، وأول حزب: حزب التحرير، الذي أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني ـ رحمه الله ـ وحينها أثيرت القضية، وثار الخلاف بين الفقهاء والمفكرين المسلمين في شرعية قيام هذه الأحزاب والجماعات الإسلامية.

موقف الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ من التعددية الحزبية:

أنكر الإمام الشهيد الحزبية وتعدد الأحزاب في الإسلام، فقال: " إن الإسلام هو دين الوحدة في كل شيء، لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه، ولا يوافق عليه "([64]).

ويقول أيضاً: " وأعتقد أن هذه الأحزاب المصرية الحالية مصنوعة أكثر منها حقيقية، وأن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني، وأن المهمة والحوادث التي كونت هذه الأحزاب قد انتهت، ويجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها "([65]).

ولا بأس أن يخالف رأيي رأي الإمام الشهيد، فهو لم يفرض ذلك على أحد، فقد استهل حديثه عن الحزبية بقوله: " وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة، ولا أحب أن أفرضها على الناس، فإن ذلك ليس لي ولا لأحد "([66]).

ويقول أيضاً في موضع آخر: " إن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان، فهي لا تجوز في كلها، وهي لا تجوز في مصر أبداً، وبخاصة في هذا الوقت الذي نستفتح فيه عهداً جديداً، ونريد أن نبني أمتنا بناء قوياً"([67]).

وهذا الكلام إن دل فإنما يدل على أن رأيه مبني على السياسة الشرعية، وهذا مما لا تثريب فيه، لاسيما وأنه كان يستبشر ـ رحمه الله ـ بقرب استئناف الخلافة الإسلامية، وإعادة هيبتها، فيكون موقف الإمام الرافض ظرفياً خاصاً بحالة مصر آنذاك.

يقول الدكتور يوسف القرضاوي: " ولعله لو عاش الإمام إلى اليوم لرأى ما رأينا من جواز التعددية السياسية، خصوصاً وقد تغيرت الظروف، وتطورت الأوضاع والأفكار، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، ولاسيما في أمور السياسة الكثيرة التغيير "([68]).

ومن جهة أخرى لا أرى حديث الإمام في تحريم الحزبية يشمل الأحزاب الإسلامية، إذ أنها لا تبعث على الفرقة، وإنما كان حديثه يدور على ظاهرة مَرَضِيَّة تعيشها مصر بوجود أحزاب غير إسلامية، ليس من مهامها استئناف الحياة الإسلامية.

هذا وقد استطردنا في الحديث عن موقف الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ في مسألة الحزبية، وخصصناه بذلك لما يحتله من مكانة سامية، ودرجة عالية في ريادة الحركة الإسلامية المعاصرة وتأسيسها، ولكشف الغموض واللبس في موقفه من الحزبية الذي أشكل على الكثير من أبناء الصحوة.

موقف الحركات والأحزاب الإسلامية من الحزبية:

سارت الحركات والأحزاب الإسلامية في عملها وهي تؤمن بالتعددية السياسية، واعتبارها فريضة شرعية، أو ضرورة يفرضها الواقع، وقد عبر قادتها عن هذا الموقف، فقال فضيلة الشيخ عمر التلمساني ـ المرشد العام الثالث للإخوان المسلمين ـ رحمه الله ـ:

" إذا لم يكن من قيام الحزب بد؛ فمن العجز الفكري أن نقف حائرين، بل نسلك كل طريق مشروع يُمَكِّننا من نشر دعوتنا في كل الأوساط "([69]).

وعندما جاء المرشد العام الرابع للإخوان المسلمين الشيخ محمد حامد أبو النصر ـ رحمه الله ـ أكد هذا التوجه، فقال: " عندما أصبح الإخوان عنصراً فاعلاً في الساحة السياسية والاجتماعية، كان لا بد من إيجاد قناة قانونية للممارسة، ولذلك قرر الإخوان تكوين حزب سياسي "([70]).

ويبين الشيخ تقي الدين النبهاني ـ رحمه الله ـ موقف حزب التحرير من التعددية السياسية، وأنه فرض كفاية على الأمة، استناداً إلى قوله تعالى: } وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {([71]).

فيقول: " أما كون الأمر في الآية بإيجاد جماعة هو أمر بإقامة أحزاب سياسية، فذلك آت من كون الآية عنيت على عمل هذه الجماعة، وهو الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر "([72]).

فالحركات والأحزاب تؤمن بالتعددية، وما تكوينهم الأحزاب السياسية ودخولهم في المجالس النيابية إلا إقرار بهذه التعددية، والعمل في حقل الدعوة من خلالها، ومثال ذلك مثل تشكيل الإخوان المسلمين في الأردن لجبهة العمل الإسلامي، ودخولهم البرلمان من خلالها، وكذلك الإخوان المسلمين في فلسطين، وتشكيلهم لحزب الخلاص الوطني الإسلامي، وكذلك في السودان واليمن والجزائر وغيرها.

هذا وقد اختلف العلماء والمفكرون المعاصرون في حكم التعددية السياسية، إلى قولين:

القول الأول: إن التعددية السياسية حرام، وإليه ذهب بعض العلماء منهم: الدكتور بكر أبو زيد، والشيخ صفي الرحمن المباركفوري، والدكتور فتحي يكن، والشيخ وحيد الدين خان([73]).

القول الثاني: إن التعددية السياسية جائزة، وإليه ذهب من العلماء: الدكتور أحمد الفنجري، الشيخ تقي الدين النبهاني، الشيخ راشد الغنوشي، الدكتور صالح سميع، الدكتور صادق أمين، الدكتور صلاح الصاوي، الدكتور عبد الرحمن عبد الخالق، والدكتور عبد الله النفيسي، والدكتور عبد الوهاب الديلمي، والدكتور عدنان النحوي، والدكتور محمد أبو فارس، والدكتور محمد عمارة، والدكتور محمد العوا، والأستاذ محمد العوضي، والدكتور يوسف القرضاوي([74]).

الأدلة:

أدلة القول الأول:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {([75]).

2. قال الله تعالى: } وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ~ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {([76]).

وجه الدلالة: هاتان الآيتان صريحتان في النهي عن الفرقة، وأنها ليست من صفات المؤمنين، بل هي من صفات المشركين، وأن رسول الله r بريء من المقترفين لها، ولا علاقة له بهم أبداً.

والاختلاف والافتراق في الآيتين يراد به الاختلاف في العقيدة والشريعة، وكذلك افتراق الأمة إلى جماعات وأحزاب سياسية، وهذا الذي تقتضيه النصوص، فقد نهى الله تعالى عن مطلق التنازع، وجعله سبباً لضعف المسلمين وذهاب شوكتهم: } وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ {([77])، وبهذا تكون الأحزاب السياسية محرمة؛ لأن نتيجتها التفرق والاختلاف([78]).

3. قال الله تعالى: } إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً {([79]).

وجه الدلالة: إن الانقسام إلى أحزاب يؤدي إلى فقدان القوة، مما يؤدي بدوره إلى تعريض الناس للاستعباد، وهذه السنة استغلها فرعون في تفريق قومه إلى شيع حتى يتسنى له استعبادهم وإذلالهم([80]).

4. قال الله تعالى: } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا {([81]).

5. وقال الله تعالى: } وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {([82]).

وجه الدلالة: أوجب الله على المسلمين لزوم الجماعة، واجتناب كل ما يؤدي إلى الافتراق؛ والحزبية مظنة الفرقة، بل مئنة لها، وللبغضاء بين أهل الإسلام، فتكون محرمة([83]).

6. قال الله تعالى: } قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ {([84]).

وجه الدلالة: إن التفرق إلى شيع وما يؤدي إليه ذلك من اقتتال وردة، وإن ما يؤدي إليه الانشقاق، يعتبر عذاباً يوازي ما ورد في الآية من أشكال العذاب، وأن واجبنا أن نتجنب أي خطوة في هذا الطريق، مهما كان الجهد الذي نبذله في سبيل ذلك، وأن نتواصى بذلك، وندعو إليه([85]).

ثانياً: السنة:

1. عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: " مَنْ خَرَجَ مَن الطَّاعَةِ،وَفَارَقَ الجَمَاعَةِ، فَمَاتَ .. مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيِّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبِةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِةً، فَقُتِلَ .. فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ "([86]).

2. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : " مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْراً .. إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً "([87]).

3. عن الحارث الأشعري t أن رسول الله r قال: " ... أَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: بِالجَمَاعَةِ، وَبالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالهِجْرَةِ، وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِن الجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمْ ".

قال: قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟! قال: " وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ... "([88]).

4. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر t بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله r فينا، فقال: " ... عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ، فَلْيَلْزَم الجَمَاعَةِ "([89]).

وجه الدلالة: في هذه الأحاديث أمر صريح بلزوم الجماعة، وتوعد صريح للمفارق للجماعة، ووصف ميتته بالجاهلية، وذم العصبية والدعوة إليها ونصرتها، والتوعد والذم لا يكون إلا على فعل محرم، أو ترك واجب، فتكون الأحزاب السياسية محرمة؛ لأنها تقوم على أساس العصبية ومفارقة الجماعة([90]).

5. عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r: " اسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ، وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ "([91]).

6. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله r يقول: " مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ لا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً "(ن).

وجه الدلالة: أوجب رسول الله r على المسلمين طاعة أميرهم، ولو على كره وغضاضة، ولم يسمح لهم بمعصيته إلا إذا أمر بمعصية الله([93])، فقد قال r: " إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ"([94])؛ ومن المعلوم أن التعددية السياسية قائمة على التنافس في طلب الولاية، فالسعي إلى الحكم هو مفرق الطرق بين الأحزاب السياسية، وبين غيرها من التكتلات البشرية الأخرى، فأنى تتحقق المشروعية لهذا النظام مع قيامه ابتداءاً على مناقضة هذه النصوص([95]).

7. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قال: قلت يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟

قال: " نَعَمْ "، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: " نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ " قلت: وما دخنه؟ قال: " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ " فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟

قال: " نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا " فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: " نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال:

" تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ " قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ "([96]).

وجه الدلالة: السياق واضح أن الحوار الذي جرى بين الرسول r وبين حذيفة t كان حول الاجتماع والافتراق في مجال السياسة، والسؤال الأخير ينطبق تماماً على الظروف التي استجدت على ساحة العالم الإسلامي في أواخر الخلافة العثمانية، وبعد إلغائها، والجواب يوجب الالتزام بطاعة الأمير والانضمام إلى رايته، فإذا وصل الحال إلى انتهاء الإمارة بلا أمير، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فالواجب الابتعاد عن جميع الجماعات والفرق التي تتناطح للحصول على الإمارة والسلطة، وكل هدفها هو السلطة وليس لها عقيدة واضحة، أما إذا ظهر إمام مسلم عادل، فالواجب السير خلفه([97]).

ثالثاً: المعقول:

1. إن قضية الأحزاب السياسية متولدة من النظام الجمهوري أو الديمقراطي، الذي ساد العالم في ظل العلمانية، فهي جزء من ذلك النظام وفرع من فروعه، ولا يجوز اعتماده ولا تطبيقه في دولة الإسلام([98]).

2. إن هدف الأحزاب السياسية الوصول إلى السلطة أو استخدامها([99])، وقد فشلت التجارب الحزبية المعاصرة في أغلب البلاد الإسلامية، ودلت التجارب على أن هذه الأحزاب حينما دخلت إلى السلطة أفدحت المصائب، وكانت في الجملة وبالاً على الأمة وجرثومة تنخر في كيانها، فسامت المواطنين المسلمين سوء العذاب، وتاجرت بالبلاد في وقاحة تامة([100]).

3. لم يسبق في تاريخ الإسلام على مدى القرون المتطاولة من خلافة رسالة الإسلام سابقة واحدة من هذا القبيل، فكان ذلك كالإجماع من الأمة على تركه، وإن انشقاق الفرق عن جماعة المسلمين هي ظواهر مرضية اعترت الجسم الإسلامي في فترة من الفترات، فارق بها أصحابها سبيل المؤمنين بما تحزبوا عليه من الأصول البدعية، أو شقوا عصاهم بما أحدثوه في الأمة من منازعة الأئمة، والخروج عليهم، وكلا الموقفين ممقوت ومردود([101]).

4. جعل الإسلام الأخوة الإسلامية هي أساس الولاء والبراء، فالمسلم ولي المسلم سواء أعرفه أم لم يعرفه، وهذا يعني أن الإسلام لا يتحمل في داخله تنظيماً آخر بحيث تكون أسس ذلك التنظيم وقواعده أساساً للولاء؛ لأن هذا النوع من التنظيم يقتضي أن من انتظم فيه يستحق العون والنصرة والإخاء وغيرها من الحقوق، ومن لا ينتظم فيه لا يستحق تلك الحقوق، مع أن الإسلام أعطى المسلم جميع هذه الحقوق لمجرد كونه مسلماً لا لسبب آخر([102]).

5. إن التعددية الحزبية تقتضي التزام الفرد برأي الحزب المنتمي إليه، سواء أكان ذلك الرأي خطأ أم صواباً؛ لأن الأحزاب قائمة بطبيعتها على التشيع والتمسك بشعار: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " وإن لم تعترف صراحة بهذا الشعار([103]).

أدلة القول الثاني:

استدل القائلون بجواز التعددية: بالقرآن، والسنة، وقواعد الشريعة ومقاصدها، وكذلك بالمعقول:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {([104]).

وجه الدلالة: يأمر الله تعالى جماعة من المسلمين أن تكون متصدية لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر الرباني يفيد الوجوب في قوله: } وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ { وأمة يقصد بها جماعة، وفي هذا دلالة على مشروعية العمل الجماعي، والناس بطبيعتهم يختلفون في الأفكار والسياسات لتحقيق أهدافهم، فتتشكل الأحزاب السياسية كوسيلة شرعية للقيام بهذه الفريضة.

والأمة ليست مجموعة أفراد ولا مجرد جماعة، جاء في تفسير المنار: " والصواب أن الأمة أخص من الجماعة، فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل، هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة، وعمل في إيجادها وإسعادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة "([105]).

2. قال الله تعالى: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى لْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ{([106]).

وجه الدلالة: أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، فإذا اجتمع أفراد وأنشأوا حزباً، أو جماعة مسلمة على أساس من البر والتقوى، فلا يجوز منعهم من ذلك؛ لأن في منعهم إبطال لعمل خير لا ضرر فيه، ونهي عن المعروف، والنهي عن المعروف إثم وعدوان، فلا يجوز، فيكون النهي عن تشكيل أحزاب سياسية مسلمة غير جائز([107]).

جاء في تفسير القرطبي: " ومن وجوه التعاون على البر والتقوى أن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة "([108]).

وأي حزب ينشأ فهو مأمور بالتصرف على نحو لا يضر بغيره، فرداً كان أو جماعة، ومنهي عن كل تصرف يقصد به الإضرار بالآخرين([109]).

3. قال الله تعالى: } وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي لدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ{([110]).

وجه الدلالة: في هذه الآية إشارة واضحة إلى أنه ليس بطاقة المؤمنين أن ينفروا كافة لحمل الأعباء العامة، وفي المقابل إشارة إلى وجوب ذلك على كل مستعد، لتتحقق المصلحة العامة للأمة، فتتكون طائفة مستعدة لتتولى هذه المهام، إذ أنها أساساً مهام جماعية، وبذلك تكون الأمة مكلفة بتشكيل الأحزاب السياسية التي تسعى إلى تحقيق ذلك.

4. قال الله تعالى: } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ {([111]).

وجه الدلالة: تدل هذه الآية على التكليف الجماعي في أداء الأمانات إلى أهلها، ومن أهم الأمانات وأعظمها أن يتبوأ مقاليد الحكم أصحابه، فلا يجوز أن يُمكَّن من هو ليس بأهل له، وهذه التكاليف تحتاج إلى جماعة تنوب فيها عن الأمة، فلربما يصل إلى السلطة من هو دونها، ويجور ويظلم، فتتولى الجماعة رد الحق إلى أهله، فيكون إقامة الأحزاب السياسية لازماً " إذ الأمر بالشيء أمر بما لا يتم ذلك الشيء إلا به "([112]).

ثانياً: السنة:

1. عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: عن النبي r قال: " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُواْ عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن المَاءِ مَرُّواْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ.

فَقَالُواْ: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقَاً، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُواْ هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً "([113]).

وجه الدلالة: في هذا المثل الذي أورده الحديث أدق تصوير للمسئولية الفردية والجماعية، ولعقبى التفريط فيها، فالشخص الأخرق لو ترك يصنع ما يحلو له، فسيقود المجتمع كله خطوه في طريق البوار، فإذا كثر هؤلاء الخرقاء، وتعددت الخروق التي يصنعونها، فالمجتمع خارق لا محالة([114]).

ومما لا ريب فيه أن المعارضة الفردية في وضع كهذا الوضع الذي ورد في الحديث الشريف، لا تكون مجدية، وأن المعارضة الجماعية هي الوسيلة الفعالة لاتقاء الكوارث السياسية بكل تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى تكون هذه المعارضة الجماعية فعالة ومجدية، فلا بد أن تكون منظمة، وقد أثبت الفكر السياسي في تطوره الحديث أن الأحزاب السياسية هي الأطر الأكثر صلاحاً لتنظيم وإعداد المعارضة الجماعية([115]).

2. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي r: قال: " وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ، فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ "([116]).

3. عن عبد الله بن مسعود t أن رسول الله r قال: " مَا مِنْ نَبِيٍ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِن الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ "([117]).

وجه الدلالة: تدل هذه الأحاديث على التكليف الجماعي للقيام بفريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإن تنكل أو تلكؤ الجماعة في القيام بهذه المهمات الأساسية، والواجبات العليا للتغيير والإصلاح، يفضي إلى عقاب يعمهم من عند الله تعالى.

ثالثاً: القواعد الشرعية

1. الأصل في الأشياء الإباحة، واستصحاب الحِل: والتعددية السياسية تفي بمتطلبات الأمة وحاجاتها، وتقيها من شر الاستبداد بالحكم، كما أنها تقوي وحدة المجتمع من خلال التنظيم الذي يجمع في إطاره من تبنى أفكاره؛ ولا يوجد في الشريعة الغراء ما يمنع من هذه التعددية، ويحول بينها وبين إقامتها، فتكون التعددية السياسية مباحة في أدنى درجاتها.

2. قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات: يقول الشاطبي ـ رحمه الله ـ: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك "([118]).

فإذا استصحبنا هذه القاعدة في قضية التعددية السياسية، فإنها تقودنا إلى القول بمشروعية هذه التعددية رغم ما قد يشوبها من بعض التجاوزات التي يمكن أن تغتفر اعتباراً لقاعدة اعتبار المآل، وقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد.

فالتعددية ذريعة إلى منع الاستبداد من ناحية، وإلى منع الاضطرابات، والثورات المسلحة من ناحية أخرى بما تشيعه من الاستقرار النسبي في الأوضاع السياسية، وبما تتيحه للمعارضة من المشاركة في السلطة لإنقاذ برامجها، واختياراتها السياسية.

والوسائل والذرائع تأخذ حكم المقاصد أو الغايات حِلاً وحرمة، يقول القرافي ـ رحمه الله ـ:

" الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة ([119])"([120]).

رابعاً: مقاصد الشريعة " السياسة الشرعية ":

السياسة الشرعية كما عرفها ابن عقيل ـ رحمه الله ـ فيما نقله عنه ابن القيم ـ رحمه الله ـ:

" السياسة ما كان فعلاً يكون منه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول r ولا نزل به وحي، ولكنه يوافق الشرع، ولا يخالفه، كحرق علي بن أبي طالب t للزنادقة وتحريق عثمان t للمصاحف ونفي عمر t لنصر بن حجاج "([121]).

1. إن أحداً لا ينكر أن للتعددية مثالبها، كما أن لحكم الفرد مثالبه كذلك، ولكن المفاسد التي تنجم عن حكم الفرد من القهر والتسلط ومصادرة الحريات، وما قد يترتب عن ذلك من الثورات والانقلابات، أضعاف المفاسد التي تترتب على التعددية، فإذا علمنا أن مبنى الشريعة على تحقيق أكمل المصلحتين، ودفع أعظم المفسدتين، وأنها قد تحتمل للمفسدة المرجوحة من أجل تحقيق المصلحة الراجحة، علمنا أن القول بمشروعية التعددية هو الأليق بمقاصد الشريعة، والأرجى تحقيقاً لمصالح الأمة، وصيانة حقوقها وحرياتها العامة([122]).

2. أقر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t وجود حزب مخالف له في سياسته ومنهجه، وهم الخوارج، وقال لهم:

" ولكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم مساجد الله، ولا نحرمكم من الفيء ما دامت أيديكم في أيدينا، ولا نبدأكم بقتال "([123])، مع أنهم يمثلون المعارضة المسلحة، والقوة التي بلغت بها الشجاعة حد التهور([124]).

خامساً: المعقول:

1. إن التعدد الحاصل في الجماعات الإسلامية هو تعدد تنوع وتخصص، تتكامل به الجهود، ويتكاتف به الناس في أداء الفروض الكفائية، مع التوادد والتناصح، والتنسيق والتعاون([125])؛ وهو تعدد قامت عليه الجماعات، وهي متفقة مع الأصول مختلفة في الفروع، أي أنها اتفقت في الأهم، واختلفت في الفروع، وهي أقل أهمية([126]).

وهذا هو مدلول ما يؤكده الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله ـ:

" فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه "([127]).

2. هناك فرق بين الجماعة العامة، والجماعة الخاصة، فالجماعة العامة واحدة، أما الجماعات الخاصة، فيجوز تعددها بما يكفل سد الثغرات، والقيام بفروض الكفايات، وعندئذ لا يجب على كل مسلم مبايعة هذه الجماعة الخاصة، بل من استحسن أمرها جاز له الالتزام بها([128]).

3. لا خوف على الإسلام في ظل تعدد الأحزاب، إنما الخوف على ضياعه في ظل نظام الحزب الواحد، فتعدد الأحزاب السياسية إحدى الضمانات الأساسية لحماية الحرية السياسية، وتحقيق الاستقرار السياسي، وإحدى الضمانات الأساسية لضمان فاعلية وجدوى الفصل بين السلطات([129]).

4. يقول أبو الفتح البيانوني: " إلا أن إيجابيات التعدد تزداد وتغلب على السلبيات ومنها:

أ. استيعاب أكبر عدد من المسلمين في نطاق العمل الإسلامي، فلا يمكن لجماعة واحدة مهما بلغ شأنها، وعلا كعبها أن تستوعب الناس جميعاً على مختلف مذاهبهم ومشاربهم واجتهاداتهم.

ب. التعاون على تحقيق الأهداف الكبرى.

ج. فسح المجال لأكثر من تجربة عملية في نطاق الدعوة الإسلامية.

د. بروز روح التجديد والتطوير للعمل الإسلامي.

ه. شيوع روح التنافس والتسابق إلى الكمال.

و. ضمان استمرارية العمل الإسلامي في حالات المحن والمصائب، فلو قدر لجماعة أن تمتحن قبل غيرها، استمر العمل من قبل الجماعات الأخرى([130]).

المناقشة

مناقشة القائلين بتحريم التعددية الحزبية في الإسلام:

أولاً: مناقشة استدلالهم بالقرآن الكريم:

1. إن كلمة " شيعة " التي وردت في الآيات، تحمل نفس المعنى الذي تحمله كلمة حزب، أو طائفة، أو فرقة، ولكن استخدام هذه الكلمات لا تصل بنا إلى نتيجة قطعية؛ لأنه كما استخدمت هذه المصطلحات في مقام الذم في الآيات التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، فقد استخدمت في مقام المدح في آيات أخرى، وتدل على الفئة الراشدة المهدية منها:

قال الله تعالى: } فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ {([131])، وقال سبحانه: } وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ {([132]).

فجاءت في الموقع الأول تشير إلى شيعة موسى، وفي الثاني إلى أن إبراهيم كان من شيعة نوح.

وكذلك الأمر بالنسبة لكلمة حزب، فقد جاءت تشير إلى حزب الله: } وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {([133]).

ويصدق الأمر ذاته على الكلمتين الأخريين.

2. رغم أن القرآن الكريم قد حرم تفرقة الدين وما يؤول إليه من الانقسام إلى شيع، فقد توقع إمكانية تواجد الخلاف الذي قد يؤدي إلى الاقتتال، وذلك في قوله تعالى: } وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا {([134])، ومع هذا الخلاف الذي وصل إلى درجة الاقتتال، فقد أشار القرآن إلى الطوائف الثلاث ـ الطائفتان المقتتلتان، والطائفة الساعية إلى الصلح بينهما ـ باعتبارها من المؤمنين.

3. إن الاختلاف في الرأي أمر حتمي بين البشر، وهو سنة اجتماعية قررها القرآن الكريم في قوله تعالى: } وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين {([135])([136]).

4. بالنسبة للأدلة القرآنية التي تنهى عن التفرق إلى شيع وفرق وأحزاب، وتحض على الاجتماع والاعتصام، فهذه تحمل على أساس الافتراق والاختلاف في الأصول الكلية.

وهذا التفرق محظور شرعاً؛ لأنه يفضي إلى زعزعة أركان ومقومات الدولة المسلمة، أما الاختلاف الذي يكون في المسائل الاجتهادية، أو في الوسائل والسياسات، أو يكون على أساس المنافسة في أعمال الخير، فهذا لا ضير ولا تثريب فيه، ولا يتعارض وأحكام الشريعة الغراء، لاسيما أن الاختلاف في الفروع وقع بين صحابة رسول الله r حتى وقع بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ:

" إنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن جعل له محض الرحمة، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم، بحيث لا يصلح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدوداً من أهل الاختلاف ولو بوجه ما، لم يصح إطلاق القول في حقه إنه من أهل الرحمة، وذلك باطل بإجماع أهل السنة، وبذلك فقد وسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم، فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة، فكيف لا يدخلون في قسم } مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ {([137])، فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله "([138]).

وها هي المذاهب الفقهية المختلفة قد تلقتها الأمة بالقبول، ووصفت أصحابها بالإمامة في الدين، ولم تعتبر خلافها من جنس التفرق في الدين أو الخلاف المذموم الذي ينفي عن أهله وصف الجماعة، ويحشرهم في دائرة أهل التفرق الذي حذرت منه النصوص، وتوعدت أهله بالفشل وذهاب الريح([139]).

ومن أجمل ما قيل في هذا الشأن قول الدكتور يوسف القرضاوي t: " الأحزاب مذاهب في السياسة، والمذاهب أحزاب في الفقه "([140]).

ثانياً: مناقشة استدلالهم بالسنة النبوية:

1. الأحاديث التي استدلوا بها في تحريم الأحزاب السياسية في الإسلام، وما شابهها مما لم يُذكر، غاية ما فيها الأمر بلزوم الجماعة، والنهي عن مفارقتها، وذم العصبية، وتحريم الدعوة إليها، والقتال عليها، والأحزاب السياسية الإسلامية من أهم أهدافها تحقيق معاني الجماعة، ومقاومة الفرقة والاختلاف، ومحاربة العصبية، وتعميق معاني الأخوة بين المسلمين، ولو اتضح لدى المعترضين حقيقة عمل الأحزاب السياسية، وحدوده، والإطار الذي تعمل داخله تلك الأحزاب،

لما حكموا بتحريمها، فإن حقيقة عمل الأحزاب السياسية المسلمة، وحدوده، والإطار الذي تعمل بداخله ـ وهو العقيدة الإسلامية الصحيحة، والشريعة المنبثقة عنها ـ يتميز تماماً عن حقيقة عمل الأحزاب السياسية غير المسلمة، وحدوده، والإطار الذي تعمل فيه تلك الأحزاب غير المسلمة([141]).

2. إن الذي يورث التفرق والاختلاف في الحياة الحزبية هو التعصب المقيت، واعتقاد أهلها أنهم على حق محض، وما دونهم باطل محض، وهذا الاختلاف لا يكون إلا على أساس عقائدي، وبالتالي فالأحزاب الإسلامية هي دون ذلك([142])، فتعددها مشروع؛ لأنه تعدد في الوسائل والسياسيات، فيكون لا فرقة فيه ولا اختلاف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " وأما رأس الحزب، فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله r من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك، ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله "([143]).

3. بالنسبة للأدلة التي تنهى عن منازعة الإمام والتزام الطاعة له، فلا خلاف فيه طالما أن الحاكم يحكم بشريعة السماء، وبذلك تكون الأدلة خارجة عن محل النزاع، فالأحزاب الإسلامية لا تشق عصا الطاعة عن الحاكم المسلم، بل إنها تعضد وتقوي بيعته، ويتمثل دورها في طرح البرامج السياسية وغيرها، والسعي في طريق تنفيذها.

كما أن قيام الأحزاب السياسية في الدولة الإسلامية لا يكون إلا بإذن الإمام، إلا إذا كان الإمام جائراً فتقضي الضرورة تشكيل معارضة سياسية، تقوم بفريضة التغيير، ولا تحتاج وقتها إلى إذن الإمام لقوله r: " إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ "([144]).

4. أما حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، فإن الفرق المأمور باعتزالها بقوله: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا " هي فرق الضلال والكفر، ولا يصح حمل الأمر " فَاعْتَزِلْ " في الحديث على الفرق والأحزاب جميعها، فالحديث لا يأمر باعتزال الأحزاب السياسية المسلمة، وإلا لتناقض مع حديث الرسول r: " لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ "([145])؛ ولزوم حزب أو جماعة مسلمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر لا يتناقض ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم،

فإذا أعملنا الحديثين فاعتزلنا فرق الضلال والكفر جميعها، وأنشأنا حزباً سياسياً مسلماً صرفاً يأخذ على عاتقه نصح الخليفة المسلم، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، ونصرته، وحض الأمة على طاعته بالمعروف، والاستقامة إليه ما استقام لها، فعندئذ يتحقق في الأمة قول الله تعالى: } كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ{([146])...([147]).

ثالثاً: مناقشة استدلالهم بالمعقول:

1. بالنسبة لبعض الأحزاب السياسية أنها نشأت تحت مظلة العلمانية، وهي متولدة من النظام الديمقراطي، ولا يجوز إطلاق اعتمادها في دولة الإسلام؛ لا نسلم أن مسألة الأحزاب السياسية لا سند لها في كتب فقهائنا، فهم قد تحدثوا ـ كما بينا سابقاً([148]) ـ عن مراقبة الإمام، ومحاسبته، بل وعزله إن اقتضى الأمر، وهذه المفاهيم لها ارتباط عميق بمفهوم الأحزاب السياسية، لاسيما وأن الدولة لا ترتقي إلى هذه الدرجة من المراقبة والمحاسبة والعزل إلا بالجماعة؛ حتى لو تجاوزنا ذلك فإن مفهوم الرفض المطلق لكل ما جاء من النظام الديمقراطي سواء أكان ملائماً وموافقاً للشريعة الغراء،

أم مخالفاً لها ليس صحيحاً؛ فتلك أحزاب غير إسلامية نشأت في ظل أنظمة جمهورية أو ديمقراطية، ونحن نتحدث عن أحزاب إسلامية نشأت تحت مظلة إسلامية.

2. بالنسبة للقول بأن السلطة هي هدف الأحزاب السياسية، وأن التجارب قد فشلت، وأن ما وصل منها إلى الحكم صنعت الويلات؛ فنقول: إن المنصف يستثني الأحزاب الإسلامية من هذا الحرص على السلطة؛ لأن الأمر أضحى معلوماً أن ذلك سمة الأحزاب غير الإسلامية التي تسعى لذات السلطة.

أما الأحزاب الإسلامية فمقصدها([149]) ليس كمقصد الآخرين، فهي لم تأت طمعاً في زينة الدنيا، إنما قامت لتنشئ مجتمعاً مسلماً يقيم سلطة مسلمة، وهي لا تنازع السلطة أصحابها، وإنما تعينهم على تحكيم شرع الله.

ومن جهة أخرى ليس في الإسلام ما يمنع الأحزاب الإسلامية التي تمتلك الكفاءة أن تسعى للمناصب التي تحقق من خلالها مصلحة الإسلام والمسلمين، أخذاً بمبدأ يوسف عليه السلام:} اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {([150]).

قال الألوسي ـ رحمه الله ـ: " يجوز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعيناً لذلك "([151]).

وأما عن فشل التجارب الحزبية المعاصرة، فهو مردود، فالأحزاب التي وصلت إلى سدة الحكم في وقتنا المعاصر أحزاب علمانية، وهي التي أفدحت المصائب، وكانت وبالاً على الأمة، بل ولاحقت العاملين للإسلام حتى سامتهم سوء العذاب؛ وللحق: إن الأحزاب الإسلامية لم تخض التجربة إلا في السودان، فقد تسلمت الجبهة القومية الإسلامية زمام الحكم في عام 1989 م،

وبدأت خطاها وفق شريعة الله، ولم تتجبر أو تظلم ـ مع بعض التحفظات على سياستها ـ ومن يومها نشأت قوى الشر في طعنها ومحاربتها، ناهيك عن الحرب الإعلامية العالمية الموجهة ضدها؛ أما باقي التجارب فما أن وصلت الأحزاب الإسلامية إلى الحكم بمبايعة وانتخاب الجماهير لها، حتى قامت الحرب عليها، وقمعت وسحقت، كما هو الشأن في الجزائر عندما فازت جبهة الإنقاذ بقيادة عباس مدني.

3. أما الاحتجاج بانعدام السوابق التاريخية، فهنا لا بد من ضرورة التفريق بين الثوابت والمتغيرات في هذا الباب، فمن الثوابت سيادة الشريعة، وسلطة الأمة، والشورى، والحسبة، ونحوه وهذه من الأصول الثابتة التي لا يحل التفريط بها طرفة عين([152])، فالإسلام وضع أسساً عامة لنظام الحكم، وترك التفصيلات للمسلمين، كما أن النبي r توفي ولم يعين، ولم يشر إلى أسلوب معين لتحديد رئيس الدولة مثلاً، مما جعل النظام السياسي مرناً يتعاطى مع المتغيرات([153]).

ولهذا فإن الأصل في هذه الوسائل أنها من مسائل السياسة الشرعية، التي تتقرر شرعيتها في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، ولا يعتبر ترك أهل عصر لها حجة على بطلانها، ولا إتيان أهل عصر آخر بها حجة على وجوبها([154]).

ومن جهة أخرى فإن المتتبع لحياة بعض الأعلام من سلفنا الصالح، يجدهم قد جاهدوا ومارسوا دعوتهم إلى الله في إطار جماعة خاصة، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كان قائد جماعة تلتزم بأمره، وتعمل بمشورته، وتصدر عن رأيه، وتعيش في سرائه وضرائه، وتأخذها الظلمة بما ينقمون على الشيخ، وتحارب تحت لوائه، وتتواصل معه بكل أنواع الصلات([155]).

وإليك بعض رسائله التي كتبها في سجن الإسكندرية إلى جماعته ويقول فيها: " } وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ {([156]) والذي أعرف به الجماعة ـ أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة، وأتم عليهم نعمه الظاهرة والباطنة ـ والله العظيم الذي لا إله إلا هو في نعمة من الله ما رأيت مثلها قط في عمري كله ... " ويستمر الشيخ فيقول:

" وأنا في هذا المكان أعظم قدراً، وأكثر عدداً ما لم يمكن حصره، وأكثر ما ينغص عليَّ الجماعة، فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم ... " ثم يواصل قائلاً لجماعته: " والمقصود إخبار الجماعة بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير كثير، ونحن بحمد الله في زيادة من نعم الله، وإن لم يكن خدمه الجماعة باللقاء، فأنا داع لهم بالليل والنهار قياماً ببعض الواجب في حقهم، وتقرباً إلى الله تعالى في معاملته فيهم ... " ثم يوجه لهم أوامره: " والذي آمر به كل شخص منهم أن يتقي الله، ويعمل لله مستعيناً بالله مجاهداً في سبيل الله ... "أ.هـ([157]).

وأما الاستدلال التاريخي بالفرق السياسية التي انشقت عن جماعة المسلمين، من الشيعة، والخوارج، والمعتزلة، واعتبارها ظواهر مرضية لاختلافها في أمور عقدية، فهو استدلال غير موفق، لما فيه من التعميم، فهناك بعض الأحزاب انطلقت كمحاولة جادة لترتيب الوضع الإسلامي، وعلى الجملة، فلا تعد هذه الأحزاب النموذج المنشود للتعددية الحزبية في الدولة الإسلامية.

4. مضمون الدليل الذي يقرر أن الأحزاب تجعل أساس الولاء والنصرة والإخاء، الانتظام في الحزب، وهذا لا يقبله الإسلام، فيحرم إنشاء الأحزاب على هذا الأساس.

فنقول: إن الإسلام لا يرتضي غير الدخول فيه أساساً للولاء والبراء، وأي حزب سياسي مسلم يجعل الانتظام فيه أساس الولاء والبراء، ولا يعتبر سائر المسلمين ممن هم خارج الحزب إخواناً لأعضاء الحزب يجب لهم من المودة والمحبة والنصرة ما لأعضاء الحزب، فإنه حزب مذموم لا يجوز ولاؤه ولا نصرته، بل إن مجرد وجوده يعتبر منكراً تجب إزالته، ولكن لا يلزم من وجود مثل هذا الحزب تحريم إقامة أحزاب سياسية مسلمة صرفة، تجعل أساس الولاء والبراء فيها الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد r نبياً رسولاً([158]).

5. حول القول بأن عمل الأحزاب يقوم على أساس شعار: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وأن التعددية الحزبية تقتضي التزام الفرد بكل ما تمليه عليه القيادة؛ فنقول: لا شك أن هذه ظاهرة مرضية تحياها الأحزاب السياسية، وأن طبيعة العمل الحزبي هو إلزام أفراده برأيه، وتقييدهم تحت مظلته، إلا أن هذه الظاهرة لا تجد لها مكاناً في العمل الإسلامي، فمفهومه يختلف كلياً؛ لأن القائمين على الأحزاب الإسلامية يفترض أنهم قد رسخوا في علوم الشريعة، وارتقوا ورعاً وتقوى،

والعضو قد تشرب العقيدة والمفاهيم الإسلامية الصحيحة، فيلتزم برأي حزبه وفق هذه القيادة، ويفهم إسلامه الذي يدعوه ألا يساند الظالم في ظلمه، وأن يكون مع الحق ضمن شعار الإسلام الصحيح " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً " فقالوا: يا رسول الله! فكيف ينصره ظالماً؟ قال: " تَأْخُذُ فَوْقَ يَدِهِ "([159]).

والتعددية الحزبية التي أباحها الإسلام تحرم على الجماعات الإسلامية أن تربي أبناءها على معاداة ما دونهم من المسلمين، فليحذروا من أن يقعوا في هذا الإيذاء: } وَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَد احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً{([160]).

فكل حزب يدعو أبناءه إلى الالتزام برأيه مطلقاً، يكون قد خالف الصواب، يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويعادي من عاداه،... كان من جنس المجاهدين في سبيل الشيطان "([161]).

فيتجلى لنا أن الاحتجاج ليس في محل النزاع؛ لأن الشريعة هي الأساس والقاعدة التي تبنى عليها الأحزاب الإسلامية.

الترجيح:

من خلال عرض أدلة الفريقين، ومناقشة القائلين بتحريم التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، يظهر جلياً مناصرتنا للفريق الثاني القاضي بمشروعية التعددية السياسية، وذلك للاعتبارات التالية:

1. قوة الأدلة التي استند إليها الفريق الثاني، والتي تحمل النزعة الجماعية في وجوب التغيير.

2. إن أدلة الفريق الأول التي بنو عليها رأيهم، والتي تدعو إلى عدم الافتراق والاختلاف تحمل على الاختلاف في الأصول الكلية العامة للشريعة، والتعددية السياسية في الدولة الإسلامية تعددها هو تعدد تنوع وتخصص، واختلافها في الفروع والسياسات، وهذا مما لا تثريب فيه طالما أن الشريعة هي القاعدة الصلبة للجميع، وأنهم متفقون على أسس عامة، ومنطلقات معتبرة، وضوابط محددة.

لذا ينبغي التحرر من فكرة القائلين ببدعية الأحزاب السياسية، إذ أن ذلك هو الذي يورث الفرقة والاختلاف، ويشرذم الصف المسلم، ويؤثر على مسيرة العمل الإسلامي، وكذلك التحرر من النظرة السطحية والقديمة لفكرة الأحزاب على أنها شر محض، وتبعث الفرقة والتباغض، وأن تتحول هذه النظرة وتتغير إلى ما يتوافق وشرعنا الحنيف، لاسيما وأن الأحزاب المؤطرة بالإسلام أضحت مصدر خير وفأل حرية واستقرار.

المطلب الرابع

حكم التعددية السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة

سبق وأن بينا حكم التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، والقضية تطرح هنا بخلافها الفقهي السابق في تحريم التعددية وجوازها.

وكنا قد ذهبنا إلى القول بمشروعيتها، وإذا كانت التعددية السياسية الملتزمة بسيادة الشرع مشروعة في حال قيام الدولة الإسلامية ووجود إمامها، فمن باب أولى أن تكون مشروعة في مرحلة بنائها والسعي إلى قيامها؛ وهذا هو واقع التعددية السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة.

فالعمل الإسلامي في غيبة الدولة الإسلامية التي لا تحكم بما أنزل الله، يجب أن يكون هدفه تغييرياً، أي تغيير الواقع بالإسلام، وليس وعظياً يتعايش مع الواقع، ويصبح جزءاً منه؛ والتغيير الإسلامي للواقع الجاهلي لأفكاره ومعتقداته، لنظمه وتشريعاته، لسلوكه وعاداته، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التنظيم والتنظيم الدقيق([162]).

يقول الشيخ يوسف القرضاوي: إن تحقيق الحل الإسلامي المنشود الذي يتمثل في بناء مجتمع إسلامي سليم، وقيام حكم إسلامي رشيد، واستئناف حياة إسلامية صحيحة، لا يمكن أن يتم بالقرارات الحكومية الآلية، ولا بالانقلابات العسكرية الثورية، ولا بالوعظ والإرشاد وحده، ولا بالخدمات الاجتماعية الجزئية؛ إن الحل المنشود لا بد أن تسبقه حركة إسلامية، حركة واعية شاملة، تمهد له، وتدعو إليه، وتعد له رجاله وأنصاره([163]).

لذلك فإن قيام الأحزاب الإسلامية في ظل وقتنا المعاصر، يعد فريضة شرعية، وضرورة سياسية، وذلك للحقائق الشرعية والسياسية التالية، التي توجب على

المسلمين العمل في جماعة:

1. القرآن الكريم يطالبنا بالجماعة:

يقول الله تعالى: } وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {([164]).

والصواب أن الأمة أخص من الجماعة، كما جاء في تفسير المنار ـ كما مر آنفاً([165]) ـ فالله تعالى يأمر بتكوين جماعة إسلامية تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتتحمل أعباء الدعوة.

ثم إن العمل ضمن جماعة أقدر على مواجهة الجاهلية التي تحارب الإسلام ضمن تجمع حركي، مصداقاً للآية: } وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ {([166])، فوجه الله هذه الأمة المسلمة إلى واجبها تجاه هذا التجمع والولاء بقوله: } إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ{([167])...([168]).

2. السنة النبوية حرصت على الجماعة، وحضت عليها في أدنى صورها، فقال r: " إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُواْ أَحَدَهُمْ "([169])، وهذا تأكيد على وجوب العمل الجماعي فيما هو أعظم من ذلك، لاسيما إذا ما تعلق الأمر بسياسة الدولة التي أقصت الشريعة عن الحكم، وباستنهاض النفوس لإعادة الخلافة الراشدة إلى الأمة من جديد.

3. السنة تأمر بإيجاد طائفة في قوله r: " لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ "([170])، وهو يثير سؤالاً مهماً: من هم، وما صفتهم؟.

فقيل في الجواب: هم أهل الحديث؛ وقيل: هم أهل الجهاد؛ وقيل: النهاة عن المنكر.

وكل ذلك صواب، وأصوب منه: أنهم كل أولئك.

وقد لخص ابن حجر ـ رحمه الله ـ قولاً جامعاً للنووي ـ رحمه الله ـ يدل على ثاقب البصر فقال: " يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه، ومحدث، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد، وعابد؛ ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في مكان واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض "([171]).

ويكون دور الدعوة الإسلامية المعاصرة: في أنها حققت وجود هذه الطائفة في عالم الواقع بشمول بالغ المدى، وسعة وفيرة العدد بحمد الله ([172]).

4. القاعدة الشرعية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:

إن الاحتكام إلى شريعة الله تعالى وإقامة المجتمع الإسلامي الذي تحكمه عقيدة الإسلام أمر واجب، ولا يتصور أن يؤدي المسلم واجبه كاملاً نحو الإسلام بصورة فردية، فيكون لا سبيل إلى تحقيق هذا الواجب إلا بجماعة إسلامية، وحركة جهادية([173]).

5. التواطؤ الدولي على الإسلام: يفرض بالتالي وحدة المواجهة والتصدي، وإن القوى المعادية للإسلام على اختلاف أسمائها، وأهدافها ووسائلها، أصبحت تجمعها اليوم جبهات وأحزاب وتكتلات على امتداد العالم الإسلامي، ولا يقبل في ميزان الشرع ولا العقل أن يقابل الجهد الجماعي المنظم بجهود فردية،

وإنما يقابل الإسلام هذه الأحزاب والمنظمات بمثلها، أو بأقوى منها، كما قال أبو بكر لخالد رضي الله عنهما: حَارِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحَارِبُونَكَ بِهْ: السَّيْفُ بِالسَّيْفِ، وَالرُّمْحُ بِالرُّمْحِ، وَالنِّبْلُ بِالنِّبْلِ([174]).

6. السياسة الشرعية:

إذا كانت السياسة الشرعية كما يقول الفقهاء: هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية([175])؛ فإن التعددية السياسية تُعد من قبيل السياسة الشرعية، وبخاصة إذا ضعف الوازع الديني لدى الحاكم،

والذي كان يمثل رقابة داخلية في ضميره، ويوجهه إلى ما فيه مصلحة الأمة؛ وبذلك فقد دعت الحاجة الشرعية والضرورة السياسية في وقتنا المعاصر إلى إيجاد نوع من الرقابة الشعبية ترد الحاكم إلى الجادة، وتدفعه إلى تحقيق المصالح العليا للأمة؛ وهذه الرقابة لا يمكن أن تكون بحالة فردية، بل تمارسها أحزاب سياسية تقدم البرامج والحلول للنهوض بالأمة، وتقاوم الطغيان، وتقف حائلاً دون التسلط والاستبداد بالحكم.

7. إن التغيير الإسلامي المنشود، وإعادة الأستاذية للأمة من جديد، وبناء العز المستقبلي، والسعي في طريق الإصلاح التدريجي، لا يمكن أن يكون بجهود فردية مهما امتلكت من قوة في التأثير، وطاقة في العمل؛ لأنها تبقى جهود مبعثرة.

وعملية التغيير والإصلاح كبرى، تحتاج إلى عمل إسلامي على مستواه، والعمل الجماعي هو المرشح والمطلوب، إذ أنه يحقق أهدافه، ويؤتي أكله؛ ولا يفل الحديد إلا الحديد، وهذا العمل جهاد شرعه الإسلام، وأملته الضرورة السياسية.

8. الإسلام يأمرنا بالاعتصام والتعاون على البر والتقوى:

وإن التعاون على العمل لإعادة صرح الإسلام، واستئناف حياته الربانية، هو من أخص أعمال البر والتقوى وأعظمها، وفيه تقوى شوكة المسلمين في مواجهة أعدائهم، ويعد وسيلة لا يتم واجب الدعوة إلا بها.

والعاملون في حقل الدعوة في واقعنا المعاصر بناءون يتعاونون على تشييد صرح الإسلام، وكل عمل إسلامي إضافة إلى هذا البناء.

وهذا ما تقتضيه ضرورة الواقع، أن تعمل كل جماعة من موقعها، وفي طريقها، وأن يتعاون الجميع لتحقيق الهدف المنشود.

9. إن العمل الجماعي في هذه المرحلة الحرجة التي تعيشها الأمة لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، وتحرير الأرض، والذود عن حياض الأمة ومقدساتها، يعد فريضة شرعية يفرضها واجب الجهاد، وضرورة سياسية يمليها الواقع؛ فيكون إيجاد الأحزاب السياسية واجب على الأمة قال تعالى: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ{([176]).

10. البديل المعاصر عن التعددية السياسية لا يكون إلا نظام الحزب الواحد، الذي يسوم الناس سوء العذاب، ويذل الأمة، ويسعى لحرفها عن منهج الله، ولا يتوانى تدبير المؤامرات والكيد لأبناء الدعوة الإسلامية؛ يحدث كل ذلك دون مراقبة أو محاسبة، لانعدام التكتلات السياسية التي تناط بها هذه المسئوليات. وأخيراً أدعوك إلى مقارنة بين منهجَي المجيزين لإقامة الأحزاب الإسلامية، والمانعين، بيَّنها المفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمد أحمد الراشد بقوله:

أدعوك أن تلاحظ معي أن من لا يرون وجوب العمل الجماعي ينتهون إلى تهوين أمر العمل، والإكثار من الإشارة إلى إمكانية تركه، وهم يدندنون أصلاً حول هذه المسألة لتسويغ التعدد، بينما النظرة الشرعية المنطلقة من معاني التقوى تذهب إلى الحث على التمسك به، حتى ولو كان مجرد فضيلة واحدة وليس عدة فضائل، فإن المسلم مطالب بإتيان الفضائل الإيمانية، والتحلي بالمحاسن الأخلاقية، والأصل فيه حيازته لهما إلا لعذر.

وليس الأصل التملص، فانتبه إلى الفارق بين النظرتين والمنهجين، والتخالف بين المنطلقين والمنطقين([177]).

ويؤكد الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق على هذا الأمر فيقول: وللأسف أن الذين يفتون اليوم بعدم جواز الأحزاب السياسية الإسلامية، يقدمون خدمة جليلة لأعداء الدين من حيث لا يدرون؛ لأنهم بذلك يجعلون الدعوة إلى الله محصورة في إطار رسائل ضعيفة،

يظهرونها دائماً بمظهر الخارج على الشرعية والقانون، ويجعلونها تسلك الطرق الجانبية الخفية السرية، ويدعون الطريق الواسع اللاحب لأعداء الدين، ليقودوا الأمة كما يريدون، ويوجهونها إلى حيث يشاءون([178]).

ويحسن بي أن أنقل فتاوى هامة، وأسجل رأياً فقهياً في هذا الموضوع لشيخ له وزنه، وهو مفتي الديار السعودية سابقاً فضيلة الشيخ العالم عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى ـ فقد وُجه إليه سؤال في الذي يقول بأن الجماعات الإسلامية من الفرق التي أمر النبي r باعتزالها، هل فهمه غير صحيح؟.

فأجاب فضيلته: الذي يدعو إلى كتاب الله، وسنة رسوله r ليس من الفرق الضالة، بل هو من الفرق الناجية المذكورة فيما روى عوف بن مالك t عن النبي r أنه قال:

" افْتَرَقَت اليَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَافْتَرَقَت النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً " فقيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: " مِثْلُ مِا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي"، وفي لفظ: " هِيَ الجَمَاعَةُ "([179]).

فالضابط هو استقامتهم على الحق، فإذا وجد إنسان أو جماعة تدعو إلى كتاب الله، وسنة رسوله r وتدعو إلى توحيد الله، واتباع شريعته، فهؤلاء هم الجماعة، وهم من الفرقة الناجية، وأما من دعا إلى غير كتاب الله، أو إلى غير سنة الرسول r فهذا ليس من الجماعة، بل من الفرق الضالة الهالكة، وإنما الفرقة الناجية دعاة الكتاب والسنة،

وإن كانت منهم جماعة هنا وجماعة هناك، ما دام الهدف والعقيدة واحد، فلا يضر كون هذه تسمى أنصار السنة، وهذه تسمى الإخوان المسلمين، وهذه تسمى كذا، المهم عقيدتهم وعملهم، فإذا استقاموا على الحق، وعلى توحيد الله والإخلاص له، واتباع رسول الله r قولاً وعملاً وعقيدة، فالأسماء لا تضرهم، وإذا أخطأت الجماعة في شيء، فالواجب على أهل العلم تنبيهها، وإرشادها إلى الحق إذا اتضح دليله([180]).

وسئل فضيلته أيضاً: في الساحة من يقول:

إن الفرق التي ورد الأمر باعتزالها في حديث حذيفة ([181]) هي الجماعات الإسلامية كالسلفيين والإخوان والتبليغيين؟

فأجاب: هذا الحديث العظيم يبين لنا أن الواجب على المسلم لزوم جماعة المسلمين، والتعاون معهم في أي مكان، فمتى وجد المسلم جماعة تدعو إلى الحق ساعدهم، وصار منهم، وأعانهم، وشجعهم، وثبتهم على الحق والبصيرة، فإذا لم يجد جماعة بالكلية، فإنه يلزم الحق، وهو الجماعة ولو كان واحداً، كما قال ابن مسعود t لعمرو بن ميمون: " الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك "([182]).

وفي زماننا هذا والحمد لله توجد الجماعات الكثيرة الداعية إلى الحق، فعلى المسلم الطالب للحق في أي مكان أن يبحث عن هذه الجماعات، فإذا وجد جماعة، أو مركزاً، أو جمعية تدعو إلى كتاب الله U وسنة رسوله r تبعها ولزمها([183]).

وأنقل أيضاً سؤالين وجها إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:

أولاً: هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب، وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟

فأجيب: وجود هذه الجماعات الإسلامية فيه خير للمسلمين، ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله، وأن لا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداها الأخريات، وتنتصح بها، وتنصح لها، وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها، ولا مانع أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله.

ثانياً: في هذا الزمان عديد من الجماعات والتفريعات، وكل منها يدعي الانضواء تحت الفرقة الناجية، ولا ندري أيها على حق فنتبعه، ونرجو من سيادتكم أن تدلونا على أفضل هذه الجماعات وأخيرها، فنتبع الحق فيها مع إبراز الأدلة.

فأجيب: كل هذه الجماعات تدخل في الفرقة الناجية، إلا من أتى منهم بكفر يخرج من أصل الإيمان، لكنهم تتفاوت درجاتهم قوة وضعفاً بقدر إصابتهم للحق، وعملهم به، وخطئهم في فهم الأدلة والعمل، فأهداهم أسعدهم بالدليل فهماً وعملاً، فاعرف وجهات نظرهم، وكن مع أتبعهم للحق، وألزمهم له، ولا تبخس الآخرين أخوتهم في الإسلام، فترد عليهم ما أصابوا فيه من الحق، بل اتبع الحق حيثما كان، ولو ظهر على لسان من يخالفك في بعض المسائل، فالحق رائد المؤمن، وقوه الدليل من الكتاب و السنة هي الفيصل بين الحق والباطل([184]).

المطلب الخامس الموقف من الأحزاب غير الإسلامية

اختلف الفقهاء والمفكرون المعاصرون في تحديد الموقف الشرعي تجاه الأحزاب غير الإسلامية، وذلك إلى قولين:

القول الأول: التعددية السياسية مباحة بإطلاق، وبالتالي تشمل الأحزاب الشيوعية والعلمانية وغيرها، ومن أبرز المنادين بالتعددية على هذا النحو من الحركات الإسلامية في واقعنا المعاصر، حركة الاتجاه الإسلامي بتونس وزعيمها الشيخ راشد الغنوشي([185])، وإليه ذهب الدكتور جابر قميحة، والدكتور سيف عبد الفتاح، والدكتور فهمي هويدي([186]).

القول الثاني: التعددية السياسية لا تقبل إلا في الإطار الإسلامي، وبالتالي لا تشمل إلا الأحزاب الإسلامية الملتزمة بسيادة الشريعة، وإليه ذهب الدكتور أحمد الفنجري، الدكتور صلاح الصاوي، والدكتور محمد أبو فارس، والشيخ مصطفى مشهور([187]).

أدلة القول الأول:

1. إن المذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها اليهود والنصارى، لهي من المرونة بحيث تستوعب داخل إطارها الشيوعيين والعلمانيين، إذ لن يكونوا أكفر من اليهود والنصارى، وفي الصحيفة التي عقدها رسول الله r مع أهل المدينة من المسلمين واليهود ومن دخل في عهدهم، عبرة ومنهاج وسابقة لها دلالتها الحضارية التي تشهد بمدى مرونة الإطار السياسي في الدولة الإسلامية([188]).

2. بماذا يمكن تبرير الازدواج في موقف الإسلاميين، إذا ما تحالفوا اليوم مع علمانيين من أجل إقرار الحرية للجميع، وبين مصادرة حقهم غداً إذا حصل الإسلاميون على الأغلبية، فأقاموا حكم الإسلام، أليست القاعدة: كما تدين تدان؟([189]).

أدلة القول الثاني:

استدلوا لمذهبهم بالقرآن الكريم والسنة والإجماع والمعقول:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {([190]).

2. قال الله تعالى: } ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ {([191]).

وجه الدلالة: يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: " وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك الذين لا يعلمون، أو تقصد منهجهم "([192]).

وفي هذا دلالة على عدم جواز تمكين حزب غير إسلامي يسلك مسلك الشيوعية والعلمانية، ويقصد منهج الكفر. 3. قال الله تعالى: } وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً {([193]).

وجه الدلالة: يبين الله تعالى أنه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سلطاناً تاماً بالاستئصال، أو سبيلاً يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم([194]).

والتعددية السياسية المطلقة التي تكون على أساس عقائدي، تسمح بأن يكون هناك سبلاً للأحزاب غير الإسلامية على المسلمين، فلا تجوز.

4. قال الله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ{([195]).

وجه الدلالة: تدل الآية على أن من شروط تولي الولايات العامة ـ وبخاصة الإمامة الكبرى ـ الإيمان لقوله تعالى: } وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ { أي مؤمناً من المؤمنين، وقيام حزب سياسي كفري يتوصل أن يحكم المسلمين كفر، والكفر مناقض للقرآن والسنة، فليس مقبولاً أن نسمح أن يتولى الحكم بسائر ولاياته حزب كافر، يدعو الناس إلى الكفر([196]).

ثانياً: السنة:

عن عبادة بن الصامت t قال: دعانا النبي r فبايعناه فقال فيما أخذ علينا: " أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرِةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِن اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"([197]).

وجه الدلالة: الحديث صريح في وجوب استخدام القوة لعزل الحاكم المسلم، الذي ارتكب الكفر، وارتد عن دين الله، فكيف نقبل بالأحزاب غير الإسلامية التي تغيب شريعة الله، وتحكم بالكفر، بل وتحض الناس على ذلك.

ثالثاً: الإجماع:

أجمع الفقهاء على أن الإسلام شرط في الإمامة، وأن الحاكم إذا ارتد، أو حكم بغير الإسلام، استحق العزل، واستوجب الخلع.

قال القاضي عياض ـ رحمه الله ـ: " أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل "([198]).

وقال ابن المنذر ـ رحمه الله ـ: " أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على المسلم بحال "([199]).

وقال الشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ: " ومن المسائل المجمع عليها قولاً واعتقاداً أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن الإسلام واجب، وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر، واستباحة إبطال الحدود، وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة "([200]).

وجه الدلالة: إن واقع الأحزاب غير الإسلامية، التي تتخذ المناهج الوضعية وسيلة للوصول إلى الحكم، هو واقع ردة؛ لأنها تحل حراماً، وتحرم حلالاً، وتجعل الحاكمية لغير الله تعالى، فلا يجوز أن تمكن لتكون لها ولاية على المسلمين.

رابعاً: المعقول:

1. إن الدولة الإسلامية قد نص دستورها على أن الوظيفة الأولى للحاكم، والحكومة هي حراسة الدين وسياسة الدنيا به، والأحزاب السياسية الكافرة، والمشركة، والملحدة لا تقوم بحراسة الدين، بل ليست مؤهلة لذلك؛ لأنها كافرة به، ففاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناء ينضح بالذي فيه([201]).

2. ليس من العدل أو المنطق أن نسمح في ظل الإسلام بدعوة أخرى ضده، تعمل على هدمه، وتنادي بغير تعاليمه، وتطالب بإزالته تحت اسم الحرية، وليس في منع هذا النوع من الحزبية اعتداء على الحرية السياسية أو الشخصية، فالدول الشيوعية تمنع الدعوات الدينية، والدول الرأسمالية تمنع الدعوات الشيوعية([202]).

المناقشة:

مناقشة أدلة القائلين بإباحة التعددية السياسية المطلقة:

1. الاستدلال بصحيفة المدينة خارج عن محل النزاع؛ لأنها كانت أشبه ما يكون بالنسبة لليهود بعقد الذمة، التي تجعلهم يأمنون على أنفسهم في إقامتهم بين المسلمين، ولكن السيادة للشريعة والتحاكم إلى الله ورسوله r، جاء هذا جلياً في صلب الصحيفة في نص لا يحتمل التأول أو التمحل " وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد "([203]).

فهل كانت هذه الصحيفة تجيز لليهود أن يكونوا حكاماً على المسلمين في المدينة، أو أقرت منهجاً يمكن أن ينتهي بهم إلى شيء من ذلك في مستقبل الأيام؟([204]).

كما أنه ينبغي التفريق بين سماحة الإسلام مع الآخرين في التعايش وحسن المعاملة حتى يتسنى للجميع أن يعيشوا في أمن وسلام، وبين السماح لهم بنفوذ يوصلهم إلى سدة الحكم، ومن ثم تُقْصي الشريعة عن واقع الحياة، ويعيش الناس في اضطراب، وبعد عن تحكيم شريعة الله، فتصبح مهمة الإصلاح إفسادية، وهذا مما لا يُقْبَلُ، قال تعالى: } ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {([205]).

2. بالنسبة للازدواج في الموقف: فنقول إن الفلسفة الإسلامية العامة تفضي إلى تحكيم شريعة الله تعالى في كل شئون الحياة، ورفض كل ما يخالفها من مبادئ وقوانين، وبالتالي تقييد الجميع بهذه الفلسفة.

فالتعددية المطلقة لا وجود لها في الواقع لا في الدولة الإسلامية، ولا في الدول العلمانية؛ لأنه ما من دولة من الدول إلا وتقيد الحريات السياسية وغيرها، بما يسمى بالنظام العام والآداب، أو المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع ونحوه، وقد تضيق دائرة هذه القيود، وقد تتسع، وقد تتفاوت من دولة إلى أخرى، إلا أن القدر المحكم لدى الجميع هو وجود إطار يجب أن تتقيد به هذه التعددية، وأن تدور في فلكه([206]).

ومن هنا فليس ثمة تناقض في الموقف بين قبول الإسلاميين للمخالفين في مرحلة وعدمه في أخرى، إذا ما اعتبرنا أن قبولهم لغيرهم وتحالفهم معهم في مرحلة الاستضعاف قائم على السياسة الشرعية التي تؤول إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهذا لا يمثل قانوناً شرعياً يجب أن يأخذوا به في كل الأحوال، إنما بحسب ما تقتضيه المصلحة.

أما في مرحلة التمكين، فمنع المخالفين من نشر فكر أحزابهم، العلماني أو الشيوعي، وحض الناس عليه يمثل قضية أساسية في الشريعة الإسلامية، إذ أنها توصل أصحابها ومن حمل فكرها إلى الانحراف عن منهج الله، والإيمان بمناهج أرضية، قد تسيرهم للخروج والردة عن الإسلام، فتكون الدولة الإسلامية هي التي هيأت الناس للوصول إلى هذه الدرجة من الانحراف، وهذا مما لا يقبل شرعاً ولا عقلاً.

يقول فضيلة الشيخ مصطفى مشهور ـ رحمه الله ـ: " الأمر يحتاج إلى تفرقة بين مرحلة الدعوة، حيث هناك أوضاع مفروضة ولا خيار للإسلاميين فيها، وبين

نموذج الدولة التي يتصدرها الإسلاميون، وأنا لا أرى محلاً في الواقع الإسلامي لفتح الأبواب أمام المخالفين للإسلام للدعوة لمبادئهم، سواء كان هؤلاء من العلمانيين أو الشيوعيين، وهذا الموقف هو من قبيل الوقاية التي ينبغي التماسها لتأمين المجتمع، والدفاع عن قيمه الإسلامية وعافيته الإيمانية "([207]).

الترجيح:

مما لا شك فيه أن لكل أمة فلسفة خاصة، يتقيد بها الأفراد والجماعات، وعبر تاريخ الأمة الإسلامية، تقيدت الأمة بفلسفة الإسلام، والعمل الإسلامي يسعى جاهداً لعودة الأمة إلى هذه الفلسفة، حيث أن خروجها عن إطارها حالة مرضية يجب أن تنتهي، وعليه فإن الأمة إذا عادت إلى حالتها الصحية، فإننا سنجد الأمر من الناحية الواقعية يختلف كثيراً عن البعد النظري، التي نوقشت المسألة من خلاله.

والمؤمن إذا مُكِّن لدينه يجب أن يكون على يقين بولاء الناس لدين الحق والعدل، بعد وقوفهم عليه، وكذلك أن يكون لديه سعة صدر لقبول الآخرين، والتعاطي معهم حتى وصول الحق إليهم.

ومن هذا المنطلق نشايع القول الثاني، في رأيه القاضي بعدم جواز التعددية السياسية المطلقة، التي تشمل الأحزاب غير الإسلامية، وذلك لعدم مناهضة أدلة القول الأول له، ولكن القضية تبقى خاضعة لفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، فقد تقتضي المصلحة في بعض الأحوال قبول التعددية السياسية المطلقة، وهذا رأي وجيه يستند إلى السياسة الشرعية، أشار إليه الدكتور يوسف القرضاوي ـ الذي أجاز قيام أحزاب غير إسلامية ـ بعد أن بين فضيلته رفض الإسلام لقيامها ابتداء، فقال:

" لا يقبل قيام أحزاب شيوعية في بلاد إسلامية؛ لأنها مرفوضة من جمهور المسلمين؛ قد يمكن القول بأنه يجوز لأهل الحل والعقد أن ينظروا في بعض البلاد، وفي بعض الأحيان في السماح للشيوعيين بالعمل، وتكوين حزب أحياناً ليعملوا علناً بدلاً من أن يعملوا تحت الأرض؛ لأن العمل السري قد يغري بعض الناس بأحلام البطولة، والجري وراء الشيء الغامض،

والشيء المستور هذا قد يضلل بعض الشباب، ويغري بعض الأغرار والبسطاء والمخدوعين، ويظنون أن تحت القبة شيخاً، ويلهثون وراء هؤلاء، فقد يكون من المفيد أن نغري هؤلاء وندعهم يعملون، ولن يجدوا أحداً يستمع لهم، هذا أمر يدخل في يد السياسة الشرعية "([208]).


([1]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة 3/1072 2775).

([2]) ابن منظور: لسان العرب (1/308- 309)، مادة: حزب.

([3]) انظر: ابن حجر: فتح الباري (3/445).

([4]) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث (1/376)، ابن منظور: لسان العرب (1/309)، الرازي: مختار الصحاح (1/56).

([5]) شكر: القانون الدستوري والمؤسسات.

([6]) الوحيدي: الفقه السياسي الدستوري في الإسلام.

([7]) الطماوي: السلطات الثلاث.

([8]) عبد الله: النظم السياسية والقانون الدستوري، عدوان: جذور علم السياسة ، الوحيدي:

الفقه السياسي الدستوري في الإسلام .

([9]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/92).

([10]) عبد السلام: أزمة الحكم في العالم الإسلامي ، عدوان: جذور علم السياسة

([11]) عبد السلام: أزمة الحكم في العالم الإسلامي.

([12]) المباركفوري: الأحزاب السياسية.

([13]) السابق.

([14]) أمين: ضحى الإسلام (3/4).

([15]) الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.

([16]) الشهرستاني: الملل والنحل (1/117).

([17]) أمين: فجر الإسلام ، عيسى: الحزبية السياسية منذ قيام الإسلام حتى سقوط الدولة الأموية .

([18]) أخرجه أحمد: المسند (مسند أنس بن مالك 3/129 ح 12332)، والحديث صحيح، الألباني: صحيح الجامع (1/535 ح 2758).

([19]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي r: لو كنت متخذاً خليلاً 3/1341 3467).

([20]) الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين .

([21]) الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.

([22]) أبو زهرة: تاريخ الجدل.

([23]) جمعة: الاتجاهات الحزبية في الإسلام منذ عهد الرسول r حتى عصر بني أمية.

([24]) ابن خلدون: المقدمة.

([25]) أمين: ضحى الإسلام (3/213)، المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية، عثمان: من أصول الفكر السياسي الإسلامي، عمارة: الوسيط في المذاهب والمصطلحات الإسلامية.

([26]) الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين (1/121)، بخيت: الفرق القديمة والمعاصرة في التاريخ الإسلامي.

([27]) الخميني: الحكومة الإسلامية.

([28]) السابق:

([29]) أبو زهرة : تاريخ المذاهب الإسلامية.

([30]) السابق: .

([31]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية الشكعة: الإسلام بلا مذاهب .

([32]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية.

([33]) الشكعة: الإسلام بلا مذاهب عثمان: من أصول الفكر السياسي الإسلامي .

([34]) أمين: فجر الإسلام، الشكعة: الإسلام بلا مذاهب.

([35]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، الشكعة: الإسلام بلا مذاهب.

([36]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية.

([37]) السابق ، الشكعة: الإسلام بلا مذاهب .

([38]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية.

([39]) ابن حجر: فتح الباري (12/283)، الشوكاني: نيل الأوطار (7/339).

([40]) أمين: فجر الإسلام ، حلمي: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي ، المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية

([41]) الشكعة: إسلام بلا مذاهب .

([42]) أمين: ضحى الإسلام (3/337 – 340).

([43]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية (ص: 60 – 61).

([44]) المرجع السابق (ص: 65)، أمين: فجر الإسلام (ص: 258).

([45]) أمين: فجر الإسلام (ص: 258)، الشهرستاني: الملل والنحل (1/124)، المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية (ص: 179).

([46]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية (ص: 65).

([47]) الأشعري: مقالات الإسلاميين (1/168).

([48]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية، البغدادي: الفرق بين الفِرَق .

([49]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية.

([50]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، حلمي: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي ، الشكعة: إسلام بلا مذاهب

([51]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية ، المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية.

([52]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية ، الشكعة: إسلام بلا مذهب .

([53]) حلمي: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي .

([54]) أبو زهرة: الإمام مالك.

([55]) حلمي: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي .

([56]) الشكعة: إسلام بلا مذاهب.

([57]) الريس: النظريات السياسية الإسلامية.

([58]) حلمي: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي.

([59]) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية.

([60]) السابق .

([61]) إن صورة الحزبية السياسية التي عاشها فقهاؤنا القدامى ـ رحمهم الله ـ كانت صورة مقيتة، وصفحة مظلمة، ولم تمثل أحزاباً سياسية بناءة، فقد جاءت في إطار فتنة، وكان لها من الانحرافات الكثيرة التي جعلت العلماء ينظرون إليها انطلاقاً من هذا الواقع.

([62]) ابن هشام: السيرة النبوية (3/168).

([63]) السابق (4/180)، الطبري: التاريخ (2/94).

([64]) البنا: مجموعة الرسائل.

([65]) السابق.

([66]) السابق (ص: 166).

([67]) البنا: مجموعة الرسائل.

([68]) القرضاوي: من فقه الدولة.

([69])التلمساني: ذكريات لا مذكرات.

([70]) عدوان: التحول إلى التعددية الحزبية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ، بحث منشور في مجلة جامعة النجاح للأبحاث ب " العلوم الإنسانية " المجلد (16)، العدد الأول، حزيران (2002)، نقلاً عن جريدة الأحرار .

([71]) سورة آل عمران: الآية (104).

([72]) النبهاني: نظام الحكم في الإسلام .

([73]) أبو زيد: حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية ، المباركفوري: الأحزاب السياسية ، يكن: أبجديات التصور الإسلامي ، خان: الإسلام والعصر الحديث .

([74]) أبو فارس: التعددية السياسية ، أمين: الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية ، حوى: جند الله تخطيطاً ، الديلمي: العمل الجماعي: محاسنه وجوانب النقص فيه ، سميع: أزمة الحرية السياسية ، الصاوي: مدى شرعية الانتماء، عبد الخالق: مشروعية الجهاد الجماعي ، عمارة: الإسلام والتعددية

العوا: الفقه الإسلامي في طريق التجديد، العوضي: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب ، الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية ، الفنجري: التعددية السياسية القرضاوي:

من فقه الدولة ، النبهاني: نظام الحكم في الإسلام ، النحوي: الصحوة الإسلامية إلى أين ، النفيسي:

عندما يحكم الإسلام.

([75]) سورة الأنعام: الآية (159).

([76]) سورة الروم: من الآية (31)، والآية (32).

([77]) سورة الأنفال: من الآية (46).

([78]) المباركفوري: الأحزاب السياسية في الإسلام، يكن: أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي

([79]) سورة القصص: من الآية (4).

([80]) إسحاق: الأحزاب السياسية ونمط القيادة في الدولة الإسلامية ، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر (السنة 11 العدد 44 لسنة 14051985 ترجمه إلى العربية محمد رفقي عيسى).

([81]) سورة آل عمران: من الآية (103).

([82]) سورة آل عمران: الآية (105).

([83]) أبو زيد: حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية، المباركفوري: الأحزاب السياسية في الإسلام.

([84]) سورة الأنعام: من الآية (65).

([85]) إسحاق: الأحزاب السياسية ونمط القيادة في الدولة الإسلامية.

([86]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن .

([87]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن .

([88]) أخرجه أحمد: المسند (مسند الشاميين، حديث حارث الأشعري ، والحديث صحيح، الألباني: صحيح سنن الترمذي .

([89]) أخرجه الترمذي: السنن (كتاب الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحديث صحيح، الألباني: صحيح وضعيف الترمذي .

([90]) الصاوي: التعددية السياسية، العوضي: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب السياسية في الإسلام ، المباركفوري: الأحزاب السياسية .

([91]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الأحكام، باب الطاعة للإمام ما لم تكن معصية .

([92]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة .

([93]) المباركفوري: الأحزاب السياسية.

([94]) سبق تخريجه وهو صحيح.

([95]) الصاوي: التعددية السياسية.

([96]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام ، مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، واللفظ له.

([97]) المباركفوري: الأحزاب السياسية في الإسلام .

([98]) المرجع السابق .

([99]) المباركفوري: الأحزاب السياسية في الإسلام .

([100]) المرجع السابق ،الصاوي: التعددية السياسية.

([101]) الصاوي: التعددية السياسية .

([102]) المباركفوري: الأحزاب السياسية.

([103]) سميع: أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي.

([104]) سورة آل عمران: الآية (104).

([105]) رضا: تفسير المنار (4/36).

([106]) سورة المائدة: من الآية (2).

([107]) العوضي: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب.

([108]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (6/47).

([109]) الدريني: الحق ومدى سطان الدولة في تقييده.

([110]) سورة التوبة: الآية (122).

([111]) سورة النساء: من الآية (58).

([112]) الرازي: المحصول (2/317)، الغزالي: المنخول (1/117).

([113]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الشركة باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه

([114]) الغزالي: الإسلام والاستبداد السياسي.

([115]) سميع: أزمة الحرية السياسية.

([116])أخرجه الترمذي: السنن (كتاب الفتن عن رسول الله، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 4/468 ح 2169)، وحسنه الألباني في المصدر نفسه..

([117]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.

([118]) الشاطبي: الموافقات .

([119]) القرافي: الفروق (2/61).

([120]) الصاوي: التعددية السياسية .

([121]) ابن القيم: الطرق الحكمية.

([122]) الصاوي: التعددية السياسية.

([123]) ابن عبد البر: التمهيد (23/338)، الطبري: التاريخ (3/114).

([124]) القرضاوي: من فقه الدولة .

([125]) الصاوي: مدى شرعية الانتماء .

([126]) الشنتوت: التربية السياسية .

([127]) يقول الدكتور يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم :" هذه القاعدة الذهبية صاغها العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله، وكان الإمام حسن البنا رحمه الله حفياً بهذه القاعدة حريصاً على الالتزام بها فكراً وعملاً، حتى حسب كثير من تلامذته وأتباعه أنه واضعها ".

([128]) عبد الخالق: مشروعية الجهاد الجماعي .

([129]) عبد السلام: أزمة الحكم في العالم الإسلامي .

([130]) الشنتوت: التربية السياسية ، نقلاً عن البيانوني: وحدة العمل الإسلامي.

([131]) سورة القصص: من الآية (15).

([132]) سورة الصافات: الآية (83).

([133]) سورة المائدة: الآية (56).

([134]) سورة الحجرات: من الآية (9).

([135]) سورة هود: الآية (118).

([136]) إسحاق: الأحزاب السياسية ونمط القيادة في الدولة الإسلامية .

([137]) سورة هود: من الآية (119).

([138]) الشاطبي: الاعتصام (2/166- 171).

([139]) الصاوي: التعددية السياسية .

([140]) القرضاوي: فقه الدولة .

([141]) العوضي: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب .

([142]) لا ننكر وجود تعصب عند بعض الجماعات الإسلامية، أو قل عند بعض الأفراد من الجماعات، وأعتقد أن مرد ذلك ضعف الجانب التربوي والتوجيه الصحيح عندها، وقد أشار الأستاذ عمر عبيد حسنة: نظرات في مسيرة العمل الإسلامي إلى مثل هذا فقال:

" من الخطأ العقيدي والتاريخي الاعتقاد بأن الإسلام حكر على جماعة بعينها إلى درجة تعلن منها أنها جماعة المسلمين، أو أنها تمتلك الحق المحض، وغيرها يعيش على الباطل المحض، ومن هنا يبدأ الانحراف وتتسع زاويته، ويبدأ التعسف في إصدار الأحكام على الناس إلى درجة قد تصل إلى تكفير من لا يسلك في طريقها ولا يرى رأيها ".

([143]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/92).

([144]) سبق تخريجه، وهو صحيح.

([145]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب قوله r لا تزال طائفة من أمتي .

([146]) سورة آل عمران: من الآية (110).

([147]) العوضي: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب.

([148]) راجع ما كتبناه في الحرية السياسية.

([149]) مقصد المسلم هو ما قاله ربعي بن عامر t: " إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " الطبري: التاريخ (2/401).

([150]) سورة يوسف: من الآية (55).

([151]) الألوسي: روح المعاني (13/5).

([152]) الصاوي: التعددية السياسية.

([153]) هنيه: حكم الحزبية في الإسلام، لقاء صحفي مع جريدة صوت الجامعة العدد (49) (1423هـ ـ 2003م).

([154]) الصاوي: التعددية السياسية، عبد الخالق: مشروعية العمل الجماعي .

([155]) راجع في ذلك عبد الخالق: شيخ الإسلام ابن تيمية والعمل الجماعي ، وقد كتبه رداً على القائلين بأن الإسلام لم يسبق أن مارس العمل في جماعة.

([156]) سورة الضحى: الآية (11).

([157]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/30- 46).

([158]) العوضي: حكم المعارضة والأحزاب السياسية .

([159]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً .

([160]) سورة الأحزاب: الآية (58).

([161]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/20).

([162]) يكن: أبجديات التصور الحركي .

([163]) القرضاوي: الحل الإسلامي فريضة وضرورة.

([164]) سورة آل عمران: الآية (104).

([165]) انظر: .

([166]) سورة الأنفال: من الآية (73).

([167]) سورة الأنفال: من الآية (73).

([168]) عزام: حكم العمل في جماعة .

([169]) سبق تخريجه ، وهو حسن صحيح.

([170]) سبق تخريجه، وهو صحيح.

([171]) ابن حجر: فتح الباري (13/255).

([172]) الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (3/40).

([173]) أمين: الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية، عبد الرحمن: البيعة في النظام السياسي الإسلامي، القرضاوي: الحل الإسلامي ، مشهور: طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف.

([174]) الديملي: العمل الجماعي محاسنه وجوانب النقص فيه ، القرضاوي: الحل الإسلامي، يكن: أبجديات التصور الإسلامي.

([175]) خلاف: السياسة الشرعية.

([176]) سورة الصف: الآية (4).

([177]) الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (3/38).

([178]) عبد الخالق: المسلمون والعمل السياسي (ص: 20).

([179]) أخرجه ابن ماجه: السنن (كتاب الفتن، باب افتراق الأمم 2/1322 ح 2993)، والحديث صحيح، الألباني: صحيح سنن ابن ماجه (2/1322 ح 2993).

([180]) ابن باز: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (8/181- 183).

([181]) سبق تخريجه ، وهو صحيح.

([182]) المزي: تهذيب الكمال (22/265).

([183]) المرجع السابق (8/179- 181).

([184]) موقع اللجنة الدائم على الإنترنت.

([185]) فقد جاء في البيان التأسيسي لهذه الحركة: أن من وسائل الحركة لتحقيق المهام المنوطة بها ما

يلي: "

رفض مبدأ الانفراد بالسلطة ـ الأحادية ـ لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان، وتعطيل لطاقات الشعب، ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع، وسائر الحقوق الشرعية، والتعاون في ذلك مع كل القوى الوطنية " الغنوشي: محاور إسلامية .

وعندما سئل رئيس الحركة في الندوة الصحفية المنعقدة في يونيو 1981م عن رأيه في التعددية السياسية والتنسيق مع المعارضة أجاب ما يلي: ...

نحن لا نعارض ألبته أن يقوم في البلاد أي اتجاه من الاتجاهات، ولا نعارض ألبته قيام أي حركة سياسية وإن اختلفت معنا اختلافاً أساسياً جذرياً بما في ذلك الحزب الشيوعي،

فنحن حين نقدم أطروحتنا نقدمها ونحن نؤمن بأن الشعب هو الذي رفعنا إلى السلطة ليس إلا، ولذلك ليس لنا الحق أن نمنع أي طرف من أن يقدم برنامجه، وهذا الموقف هو منطق مبدئي إسلامي أصولي شرعي" الصاوي: التعددية السياسية نقلاً عن الهاشمي: أشواق الحرية.

([186]) قميحة: المعارضة في الإسلام، هويدي: الإسلام والديمقراطية.

([187]) أبو فارس: التعددية السياسية ، الصاوي: التعددية السياسية، الفنجري:

الحرية السياسية في الإسلام ، هويدي: الإسلام والديمقراطية .

([188]) الصاوي: التعددية السياسية، انظر إلى نص الصحيفة التي عقدها النبي r مع أهل المدينة عند ابن هشام: السيرة النبوية (3/31- 35).

([189]) الغنوشي: الحريات العامة في الإسلام.

([190]) سورة المائدة: الآية (49).

([191]) سورة الجاثية: الآية (18).

([192]) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (4/150).

([194]) الألوسي: روح المعاني (5/175)، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (5/420).

([195]) سورة النساء: من الآية (59).

([196]) أبو فارس: التعددية السياسية .

([197]) سبق تخريجه، وهو صحيح.

([198]) النووي: شرح صحيح مسلم (12/229).

([199]) ابن القيم: أحكام أهل الذمة (2/787).

([200]) رضا: تفسير المنار (6/367).

([201]) أبو فارس: التعددية السياسية.

([202]) الفنجري: الحرية السياسية.

([203]) ابن هشام: السيرة النبوية (3/34).

([204]) الصاوي: التعددية السياسية.

([205]) سورة لقمان: الآية (30).

([206]) الصاوي: التعددية السياسية.

([207]) هويدي: الإسلام والديمقراطية.

([208]) القرضاوي: هموم المسلم المعاصر .

المبحث الثالث ضوابط التعددية السياسية

ذهبنا ـ كما سبق ـ إلى أنه لا مجال في الفقه الإسلامي للتعددية السياسية المطلقة، وأن الذي يجيزه الإسلام تلك التعددية السياسية، التي تكون في إطار الأصول الثابتة من القرآن الكريم والسنة.

وحتى تكون التعددية السياسية نموذجاً في طريق تحقيق الأهداف والغايات، التي أنشأت من أجلها، وتصبح تعددية حقيقية تنشد المصلحة العامة، كان لا بد أن تلتزم بثوابت لا تتعداها، وتتقيد بضوابط لا تتجاوزها.

وهذه الضوابط تتمثل في:

1. أن تكون التعددية السياسية مؤمنة تمام الإيمان بالعقيدة الإسلامية، والشريعة الإسلامية المنبثقة عنها: قال الله تعالى: } وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ {([1])، فلا يسمح أن تتحزب على أصل بدعي يخالف أصول السنة والجماعة، أو بدع جزئية كثيرات([2]).

2. أن يكون الالتزام بالحق والمصالح العامة للأمة هو البديل عن الالتزام الحزبي الذي تقرره الأحزاب العلمانية: فالذي يحكم القرار، والاختيار، والتوجه هو الحق والمصلحة، وليس مجرد الانتماء إلى الحزب، أو الانتساب إلى تكتل سياسي بعينه، فهذا يمثل في ميزان الشرع جريمة منكرة،

وهو نوع من العصبية الجاهلية، قال r: " مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الحَقِّ، فَهُوَ كَالبَعِيرِ الذِي رُوِي، فَهُوَ يَنْزِعُ بِذَنَبِهِ "([3]).

وقد نبه الدكتور يوسف القرضاوي إلى جملة من أخلاقيات التحرر من التعصب للجماعة أو للحزب، فقال:

" ومن هذه الأخلاقيات:

أن ينظر إلى القول لا إلى قائله، وأن تكون لديه الشجاعة لنقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والترحيب بالنقد من الآخرين، وطلب النصح منهم، والاستفادة مما عند الآخرين من علم وحكمة، والثناء على المخالف فيما أحسن فيه، والدفاع عنه إذا اتهم بالباطل أو تطاول عليه أحد بغير حق "([4]).

3. التزام السمع والطاعة لدى ولي الأمر باعتباره ممثلاً لكافة الأمة وعدم منازعته أو شق عصا الطاعة: " إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً "([5])، قال تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ {([6]).

4. الإقرار بالحاكمية لله تعالى في جميع نواحي الحياة وجزئياتها، وتفرده بذلك سبحانه عما سواه: قال تعالى: } إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ {([7])؛ وأن تكون غايتهم إقامة القانون الإلهي، والمحافظة على استمرار تطبيق الشريعة الإسلامية في كل شئون الحياة، قال تعالى: } الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {([8]).

5. محاربة الداعين إلى إقصاء الشريعة الإسلامية عن واقع الحكم، دون مهادنة أو مداراة، وعدم موالاة أي راية منحرفة عن منهج الله: قال تعالى: } وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {([9]).

يقول الشيخ سعيد حوى ـ رحمه الله ـ: " فلا ولاء في الإسلام إلا على أساسه النظري والعملي، وكل آصرة أخرى يعطي الناس ولاءهم على أساسها آصرة باطلة، والولاء على أساسها باطل، ولا يكون الإنسان معها من المؤمنين، فالله يأبى علينا أن نعطي إلا بجامع الإيمان والإسلام "([10]).

6. العمل على تحقيق المصالح العامة للأمة، ودفع المفاسد عنها، وإفراغ الجهد في ذلك: وأن تكون هذه المصالح بمثابة الإطار الجامع الذي يتفق الجميع على دعمه، وهم في هذه الدائرة نسيج واحد وحزب واحد، وهم يد على من سواهم، ولا يمنع التفاوت فيما وراء ذلك من الأساليب من تماسك كافة هذه الفصائل والتقائها جميعاً في هذا الخندق الجامع([11]).

7. المحافظة على وحدة الأمة المسلمة: إذ تمثل الوحدة صمام الأمان في علو شأن الأمة وقوة شوكتها ومجابهتها لأعدائها، قال تعالى: } وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ {([12])، فدون ذلك تشرذم الأمة وذهاب ريحها قال تعالى: } وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ{([13]).

8. إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم: فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائماً على تزكية نفسه واتهام غيره، وهذا الأمر يعد من المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل بين الإسلاميين، فالمؤمن ـ كما قال بعض السلف

ـ أشد حساباً لنفسه من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح، فهو أبداً متهم لنفسه لا يتسامح معها، ولا يبرر لها خطأها، يغلب عليه شعور التفريط في جنب الله، وهو في الجانب المقابل يلتمس المعاذير لخلق الله، وخصوصاً لإخوانه، والعاملين معه لنصرة دين الله، فهو يقول ما قال بعض السلف الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول:

لعل له عذراً آخر لا أعرفه.

إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسنة، فالأصل حمل المسلم على الصلاح، وألا تظن به إلا خيراً، وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه، وإن بدا ضعفها، تغليباً لجانب الخير على جانب الشر، والله تعالى يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ {([14])، والمراد ظن السوء الذي لم يقم عليه دليل حاسم([15]).

9. التناصح والتواصي بالخير: وهذا من لوازم التعددية السياسية الإسلامية، حتى تكون الأمة قوية موحدة لا تفرقها الوسائل المتباينة في خدمة الإسلام، والله تعالى يقول: } إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{([16])؛ ويقول النبي r: " الدِّينُ النَّصِيحَةُ "([17]).

وكذلك ينبغي احترام الرأي المخالف، وعدم الإنكار على الآخرين، مهما اختلفوا معه في الفروع الاجتهادية، فلكل مجتهد نصيب، إذ الإنكار والتشنيع عليهم وإيذائهم بذلك يورث التفرق والاختلاف، ومن هنا كانت دعوة الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله ـ للعاملين في حقل الدعوة إلى التسامح في المختلف فيه فقال: "

نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ".

10. الحوار بالتي هي أحسن:

وهذه من الدعائم الأساسية في أدب الاختلاف، وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه حين قال: } ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {([18])، فالقرآن يطلب اتخاذ أحسن الطرائق وأمثلها للجدال، أو الحوار حتى يؤتي أكله؛ ومن هذه الطرائق أو الأساليب:

أن يختار المجادل أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر، ولهذا استخدم القرآن في مخاطبة اليهود والنصارى تعبيراً له إيحاؤه ودلالته في التقريب بينهم وبين المسلمين، وهو تعبير " أهل الكتاب" أو " الذين أوتوا الكتاب".

ومن أساليب الحوار بالحسنى: التركيز على نقاط الالتقاء، ومواضع الاتفاق بينك وبين من تحاوره، وهو أسلوب قرآني، قال تعالى: } وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {([19])؛ فإذا كان هذا موقف المسلم ممن يجادله من أهل الكتاب الذين يخالفونه في عقيدته، فكيف ينبغي أن يكون موقفه من أخيه المسلم؟.

إن الكلمة العنيفة لا لزوم لها، ولا ثمرة تجتنى من ورائها، إلا أنها تجرح المشاعر، وتغير مودة القلوب، قال الشاعر:

إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يشعب.

إن حسن اختيار بعض الجمل أو العبارات المناسبة في بعض الأحيان، يحل مشكلات ويفض اشتباكات؛ وهذا ما يحسن بالدعاة والمفكرين، والعاملين للإسلام أن يحرصوا عليه ويدققوا فيه([20]).

11. نبذ الخلاف والفرقة، والبعد عن التباغض والشحناء: فالاختلاف في الفروع الاجتهادية لا يوجب التخاصم والكراهية، قال تعالى في وصف المؤمنين: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ {([21])؛ وقال r: " المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ ..."([22])؛ وكذلك إزالة الحسد، فهو الذي يحمل على صاحبه على اتباع هواه، ويجعله يتكلم فيمن يحسده، ولله در القائل:

لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله!

وعدم الحسد، والإحسان إلى المسلمين هو الأمر اللازم لتحقيق النصرة بين المسلمين([23])؛ وهذا هو الذي أمر به النبي r في قوله: " مَا مِن امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَءاً

مُسْلِماً فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلا خَذَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَوْطِنٍ يُحِبُ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلا نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُ فِيهِ نُصْرَتَهُ "([24]).

فينبغي على العاملين في الأحزاب السياسية أن يتقوا ذلك، وأن يحسنوا في أعمالهم وأقوالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

12. أن تنتهج الأحزاب السياسية أسلوب الوسطية في أقوالها، وأعمالها، وأحوالها، دون إفراط أو تفريط: فمن مقاصد الدين الإسلامي بناء المجتمع المسلم الوسط، وإن الغلو أو الجفاء يخالف كتاب الله وسنة نبيه r، فدين الله تعالى بين الغالي والجافي }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا {([25]).

وليس معنى الوسط البرود وتمييع القضايا، والتسويف في القيام بالواجبات، وهذا خطأ، فلا بد من أخذ الكتاب بقوة، لكن الوسط أخذ أمر الله وأمر رسوله r حباً وتسليماً وانقياداً، كما أراد الله ورسوله r بلا زيادة ولا نقص([26]).

واتباع المنهج الوسط دعامة في التعددية السياسية لتقريب الشقة وإزالة الجفوة بين الداعين للإسلام؛ ويعتبر أيضاً من أهم أسباب الوفاق والتقارب بينهم: تجنب التنطع في الدين، وهو ما أنذر النبي r أصحابه بالهلاك فيما رواه عنه ابن مسعود t قال: " هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ " قالها ثلاثاً([27])؛ سواء كان هذا القول إخباراً عن هلاكهم، أم دعاءاً عليهم([28])؛ والمتنطعون كما قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: المتعمقون

الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم([29]).

13. الإخلاص التام في العمل، والاعتراف بالتقصير، ودوام الاتصال مع الله سبحانه وتعالى: وبهذا تحفظ الدعوة والحركات الإسلامية، فينبغي على العاملين في حقل الدعوة الإسلامية أن لا يألوا جهداً، ولا يدخروا وقتاً في خدمة دعوة الله، والخضوع والانقياد له تعالى، فيبذلوا ويجاهدوا ويدعوا، وفي المقابل لا يزكوا أنفسهم، ولا يدَّعوا الكمال، ولا يصيبهم العجب، بل يتهموا أنفسهم دوماً بالنقص والتقصير، فيجددوا توبتهم وإنابتهم لله تعالى، قال سبحانه: } وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء {([30]).

وهكذا إذا كانت الجماعات الإسلامية سليمة الفطرة، معترفة بتقصيرها في جنب الله، فإن الشدائد تجملها، وتوحد صفها في مواجهة أعداء الله، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه العاملون للإسلام دوماً: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ {([31]).

([1]) سورة آل عمران: من الآية (85).

([2]) أبو فارس: مدى شرعية الانتماء، الصاوي: التعددية السياسية.

([3]) أخرجه أبو داود: السنن (كتاب الأدب، باب في العصبية 4/331 ح 5117)، والحديث صحيح، الألباني: صحيح سنن أبي داود (4/331ح 5117).

([4]) القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم.

([5]) سبق تخريجه، وهو صحيح.

([6]) سورة النساء: من الآية (59).

([7]) سورة يوسف: من الآية (40).

([8]) سورة الحج: الآية (41).

([9]) سورة التوبة: من الآية (23).

([10]) حوى: جند الله ثقافة وأخلاقاً.

([11]) أبو فارس: التعددية السياسية، الصاوي: التعددية السياسية .

([12]) سورة آل عمران: من الآية (103).

([13]) سورة الأنفال: من الآية (46).

([14]) سورة الحجرات: من الآية (12).

([15]) القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم .

([16]) سورة العصر: الآية (3).

([17]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/74 ح 55).

([18]) سورة النحل: من الآية (125).

([19]) سورة العنكبوت: الآية (46).

([20]) القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم.

([21]) سورة المائدة: من الآية (54).

([22]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره 4/1986 ح 2564).

([23]) الياسين: ضوابط العمل الإسلامي.

([24]) أخرجه أبو داود: السنن (كتاب الأدب، باب من رد عن مسلم غيبة 4/271 ح 4884)، والحديث حسن، الألباني: صحيح الجامع الصغير (2/992 ح 5690).

([25]) سمرة البقرة: من الآية (143).

([26]) القرني: عشرة ضوابط للصحوة الإسلامية.

([27]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب العلم، باب هلك المتنطعون 4/2055 ح 2670).

([28]) القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم.

([29]) النووي: شرح صحيح مسلم (16/220).

([30]) سورة النور: من الآية (21).

([31]) سورة الصف: الآية (4).

الفصل الثاني المشاركة في المجالس النيابية والوزارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: المشاركة في المجالس النيابية.

المبحث الثاني: المشاركة في الوزارة.

توطئة:

اتفقت الأمة عبر تاريخها الطويل على وجوب الاحتكام إلى شرع الله ودينه، وهذا جزء من عقيدة الأمة وإيمانها، فلا يماري فيه إلا جاحد.

ولقد أقامت الأمة الإسلامية دولتها، وخطت منهجها وفق هذا الأساس، حتى كانت المؤامرة على دين الله، فهدمت دولة الإسلام، وغرق الناس في التيه انحرافاً عن منهج الله.

فكان هَمّ الدعاة إنارة درب الأمة بنور الحق، وإعادتها إلى جادة الصواب، وإعادة الإسلام إلى سدة الحياة، ليكون منهج الأمة التي تحتكم إليه.

ولما كانت سياسة أنظمة الحكم المعاصرة تناقض الإسلام في أخص خصوصياته، فتجعل الحاكمية لغير الله تعالى، وتتخذ المناهج الوضعية أساساً في حكمها التي تجعل الشعب هو مصدر السلطة.

لأجل ذلك كانت العلاقة بالسلطة السياسية من أكبر المعضلات التي تواجه الدعاة والجماعات المسلمة، وتتجلى أبعاد هذه المعضلة في أمرين متناقضين وهما:

واجب إصلاح السلطة الفاسدة، باعتباره بند من خطط أي حركة تغيير جادة، وضرورة التعايش معها، أخذاً بدواعي المصلحة، حتى تتمكن الحركات الإسلامية من تحقيق أهدافها وغاياتها، المتمثلة في إقامة الحق والعدل.

فالمواجهة مع السلطة مفسدة، والتعاون معها على غير أساس يقوم على قواعد الحق والعدل مفسدة أيضاً، فالترجيح يستلزم فقهاً خاصاً مبنياً على إدراك مقاصد الشرع ومناط المصلحة، وفكراً استراتيجياً يحسن الموازنة في ظروف مرنة متغيرة، طبقاً للحكمة التي عبر عنها عمرو بن العاص t منذ أمد بعيد بقوله: " ليس العامل هو الذي يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين"([1])...([2]).

وأمام هذه الخيارات الصعبة، والموازنات الدقيقة، اختلف العاملون للإسلام في التعاطي مع الوسائل المطروحة، وتعددت اجتهاداتهم حول كيفية العودة بالناس إلى الحياة الإسلامية، والعودة بالدولة لتحكم بشريعة الله.

ومن أهم هذه الوسائل المشاركة في المجالس النيابية والوزارية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة.

([1]) الذهبي: سير أعلام النبلاء (3/74).

([2]) الشنقيطي: الإخوان المسلمون والعلاقة بالسلطة ـ مقال منشور في ملف الإخوان المسلمون إلى أين؟

موقع الجزيرة نت ـ.

المبحث الأول المشاركة في المجالس النيابية

ويتكون من ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم المجالس النيابية

المطلب الثاني: حكم المشاركة في المجالس النيابية

المطلب الثالث: ضوابط المشاركة في المجالس النيابية

المطلب الأول مفهوم المجالس النيابية

معنى النيابة لغة: هي من ناب عنه ينوب نوْباً ومناباً: أي قام مقامه([1])، ونَابَ عني في هذا الأمر نِيَابَةً، إذا قام مقامك، والنَّوْبُ: اسم جمع ناب، مثل: زائر وزوْر، والنَّوْبَةُ: الجماعة من الناس، أنشد ثعلبة:

انقطع الرَّشاء وانحلَّ الثَّوْبْ وجاء من نبات وطَّاء النَّوبْ([2])

مفهوم المجالس النيابية في النظم المعاصرة، وأركانها:

مفهوم المجالس النيابية:

يقوم النظام النيابي على أساس اختيار الشعب من آن لآخر نواباً يتولون الحكم لمدة محدودة، باسمه ونيابة عنه، فلا يزاول الشعب سلطانه بنفسه، بل يقتصر دوره في اختيار نواب عنه، وتعد بعد ذلك إرادة هؤلاء النواب معبرة عن إرادة الناخبين، أي إرادة الشعب([3]).

والهيئة النيابية لها حق إصدار القواعد العامة الملزمة، التي تحكم تصرفات الجماعة داخل كيان الدولة.

والمقصود بالقواعد العامة الملزمة في هذا النظام: ما لا يشمل اللوائح التي هي من اختصاصات السلطة التنفيذية، فهي إذن: ما لا تنحصر في القواعد الدستورية، والتشريع الفني بالمعنى الدقيق([4]).

وهذا النوع من النظام يمثل صورة الديمقراطية غير المباشرة، أو الديمقراطية النيابية

ـ فالشعب لا يمارس السلطة التنفيذية، كما هو الحال في الديمقراطية المباشرة، ولا يشارك في ممارستها مع من ينتخبهم من النواب، كما يحدث في نظام الديمقراطية غير المباشرة، وإنما يترك لهؤلاء النواب الممارسة الكاملة للسلطة نيابة عنه([5]).

فدور الشعب في هذا النظام مقصور على انتخاب الهيئة النيابية، ثم لا يشترك معها في الحكم، وتختص الهيئة النيابية بالاختصاصات الآتية([6]):

1. اختصاص تشريعي ( سن القوانين ).

2. اختصاص مالي ( الموافقة على الميزانية ).

3. اختصاص سياسي (مراقبة السلطة التنفيذية ).

أركان النظام السياسي:

للنظام السياسي أركان تميزه عن غيره من أنظمة الحكم، وتنحصر فيما يأتي([7]):

1. هيئة نيابية منتخبة بواسطة الشعب، لها اختصاص حقيقي في إدارة الحكم.

2. النائب البرلماني يمثل الأمة كلها.

3. استقلال الهيئة النيابية قانوناً عن الناخبين.

4. الانتخاب الدوري للهيئة النيابية.

الركن الأول: الهيئة النيابية المنتخبة:

إن الدعامة الأساسية التي يقوم عليها النظام النيابي هي وجود برلمان ينتخبه الشعب، وعلى ذلك فإن الانتخاب يعتبر من أهم أسس النظام النيابي، ويجب حتى يتحقق هذا النظام من الناحية الفعلية أن يكون للمجلس النيابي سلطات حقيقية، واشتراك واقعي في إدارة شئون الدولة، وبالذات بالنسبة للوظيفة التشريعية، فإذا كان البرلمان استشارياً فقد انعدم وجود النظام النيابي.

وتمارس المجالس النيابية في الدول ذات الأنظمة النيابية وظائف متعددة مختلفة: تشريعية، ومالية، وسياسية.

الركن الثاني: النائب يمثل الأمة كلها:

قبل قيام الثورة الفرنسية كان المبدأ السائد في النظم النيابية أن النائب يمثل دائرته الانتخابية فقط، وبالتالي كان من حق الناخبين أن يصدروا تعليمات إلزامية للنائب، ولم يكن بمقدوره الخروج على هذه التعليمات، وكان عليه أن يراعي مصالح الدائرة، وأن يقدم حساباً بأعماله، وكان من حق الناخبين عزل النائب.

وبعد الثورة الفرنسية تغير المبدأ، وأصبح النائب يمثل الأمة بأجمعها، بحيث يستطيع إبداء الرأي بحرية كاملة، دون التقيد بتعليمات الناخبين؛ لأنه يعمل من أجل الصالح العام للأمة، وليس لمجرد تحقيق مصالح إقليمية ضيقة للدائرة التي انتُخِب فيها، كما لم يعد من حق الناخبين عزل النائب متى شاءوا.

الركن الثالث: استقلال الهيئة النيابية عن الناخبين:

بعد انتهاء عملية الانتخاب يصبح البرلمان صاحب السلطة القانونية، ولا يستطيع الشعب التدخل في أعماله.

والنظام النيابي يقوم على أساس استقلال البرلمان عن مجموع الناخبين، ومظهر اشتراك الشعب في الحكم إنما ينحصر في عملية انتخاب أعضاء البرلمان، وبعد انتهاء هذه المهمة لا يباشر الشعب أية سلطة قانونية، وإنما تتركز السلطة بعد ذلك في يد البرلمان وحده، أو بالاشتراك مع السلطة التنفيذية، وذلك حسب التنظيمات الدستورية في الدولة المختلفة.

الركن الرابع: الانتخاب الدوري للهيئة النيابية:

ليس معنى استقلال البرلمان أن يستمر الأعضاء نواباً عن الشعب مدى الحياة، فإن ذلك قد يؤدي إلى الاستبداد، وتضعف بمرور الزمن فكرة تمثيل الأمة، ولذلك يجب ضمان صدق البرلمان في تعبيره برجوعه إلى الشعب من وقت لآخر؛ ليعيد انتخاب البرلمان، ويحقق رقابته على ممثليه.

واتفق على أنه يجب ألا تكون مدة النيابة طويلة لدرجة أن تضعف الرقابة الشعبية، ولا أن تكون قصيرة لدرجة أن يخضع النواب إلى الناخبين، ويفقد البرلمان استقلاله، والحل الوسط أن تكون المدة بين أربع إلى خمس سنوات.

مفهوم السلطة التشريعية في الإسلام وخصائصها:

هي مجموع مجلس الشورى الذي يكون له سلطة للنظر فيما يعرض للمسلمين من وقائع وأحداث؛ ليبحث عن الأحكام التي ينبغي أن تعطى له وفق تعاليم الإسلام، والأحكام الصادرة عنه ملزمة، وليس له أن يخالف الأحكام التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والأحكام التي اتفق عليها إجماع المسلمين.

والسلطة التشريعية في الدولة الإسلامية اختلفت من عصر إلى عصر، ففي عهد النبي r انحصر التشريع فيه بالوحي إليه من الله تعالى بالقرآن الكريم والسنة النبوية.

ولما انتقل النبي r إلى جوار ربه، صار المسلمون يجتهدون فيما لم يرد به نص، وقد ساعدهم على ذلك صحبتهم للنبي r وملازمتهم له.

ولما اشتدت رقعة الدولة الإسلامية، واختلط العرب بالعجم، وجدَّت وقائع وحوادث كثيرة، أحس الفقهاء بالحاجة إلى قيام التشريع الإسلامي على قواعد ثابتة، فدونت قواعد الاجتهاد وأصوله في القرن الثاني الهجري([8])، وكانت أهم المصادر هي المجمع عليها بين العلماء، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس([9]).

خصائص التشريع الإسلامي:

يمكن تلخيص الخصائص العامة للتشريع الإسلامي وإجمالها فيما يأتي([10]):

1. المصدر الأصلي للتشريع الإسلامي هو وحي الله، متمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، بالإضافة إلى اجتهاد الفقهاء المقيد بهما.

2. إن التشريع الإسلامي نزعته جماعية، كما في أحكام العبادات والمعاملات، يهدف إلى تهذيب الفرد وصالحه والصالح العام للمجتمع بأسره، وهو ذو صبغة عالمية.

3. روح الاعتدال، ونبذ التطرف، والتوسط بين الأطراف.

4. غاية التشريع الإسلامي يهدف إلى إسعاد البشر، وتنظيم الحياة الخاصة والعامة، ويعنى بالناحيتين المادية والروحية معاً، ويسعى لصلاح الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة.

أوجه الاختلاف بين السلطة التشريعية في الإسلام والأنظمة المعاصرة:

هناك اختلاف جوهري بين التشريع في الدولة الإسلامية والأنظمة المعاصرة أهمها:

1. أن المرشحين لعضوية المجالس النيابية في ظل الأنظمة المعاصرة لا يشترط فيهم عادة من حيث الثقافة، إلا القدر الذي يمكنهم من أداء وظائفهم، والذي يتمثل حده الأدنى في إجادة القراءة والكتابة.

أما التشريع الإسلامي القائم على الاجتهاد، فإنه مقصور على المجتهدين، الذين يستوفون شروطاً معينة، يكتسبها المجتهد إذا توافر فيه الاستعداد الشخصي الموروث، ثم الدراسة التي تكفل له الإحاطة بأسباب الاجتهاد ووسائله([11]).

2. أن سن القوانين في ظل المجالس النيابية في الأنظمة المعاصرة لا يخضع لأي قيد، فتملك المجالس إصدارها طالما أن الأغلبية وافقت على ذلك، حتى أن الدستور نفسه عرضة للتعديل.

أما مجال اجتهاد السلطة التشريعية في الدولة الإسلامية، فهو عمل تشريعي محض، فتسن القوانين وتشرع الأحكام وفق نظر الإسلام، الذي يلزمها بعدم الخروج عن النصوص الشرعية.

التوفيق بين مفهومي السلطة التشريعية في الإسلام والأنظمة المعاصرة:

لما كان الذين يقومون بمهام التشريع في الإسلام هم المجتهدون، الذين يجب أن تتوافر فيهم شروط دقيقة، تتطلب كونهم على مستوى عال من الكفاءة العلمية في أحكام الشريعة الإسلامية.

ولما كانت الأنظمة المعاصرة قد ألغت نظام المجالس التشريعية بهذا المفهوم الواسع في عملها وأعضائها، وهي ليست على استعداد لأن تتنازل عنه، ولكنها في المقابل أشارت في دساتيرها إلى أن الشريعة الإسلامية هي مصدر أساسي للتشريع.

فإنه يمكن التوفيق باستمرار نفس الأسلوب، مع تعديل جوهري فيه، بحيث يشمل تكوين المجالس النيابية لجنة تشريعية متخصصة، أعضاؤها من صفوة فقهاء الشريعة الإسلامية، تعرض عليها مشروعات القوانين لتقيمها وفق تعاليم الشريعة الإسلامية، على أن يكون قرارها ملزماً.

ولا يقال: إن هذا الإجراء فيه إلغاء لدور بقية أعضاء المجالس النيابية؛ لأنهم يشتركون في مناقشة مشروعات القوانين قبل أخذ رأي اللجنة التشريعية، التي تبصرهم بحكم الشريعة الإسلامية حتى تتجلى جوانبها، وتتضح آثارها الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك.

وإلى جوار هذا، فإن بقية الأعضاء يشتركون في الأعمال المالية والسياسية للمجلس، وأعتقد أن المجالس النيابية بهذا التصور لا تتعارض والمنهج الإسلامي، الذي عرف إلى جوار مجلس الشورى في الأحكام التشريعية، مجلس أهل الحل والعقد في اختيار الخليفة([12]).

فقد كانت مشاورة أهل الرأي وأصحاب الشأن من صميم واقع الدولة الإسلامية، فقد شاور النبي r الأنصار y لما أراد ملاقاة المشركين، وكان يشاور أصحابه في الآراء والخطط المتعلقة بمصالح الحروب، وتشاوروا بعد رسول الله r في الحروب، حتى شاور عمر بن الخطاب t في الهرمزان حين وفد عليه مسلماً في المغازي([13]).

وقد جاء في تفسير القرطبي: " واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها "([14]).

المطلب الثاني حكم المشاركة في المجالس النيابية

اختلف العلماء والمفكرون المعاصرون في مشاركة الإسلاميين في المجالس النيابية، في ظل الأنظمة التي لا تحتكم إلى الشريعة الإسلامية، إلى قولين:

القول الأول: منع المشاركة في المجالس النيابية، وذهب إليه الشيخ أبو نصر الإمام، والدكتور حسن قاطرجي، الشيخ محمد قطب، والأستاذ محمود المحامي([15]).

القول الثاني: جواز المشاركة في المجالس النيابية، وذهب إليه الشيخ جاسم الياسين، والإمام الشهيد حسن البنا، والدكتور سلمان العودة، والدكتور عبد الرحمن عبد الخالق، والشيخ عبد العزيز بن باز، والدكتور عصام العريان، والشيخ علي الخفيف، والدكتور عمر الأشقر، والدكتور فتحي يكن، والشيخ فيصل مولوي، والأستاذ كمال حبيب، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الضناوي، والأستاذ محمد عبد اللطيف محمود، والشيخ محمد عبد الله الخطيب، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ مصطفى مشهور، والشيخ مناع القطان([16]).

الأدلة:

أدلة القول الأول:

استدل المانعون من المشاركة في المجالس النيابية في ظل الأنظمة المعاصرة بالقرآن، والسنة، والمعقول:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى:} وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {([17]).

وجه الدلالة: إن في هذه المجالس النيابية أناساً يتطاولون على آيات الله، ويستهزئون بها؛ لكونها تضم شرائح حزبية متعددة، فيها اليساري، والقومي، والإباحي إلى غير هذه الأصناف ذات المناهج الأرضية، وبجلوس المسلم معهم سيصيبه قول الله تعالى: } إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ {([18]).

2. قال الله تعالى: } فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ{([19]).

وجه الدلالة: إن المشاركة في هذه المجالس ـ مع ما فيها من مخالفات لمنهجية هذا الدين ـ يعد نوعاً من المجاراة للكارهين لما أنزل الله، وهذا لا يجوز ولو في بعض الأمر([20]).

3. قال الله تعالى: } قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا{([21]).

وجه الدلالة: إن الاشتراك في المجالس النيابية يأتي بمنافع جزئية، لا شك في ذلك، وعلى الرغم من المكاسب الجزئية التي تتحقق من وراء الاشتراك في الحكم، فإن الإثم والضرر الذي يتحقق أكبر، وتمييع قضية الحكم لدى الجماهير ضرر عظيم، ولذلك فإننا نعلن ونقول في كل مناسبة: إن الحكم بغير ما أنزل الله باطل، وإنه لا شرعية إلا للحكم الذي يحكم بشريعة الله، ثم تنظر الجماهير فترانا قد شاركنا فيما ندعوها هي لعدم المشاركة فيه، فكيف تكون النتيجة ؟([22]).

4. قال الله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ~ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {([23]).

وجه الدلالة: إن الدخول في المجالس النيابية يقوم على تضييع الولاء والبراء، ولا قيمة لمؤمن إن لم يوال أولياء الله ويحارب أعداء الله، وفي قوله تعالى: } أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ { إشارة إلى صفة عظيمة للمؤمنين كثير من الناس بعيدون عنها، بخاصة الدعاة إلى الانتخابات؛ لأنهم يشكلون تكتلاً ضد المؤمنين، ولا يعادون من خالف منهج الله([24]).

5. قال الله تعالى: } أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {([25]).

وجه الدلالة: إن واقع هذه المجالس النيابية إنما هو تقليد للديمقراطية، وذلك داخل في الإشراك بالله، وخاصة في شرك الطاعة، حيث إن الانتخابات جزء من النظام الديمقراطي، وهذا النظام من وضع أعداء الإسلام، ليصرفوا المسلمين عن دينهم، فمن قبله راضياً به مروجاً له، معتقداً صحته، فقد أطاع أعداء الإسلام؛ لجعله مؤسسي الديمقراطية الذين وضعوا الانتخابات شركاء لله في التشريع، ووضع المناهج للخلق([26]).

ثانياً: السنة:

1. أن المشركين جاءوا إلى النبي r وعرضوا عليه الملك قائلين: فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا([27]).

" لكن الله سبحانه ـ وهو العلي الحكيم ـ لم يوجه رسوله r هذا التوجه، إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله، وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء "([28]).

2. لم يشارك الرسول r في دار الندوة التي تشابه اليوم المجالس النيابية([29])، يقول الأستاذ محمد قطب ـ رحمه الله ـ: " فقد كان النبي r يذهب إلى قريش في ندوتها ليبلغها كلام الله، لكنه لم يكن يشاركهم في ندوتهم، ولو أن مسلماً يدعو إلى تحكيم شريعة الله استطاع أن يذهب إلى ندوة الجاهلية المعاصرة،

ويُسمح له بالكلام فيها كما كانت تسمح الجاهلية الأولى لرسول الله r لكان واجباً عليه أن يذهب وأن يبلغ؛ لأنه في هذه الحالة لا يكون عضواً في دار الندوة، إنما هو داعية من خارجها جاء يدعوها إلى اتباع ما أنزل الله، فلا الندوة تعتبره فيها، ولا هو يعتبر نفسه من الندوة، إنما هو مبلغ جاء يلقي كلمته ثم يمضي، أما المشاركة في عضوية الندوة بحجة إتاحة الفرصة لتبليغها كلمة الحق، فأمر ليس له سند من دين الله "([30]).

ثالثاً: المعقول:

1. المجالس النيابية تقوم على تأليه الأغلبية، واعتماد ما قبلته وإن كان باطلاً، ورد ما رفضته، وإن كان معلوماً من الدين بالضرورة([31]).

2. إن المشاركة في هذه المجالس تعني تمييع القضية الإسلامية، وإعطاء النظام الذي لا يحكم بما أنزل الله الصبغة الشرعية، وتكريس وجوده([32]).

3. لم يصل إسلاميون إلى الحكم عن طريق الديمقراطية، وبالتالي لم تنجح التجربة البرلمانية في الحركات الإسلامية([33]).

4. إن الانتخابات لها دور كبير في تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت وحدتهم، وهي لا تقل شراً عن الحزبية، التي فرقت المسلمين فرقة ليس بعدها تلاق إلا أن يشاء الله([34]).

5. إن الدخول في المجالس النيابية فتنة لمن يدخل فيها، حيث تأخذه المظاهر وتلهيه الدنيا، ويغره السلطان([35]).

ثانياً: أدلة القول الثاني:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {([36]).

وجه الدلالة: إن المشاركة في المجالس النيابية تتيح الاعتراض على التشريعات المخالفة للإسلام، وإقامة الحجة على أعضاء المجلس، وإعلان حكم الإسلام في كثير من القضايا، وهذا من باب الدعوة العامة التي أوجبها الله تعالى علينا.

فإذا أمكن للجماعات الإسلامية أن تعلن حكم الإسلام على الأشهاد، وتنقله وسائل الإعلام في الداخل والخارج، كان ذلك حينئذ واجباً تأثم إن لم تأخذ به([37]).

2. قال الله تعالى: } قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ {([38]).

وجه الدلالة: يقول العلامة عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ: " إن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، وقد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك؛ لأن الإصلاح مطلوب حسب القدرة والإمكان.

لذا لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمالاً وخدماً لهم، نعم إن أمكن أن تكون الولاية للمسلمين وهم الحكام، فهذا المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة "([39]).

ثانياً: السنة:

1. قال رسول الله r: " مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ "([40]).

وجه الدلالة: إن الرسول r أمر بتغيير المنكر، وعدد لذلك المراتب، وتعد المشاركة في المجالس النيابية وسيلة فاعلة وقوية من وسائل التغيير التي أمرنا بها النبي r لاسيما وأن كلمة الحق تصل إلى قبة البرلمان، والذي يمثل موطن صنع القرار.

2. قال رسول الله r: " سَيَكُونُ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ نَابَذَهُمْ نَجَا، وَمَنْ اعْتَزَلَهُمْ سَلِمَ، وَمَنْ خَالَطَهُمْ هَلَكَ "([41]).

3. وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: " إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَراءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ "([42]).

وجه الدلالة: إن هذه الأحاديث وكثيراً أمثالها في الصحاح، هي دليل على جواز المشاركة في المجالس النيابية، وربما لوجوبها أحياناً، ذلك أن الرسول r يبين موقف المسلم من الأمراء المنحرفين، فإذا اعتزلهم فقد سلم، وإذا خالطهم وسكت على منكرهم، فقد هلك، وإذا نابذهم فقد نجا، والمنابذة يمكن أن تكون في ساحة المجتمع الواسع، ولكنها عادة لا تؤدي إلى نتيجة، ويظل المنكر شائعاً، وقد تكون المنابذة في المجالس النيابية وهي بلا شك أقوى وأبعد أثراً، وقد تؤدي ولو في حالات قليلة لإزالة المنكر، وإذا وجد هذا الاحتمال فإنها تصبح هي الأفضل؛ لأن المقصود من المنابذة ليس مجرد إنكار المنكر وإنما تغييره لمن استطاع، وهذا ما يؤيده الحديث السابق المشهور " مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ "([43]).

ثالثاً: قواعد الشريعة ومقاصدها:

القاعدة الشرعية: الأصل في الأشياء الإباحة:

ليس هناك دليل قطعي يمنع من المشاركة في المجالس النيابية، وليس في دخولها ما يخالف منهج الله، فتبقى على الأصل وهو الإباحة، لاسيما وأن الأدلة التي تحظر المشاركة مردود عليها.

مقاصد الشريعة:

إن التأصيل الفقهي للمشاركة في المجالس النيابية، قائم على فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، والناظر بجد إلى حقيقة المشاركة، يتيقن جازماً بوجود الكثير من المصالح، التي يمكن اعتبارها أصلية لا تكميلية، نحو القيام بفرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعارضة القوانين المخالفة للإسلام، وطرح البديل الإسلامي في كل الجوانب، والاطلاع على الكثير من أسرار الدولة وما يدور في الخفاء، وإخراج جيل وصقله بالتجربة السياسية وغيرها من المصالح الكثيرة التي يمكن جلبها من المشاركة، بالإضافة إلى دفع الكثير من المفاسد.

ولما كانت الشريعة الإسلامية قائمة على جلب المصالح ودفع المفاسد، كان القول بمشروعية المشاركة في المجالس النيابية هو المتوائم ومقاصد الشريعة الغراء والأليق بتحقيق مصالح الأمة.

رابعاً: المعقول:

1. إن أعضاء المجلس لهم حصانة برلمانية، ولا سلطان لأي هيئة حكومية عليهم؛ لأن العضو يمثل الأمة بأسرها، وبالتالي يمكن للإسلاميين أن يتمتعوا بهذه الحصانة خلال دعوتهم للإسلام، فلا يتعرضون للإجراءات التعسفية التي يتعرض لها غيرهم تحت شعار محاربة التعصب أو غير ذلك من قاموس الاتهامات التي يسود أكثر المجتمعات الإسلامية، كما أنهم لا يؤاخذون على ما يبدونه من آراء وأفكار بالمجلس أو لجانه، وبذلك يمكن أن يعلنوا الرأي الإسلامي من خلال المجلس، وأن يكشفوا الإجراءات التعسفية ضد الدعاة للإسلام([44]).

2. إن طريق البرلمان سبيل لدعاية الحركة الإسلامية عن نفسها، فالبرلماني المسلم بإمكانه أن يعلن مفهوم الإسلام للقضايا في أكبر محافل المجتمع الذي يعيش فيه، والدعوة دوماً تسعى للإعلان عن نفسها في أي مجال، فكيف بأكبره؟ هذا فضلاً عما يمكن أن يطلع عليه الدعاة من أسرار الدولة في مختلف مؤسساتها السياسية والتشريعية، والعسكرية والمالية، ما لم يمكنها الوقوف عليه دون دخول البرلمان([45]).

3. يمكن لأي عضو استجواب الوزراء المخالفين للإسلام، بل وطلب سحب الثقة منهم؛ لأن كل وزير مسئول أمام المجلس النيابي عند إهمال وزارته، وإذا قرر المجلس سحب الثقة منه يعتبر معزولاً من تاريخ هذا القرار([46]).

4. إن خلو هذه المجالس من الإسلاميين فرصة مواتية لغيرهم لطرح نظرياتهم، ثم التصويت عليها دون اعتراض، ويمكنهم من تقنين نظرياتهم وإلزام الأمة بها، وفي هذه من الخطورة ما لا يخفى؛ لأن الاعتراض على الشيء قبل الموافقة خيرمن السعي إلى إلغائه بعد تقنينه([47]).

5. إن المشاركة تمكن الإسلاميين من إيصال حقوقهم إلى البرلمان، والمطالبة بحكم الله في أعلى مؤسسات الدولة.

6. صقل المواهب والقدرات لدى الإسلاميين، وخوض تجربة محاورة الآخرين بالحجة والبرهان، حيث إنه من مكملات الشخصية الإسلامية أن يكون لهم نصيب في الحياة السياسية، وإدارة شئون البلاد.

7. تقديم الإسلام كنموذج صالح لكل زمان ومكان، من خلال خدمة الجماهير، والتصدي لقضاياهم اليومية، مما يعزز الثقة في الدعاة.

المناقشة:

مناقشة أدلة القائلين بتحريم دخول المجالس النيابية:

أولاً: مناقشة استدلالهم بالقرآن الكريم:

1. بالنسبة لآية سورة النساء فنقول: إن النهي الوارد في الآية عن مجالسة المستهزئين بآيات الله، إنما يختص فيمن يجلس ويقر بالباطل، ويسكت عمن يخوضوا في آيات الله، وهذا ما دلت عليه تفاسير القرآن الكريم.

يقول الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ: " فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم ما يخوضوا فيه، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية "([48]).

ويقول الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله ـ: " فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله، فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة "([49]).

ويقول الشيخ وهبة الزحيلي ـ حفظه الله ـ: " وسبب النهي: أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزئون به، فنهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه، وفي هذا إيماء إلى أن الساكت عن المنكر شريك في الإثم"([50]).

يتضح جلياً أن النهي عن مجالسة المستهزئين هو المقرون بالسكوت عن استهزائهم بآيات الله وتجاوزاتهم، ومهمة النائب المسلم في المجالس النيابية هي الإصلاح والتغيير، وصد كل ما يخالف منهج الإسلام، وطرح البديل الإسلامي، وتبيين الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن لم يستطع في بعض الأوقات، انسحب حتى يخوضوا في حديث غيره.

2. بالنسبة للآيتين من سورة هود، فمن خلال الرجوع إلى التفاسير، يتضح أن النزاع في غير محله، يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: " أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم رضيتم بأعمالهم فتمسكم النار "([51]).

وجاء في تفسير الطبري ـ رحمه الله ـ: " قال أبو العالية: الركون هو الرضا"([52]).

وقال الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله ـ: " لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا إلى الجبارين الطغاة الظالمين وأصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبدونهم لغير الله من العبيد "([53]).

فالنهي إنما يكون عن قبول أعمالهم والرضا بها، ومساندتهم عليها، فيكون الخلاف في غير محل النزاع، لاسيما أن مهمة النائب المسلم هي مخالفة الذين ظلموا، وصدهم عن ذلك، والصدع بكلمة الحق.

3. بالنسبة لآية سورة البقرة: فإنه ليس هناك ثمة تمييع لقضية الحكم لدى الجماهير، فالقول بأن الحكم لله تعالى، وأن ما دونه من المناهج الوضعية باطل حرام، يعد قضية ثابتة في ديننا نعلنها بكل وضوح دون مداراة أو مهادنة، ولا تعارض بين هذه الحقيقة ودخول المجالس النيابية إذا ما علمنا أن دخولها لا يكون إلا بعد دراسة مستفيضة تستند على مدى تحقيق المصلحة العامة للأمة، وأن أولى المهام الأساسية للدعاة في المجالس النيابية هي السعي والمطالبة بتحكيم شريعة الإسلام، والقيام بواجب التغيير قال الله تعالى: } وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {([54]).

وما أعظم أن يصل المسلم في التأثير والتغيير إلى موطن صنع القرار! يقول الشيخ مناع القطان ـ رحمه الله ـ في معرض حديثه عن جواز مشاركة الإخوان المسلمين في مجلس الشعب:

" وليست المشاركة في مجلس الشعب تمييعاً لقضية وجوب التحاكم إلى شرع الله؛ لأن المشاركين من الإخوان يطالبون داخل المجلس بتحكيم الشريعة، ويوضحون لأعضائه أن هذا من صميم العقيدة } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا {([55])، ويرفضون أي قانون يخالفها، وهذا هو الموقف الذي تقفه الجماهير المسلمة، فصوتهم في مجلس الشعب يعبر عن صوت هذه الجماهير ويتسق مع ما تطلبه، والذي يميع هذه القضية هو المشاركة القولية أو الفعلية السلوكية في تشريع يخالف شرع الله، وهذا لا يحدث من أعضاء الإخوان في مجلس الشعب"([56]).

4. وأما عن آية المائدة: فإن المشاركة في المجالس النيابية، ليس إلغاءً أو تضيعاً لمبدأ الولاء والبراء، بل هي ميداناً لبيان هذه القضية والصدع بها، حسب مقتضيات المصلحة الشرعية، إذ أن السعي للوصول إلى هذه المجالس، هو لتبليغ دعوة الله والتمكين للشرع، ووجود النائب المسلم في هذه المجالس، يمنع عديداً من المفاسد، ويجلب كثيراً من المصالح، وفي وجوده يطرح البديل الإسلامي، ويقوم بواجب التغيير والإصلاح، وفي المقابل يجابه المخالفين، ويدحض أقوالهم، وينكر باطلهم، ويعترض على كل ما يخالف الدين، متمتعاً في ذلك بالحصانة البرلمانية التي تجعله فوق المساءلة عن كلماته، ليصل صوت الإسلام إلى هذه المجالس، وتصدع كلمة الحق في موطن القرار، وهذا هو جوهر الولاء للإسلام، والبراء مما دونه.

5. وأما الاستدلال بآية الشورى فنقول: لا نسلم اعتبار الديمقراطية كلها نظام كفر([57])، حتى لو كانت كذلك، فينبغي التفريق بين هذا الاعتبار، وبين التزام النائب المسلم ببعض أنظمتها لتحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين، فهذا لا يعد تضارباً مع الإسلام، ولا يوصل المسلم إلى الكفر، الذي لا يتحقق إلا بإقراره أو اعتقاده، فالنبي r قد استفاد من النظام الجاهلي المتمثل في الحماية والجوار؛ والمسلم يدخل هذه المجالس ليخالف أصحابها في تشريعاتهم الباطلة، ويسعى لتقليل الشر، ورفض الظلم، أو أضعف الإيمان إنكاره، وطرح البديل الإسلامي.

ثانياً: مناقشة استدلالهم بالسنة

1. الاستدلال برفض النبي r الملك عندما عرض عليه المشركون، وإصراره على المضي في طريق في الدعوة، هي قياس مع الفارق للأسباب التالية:

أ. أن العرض الذي قدمه المشركون للنبي r كان مقابل أن يتخلى عن دعوته، وهذا ما لا يشترط على مشاركة النائب المسلم بأن يترك دينه أو يتخلى عن أي قضية فيه، بل إن دوره التمسك بالثوابت الإسلامية، وحض الناس عليها.

ب. الاختلاف الكبير بين مجتمعنا اليوم، ومجتمع المشركين الذي كان كافراً، وبالتالي سيكون النبي r والياً من قبل الجاهلية على مجتمع كافر، وهذا يؤدي إلى ضعف نفوذه، وعدم استطاعته فرض أي رأي عليهم، أما في وقتنا الحاضر فالمجتمع مسلم، وما زالت بقية من الأحكام الشرعية يعيشها الناس في حياتهم.

2. أما الحجة بأن المجالس النيابية اليوم هي شبيه بدار الندوة والنبي r لم يغير الواقع الجاهلي من خلال هذه الدار، فلا نسلم بهذا التشبيه، ويكفي لإبطاله هاتان الملاحظتان:

أ. إن دخول النبي r لدار الندوة كان يحتم عليه أن يترك دعوته في تسفيه أحلام وأصنام قريش، ولا أحد يقول ذلك حين يدخل هذه المجالس([58]).

ب. إن سن القوانين في دار الندوة لا يستند لأي قاعدة شرعية، أو أصول دينية، بل كل ما يصدر إنما يكون عن هوى بشري، وفي المجالس النيابية ليس الأمر بهذه الصورة([59]).

ثالثاً: مناقشة استدلالهم بالمعقول

1. الرد على الاحتجاج بأن المجالس النيابية تقوم على تأليه الأغلبية يتمثل في قوله تعالى: } أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ~ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {([60])، فلا تتحمل نفس وزر أخرى، ويقول الرسول r: " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِ امْرِئٍ مَا نَوَى "([61]).

فكيف يتم القول بأن إنساناً ـ أياً كان ـ لمجرد جلوسه في مكان يؤخذ فيه برأي الأغلبية يشترك معهم في الوزر إن كان الرأي المأخوذ مخالفاً للشرع؟ ونعلم أن الاتجاهات التي أباحت الدخول للمجالس النيابية، لم يكن الغرض هو مجرد الدخول إليها، ولكن لاتخاذها منبراً يُنادى من خلاله بتطبيق الشريعة كاملة، ويُمنع فيه ما يخالفها.

أما وأن الأغلبية غير متفقة على ما ينادي به أصحاب الاتجاهات الإسلامية، فالوزر عليهم ـ وإن كانوا أغلبية ـ وحسب أصحاب الاتجاهات الإسلامية وغيرهم ممن ينادون بالحق أن بلغوا ودعوا الناس إلى الشرع، ورفضوا السماح بالباطل.

ثم إن المجالس النيابية تصدر القوانين باسم الشعب، ويتحمل الشعب كله مسئوليتها ونتائجها، فإذا استطاع المسلم ألا يدخل مجلس النواب، فهل يستطيع أن ينزع نفسه من هذا الشعب؟ وكيف يرضى المسلم أن يصدر القانون من مجلس النواب باسم الشعب؟ وهل يقدر أن يتحمل هنا مسئولية أمام الله وأمام الناس باعتباره من هذا الشعب، الذي صدر باسمه هذا القانون غير الشرعي؟.

فهذه القوانين التي يصدرها نواب الشعب، لا يمكن أن يكون الشعب متحملاً للوزر فيها إلا من رضي بذلك، وكذلك النواب غير الموافقين على أي قانون، لا يمكن أن ينطلوا في هذا الإثم؛ لأنهم معارضون له([62]).

2. بالنسبة للقول بأن دخول البرلمان يعني تمييع القضية، وإعطاء النظام الصبغة الشرعية وتكريس وجوده، فهذا يمكن أن يصح " إذا نسي النائب المسلم عقيدته على باب المجلس النيابي، أما إذا دخل هناك ليرفع لواء الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله، ويطالب بإصلاح أحوال الأمة كلها وفق شريعة الله، فأين يكون التمييع؟"([63]).

أما عن إعطاء صفة الشرعية للمجلس، فما من مجلس ينتخب إلا ويعلن أنه جاء عن انتخاب حر مباشر ـ حتى ولو كان غير ذلك ـ ودخول المعارضة فيه ـ حتى ولو كانت قليلة ـ تؤيد ذلك، فهل إطلاق صفة الشرعية للمجلس يتوقف على دخول أصحاب الاتجاهات الإسلامية؟!

وعلى فرض أن المجلس باطل، فهل يجوز ترك الباطل دون تغييره أو إقامة الحجة عليه ما دام ذلك في الاستطاعة ؟([64]).

وأما اعتبار المشاركة تكريس للنظام، فهو غير مقبول، إذ إن العمل في أي وظيفة تجارية أو زراعية، حتى أدنى وظيفة في أجهزة هذا النظام، يعد تكريساً وتقوية له، فلِم المنع من المشاركة في المجالس النيابية لإصلاحها، وعدمه في الوظائف العادية التي يتقوى بناء النظام بها؟.

3. الحجة بأن الإسلاميين لم يصلوا إلى الحكم عن طريق الديمقراطية، فهذا صحيح نتيجة للتآمر العالمي على العاملين للإسلام، والحيلولة دون وصولهم إلى سدة الحكم في أي مكان، ولكن خوض الإسلاميين الحياة الديمقراطية أنشأ لهم قاعدة جماهيرية صلبة تنادي بالإسلام جهرة، وتسعى لنشر فكرتها في كل الميادين دون خوف أو وجل، كما قلل من حدة التصادم بين الحكومة والأحزاب الإسلامية، وفي المقابل مكَّن للإسلاميين من الوصول إلى قبة البرلمان، والصدع بكلمة الحق، ومحاربة المعارضين لهم سياسياً، والوقوف بحزم وقوة لكل قرار يخالف شريعة السماء، بل وإخضاع الحكومة للمحاسبة، وقد أثبتت التجارب في كثير من البلدان كالأردن والكويت واليمن صدق هذا التوجه.

4. أما اعتبار الانتخابات والحزبية سيان في تفريق وحدة المسلمين، فنقول: إن الحزبية قد مر الحديث عنها، وخلصنا إلى أن تشكيل الأحزاب الإسلامية يعد فريضة شرعية وضرورة سياسية، تقتضيها المصلحة العامة في واقعنا المعاصر، وكذلك الشأن في الانتخابات والمشاركة في المجالس النيابية.

5. وأما قولهم بأن الدخول في المجالس النيابية فتنة لأصحابها، فنقول: إن العيب في ذلك ليس دخول المجالس، وإنما العيب في الأشخاص، وإلا فمن علماء الدين من باع دينه من أجل الدنيا، وأفتى بما يرضي السلاطين وأهواء الناس، وكتم الحق إرضاء للعامة، وحفاظاً على منصبه، والعيب ولا شك ليس في المنصب الديني ولا في المشيخة نفسها، وإنما هو في النفوس والقلوب.

يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً، وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله r من أفضل القربات"([65]).

فمن أخذ الولاية على هذا النحو، فلا شك أنه موفق صالح، وأما من أخذها اتباعاً لهواه ورغبة في الدنيا، فلا شك أنه يفسد بها([66]).

ومما لا شك فيه أن الدعاة الذين وصلوا إلى تقلد هذه المناصب في المجالس النيابية، يفترض أن يكونوا قد رسخوا في علوم الشريعة، وعلموا ثقل الأمانة التي يحملونها، وعظم الرسالة التي سيؤدونها، ونحسب أن من فهم ذلك أيقن أن الأمر تكليف، وليس تشريفاً.

الترجيح:

بعد استعراض الرأيين ومناقشة القائلين بحرمة المشاركة في المجالس النيابية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة، يظهر بوضوح تأييدنا للرأي الثاني القاضي بجواز المشاركة في المجالس النيابية وفق ضوابط شرعية، وذلك للاعتبارات التالية:

1. إن المشاركة في المجالس النيابية تنسجم مع مبادئ ومنطلقات الإسلام الحنيف من مراعاة التدرج في التغيير، والواقعية في طرح الإسلام كبديل، كما أنها تتواءم مع قواعد الشريعة ومقاصدها، التي تؤول إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد.

2. إن المشاركة تقود إلى المساهمة في التشريع، ومراقبة السلطة التنفيذية، وفي هذا انسجام ومقاصد الشريعة.

3. وقد تعطي المشاركة العالم دليلاً مادياً على انحياز الأمة للمشروع الإسلامي، مما يعزز الثقة بالحركات الإسلامية ويعجل في استئناف الحياة الإسلامية من جديد.

4. لقد حقق الإسلاميون المشاركون في الانتخابات مكاسب كثيرة للدعوة وللأمة، ومنعوا بعضاً من القرارات المخالفة لمنهج الإسلام، وأثبتوا للناس أن الإسلام دين متكامل.

وهذا القول هو ما أفتى به الكثير من العلماء المعاصرين، مؤكدين على مشروعيته، بل وعلى وجوبه في بعض الأحيان، ويجدر بي أن أسجل بعضاً من فتاوى العلماء الأجلاء.

الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله ـ ودخول المجالس النيابية:

تحت عنوان " لماذا دخل الإخوان المسلمون مجلس الشعب " كتب الإمام حسن البنا ـ رحمه الله ـ قائلاً: " وعماد الدعوة لتنجح وتظهر: تبليغ واضح دائم يقرع بها أسماع الناس، ويصل بها إلى قلوبهم وألبابهم، وتلك مرحلة يظن الإخوان المسلمون أنهم وصلوا بها في المحيط الشعبي إلى حد من النجاح ملموس مشهود، وبقي عليهم بعد ذلك أن يصلوا بهذه الدعوة الكريمة إلى المحيط الرسمي، وأقرب طريق إليه " منبر البرلمان"، فكان لزاماً على الإخوان أن يزجوا بخطبائهم ودعاتهم إلى هذا المنبر؛ لتعلو من فوقه كلمة دعوتهم، وتصل إلى آذان ممثلي الأمة في هذا النطاق الرسمي المحدود، بعد أن انتشرت فوصلت إلى الأمة في نطاقها الشعبي العام، ولهذا قرر مكتب الإرشاد أن يشترك الإخوان في انتخابات مجلس النواب.

وإذن فهو موقف طبيعي لا غبار عليه، فليس منبر البرلمان وقفاً على أصوات دعاة السياسة الحزبية على اختلاف ألوانها، ولكنه منبر الأمة تسمع من فوقه فكرة صالحة، ويصدر عنه كل توجيه سليم يعبر عن رغبات الشعب، أو يؤدي إلى توجيهه توجيهاً صالحاً نافعاً "([67]).

هذه رؤية الإخوان الواضحة، ومنها تم ترشيح المرشد العام للإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله ـ مرتين من قِبل مكتب الإرشاد عن دائرة الإسماعيلية.

وهكذا سار الإخوان المسلمون في كل الأقطار وفق هذا الفقه لا يترددون في خوض معترك المجالس النيابية، حتى حرصت على ذلك معظم الحركات الإسلامية في كل أقطار العالم الإسلامي، مثل الجماعات الإسلامية في الباكستان، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، والجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، وحزب الرفاه في تركيا، وكذلك التيارات السلفية في الكويت، حتى أن الإخوان المسلمين في فلسطين لم يرفضوا المشاركة في المجلس التشريعي على الرغم من تقيده ومحدودية صلاحياته باتفاقات أوسلوا إلا رفضاً مصلحياً.

رأي الشيخ العالم عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ:

هذا وقد سئل شيخنا المفضال العالم الورع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخابات الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس؟

فأفتى فضيلته بقوله:

" إن النبي r قال: " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِ امْرِئٍ مَا نَوَى "([68])، لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل؛ لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله، والله الموفق "([69]).

فقد استند شيخنا عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ على فتواه باعتبار دخول المجالس النيابية نية حقيقية لتأييد الحق، ومناهضة الباطل، والانضمام إلى قافلة الدعاة بمناصرتهم.

رأي الشيخ محمد الصالح العثيمين ـ رحمه الله ـ:

وبهذا أفتى سماحة الشيخ محمد الصالح العثيمين ـ رحمه الله ـ شفاهاً لعدد كبير من الإخوة طلاب العلم الذين سألوه عن حكم الترشيح للمجالس النيابية، فأجابهم بجواز الدخول، وقد كرر عليه بعضهم السؤال مع شرح ملابسات الدخول إلى هذه المجالس، وحقيقة الدساتير التي تحكم، وكيفية اتخاذ القرار، فكان قوله في ذلك " ادخلوها، أتتركونها للعلمانيين والفسقة؟" وهذه إشارة منه إلى أن المفسدة التي تتأتى بعدم الدخول أعظم كثيراً من المفسدة التي تتأتى بالدخول إن وجدت([70]).

رأي الشيخ العالم محمد أبو زهرة ـ رحمه الله ـ:

أجرت مجلة الإخوان المسلمون حواراً مع الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله حول دخول الإخوان المسلمين الانتخابات النيابية، وجاء فيه:

ما رأيكم في أن يرشح بعض الإخوان المسلمين أنفسهم لكراسي النيابة؟

فأجاب فضيلته: " إن ترشيح بعض الإخوان المسلمين الذين يستمسكون بالعروة الوثقى، وللدين الاعتبار الأول في نفوسهم، أمر واجب جد واجب؛ لأنه يحمي جماعة الإخوان، وينشر دعوتهم، ويفيد الحياة النيابية في مصر:

أما حمايته لجماعة الإخوان: فلأن وجود نواب يمثلونهم يمكن الجماعة من أن ترفع صوتها في دار الشورى بالشكاة العادلة مما يقع على أعضائها من مظالم أو اضطهادات، أو نحو ذلك مما تتعرض له الجماعات في مصر.

وأما أنه سبيل لنشر فكرتها: فلأنه يمكن ممثليها من أن يدلوا بآراء الجماعة الصحيحة في كل ما يعرض من قوانين في مسائل إدارية ونظامية، وإن صوتهم سيكون صوت الإسلام يتردد تحت قبة البرلمان، وهو رقابة قوية تستمد قوتها من الدين، وضمان وثيق لكي تسير أمور الدولة في قابل أمرها غير متجانفة عن الإسلام، ولا مجافية لأحكامه.

وأما فائدتها للنيابة في مصر: فلأن نواب الجماعة سيكونون ممثلين لفكرة فوق تمثيلهم لناخبيهم، وسيعملون تحت سلطان هذه الفكرة على أن يكونوا رقباء على الحكومة، فاحصين لأعمالها "([71]).

رأي الشيخ سلمان بن فهد العودة ـ حفظه الله ـ:

وقد سألت الشيخ سلمان بن فهد العودة ـ حفظه الله ـ عن حكم الدخول في عضوية المجالس النيابية، فأجاب فضيلته:

" إن العضوية في المجالس النيابية وغيرها: فالذي أراه إجمالاً أن هذا من باب تقليل المفاسد، أو جلب بعض المصالح، أو حصول الإنسان على بعض حقه، كما دخل الرسول r في جوار أبي طالب، ثم في جوار المطعم بن عدي([72])، وكذلك أبو بكر t دخل في جوار ابن الدغنة([73])، وليس الدخول اعترافاً بحقها في التشريع، ولا هو ـ بالضرورة ـ اعتقاد بأنها طريق التغيير، لكن من باب الانتفاع بالأشياء الممكنة، ولعله في الجملة داخل في باب الضرورات الشرعية([74]).

المطلب الثالث ضوابط المشاركة في المجالس النيابية

1. أن تكون المشاركة في حدود الإطار الشرعي، فلا يترتب عليها إقرار للكفر، أو عمل به، بالاعتقاد أنه من حقه أو من حق أي أحد أن يشرع من دون الله تعالى، فحق التشريع لله عز وجل، وليس لأحد أن ينازعه فيه } إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ{([75]).

2. أن لا تكون المشاركة غاية في ذاتها على حساب المبادئ، أو على حساب الأمة، فهي ليست بديلاً عن منهج الإسلام في إقامة دولته وإرساء معالمه، وإنما هي وسيلة يسعى من خلالها المشاركون جلب المصالح ودرء المفاسد.

3. أن يكون المقصد الأساسي من المشاركة خدمة الإسلام والمسلمين، فلا يترتب عليها مفاسد أعظم من المصالح المرجو تحقيقها.

4. أن تكون مشاركة منضبطة ومدروسة دراسة وافية، وأن تتحدد المصالح والاعتبارات للمشاركة بدقة، بحيث تكون ظاهرة متحققة لا خفية أو موهومة، حتى ينجح الدعاة في سياستهم، وطرح منهجهم، فيكونوا أقرب إلى تحقيق غاياتهم المثلى.

5. ألا يدخل هذا المدخل إلا من تتحقق بدخولهم المصلحة، وتندفع المفسدة قدر الإمكان، فلا يكون هو برنامج الدعوة ومنطلق التربية، ولا يلج فيه الضعفاء المعرضون للفتن، ولا يخوض غماره من يجدون من فرص الخير ومجالاته وآفاقه ما هو أنفع وأبقى، وإنما ينبري له أفراد تنطبق عليهم الشروط([76]).

6. إخضاع تجربة المشاركة للاختبار، وتقديمها بين الحين والآخر لمعرفة مدى تحقق الأهداف التي بنيت على أساسها المشاركة، أو الانسحاب الفوري.

([1]) ابن منظور: لسان العرب (1/774)، الرازي: مختار الصحاح (1/285)، مادة: نوب.

([2]) ابن منظور: لسان العرب (1/774).

([3]) حلمي: نظام الحكم الإسلامي، عبد الله: النظم السياسية والقانون الدستوري، ليلة: النظم السياسية والدولة والحكم.

([4]) الطماوي: السلطات الثلاث، عبد اللطيف: الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية . ([5])

عبد الله: النظم السياسية والقانون الدستوري .

([6]) حلمي: نظام الحكم الإسلامي ، ليلة: النظم السياسية والدولة والحكم.

([7]) الأنصاري: الشورى وأثرها في الديمقراطية، حلمي: نظام الحكم الإسلامي، عبد الله: النظم السياسية والقانون الدستوري، ليلة: النظم السياسية والدولة والحكم.

([8]) الشائع عند العلماء أن أول من دون هذا العلم وكتب فيه بصورة مستقلة هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، المتوفى (204 هـ).

زيدان: الوجيز في أصول الفقه .

([9]) عبد اللطيف: الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية.

([10]) حلمي: نظام الحكم الإسلامي .

([11]) الطماوي: السلطات الثلاث .

([12]) الطماوي: السلطات الثلاث ، عبد اللطيف: الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية.

([13]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (6/37).

([14]) السابق (4/250).

([15]) قطب: واقعنا المعاصر، الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ، قاطرجي: مناقشة علمية لآراء الشيخ فيصل مولوي حول المشاركة في المجالس النيابية، بحث نشره فتحي يكن في كتابه أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان (3/141)، المحامي: المجالس النيابية أكبر خدعة للإسلاميين ـ حوار أجراه عمرو محمود، ( ملف الإسلاميون والبرلمانات السياسية )، موقع الإسلام اليوم ـ.

([16]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، البنا: مجموعة الرسائل ، حبيب: الإسلاميون والانتخابات النيابية (مجلة المنار الجديد العدد 6)، راضي: الإخوان المسلمون تحت قبة البرلمان، الضناوي: الطريق إلى حكم إسلامي، عبد الخالق: مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية، العريان: المشاركة في الانتخابات اختيار سليم

ـ حوار أجراه معه أسامة الهيتمي، (ملف الإسلاميون والبرلمانات السياسية )، موقع الإسلام اليومـ، العودة: سؤال وجهته للشيخ سلمان العودة عبر موقعه على الانترنت، الإسلام اليوم، القطان: مقومات تطبيق الشريعة الإسلامية (ص: 166)، محمود: الاختلافات الفقهية لدى الاتجاهات الإسلامية المعاصرة، مولوي: رد على مناقشة الشيخ حسن قاطرجي حول المشاركة في المجالس النيابية، بحث نشره فتحي يكن في كتابه أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان (3/165)، الياسين: للدعاة فقط ، يكن: أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان (1/197).

([17]) سورة النساء: الآية (140).

([18]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، عبد الخالق: مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية، قطب: واقعنا المعاصر، الياسين: للدعاة فقط.

([19]) سورة هود: الأيتان (112، 113).

([20]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية.

([21]) سورة البقرة: من الآية (219).

([22]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، حزب التحرير: حكم الشرع في المجالس النيابية ـ بيان صادر عن حزب التحرير بولاية اليمن بتاريخ 25/4/2003 م ـ، قطب: واقعنا المعاصر، الياسين: للدعاة فقط.

([23]) سورة المائدة: الأيتان (54، 55).

([24]) أبو نصر الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات.

([25]) سورة الشورى: الآية (21).

([26]) أبو نصر الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ، حزب التحرير: حكم الشرع في المجالس النيابية.

([27]) ابن هشام: السيرة النبوية (2/133).

([28]) قطب: معالم في الطريق .

([29]) الياسين: للدعاة فقط .

([30]) قطب: واقعنا المعاصر.

([31]) أبو نصر الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات، حزب التحرير:

الانتخابات النيابية في الأردن ترسيخ لأنظمة الكفر ـ بيان صادر عن حزب التحرير بولاية الأردن بتاريخ 24 / أيار/ 2003 م ـ.

([32]) أبو نصر الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ، الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، محمود: الاختلافات الفقهية لدى الاتجاهات الإسلامية المعاصرة.

([33]) الضناوي: الطريق إلى حكم إسلامي ، عبد الخالق: مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية .

([34]) أبو نصر الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات .

([35]) أبو نصر الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ، عبد الخالق: مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية .

([36]) سورة النحل: من الآية (125).

([37]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية .

([38]) سورة هود: الآية (91).

([39]) السعدي: تيسير الكريم الرحمن.

([40]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان 1/69 ح 49).

([41]) أخرجه ابن أبي شيبة: المصنف (7/530 ح 37743)، الطبراني: المعجم الكبير (11/39 ح 10973)، والحديث صحيح، الألباني: صحيح الجامع الصغير (1/638 ح 3661).

([42]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء 3/1481 ح 1854).

([43]) مولوي: رد على مناقشة الشيخ حسن قاطرجي حول المشاركة في المجالس النيابية، بحث نشره فتحي يكن في كتابه أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان (3/166-167).

([44]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية .

([45]) الضناوي: الطريق إلى حكم إسلامي .

([46]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية .

([47]) العودة: فتوى بعنوان التصويت على الانتخابات (ملف الإسلاميون والبرلمانات السياسية)، موقع الإسلام اليوم.

([48]) القرطبي: الجامع أحكام القرآن (5/418).

([49]) قطب: في ظلال القرآن (2/781).

([50]) الزحيلي: التفسير المنير (5/321).

([51]) ابن كثير: التفسير (2/462).

([52]) الطبري: جامع البيان (2/127).

([53]) قطب: في ظلال القرآن (4/1931).

([54]) سورة آل عمران: الآية (104).

([55]) سورة النساء: الآية (65).

([56]) القطان: معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية.

([57]) راجع الموقف من الديمقراطية.

([58]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية ، الياسين: للدعاة فقط .

([59]) الياسين: للدعاة فقط .

([60]) سورة النجم: الآيتين (38، 39).

([61]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله 1/3 ح 1).

([62]) محمود: الاختلافات الفقهية لدى الاتجاهات الإسلامية المعاصرة ، يكن: أضواء على التجربة النيابية الإسلامية (1/187).

([63]) يكن: أضواء على التجربة النيابية الإسلامية (1/185).

([64]) محمود: الاختلافات الفقهية لدى الاتجاهات الإسلامية المعاصرة.

([65]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (28/290).

([66]) عبد الخالق: مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية.

([67]) راضي: الإخوان المسلمون تحت قبة البرلمان، نقلاً عن: البنا: لماذا دخل الإخوان المسلمون مجلس الشعب، مقال منشور في مجلة الإخوان المسلمون، العدد 18، بتاريخ 4/11/1944 م. ([68]) سبق تخريجه ، وهو صحيح.

([69]) القطان: معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، نقلاً عن: مجلة لواء الإسلام ملف الانتخابات العدد الثالث 1409 هـ ـ 1989 م.

([70]) عبد الخالق: مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية.

([71]) راضي: الإخوان المسلمون تحت قبة البرلمان، نقلاً عن: مجلة الإخوان المسلمون، العدد 2 ذو الحجة 1363 هـ.

([72]) انظر: ابن حجر: فتح الباري (7/233).

([73]) السابق (7/229).

([74]) العودة: سؤال وجهته للشيخ سلمان العودة عبر موقعه على الانترنت، الإسلام اليوم.

([75]) سورة يوسف: من الآية (40).

([76]) العودة: العودة: سؤال وجهته للشيخ سلمان العودة عبر موقعه على الانترنت، الإسلام اليوم.

المبحث الثاني المشاركة في الوزارة

ويتكون من ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: مفهوم الوزارة

المطلب الثاني: حكم المشاركة في الوزارة

المطلب الثالث: ضوابط المشاركة في الوزارة

المطلب الأول مفهوم الوزارة

الوزارة في اللغة: اختلف اشتقاق معنى الوزارة على ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه من الوِزر، وهو الثقل؛ لأنه يحمل عن رئيس الدولة أثقاله([1])، ومنه قوله تعالى: } وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا {([2])، أي أثقالاً من أمتعهم.

الثاني: أنه مشتق من الأَزر، وهو؛ الظهر لأن الملك يقوى بوزيره، كقوة البدن بظهره([3]).

الثالث: أنه مشتق من الوَزَر، وهو الملجأ، ومنه قوله تعالى: } كَلا لا وَزَرَ{([4])، أي لا ملجأ، فرئيس الدولة يلجأ إلى الوزير ومعونته([5]).

وكلمة الوزير جامعة لهذه المعاني كلها، فالوزير عون على الأمور، وشريك في التدبير، وظهير في السياسة، وملجأ عند النازلة، وهذه المعاني هي ما تهدف إليه الدساتير في العالم([6]).

الوزارة في اصطلاح النظم المعاصرة:

الوزارة هي صاحبة السلطة الفعلية، والمهيمنة على إدارة شئون الدولة، وهي مسئولة عن جميع تصرفاتها أمام البرلمان، ولهذا فهي تعتبر المحور الذي يدور حوله النظام البرلماني([7]).

وقد استعملت الدساتير العربية في هذا الخصوص ثلاثة مصطلحات وهي: السلطة التنفيذية، والحكومة، ومجلس الوزراء.

واصطلاح السلطة التنفيذية هو أوسعها دلالة، إذ يشمل جميع العاملين في مهام التنفيذ في الدولة، أما الحكومة ومجلس الوزراء فهما مصطلحان متقاربان لا يختلفان إلا في نواح محدودة أهمها([8]):

1. أن مجلس الوزراء هو نظام برلماني لا يعرفه النظام الرياسي، ومن ثم فإن الاصطلاح الأدق في النظام الرياسي هو الحكومة، الذي يشمل رئيس الدولة ومعاونيه من الوزراء.

2. أن اصطلاح الحكومة يطابق أو يخالف اصطلاح مجلس الوزراء، حسبما إذا كان رئيس الدولة يعتبر جزءاً من الحكومة أم لا، وما إذا كان من حقه أن يرأس مجلس الوزراء، ولكن الناظر إلى واقع الأنظمة العربية ودساتيرها يرى أن غالبيتها أخذت بنظام مجلس الوزراء.

واصطلاح الوزارة في النظم المعاصرة على هذا النحو لا أراه يخالف الإسلام، بل الاختلاف الجوهري يأتي من خلال الشروط التي اشترطها الإسلام فيمن يتولون هذا المنصب([9])، وكذلك السياسة والمنهج الذي تسير عليه الوزارة ـ كما بينا ذلك سابقاً عند التفريق بين السلطة التشريعية في الإسلام والأنظمة المعاصرة ـ لاسيما وأن معظم الدساتير العربية تقول بجواز الجمع بين عضوية المجالس النيابية ومنصب الوزارة.

الوزارة في الاصطلاح الشرعي:

الوزارة هي أهم مناصب الدولة بعد الخلافة، يقول ابن خلدون في هذا المعنى:

" الوزارة أم الخطط السلطانية والرتب الملوكية؛ لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة، فإن الوزارة مأخوذة إما من المؤازرة وهي المعاونة، أو من الوزر وهو الثقل، كأنه ـ الوزير ـ عمِل على مفاعلة الخليفة أوزاره وأثقاله، وهو راجع إلى المعاونة المطلقة "([10]).

واصطلاح الوزارة معروف منذ فجر تاريخ الإنسانية، فكلمة وزير عرفت عند العرب قبل الفتوحات الإسلامية، إذ من المسلم به تاريخياً أن منصب الوزارة في حد ذاته أقدم من الإسلام، فقد ورد في القرآن على لسان موسى عليه السلام: } وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ~ هَارُونَ أَخِي {([11])، فلما جاء الإسلام أقر المنصب ووضع له شروطاً خاصة تميز بها، مما يؤكد أن هذا المنصب كان موجوداً منذ صدر الإسلام، ولم يعرفه المسلمون عن طريق الفرس، كما يحلو للبعض أن يقول بفارسية المنصب([12]).

فمنصب الوزير كان موجوداً منذ صدر الإسلام، وإن لم يكن له مظاهره وأبهته، وذلك لبساطة الناس في ذلك الوقت، وبعدهم عن أبهة الملك([13]).

وقد استعمل المسلون كلمة الوزارة، فعندما التقى المهاجرون والأنصار في السقيفة لاختيار خليفة رسول الله r قال أبو بكر الصديق t: " نحن الأمراء، وأنتم الوزراء "([14]).

وهذا عمر بن الخطاب t كتب إلى أهل الكوفة: " إني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً، وجعلت عبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً "([15]).

المطلب الثاني حكم المشاركة في الوزارة

إن المسلم مخاطب بتحكيم شرع الله تعالى، فهو مخاطب بتنفيذ أوامر ربه ورسوله r والانقياد لهما دوماً؛ لقوله تعالى: } وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا {([16]).

ولما كانت الأنظمة الحاكمة المعاصرة قد أقصت الشريعة الإسلامية كلياً أو جزئياً عن سدة الحكم، وعطلت مبادئها، واستبدلت بها دساتير وقوانين وضعية، أضحت المشاركة في الوزارة في ظل هذه الأنظمة محط نقاش بين الفقهاء والمفكرين المعاصرين، الذين انقسموا ما بين قائل بجوازها أصالة، وقائل بحرمتها أصالة كذلك، وقائل بجوازها استثناء من الأصل، وذلك نظراً لاختلافهم في منهج التغيير والإصلاح الموصل إلى قيام الدولة الإسلامية.

فقد ثار الخلاف بين العاملين في حقل الدعوة الإسلامية: فمنهم من رأى ضرورة مزاحمة الأنظمة في مكانتها، وعدم ترك الساحة خالية لهم تحقيقاً للمصالح ودفعاً للمفاسد.

ومنهم من رأى ضرورة تكوين القاعدة الصلبة التي تعيش الإسلام في حياتها، وعدم الانجرار ومداهنة الأنظمة بمشاركتها في الحكم.

فالمسألة فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: إن الأصل في المشاركة في الوزارة الحرمة، وتزعم هذا القول الدكتور محمد أبو فارس([17])، وإليه ذهب الأستاذ أحمد المحمود، والشيخ محمد قطب([18]).

القول الثاني: إن المشاركة في الوزارة تجوز استثناءً من الأصل، وإليه ذهب والدكتور إسحاق الفرحان، والشيخ راشد الغنوشي، الشيخ سعيد حوى، والدكتور عبد الرحمن عبد الخالق، والدكتور عمر الأشقر، والشيخ محمد أحمد الراشد، والدكتور يوسف القرضاوي([19]).

القول الثالث: إن المشاركة في الوزارة تجوز أصالة، وإليه ذهب الدكتور علي الصوا، وأستاذي الدكتور يونس الأسطل([20]).

أدلة القول الأول:

استدل أصحاب هذا القول بالقرآن الكريم والمعقول:

أولاً: القرآن الكريم([21]):

1. عموم النصوص الواردة في حق من يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر، والظلم، والفسق: } وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {([22])، } وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {([23])، } وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {([24]). 2. الحاكمية لله تعالى وحده، وليس لأحد أن ينازعه فيها، قال تعالى: } إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ {([25])، وقال سبحانه: } لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {([26]).

3. نهى الله المؤمنين أن يحتكموا إلى شريعة غير شريعة الله، وجعل ذلك منافياً للإيمان حينما قال تعالى: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا {([27]).

4. حذر الله سبحانه وتعالى المؤمنين من الركون إلى الذين ظلموا فقال: } وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ {([28]).

والركون هو الميل اليسير، فلا يجوز للمسلم أن يكون هواه وميله مع الظالمين.

5. المسلم مأمور بالكفر بكل طواغيت الأرض؛ لقوله عز وجل: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {([29]).

فكل من يحتكم إلى الطاغوت باختياره وإرادته، يعد كافراً خارجاً إلى ما وراء حائط الإسلام.

هذه الأدلة وغيرها تُظهر جلياً أن الأصل عدم جواز المشاركة في الوزارة، في ظل أنظمة الحكم المعاصرة.

ثانياً: المعقول([30]):

1. المشاركة في الوزارة التي لا تحكم بما أنزل الله، تصبغ الأنظمة الجاهلية بالصبغة الشرعية، وتعطيها شهادة تزكية.

2. عدم الثقة بالدعاة؛ لمشاركتهم في أنظمة ادعت الألوهية باغتصابها أخص خصائصها وهي الحاكمية، وهذا يجعل المشاركين في الوزارة يتقاسمون الكراهية، وعدم الثقة مع الأنظمة، فلا يُطمئن إليهم في مستقبل الأيام؛ لأنهم عاشوا مع هؤلاء في خندق واحد.

3. إن المشاركة في الحكم فيه إطالة لعمر النظام الذي يحكم بغير ما أنزل الله.

4. إن الأنظمة تعمل على استيعاب الحركات الإسلامية، وقد تستخدم وسيلة الترغيب بعد وسيلة الترهيب، وهذا أسلوب خبيث لتشويه الصورة والضغط من أجل التنازل عن المبادئ والقيم، فإن توصلوا إلى هذا الأمر، فقد نجحوا أيما نجاح في طمس معالم الحق والانحراف عن جادة الصواب.

5. المشاركة في الحكومة يؤدي إلى إثارة البلبلة بين الدعاة، وزرع بذور الشك في نفوس أبناء الحركة الإسلامية وأصدقائها، وقد يؤدي إلى شق الجماعة، وتمزق الجبهة الداخلية لها.

6. كثيرة هي المشاكل التي تواجه البلاد العربية والإسلامية، كالديون الباهظة، والتهديدات الأمنية من الدول المعادية، والأنظمة ليست قادرة على إيقافها أو حلها، وهي تتفاقم يوماً بعد يوم، وتتسع دائرتها، والمشاركة في الوزارة المكلفة بحل هذه المشاكل مع العلم المسبق بعدم القدرة على حلها، سيؤدي إلى إحراج المشاركين، وفقدهم لعز تاقه الدعاة.

ونحن لا نختلف مع أصحاب هذا القول في أن الأصل في المشاركة الحظر، بيد أن الأمة تعيش في أوضاع استثنائية، تجعل من الصعب على العاملين للإسلام أن يبلغوا أهدافهم بإقامة حكم الإسلام بشكل مباشر، ويجدون أنفسهم في دائرة الخيارات والموازنات الصعبة والسلمية، التي تحقق الأهداف، وإن كان على أمد بعيد.

ولما كان الفقه الإسلامي يمتاز بالمرونة والتعاطي الواقعي مع متطلبات العصر، ومستجدات المجتمع الإسلامي، كان القول بجواز المشاركة في الوزارة استثناء من الأصل، منبثقاً من القواعد والمقاصد الشرعية، التي تؤول إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد.

أدلة القول الثاني:

استدل القائلون بجواز المشاركة في الحكم استثناءاً من الأصل بما يأتي:

1. مشاركة يوسف عليه السلام في الوزارة.

2. موقف النجاشي.

3. المصلحة.

أولاً: مشاركة يوسف عليه السلام في الوزارة:

تعرض القرآن الكريم لسيرة سيدنا يوسف عليه السلام في سورة خاصة، بينت أنه كان يعيش في ظل مجتمع جاهلي يستند في مبادئه وقيمه على عقيدة الشرك، وقد استمر هذا المجتمع على شركه حتى بعد يوسف عليه السلام قال تعالى: } فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ {([31]).

وقد تعرض يوسف عليه السلام لمحاولة إغواء من قِبل امرأة العزيز، وكشرت له المحن عن أنيابها، حتى زُج به في غياهب السجن مظلوماً.

غير أن يوسف عليه السلام لما وجد في نفسه القوة للقيام بأعباء الحكم، وتحمل المسئولية المترتبة عليه لتحقيق مصالح العباد، طلب أن يولى جانباً منه قائلاً:

} اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {([32]).

وبذلك شارك يوسف عليه السلام في حكم لا يحكم بشريعة الله أساساً وسنداً.

لم يجد يوسف عليه السلام تناقضاً بين المبدأ الذي يحمل رايته، وهو أن الحاكمية لله، وبين توليه الوزارة ليجعل المجتمع أقرب إلى المبدأ الذي يحمله، وليحاول إقرار هذا المبدأ في واقع الأمر([33]).

فدل هذا على أن الشريعة الإسلامية فيها سعة ومرونة لمشاركة الدعاة في الوزارة التي لا تحكم بشريعة الله، لأجل تحقيق مصالح الأمة، وخدمة لدين الله تعالى.

وقد استدل لفيف من العلماء المفسرين بقصة يوسف عليه السلام، وذهبوا إلى جواز تولي مناصب من يد سلطان جائر:

فقد جاء في تفسير القرطبي ـ رحمه الله ـ: " قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إذا كان بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز "([34]).

وقال الألوسي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: " وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جُهل أمره، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعيناً لذلك "([35]).

وجاء في تفسير النسفي ـ رحمه الله ـ: " قالوا: وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان أعماله من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة "([36]).

وقال الشيخ سعيد حوى ـ رحمه الله ـ في تفسيره: " ففي عصرنا حيث يتحكم الكفر ويحكم، وحيث فرضت أنظمة كافرة على أقطار إسلامية، تجد بعض المسلمين يترددون في المشاركة أو في رفضها، ونجدهم يترددون في ترشيح أنفسهم لمناصب الدولة، والذي نفهمه من قصة يوسف عليه السلام أنه يستطيع المسلم أن يزكي نفسه في بعض المجالات، وأن يستلم منصباً من مناصب الدولة إن كان في ذلك خدمة لدين الله، أو مصلحة للمسلمين، أو منفعة عامة للخلق ولا يرافقها إثم، وكل ذلك بعد الموازنة بين الجيد والأجود، والعزيمة والرخصة، واختيار أخف الضررين وأهون الشرين "([37]).


النجاشي([38]) هو ملك الحبشة في زمن النبي r، لما توالت المحن والابتلاءات على الصحابة y أمرهم النبي r بالخروج إلى أرض الحبشة واصفاً إياها أنها أرض صدق، وملكها لا يظلم عنده أحد، فآواهم النجاشي، وتعهد بحمايتهم، وكان من ثمرات وجودهم على أرضه دخوله في الإسلام.

فالنجاشي ـ رحمه الله ـ آمن بالنبي r ومات على ذلك، وقد صلى الرسول r عليه هو وأصحابه.

والأدلة تترى في تقرير إيمان النجاشي منها:

1. عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r حين مات النجاشي: " مَاتَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُواْ فَصَلُّواْ عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ"([39]).

2. عن أبي هريرة t: أن رسول الله r نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه، وقال: " اسْتَغْفِرُواْ لأَخِيكُمْ "([40]).

3. عن أبي هريرة t: أن رسول الله r نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربع تكبيرات "([41]).

وجه الدلالة: تدل هذه الأحاديث على أن إسلام النجاشي كان واضحاً لدى النبي r، فهو يخبر أصحابه بموته في ذات اليوم الذي نعى النجاشيَّ فيه ربُّه، وهذا لا شك مصدره وحي، وينعت النجاشي بالصلاح " مَاتَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ "، وهذا دليل إيمانه، ويصلي عليه هو وأصحابه، ويخبرهم برابطة الأخوة بينهم والنجاشي " فَصَلُّواْ عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ "، ويأمرهم بالاستغفار له " اسْتَغْفِرُواْ لأَخِيكُمْ " وما كان ليستغفر النبي r وأصحابه y له لولا إيمانه بعد النهي عن الاستغفار للكافرين في قول الله تعالى: } مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {([42]).

هذا بالإضافة إلى كتاب النجاشي إلى النبي r، والذي يؤكد تماماً إسلامه، حيث قال في نص الرسالة: " وأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأصحابه، وأسلمت على يديه لله رب العالمين "([43]).

وبعد المحاورة التي دارت بينه وبين جعفر بن أبي طالب t قال: " مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أُقبل نعليه "([44]).

إلا أنه ومع إسلام النجاشي، كان يقود نظاماً يحكم بغير شريعة الله، إذ لم يكن بإمكانه تطبيق منهج الله، وأي محاولة كهذه من شأنها أن تقلب الموازين في اتجاه ضياع ملكه، وعدم استقرار المؤمنين في أرضه، وقد لاذوا به.

يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، والنجاشي وأمثاله مع ذلك سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها "([45]).

فثمة عقبات كانت تعترض النجاشي في طريقه، وقد اعترف ببعضها في رسالة وجهها إلى النبي r وهو يعلن إسلامه ومبايعته له حين قال: " فإني لا أملك إلا نفسي "([46]).

وعندما أشار أمراء النجاشي عليه برد المسلمين إلى رسل قريش وأبى إلا بعد سماع كلامهم، وبعد أن أقر بأن ما جاءوا به حق قال الذين حضروا من عظماء الحبشة: " والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك "([47]).

وفي موقف آخر لما سأل المسلمين عما يقولون في عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخبره جعفر بن أبي طالب t واعترف بصدق ما جاء به، وقال: " ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العُوَيد " فتناخرت بطارقته([48]).

بعد هذا العرض يتضح لنا أن النجاشي أصحمة، الذي آمن بالنبي r هو الذي استضاف صحابته المهاجرين إليه، وما زال يقوم على نظام لم يتمكن فيه من تطبيق شريعة الله، لكنه كان حصناً نافعاً للمهاجرين المسلمين.

والنبي r لم يأمره بالهجرة إليه، على الرغم من عرضه ذلك على رسول الله r وذلك في الرسالة التي تضمنت إرساله بستين رجلاً آمنوا من أهل الحبشة حتى قال: " وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقوله حق ".

لكن النبي r مستنداً إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد اكتفى بأمنه، وحمايته للمسلمين.

ثالثاً: دلالة المصلحة على جواز المشاركة في الوزارة:

قبل أن أشرع في التكييف الفقهي للاستدلال بالمصلحة في جواز المشاركة في الحكم، أبدأ بمقدمة حول المصلحة:

المصلحة في اللغة: الخير والصلاح، وهي نقيض الشر والفساد ([49]).

أما شرعاً: فقد عرفها ابن عاشور بأنها: " وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائماً أو غالباً، للجمهور أو للآحاد "([50]).

وعرفها الغزالي ـ رحمه الله ـ بأنها: " جلب منفعة، أو دفع مضرة "([51]).

والناظر في الشريعة الإسلامية يرى أنها قائمة على جلب المصالح، ودرء المفاسد، وهذه حقيقة أكد عليها علماؤنا:

يقول الشاطبي ـ رحمه الله ـ: " والشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل "([52]).

ويقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ: " الشريعة مصالح كلها، إما تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح "([53]).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها "([54]).

ويقول تلميذه ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة ومصالح كلها، وحكمة كلها "([55]).

أقسام المصلحة:

قسم الأصوليون المصلحة من حيث اعتبار الشرع وعدم اعتباره إلى ثلاثة أقسام([56]):

المصالح المعتبرة: وهي ما شهد الشرع لاعتبارها، ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع؛ ومثاله: تحريم كل ما أسكر قياساً على الخمر الذي حرم لمصلحة حفظ العقل.

المصالح الملغاة: وهي ما شهد الشرع لبطلانها، كإيجاب الصوم على الملك الذي واقع أهله في نهار رمضان، إذ العتق سهل عليه فلا ينزجر، والكفارة وضعت للزجر، فهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته النص، وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع.

المصالح المرسلة: وهي ما لم يشهد الشرع باعتبارها أو إلغائها، وهذه هي المصالح المرسلة عند الأصوليين، مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن، وتدوين الدواوين، وقتل الجماعة بالواحد.

هذا وقد اختلف العلماء في حجية المصالح المرسلة، وما أذهب لترجيحه هو القول بحجيتها، لاسيما أن الشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد، والأخذ بالمصلحة المرسلة يتفق وطبيعة الشريعة والأساس الذي قامت عليه، وهذا ما صرح به كثير من العلماء كما أوردت آنفاً.

التكييف الفقهي للاستدلال بالمصلحة على جواز المشاركة في الوزارة:

المشاركة في الوزارة في ظل أنظمة الحكم المعاصرة ابتداءً تعد مفسدة، نظراً للأدلة الصريحة التي وضعتها في إطار الحظر، ومن هنا كان القول: إن الأصل في المشاركة الحرمة.

والاشتراك في الحكم ليس من قبيل المصالح المرسلة؛ لأن النصوص الصريحة جاءت قاطعة في تأثيم المشارك في الحكم بغير ما أنزل الله، والاستدلال هاهنا عائد ـ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ: " إلى ترجيح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"([57])...([58]).

ولا شك أن المشاركة في الحكم في ظل الأنظمة المعاصرة، التي غيبت الشريعة عن السلطة، وأقامت حكم الطاغوت، ونازعت الله تعالى في حكمه، تميع قضية الحكم عند المسلم، وتوقعه في تناقض كبير، فهو مأمور بالكفر بالطاغوت، ومحاربة من حاد الله.

وقد سيقت الأدلة في الدلالة على أن الأصل في المشاركة الحرمة، وذُكرت مفاسد المشاركة، إلا أن المشاركة في الحكم في بعض الأوقات والأحوال تحقق مصالح راجحة، ومنافع معتبرة للإسلام والمسلمين، يتعذر غالباً تحقيقها بغير ذلك.

وإخضاع القضية لفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد يخرجها عن الأصل؛ لاعتبارات شرعية، بحيث يغطي هذا الفقه الأوضاع الاستثنائية التي يعيشها المسلمون، من تغييب الحكم الإسلامي، وعبر النظر المصلحي يحتم الواجب الشرعي المشاركة في الوزارة، لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الأهداف المنشودة بإقامة حكم الإسلام.

ولا يعني الاستدلال بالمصلحة إباحة الوقوع في الحرام، فالحرام واقع لا محالة بإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم سواء في المشاركة أو عدمها، لكن ما قرره العلماء عن ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين، وقاعدة الضرورة والاستطاعة، ومراعاة سنة التدرج يقتضي تقديم الحرام الذي يترافق مع تحقيق المصالح على الحرام الذي يفقدها.

ومن هذه الاعتبارات الشرعية([59]):

1. تقليل الشر والظلم مطلوب بقدر الاستطاعة:

إن من استطاع أن يقلل من الظلم والشر والعدوان، ينبغي له أن يفعل إغاثة للملهوف، وإعانة للمظلوم، وتقوية للضعيف، وتضييقاً لدائرة الإثم والعدوان بقدر الإمكان، قال الله تعالى: } فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {([60]).

وقال النبي r: " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُواْ مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ "([61]).

وقد رأينا النجاشي ملك الحبشة أسلم زمن الرسول r، ومع هذا لم يستطع أن يقيم حكم الإسلام في مملكته؛ لأنه لو فعل ذلك خلعه قومه، ولم ينكر عليه الرسول الكريم r.

أما فلسفة: كل شيء أو لا شيء، فهي مرفوضة شرعاً وواقعاً.

2. إرتكاب أخف الضررين:

وهذا ما قرره الشرع من ارتكاب أخف الضررين أو أهون الشرين، دفعاً لأعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما.

ولهذا أجاز الفقهاء السكوت على المنكر مخافة أن يجر إنكاره إلى منكر أكبر منه، ويستدلون لذلك بقوله r لعائشة رضي الله عنها: " لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ؛ لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالأَرْضِ "([62])، فترك ما يراه واجباً خشية أن تثور فتنة من التغيير في بناء الكعبة، وهم لم ترسخ أقدامهم بالإسلام بعد.

3. النزول من المثل الأعلى إلى الواقع:

فقد نصب الشرع للمسلم مُثُلاً عُليا؛ ليرنو المسلم إليها بعينه، ويهفو إليها بقلبه، ويسعى إليها بحركته، ولكن الواقع كثيراً ما يغلبه، فيعجز عن الوصول إليها، فيضطر إلى النزول عنها إلى ما دونها تحت ضغط الضرورة، عملاً بالممكن الميسور بعد تعذر الصعود إلى المثال المعسور، ومن هنا تقررت القاعدة الشهيرة: الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة: المشقة تجلب التيسير، وقاعدة: لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة: رفع الحرج.

ومن قرأ القرآن واستقرأ السنة وجد ذلك واضحاً كل الوضوح، ولهذا نجد الفقهاء يجيزون للفرد المسلم وللمجتمع المسلم النزول للضرورة من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى، حتى لا تتعطل مصالح الخلق، ولا تضيع حقوقهم، ويذهب دينهم ودنياهم.

مثال ذلك: إجازة شهادة الفاسق إذا لم يوجد العدل، الذي هو الأصل في الشهادة، وكذلك إجازة الجهاد مع البار الفاجر مع أن الأصل هو البار الصالح.

ومن هنا فمن لم يستطع الوصول بالسلطة السياسية إلى تطبيق الشريعة، فلا مانع أن ينزل إلى حكم الواقع، ويرضى بالمشاركة مع غيره إن كان من وراء ذلك خير للأمة.

4. سنة التدرج:

والشرع الحنيف قد راعى هذه السنة، فتدرج مع المكلفين في فرض الفرائض، كما تدرج معهم في تحريم المحرمات رحمة بهم وتيسيراً عليهم.

وقد لا يستطيع الإنسان ـ رغم طموحه ـ الوصول إلى أهدافه الكبيرة مرة واحدة، ولكنه قد يمكنه الوصول إلى شيء منها بعد شيء وفق قدراته وظروفه، فلا يرفض ذلك ولا يمنعه منه شرع ولا عرف ولا عقل، فقد اتفق العقلاء على أن ما لا يدرك جله لا يترك كله.

والوصول إلى الحكم الإسلامي الكامل هدف كبير ولا ريب، ولكن قد يتعسر الوصول إليه دفعة واحدة، فما المانع أن يصل إلى بعضه من يستطيع الوصول ليتحقق الخير للأمة؟.

وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة ونماذج فيها أسوة حسنة:

نجد ذلك في سيرة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز t فقد أقام من معالم العدل، ونشر من معاني الخير ما لا ينساه التاريخ، ولكنه لم يستطع أن يفعل كل ما يريد، بدليل أنه لم يُعد الخلافة شورى ـ كما هو الأصل في الإسلام ـ ويخرجها من بني أمية.

كما أنه فعل ما فعل متدرجاً بحكمة وأناة، حتى إن ابنه عبد الملك ـ وقد كان شاباً تقياً متحمساً ـ قال له يوماً: يا أبت! مالي أراك متباطئاً عن إنفاذ الأمور؟ فوالله ما أبالي أن تغلي بي وبك القدور في سبيل الله!.

يريد الابن المتوقد حماسة، أن يعجل أبوه بالإصلاح المنشود، ولا يبالي بما يحدث بعد ذلك من عواقب ما دام ذلك في سبيل الله.

فقال له الأب الحكيم: لا تعجل يا بني! فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين، ثم حرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق، فيدفعوه جملة، فيكون من وراء ذلك فتنة.

ويمكن تلخيص المصالح المترتبة على المشاركة في الوزارة في النقاط التالية([63]):

1. تتيح المشاركة في السلطة الفرصة أمام الكوادر الإسلامية للتأهل والتدريب على ممارسة الحكم، وصناعة القرار، والإحاطة بآليات إدارة السلطة وتعقيداتها، فالتوقعات شيء، والواقع والصعوبات شيء آخر، فالمشاركة السياسية توفر تجارب غنية للحركة الإسلامية في التعامل مع الواقع وتحسين أدائها.

2. درء بعض المفاسد والمؤامرات والمكائد عن العاملين بالإسلام وأهله، والحركات العاملة بالإسلام.

3. إعادة الثقة بالإسلام، وأنه دين قادر على تنظيم شئون الحياة الخاصة والعامة، ولا يكون ذلك إلا بما يقوم به المشاركون من تحقيق للعدل وإزهاق للباطل، كما وتشعر الأمة أن باستطاعة الإسلاميين تقديم شيء ملموس غير الشعارات والفتاوى وانتقاد السلطة، الأمر الذي يرسخ لإيمان الجماهير بها وبأهدافها، ويزيل الصورة المشوهة التي رسمها الإعلام السلطوي عن الإسلاميين.

4. محاربة المراكز والمؤسسات التي تنشر الرذيلة والضلال، وزيادة المؤسسات الإسلامية التي تنشر الخير، وبذلك يكون الانفتاح المباشر والعلني أمام الجماهير المسلمة عبر برامج ونشاطات وإعلام الحركة الإسلامية.

5. الاستفادة من هيبة السلطة لخدمة هذا الدين، والتحرك به في واقع الحياة، لأسلمة الحياة.

أدلة القول الثالث:

استدل القائلون بجواز المشاركة في الوزارة أصالة، بأدلة أوردوها خلال الرد على أدلة الفريقين القائلين بحرمة المشاركة، أو جوازها استثناءً من أصل الحرمة([64]):

1. إن الأصل الذي انطلق منه الفريقان، حيث قالا بأن الجواز استثناء من أصل الحرمة للضرورة أو المصلحة إن هذا الأصل غير مسلَّم به.

ذلك أن الأدلة التي يسوقانها لا تنهض للدلالة على أصل التحريم، إذ غاية ما تدل عليه هي النهي عن الركون إلى الظالمين، أو تحريم الحكم بغير ما أنزل الله ... الخ.

ولا تصلح تلك الأدلة متمسَّكاً لتحريم المشاركة بالوزارة؛ لأنها ليست واردة على محل الخلاف، إذ من يشارك بالوزارة من الدعاة المسلمين لا يقصد الركون إلى الظالم، ولا تحكيم غير شرع الله، إنما يهدف إلى تحقيق بعض المصالح العامة في ظل ظرف لا يملك فيه البدائل الأفضل.

2. وإذا سلمنا بأن الأصل هو الحظر أو الحرمة، وأن المشاركة لا تجوز إلا للضرورة أو المصلحة، فإن حكم التحريم هذا ثابت بدلالة الظن، وهذه الدلالة تحتمل أكثر من معنى، فما الذي يمنع من تخصيص النصوص الظنية بالمصلحة الشرعية؟.

3. إن المشاركة بالوزارة من مسائل السياسة الشرعية، وإن من مجالات السياسة الشرعية النظر فيما لا نص فيه، ومسألة المشاركة لم يرد فيها نص لا بالإثبات ولا بالنفي، وعليه فإن مبناها على المصالح، والفتوى فيها رهينة لما يغلب من المصالح والمفاسد تلك الغلبة التي تقرها الاجتهادات الجماعية لا الفردية.

4. إذا وصل الأمر إلى حد تساوي مصالح المشاركة ومفاسدها، أو أن تربو المفسدة، فإن إخواننا الوزراء يمكنهم أن يستقيلوا ويعلنوا للأمة أسباب هذا الانسحاب.

إن المشاركة هنا أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، وقد ورد التكليف بالدعوة إلى الله بصورة مطلقة، فتكون المشاركة بهذا النظر أصلاً في الجواز أو الوجوب، وليس استثناءً.

المناقشة:

أولاً: مناقشة أدلة القائلين بجواز المشاركة في الوزارة استثناءً من الأصل:

ناقش القائلون بأن الأصل في المشاركة الحرمة أدلة القائلين بجوازها استثناءً من الأصل بما يلي:

أولاً: مناقشة الاستدلال بمشاركة يوسف عليه السلام بالوزارة:

اعترض على هذا الدليل بالأدلة التالية:

أ. إن تصرف يوسف عليه السلام يقع تحت قاعدة شرع من قبلنا، والقول الذي لا خلاف فيه: أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا إذا ورد في شرعنا ما يخالفه، والآيات القرآنية الكثيرة تحرم الحكم بغير ما أنزل الله وتكفر من يقترف هذه الجريمة([65]).

وهذا باطل لوجوه([66]):

الوجه الأول: أن شرعنا وشرع يوسف عليه السلام، بل شرائع الأنبياء جميعاً متفقة في تقرير حاكمية الله تبارك تعالى، فيوسف عليه السلام يقرر في مخاطبته للفتيين الذين دخلا معه السجن أن الحكم لله وحده: } إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ {([67]).

ويتولى يوسف عليه السلام هذا المنصب، وهو يعلم أن للملك نظاماً وشريعة لا يستطيع أن يزيحها بين عشية وضحاها } مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ {([68]).

فإذا كان فقه يوسف عليه السلام للحاكمية، هو نفس الفقه المقرر في شريعتنا، ومع ذلك تولى الوزارة، فإننا نجزم أن توليه الوزارة لم يناقض عقيدته في كون الحاكمية لله وحده، وأنه لم يكن مخطئاً عندما تسلم الوزارة؛ لأنه نبي معصوم.

'الوجه الثاني: ومما يدل على نفي الشبهة وإبطالها إخبار الحق تبارك وتعالى أن استلام يوسف عليه السلام الوزارة كان رحمة ونعمة، ولم يكن عذاباً ونقمة } قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ~ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{([69]).

ويوسف عليه السلام يصرح بأن استلامه للحكم كان من نعم الله عليه، ولم يكن نقمة }رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {([70]).

ب. إن القياس على حالة يوسف عليه السلام قياس باطل، ذلك أن يوسف عليه السلام حينما فوض الملك أمر تدبير المُلك له قد أصبح هو الحاكم الفعلي، يدير دفة الحكم، وتلاشت شخصية العزيز، بل أصبح هو العزيز بدليل قوله تعالى: } قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا {([71])، } فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ {([72])([73]).

وهذا باطل لوجوه([74]):

الوجه الأول: أن يوسف عليه السلام تولى المنصب الذي تولاه بإذن الملك وإرادته، يدلنا على هذا طلب يوسف عليه السلام من الملك أن يوليه } قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ{([75])، فالنص صريح أيضاً في أن يوسف عليه السلام قد طلب منصباً في دولة الملك، ولم يطلب أن يعزل الملك نفسه ليحل هو في مكانه.

الوجه الثاني: أن الملك نفسه هو الذي استدعاه ليجعله من خاصته وأهل مشورته وكبار رجال دولته } وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي {([76]).

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذا النص: " أي أجعله من خاصتي ومن أكابر دولتي ومن أعيان حاشيتي "([77]).

وقد فعل عندما جعله في منصبه العزيز الذي يتولى خزائن الأرض.

الوجه الثالث: النصوص القرآنية تدل على أن أقصى ما وصل إليه يوسف عليه السلام هو منصب عزيز مصر، ومنصب العزيز ليس هو منصب الملك كما يظنه بعض أهل العلم، فعزيز مصر قبل يوسف عليه السلام، كان هو الرجل الذي اشترى يوسف عليه السلام، وعاش يوسف عليه السلام في منزله الفترة الأولى من حياته في مصر، وهو الذي راودت زوجته يوسف عليه السلام عن نفسه بدلالة قوله تعالى: } وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ{([78])، أما الملك فهو الذي رأى الرؤيا } وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ{([79])، وهو الذي استدعى يوسف ليجعله من خاصته } وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي{([80]).

وهذا الذي قررته هنا هو قول أهل العلم، يقول ابن كثير: " إن يوسف عليه السلام ولاه ملك مصر الريان بن الوليد الوزارة في بلاد مصر، مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته "([81]).

ج. إن مشاركة يوسف عليه السلام في هذا الحكم كان شيئاً خاصاً به، ولا يمكن الاقتداء به في ذلك.

وأجيب عليه: بأن الخصوصية تحتاج إلى دليل، وعلى المدعي أن يثبت دعواه؛ لأن الأصل أن كل ما يذكر من سير الأنبياء وهديهم إنما يراد به التأسي والاقتداء([82])

قال الله تعالى: } أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ {([83]).

ثانياً: الاستدلال بموقف النجاشي ـ رحمه الله ـ:

أ. أن النجاشي الذي أسلم ونعاه النبي r كان حاكماً وملكاً، ولم يكن تحت وصاية أحد، بل هو الذي كان يتخذ الوزراء والأعيان والأعوان([84]).

ويجاب على ذلك: لا شك أن النجاشي كان ملكاً، ولكن ذلك لا يعفيه من تطبيق الشريعة الإسلامية، بل يحمِّله مسئولية أكبر وأمانة أولى تجاه تنفيذها؛ لما يحتله من مكانة عالية يتولى فيها دفة الحكم، لكن النبي r لم يأمره بذلك أو يوجهه إلى التخلي عن الحكم والهجرة إليه، بل اكتفى بإسلامه وتوفير الأمن والحماية لأصحابه المسلمين، اعتماداً في ذلك على الموازنة بين المصالح والمفاسد.

وكذلك لم يعتبره النبي r كافراً أو مذنباً لعدم تطبيقه الشريعة الإسلامية، وقد نزلت يومها كثير من أحكامها، بل إنه صلى عليه، وأمر صحابته بالاستغفار له.

ب. إن النجاشي الذي تعاطف مع المسلمين المهاجرين إليه وآواهم لم يسلم، وإن الذي أسلم هو النجاشي الذي أرسل الرسول r إليه قبل فتح مكة عندما أرسل الرسل إلى الملوك والحكام يدعوهم إلى الله تعالى([85]).

وهذا لا يسلم به لوجوه: الوجه الأول:إن هناك نصوص كثيرة صرحت بأن النجاشي الذي رحب بصحابة رسول الله r y هو الذي أسلم، وصلى عليه النبي r عند وفاته ودعا له، وقد سقت الرسالة التي أرسلها النجاشي للنبي r وهو يعلن فيها إسلامه ومبايعته له ولابن عمه.

وأورد ابن كثير قول النجاشي بعد سماعه لكلام جعفر بن أبي طالب t: " يا معشر القسيسين والرهبان! ما يزيد هؤلاء على قول ابن مريم ولا وزن هذه، مرحباًبكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به ابن مريم "([86]).

الوجه الثاني: تصريح كبار أهل العلم بالحديث والتاريخ والتراجم الذين لا يشق لهم غبار بأن النجاشي الذي أسلم هو النجاشي الذي هاجر إليه الصحابة.

فهذا ابن حجر رحمه الله ذكر في ترجمته: " أصحمة بن أبجر النجاشي، ملك الحبشة، واسمه بالعربية عطية، والنجاشي لقب له، أسلم على عهد رسول الله r ولم يهاجر إليه، وكان ردءاً للمسلمين نافعاً، وقصته مشهورة في المغازي في إحسانه إلى المسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، وأخرج أصحاب الصحاح والسنن قصة صلاته r عليه صلاة الغائب "([87]).

ومن طالع ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية يجده يجزم في أكثر من موضع مثل ما جزم به ابن حجر([88]).

الوجه الثالث: أن وفاة النجاشي وقعت بعد فتح خيبر وقبل فتح مكة، بل قبل أن يرسل الرسول r الرسل إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، ففي صحيح مسلم تصريح بأن النجاشي الذي أرسل إليه الرسول r الرسالة لم يكن ذاك المسلم الذي هاجر إليه المسلمون " كتب رسول الله r إلى كسرى وإلى قيصر، وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي "([89]).

يقول ابن كثير: " موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإنه في صحيح مسلم أنه كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي، وليس هو بالمسلم "([90]).

ج. إن الشعب الذي كان يحكمه النجاشي في هذه الفترة القصيرة جداً من حكمه بعد إسلامه كان شعباً يدين بالنصرانية، وليس فيه تشريعات تنظم شئون المجتمع والحكم، ولهذا كان يحكم بالقواعد العامة من العدل والمساواة ونحوها، وهذه مبادئ وقواعد إسلامية، بالإضافة إلى أنه لا يمكن تطبيق الإسلام على شعب نصراني علماً بأن الأحكام الشرعية لم تكتمل بعد، بخلاف الشعوب الإسلامية اليوم التواقة لحكم الإسلام، والذي تأباه الأنظمة والحكومات([91]).

ويجاب عليه:

لا نسلم خلو النصرانية من تشريعات تنظم حياتهم، فقد كانوا يحتكمون إلى تشريعات بني إسرائيل، والتي تخالف الكثير من مبادئ الإسلام وقواعده.

وفي عهد النجاشي نزلت العديد من الأحكام الشرعية، ولا شك أنها لم تكتمل بعد، لكن ذلك لا يعد عذراً يبيح عدم تطبيقها.

وإذا قلنا بعدم تطبيق الإسلام على شعب نصراني لأنه لا يحتكم إليه، فكذلك القول بعدم تطبيقه على شعب مسلم تسوقه أنظمة وحكومات لا تحتكم إلى الإسلام، إلا بعد انتزاع الحكم منها؛ وبالتالي تكون المشاركة لازمة لتحقيق ذلك.

ثانياً: مناقشة أدلة القائلين بأن المشاركة في الوزارة تجوز أصالة:

إن القول بأن المشاركة في الوزارة تجوز أصالة لا يسلم؛ لما فيه من إطلاق القول دون مستند شرعي، ويجدر بي أن أسجل رد أستاذي الدكتور مازن هنيه على هذا القول، حيث قال:

1. إن خطاب الله بتطبيق الشريعة الإسلامية والالتزام بحكمه، متعلق بآحاد الأفراد ومجموعهم، فهو واجب يتعلق بالفرد، ويتعلق بالأمة بأسرها أيضاً، لذا فقد كان تطبيق الشريعة من قِبل الحاكم هو أعظم الواجبات المناطة به من قِبل الله تعالى، وأيضاً من أعظم الواجبات والأمانات التي يؤديها نيابة عن الأمة، فقد أسندت إليه الأمة القيام بهذه الأمانة التي كلفت بها من قبل الله تعالى.

ومن هنا فإن ترك تطبيق حكم الله جريمة نكراء، لا يسأل عنها الحاكم فحسب! بل تسأل عنها الأمة بأسرها؛ لذا فإن الأصل في دور كل مسلم أن يعمل على تطبيق حكم الله في واقع الحياة بكل وسيلة مشروعة تحقق المصلحة، وتدرأ المفسدة.

لذا فإن المشاركة في حكم لا يقيم شرع الله معصية وجريمة، لا يجوز الإقدام عليها.

ولما كان ترك المشاركة في الحكم مفض إلى مفسدة خطيرة، ومفوت لمصلحة عظيمة جازت المشاركة استثناء من أصل التحريم.

2. وأما دعوى ثبوت التحريم بالأدلة الظنية، فمردود بما ثبت من خلال هذه الرسالة، حيث ثبت وجوب تطبيق الشريعة والاحتكام إلى حكم الله بالأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، وهذا الوجوب ـ كما قدمت آنفاً ـ لا يتعلق بالفرد فحسب، بل بالأمة بأسرها، فيصبح الجميع طرفاً في تطبيق الشريعة بوجه من الوجوه، ومن كان طرفاً في وجوب تطبيق الشريعة، لا يجوز أن يكون طرفاً في ترك تطبيقها، وهذا ثابت بالأدلة القواطع؛ وجواز المشاركة إنما هو استثناء من الأصل للمصلحة.

ولو قيل: كيف تثبت الحرمة بالدليل القاطع ثم تستثني منه؟ فإن الجواب أن ما كان قطعياً يجوز الاستثناء منه بالدلائل القاطعة، والاستثناء هنا ثابت بالدلائل القاطعة، والمتمثل في المصلحة في حفظ الدين وحفظ مصالح الأمة، وما فيه حفظ لواحدة من المقاصد العامة يرتقي ليكون من أقوى الدلائل.

3. إن الأساس الذي تقوم عليه السياسة الشرعية ملاحظة مصلحة الأمة، ودرء الفساد عنها تمسكاً بالأصول والثوابت، ومرونة في التطبيق والاجتهاد.

فدعوى أن السياسة الشرعية تقوم على ما لا نص فيه لا تستقيم، بل هناك أصول ثوابت يجب التمسك بها ورعايتها من قِبل الحكام.

وفي إطار هذه الفلسفة يتجلى القول بجواز المشاركة، فهو مرونة ووعي في الفهم والتطبيق، والاجتهاد لا ينفي الأصول ولا يلغيها، ولكن يستثنى منها ما فيه عظيم مصلحة يؤدي في المآل لرعاية هذه الأصول وتحقيقها على أكمل وجه.

4. إن القول بالترجيح على أساس المصالح والمفاسد هو الأساس في القول القائل بالجواز استثناء من الأصل، ولو كان الأصل الجواز لكانت المصلحة ظاهرة، ولما وقع كل هذا الاختلاف، فمن المعلوم أن الأحكام المشروعة في أصلها لا نقيدها بالترجيح بين المصالح والمفاسد؛ لأن الأصل فيها الصلاح، ووقوع الفساد أمر محتمل لا يعول عليه، لذا لا نقيدها به إلا إذا ظهر دليل يدل عليه.

5. مما لا شك فيه أن المشاركة إن كانت الدعوة إلى الله غايتها، فهي جائزة استثناء من أصل التحريم، وأما القول بأصل مشروعيتها لاشتمالها على الدعوة فلا يستقيم؛ لأن الأمر اشتمل على المصلحة المتمثلة بالدعوة من خلال المشاركة، وعلى المفسدة المتمثلة بترك تطبيق الشريعة.

والموازنة بينهما لا تكون بالقول: إن الأصل جواز المشاركة لمصلحة الدعوة، وتحريمها إذا لم تطبق الشريعة، فهذا يفضي إلى الحرمة مطلقاً.

ولكن الصواب أن يقال: إن عدم تطبيق الشريعة أمر محرم لا يجوز المشاركة فيه إلا إذا كان ذلك لمصلحة ".

الترجيح:

بعد عرض الأقوال يظهر أن ثمة اتفاق بين فريقين على أن الأصل في المشاركة في الوزارة هو التحريم، لكن القضية: هل تبقى الحرمة في المشاركة أصالة أم تجوز استثناءً؟، وكذلك يظهر اتفاق بين أحد هذين الفريقين والفريق الثالث على جواز المشاركة في الوزارة لكن الاختلاف في جوازها استثناءً أم أصالة.

من خلال طرح الأدلة، ومناقشتنا لأدلة القائلين بحرمة المشاركة، أو جوازها أصالة يظهر ترجيحنا لجواز المشاركة في الوزارة استثناءاً من أصل الحرمة وفق ضوابط شرعية، وذلك للاعتبارات التالية:

1. أن الأخذ بهذا الرأي فيه موازنة بين ثوابت الشريعة ومتغيرات العصر، وهذه هي سمة الفقه الإسلامي، ذلك أن الحرمة متحققة أصالة في المشاركة في الحكم، ولكن متغيرات العصر توقف العاملين للإسلام أمام موازنات قاسية ودقيقة، فتقتضي المصلحة الخروج من نطاق الأصل بجواز المشاركة استثناء استئناساً ببعض الأحداث التاريخية، وعملاً بالقواعد والمقاصد الشرعية من مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد، وارتكاب أخف الضررين، وقاعدة الضرورات تبيح المحذورات ورفع الحرج وغيرها.

2. إن عزوف الإسلاميين عن خوض المعترك السياسي، وترك الساحة خالية لغيرهم، وتربع الأنظمة غير الإسلامية على سدة الحكم يعد تضارباً في المصالح والمقاصد الشرعية.

3. التجارب الواقعية التي خاضتها الدعوة الإسلامية في بلدان تعطي هامشاً للحرية تثبت قدرة إخواننا الذين سبقونا بالإيمان على التأثير في مجريات الأمة، من حيث سن التشريعات، أو التوسع في افتتاح المؤسسات الاقتصادية والتعليمية، وغيرها والتي ساهمت في الارتقاء بمستوى الدعوة الإسلامية بصورة تدعو إلى الارتياح، ويكفينا أن نلقي نظرة على الساحة التركية أو الماليزية، أو اليمن والكويت([92]).

والمتتبع لمسيرة الحركات الإسلامية يرى أنها تمضي وفق الفقه المثبت لجواز المشاركة عبر النظر المصلحي.

فقد استجاب الإخوان المسلمون في مصر للمشاركة في حكومة الثوار عام 1952م، وشاركوا بالفعل في سوريا بقيادة الشيخ مصطفى السباعي، وكذلك شاركوا في الأردن.

وفي تركيا شارك حزب الرفاه حتى وصل رئيسه نجم الدين أربكان لرئاسة الوزراء.

وفي السودان شاركت الحركة الإسلامية عدة مرات.

حتى أن الإخوان المسلمين في فلسطين لم يرفضوا مبدأ المشاركة في مجلس الوزراء الفلسطيني، بل كان رفضهم مبنياً على تقدير المصالح والمفاسد، خاصة أنهم يعيشون في مرحلة التحرر، ففي لقاء شخصي عقدته مع الشيخ أحمد ياسين مؤسس وزعيم حركة المقاومة الإسلامية حماس قال: " هدفنا تحرير الأرض والإنسان الفلسطيني، فإذا كانت المشاركة في الحكومة توصلنا إلى تحقيق أهدافنا رحبنا بها، ونحن لا نشارك في حكومة في ظل احتلال يدفع المشاركين إلى الاستسلام والتسليم ونزع السلاح ورفع الرايات البيضاء "([93]).

فتاوى بعض العلماء:

وفي هذه القضية وجدت فتاوى لعلمائنا الأبرار الذين أجازوا تولي الوظائف السياسية للأمراء والسلاطين الظلمة، إذا ترتب على توليها تحقيق مصالح راجحة، أو دفع مفاسد ملغاة، ومن هذه الفتاوى:

فتوى عز الدين بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ:

من ذلك فتوى سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فقد قال ـ رحمه الله ـ: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقدم مصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر: إنفاذ ذلك كله، جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد من رحمة الشرع ورعايته لمصالح العباد تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة؛ لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها ... "([94]).

فتوى ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:

وسئل الشيخ ابن تيمية قدس الله روحه عن رجل متول ولايات ومقطع إقطاعات وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره، وولي غيره، فإن الظلم لا يترك منه شيء، بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه، فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها وهو عاجز عن ذلك لا يمكنه ردها، فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه، وقد عرفت نيته واجتهاده وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم، بل يبقى ويزداد، فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل أم لا؟ وإذا لم يكن عليه إثم، فهل يطالب على ذلك أم لا؟ وأي الأمرين خير له:

أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله؟ أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادته؟ وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم، فهل الأولى له أن يوافق الرعية أم يرفع يده؟ والرعية تكره ذلك؛ لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده؟.

فأجاب: الحمد لله، نعم إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره كما قد ذكر، فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه، وقد يكون ذلك عليه واجباً إذا لم يقم به غيره قادراً عليه، فنشر العدل بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم([95]).

المطلب الثالث ضوابط المشاركة في الوزارة

1. أن تكون المشاركة وسيلة لتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، بحيث تكون مشاركة فعلية لا يخضع فيها الوزير المشارك خضوعاً تاماً لسلطة الحاكم وتنفيذ سياسته، بل يجب أن يملك صلاحيات تمكنه من تحقيق الأهداف التي بنيت عليها المشاركة ولو جزئياً.

2. أن لا تكون المشاركة غاية بذاتها وهدفاً بعينها، بل هي مجرد وسيلة ينبغي تعميق النقاش حول الأمور التي يمكن تحقيقها، مع توضيح المصالح والمفاسد من خلال الوقائع والأمثلة، والموازنة على أساسها، وعدم الاكتفاء بترديد قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد التي لا يختلف على صحتها أحد، لاسيما وأن الموقف من المشاركة يختلف من شخص لشخص، ومن مكان لآخر بناء على تقدير المصلحة.

3. ألا يكون الحكم موسوماً بالظلم والطغيان، معروفاً بالتعدي على حقوق الإنسان، فإن المطلوب من المسلم الملتزم بالنسبة إلى هذا الحكم أن يقاومه ويغيره بما أمكنه من وسيلة، ولو أن سيدنا يوسف عليه السلام طلب منه فرعون الذي علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً أن يجعله مكيناً في الأرض لرفض ذلك، ولم يسأله أن يجعله على خزائن أرض مصر، فقد كان ملك مصر في عهده غير فرعون في عهد موسى عليه السلام.

ومن هنا لا يجوز للمسلم الملتزم ولا للجماعة المسلمة الملتزمة المشاركة في حكم دكتاتوري متسلط على رقاب الخلق، سواء كان حكم فرد مطلقاً، أم حكماً عسكرياً متعسفاً.

إنما تكون المشاركة في حكم يقوم على الديمقراطية، ويحترم مقدرات البشر([96]).

4. أن يكون له حق معارضة كل ما يخالف الإسلام مخالفة بينة، أو على الأقل التحفظ عليه، فالوزير قد يقيم العدل الممكن في وزارته، ولكن يطلب منه في مجلس الوزراء أن يوافق على قوانين أو اتفاقيات أو مشروعات مخالفة لقواطع الإسلام، فهنا يجب عليه أن يعترض أو يتحفظ بقدر نوع المخالفة وحجمها.

وقد يضطر المسلم الملتزم أو الجماعة المسلمة إلى الانسحاب من الحكم في حال المخالفات الخطيرة التي لا يكفي فيها التحفظ والاعتراض([97]).

5. ألا يخوض غمار هذا المعترك السياسي الدقيق والحساس إلا من رسخ دينه، وقوي شأنه، وأيقن أن المهمة الوزارية وظيفة تكليفية لا تشريفية.

6. تقويم المشاركة كل فترة زمنية بالنظر إلى الظروف الموضوعية والمتطلبات المرحلية والأوضاع المحلية والدولية ومدى ملاءمتها لتحقيق المصالح والأهداف المرجوة التي تجعلهم يمضون في طريقهم أو يضطرون للانسحاب.

([1]) ابن الأثير: النهاية غريب الحديث والأثر (5/178)، ابن منظور: لسان العرب (5/282)، الرازي:

مختار الصحاح (1/299)، مادة: وزر.

([2]) سورة طه: من الآية (87).

([3]) الماوردي: قوانين الوزارة (ص: 61).

([4]) سورة القيامة: الآية (11).

([5]) ابن الأثير: النهاية غريب الحديث والأثر (5/179)، ابن منظور: لسان العرب (5/282)، الرازي: مختار الصحاح (1/299).

([6]) الماوردي: قوانين الوزارة.

([7]) ليلة: النظم السياسية الدولة والحكومة.

([8]) الطماوي: السلطات الثلاث.

([9]) يمكن مراجعة الشروط المتطلبة فيمن يشغل منصب الوزارة التي اشترطها الفقهاء المسلمون، في كتاب:

الأحكام السطانية لأبي يعلى، قوانين الوزارة للماوردي، وكذلك الشروط التي اشترطتها الدساتير العربية في كتاب: السلطات الثلاث للطماوي.

([10]) ابن خلدون: المقدمة (1/236).

([11]) سورة طه: الآيتان (29، 30).

([12]) حلمي: نظام الحكم في الإسلام رسلان: قوانين الوزارة عند الماوردي ، ومن الذين قالوا بأن الوزارة فارسية الأصل: الدكتور حسن إبراهيم حسن، وعلي إبراهيم حسن في كتابهما النظم الإسلامية ، وكذلك الدكتور سليمان محمد الطماوي في كتابه السلطات الثلاث.

([13]) حلمي: نظام الحكم في الإسلام.

([14]) أخرجه البخاري: الصحيح (باب قول النبي r: لو كنت متخذاً خليلاً 3/1341 ح 3467).

([15]) ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك (4/308 حتى 257 هـ)، الطبري: التاريخ (2/531).

([16]) سورة الأحزاب: الآية (36).

([17]) فقد ألف الدكتور محمد أبو فارس كتاباً خاصاً رد فيه باستفاضة على القائلين بجواز المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية، إلا أنه على الرغم من إنكاره الشديد على القائلين بجواز المشاركة استثناء من الأصل بناء على تقدير المصالح والمفاسد ورده عليهم، قد أباحها للضرورة، أو ما يقوم مقامها إذا توافرت شروط ذلك، تماماً كإباحة أكل الميتة للمضطر أو الدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، فقد قال تعالى بعد ذكره لهذه المحرمات: } فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { (سورة المائدة: من الآية (3).

وهذا هو معنى القاعدة: الضرورات تبيح المحظورات. أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية (ص: 37).

([18]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية، قطب: واقعنا المعاصر ، المحمود: الدعوة إلى الإسلام، هذا ويمكن اعتبار القائلين بخطر المشاركة في المجالس النيابية، من المانعين من باب أولى المشاركة في المجالس الوزارية، لاسيما وأن الوزارة تمثل سلطة تنفيذية، حيث يخضع فيها المسلم للنظام الذي يحكم بغير شريعة الله، ويسعى لتنفيذ سياسته، بل والذود عنه في بعض الأحيان، وله اجتهاده فقط في حدود صلاحياته، بخلاف المجالس النيابية التي هي أقل شأناً، وشبهة الولاء فيها للحكومة التي تحكم بغير شريعة الله أخف، بحيث يتمتع فيها النائب بالحصانة البرلمانية التي تمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإطلاق.

([19]) الأشقر: حكم المشاركة في المجالس النيابية، التميمي: مشاركة الإسلاميين في السلطة ، حوى: الأساس في التفسير (5/2671)، الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (2/144)، عبد الخالق: مشروعية الدخول وقبول الولايات العامة في ظل الأنظمة المعاصرة (ص: 5)، القرضاوي: فتاوى معاصرة (3/428)، المعايطة: التجربة السياسية للحركة الإسلامية في الأردن.

([20]) الأسطل: ميزان الترجيح في المصالح والمفاسد المتعارضة.

([21]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة، الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية .

([22]) سورة المائدة: من الآية (44).

([23]) سورة المائدة: من الآية (45).

([24]) سورة المائدة: من الآية (47).

([25]) سورة يوسف: من الآية (40).

([26]) سورة القصص: من الآية (70).

([27]) سورة النساء: الآية (65).

([28]) سورة هود: الآية (113).

([29]) سورة النساء: الآية (60).

([30]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية، الأشقر: حكم المشاركة في المجالس النيابية.

([31]) سورة غافر: من الآية (34).

([32]) سورة يوسف: من الآية (55).

([33]) لأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية .

([34]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (9/215).

([35]) الألوسي: روح المعاني (13/5).

([36]) النسفي: التفسير (2/194).

([37]) حوى: الأساس في التفسير (5/2671).

([38]) النجاشي لقب لكل من مَلَك الحبشة، ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة (5/112).

([39]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب فضائل الصحابة، باب موت النجاشي 3/1407 ح 3664).

([40]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد 1/446 ح 1263).

([41]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة أربعاً 1/447 ح 1268).

([42]) سورة التوبة: الآية (113).

([43]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/84)، الطبري: التاريخ (2/132).

([44]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/70).

([45]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (19/218- 219).

([46]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/84)، الطبري: التاريخ (2/132).

([47]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/73). ([48]) المرجع السابق (3/74).

([49]) ابن منظور: لسان العرب (2/517)، الرازي: مختار الصحاح (1/154)، الفيومي: المصباح المنير .

([50]) ابن عاشور: مقاصد الشريعة .

([51]) الغزالي: المستصفى (1/173).

([52]) الشاطبي: الموافقات (2/6).

([53]) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام (1/11).

([54]) ابن تيمية: تلخيص كتاب الاستغاثة (1/167).

([55]) ابن القيم: الطرق الحكمية .

([56]) الغزالي: المستصفى (1/172- 173)، ابن قدامة: روضة الناظر (1/169- 170)، ابن بدران: المدخل (1/293- 295)، زيدان: الوجيز في أصول الفقه .

([57]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (20/48).

([58]) الأشقر: حكم المشاركة في المجالس النيابية.

([59]) القرضاوي: فتاوى معاصرة (3/428- 432).

([60]) سورة التغابن: من الآية (16).

([61]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله r 6/2658 ح 6858).

([62]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها 2/969 ح 1333).

([63]) الأشقر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، عبد الرزاق:

مشاركة الإسلامين في السلطة الأسس الشرعية والمتطلبات السياسية (انترنت)، الترابي: الحركة الإسلامية في السودان.

([64]) الأسطل: ميزان الترجيح في المصالح والمفاسد المتعارضة.

([65]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية.

([66]) الأشقر: حكم المشاركة في المجالس النيابية.

([67]) سورة يوسف: من الآية (40).

([68]) سورة يوسف: من الآية (76).

([69]) سورة يوسف: الآيتان (55، 56).

([70]) سورة يوسف: الآية (101).

([71]) سورة يوسف: من الآية (78).

([72]) سورة يوسف: من الآية (88).

([73]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية، قطب: واقعنا المعاصر .

([74]) الأشقر: حكم المشاركة في المجالس النيابية.

([75]) سورة يوسف: من الآية (55).

([76]) سورة يوسف: من الآية (54).

([77]) ابن كثير: البداية والنهاية (1/210).

([78]) سورة يوسف: من الآية (30).

([79]) سورة يوسف: من الآية (43).

([80]) سورة يوسف: من الآية (54).

([81]) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (2/483).

([82]) مجموعة علماء: الإسلام والمشاركة في الحكم .

([83]) سورة الأنعام: من الآية (90).

([84]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية .

([85]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية.

([86]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/70)، وقال: " وهذا إسناد صحيح ".

([87]) ابن حجر: الإصابة (1/109).

([88]) الأشقر: حكم المشاركة في المجالس النيابية.

([89]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الجهاد، باب كتب النبي r إلى ملوك الكفار 3/1397 ح 1774).

([90]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/277).

([91]) أبو فارس: المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية.

([92]) الأسطل: ميزان الترجيح في المصالح والمفاسد المتعارضة مع تطبيقات فقهية معاصرة.

([93]) لقاء شخصي عقدته مع الشيخ أحمد ياسين في زيارة لبيته بتاريخ (18/1/2004).

([94]) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام (1/73- 74).

([95]) ابن تيمية: مجموع الفتاوى (30/356- 357).

([96]) القرضاوي: فتاوى معاصرة (3/432- 433).

([97]) القرضاوي: فتاوى معاصرة (3/433).

الفصل الثالث التحالف السياسي في الإسلام

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول : مفهوم التحالف.

المبحث الثاني: حكم التحالف السياسي.

المبحث الثالث: ضوابط التحالف السياسي.

المبحث الأول مفهوم التحالف

ويتكون من مطلبين:

المطلب الأول: مفهوم الحلف

المطلب الثاني: الحلف السياسي

المطلب الأول مفهوم الحلف

الحلف في اللغة: هو العهد يكون بين القوم، وقد حالفه: أي عاهده، وتحالفوا: تعاهدوا، والجمع: أحلاف وحلفاء([1]).

الحلف في الجاهلية:

قبل أن أشرع في الحديث عن الحلف في الشرع ينبغي أن أتحدث عن الأحلاف التي كانت تعقد قبل الإسلام.

إن الأحلاف في الجاهلية كانت تعقد بين القبائل على أساسين فمنها ما كان يعقد على القتال بين القبائل والغارات والتوارث ونصر الحليف ولو كان ظالماً ومنها ما كان يعقد على مكارم الأخلاق من إقامة العدل ونصر المظلوم كحلف المطيبين وحلف الفضول.

فقد روي أنه اجتمع بنو هاشم وزهرة وتميم في الجاهلية بمكة في دار ابن جدعان، وتحالفوا على أن لا يتخاذلوا، ثم ملؤوا جفينة طيباً، ووضعوها في المسجد عند الكعبة، وغمسوا أيديهم فيها، وتعاقدوا على التناصر، والأخذ للمظلوم من الظالم، ومسحوا الكعبة بأيديهم المطيبة توكيداً، فسُموا المطيبين؛ وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفاً آخر، وتعاهدوا على أن لا يتخاذلوا، فسُموا الأحلاف، والأحلاف كان أن جعلوا جفنة من دم، فغمسوا أيديهم فيها، وكان رسول الله من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف([2]).

الحلف في الشرع:

جاء الإسلام والأحلاف ماضية بين القبائل والأقوام، فأقر ما وافقه، وأبطل ما تعارض معه.

فقد وردت بعض الأحاديث في النهي عن التحالف في الإسلام منها:

1. قال : " لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ، وَأَيَّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةٍ"([3]).

2. وقال أيضاً: " أَوْفُواْ بِحِلْفِ الجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لا يَزِيدُهُ ـ يعني الإسلام ـ إِلا شِدَّةً، وَلا تُحْدِثُواْ حِلْفاً فِي الإِسْلامِ "([4]).

وفي مقابل هذا النهي وردت أحاديث تبين جواز التحالف في الإسلام، وأنه من فعل النبي :

فعن عاصم الأحول قال: قلت لأنس بن مالك : أبلغك أن النبي قال: " لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ؟ فقال: قد حالف النبي بين قريش والأنصار في داري "([5]).

وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث: بأن النهي عن الحلف في الإسلام هو التحالف على الباطل، وما منع منه الشرع، وأن المثبت هو ما دون ذلك من نصر المظلوم، وإقامة العدل، والقيام بأمور الدين.

قال النووي ـ رحمه الله ـ: " قال القاضي: قال الطبري: لا يجوز الحلف اليوم، فإن المذكور في الحديث والموارثة به وبالمؤاخاة كله منسوخ، لقوله تعالى:

} وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ {([6])، وقال الحسن: كان التوارث بالحلف، فنسخ بآية المواريث؛ قلت: أما ما يتعلق بالإرث، فيستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء، وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق، فهذا باق لم ينسخ، وهذا معنى قوله في هذه الاحاديث: " وَأَيَّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةٍ"، وأما قوله : " لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ " فالمراد به: حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه، والله أعلم "([7]).

ويقول ابن حجر ـ رحمه الله ـ: " وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث؛ لأن فيه نفي الحلف، وفيما قاله هو إثباته، ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان ظالماً، ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها، ومن التوارث ونحو ذلك، والمثبت ما عدا ذلك من نصر المظلوم، والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية، كالمصادقة والمواددة وحفظ العهد "([8]).

وقال ابن الأثير ـ رحمه الله ـ: " أصل الحِلْف: المُعاقَدُة والمعاهدة على التَّعاضُد والتَساعُد والاتفّاق, فما كان منه في الجاهلية على الفِتَن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النّهْى عنه في الإسلام بقوله : " لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ"، وما كان في الجاهلية على نَصْر المَظْلوم وصلة الأرحام ـ كحلْف المُطَيِّبين وما جرى مَجْراه ـ, فذلك الذي قال فيه : " وَأَيَّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةً " يريد من المُعاقدة على الخير ونُصْرَة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان, وهذا الحِلْف الذي يَقْتَضِيه الإسلام, والمَمْنُوع منه ما خالف حُكْم الإسلام؛ وقيل: المحالفة كانت قبل الفتح، وقوْله: " لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ " قاله زمن الفتح, فكان ناسخاً "([9]).

المطلب الثاني الحلف السياسي

إن صور الأحلاف التي يمكن أن تعقد بين الدول والجماعات تتفاوت ما بين حلف عسكري، وحلف على إقرار مكارم الأخلاق، وكذا حلف سياسي، وهذا ما سأتناوله بالحديث هنا، مؤصلاً مدى جواز تحالف الجماعات المسلمة مع غيرها من المخالفين، لتشكيل كتلة انتخابية، أو معارضة سياسية، أو تحديد مواقف، أو التحالف على الإطاحة بنظام ظالم مستبد.

ومن خلال التفصيل الذي مر في كلام العلماء يمكن إنزال فقه التحالف على الواقع المعاصر، وذلك عبر النظر المصلحي، فما كان فيه جلب مصالح، أو دفع مفاسد، فهو مشروع، وما كان قائماً على أمر منع منه الشرع، أو يتناقض ومصلحة المسلمين، فهو ممنوع.

فالتحالف الذي تقيمه الجماعات المسلمة مع غيرها من الأحزاب العلمانية أو نحوها يخضع لهذا الفقه في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد.

([1]) ابن منظور: لسان العرب (9/53 55)، الرازي: مختار الصحاح (1/63)، مادة: حلف.

([2]) ابن هشام: السيرة النبوية (1/263)، الفاكهي: أخبار مكة (5/179)، المناوي: فيض القدير (4/165).

([3]) أخرجه مسلم: الصحيح (كتاب الفضائل، باب مؤاخاة النبي بين أصحابه .

([4]) أخرجه الترمذي: السنن (كتاب السير، باب ما جاء في الحِلف ، والحديث حسن، الألباني:

صحيح وضعيف الترمذي .

([5]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الكفالة، باب قول الله تعالى: } وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.

([6]) سورة الأحزاب: من الآية (6).

([7]) النووي: شرح صحيح مسلم (16/81- 82).

([8]) ابن حجر: فتح الباري (10/502).

([9]) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث (1/424- 425).

المبحث الثاني حكم التحالف السياسي

لا تثريب في أن الاستعانة بالمسلم تُعد من القواعد التي قررها الإسلام في علاقة المسلمين ببعضهم: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {([1]).

فعلاقة المؤمنين قائمة على الرحمة والتناصح، وترسيخ أواصر المحبة ومبادئ الأخوة النابعة من قوله تعالى:

} وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ {([2]).

ومن هنا فإن المسلم في حلف مستمر مع أخيه المسلم، حلف خير على البر والتقوى، والنصح للإسلام والمسلمين، وبالتالي ينبغي في زماننا أن يكون التحالف السياسي بين الجماعات المسلمة دوماً قائماً، حتى تمثل كتلة لها وزنها وثقلها في الساحة السياسية.

ولكن تبقى القضية في العلاقة مع الأحزاب غير الإسلامية، فهل يجوز التحالف السياسي معها؟.

هذا ما أسعى لتأصيله فقهياً، لاسيما وأن القضية مطروحة على بساط الفقه في واقعنا المعاصر، وما زالت الصحوة الإسلامية تعيشها واقعاً في كثير من البلدان.

فقد اختلف الفقهاء والمفكرون والمعاصرون في حكم التحالف السياسي مع المخالفين للإسلام، وذلك على قولين:

القول الأول: إن التحالف السياسي حرام، وإليه ذهب الشيخ محمد قطب، والشيخ أبو نصر محمد بن عبد الله الإمام([3]).

القول الثاني: إن التحالف جائز، وإليه ذهب الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور مصطفى الطحان، والشيخ محمد أحمد الراشد، والدكتور منير الغضبان، والدكتور صلاح الصاوي([4]).

الأدلة:

أدلة القول الأول:

استدل القائلون بحرمة التحالف السياسي بالقرآن الكريم والمعقول:

أولاً: القرآن الكريم:

1. قال الله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ~ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ {([5]).

وجه الدلالة: إن تحالف الإسلاميين مع غيرهم لأجل الانتخابات، جعل الناس ينفرون منهم، فضلاً عن أن هذا الفعل ضياع للركن الأكبر والقاعدة العظمى الأساسية لإقامة الإسلام، ألا وهي الولاء والبراء؛ والقرآن الكريم في هذه الآيات وغيرها يحذر المؤمنين من موالاة أعداء الله([6]).

2. قال الله تعالى:} فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا{([7]).

وجه الدلالة: إن ما يحققه الإسلاميون من تحالفهم مع غيرهم من إصلاحات جزئية عارضة في بعض نواحي الحياة، لا تطيقه الأنظمة الحاكمة ولا تصبر عليه، وسرعان ما تمحوه محواً، وتبطل آثاره، وتظل آثاره السيئة التي ينشئها وشره أكبر بكثير من النفع الجزئي الذي يتحقق بهذه المشاركة، ولم يحدث مرة واحدة في لعبة الدبلوماسية أن استطاع الدعاة أن يديروا دفة الأمور من داخل التنظيمات السياسية التي يديرها أعداؤهم([8]).

ثانياً: المعقول:

إن الجماعات المسلمة المتحالفة مع غيرها هي الخاسرة، والأعداء هم الكاسبون سواء بتنظيف سمعتهم أمام الجماهير بتحالف الجماعات المسلمة معهم، أو بتمييع قضية الإسلاميين في نظر الجماهير، وزوال تفردهم وتميزهم بحملهم قضية أعلى وأشرف وأعظم من كل التشكيلات السياسية الأخرى التي تريد الحياة الدنيا وحدها وتتكالب على متاعها وتعرض عن تحكيم شرع الله تعالى([9]).

أدلة القول الثاني:

استدل القائلون بجواز التحالف السياسي مع المخالفين بما يلي:

1. حلف الفضول:

قام هذا الحلف بين قبائل العرب في الجاهلية على نصرة المظلوم([10])، وردع الظالم، وقد شهده النبي r، وهذا الحلف هو المقصود في قوله r: " وَأَيَّمَا حِلْفٍ كان فِي الجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةً "([11])، فأي تعاقد كان في الجاهلية على أمر خير فيه معنى التواصل والتعاطف والتآلف فالإسلام يزيده تأكيداً.

حتى أن النبي r أضفى الصبغة الشرعية على حلف الفضول بعد بعثته، وخصه بأنه لو دُعي إليه لأجاب فقال: " لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بِنِ جُدْعَانَ

حِلْفاً، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ "([12]).

وجه الدلالة: إن النبي r وإن كان قد شهد هذا الحلف قبل بعثته، إلا أنه أثنى عليه بعدها، وفي هذا التعامل النبوي مع المخالفين له في العقيدة دلالة على سعة الشريعة الإسلامية لتحالف الجماعة المسلمة مع المخالفين لها في الاتجاهات السياسية لإسقاط حكم ظالم مستبد، أو مقاومته بالسبل السياسية، أو تجديد موقف سياسي، على أن ينسجم التحالف ومقاصد الإسلام.

2. حلف الرسول r مع عمه أبي طالب، الذي آواه ودافع عنه، وتحمل لأجله معاداة قريش، وكان حصناً احتمت به الدعوة الإسلامية، وقد مر هذا التحالف بعدة مراحل:

أولها: تجلى بالموقف الصلب لأبي طالب، وقد اشتدت التحديات بينه وبين قريش، عندما رأى إصرار النبي r على المضي في أمره حتى يظهره الله أو يهلك دونه، فقال أبو طالب: " اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً"([13])، وقد وصل التحالف إلى أوجه حين انضم بنو هاشم وبنو المطلب في خندق واحد للذود عن رسول الله r وحمايته، فقد ورد " أنهم أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله r علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم، جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يمنعوه ممن أراد قتله فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً "([14]).

'والمرحلة الأخيرة: تجسدت في حصار الشِعب، عندما حاصر مشركو مكة بني هاشم وبني المطلب مسلمهم ومشركهم، جزاء لهم على ما قاموا به من حماية رسول الله r " فلما رأت قريش ذلك، اجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة "([15]). وجه الدلالة: في هذا التحالف بين رسول الله r وعمه أبي طالب دلالة على أنه من حق الجماعة المسلمة أن تقيم تحالفاً مع الآخرين، لتصل إلى أهدافها المشروعة، دون استئصال لوجودها، أو انفراد بها في الساحة، ولكن دون خضوع لأي مساومة تقود إلى التخلي عن هذا الدين.

3. حلف رسول الله r والمطعم بن عدي:

بعد وفاة أبي طالب والتي غيرت موازين الدعوة الإسلامية ووضعتها أمام تحديات، وبعد عودة النبي r من الطائف، وقد أعرض عنه أهلها وآذوه وأغلظوا عليه، اختار النبي r الدخول في جوار المطعم بن عدي عند عودته إلى مكة، وقد حفظ النبي r لعدي هذا الصنيع فقال في أسارى بدر: " لَوْ كَانَ المُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍ حَيّاً ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ "([16]).

وجه الدلالة: إن هذا الحلف وإن لم يكن فيه ضمان لحرية الدعوة الإسلامية، بل أعظم ما فيه تأمين شخص النبي r، وفي سؤال أبي جهل لمطعم([17]) دليل على عدم قدرته في تأمين الحماية الكاملة، إلا أنه فيه دلالة على شرعية التحالف السياسي بين الجماعة المسلمة وغيرها؛ لتأمين نفسها وحماية أبنائها، أو حتى إضفاء الشرعية السياسية عليها، وتغطية مشاركتها الانتخابية، بخاصة في البلدان التي يحظر فيها نشاطها، كتحالف الإخوان المسلمين مع حزب الوفد في الانتخابات البرلمانية بمصر.

4. أما عندما هاجر رسول الله r إلى المدينة المنورة وأقام الدولة الإسلامية فيها، فأول عمل قام به أن عقد معاهدة بين فيها الحقوق والواجبات بين المسلمين واليهود، وهذه المعاهدة من أوضح وأجمع وأعظم المعاهدات التي عقدت في مثل هذا التاريخ المبكر، والتي دلت بما لا يدع مجالاً للشك على رغبة المسلمين أن يتعايشوا مع غيرهم من أهل الكتاب ضمن بنود واضحة تحقق مصلحة الطرفين([18]).

ومما جاء في هذه الصحيفة: " وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله r "([19]).

وجه الدلالة: إن بنود الصحيفة تدلل على مشروعية التحالف السياسي وفق ضوابط محددة، فهي تقتضي أن يشارك الحلفاء السياسيون للمسلمين بنصيبهم من المال، وتحدد البنود حدود التحالف السياسي بأن يكون التناصر قائم بين الفريقين على من حارب أهل هذه الصحيفة، وكذلك المشاورات السياسية الدائمة، والتخطيط الدائم، والاستفادة من الطاقات، والثقة المتبادلة مع التأكيد على أن كل فريق مسئول عن جماعته وتجمعه " وإن لم يأثم امرؤ بحليفه " وأن النصر للمظلوم مهما كان جنسه أو دينه، كل ذلك دون مساومة على أي جزء من الدين، فالإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع " ... فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله "([20]).

5. حلف النبي r مع خزاعة:

لما أعلن النبي r أنه متوجه إلى مكة معتمراً، وقد تبعه الكثير من أصحابه y، وعندما صده المشركون وأصحابه من دخولها بعد أن أرسل له عيناً من خزاعة، فأتاه بتحركات قريش وأخبارها، الأمر الذي انتهى إلى أن أبرم النبي r معها صلحاً، سمي صلح الحديبية، وكان مما ترتب على هذا الصلح حلفه مع خزاعة.

فقد جاء في ميثاق الحديبية: " وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، ـ فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد رسول الله r وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم ـ، وإنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، وأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، لا تدخلها بغير السيوف "([21]).

وكانت لخزاعة علاقات تاريخية مع بني هاشم استمرت حتى بعد ظهور الإسلام، يقول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ: " وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي r أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام "([22]).

وقد ذكرت خزاعة ـ وهي ما زالت على الكفر ولم يسلم إلا بعضها([23])ـ ذلك الحلف للنبي r، وجاءته بكتاب جده، فأقره النبي r غير أنه اشترط أن لا يعين ظالماً، وإنما ينصر المظلوم حيث قال r لهم: " مَا أَعْرَفَنِي بِحِلْفِكُمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى مَا أَسْلَمْتُمْ عَلَيْهِ مِن الحِلْفِ، وَكُلُّ حِلْفٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلا يَزِيدُهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةً، وَلا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ ... وتم التحالف بين الفريقين، وتجديد عهدها إلا أن رسول الله r اشترط ألا يعين ظالماً، وإنما ينصر المظلوم "([24]).

وتظهر شرعية التحالف السياسي في هذا الصلح من خلال بنود ميثاقه، وهي من أقوى الأدلة على مشروعيته " وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه " حيث دخلت خزاعة حليفة لرسول الله r وكانت تحمل كل مودة وتعاون له، وفي المقابل كل عداء لقريش " وكانت خزاعة عيبة([25]) رسول الله r مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة "([26]).

وفي هذا دليل على جواز الاستعانة بالمشركين فيما دون القتال، من استنصاح أو تحديد موقف سياسي أو نحوهما.

قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: " وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ولا موالاة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم لبعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق "([27]).

فهذه مسألة هي دون الاستعانة بهم في القتال، وذلك هو الذي جعل ابن حجر ـ رحمه الله ـ ينبه إلى عدم لزوم الاستعانة في آخر قوله.

واستنباط ابن حجر ـ رحمه الله ـ في جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيره في غاية الأهمية؛ لأننا يمكن أن نستأنس به في تصحيح ما يكون من الدولة الإسلامية من التعاون السياسي مع دولة كافرة ضد دولة كافرة أخرى، مما هو دون القتال معاً، ويمكن أن يشمل حتى التسليح بمثل ما يقع الآن بين الباكستان والصين مثلاً ضد الهند، فإن صدق الصين في تعاونها راجع إلى عداوتها مع الهند([28]).

وجه الدلالة: يدل تحالف النبي r مع خزاعة والاستعانة بهم فيما هو دون القتال دلالة قوية على شرعية التحالف السياسي مع المخالفين، إذا اقتضت المصلحة ذلك، دون التخلي عن جزء من هذا الدين، فالنبي r يقبل حلف خزاعة دون شرط واحد، حيث أظهر الموقف الثابت وفق خط الإسلام الذي لا يعين ظالماً، وإنما ينصر المظلوم.

الخلاصة في ذلك: أن الشريعة الإسلامية فيها سعة لقبول التحالف السياسي مع المشركين، وهو مع الأحزاب العلمانية من باب أولى، إذ جل الأحزاب غير الإسلامية لا تصل إلى درجة الكفر، فالتحالف السياسي مع المخالفين مشروع في كل صوره: من تشكيل كتلة لخوض الانتخابات البرلمانية أو نحوها، أو تحديد موقف سياسي، أو تشكيل معارضة سياسية، أو التحالف على الإطاحة بنظام ظالم مستبد، ولكن وفق ضوابط شرعية استند إليها النبي r في تحالفاته.

وشرعية التحالف السياسي لا تقتصر على وجود دولة للمسلمين، فهو مشروع في كل مرحلة إذا اقتضت المصلحة ذلك، سواء كان بعد إقامة الدولة، كتحالف النبي r مع يهود المدينة وخزاعة، أو في مرحلة الدعوة كتحالفه مع عمه أبي طالب والمطعم بن عدي، وشهوده لحلف الفضول الذي أثنى عليه بعد بعثته.

المناقشة:

مناقشة أدلة القائلين بحرمة التحالف السياسي:

1. بالنسبة للاستدلال بآيتي سورة المائدة نقول: لا شك أن صريح الآيات يؤكد على أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم:} وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ {([29]).

ولكن بالرجوع إلى سبب نزول الآيات يظهر أن الحكم ليس على أساس التحالف، فقد نزلت هذه الآيات في المنافقين، وبخاصة في رأس النفاق عبد الله بن أبي الذي أبى إلا الوقوف بجانب أوليائه من بني قينقاع التي نقضت ما بينها وبين رسول الله r، فقد جاء في تفسير ابن كثير: " جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله! إن لي موالي من زفر كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي؛ فقال رسول الله r لعبد الله بن أبي: يَا أَبَا الحُبَابِ! مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وِلايَةِ زفر عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ، قال: قد قبلت، فأنزل الله عز وجل: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ {([30]).

فعبد الله بن أبي تخلى عن ولاية رسول الله r، وأعلن ولايته للذين نقضوا العهد، وحاربهم رسول الله r انطلاقاً من حلفه قبل الإسلام، بينما وقف عبادة بن الصامت t موقفاً أصيلاً، وقد كان له من الحلف ما كان لابن أبي.

فالقضية إذن ليست في أصل التحالف مع اليهود والنصارى، إنما هي في الذين يخرجون عن صف القيادة المسلمة والدولة المسلمة، فيحالفون أعداءها الذين يحاربونها، ويعملون لصالحها ضد مصلحة الدولة المسلمة، وهي الجريمة التي يطلق عليها اليوم في المفهوم الحديث: جريمة الخيانة العظمى في التآمر والتجسس لصالح العدو، ويتولون أعداء الله ورسوله r ويتخلون عن الولاية للجماعة المسلمة والدولة المسلمة، ولا أدل على ذلك من أن نزول هذه الآيات لم يلغ حلف رسول الله r مع يهود بني النضير، ويهود بني قريظة الذين لم ينقضوا العهد بعد، وهل يعقل أن يمضي النبي r في حلفه مع اليهود أربع سنين أخرى والآيات تنزل في أصل الحلف؟!([31]).

حتى لو سلمنا بذلك، فالتحالف لا يعد ولاء للمحالفين إذا ما علمنا أن المقصود بالولاء([32]) في الآيات هو الرضى بفكرهم ومنهجهم، وترك الولاء لله ولرسوله r وللمؤمنين بالخروج عن إطار الدولة المسلمة أو الجماعة المسلمة.

قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ في تفسيره لهاتين الآيتين: " من تولى اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم: أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه، وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه"([33]).

وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " إن الله قد حكم ـ ولا أحسن من حكمه ـ أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم: } وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ {([34]) فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن، كان لهم حكمهم، وهذا عام خص منه من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام، فإنه لا يقر ولا تقبل منه الجزية، بل إما الإسلام أو السيف؛ لأنه مرتد "([35]).

2. وأما الاستدلال بآية سورة البقرة بأن المنافع الجزئية التي تتحقق بالتحالف السياسي لا تقارن بعظم شرها، فلا نسلم بهذا، فتجارب التحالف السياسي التي خاضتها الجماعات المسلمة مع غيرها ـ كما في مصر والسودان واليمن([36])ـ تظهر بوضوح مدى المصالح التي حققها الدعاة من ترسيخ وجودهم في المجتمع، والحيلولة دون استئصالهم، وإيجاد واقع سياسي متميز يتسنى لهم من خلاله نشر فكرهم، وبناء قاعدة إسلامية صلبة تؤثر في واقع الحياة وغيرها.

ولا ننكر أن هذا لا تطيقه الأنظمة الحاكمة، فالصراع بين الحق والباطل قائم في كل الأحوال، وتحقيق مثل هذه المصالح بالتحالف أولى من فقدها، بل قد يجد الدعاة أنفسهم مضطرين إلى التحالف أمام خيارات ومنعطفات دقيقة، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون التحالف مع الأنظمة الحاكمة حتى يراودنا دوماً الخوف من الانقلاب علينا، فقد يكون التحالف انتخابياً، أو لتشكيل معارضة سياسية، أو تحديد مواقف.

وفي كل الأحوال فالتحالف لا يكون إلا بعد دراسة مستفيضة بين الدعاة، تستند إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد.

يقول المفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمد أحمد الراشد ـ مبيناً دقة وحساسية التحالف السياسي في إطار الإخوان المسلمين ـ: " وأما الاجتهاد الجماعي للإخوان المسلمين، فهو يكتفي بجعل عملية التحالف مع حزب كافر إحدى القضايا الحساسة الثلاث التي ليس للقيادات القطرية حق في الجزم بها، وإنما ألزمت اللائحة قيادات الأقطار أن تستأذن مكتب الإرشاد بذلك، وهذا اجتهاد حسن فيه احتياط وافر، فباب التحالف مفتوح غير مغلق، ولكن لا بد من إقراره من أعلى المستويات القيادية، طمعاً في تقليل احتمالات الخطأ "([37]).

ثانياً: مناقشة أدلتهم بالمعقول:

إن التحالف السياسي مع المخالفين ليس فيه تمييعاً لقضية الدعاة، وزوال تميزهم، أو تنظيفاً لسمعة المخالفين أمام الناس، فخط الجماعة المسلمة واضح من خلال منهج الإسلام القويم الذي تسير وفقه، وفي هذا يكون التميز بين المسلم وغيره، خاصة إذا ما علمنا أن التحالف لا يكون إلا وفق ضوابط شرعية، من أهمها ضمان المصلحة التي يقررها الدعاة مع بقاء الهيمنة لهم فيه.

هذا بالإضافة أنه ليس في التحالف تنظيفاً لسمعة المخالفين، إذ إنه لا يعد ولاء إنما هو التقاء على بعض الأهداف المرحلية التي لا يتسنى للدعاة أن يحققوها بدونه.

الترجيح:

من خلال طرح أدلة الفريقين ومناقشتنا للقائلين بحرمة التحالف السياسي، يظهر ترجيحنا للرأي الثاني القائل بجوازه، وذلك للاعتبارات التالية:

1. إن التحالف السياسي ينسجم ومقاصد الشرعية الإسلامية التي تؤول إلى تقدير المصالح والمفاسد، فقد تلتقي الجماعة المسلمة مع غيرها على بعض الأهداف المرحلية، فتلجأ إلى التحالف كوسيلة لجلب المصالح المرجوة، أو دفع المفاسد.

2. إن التحالف السياسي حاجة حقيقية لتأمين قافلة الدعوة الإسلامية، ودفع الأمواج المتلاطمة عنها قدر المستطاع، فقد يجد الدعاة أنفسهم أمام موازنات دقيقة، ومنعطفات حساسة لا سبيل إلى تجاوزها إلا عبر التحالف.

3. إن التجارب الميدانية التي خاضها الدعاة في تحالفاتهم مع الآخرين كما في مصر والسودان واليمن وغيرها، أثبتت صلاحية التحالف، وإمكانية تحقيقه للمصالح التي يقوم عليها.

([1]) سورة المائدة: من الآية (2).

([2]) سورة التوبة: الآية (71).

([3]) الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات، قطب: واقعنا المعاصر .

([4]) الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (4/277)، الصاوي: التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، الطحان: الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف، الغضبان: التحالف السياسي في الإسلام ، القرضاوي: أين الخلل؟.

([5]) سورة المائدة: الآيتان (51، 52).

([6]) الإمام: تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات.

([7]) سورة البقرة: من الآية (219).

([8]) قطب: واقعنا المعاصر.

([9]) السابق .

([10]) قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في سبب قيام هذا الحلف: " ذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة محصلها: أن القادم من أهل البلاد كان يقدم مكة، فربما ظلمه بعض أهلها، فيشكوه إلى من بها من القبائل، فلا يفيد، فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه إلى أن عقدوا الحلف، وظهر الإسلام وهم على ذلك "، فتح الباري (4/473).

([11]) سبق تخريجه، وهو صحيح.

([12]) أخرجه البيهقي: السنن الكبرى (كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب إعطاء الفيء على الديون 6/367 ح 12859)، والحديث صحيح، الألباني: تحقيق فقه السيرة للغزالي.

([13]) ابن هشام: السيرة النبوية (2/101)، الطبري: التاريخ (1/545).

([14]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/84).

([15]) ابن هشام: السيرة النبوية (2/195)، الطبري: التاريخ (1/549).

([16]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الجهاد والسير باب ما من النبي r على الأسارى أن يخمس 3/1143 ح 2970).

([17]) فقد سأل أبو جهل مطعماً: أمجير أنت أم متابع ـ مسلم ـ؟ قال: بل مجير قال: قد أجرنا من أجرت.

الطبري: التاريخ (1/555)، وهذا يدل على أن أبا جهل يرفض إجارة مطعم إذا كان قد دخل في الإسلام.

([18]) الطحان: الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف.

([19]) ابن كثير: البداية والنهاية (3/225).

([20]) الغضبان: التحالف السياسي في الإسلام .

([21]) أخرجه أحمد: المسند (حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم 4/325 ح 18930)، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق المسند.

([22]) ابن حجر: فتح الباري (5/337- 338).

([23]) السابق (6/285).

([24]) الغضبان: التحالف السياسي في الإسلام، نقلاً عن حميد الله: الوثائق النبوية.

([25]) عيبة الرجل: موضع سره، والذين يأتمنهم على أمره، ابن سلام: الغريب (1/138).

([26]) ابن حجر: فتح الباري (5/337)، الشوكاني: نيل الأوطار (8/188)، ابن عبد البر: الاستيعاب (3/1428).

([27]) ابن حجر: فتح الباري (5/338).

([28]) الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (4/255- 256).

([29]) سورة المائدة: من الآية (51).

([30]) ابن كثير: التفسير (2/69- 70).

([31]) الغضبان: التحالف السياسي في الإسلام.

([32]) تعريف الولاء اصطلاحاً: الولاية هي النصرة والمحبة، والإكرام والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهراً، قال تعالى: } اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ { (سورة البقرة: من الآية (257)، القحطاني: الولاء والبراء في الإسلام (ص: 50)، فموالاة الكفار: تعني التقرب إليهم، وإظهار الود لهم بالأقوال والأفعال والنوايا. ياسين: الإيمان (ص: 171).

([33]) الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن (6/277).

([34]) سورة المائدة: من الآية (51).

([35]) ابن القيم: أحكام أهل الذمة (1/195).

([36]) راجع في ذلك: الشنقيطي: الإخوان المسلمون والعلاقة بالسلطة (الجزيرة نت).

([37]) الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (4/281).

المبحث الثالث ضوابط التحالف السياسي

إن القول بمشروعية التحالف السياسي ليس على إطلاقه، بل هو بنطاق ضيق، ولا يشرع إلا وفق ضوابط محدودة، وهي:

1. أن يكون المسلمون أقوياء يصعب احتواؤهم أو تذويبهم، بل قادرون على المحافظة على ذواتهم، فالتحالفات التي عقدها النبي r كانت شوكة المسلمين فيها ظاهرة، وهيمنة الإسلام متحققة؛ وفي حلفه مع المطعم بن عدي ودخوله في جواره دليل ذلك، فعندما شعر بعدم ضمان حرية الدعوة رده إليه.

2. أن يضمن المصلحة الإسلامية العامة التي يقررها الدعاة:

وهذا يستلزم دراسة ميدانية تستطلع فيها الجماعة المسلمة قدراتها، ودراسة تخطيطية تستطلع معالم مستقبلها، فإذا دلت هذه الدراسة أنها تقف عند منعطف هام، وأنه يلزمها بعض التحالفات لاجتيازه كان من الضروري أن تفعل ذلك([1]).

ومن خلال دراستنا للتحالفات التي عقدها النبي r مع الآخرين نلاحظ أن كل تحالف عقد النبي r كان لتغطية منعطف كبير في حياة الجماعة المسلمة، فموقف أبي طالب كان لحماية الدعوة والداعية، وحلفه مع اليهود في المدينة كان لحماية الدولة من بداية عهدها، وحلفه مع قريش في الحديبية كان للاعتراف بالدولة المسلمة كقوة حقيقية على مساحة الجزيرة العربية، والانطلاق بالدعوة نحو آفاق عالمية خارج الجزيرة([2]).

3. أن يكون صف الجماعة الإسلامية متيناً متماسكاً كالبنيان المرصوص:

فالتحالفات ستمكن الآخرين أن يطلعوا على أحوال المسلمين، فإذا كان الصف مهزوزاً أمكن لهم أن يتسللوا إلى داخل الجماعة المسلمة لقلب الموازين، فقد كانت صفوف المسلمين متماسكة في عهد النبي r أما إذا كانت الجماعة غير متماسكة في تنظيمها، فإن التحالف سيضعف صفها، ويذهب ريحها، وهذا ما تحقق في تحالف الإسلاميين في سوريا مع الأحزاب العلمانية، فبعد أن كانت النظرة تجاه الإسلاميين على درجة عالية من التوقير والاحترام سقطوا من أعينهم، لما رأوه من هشاشة صفهم وتفرق كلمتهم([3]).

4. أن لا يكون التحالف غاية في ذاته:

بل لا بد أن يكون فناً أو وسيلة، تلجأ إليه الجماعات المسلمة في حال الحاجة الماسة والحقيقية إلى إبرامه، بحيث يُلمس له أثر في واقع الدعوة الإسلامية، فلا يكون تحالفاً شكلياً، أو تحالفاً تمليه شهوات النفس أو رغباتها دون التطلع إلى المصلحة العامة.

5. أن تكون الدعوة الإسلامية قد مرت بمرحلة تجربة وتناصح:

كمثل مسائل حلف الفضول المعاصر التي يشير بها القياس على الفضول القديم، وأجد أصدق مَثل لذلك في سوابقنا المعاصرة، التحالف في الأردن بخاصة، وفي بلاد أخرى بدرجة أقل في أحزاب كثيرة على مقاومة التطبيع مع اليهود، ورفض الصلح، فهذا حلف فضل وتطييب، ويكون النجاح فيه مرحلة لتحالف سياسي لاحق في بعض أطرافه ربما إذا توفرت الشروط الأخرى، وبمثل هذه المقدمات تتكون بيئة مناسبة لنمو المشاعر الإيجابية في الطرفين وأما الفجاءة فقد تقود إلى خلاف لاختلاف المنطقة، ونحن نفهم أنفسنا ونألف منطق الشرع، وأما العلماني والعاري عن أي خلفية فكرية إسلامية فإنه يستغرب المنطق الفقهي وموازين الإيمان، وهي عسيرة الفهم لديه، وغالباً ما يقود ذلك إلى افتراق([4]).

6. أن يكون التحالف مع أقوياء تتقوى بهم الجماعة المسلمة:

فعندما استشار النبي r السعدين في أن يعرض صلحاً على غطفان قوامه إعطاؤهم ثلث ثمار المدينة، على أن ينصرفوا عن تأييد قريش ومن معهم الذين يحاصرون المدينة، قالوا: " يا رسول الله! لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرى أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف"([5]).

فأخذ النبي r برأيهما، واختاره لما رأى ضعف غطفان.

7. أن تكون القيادة الإسلامية على درجة من القوة، وأن يكون الجنود على أعلى درجة من الانضباط والطاعة:

فالتحالف مع الآخرين من شأنه أن يربك أفراد الجماعة الإسلامية، فقد تصدمهم حقيقة تحالف الجماعة المسلمة النظيفة الطاهرة مع غيرها.

والأمر الذي ينقذ الموقف هو الثقة المطلقة في القيادة الإسلامية، ففي صلح الحديبية الذي قال الله فيه: } إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا {([6])، نظر إليه بعض الصحابة y نظرة شك وريب، بل انطلقوا يتكلمون، وهذا عمر بن الخطاب t يخاطب رسول الله r ويقول: " فلم نعطي الدنية في ديننا ؟"، ولم ينقذ الموقف سوى الثقة المطلقة بالقيادة الإسلامية، فأبو بكر t عندما دافع عن الصلح لم يزد على تأكيد ثقته بالنبي r وتراه يرد على عمر t فيقول: " فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق "([7]).

وبعد الثقة المطلقة بالقيادة يأتي انضباط الصف، والتزام الجنود([8]).

([1]) الطحان: الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف .

([2]) السابق.

([3]) السابق.

([4]) الراشد: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (4/279).

([5]) ابن حجر: فتح الباري (7/400)، ابن سعد: الطبقات الكبرى (2/73)، الطبري: التاريخ (2/94).

([6]) سورة الفتح: الآية (1).

([7]) أخرجه البخاري: الصحيح (كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب 2/978 ح 2581).

([8]) الطحان: الفكر الحركي بين الأصالة والانحراف.

الخاتمة

بعد أن عرض البحث للعديد من القضايا السياسية المعاصرة، وأنزلها على بساط الفقه، يمكن تلخيص أهم النتائج التي توصل إليها الباحث، فيما يلي:

1. تعتبر السياسة جزءاً لا يتجزأ من طبيعة هذا الدين، وثمة فوارق جوهرية بين السياسة الشرعية التي تسعى لتصريف شئون الأمة، وتحقيق مصالحها في العاجل والآجل، بما يتفق ونظم الإسلام، وبين السياسة الوضعية التي تعتمد القوانين دون ربطها بمصدر سماوي، وتقف عند تدبير الإنسان لحياته الدنيا وحدها، مع تعدد توجهاتها باختلاف ساستها.

2. تتفق الديمقراطية في العصر الحديث في بعض مبادئها والشورى الإسلامية، التي تمثل قيمة إسلامية عليا في حياة الأمة، ولا يوجد مانع شرعي من اقتباس المسلم لأمورٍ ومفاهيم من غير النظام الإسلامي، إذ أن مبدأ رفض الكل أو قبول الكل لا سند له في الشريعة الإسلامية.

3. إن الإسلام كفل الحرية السياسية بكل معانيها، وحث ولاة الأمر على ممارستها ممارسة جادة في واقع الحياة السياسية، ومنح الأمة السيادة العليا في شئون الحكم، فأرسى حقها في اختيار الحاكم، ومراقبته ومشاركته، أو حتى عزله إن اقتضت المصلحة ذلك.

4. طلب الولاية مشروع لمن توفرت فيه الشروط والمواصفات الشرعية، إذ يعتبر ذلك إعانة للأمة، وإرشاداً لها إلى انتخاب الأصلح.

بيد أن التطلع المذموم للمسؤولية، أو الضعف، هو الذي يحول بين طلب الولاية وصاحبه، وذلك الذي وردت النصوص في منعه.

5. إن تعدد الأحزاب والجماعات الإسلامية مشروع في الإسلام، فهو تعدد تنوع وتخصص، واختلافها هو اختلاف في الفروع والسياسات، وهذا مما لا تثريب عليه، طالما أن الشريعة الإسلامية هي القاعدة العليا للجميع، وأنهم متفقون على أسس عامة، ومنطلقات معتبرة، وضوابط محدودة.

6. إذا كان القول بمشروعية التعددية السياسية الملتزمة بسيادة الشرع في حال قيام الدولة الإسلامية، ووجود إمامها، فمن باب أولى أن تكون مشروعة في مرحلة بنائها، والسعي إلى قيامها، وثمة حقائق شرعية وسياسية تدلل على اعتبارها فريضة شرعية، وضرورية سياسية في واقعنا المعاصر.

7. إن الفلسفة الإسلامية العامة تفضي إلى تحكيم شريعة الله تعالى في كل شئون الحياة، ورفض كل ما يخالفها من مبادئ وقوانين، وبالتالي تقييد الجميع بهذه الفلسفة.

ومن هذا المنطلق، فلا وجود في الإسلام للتعددية السياسية المطلقة، التي تشمل الأحزاب غير الإسلامية، إلا إذا دعت الضرورة، أو اقتضت المصلحة ذلك في بعض الأحوال.

8. إن المشاركة في المجالس النيابية تنسجم ومبادئ الإسلام الحنيف من مراعاة التدرج في التغيير، والواقعية في طرح الإسلام كبديل، كما أنها تتواءم وقواعد الشريعة ومقاصدها، التي تؤول إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فمشاركة الدعاة في هذه المجالس تنشئ لهم قاعدة جماهيرية صلبة، تنادي بالإسلام جهرة، وتسعى لنشر فكرتها في كل الميادين، دون خوف أو وجل، كما تقلل من حدة التصادم بين الحكومة والأحزاب الإسلامية، وفي المقابل تمكن للإسلاميين من الصدع بكلمة الحق في موطن القرار، ومحاربة المعارضين لهم سياسياً، والوقوف بحزم وقوة لكل قرار يخالف شريعة الخالق، بل وإخضاع الحكومة للمحاسبة، وقد أثبتت التجارب البرلمانية في كثير من البلدان صدق هذا التوجه.

9. إن القول بجواز المشاركة في الوزارة استثناءاً من الأصل، فيه موازنة بين ثوابت الشريعة ومتغيرات العصر، وهذه هي سمة الفقه الإسلامي، الذي يمتاز بالمرونة والتعاطي الواقعي مع متطلبات العصر، ومستجدات المجتمع الإسلامي، ذلك أن الحرمة متحققة أصالة في المشاركة في الحكم، ولكن متغيرات العصر توقف العاملين للإسلام أمام موازنات قاسية ودقيقة، فتقتضي المصلحة الخروج من نطاق الأصل بجواز المشاركة استثناءاً، استئناساً ببعض الأحداث التاريخية، وعملاً بالقواعد والمقاصد الشرعية، من مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد، وارتكاب أخف الضررين، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، ورفع الحرج، وغيرها.

10. إن التحالف السياسي حاجة حقيقية لتأمين قافلة الدعوة الإسلامية، وتحقيق مصالح الأمة، فقد تلتقي الجماعة المسلمة مع غيرها على بعض الأهداف المرحلية، فتلجأ إلى التحالف كوسيلة لجلب المصالح المرجوة، أو دفع المفاسد، أو قد يجد الدعاة أنفسهم أمام خيارات دقيقة، ومنعطفات حساسة لا سبيل إلى تجاوزها إلا عبر التحالف؛ والتجارب الميدانية التي خاضها الدعاة في تحالفاتهم مع الآخرين، كما في مصر، والسودان، واليمن، وغيرها، أثبتت جدوى التحالف، وإمكانية تحقيقه للمصالح التي يقوم عليها.

وشرعية التحالف السياسي لا تقتصر على وجود دولة للمسلمين، فهو مشروع في كل مرحلة، إذا اقتضت المصلحة ذلك.

11. إن عزوف الإسلاميين عن خوض المعترك السياسي، وترك الساحة خالية لغيرهم، بما لا يساهم في السعي لتطبيق الشريعة الإسلامية، وإرساء معالمها، يعد تضارباً مع المصالح والمقاصد الشرعية، وإن إخضاع هذه المسائل المستجدة لفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعبر النظر المصلحي، يحتِّم التعاطي مع هذه الوسائل المطروحة، لما فيه من تمكين للدعوة الإسلامية، وتحقيق أهدافها وغاياتها المنشودة، من استئناف الحياة الإسلامية، وإقامة الحق والعدل.

وينبغي أن أشير في نهاية هذه الخاتمة، ونحن نَعْرِض لموضوع من أهم موضوعات الفقه السياسي المعاصر، إلى أن هذه القضايا المطروحة هي قضايا اجتهادية بطبيعتها، تستند إلى السياسة الشرعية، ومن الطبيعي أن يحدث فيها الخلاف في الرأي، لكنه من الضروري ألا يصل إلى اختلاف القلوب وتنافرها، لاسيما وأنه من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.

كما أن فقه الموازنة الذي يؤول إلى تقدير المصالح والمفاسد، يختلف باختلاف البلدان والأحوال، وتتغير فيه الفتوى بتغير الظروف.

وبالتالي، فأهل العلم من كل قطر أدرى بمصالحهم، وأقدر على تحديد مواقفهم، وحقهم في أن يعتبوا على من ينكر عليهم، قال علي بن أبي طالب t: " كل قوم على بينة من أمرهم، ومصلحة من أنفسهم: يُزْرُونَ([1]) على من سواهم، وُيعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب"([2]).

وأخيراً، فهذا هو جهد المقل، الذي بذلت فيه غاية جهدي، آملاً أن أكون قد أوفيته حقه، حتى خرج إلى النور بهذه الصورة المتواضعة، فالكمال المطلق لله وحده، ولكن غايتي أن نسعى للكمال البشري، فإن أصبت فلله الحمد والمنة أن أعانني على تحقيق غايتي، وإن قصرت فالحمد لله الذي قدر لي أن أنجز ما هو في طاقتي، وما توفيقي إلا بالله.

راجياً المولى عز وجل أن يتقبله عملاً صالحاً في ميزان حسناتي يوم القيامة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

([1]) زَرَى عليه: أي عابه وعاتبه، يُزْورُنَ بمعنى يعتبون، لسان العرب (14/356)، مادة: زرى.

([2]) ابن القيم: إعلام الموقعين (1/103).